الخميس، 1 سبتمبر 2022

ج17.وج18.مرعاة المفاتيح

 

17. مرعاة المفاتيح

له طهورا وزكاة وقربة تقربه بها منه يوم القيامة، وفيه قصة لأم سليم. قال النووي: في الحديث بيان ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من الشفقة على أمته والاعتناء بمصالحهم والاحتياط لهم والرغبة في كل ما ينفعهم. ورواية أنس تبين المراد بباقي الروايات المطلقة وإنما يكون دعاءه عليه رحمة وكفارة وزكاة، ونحو ذلك إذا لم يكن أهلا للدعاء عليه والسب واللعن ونحوه وما كان مسلما وإلا فقد دعا - صلى الله عليه وسلم - على الكفار والمنافقين ولم يكن ذلك رحمة لهم. قلت: وهذا هو الجواب عما استشكل بأنه لعن جماعة كثيرة منها المصور والعشار ومن ادعى إلى غير أبيه والمحلل والسارق وشارب الخمر وآكل الربا وغيرهم. فيلزم أن يكون لهم رحمة وطهورا، فالمراد في الحديث من لم يكن أهلا لذلك ومن لعنه في حال غضبه على مقتضى ضعف البشرية، فمن فعل منهيا عنه فلا يدخل في ذلك. فإن قيل كيف يدعوا - صلى الله عليه وسلم - بدعوة على من ليس لها بأهل أو يسبه أو يلعنه أو نحو ذلك أجيب بأن المراد بقوله ليس لها بأهل عندك في باطن أمره لا على ما يظهر مما يقتضيه حاله وجنايته حين دعائي عليه، يعني إن المراد ليس بأهل لذلك عند الله وفي باطن الأمر ولكنه في الظاهر مستوجب له فيظهر له صلى الله عليه وسلم استحقاقه لذلك بإمارة شرعية ويكون في باطن الأمر ليس أهلا لذلك فكأنه يقول من كان باطن أمره عندك إنه ممن ترضي عنه فاجعل دعوتي التي اقتضاها ما ظهر لي من مقتضى حاله حينئذ طهورا وزكاة، وهذا معنى صحيح لا إحالة فيه لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان متعبدا ومأمورا بالحكم بالظواهر وحساب الناس في البواطن على الله فإنه هو المتولي للسرائر. فإن قيل فما معنى قوله "وأغضب كما يغضب البشر" فإن هذا يشير إلى أن تلك الدعوة وقعت بحكم سورة الغضب لا أنها على مقتضى الشرع فيعود السؤال. فالجواب إنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن دعوته عليه أو سبه أو جلده كان مما خير

(15/141)


فيه بين أمرين عقوبة للجاني أحدهما هذا فعله والثاني تركه والزجر له بأمر آخر سوى ذلك فيكون الغضب لله تعالى حمله وبعثه على أحد الأمرين المخير فيهما وهو سبه أو لعنه أو جلده ونحو ذلك وليس ذلك خارجا من حكم الشرع. ويحتمل أن يكون اللعن والسب يقع منه من غير قصد إليه فلا يكون في ذلك كاللعنة الواقعة رغبة إلى الله وطلبا للاستجابة. وأشار عياض إلى ترجيح هذا الاحتمال فقال: يحتمل أن يكون ما ذكره من سب ودعاء غير مقصود ولا منوي، لكن جرى على عادة العرب في دعم كلامها وصلة خطابها عند الحرج والتأكيد للعتب لا على نية وقوع ذلك كقولهم "عقري حلقي" و "تربت يمينك" وفي قصة أم سليم المذكورة في حديث أنس عند مسلم الذي أشرنا إليه "لا كبرت سنك" وفي حديث معاوية عند مسلم أيضا "لا أشبع الله بطنه" ونحو ذلك لا يقصدون بشي من ذلك حقيقة الدعاء فخاف - صلى الله عليه وسلم - أن يصادف شيء من ذلك الإجابة وأشفق من موافقة أمثالها القدر فعاهد ربه ورغب إليه وسأله أن يجعل ذلك القول رحمة وكفارة وقربة وطهورا وأجرا. وإنما كان يقع هذا منه في النادر والشاذ من الأزمان ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - فاحشا ولا متفشحا ولا لعانا ولا منتقما لنفسه. قال الحافظ: وهذا الاحتمال الذي أشار عياض إلى
متفق عليه.
2247- (3) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت،

(15/142)


ترجيحه حسن إلا أنه يرد عليه قوله جلدته فإن هذا الجواب لا يتمشى فيه إذ لا يقع الجلد عن غير قصد، وقد ساق الجمع مساقا واحدا إلا أن حمل على الجلدة الواحدة فيتجه. ويحتمل أن يقال إنه كان لا يقول ولا يفعل - صلى الله عليه وسلم - في حال غضبه إلا الحق لكن غضبه الله قد يحمله على تعجيل معاقبة مخالفة وترك الاغضاء والصفح، ويؤيده حديث عائشة ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله وهو في الصحيح. قال الحافظ: فعلى هذا فمعنى قوله ليس لها بأهل أي من جهة تعين التعجيل قال. وفي الحديث كمال شفقته - صلى الله عليه وسلم - على أمته وجميل خلقه وكرم ذاته حيث قصد مقابلة ما وقع منه بالجبر والتكريم، وهذا كله في حق المعين في زمنه واضح. وأما ما وقع منه بطريق التعميم لغير معين حتى يتناول من لم يدرك زمنه - صلى الله عليه وسلم - فما أظنه يشمله والله اعلم - انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الدعوات، ومسلم في الأدب واللفظ المذكور لمسلم، وأخرجه أيضا أحمد (ج2ص243) وأبويعلى وقد جاء هذا الحديث من طرق مختلفة اللفظ باتفاق المعنى، فقد ورد عن عائشة وجابر وأنس عند مسلم وعن أبي سعيد عند أبي يعلى وسمرة بن جندب عند الطبراني وأبي الطفيل عامر بن واثلة عند الطبراني أيضا وأنس وعائشة أيضا عند أحمد بغير السياق الذي في صحيح مسلم.

(15/143)


2247- قوله: (إذا دعا أحدكم) أي طلب من الله وسأله شيئا (فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت إلخ) قال في المفاتيح: نهى عن قول إن شئت في الدعاء لأن هذا شك في قبول الدعاء، ولأن لفظ إن شئت إذا قلته لأحد معناه إني جعلت الخيرة إليك يعني لم يكن قبل قولك إن شئت مختارا، بل لو لم تقل إن شئت كان يلزم عليه قبول الدعاء شاء أو لم يشأ فإذا قلت إن شئت جعلته مخيرا وهذا لا يجوز في حق الله سبحانه وتعالى فإنه لا حكم لأحد عليه وليس لأحد أن يكرهه بل هو فعال لما يريد. فكيف يجوز أن يقال له إن شئت بل يعزم السائل مسألته وليسأل من غير شك وتردد بل ليكن متيقنا في قبول الدعاء، فإن الله كريم لا بخل عنده وقدير لا يعجز عن شيء – انتهى. وقال الباجي: معنى الحديث لا يشترط مشيئة باللفظ، فإن ذلك أمر معلوم متيقن إنه لا يغفر إلا أن يشاء ولا يصح غير هذا، فلا معنى لاشتراط المشيئة لأنها إنما تشترط فيمن يصح منه أن يفعل دون أن يشاء بالإكراه وغيره مما تنزه الله سبحانه عنه. وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث بقوله "فإنه لا مكره له" - انتهى. مع أنه يتضمن إيهام الاستغناء الغير اللائق بمقام الدعاء والسؤال فاللائق بالمقام تركه، والنهي للتحريم أو للتنزيه فيه خلاف. قال الحافظ قال ابن عبدالبر: لا يجوز لأحد أن يقول اللهم أعطني إن شئت وغير ذلك من أمور الدين والدنيا، لأنه كلام مستحيل لا وجه له، لأنه لا يفعل إلا ما شاءه وظاهره إنه
ارحمني إن شئت، ارزقني إن شئت، وليعزم مسئلته إنه يفعل ما يشاء، ولا مكره له)).

(15/144)


حمل النهي على التحريم وهو الظاهر. وحمل النووي النهي في ذلك على كراهة التنزيه وهو أولى يؤيده حديث الاستخارة. قال وقال الداودي: لا يقل إن شئت كالمستثنى ولكن دعاء البائس الفقير. قلت: وكأنه أشار بقوله كالمستثنى إلى أنه إذا قالها على سبيل التبرك لا للاستثناء لا يكره وهو جيد – انتهى. (ارحمني إن شئت ارزقني إن شئت) أي ونحو ذلك فالمذكور كله أمثلة (وليعزم) بكسر الزاء (مسئلته) أي ليطلب جازما من غير شك وتردد، والمراد بالمسألة الدعاء. وقد وقع في رواية لأحمد ومسلم الدعاء، يقال عزم الأمر وعليه عقد ضميره على فعله وصمم عليه وعزم الرجل جد في الأمر. قال الجزري: عزمت على الأمر إذا عقدت قلبك عليه وجددت في فعله، والعزم الجد والقطع، على فعل الشيء ونفي التردد عنه، والمعنى لا تكن في دعائك مترددا بل أجزم المسألة – انتهى. وقال غيره: عزم المسألة الشدة في طلبها، والجزم بها من غير ضعف في الطلب ولا تعليق على مشيئة ونحوها، يعني هو أن يجزم بوقوع مطلوبة ولا يعلق ذلك بمشيئة الله تعالى. وقيل هو حسن الظن بالله تعالى في الإجابة. وقال الداودي: ليعزم المسألة أي يجتهد ويلح ولا يقل إن شئت كالمستثنى ولكن دعاء البائس الفقير. قلت: وأخرج الطبراني في الدعاء قال الحافظ: بسند رجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة بقية عن عائشة مرفوعا (إن الله يحب الملحين في الدعاء) قال ابن بطال: في الحديث أنه ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة ولا يقنط من الرحمة فإنه يدعوا كريما: وقال ابن عيينة: لا يمنعن أحدا الدعاء ما يعلم في نفسه يعني من التقصير فإن الله تعالى قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال ?رب أنظرني إلى يوم يبعثون? [الأعراف: 14] (إنه يفعل ما يشاء) استئناف فيه معنى التعليل، وفي رواية لمسلم فإن الله صانع ما شاء (ولا مكره) بكسر الراء وفي حديث أنس عند الشيخين لا مستكره من الاستكراه، وهما بمعنى وقوله "ولا مكره" كذا

(15/145)


وقع في أكثر النسخ بذكر العاطف، وفي بعضها لا مكره أي بحذفه، وهكذا في البخاري وكذا في المصابيح وجامع الأصول (له) أي لله على الفعل أو لا يقدر أحد أن يكرهه على فعل أمر أراد تركه ولا حكم لأحد عليه بل يفعل ما يشاء فلا معنى لقوله "إن شئت" لأنه أمر معلوم من الدين بالضرورة فلا حاجة إلى التقييد به مع أنه موهم لعدم الاعتناء بوقوع ذلك الفعل أو لاستعظامه على الفاعل على المتعارف بين الناس. وقال الحافظ: المراد أن الذي يحتاج إلى التعليق بالمشيئة ما إذا كان المطلوب منه يتأتي إكراهه على الشيء فيخفف الأمر عليه ويعلم بأنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه. وأما الله سبحانه فهو منزه عن ذلك فليس للتعليق فائدة. وقيل: المعنى أي سبب المنع إن فيه صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه والأول أولى – انتهى. وقد تقدم إن للدعاء شروطا وآدابا كثيرة، وقد ذكر في هذا الحديث ما هو من أهم آدابه وأفرده بالذكر
رواه البخاري.
2248- (4) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه)). رواه مسلم.
2249- (5) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة،
اهتماما بشأنه (رواه البخاري) في باب المشيئة والإرادة من كتاب التوحيد إلا أنه ليس فيه قوله إذا دعا أحدكم بل أول الحديث لا يقل أحدكم "اللهم اغفر لي الخ" وأخرجه في الدعوات مختصرا بلفظ: لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت ليعزم المسئلة فإنه لا مكره له، وأخرج مسلم نحوه وكذا أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن أبي شيبة، وفي الباب عن أنس عند أحمد والشيخين والنسائي وأبي سعيد عند ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد.

(15/146)


2248- قوله: (إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت) أي مثلا (ولكن ليعزم) أي ليجزم بالمسئلة (وليعظم) بالتشديد (الرغبة) أي الميل فيه بالإلحاح. قال الحافظ: معنى قوله "ليعظم الرغبة" أي يبالغ في ذلك بتكرار الدعاء والإلحاح فيه، ويحتمل أن يراد به الأمر بطلب الشيء العظيم الكثير ويؤيده ما في آخر هذه الرواية، فإن الله لا يتعاظمه شيء – انتهى. (فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه) الضمير المنصوب في "أعطاه" يرجع إلى شيء يعني لا يعظم عليه إعطاء شيء بل جميع الموجودات في أمره يسير وهو على كل شيء قدير، يقال تعاظم زيدا هذا الأمر أي كبر وعظم عليه وعسر عليه (رواه مسلم) وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد وابن حبان وأبوعوانة.
2249- قوله: (يستجاب) بصيغة المجهول من الاستجابة بمعنى الإجابة. قال الشاعر: فلم يستجبه عند ذاك مجيب (للعبد) أي بعد شروط الإجابة وقوله "يستجاب" كذا وقع في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة وكذا في المصابيح، ولمسلم لا يزال يستجاب، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول والحافظ والقسطلاني في شرحيهما (ما) ظرف ليستجاب بمعنى المدة أي مدة كونه (لم يدع بإثم) أي بمعصية مثل أن يقول اللهم قدرني على قتل فلان وهو مسلم ليس مستوجبا للقتل، أو اللهم ارزقني الخمر أو الفلانة وهي محرمة عليه ويريد زناها. (أو قطيعة رحم) أي بالقطع بينه وبين أقاربه مثل أن يقول اللهم بعد بيني وبين أبي وأمي أو أخي وما أشبه ذلك فهو تخصيص بعد تعميم. قال الجزري: القطيعة الهجر والصد والرحم والأقارب والأهلون، والمراد أن
ما لم يستعجل. قيل: يا رسول الله! ما الاستعجال! قال: يقول: قد دعوت، وقد دعوت. فلم أر
يستجاب لي،

(15/147)


لا يصل أهله ويبرهم ويحسن إليهم (ما لم يستعجل) وفي رواية ما لم يعجل بفتح التحتية، والجيم بينهما عين ساكنة من سمع يعني يقبل دعاءه بشرط أن لا يستعجل. قال الطيبي: الظاهر ذكر العاطف في قوله "ما لم يستعجل" لكنه ترك تنبيها على استقلال كل من القيدين أي يستجاب ما لم يدع بإثم يستجاب ما لم يستعجل (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (يقول) أي الدعي (قد دعوت وقد دعوت) أي مرة بعد أخرى يعني مرات كثيرة فتكرار "دعوت" للاستمرار أي دعوت مرارا كثيرا (فلم أر يستجاب لي) قال القاري: أي لم أر آثار استجابة دعائي وهو إما استبطاء أو إظهار يأس وكلاهما مذموم، أما الأول فلأن الإجابة لها وقت معين كما ورد إن بين دعاء موسى وهارون على فرعون وبين الإجابة أربعين سنة. وأما القنوط فلا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون مع أن الإجابة على أنواع: منها تحصيل عين المطلوب في الوقت المطلوب ومنها وجوده في وقت آخر لحكمة اقتضت تأخيره ومنها دفع شر بدله أو إعطاء خير آخر خير من مطلوبه ومنها ادخاره ليوم يكون أحوج إلى ثوابه – انتهى. قلت: المراد بالاستجابة في الحديث وفي قوله تعالى: ?ادعواني استجب لكم? [غافر: 60] وقوله ?أجيب دعوة الداع إذا دعان? [البقرة: 186] ما هو أعم من تحصيل المطلوب بعينه، أو ما يقوم مقامه ويزيد عليه، فكل داع يستجاب له بشروط الإجابة لكن تتنوع الإجابة فتارة تقع بعين ما دعا به وتارة بعوضه. وقد ورد في ذلك حديث صحيح أخرجه الترمذي والحاكم من حديث عبادة بن الصامت رفعه ما على الأرض مسلم يدعوا بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه السوء مثلها، ولأحمد من حديث أبي هريرة إما أن يعجلها له وإما أن يدخرها له، وسيأتي حديث أبي سعيد في الفصل الثالث ما من مسلم يدعوا بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث، إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها وإلى ذلك أشار

(15/148)


القاري، وأشار إليه أيضا ابن الجوزي بقوله اعلم أن دعاء المؤمن لا يرد غير أنه قد يكون الأولى له تأخير الإجابة أو يعوض بما هو أولى له عاجلا أو آجلا، فينبغي للمؤمن أن لا يترك الطلب من ربه فإنه متعبد بالدعاء كما هو متعبد بالتسليم والتفويض، وفي رواية للشيخين وغيرهما يستجاب لأحدكم (أي يجاب دعاء كل واحد منكم إذا سم الجنس المضاف يفيد العموم على الأصح) ما لم يعجل بقول (بيان لقوله يعجل) دعوت فلم يستجب لي (بضم المثناة التحتية وفتح الجيم ) قال الباجي: قوله "يستجاب لأحدكم" الخ يحتمل معنيين أن يكون بمعنى الإخبار عن وجوب وقوع الإجابة. والثاني: الإخبار عن
فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء)). رواه مسلم.
2250- (6) وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعوة المرء المسلم لأخيه،

(15/149)


جواز وقوعها فإذا كانت بمعنى الإخبار عن الوجوب فالإجابة تكون لأحد الثلاثة أشياء إما أن يعجل ما سأل فيه وإما أن يكفر عنه به، وإما أن يدخر له فإذا قال دعوت فلم يستجب لي بطل وجوب أحد هذه الثلاثة الأشياء وعري الدعاء من جميعها. وإذا كان بمعنى جواز الإجابة فالإجابة تكون حينئذ بفعل ما دعا به خاصة، ويمنع من ذلك قول الداعي قد دعوت فلم يستجب لي لأن ذلك من باب القنوط وضعف اليقين والسخط – انتهى. (فيستحسر) أي ينقطح ويمل ويفتر وهو بمهملات استفعال من حسر إذا أعي وتعب وانقطع عن الشي. وقال الجزري: الاستحسار الاستنكاف عن السؤال وأصله من حسر الطرف إذا كل وضعف نظره يعني أن الداعي إذا تأخرت إجابته تضجر ومل فترك الدعاء واستنكف – انتهى. (عند ذلك) أي عند رؤيته عدم الاستجابة في الحال (ويدع) بفتح الدال المهلة (الدعاء) أي يتركه مطلقا أو ذلك الدعاء. قال المظهري: من كان له ملالة من الدعاء لا يقبل دعاءه، لأن الدعاء عبادة حصلت الإجابة أو لم تحصل فلا ينبغي للمؤمن أن يمل من العبادة وتأخير الإجابة إما لأنه لم يأت وقتها فإن لكل شيء وقتا مقدارا في الأزل فما لم يأت وقته لا يكون ذلك الشي، وإما لأنه لم يقدر في الأزل قبول دعاءه في الدنيا وإذا لم يقبل دعاءه يعطيه الله في الآخرة من الثواب عوضه، وإما أن يؤخر قبول دعاءه ليلح ويبالغ في الدعاء فإن الله تعالى يحب الإلحاح في الدعاء مع ما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار، ومن يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له، ومن يكثر الدعاء يوشك أن يستجاب له فلا ينبغي أن يترك الدعاء. وقال ابن بطال: المعنى إنه يسأم فيترك الدعاء كالمان بدعاءه أو إنه أتى من الدعاء ما يستحق به الإجابة فيصير كالمبخل للرب الكريم الذي لا تعجزه الإجابة ولا ينقصه العطاء. وفي هذا الحديث أدب من آداب الدعاء وهو أنه يلازم الطلب ويديم الدعاء ولا يستبطىء الإجابة ولا ييأس منها، لما في ذلك من الانقياد

(15/150)


والاستسلام وإظهار الافتقار حتى قال بعض السلف لأنا أشد خشية أن أحرم الدعاء من أحرم الإجابة وكأنه أشار إلى حديث ابن عمر الآتي في الفصل الثاني من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة – الحديث. (رواه مسلم) وأخرج أيضا مالك والبخاري والترمذي وأبوداود وابن ماجه نحوه مختصرا ومطولا بألفاظ، وفي الباب عن أنس عند أحمد وأبي يعلى والبزار والطبراني، وفيه أبوهلال الراسبي وهو ثقة، وفيه خلاف وبقية رجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح، وعن عبادة الصامت أخرجه الطبراني في الأوسط، وفيه مسلمة بن علي وهو ضعيف كذا في مجمع الزوائد.
2250- قوله: (دعوة المرء المسلم) أي الشخص الشامل للرجل والمرأة (لأخيه) في الدين أي المسلم
بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك مؤكل، كلما دعا لأخيه بخير. قال الملك المؤكل به: آمين، ولك بمثل)). رواه مسلم.
2251- (7) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم،

(15/151)


(بظهر الغيب) أي في غيبة المدعو له وفي السر. قال القاري: الظهر مقحم للتأكيد أي في غيبة المدعو له عنه وإن كان حاضرا معه بأن دعا له بقلبه حينئذ أو بلسانه ولم يسمعه. (مستجابة) يعني إذا دعا مسلم لمسلم بخير في غيبة أي بحيث لا يشعر ولو كان حاضرا في المجلس يستجاب دعاءه، لأن هذا الدعاء أبلغ في الإخلاص لله تعالى، وليس للرياء ولا لطمع عوض وما كان كذلك يكون مقبولا. قال الطيبي: موضع بظهر الغيب نصب على الحال من المضاف إليه، لأن الدعوة مصدر أضيف إلى فاعله، ويجوز أن يكون ظرفا للمصدر وقوله "مستجابة" خبر لها (عند رأسه) أي الداعي (ملك) جملة مستأنفة مبينة لسبب استجابة دعا الشخص بالغيب. وتخلف الإجابة لعائق من عدم أكل الحلال أو عدم صدق نية مثلا (مؤكل) أي بتأمين دعاءه أو بالدعاء له عند دعاءه لأخيه (كلما دعا لأخيه بخير) أي أو دفع شر (آمين) أي استجب له يا رب دعاءه لأخيه فقوله (ولك) فيه التفات أو استجباب الله دعاءك في حق أخيك ولك أيها الداعي (بمثل) بكسر الميم وإسكان المثلثة وتنوين اللام يقال هو مثله ومثيله بزيادة الياء أي عديلة سواء يعني ولك مثل ما دعوت به لأخيك، قال الطيبي: الباء زائدة في المبتدأ كما في بحسبك درهم – انتهى. قال النووي: في هذا الحديث فضل الدعاء لأخيه المسلم بظهر الغيب ولو دعا لجماعة من المسلمين حصلت هذه الفضيلة ولو دعا لجميع المسلمين، فالظاهر حصولها أيضا وكان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لنفسه يدعو لأخيه المسلم بتلك الدعوة لأنها تستجاب ويحصل له مثلها (رواه مسلم) في الدعوات، وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص195) وأبوداود في أواخر الصلاة وابن ماجه في الحج، والبخاري في الأدب المفرد وابن أبي شيبة وأبوعوانة وابن حبان، وفي الباب عن أنس أخرجه البزار، وعن أم كرز أخرجه أبوبكر في الغيلانيات وعن أبي هريرة أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق.

(15/152)


2251- قوله: (لا تدعوا) أي دعاء سوء (على أنفسكم) أي بالهلاك والويل ونحو ذلك عند التضجر في مصيبة المرض أو الموت مثلا (ولا تدعوا على أولادكم) أي بالعمى واللعن ونحو ذلك وقد كثرت وغلبت هذه البلية في النساء فإنهن يدعون على أولادهن عند الضجر والملال (ولا تدعوا على أموالكم) قال القاري: أي من العبيد والإماء بالموت وغيره. قلت: زاد في رواية أبي داود ولا تدعوا على خدمكم قبل قوله "ولا تدعوا على
لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم)). رواه مسلم، وذكر حديث ابن عباس: ((اتق دعوة المظلوم)). في كتاب الزكاة.
?الفصل الثاني?
2252- (8) عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء هو العبادة.

(15/153)


أموالكم" فالظاهر إن المراد بالأموال في رواية مسلم ما هو الأعم من العبيد والإماء (لا توافقوا) نهى للداعي أي وعلة للنهي أي لا تدعوا على من ذكر لئلا توافقوا (من الله ساعة) أي ساعة إجابة (يسأل) أي الله (فيها عطاء) بالنصب على أنه مفعول ثان. قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة بالرفع على أنه نائب الفاعل ليسأل – انتهى. وفي رواية أبي داود لا توافقوا من الله ساعة نيل فيها عطاء. قال المظهر: العطاء ما يعطي من خير أو شر وأكثر استعمال العطاء يكون في الخير والمعنى ههنا يسئل فيها مسئلة (فيستجيب) بالرفع عطفا على يسئل أو التقدير فهو يستجيب (لكم) يعني لا تدعوا دعاء سوء على ما ذكر مخافة أن يصادف دعوتكم ساعة إجابة فيستجاب دعاءكم السوء ثم تندموا على ما دعوتم ولا ينفعكم الندامة يعني لا تدعوا إلا بخير. وقيل "فيستجيب" منصوب لأنه جواب "لا توافقوا" قال الطيبي: جواب النهي من قبيل لا تدن من الأسد فيأكلك على مذهب أي مذهب الكسائي ويحتمل أن يكون مرفوعا أي فهو يستجيب (رواه مسلم) في أثناء حديث جابر الطويل في آخر صحيحه، وأخرجه أيضا أبوداود في أواخر الصلاة، وفي الباب عن أم سلمة بلفظ: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون، وقد تقدم في باب ما يقال عند من حضره الموت (ج1ص449).
(وذكر حديث ابن عباس إتق) أي احذر (دعوة المظلوم) أي لا تظلم أحدا بأن تأخذ منه شيئا ظلما أو تمنع أحدا حقه تعديا أو تتكلم في عرضه افتراء حتى لا يدعوا عليك، وتمام الحديث فإنه ليس بينها وبين الله حجاب. (في كتاب الزكاة) في أوله لكونه في ضمن حديث طويل هناك فأسقطه للتكرار ونبه عليه لا لكون الحديث أنسب بذلك الكتاب حتى يرد السؤال والجواب.

(15/154)


2253- قوله: (الدعاء هو العبادة) هذه الصفة المقتضية للحصر من جهة تعريف المسند إليه ومن جهة تعريف المسند ومن جهة ضمير الفصل تقتضي أن الدعاء هو أعلى أنواع العبادة وأرفعها وأشرفها، وإلى هذا أشار بقوله الدعاء مخ العبادة. قال الطيبي: معنى الحديث أن تحمل العبادة على المعنى اللغوي إذا الدعاء هو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله والاستكانة له، وما شرعت العبادات إلا للخضوع للباري وإظهار الافتقار وينصر هذا
ثم قرأ: ?وقال ربكم ادعوني أستجب لكم?

(15/155)


التأويل ما بعد الآية المتلوة ?إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم? [غافر: 6] داخرين حيث عبر عن عدم الافتقار والتذلل والخضوع بالاستكبار، ووضع عبادتي موضع دعائي وجعل جزاء ذلك الاستكبار الصغار والهوان. وقيل: لا وجه لحمل العبادة على المعنى اللغوي ولا فائدة فيه والأقرب أن يقال أن العبادة سواء كانت دعاء أم غيره لا يخلو أن يقصد بها استدعاء رضوان الله تعالى واستدفاع سخطه أو يقصد بها غرض دنيوي محض كالتوسعة في الرزق ليتنعم والشفاء من المرض ليتخلص من الألم وعلى كل فذلك القصد يصح أن يسمى دعاء، لأنه دعاء قلبي وإذا اعتبرنا العبادات الشرعية سوى الدعاء وجدنا الشارع، قد شرع الدعاء في كل منهما بما يوافق ذلك القصد فصار الدعاء عبارة عن الأمرين، السؤال باللسان والقصد بالجنان، لأن الدعاء باللسان إنما هو ترجمة لذلك القصد فإذا صح هذا فإننا إذا أفرزنا الدعاء من العبادة وهو القصد القلبي وترجمته اللسانية لم يبق من العبادة إلا صورتها. ولا شك أن القصد القلبي مع الترجمة عنه أكرم على الله تعالى وأشرف من صورة العبادة مجردة عن ذلك، ولهذا صح إن الدعاء مخ العبادة، وهو معنى قوله إن الدعاء هو العبادة على وزان قوله الحج عرفة وقد يتوسع في هذا فيقال إن صورة العبادة كالصوم دعاء بالحال، وبهذا يصح إن العبادات كلها دعاء. وقال ميرك: أتى بضمير الفصل والخبر المعرف باللام ليدل على الحصر في أن العبادة ليست غير الدعاء مبالغة ومعناه إن الدعاء معظم العبادة كما قال صلى الله عليه وسلم (الحج عرفة أي معظم أركان الحج الوقوف بعرفة). قال القاري في شرح الحصن بعد نقل كلام ميرك: والأظهر أن الحصر حقيقي لا ادعائي فإن إظهار العبد العجز، والاحتياج عن نفسه والاعتراف بأن الله تعالى قادر على إجابته سواء استجاب له أو لم يستجب كريم غني لا بخل له ولا فقر ولا احتياج له إلى شيء حتى يدخر لنفسه ويمنعه من عباده هو عين العبادة بل مخها – انتهى.

(15/156)


(ثم قرأ وقال ربكم ادعوني استجب لكم) ذكر الآية بعد الحديث على وجه البيان لأن في الآية الأمر بالدعاء والقيام بحكم الأمر هو العبادة. قال القاري: قيل استدل بالآية على أن الدعاء عبادة لأنه مأمور به والمأمور به عبادة. وقال القاضي البيضاوي: لما حكم بأن الدعاء هو العبادة الحقيقية التي تستحق أن تسمى عبادة من حيث أنه يدل على أن فاعله مقبل بوجهه إلى الله تعالى معرض عمن سواه لا يرجو ولا يخاف إلا منه استدل عليه بالآية فإنها تدل على أنه أمر مأمور به إذا أتى به المكلف قبل منه لا محالة وترتب عليه المقصود ترتب الجزاء على الشرط، والمسبب على السبب وما كان كذلك كان أتم العبادات وأكملها، ويقرب منه قوله مخ العبادة أي خالصها. وقيل الاستدلال بالآية بتمامها وذلك لأن أول الكلام مسوق للدعاء، فالمناسب به أن يقول: إن الذين يستكبرون عن دعائي، فإطلاق العبادة في موضع الدعاء ويدل على أن الدعاء عبادة. قال الحافظ: هذه الآية ظاهرة في ترجيح الدعاء على

رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه.
2253- (9) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء مخ العبادة)). رواه الترمذي.
2254- (10) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس شيء أكرم

(15/157)


التفويض وأجاب عنها من ذهب إلى أن الأفضل ترك الدعاء والاستسلام للقضاء بأن آخرها دل على أن المراد بالدعاء (أي في الآية) العبادة لقوله: ?إن الذين يستكبرون عن عبادتي? واستدلوا بحديث النعمان يعني الذي نحن في شرحه. وأجاب الجمهور أي الذين قالوا بترجيح الدعاء على التفويض بأن الدعاء من أعظم العبادة فهو كالحديث الآخر الحج عرفة أي معظم الحج وركنه الأكبر، ويؤيده حديث الدعاء مخ العبادة، وقد تواردت الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالترغيب في الدعاء والحث عليه. وقال الشيخ تقي الدين السبكي: الأولى حمل الدعاء في الآية على ظاهره، وأما قوله بعد ذلك عن عبادتي فوجه الربط إن الدعاء أخص من العبادة فمن استكبر عن العبادة استكبر عن الدعاء وعلى هذا فالوعيد إنما هو في حق من ترك الدعاء استكبارا، ومن فعل ذلك كفرا، وأما من تركه لمقصد من المقاصد فلا يتوجه إليه الوعيد المذكور، وإن كنا نرى أن ملازمة الدعاء والاستكثار أرجح من الترك لكثرة الأدلة الواردة في الحث عليه – انتهى. قلت: الأمر في الآية للاستحباب والوعيد ليس على ترك الدعاء مطلقا بل على تركه استكبارا (رواه أحمد) (ج4ص267، 271، 276) (والترمذي) في تفسير سورتي البقرة والمؤمن وفي الدعوات. وقال: هذا حديث حسن صحيح. (وأبوداود) في أواخر الصلاة وسكت عنه. ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره (والنسائي) في الكبرى (وابن ماجه) في الدعاء وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد وابن أبي شيبة في مصنفه وابن حبان في صحيحه، والحاكم (ج1ص491) والطبراني في كتاب الدعاء. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي وأخرجه أبويعلى من حديث البراء كما في الكنز.

(15/158)


2253- قوله: (الدعاء مخ العبادة) المخ بالضم نقي العظيم والدماغ وشحمة العين وخالص كل شي، والمعنى إن الدعاء لب العبادة وخالصها، وذلك لأن الداعي إنما يدعوا الله عند انقطاع أمله مما سواه، وذلك حقيقة التوحيد والإخلاص ولا عبادة فوقهما، قال ابن العربي: وبالمخ تكون القوة للأعضاء فكذا الدعاء مخ العبادة به تتقوى عبادة العابدين فإنه روح العبادة (رواه الترمذي) في الدعوات. وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة – انتهى. وابن لهيعة فيه مقال مشهور، وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة مرفوعا أشرف العبادة الدعاء.
2254- قوله: (ليس شيء أكرم) بالنصب على أنه خبر ليس أي أكثر كرامة أي شرفا يعني أعلى قدرا
على الله من الدعاء)). رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
2255- (11) وعن سلمان الفارسي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يرد القضاء

(15/159)


وأرفع درجة. وقيل أي أفضل وأشرف (على الله) أي عند الله (من الدعاء) أي من حسن السؤال والطلب لأن فيه إظهار الفقر والعجز والتذلل والاعتراف بقوة الله وقدرته والمعنى ليس شيء من أنواع العبادات القولية أكرم عند الله من الدعاء لأن شرف كل شيء يعتبر في بابه فلا يرد أن الصلاة أفضل العبادات البدنية، ولا يتوهم أنه مناف لقوله تعالى: ?إن أكرمكم عند الله أتقاكم? [الحجرات: 13] وقيل: الأظهر أن الدعاء أفضل من جميع الأذكار والطاعات وقيل: المراد بقوله أكرم أسرع قبولا وأنفع تأثيرا. وقيل يمكن أن يراد بالدعاء الدعاء إلى الله تعالى فيكون المعنى أكرم الأعمال هو الهداية إلى الله تعالى التي هي وظيفة الرسل والعلماء النائبين عنهم، وهذا معنى صحيح ولا يظهر فيه إشكال فتأمل (رواه الترمذي وابن ماجه) في الدعوات وأخرجه أيضا أحمد، والبخاري في الأدب المفرد وفي التاريخ وابن حبان والحاكم (ج1ص490) (وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد وأقره الذهبي. قال الشوكاني: وإنما لم يصححه الترمذي لأن في إسناده عمران بن داور القطان ضعفه النسائي وأبوداود ومشاة أحمد. وقال ابن القطان: رواته كلهم ثقات إلا عمران، وفيه خلاف - انتهى. قلت: عمران هذا قال البخاري فيه: إنه صدوق يهم، ووثقه عفان والعجلي. وقال الساجي والحاكم: صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث وضعفه أبوداود والنسائي. وقال ابن معين: ليس بالقوي. وقوله هذا حديث حسن غريب كذا وقع في النسخ المطبوعة في الهند من المشكاة وفي النسخة التي على هامش المرقاة، وهكذا نقله الشوكاني في تحفة الذاكرين وليس في نسخ الترمذي الموجودة عندنا لفظ حسن، وكذا لم يقع في متن المرقاة ولم يذكره البغوي أيضا والحديث لا ينزل عن درجة الحسن.

(15/160)


2255- قوله: (لا يرد القضاء) بالنصب على المفعولية (إلا الدعاء) قال القاري أخذا عن التوربشتي: القضاء هو الأمر المقدر. وتأويل الحديث إنه إن أراد بالقضاء ما يخافه العبد من نزول المكروه به ويتوقاه، فإذا وفق للدعاء دفعه الله عنه فتسميته قضاء مجاز على حسب ما يعتقده المتوقي عنه يوضحه، قوله - صلى الله عليه وسلم - في "الرقى" هو من قدر الله، وقد أمر بالتداوي والدعاء مع أن المقدور كائن لخفاءه على الناس وجودا وعدما. ولما بلغ عمر الشام وقيل له إن بها طاعونا رجع. فقال أبوعبيدة: أتفر من القضاء يا أمير المؤمنين؟ فقال لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم! نفر من قضاء الله أو أراد برد القضاء إن كان المراد حقيقته تهوينه وتيسير الأمر حتى كأنه لم ينزل يؤيده قوله في الحديث الآتي إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل - انتهى. وقيل هكذا كله تكلف وحقيقة المعنى إن المراد بالقضاء
إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر)). رواه الترمذي.

(15/161)


القضاء الذي علق رده بالدعاء وجعل الدعاء سببا لرده، فإن القضاء لا ينافي السبب والمسبب، فمن جملة القضاء أن يكون شيء سببا لحصول شيء أو يكون سببا لرده فالدعاء ورد البلاء به من قدر الله تعالى فقد يقضى بشي على عبده قضاء مقيدا بأن لا يدعوه، فإن دعاءه اندفع عنه فالدعاء كالترس والبلاء كالسهم (ولا يزيد في العمر) بضم الميم وتسكن (إلا البر) بكسر الباء وهو الإحسان والطاعة. والظاهر إنه يزاد حقيقة قال تعالى: ?وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب? [فاطر: 11] وقال: ?يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب? [الرعد: 39] والمعنى أنه لو لم يكن بارا لقصر عمره من القدر الذي كان إذا بر، والتفاوت إنما يظهر في التقدير المعلق لا فيما يعلم الله تعالى إن الأمر يصير إليه فإن ذلك لا يقبل التغيير، ولا يخفي ما بين الحصرين المستفادين من الجملتين من التناقض فيجب حمل القدر أي المقدر في الجملة الأولى على غير العمر فليتأمل ذكر في الكشاف إنه لا يطول عمر الإنسان ولا يقصر إلا في كتاب، وصورته أن يكتب في اللوح إن لم يحج فلان أو يغز فعمره أربعون سنة وإن حج وغزا فعمره ستون سنة فإذا جمع بينهما فبلغ الستين فقد عمر وإذا أفرد أحدهما فلم يتجاوز به الأربعين فقد نقص من عمره الذي هو الغاية وهو الستون، وذكر نحوه في معالم التنزيل وقيل معناه إذا بر لا يضيع عمره فكأنه زاد وقيل قدر أعمال البر سببا لطول العمر كما قدر الدعاء سببا لرد البلاء، فالبر على الوالدين وبقية الأرحام يزيد في العمر، إما بمعنى أنه يبارك له في عمره فييسر له في الزمن القليل من الأعمال الصالحة ما لا يتيسر لغيره من العمل الكثير فالزيادة مجازية لأنه يستحيل في الآجال الزيادة الحقيقية. قال الطيبي: اعلم أن الله تعالى إذا علم أن زيدا يموت سنة خمس مائة استحال أن يموت قبلها أو بعدها فاستحال أن تكون الآجال التي عليها علم الله تزيد أو تنقص فتعين تأويل

(15/162)


الزيادة إنها النسبة إلى ملك الموت أو غيره ممن وكل بقبض الأرواح وأمره بالقبض بعد آجال محدودة فإنه تعالى بعد أن يأمره بذلك أو يثبت في اللوح المحفوظ ينقص منه أو يزيد على ما سبق علمه في كل شيء وهو بمعنى قوله تعالى: ?يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب? وعلى ما ذكر يحمل قوله عزوجل ?ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده? [الأنعام: 2] فالإشارة بالأجل الأول إلى ما في اللوح المحفوظ، وما عند ملك الموت وأعوانه، وبالأجل الثاني إلى ما في قوله تعالى: ?وعنده أم الكتاب? وقوله تعالى: ?فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون? [الأعراف: 34] والحاصل أن القضاء المعلق يتغير. وأما القضاء المبرم فلا يبدل ولا يغير - انتهى. (رواه الترمذي) في القدر. وقال: حديث حسن غريب. قال الشوكاني: وصححه ابن حبان ولم يصححه الترمذي لأن في إسناده أبا مودود البصري واسمه فضة بكسر أوله وتشديد المعجمة. قال أبوحاتم: ضعيف. قلت: فضة أبومودود بصري مشهور بكنيته.
2256- (12) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء)). رواه الترمذي.
2257- (13) ورواه أحمد عن معاذ بن جبل، قال
قال الحافظ في التقريب: فيه لين. قال الشوكاني: وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير والضياء في المختارة، ومثله حديث ثوبان الذي أخرجه ابن أبي شيبة والطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك (ج1ص493) وابن حبان في صحيحه لا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه - انتهى. قلت: حديث ثوبان أخرجه أيضا ابن ماجه في السنة والفتن. قال في الزوائد: سألت شيخنا أبا الفضل القرافي عن هذا الحديث فقال: حسن. وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد وأقره الذهبي.

(15/163)


2256- قوله: (إن الدعاء ينفع مما نزل) أي من بلاء نزل بالرفع إن كان معلقا وبالصبر إن كان محكما فيسهل عليه تحمل ما نزل به فيصبره أو يرضيه به حتى لا يكون في نزوله متمنيا خلاف ما كان بل يتلذذ بالبلاء كما يتلذذ أهل الدنيا بالنعماء (ومما لم ينزل) أي بأن يصرفه عنه ويدفعه منه أو يمده قبل النزول بتأييد من عنده يخف معه أعباء ذلك إذ أنزل به (فعليكم) أي إذا كان هذا شأن الدعاء فالزموا (عباد الله) أي يا عباد الله (بالدعاء) لأنه من لوازم العبودية التي هي القيام بحق الربوبية (رواه الترمذي) في الدعوات، وكذا الحاكم (ج1ص493) كلاهما من رواية عبدالرحمن بن أبي بكر القرشي عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبدالرحمن بن أبي بكر القرشي وهو ضعيف في الحديث قد تكلم فيه بعض أهل الحديث من قبل حفظه – انتهى. والحديث قال الحافظ في الفتح. في سنده: لين. وسكت عنه الحاكم. وقال الذهبي في مختصره: قلت عبدالرحمن واه، وقال المنذري في الترغيب: هو ذاهب الحديث.
2257- قوله: (ورواه أحمد) (ج5ص234) (عن معاذ بن جبل) وكذا الطبراني كلاهما من طريق إسماعيل بن عياش عن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي حسين المكي عن شهر بن حوشب عن معاذ بلفظ: لن ينفع حذر من قدر ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم بالدعاء عباد الله. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10ص146) شهر بن حوشب لم يسمع من معاذ ورواية إسماعيل بن عياش عن أهل الحجاز ضعيفة - انتهى. قلت: ورواه أيضا البزار عن معاذ بن جبل، وفيه إبراهيم بن خيثم وهو متروك، ورواه البزار أيضا والطبراني في الأوسط والحاكم (ج1ص492) عن عائشة. قال الحاكم: صحيح الإسناد. وتعقبه الذهبي بأن زكريا ابن منظور أحد رجاله مجمع على ضعفه. وقال الهيثمي (ج7ص209، ج10ص146): زكريا بن منظور وثقه
وقال الترمذي: هذا حديث غريب.

(15/164)


2258- (14) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أحد يدعوا بدعاء إلا آتاه الله ما سأل، أو كف عنه من السوء مثله، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم)). رواه الترمذي.
2259- (15) وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يسأل، وأفضل العباد انتظار الفرج)).
أحمد بن صالح المصري وضعفه الجمهور وبقية رجاله ثقات (وقال الترمذي هذا) أي حديث ابن عمر (غريب) ومع غرابته فهو ضعيف كما تقدم.
2258- قوله: (إلا آتاه الله ما سأل) أي إن جرى في الأزل تقدير إعطاءه ما سأل (أو كف عنه من السوء مثله) أي دفع عنه من البلاء عوضا مما منع قدر مسئوله إن لم يجر التقدير. قال الطيبي: فإن قلت كيف مثل جلب النفع بدفع الضرر وما وجه التشبيه. قلت: الوجه ما هو السائل مفتقر إليه وما هو ليس مستغني عنه. وقال ابن حجر: أي يدفع الله عنه سوأ تكون الراحة في دفعه بقدر الراحة التي تحصل له لو أعطى ذلك المسئول فالمثلية بإعتبار الراحة في دفع ذلك. وجلب هذا (ما لم يدع بإثم) أي بمعصية (أو قطيعة رحم) تخصيص بعد تعميم (رواه الترمذي) لم يحكم الترمذي عليه بشي من الصحة أو الضعف وفي سنده ابن لهيعة وفي الباب عن عبادة بن الصامت. أخرجه الترمذي وصححه هو والحافظ في الفتح، ونسبه المنذري والحافظ للحاكم أيضا، وعن أبي سعيد أخرجه أحمد، وسيأتي في الفصل الثالث وعن أبي هريرة أخرجه أحمد. قال المنذري: بإسناد لا بأس به والترمذي والحاكم وقال صحيح الإسناد.

(15/165)


2259- قوله: (وعن ابن مسعود) كذا في جميع النسخ الحاضرة عندنا، وهكذا وقع في الترغيب للمنذري والجامع الصغير وكنز العمال. قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة أبي مسعود بالياء بدل النون - انتهى. وهكذا وقع في جامع الأصول للجزري (ج5ص19) وهو غلط من الناسخ والصواب ابن مسعود فإن الحديث من مسند عبدالله بن مسعود كما وقع مصرحا بذلك في جامع الترمذي وهكذا ذكره الحافظ في الفتح (سلوا الله من فضله) أي بعض فضله فإن فضله واسع وليس هناك مانع (فإن الله يحب أن يسأل) أي من فضله. وقال الطيبي: أي لا يمنعكم شيء من السؤال فإن الله يحب أن يسأل من فضله لأن خزائنه ملأي لا تغضيها نفقة سحاء الليل والنهار فلما حث على السؤال هذا الحث البليغ وعلم أن بعضهم يمتنع من الدعاء لاستبطاء الإجابة قال (وأفضل العبادة انتظار الفرج) أي إذا سألتم وأبطئت عنكم الإجابة فلا تضجروا، لأن انتظار الفرج من أفضل
رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غريب.
2260- (16) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يسأل الله يغضب عليه)). رواه الترمذي.

(15/166)


العبادة، والفرج بفتحتين بالفارسية كشايس، يقال فرج الله الغم عنه أي كشفه وأذهبه. قال القاري: انتظار الفرج أي ارتقاب ذهاب البلاء والحزن بالصبر وترك الشكاية إلى غيره تعالى، وكونه أفضل العبادة لأن الصبر في البلاء انقياد للقضاء (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا ابن مردوية وابن أبي الدنيا كلهم من طريق حماد بن واقد عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبدالله (وقال: هذا حديث غريب) ليست هذه الجملة في نسخ الترمذي الموجودة عندنا بل فيها بعد تمام الحديث "هكذا روي حماد بن واقد هذا الحديث وحماد بن واقد ليس بالحافظ وروى أبونعيم (الفضل بن دكين) هذا الحديث عن إسرائيل عن حكيم بن جبير عن رجل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح" انتهى كلام الترمذي. قلت: حماد بن واقد العيشي أبوعمرو الصفار البصري قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمته: قال ابن معين: ضعيف. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبوزرعة: لين الحديث. له عند الترمذي حديث واحد وهو في انتظار الفرج وأعله – انتهى مختصرا. وإنما رجح الترمذي حديث أبي نعيم لأن أبا نعيم وهو الفضل بن دكين ثقة ثبت. وأما حماد بن واقد فضعيف كما عرفت آنفا والرجل المبهم في طريق أبي نعيم يحتمل أن يكون صحابيا ويحتمل أن يكون تابعيا، وعلى الثاني يكون هذا الطريق مرسلا، وفي الباب عن أنس بلفظ: إن أفضل العبادة انتظار الفرج أخرجه البزار. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10ص147) وفيه من لم أعرفه.
2260- قوله: (من لم يسأل الله يغضب عليه) لأن ترك السؤال تكبر واستغناء وهذا لا يجوز للعبد ولنعم ما قيل:
الله يغضب إن تركت سؤاله وترى ابن آدم حين يسأل يغضب

(15/167)


وقال الطيبي: وذلك لأن الله يحب أن يسئل من فضله فمن لم يسأل الله يبغضه، والمبغوض مغضوب عليه – انتهى. قال الحافظ: ويؤيده حديث ابن مسعود رفعه سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسئل أخرجه الترمذي، وفي الحديث دليل على أن الدعاء من العبد لربه من أهم الواجبات وأعظم المفروضات لأن تجنب ما يغضب الله منه لا خلاف في وجوبه (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا أحمد والبخاري في الأدب المفرد وابن ماجه والبزار والحاكم (ج1ص491) وابن أبي شيبة كلهم من رواية أبي صالح الخوزي بضم الخاء المعجمة وسكون الواو ثم زاي عن أبي هريرة، وهذا الخوزي مختلف فيه ضعفه ابن معين وقواه أبوزرعة، وظن الحافظ ابن كثير أنه
2261- (17) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، وما سأل الله شيئا - يعني أحب إليه - من أن يسأل العافية)). رواه الترمذي.
أبوصالح السمان فجزم بأن أحمد تفرد بتخريجه وليس كما قال، فقد جزم شيخه المزي في الأطراف بأن أبا صالح هو الخوزي وقع في رواية البزار والحاكم عن أبي صالح الخوزي سمعت أبا هريرة كذا في الفتح (ج26ص19، 20).

(15/168)


2261- قوله: (من الفتح) بصيغة المفعول (له منكم باب الدعاء) أي بأن وفق لأن يدعوا الله كثيرا مع وجود شرائطه و حصول آدابه (فتحت له أبواب الرحمة) يعني أنه يجاب لمسئوله تارة ويدفع عنه مثله من السوء أخرى كما في رواية ابن أبي شيبة فتحت له أبواب الإجابة، وفي رواية الحاكم فتحت له أبواب الجنة ورواية الكتاب أعم وأشمل (وما سأل) بصيغة المجهول (الله) بالرفع نائب الفاعل (شيئا) وفي رواية الحاكم ولا يسأل الله عبد شيئا (يعني أحب إليه) كذا في جميع النسخ الحاضرة، وهكذا في المصابيح وجامع الترمذي وهكذا نقله المنذري في الترغيب أي بزيادة لفظة يعني قبل أحب ولا توجد هذه اللفظة في جامع الأصول والحصن والكنز وتحفة الذاكرين وليست أيضا في رواية الحاكم. قال الطيبي: أحب إليه تقييد للمطلق بيعني وفي الحقيقة صفة شيئا – انتهى. قلت قوله يعني من كلام بعض الرواة وذكر ذلك لأنه لم يحفظ ولم يستحضر لفظ الحديث بعد قوله شيئا فرواه بالمعنى فما بعد يعني نقل ورواية بالمعنى و "شيئا" مفعول مطلق وأحب إليه صفته وإن في قوله (من أن يسأل العافية) مصدرية، والمعنى ما سئل الله سؤالا أحب إليه من سؤال العافية، ويجوز أن يكون "شيئا" مفعولا به أي ما سئل الله مسؤلا أحب إليه من العافية وزيد أن يسئل اهتماما بشأن المسؤل وللإيذان بأن الأحب إليه سؤال العافية لا ذاتها. قال الطيبي إنما كانت العافية أحب لأنها لفظة جامعه لخير الدارين من الصحة في الدنيا والسلامة فيها. وفي الآخرة. لأن العافية أن يسلم من الأسقام والبلايا وهي الصحة ضد المرض – انتهى. وقيل: المراد بالعافية السلامة عن جميع الآفات الظاهرة والباطنة في الدنيا والآخرة (رواه الترمذي) وكذا الحاكم (ج1ص498) كلاهما من طريق عبدالرحمن بن أبي بكر القرشي المليكي عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال الترمذي: حديث غريب، والمليكي ضعيف في الحديث. وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد وتعقبه الذهبي بأن

(15/169)


المليكي ضعيف. وقال المنذري: هو ذاهب الحديث. وقال الحافظ في سنده: لين. وقد صححه مع ذلك الحاكم.
2262- (18) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء)). رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غريب.
2263- (19) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء
2262- قوله: ( من سره) أي أعجبه وأوقعه في الفرح والسرور (أن يستجيب الله له عند الشدائد) جمع الشديدة وهي الحادثة الشاقة. وقال الجزري: الشديدة كل ما يمر بالإنسان من مصائب الدنيا، وفي الترمذي زيادة، والكرب بضم الكاف وفتح الراء جمع الكربة، وهي الغم الذي يأخذ بالنفس لشدته (فليكثر) أمر من الإكثار (الدعاء في الرخاء) بفتح الراء والخاء المعجمة ممدود أي في حالة الصحة والفراغ والعافية. قال الجزري: الرخاء السعة في العيش وطيبة وهو ضد الشدة – انتهى. والمعنى فليلازم الدعاء في حال الصحة والرفاهية والسلامة من المحن، فإن من شيمة المؤمن الحازم أن يريش أسهم قبل أن يرمي ويلتجىء إلى الله قبل مس الاضطرار إليه بخلاف الكافر والفاجر كما قال الله تعالى: ?وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إلى خوله نعمة منه نسي ما كان يدعوا إليه من قبل? الآية [الزمر: 8] وقال ?وإذا مس الإنسان ضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه? [يونس:12] (رواه الترمذي) وكذا الحاكم (ج1ص544) وقال حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. قال المنذري في الترغيب: ورواه الحاكم من حديث أبي هريرة ومن حديث سلمان وقال في كل منهما صحيح الإسناد.

(15/170)


2263- قوله: (وأنتم موقنون بالإجابة) المراد ملزومه أي ادعوا الله والحال إنكم ملتبسون بالصفات التي هي سبب في الإجابة. قال التوربشتي: أي كونوا عند الدعاء على حالة تستحقون فيها الإجابة وذلك إتيان المعروف واجتناب المنكر وغير ذلك من مرعاة أركان الدعاء وآدابه حتى تكون الإجابة على قلوبكم أغلب من الردأ، والمراد ادعوه معتقدين لوقوع الإجابة لأن الداعي إذا لم يكن متحققا في الرجاء لم يكن رجاءه صادقا وإذا لم يكن الرجاء صادقا لم يكن الدعاء خالصا والداعي مخلصا فإن الرجاء هو الباعث على الطلب ولا يتحقق الفرع إلا بتحقق الأصل. وقيل: لا بد من اجتماع المعنيين إذ كل منهما مطلوب لرجاء الإجابة، وقال المظهر: المعنى ليكن الداعي ربه على يقين بأن الله تعالى يجيبه لأن رد الدعاء إما لعجز في إجابته أو لعدم كرم في المدعو أو لعدم علم المدعو بدعاء الداعي وهذه الأشياء منتفية عن الله تعالى فإن الله جل جلاله عالم كريم قادر لا مانع له من الإجابة، فإذا علم الداعي إنه لا مانع لله في إجابة الدعاء فليكن موقنا بالإجابة. فإن قيل قد قلتم إن الداعي ليكن موقنا بالإجابة واليقين إنما يكون إذا لم يكن الخلاف في ذلك الأمر، ونحن قد نرى بعض الدعاء يستجاب وبعضها لا يستجاب
من قلب غافل لاه)). رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غريب.
2264- (20) وعن مالك بن يسار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها)).

(15/171)


فكيف يكون للداعي يقين. قلنا: الداعي لا يكون محروما عن إجابة الدعاء البتة لأنه يعطي ما يسأل وإن لم يكن إجابته مقدرا في الأزل لا يستجاب دعاءه فيما يسأل ولكن يدفع عنه السوء مثل ما يسأل كما جاء في الحديث أو يعطي عوض ما يسأل يوم القيامة من الثواب والدرجة، لأن الدعاء عبادة ومن عمل عبادة لا يجعل محروما من الثواب – انتهى. (من قلب غافل) بالإضافة وتركها أي معرض عن الله أو عما يسأله (لاه) من اللهو أي لاعب بما سأله أو مشتغل بغير الله وهذا عمدة آداب الدعاء ولهذا خص بالذكر (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا الحاكم (ج1ص493) وفي سندهما صالح بن بشير بن وداع البصري القاص الزاهد المعروف بالمرى بضم الميم وتشديد الراء وهو ضعيف. (وقال هذا حديث غريب) وقال الحاكم: حديث مستقيم الإسناد تفرد به صالح المرى وهو أحد زهاد أهل البصرة. قال المنذري: لا شك في زهده لكن تركه أبوداود والنسائي – انتهى. قلت: وقال البخاري منكر الحديث. وضعفه الجمهور. وللحديث شاهد من حديث عبدالله بن عمرو إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال القلوب أوعية وبعضها أوعي من بعض فإذا سألتم الله عزوجل أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيب لعبد دعاءه عن ظهر قلب غافل. أخرجه أحمد (ج2ص177) وحسن المنذري والهيثمي إسناده، ويؤيده ما روى الطبراني من حديث ابن عمر بنحو ذلك. قال الهيثمي (ج10ص148) بعد ذكره: وفيه بشير بن ميمون الواسطي وهو مجمع على ضعفه.

(15/172)


2264- قوله: (وعن مالك بن يسار) بفتح الياء السكوني بفتح السين. قال في التقريب: صحابي قليل الحديث - انتهى. وقال سلمان بن عبدالحميد: شيخ أبي داود لمالك بن يسار عندنا صحبة. قال المنذري في مختصر السنن والحافظ في الإصابة: وفي نسخة من السنن "ما" لمالك بزيادة "ما" النافية وقال أبوالقاسم البغوي: لا اعلم بهذا الإسناد غير هذا الحديث ولا أدري له صحبة أو، لا – انتهى. وقال المصنف: قد اختلف في صحبته. (إذا سألتم الله) شيئا من جلب نفع (فاسألوه ببطون أكفكم) جمع الكف أي مع رفعها إلى السماء (ولا تسألوه بظهورها) قال ابن حجر: لأن اللائق لطالب شيء يناله أن يمد كفه إلى المطلوب ويبسطها متضرعا ليملأها من عطاءه الكثير المؤذن به رفع اليدين إليه جميعا، أما من سأل رفع شيء وقع به من البلاء فالسنة أن يرفع إلى السماء ظهر كفيه إتباعا له عليه الصلاة والسلام وحكمته التفاؤل في الأول بحصول المأمول، وفي الثاني بدفع المحظور - انتهى.
2265- (21) وفي رواية ابن عباس، قال: ((سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها، فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم)). رواه أبوداود.
قلت يدل على هذا الفرق ما ذكرنا في (ج2ص394) من حديث السائب بن خلاد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سأل جعل باطن كفيه إليه وإذ استعاذ جعل ظاهرهما إليه أخرجه أحمد وفي إسناده ابن لهيعة وفيه مقال مشهور. وقيل: جعل ظهر الكف فوق بطنها مخصوص بالاستسقاء كقلب الرداء. واستدل لذلك بما تقدم في الاستسقاء من حديث أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء رواه مسلم وفيه إنه ليس فيه ما يدل على اختصاص ذلك بالاستسقاء وفي الباب عن أبي بكرة أخرجه الطبراني: قال الهيثمي (ج10ص169) ورجاله رجال الصحيح غير عمار بن خالد الواسطي وهو ثقة.

(15/173)


2265- قوله: (وفي رواية ابن عباس إلخ) أي زاد في حديث ابن عباس بعد قوله بظهورها فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم" (قال) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (سلوا الله ببطون أكفكم) لأن هذه هيئة السائل الطالب المنتظر للأخذ إذ مادة من طلب شيئا من غيره أن يمده يده إليه ليضع ما يعطيه له فيها (فإذا فرغتم) أي من الدعاء (فامسحوا بها) أي بأكفكم (وجوهكم) فإنها تنزل عليها آثار الرحمة فتصل بركتها إليها. قال في اللمعات: أي تبركا بما فاض من أنوار الإجابة وإيصالها إلى الوجه الذي هو أشرف الأعضاء وأقربها أولى – انتهى. وفيه استحباب مسح اليدين بالوجه عقب الدعاء. واتفقوا على ذلك خارج الصلاة. وإما في الصلاة فقال البيهقي (ج2ص212) بعد رواية أثر عمر في رفع اليدين في القنوت. أما مسح اليدين بالوجه عند الفراغ من الدعاء فلست أحفظه عن أحد من السلف في دعاء القنوت وإن كان يروي عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة وقد روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث فيه ضعف (يشير إلى حديث ابن عباس) وهو مستعمل عند بعضهم خارج الصلاة وإما في الصلاة فهو عمل لم يثبت بخبر صحيح ولا أثر ثابت ولا قياس. فالأولى أن يفعله ويقتصر على ما فعله السلف رضي الله عنهم من رفع اليدين دون مسحهما بالوجه في الصلاة - انتهى. (رواه أبوداود) في أواخر الصلاة. وحديث مالك بن يسار أخرجه البغوي وابن أبي عاصم وابن السكن والمعمري في اليوم والليلة وابن قانع كلهم من طريق ضمضم بن زرعة الحضرمي الشامي عن شريح بن عبيد عن أبي ظبية عن أبي بحرية عنه. وقد اقتصر أبوداود على ذكر كلام شيخه في مالك بن يسار. ونقل المنذري بعد ذكره اختلاف النسخة التي أشرنا إليه وكلام البغوي، ثم قال وفي إسناده إسماعيل بن عياش (راوي الحديث عن ضمضم) وقد تكلم فيه غير واحد وصحح بعضهم روايته عن الشاميين وفي إسناده أيضا ضمضم بن زرعة الحضرمي وهو شامي وثقه يحيى بن معين – انتهى. وحديث ابن عباس رواه

(15/174)


أبوداود من طريق عبدالله بن يعقوب بن
2266- (22) وعن سلمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا))
إسحاق عمن حدثه عن محمد بن كعب القرظي عن عبدالله بن عباس. قال أبوداود: روى هذا الحديث من غير وجه عن محمد بن كعب كلها واهية وهذا الطريق قائلها وهو ضعيف أيضا - انتهى. قلت: عبدالله بن يعقوب بن إسحاق. قال الحافظ في التقريب في ترجمته: وهو مجهول الحال. وقال في مبهماته: عبدالله بن يعقوب عمن حدثه عن محمد بن كعب يقال هو أبوالمقدام هشام بن زياد. وقال في مبهمات التهذيب: عبدالله بن يعقوب بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي عن ابن عباس الحديث مشهور برواية المقدام هشام بن زياد عن محمد بن كعب – انتهى. قلت: وأبوالمقدام هشام بن زياد ضعيف متروك. والحديث رواه ابن ماجه في الدعاء والحاكم (ج1ص536) من طريق صالح بن حسان عن محمد بن كعب، وصالح هذا ضعيف متروك وحديث ابن عباس وأخرجه أيضا البيهقي في السنن الكبرى (ج2ص212) من طريق أبي داود ثم نقل كلام أبي داود المتقدم.

(15/175)


2266- قوله: (إن ربكم) هذا لفظ أبي داود وللترمذي والبيهقي إن الله (حيي) بكسر الياء الأولى وتشديد الثانية فعيل من الحياء أي كثير الحياء ووصفه تعالى بالحياء يحمل على ما يليق له كسائر صفاته نؤمن بها ولا نكيفها (كريم) هو الذي يعطي من غير سؤال فكيف بعده. وقيل: الكريم هو الجواد المعطي الذي لا ينفد عطاءه وهو الكريم المطلق (يستحي) عينه ولامه حرفا علة (من عبده إذا رفع يديه إليه) ولفظ الترمذي والبيهقي يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه (أن يردهما صفرا) بكسر الصاد المهملة وسكون الفاء أي خاليتين فارغتين يقال صفر الشيء بكسر الفاء أي خلا، والمصدر الصفر بالتحريك ولا يدخلون فيه تاء التأنيث بل يستعملونه على صيغته هذه في المذكر والمؤنث والتثنية والجمع، وزاد في رواية الترمذي والبيهقي خائبتين من الخيبة وهو الحرمان وفي الحديث دلالة على استحباب رفع اليدين في الدعاء ويكونان مضمومتين، لما روى الطبراني في الكبير عن ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا دعا ضم كفيه وجعل بطونهما مما يلي وجهه) ذكره ابن رسلان كذا في السراج المنير. وقال في هامش تحفة الذاكرين نقلا عن عدة الحصن الحصين بعد ذكر حديث ابن عباس هذا وسنده ضعيف - انتهى. وقد ورد في رفع الأيدي عند الدعاء أحاديث كثيرة صحيحة صريحة كما ذكرها شيخنا في شرح الترمذي في باب ما يقول إذا سلم، والحافظ في الفتح في باب رفع الأيدي في الدعاء من كتاب الدعوات والجمع بين هذه الأحاديث وبين ما تقدم من حديث أنس إنه لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في شيء من دعاءه إلا في الاستسقاء رواه الشيخان بأن المنفي صفة خاصة لا أصل الرفع، قال الحافظ: ما حاصله إن الرفع
رواه الترمذي، وأبوداود، والبيهقي في "الدعوات الكبير"
2267- (23) وعن عمر، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه)) رواه الترمذي.

(15/176)


في الاستسقاء يخالف غيره إما بالمبالغة إلى أن تصير اليدان حذو الوجه مثلا وفي الدعاء إلى حذو المنكبين ولا يعكر على ذلك إنه ثبت في كل منهما حتى يرى بياض أبطيه بل يجمع بأن تكون روية البياض في الاستسقاء أبلغ منها في غيره. وأما إن الكفين في الاستسقاء يليان الأرض وفي الدعاء يليان السماء. قال المنذري: وبتقدير تعذر الجمع فجانب الإثبات أرجح – انتهى. (رواه الترمذي) في الدعوات (وأبوداود) في أواخر الصلاة (والبيهقي في الدعوات الكبير) وكذا في السنن الكبرى (ج2ص211) وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص438) وابن ماجه وابن حبان والحاكم (ج1ص497- 535) قال الترمذي: حديث حسن غريب. وروى بعضهم ولم يرفعه. وقال البيهقي: رفعه جعفر بن ميمون بياع الأنماط عن أبي عثمان النهدي عن سلمان هكذا، ووفقه سليمان التيمي عن أبي عثمان في إحدى الروايتين عنه. قلت: رواه أحمد والحاكم موقوفا ومرفوعا وقال الحاكم: إسناد صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وسكت عنه أبوداود. وقال الحافظ في الفتح: سنده جيد. قال الحاكم: وله شاهد بإسناد صحيح من حديث أنس بن مالك ثم رواه نحو حديث سلمان. قال المنذري: في تصحيح سنده نظر. وقال الذهبي: عامر بن يساف (أحد رواة حديث أنس) ذو مناكير – انتهى. قلت: ونسب في الكنز (ج1ص169) حديث أنس إلى عبدالرزاق وأبي يعلى أيضا.

(15/177)


2267- قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء) قيل: حكمة الرفع إلى السماء إنها قبله الدعاء ومهبط الرزق والوحي وموضع الرحمة والبركة (لم يحطهما) بضم الحاء المهملة ونصب الطاء المشددة أي لم يضعهما حتى يمسح بهما وجهه) وذلك على طريق التيمن والتفاؤل فكأنه يشير إلى أن كفيه ملئتا من البركات السماوية والأنوار الإلهية فهو يفيض منها على وجه الذي هو أولى الأعضاء بالكرامة قاله التوربشتي وقال في السبل: في الحديث دليل على مشروعية مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء. وقيل: وكأن المناسبة إنه تعالى لما كان لا يردهما صفرا فكان الرحمة أصابتهما فناسب إفاضة ذلك على الوجه الذي هو أشرف الأعضاء وأحقها بالتكريم - انتهى. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا الحاكم (ج1ص536) كلاهما من طريق حماد بن عيسى الجهني عن حنظلة بن أبي سفيان الجحمي عن سالم بن عبدالله عن أبيه عن عمر. قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن عيسى وقد تفرد به وهو قليل الحديث. وقد حدث عنه الناس وحنظلة
2268- (24) وعن عائشة، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلك)). رواه أبوداود.
2269- (25) وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أسرع الدعاء إجابة دعوة غائب لغائب)). رواه الترمذي وأبوداود.
ابن أبي سفيان ثقة وثقة يحيى القطان – انتهى. قلت: حماد هذا ضعيف ضعفه أبوحاتم وأبوداود والدارقطني. وقال مأكولا: ضعفوا أحاديثه كذا في تهذيب التهذيب، والحديث سكت عنه الحاكم والذهبي. وقال النووي في الأذكار (ص294) في إسناده ضعف، وأما قول الحافظ عبدالحق إن الترمذي قال فيه إنه حديث صحيح فليس في النسخ المعتمدة من الترمذي إنه صحيح بل قال حديث غريب - انتهى.

(15/178)


2268- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحب) أي يحب (الجوامع من الدعاء) أي الجامعة لخير الدنيا والآخرة. وقيل: هي ما كان لفظه قليلا ومعناه كثيرا شاملا لأمور الدنيا والآخرة كما في قوله تعالى ?ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار? [البقرة: 201] ومثل الدعاء بالعافية في الدنيا والآخرة وقيل: هي الجامعة للتحميد والصلاة وجميع آداب الدعاء. وقيل: هي ما يجمع الأغراض الصالحة والمقاصد الصحيحة (ويدع) أي يترك (ما سوى ذلك) أي من الأدعية في غالب الأحيان (رواه أبوداود) في آخر الصلاة وسكت عنه هو والمنذري وأخرجه الحاكم (ج1ص539) وقال حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
2269- قوله: (وعن عبدالله بن عمرو) بالواو (إن أسرع الدعاء إجابة) تمييز، وهذا لفظ أبي داود وللترمذي ما دعوة أسرع إجابة من دعوة غائب لغائب (دعوة غائب لغائب) معناه في غيبة المدعو له أو في سره كأنه من وراء معرفته أو معرفة الناس. روى الخرائطي في مكارم الأخلاق عن يوسف بن أسباط قال مكثت دهرا وأنا أظن هذا الحديث إذا كان غائبا عن شخصه ثم نظرت فيه فإذا هو لو كان على المائدة وهو لا يسمع كان غائبا، وخص حالة الغيبة بالذكر للبعد عن الرياء والأغراض الفاسدة المنقصة من الأجر فإنه في حالة الغيبة يتمحض الإخلاص ويصح قصد وجه الله تعالى بذلك فيوافقه الملك فيدعو له بمثل ذلك ويؤمن على دعاءه كما تقدم دعاءه أقرب إلى الإجابة لأن الملك معصوم. وفي الحديث الحث على الدعاء للمؤمنين بظهر الغيب. (رواه الترمذي) في البر والصلة (وأبو داود) في أواخر الصلاة كلاهما من طريق عبدالرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي عن عبدالله بن يزيد عن عبدالله بن عمرو بن العاص. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه والإفريقي يضعف في الحديث – انتهى. وسكت عنه أبوداود ونقل المنذري كلام الترمذي وأقره. قلت:

(15/179)


2270- (26) وعن عمر بن الخطاب، قال: ((استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن لي، وقال: شركنا يا أخي! في دعائك ولا تنسنا. فقال كلمة ما يسرني إن لي بها الدنيا)). رواه أبوداود والترمذي وانتهت روايته عند قوله: ولا تنسنا.
والحديث أخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد والطبراني في الكبير، وفي الباب أحاديث كثيرة، منها حديث أبي الدرداء، وقد تقدم، ومنها حديث عمران بن حصين أخرجه البزار، ومنها حديث ابن عباس الآتي في آخر الباب، ومنها حديث واثلة عند أبي نعيم في الحلية.

(15/180)


2270- قوله: (استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة) أي من المدينة. قال ابن حجر: في قضاء عمرة كان نذرها في الجاهلية ذكره القاري (فأذن لي) أي فيها (أشركنا) يحتمل نون العظمة وأن يريد نحن وأتباعنا (يا أخي) بالتصغير أو بدونه، والمراد بالتصغير الاختصاص بالتلطف والتعطف لا التحقير (في دعائك) في إظهار الخضوع والمسكنة في مقام العبودية بالتماس الدعاء ممن عرف له الهداية وحث للأمة على الرغبة في دعاء الصالحين وأهل العبادة وتنبيه لهم أن لا يخصوا أنفسهم بالدعاء ولا يشاركوا فيه أقاربهم وأحباءهم لا سيما في مظان الإجابة وتفخيم لشأن عمر وإرشادة بذكره في السامعين وإرشاد إلى ما يحمى دعاءه من الرد (ولا تنسنا) تأكيد أو أراد به في سائر أحواله (فقال) قال القاري: عطف على "قال أشركنا" لتعقيب المبين بالمبين أي قال عمر فقال بمعنى تكلم النبي صلى الله عليه وسلم (كلمة) وهي أشركنا أو يا أخي! بالإضافة إلى نفسه الشريفة أو لا تنسنا أو غير ما ذكر ولم يذكره توقيا عن التفاخر ونحوه من آفات النفوس (ما يسرني) بضم السين (إن لي بها الدنيا) الباء للبدلية و "ما" نافية وإن مع اسمه وخبره فاعل يسرني أي لا يعجبني ولا يفرحني كون جميع الدنيا لي بدلها قاله القاري. قلت: وفي رواية أحمد فقال عمر: ما أحب إن لي بها ما طلعت عليه الشمس لقوله يا أخي (رواه أبوداود) في أواخر الصلاة (والترمذي) في الدعوات وأخرجه أيضا أحمد (ج1ص29) (ج2ص59) وابن ماجه في فضل دعاء الحاج من كتاب الحج ونسبة في التنقيح لأبي داود الطيالسي والبيهقي في الشعب أيضا (وانتهت روايته) أي الترمذي وكذا رواية ابن ماجه (عند قوله ولا تنسنا) والحديث صححه الترمذي وسكت عنه أبوداود. قلت: في سنده عندهم عاصم بن عبيدالله بن عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي وهو ضعيف. كما ستعرف. فالحديث ضعيف الإسناد. قال المنذري بعد نقل تصحيح الترمذي: وفي إسناده عاصم بن عبيدالله بن عاصم بن عمر بن

(15/181)


الخطاب، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة – انتهى. قلت: ضعفه ابن معين والنسائي
2271- (27) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب! وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين)). رواه الترمذي.
وابن خراش وغيرهم. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث ولا يحتج به. وقال ابن نمير وأبوحاتم والبخاري: منكر الحديث. وقال شعبة: كان عاصم لو قيل له: من بنى مسجد البصرة لقال فلان عن فلان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال الدارقطني: مديني يترك وهو مغفل. وقال ابن حبان: كان سيء الحفظ كثير الوهم فاحش الخطأ فترك من أجل كثرة خطأه كذا في تهذيب التهذيب.

(15/182)


2271- قوله: (ثلاثة) أي أشخاص أو ثلاثة رجال (الصائم) أي منهم أو أحدهم الصائم (حين يفطر) لأنه بعد عبادة وحال تضرع ومسكنة (والإمام العادل) بين رعيته (ودعوة المظلوم) كان مقتضى الظاهر أن يقول، والمظلوم، ولعله لما كانت المظلومية ليست بذاتها مطلوبة عدل عنه قاله القاري. وقال الطيبي: أي دعوة الصائم ودعوة الإمام بدليل قوله ودعوة المظلوم، ويكون بدلا من دعوتهم وقوله "يرفعها" حال كذا قيل، والأولى أن يكون أي يرفعها خبرا لقوله ودعوة المظلوم وقطع هذا القسم عن أخويه لشدة الاعتناء بشأن دعوة المظلوم ولو فاجرا أو كافرا وينصر هذا الوجه عطف قوله ويقول الرب على قوله ويفتح فإنه لا يلائم الوجه الأول لأن ضمير يرفعها للدعوة حينئذ لا لدعوة المظلوم كما في الوجه الأول. قال القاري: والظاهر إن الضمير على الوجهين لدعوة المظلوم وإنما بولغ في حقها لأنه لما لحقته نار الظلم واحترقت أحشاءه خرج منه بالتضرع والانكسار وحصل له حاله الاضطرار فيقبل دعاءه كما قال تعالى: ?أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء? [النمل: 62] (يرفعها الله فوق الغمام) أي تجاوز الغمام أي السحاب (ويفتح) أي الله (لها) أي لدعوته (أبواب السماء) بالنصب على أن يفتح مذكر معلوم وبالرفع على أنه مؤنث مجهول. قيل: رفعها فوق الغمام وفتح أبواب السماء لها كناية عن سرعة القبول والوصول إلى مصعد الإجابة (لأنصرنك) بفتح الكاف أي أيها المظلوم (ولو بعد حين) الحين يستعمل لمطلق الوقت ولستة أشهر ولأربعين سنة، والمعنى لا أضيع حقك ولا أرد دعائك ولو مضي زمان طويل لأني حليم لا أعجل عقوبة العباد لعلهم يرجعون عن الظلم والذنوب إلى إرضاء الخصوم والتوبة، وفيه إيماء إلى أنه تعالى يمهل ولا يهمله (رواه الترمذي) في موضعين الأول في باب صفة الجنة ونعيمها من طريق حمزة الزيات عن زياد الطائي عن أبي هريرة. وقال بعد روايته: هذا حديث ليس إسناده بذلك القوى، وليس هو عندي بمتصل – انتهى.

(15/183)


قلت: زياد الطائي. قال الذهبي في الميزان: فيه
2272- (28) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث دعوات مستجابات. لا شك فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم)). رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه.
لا يعرف. وقال الحافظ في التقريب: مجهول أرسل عن أبي هريرة، والثاني في الدعوات في باب بعد باب أي الكلام أحب إلى الله من طريق سعدان القمي وهو صدوق عن أبي مجاهد سعد الطائي وهو لا بأس به عن أبي مدلة بضم الميم وكسر المهملة وتشديد اللام وهو مقبول عن أبي هريرة: قال الترمذي، حديث حسن. ونسبه السيوطي في الجامع الصغير لأحمد أيضا والشوكاني في تحفة الذاكرين لابن خزيمة وابن حبان أيضا.

(15/184)


2272- قوله: (ثلاث دعوات) مبتدأ خبره (مستجابات) قال الطيبي: الحديث السابق ثلاثة، وفي هذا ثلاث دعوات، لأن الكلام على الأول في شأن الداعي وتحرية في طريق الاستجابة وما هي منوطة به من الصوم والعدل بخلاف الوالد والمسافر إذ ليس عليهما الاجتهاد في العمل. (لا شك فيهن) أي في استجابتهن وهو أكد من حديث لا ترد. وإنما أكد به لالتجاء هؤلاء الثلاثة إلى الله تعالى بصدق الطلب ورقة القلب وانكسار الخاطر قاله القاري. (في دعوة الوالد) أي لولده أو عليه ولم يذكر الوالدة لأن حقها أكد فدعاءها أولى بالإجابة وقوله "دعوة الوالد" هذه رواية أبي داود، وكذا وقع في رواية لأحمد ولفظ الترمذي "دعوة الوالد على ولده" وهكذا وقع في أكثر روايات أحمد وفي رواية الأدب المفرد "دعوة الوالدين على ولدهما" وفي رواية ابن ماجه "دعوة الوالد لولده" وكذا وقع في رواية أبي داود الطيالسي (ودعوة المسافر) يحتمل أن تكون دعوته لمن أحسن إليه وبالشر لمن آذاه وأساء إليه لأن دعاءه لا يخلو عن الرقة (ودعوة المظلوم) أي لمن ينصره ويعينه أو يسليه ويهون عليه أو على من ظلمه بأي نوع من أنواع الظلم. وقال السندي: قوله "دعوة المظلوم" أي في حق الظالم وأثر الاستجابة قد لا يظهر في الحال لكون المجيب تعالى حكيما –انتهى. قال التوربشتي: اختص هؤلاء الثلاثة بإجابة الدعوة لانقطاعهم إلى الله لصدق الطلب ورقة القلب وانكسار البال ورثاثة الحال. أما المسافر فلأنه منقطع عن الوطن المألوف مفارق عما كان يستأنس به مستشعر في سفره من طوارق الحدثان فلا يخلو ساعتئذ عن الرقة والرجوع إلى الله بالباطن. وأما المظلوم فإنه منقلب إلى ربه على صفة الاضطرار. وأما الوالد فإنه يدعو لولده على نعت الحنو والرقة وإيثار الولد على نفسه بما يستطيع فيخلص في دعاءه مبلغ جهده. (رواه الترمذي) في باب دعاء الوالدين في أوائل البر والصلة وفي باب دعوة المسافر من أبواب الدعوات. وقال: حديث حسن.

(15/185)


(وأبوداود) في أواخر الصلاة وسكت عنه، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره (وابن ماجه) في الدعاء وأخرجه أيضا أحمد في مواضع، والبخاري في الأدب المفرد وأبوداود الطيالسي، وفي الباب عن عقبة بن عامر الجهني عند الطبراني بإسناد جيد.
?الفصل الثالث?
2273- (29) عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى يسأل شسع نعله إذا انقطع)).
2274- (30) زاد في رواية عن ثابت البناني مرسلا، ((حتى يسأله الملح، وحتى يسأله شسعة إذا انقطع)). رواه الترمذي.
2273- قوله: (حاجته) مفعول ثان (كلها) تأكيد لها أي جميع مقصوداته إشعارا بالافتقار إلى الاستعانة في كل لحظة ولمحة، ولأن خزائن الجود بيده وأزمته إليه ولا معطي إلا هو (حتى يسأل) أي ربه وفي بعض النسخ حتى يسأله (شسع نعله) بكسر المعجمة وسكون المهملة، أي شراكها. قال في المجمع: هو من سيور النعل ما يدخل بين الإصبعين ويدخل طرفه في الثقب الذي في صدر النعل المشدود في الزمام، والزمام سير يعقد فيه الشسع. وقال الجزري: شسع النعل سير من سيورها التي تكون على وجهها يدخل بين الإصبعين – انتهى. قال الطيبي: وهذا من باب التتميم لأن ما قبله جئ في المهمات وما بعده في المتمات.

(15/186)


2274- قوله: (وزاد في رواية) حق المصنف أن يقول وفي رواية أو يقول رواه الترمذي زاد في رواية قاله القاري (عن ثابت) بن أسلم (البناني) بضم الموحدة وخفة النون الأولى وكسر الثانية منسوب إلى بنانة اسم أم سعد بن لؤي، وثابت هذا من ثقات التابعين وحكى عنه قال: صحبت أنسا أربعين سنة (مرسلا) أي مرفوعا بحذف الصحابي (حتى يسأله الملح) ونحوه من الأشياء التافهة وهذا هو القدر الزائد، وأما قوله "حتى يسأله شسع نعله الخ" فهو موجود في الروايتين وإنما ذكره تنبيها على موضع الزائد (حتى يسأله شسعة) فإنه لم ييسره لم يتيسر ودفع به وبما قبله ما قد يتوهم من أن الدقائق لا ينبغي أن تطلب منه لحقارتها (رواه الترمذي) الحديث الموصول رواه الترمذي عن أبي داود صاحب السنن عن قطن بن نسير البصري وهو صدوق يخطئ كما في التقريب عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس. قال الترمذي: هذا حديث غريب وروى غير واحد هذا الحديث عن جعفر بن سليمان عن ثابت البناني عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكروا فيه عن أنس حدثنا صالح بن عبدالله نا جعفر بن سليمان عن ثابت البناني إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ليسأل أحدكم ربه حاجته حتى يسأله الملح وحتى يسأله شسع نعله إذا انقطع، وهذا أصح من حديث قطن عن جعفر بن سليمان – انتهى. يعني إن حديث صالح بن عبدالله عن جعفر بن سليمان مرسلا أصح من حديث قطن عن جعفر متصلا، لأن صالح بن عبدالله أوثق من قطن ومع ذلك
2275- (31) وعنه، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء حتى يرى بياض إبطيه)).

(15/187)


قد تابع صالح بن عبدالله غير واحد. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة قطن ما لفظه. قال ابن عدي: حدثنا البغوي ثنا القواريري ثنا جعفر عن ثابت بحديث ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها فقال رجل للقواريري إن شيخا يحدث به عن جعفر عن ثابت عن أنس. فقال القواريري: باطل. قال ابن عدي: وهو كما قال – انتهى. قلت: حديث أنس نسبه السيوطي وغيره لابن حبان أيضا ونسبه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10ص150) للبزار وفيه زيادة قوله حتى يسأله الملح. قال الهيثمي: رواه الترمذي غير قوله وحتى يسأله الملح. ورجاله أي عند البزار رجال الصحيح غير سيار بن حاتم وهو ثقة. وفي الباب عن عائشة بلفظ سلوا الله كل شيء حتى الشسع فإن الله إن لم ييسره لم يتيسره. قال الهيثمي: رواه أبويعلى ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبيدالله بن المنادي وهو ثقة.

(15/188)


2275- قوله: (وعنه) أي عن أنس (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء) أي في مواضع مخصوصية قاله القاري. (حتى يرى) بصيغة المجهول أي يبصر (بياض إبطيه) قال القاري: لعل المراد بياض طرفي إبطيه ولا ينافيه حديث أبي داود المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك فإنه يحمل على الأقل في الرفع أو على أكثر الأوقات، والأول على بيان الجواز وفي الاستسقاء ونحوه من شدة البلاء والمبالغة في الدعاء - انتهى. قلت: قد ثبت في كل من الاستسقاء وغيره حتى يرى بياض إبطيه، أما الاستسقاء ففي الصحيحين من حديث أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعاء إلا في الاستسقاء، وإنه يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه، وأما غير في الاستسقاء ففي البخاري عن أبي موسى في قصة قتل عمه أبي عامر الأشعري قال: فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بماء فتوضع ثم رفع يديه، فقال: اللهم اغفر لعبيد أبي عامر ورأيت بياض إبطيه، وفي الصحيحين من حديث أبي عبيد في قصة ابن اللتبية ثم رفع يديه حتى رأيت عفرتي إبطيه يقول: اللهم هل بلغت. قال الحافظ: في ذلك رد على من قال لا يرفع كذا إلا في الاستسقاء. قلت: ويدل على رفع اليدين كذلك مطلقا ما روى البخاري معلقا في الاستسقاء والدعوات عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه، وما روى مسلم من وجه آخر عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء حتى يرى بياض إبطيه ويجمع بين ذلك بأن تكون رؤية البياض في الاستسقاء أبلغ منها في غيره وفي الباب عن أبي برزة عند أبي يعلى وعن عائشة عند البزار ذكرهما الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10ص168) مع الكلام عليهما.
2276- (32) وعن سهل بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((كان يجعل إصبعيه حذاء منكبيه، ويدعوا)).

(15/189)


2277- (33) وعن السائب بن يزيد، عن أبيه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا، فرفع يديه مسح وجهه بيديه)). رواه البيهقي الأحاديث الثلاثة في الدعوات.
2276- قوله: (كان يجعل إصبعيه) أي أصابع يديه مرتفعة (حذاء منكبيه) دل الحديث على القصد والتوسط في رفع اليدين وهو الأكثر والحديث السابق على الزيادة وهي حالة المبالغة والإلحاح في الدعاء والمسألة قاله القاري (ويدعوا) أي بعد ذلك.
2277- قوله: (وعن السائب بن يزيد) تقدم ترجمته في باب أحكام المياه (عن أبيه) هو يزيد بن سعيد ابن ثمامة بن الأسود الكندي والد السائب بن يزيد المعروف بابن أخت النمر صحابي أسلم يوم الفتح. قال الزهري: عن سعيد بن المسيب قال ما اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم قاضيا ولا أبوبكر ولا عمر حتى كان في وسط خلافة عمر فإنه قال ليزيد ابن أخت النمر: اكفني بعض الأمر يعني صغارها. وقال ابن سعد: استعمله عمر على السوق (فرفع يديه) عطف على دعا (مسح وجهه بيديه) قال ابن حجر: جواب "إذا" والصواب إنه خبر كان، وإذا ظرف له. قال الطيبي: دل على أنه إذا لم يرفع يديه في الدعاء لم يمسح وهو قيد حسن، لأنه - صلى الله عليه وسلم -كان يدعوا كثيرا كما في الصلاة والطواف وغيرهما من الدعوات المأثورة دبر الصلوات وعند النوم وبعد الأكل وأمثال ذلك ولم يرفع يديه لم يمسح بهما وجهه (روى البيهقي الأحاديث الثلاثة) حديث أنس قد أخرجه أيضا البخاري ومسلم كما تقدم. وأما حديث سهل بن سعد فأخرجه أحمد (ج5ص337) والحاكم (ج1ص536) من رواية عبدالرحمن بن إسحاق عن عبدالرحمن بن معاوية عن ابن أبي ذباب عن سهل بن سعد قال: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاهرا يديه قط يدعوا على منبر ولا غيره ما كان يدعوا إلا يضع يديه حذو منكبيه ويشير بإصبعه إشارة لفظ أحمد، وفي رواية الحاكم كان يجعل إصبعيه بحذاء منكبيه ويدعوا. قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي:

(15/190)


(ج10ص167) فيه عبدالرحمن بن إسحاق الزرقي المدني وثقه ابن حبان، وضعفه مالك وجمهور الأئمة، وبقية رجاله ثقات - انتهى. وأما حديث السائب بن يزيد عن أبيه فأخرجه أيضا أبوداود في أواخر الصلاة من طريق حفص بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص عن السائب بن يزيد عن أبيه. وقد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري: في إسناده عبدالله بن لهيعة وهو ضعيف. وقال الحافظ في الإصابة: (ج3ص656) في ترجمة يزيد والد السائب بن يزيد بعد ذكر هذا الحديث من رواية أبي داود وفي السند ابن لهيعة
2278- (34) وعن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ((المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك أو نحوهما، والاستغفار أن تشير بإصبع واحدة، والابتهال أن تمد يديك جميعا)) وفي رواية قال: والابتهال هكذا ورفع يديه وجعل ظهورهما مما يلي وجهه. رواه أبوداود.
2279- (35) وعن ابن عمر، أنه يقول: ((إن رفعكم أيديكم بدعة، ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا - يعني إلى الصدر -
واختلف عليه في سنده – انتهى. قلت: ذكر الحافظ هذا الاختلاف في تهذيب التهذيب في ترجمة حفص بن هاشم بن عتبة من شاء الوقوف عليه رجع إلى تهذيبه وحفص هذا قال الحافظ: مجهول. وقال الذهبي: لا يدري من هو – انتهى. ويؤيده حديث عمر المتقدم في الفصل الثاني.

(15/191)


2278- قوله: (المسألة) مصدر بمعنى السؤال والمضاف مقدر ليصح الحمل أي أدبها (أن ترفع يديك حذو منكبيك أو نحوهما) أي قريبا منهما (والاستغفار) أي أدبه (أن تشير بإصبع واحدة) وهي السبابة سبا للنفس الأمارة والشيطان والتعوذ منهما إلى الله تعالى وقيده بواحدة لأنه يكره الإشارة بالإصبعين قاله الطيبي: (والابتهال) أي التضرع والاجتهاد والمبالغة في الدعاء في دفع المكروه عن النفس أدبه (أن تمد يديك جميعا) أي حتى يرى بياض أبطيك (وفي رواية قال والابتهال هكذا) تعليم فعلى والمشار إليه قوله: (ورفع) أي ابن عباس (يديه وجعل ظهورهما مما يلي وجهه) أي رفع يديه رفعا كليا حتى ظهر بياض الإبطين جميعا وصارت كفاءة محاذيين لرأسه. قال الطيبي: ولعله أراد بالابتهال دفع ما يتصوره من مقابلة العذاب فيجعل يديه كالترس يستره من المكروه – انتهى. والفرق بين الروايتين، إن في الرواية الأولى بيان الابتهال بالقول، وفي الثانية بالفعل. (رواه أبوداود) في أواخر الصلاة وسكت عليه هو والمنذري ونسبه الحافظ في الفتح للحاكم أيضا وسكت عنه.

(15/192)


2279- قوله: (إن رفعكم أيديكم) أي مبالغتكم في الرفع في الدعاء (بدعة ما زاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي غالبا (على هذا يعني) أي يريد بالمشار إليه (إلى الصدر) قال الطيبي: يعني تفسير لما فعله ابن عمر من رفع اليدين إلى الصدر وأنكر عليهم غالب أحوالهم في الدعاء وعدم تمييزهم بين الحالات من الرفع إلى الصدر لأمر وفوقه إلى المنكبين لأمر آخر وفوقهما لغير ذلك – انتهى. وقال في اللمعات: قوله "إن رفعكم أيديكم" بدعة يعني رفعكم فوق صدوركم دائما أو في أكثر الأحوال من غير تمييز بين الأحوال المذكورة في الحديث السابق بدعة، لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان حاله صلى الله عليه وسلم مختلفا تارة، كما ذكر قوله على هذا قد رفعهما ابن عمر إلى الصدر فأراهم إياه بقوله وفعله، ولذلك فسر الراوي بقوله يعني إلى الصدر - انتهى. وقال ابن حجر:
رواه أحمد.
2280 – (36) وعن أبي بن كعب، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه)). رواه الترمذي.

(15/193)


استند ابن عمر في قوله ما زاد إلى علمه فهو ناف وغيره أثبت عنه صلى الله عليه وسلم الرفع إلى حذو المنكبين تارة وإلى أعلى من ذلك أخرى والحجة للمثبت. وقال الحافظ: وما نقل عن ابن عمر من إنكار رفع اليدين في الدعاء فإنما أنكر رفعهما إلى حذو المنكبين. وقال ليجعلهما حذو صدره كذلك أسنده الطبري عنه قال: وقد صح عن ابن عمر خلاف ذلك أخرجه البخاري في الأدب المفرد من طريق القاسم بن محمد رأيت ابن عمر يدعو عند القاص يرفع يديه حتى يحاذى بهما منكبيه. (رواه أحمد) قال الهيثمي: (ج10:ص168) فيه بشر بن حرب وهو ضعيف وفي الباب عن أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفة يدعو هكذا ورفع يديه وجعل يديه حيال ثندوته وجعل بطون كفيه مما يلى الأرض، وفي رواية جعل ظهر كفيه مما يلى وجهه ورفعهما فوق ثندوته وأسفل من منكبيه، رواه أحمد وفيه أيضا بشر بن حرب، وعن ابن عباس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بعرفة ويداه إلى صدره كاستطعام المسكين رواه الطبراني في الأوسط، وفيه الحسين بن عبدالله بن عبيدالله وهو ضعيف كذا في مجمع الزوائد (ج10:ص167).

(15/194)


2280 – قاله: (فدعا له) عطف على ذكر أي فأراد أن يدعو له (بدأ نفسه) جزاء إذا ذكر وفيه تعليم للأمة وأنه يندب للداعي أن يبدأ بنفسه ثم يثني بمن أراد الدعاء له، وقد عقد البخاري في صحيحه باب قول الله تعالى وصل عليهم، ومن خص أخاه بالدعاء دون نفسه، ثم ذكر فيه ثمانية أحاديث تدل على ذلك. قال الحافظ: في هذه الترجمة إشارة إلى رد ما جاء عن ابن عمر أخرجه ابن أبي شيبة والطبري من طريق سعيد بن يسار قال: ذكرت رجلا عند ابن عمر فترحمت عليه فلهز في صدري، وقال لي: إبدأ بنفسك. وعن إبراهيم النخعي: كان يقال إذا دعوت فابدأ بنفسك فإنك لا تدري في أي دعاء يستجاب لك، وأحاديث الباب ترد على ذلك قال: وأما ما أخرجه الترمذي من حديث أبي بن كعب رفعه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه وهو عند مسلم في أول قصة موسى والخضر، ولفظه: وكان إذا ذكر أحدا من الأنبياء بدأ بنفسه، قال: ويؤيد هذا القيد أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لغير نبي فلم يبدأ بنفسه كقوله في قصة هاجر يرحم الله أم إسماعيل لوتركت زمزم لكانت عينا معينا. وحديث أبي هريرة: اللهم أيده بروح القدس يريد حسان بن ثابت، وحديث ابن عباس: اللهم فقهه في الدين وغيره ذلك من الأمثلة مع أن الذي جاء في حديث أبي لم يطرد، فقد ثبت أنه دعا لبعض الأنبياء فلم يبدأ بنفسه كحديث أبي هريرة: يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد – انتهى كلام الحافظ. قلت: فظهر إن بدأه - صلى الله عليه وسلم - بنفسه عند ذكر أحد والدعاء له لم يكن من عادته المستمرة (رواه الترمذي) في الدعوات وأخرجه
وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح.

(15/195)


2281 – (37) وعن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه قال: ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطعية رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها. قالوا: إذا نكثر قال: الله أكثر)) رواه أحمد.
أيضا أحمد (ج5:ص121) وأبوداود في الحروف والنسائي، ونسبه في الجامع الصغير لابن حبان والحاكم أيضا وفي الباب عن أبي أيوب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دعا بدأ بنفسه رواه الطبراني. قال الهيثمي: إسناده حسن (وقال هذا حديث حسن غريب صحيح) وسكت عنه أبوداود والمنذري، وقد تقدم أن أصل الحديث عند مسلم.

(15/196)


2281 – قوله: (ليس فيها إثم) أي معصية (ولا قطعية رحم) تخصيص بعد تعميم والقطيعة الهجران والصد أي ترك البر إلى الأهل والأقارب (إلا أعطاه الله بها) أي بتلك الدعوة (إحدى ثلاث) أي من الخصال (إما أن يعجل له دعوته) أي بخصوصها أو من جنسها في الدنيا في وقت إرادة إن قدر وقوعها في الدنيا يعني يعجل له دعوته في الدنيا في أحوج أوقاته وأوفقها لا على أوقات تمنيه (وإما أن يدخرها) أي تلك المطلوبة أو مثلها أو أحسن منها أو ثوابها وبدلهها يعني يجعلها ذخيرة بأن يعطيه جزيل ثوابها (له) أي للداعي (في الآخرة) إن لم يقدر وقوعها في الدنيا (وإما أن يصرف) أي يدفع (من السوء) أي البلاء النازل أو غيره في أمر دينه أو دنياه أو بدنه (مثلها) أي مثل تلك الدعوة كمية وكيفية إن لم يقدر له وقوعها في الدنيا. والحاصل إن ما لم يقدر له فيها أحد الأمرين إما الثواب المدخر وإما دفع قدرها من السوء (قالوا) أي بعض الصحابة (إذا) أي إذا كان الدعاء لا يرد منه شيء ولا يخيب الداعي في شيء منه (نكثر) أي من الدعاء لعظيم فوائده (قال) النبي صلى الله عليه وسلم (الله أكثر) قال الطيبي: أي الله أكثر إجابة من دعاءكم. وقيل: إن معناه فضل الله أكثر أي ما يعطيه من فضله وسعة كرمه أكثر مما يعطيكم في مقابلة دعاءكم. وقيل: الله أغلب في الكثرة يعني فلا تعجزونه في الاستكثار فإن خزائنه لا تنفد وعطاياه لا تفنى. وقيل الله أكثر ثوابا وعطاء مما في نفوسكم فأكثروا ما شئتم فإنه تعالى يقابل أدعيتكم بما هو أكثر منها وأجل (رواه أحمد) (ج3ص18) وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد والطحاوي في مشكل الآثار وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10ص148) وعزاه لأحمد ثم قال: ورواه أبويعلى بنحوه والبزار والطبراني في الأوسط ورجال أحمد وأبي يعلى وأحد إسنادي البزار رجاله

(15/197)


2282- (38) وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((خمس دعوات يستجاب لهن: دعوة المظلوم حتى ينتصر، ودعوة الحاج حتى يصدر، ودعوة المجاهد حتى يفقد، ودعوة المريض حتى يبرأ، ودعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب، ثم قال: وأسرع هذه الدعوات إجابة دعوة الأخ بظهر الغيب)). رواه البيهقي في الدعوات الكبير.
رجال الصحيح غير علي بن علي الرفاعي وهو ثقة – انتهى. وقال المنذري رواه أحمد وأبويعلى والبزار بأسانيد جيدة، والحاكم (ج1ص493) وقال صحيح الإسناد. قلت: ووافقه الذهبي ونسبه في الكنز (ج1ص179) لابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبيهقي في الشعب أيضا، وفي الباب عن جابر. وقد تقدم في الفصل الثاني وعن عبادة بن الصامت وأبي هريرة وقد سبق تخريجهما هناك.

(15/198)


2282- قوله: (خمس دعوات يستجاب لهن) مبتدأ وخبره (دعوة المظلوم) وإن كان كافرا أو فاجرا (حتى ينتصر) أي إلى أن ينتقم من الظالم بلسانه أو يده. قال القاري: لأنه إن انتقم بمثل حقه شرعا فقد استوفى أو انقص فواضح أولا بمثله شرعا أو بأزيد صار ظالما. قال الطيبي: حتى في القرائن الأربع بمعنى إلى كقولك سرت حتى تغيب الشمس لأن ما بعدها غير داخل فيما قبلها (ودعوة الحاج) حجا مبرورا (حتى يصدر) بضم الدال أي إلى أن يرجع إلى بلده وأهله. وقيل: أي يرجع من الحج ويدخل بيته (ودعوة المجاهد) وفي الجامع الصغير والكنز (ج1ص174) الغازي بدل المجاهد، أي الغازي في سبيل الله لإعلاء كلمة الله (حتى يفقد) بسكون الفاء وكسر القاف من الفقدان، من باب ضرب أي إلى أن يفرغ من الجهاد ويفقد أسبابه. قال الطيبي: أي يفقد ما يستتب له من مجاهدته أي حتى يفرغ منها – انتهى. واستتب له الأمر أي تهيأ واستقام على ما في الصحاح وفي بعض النسخ حتى يقعد بسكون القاف وضم العين من القعود أي عن الجهاد وفي بعضها يقفل بسكون القاف وضم الفاء من القفول بمعنى يرجع أي إلى وطنه ومنه القافلة تفاؤلا. قلت: والظاهر هي النسخة الأخيرة، ويؤيدها إنه هكذا نقلها السيوطي في الجامع الصغير وعلى المتقي في الكنز عن الشعب للبيهقي (ودعوة المريض حتى يبرأ) من علته أو يتعافى أو يموت (ودعوة الأخ لأخيه) في الدين (بظهر الغيب) أي بحيث لا يشعر وإن كان حاضرا في المجلس (وأسرع هذه الدعوات إجابة دعوة الأخ) لأخيه (بظهر الغيب) لدلالتها على خلوص النية وصفاء الطوية والبقية لا تخلو دعوتهم عن حظوظهم النفسية وأغراضهم الطبيعية، ولذا ورد الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم كذا في المرقاة (رواه البيهقي في الدعوات الكبير) وكذا في شعب الإيمان كما في الجامع الصغير والكنز والله أعلم بحال إسناده.
(1) باب ذكر الله عزوجل والتقرب إليه

(15/199)


(باب ذكر الله عزوجل) أي فضل ذكر الله (والتقرب إليه) أي التقرب بذكر الله إلى الله والمراد بالذكر هنا الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها والإكثار منها، مثل الباقيات الصالحات وهي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وما يلتحق بها من الحوقلة والبسملة والحسبلة والاستغفار ونحو ذلك والدعاء بخير الدنيا والآخرة. ويطلق ذكر الله أيضا ويراد به المواظبة على العمل بما أوجبه أو ندب إليه كتلاوة القرآن وقراءة الحديث ومدارسة العلم والتنفل بالصلاة. ثم الذكر يقع تارة باللسان ويوجر عليه الناطق ولا يشترط استحضاره لمعناه، ولكن يشترط أن لا يقصد به غير معناه وإن إنضاف إلى النطق الذكر بالقلب فهو أكمل فإن إنضاف إلى ذلك استحضار معنى الذكر وما اشتمل عليه من تعظيم الله تعالى ونفي النقائص عنه ازداد كمالا، فإن وقع ذلك في عمل صالح مهما فرض من صلاة أو جهاد أو غيرهما ازداد كمالا، فإن صحح التوجه وأخلص لله تعالى في ذلك فهو أبلغ الكمال قاله الحافظ. وقال الفخر الرازي: المراد بذكر اللسان الألفاظ الدالة على التسبيح والتحميد والتمجيد والذكر بالقلب التفكر في أدلة الذات والصفات وفي أدلة التكاليف من الأمر والنهي حتى يطلع على أحكامها وفي أسرار مخلوقات الله، والذكر بالجوارح هو أن تصير مستغرقة في الطاعات ومن سمي الله تعالى الصلاة ذكرا فقال: ?فاسعوا إلى ذكر الله? [الجمعة: 9] ونقل عن بعض العارفين. قال: الذكر على سبعة إنحاء فذكر العينين بالبكاء، وذكر الأذنين بالإصغاء، وذكر اللسان بالثناء، وذكر اليدين بالعطاء، وذكر البدن بالوفاء وذكر القلوب بالخوف والرجاء وذكر الروح بالتسليم والرضا. وقال القاضي عياض: ذكر القلب نوعان: أحدهما، وهو أرفع الأذكار وأجلها الفكر في عظمة الله وجلاله وجبروته وملكوته وآياته في سماواته وأرضه، ومنه حديث خير الذكر الخفي (أخرجه أحمد وأبويعلى من حديث سعد بن أبي وقاص ذكره الهيثمي

(15/200)


(ج10ص81) مع الكلام عليه) والمراد به هذا، والثاني ذكره بالقلب عند الأمر والنهي فيمتثل ما أمر به ويترك ما نهى عنه، ويقف عما أشكل عليه. وأما ذكر اللسان مجردا فهو أضعف الأذكار ولكن فيه فضل عظيم كما جاءت به الأحاديث، قال وذكر ابن جرير الطبري وغيره اختلاف السلف في ذكر القلب واللسان أيهما أفضل. قال القاضي: والخلاف عندي إنما يتصور في مجرد ذكر القلب تسبيحا وتهليلا وشبههما، وعليه يدل كلامهم لا أنهم مختلفون في الذكر الخفي الذي ذكرناه أولا فذلك لا يقاربه ذكر اللسان فكيف يفاضله، وإنما الخلاف في ذكر القلب بالتسبيح المجرد ونحوه. والمراد بذكر اللسان مع حضور القلب فإن كان لاهيا فلا خلاف في فضل الذكر بالقلب حينئذ، واحتج من رجح ذكر القلب وحده بأن عمل السر أفضل. ومن رجح ذكر اللسان أي
?الفصل الأول?
2283- 2284- (1- 2) عن أبي هريرة، وأبي سعيد، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة،

(15/201)


مع حضور القلب قال: لأن العمل فيه أكثر لأنه زاد باستعمال اللسان فاقتضى زيادة أجر. قال النووي والصحيح أن ذكر اللسان مع حضور القلب أفضل من القلب وحده. وقال ابن القيم في الوابل الصيب. الذكر يكون بالقلب واللسان تارة وذلك أفضل الذكر وبالقلب وحده تارة، وهي الدرجة الثانية، وباللسان وحده تارة وهي الدرجة الثالثة، فأفضل الذكر ما تواطأ عليه القلب واللسان. وإنما كان ذكر القلب وحده أفضل من ذكر اللسان وحده لأن ذكر القلب يثمر المعرفة ويهيج المحبة ويثير الحياء ويبعث على المخافة ويدعوا إلى المراقبة ويزع عن التقصير في الطاعات والتهاون في المعاصي والسيئات وذكر اللسان وحده لا يوجب شيئا من هذه الآثار وإن أثمر شيئا منها فثمرة ضعيفة – انتهى. قال النووي في الأذكار: فضيلة الذكر غير منحصرة في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحوها، بل كل عامل لله تعالى بطاعة فهو ذاكر لله تعالى كذا قاله سعيد بن جبير وغيره من العلماء. وقال عطاء: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام كيف تشتري وتبيع وتصلي وتصوم وتنكح وتطلق وتحج وأشباه هذا. وقال ابن حجر: مجالس الذكر مجالس سائر الطاعات، ومن قال: هي مجالس الحلال والحرام أراد التنصيص على أخص أنواعه. وقال النووي: أيضا الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها واجبة كانت أو مستحبة لا يحسب شيء منها ولا يعتد به حتى يتلفظ به بحيث يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع لا عارض له. قال القاري: ومقصودة الحكم الفقهي وهو أنه إذا قرأ في باطنه حال القراءة أو سبح بلسان قلبه حال الركوع والسجود لا يكون آتيا بفرض القراءة وسنة التسبيح لا أن الذكر القلبي لا يترتب عليه الثواب الأخروي هذا، وقد ورد الذكر القرآن على عشرة أوجه يدل كل واحد منها على أهميته وغاية عظمته، وقد سردها ابن القيم في مدارج السالكين وقال في الوابل الصيب بعد سرد، الأحاديث في فضل الذكر: وفي الذكر أكثر من مائة فائدة، ثم ذكر منها تسعا

(15/202)


وسبعين فائدة مع البسط من أحب الوقوف على ذلك رجع إلى هذين الكتابين.
2283- 2284- قوله: (لا يقعد قوم يذكرون الله) قال ابن حجر: التعبير بالقعود للغالب كما هو ظاهر لأن المقصود حبس النفس على ذكر الله مع الدخول في عداد الذاكرين لتعود عليه بركة أنفاسهم ولحظ إيناسهم - انتهى. وقيل: فيه إشارة إلى أن القعود أحسن هيئات الذكر لدلالته على جميعه الحواس الظاهرة والباطنة. وقيل: هو كناية عن الاستمرار ومداومة الأذكار (إلا حفتهم) بتشديد الفاء أي أحاطت بهم (الملائكة) أي
وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة،

(15/203)


الذين يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر (وغشيتهم) بكسر الشين أي غطتهم (الرحمة) الخاصة بالذاكرين. قال السندي: أي غطتهم الرحمة من كل جانب إذ الغشيان يستعمل فيما يشمل المغشي من جميع جوانبه. وقال الشوكاني: "قوله حفتهم الملائكة" أي أحدقت بهم واستدارت عليهم، ومعنى غشتهم الرحمة سترتهم من التغشي بالثواب. (ونزلت عليهم السكينة) أي الطمأنينة والوقار لقوله تعالى: ?ألا بذكر الله تطمئن القلوب? [الرعد: 28] ومنه قوله تعالى: ?هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم? [الفتح:4] وقيل: المراد بالسكينة الرحمة ويرد ذلك عطفها على قوله غشيتهم الرحمة. وقيل: أنها الملائكة وقيل: هي ما يحصل به السكون وقوة القلب وذهاب الظلمة النفسانية. وقال ابن القيم في مدارج السالكين: وقد ذكر الله تعالى السكينة في كتابه في ستة مواضع الأول قوله تعالى: ?وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم? [البقرة: 248] الثاني قوله تعالى: ?ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين? [التوبة:26] الثالث قوله تعالى: ?إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها? [التوبة: 40] الرابع ?هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السموات والأرض وكان الله عليما حكيما? [الفتح: 4] الخامس قوله تعالى: ?لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا? [الفتح: 18] السادس قوله تعالى: ?إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين? الآية [الفتح: 26] وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا اشتدت عليه الأمور قرأ آيات السكينة وقد جربت أنا أيضا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب فرأيت لها تأثيرا عظيما في سكونه وطمأنينته. وأصل

(15/204)


السكينة هي الطمأنينة والوقار والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده عند اضطرابه من شدة المخاوف فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه ويوجب له زيادة الإيمان وقوة اليقين والثبات ولهذا أخبر سبحانه وتعالى عن إنزالها على رسوله وعلى المؤمنين في مواضع القلق والاضطراب كيوم الهجرة إذ هو وصاحبه في الغار والعدو فوق رؤسهما لو نظر أحدهم إلى ما تحت قدميه لرآهما وكيوم حنين إذ ولو مدبرين من شدة بأس الكفار لا يلوي أحد منهم على أحد وكيوم الحديبية حين اضطربت قلوبهم من تحكم الكفار ودخولهم تحت شروطهم التي تحملها النفوس وحسبك بضعف عمر عن حملها وهو عمر حتى ثبته الله بالصديق. قال ابن عباس: كل سكينة في القرآن فهي طمأنينة إلا التي في سورة البقرة. ثم بين ابن القيم الفرق بين السكينة والطمأنينة فقال الفرق بينهما إن السكينة صولة تورث خمود الهيبة الحاصلة في القلب وذلك في بعض الأوقات فليس حكما دائما مستمرا، وهذا يكون لأهل الطمأنينة دائما ويصحبه الأمن والإنس والاستراحة.
وذكرهم الله فيمن عنده)). رواه مسلم.
2285- (3) وعن أبي هريرة، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسير في طريق مكة، فمر على جبل يقال له: جمدان، فقال: سيروا، هذا جمدان، سبق المفردون.

(15/205)


والفرق الثاني إن السكينة تكون نعتا لا تزول وقد تكون حينا بعد حين. وأما الطمأنينة فهي لا تفارق صاحبها، والفرق الثالث إن السكينة بمنزلة من واجهه عدو يريد هلاكه فهرب منه عدوه فسكن روحه، والطمأنينة بمنزلة حصن رآه مفتوحا فدخله وأمن فيه وتقوى بصاحبه وعدته – انتهى. (وذكرهم الله) أي مباهاة وافتخارا بهم بما يعظم به شأنهم ويرتفع به مكانهم من الثناء الجميل عليهم ووعد الجزاء الجزيل لهم (فيمن عنده) أي من الملائكة المقربين الذين كانوا يدعون لأنفسهم التسبيح والتقديس ولبني آدم الفساد وسفك الدماء ووجه المفاخرة بهم أنهم مع موانعهم من النفس والشيطان وسائر العلائق والعوائق لا يغفلون عن ذكره ويقومون بوظيفة شكره. وفي الحديث ترغيب عظيم للاجتماع على الذكر، فإن هذه الأربع الخصائص في كل واحدة منها على انفرادها ما يثير رغبة الراغبين ويقوى عزم الصالحين على ذكر رب العالمين. ووقع في حديث أبي هريرة عند مسلم من وجه آخر ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة الخ. قال النووي: في هذا دليل لفضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد وهو مذهبنا ومذهب الجمهور. وقال مالك: يكره. وتأوله بعض أصحابه ويلتحق بالمسجد في تحصيل هذه الفضيلة الاجتماع في مدرسة ورباط ونحوهما إنشاء الله ويدل عليه الحديث الذي بعده يعني الذي نحن في شرحه، فإنه مطلق يتناول جميع المواضع ويكون التقييد في هذا الحديث خرج على الغالب لا سيما في ذلك الزمان فلا يكون له مفهوم يعمل به – انتهى. (رواه مسلم) في الدعوات وكذا الترمذي وابن ماجه ونسبه الشوكاني في تحفة الذاكرين لأحمد وأبي داود الطيالسي وعبد بن حميد وأبي يعلى وابن حبان وابن أبي شيبة وابن شاهين في الترغيب في الذكر أيضا.

(15/206)


2285- قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة) يحتمل أن يكون ذاهبا إلى مكة أو راجعا إلى المدينة (فمر على جبل يقال له جمدان) بضم الجيم وسكون الميم وفي آخره نون جبل على ليلة من المدينة (فقال سيروا) أي سيرا حسنا مقرونا بذكر وحضور وشكر وسرور (هذا جمدان) ومع جماديته يشعر بذكر الرحمن ويستبشر بمن مر عليه من أرباب العرفان، كما ورد أن الجبل ينادي الجبل باسمه أي فلان هل مربك أحد ذكر الله فإذا قال نعم استبشر، رواه الطبراني عن ابن مسعود من قوله. قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح (سبق المفردون) قال الجزري: هو بضم الميم وفتح الفاء وكسر الراء مشددة كذا روينا وضبطنا
قالوا: وما المفردون؟ يا رسول الله! قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات)). رواه مسلم.

(15/207)


عن شيوخنا. وقال النووي في شرح مسلم: بفتح الفاء وكسر الراء المشددة هكذا نقله القاضي عن متقنى شيوخهم وذكر غيره أنه روى بتخفيفها وإسكان الفاء. وقال في الأذكار: روي المفردون بتشديد الراء وتخفيفها والمشهور الذي قاله الجمهور التشديد، يقال فرد الرجل في رأيه وأفرد وفرد واستفرد كله بمعنى أي استقل به وتخلى بتدبيره. والمراد به الذين تفردوا بذكر الله تعالى وانفردوا واعتزلوا عن الناس للتعبد. وقيل: هم الذين هلك أترابهم من الناس وذهب القرن الذين كانوا فيه وانفردوا عنهم وبقوا بعدهم يذكرون الله تعالى، وقال ابن الإعرابي: يقال فرد الرجل إذ اتفقه واعتزل الناس وخلا بمراعاة الأمر والنهي (قالوا) أي بعض الصحابة (وما المفردون) أي من هم "فما" بمعنى من كما في قوله تعالى: ?والسماء وما بناها? [الشمس: 5] والواو رابطة بين السؤال والجواب. وقيل: الواو للعطف على محذوف كأنهم قالوا: لا نعلم المفردين ونقول ما المفردون. وقيل: الواو زائدة للتحسين، قال التوربشتي: فإن قيل لم قالوا ما المفردون؟ ولم يقولوا من المفردون؟ قلنا: لأنهم فتشوا عن معرفة معنى هذا اللفظ عند الإطلاق ما هو المراد منه لا تعيين المتصفين به وتعريف أشخاصهم يعني أن السؤال عن الصفة أي التفريد أو الإفراد فأجاب صلى الله عليه وسلم بأن التفريد الحقيقي المتعبد هو تفريد النفس بذكر الله تعالى. وقيل: الأظهر إن "ما" ههنا تغليب غير ذوي العقول لكثرتهم على ذوي العقول لقلتهم لما حرر في محله أن الأشياء كلها له حظ من الذكر والتسبيح ومعرفة الرب والخشية منه (الذاكرون الله كثيرا) أي ذكرا كثيرا. واختلف في تفسير الكثرة. فقال ابن عباس: كثرة الذكر يحصل بالذكر في أدبار الصلاة والغدو والعشي وفي المضاجع وكلما استيقظ من نومه وكلما غدا أو راح من منزله. وقال مجاهد: يحصل بذكره قياما وقعودا واضطجاعا. وقال عطاء: بإقامة الصلوات الخمس مع حقوقها، وسأل ابن

(15/208)


الصلاح عن ذلك فقال: بالمواظبة على الأذكار المأثورة المثبتة صباحا ومساءا في الأوقات والأحوال المختلفة ليلا ونهارا وهي مبينة في كتاب عمل اليوم والليلة وهذه الأقوال ذكرها النووي في الأذكار (والذاكرات) قال النووي: تقديره والذاكراته فحذفت الهاء هنا كما حذفت في القرآن لمناسبة رؤس الآي، ولأنه مفعول يجوز حذفه (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي والحاكم (ج1ص495) ولفظ الترمذي في الجواب. قال المستهترون في ذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون يوم القيامة خفافا، والمستهترون بضم الميم وفتح التاءين. قال في جامع الأصول: المستهتر بالشي المولع به المواظب عليه عن حب ورغبة فيه. وقال في النهاية: يقال أهتر فلان بكذا واستهتر فهو مهتر به ومستهتر أي مولع به لا يتحدث بغيره ولا يفعل غيره – انتهى. وقال المنذري: المستهترون بذكر الله هم المولعون به المداومون عليه لا يبالون ما قيل فيهم ولا ما فعل بهم. وقال ابن القيم في
2286- (4) وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر، مثل الحي والميت)). متفق عليه.

(15/209)


الوابل الصيب: اهتر بالشي يرفعه وفيه أولع به ولزمه وجعله دأبه وكذا استهتر فيه وبه أي الذين أولعوا بذكر الله وفيه تفسير آخر إن اهتروا في ذكر الله أي كبروا وهلك أقرانهم وهم في ذكر الله يقال اهتر الرجل فهو مهتر إذا سقط في كلامه من الكبر. والهتر السقط من الكلام كأنه بقي في ذكر الله حتى خرف وأنكر عقله والهتر الباطل أيضا ورجل مستهتر إذا كان كثير الأباطيل، وحقيقة اللفظ إن الاستهتار الاستكثار من الشيء والولوع به حقا كان أو باطلا، وغلب استعماله على المبطل حتى إذا قيل فلان مستهتر لا يفهم منه إلا الباطل. وإنما إذا قيد بشي تقيد به نحو هو مستهتر، وقد اهتر في ذكر الله أي أولع به وأغرى به. ويقال استهتر فيه وبه - انتهى. والحديث رواه الطبراني في الكبير عن أبي الدرداء وفيه ضعف.

(15/210)


2286- قوله: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر) زاد أبوذر بعد هذه ربه (مثل الحي والميت) بفتح الميم والمثلثة في مثل في الموضعين. وهو لف ونشر مرتب شبه الذاكر بالحي الذي ظاهره متزين بنور الحياة وإشراقها فيه، وبالتصرف التام فيما يريده وباطنه بنور العلم والفهم والإدراك كذلك الذاكر مزين ظاهره بنور العلم والطاعة، وباطنه بنور العلم والمعرفة فقلبه مستقر في حظيرة القدس، وسره في مخدع الوصل. وغير الذاكر عاطل ظاهره وباطل باطنه. وقيل: موقع التشبيه بالحي والميت لما في الحي من النفع لمن يواليه والضرر لمن يعاديه وليس ذلك في الميت، وفي هذا التمثيل منقبة للذاكر جليلة وفضيلة له نبيلة وإنه بما يقع منه من ذكر الله عزوجل في حياة ذاتية وروحية لما يغشاه من الأنوار ويصل إليه من الأجور كما أن التارك للذكر، وإن كان في حياة ذاتية فليس لها اعتبار بل هو شبيه بالأموات الذين لا يفيض عليهم بشي مما يفيض على الإحياء المشغولين بطاعة الله عزوجل ومثل ما في هذا الحديث قوله تعالى ?أو من كان ميتا فأحييناه? [الأنعام: 123] والمعنى تشبيه الكافر بالميت وتشبيه الهداية إلى الإسلام بالحياة (متفق عليه) واللفظ للبخاري أخرجه في كتاب الدعوات ورواه مسلم في كتاب الصلاة (في باب استحباب صلاة النافلة في بيته) بلفظ: مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت، وكذا أخرجه الإسماعيلي وابن حبان في صحيحه وأبوعوانة فلعل البخاري رواه بالمعنى، فإن الذي يوصف بالحياة والموت حقيقة هو الساكن لا المسكن وإن إطلاق الحي والميت في وصف البيت إنما يراد به ساكن البيت فهو من باب ذكر المحل وإرادة الحال. وقيل: معنى قوله "مثل الحي والميت، وفي رواية مسلم أي مثل قلبهما أو مثل مكانهما ولذا ورد لا تجعلوا بيوتكم قبورا أي خالية عن الذكر.

(15/211)


2287- (5) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي،
2287- قوله: (أنا عند ظن عبدي) المؤمن (بي) قال الطيبي: أخذا عن التوربشتي الظن لما كان واسطة بين الشك واليقين استعمل تارة بمعنى اليقين، وذلك إن ظهرت إماراته وتارة بمعنى الشك إذا ضعفت علاماته، وعلى المعنى الأول قوله تعالى: ?الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم? [البقرة:46] أي يوقنون على ربهم المعنى الثاني قوله تعالى: ?وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون? [القصص: 39] أي توهموا، والظن في الحديث يجوز إجراءه على ظاهره، ويكون المعنى أنا أعامله على حسب ظنه بي وأفعل به ما يتوقعه مني من خير أو شر. والمراد الحث على تغليب الرجاء على الخوف وحسن الظن بالله كقوله عليه الصلاة والسلام (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله، ويجوز أن يراد بالظن اليقين والمعنى أنا عند يقينه بي وعلمه بأن مصيره إلي وحسابه علي وإن ما قضيت به له أو عليه من خير أو شر لا مرد له لا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت – انتهى. وقال القرطبي في المفهم: قيل معنى ظن عبدي بي ظن الإجابة عند الدعاء وظن القبول عند التوبة وظن المغفرة عند الاستغفار وظن المجازاة عند فعل العبادة بشروطها تمسكا بصادق وعده قال، ويؤيده في الحديث الآخر ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة قال ولذلك ينبغي للمرأ أن يجتهد في القيام بما عليه موقنا بأن الله يقبله ويغفر له لأنه وعد بذلك وهو لا يخلف الميعاد، فإن اعتقد أو ظن إن الله لا يقبلها وإنها لا تنفعه فهذا هو اليأس من رحمة الله وهو من الكبائر، ومن مات على ذلك وكل إلى ما ظن كما في بعض طرق الحديث المذكور فليظن بي عبدي ما شاء. قال وأما ظن المغفرة مع الإصرار على المعصية فذلك محض الجهل والعزة وهو يجر إلى مذهب المرجئة – انتهى. قلت: تغليب الرجاء وترجيحه على الخوف قيده بعض أهل التحقيق بالمحتضر. قال الحافظ: ويؤيد ذلك حديث لا

(15/212)


يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله وهو عند مسلم من حديث جابر، وأما قبل ذلك فأقول ثالثها الاعتدال. وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين في شرح هذا الحديث: فعلى العبد أن يكون حسن الظن بربه في جميع حالاته ويستعين على تحصيل ذلك باستحضار ما ورد من الأدلة الدالة على سعة رحمة الله سبحانه وتعالى في الكتاب والسنة. وقال ابن عباد: حسن الظن يطلب من العبد في أمر دنياه وفي أمر آخرته. أما أمر دنياه فأن يكون واثقا بالله تعالى في إيصال المنافع والمرافق إليه من غير كد أو بسعي خفيف مأذون فيه ومأجور عليه، وبحيث لا يفوته ذلك شيئا من فرض ولا نفل فيوجب له ذلك سكونا وراحة في قلبه وبدنه فلا يستفزه طلب ولا يزعجه سبب. وأما أمر آخرته فإن يكون قوى الرجاء في قبول أعماله الصالحة وتوفية أجوره عليها في دار الجزء فيوجب له ذلك المبادرة لإمثتال الأمر والتكثير من أعمال البر يوجد أن حلاوة ونشاط ومن مواطن حسن الظن بالله تعالى التي لا ينبغي
وأنا معه

(15/213)


للعبد أن يفارقه فيها أوقات الشدائد والمحن، وحلول المصائب في الأهل والمال والبدن لئلا يقع بعدم ذلك في الجزع والسخط. وقيل: الظن تغليب أحد المجوزين بسبب يقتضي التغليب فلو خلا عن السبب المغلب لم يكن ظنا بل عرة وتمنيا، والمعنى المشهور أنا له كما يظن بي فإن ظن إني أصنع به خيرا صنعت به خيرا، وإن ظن إني أصنع به شرا صنعت به شرا. ويشكل على هذا نصوص كثيرة كقوله تعالى: ?يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا? [الأعراف: 169] وقوله تعالى: ?وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون? [الزمر: 47] وفي الحديث "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من اتبع نفسه هواه وتمنى على الله الأماني" وقد ورد في الأمن من مكر الله وقد جاءت نصوص كثيرة في مدح الخشية من الله عزوجل والخوف منه، وجاء عن أكابر الصحابة وخيار التابعين آثار كثيرة في شدة خوفهم، فمنهم من تمنى إن أمه لم تلده وإن كان شجرة تعضد، والقاعدة في هذا إن المحمود أن يكون العبد بين الخوف والرجاء ولا يبلغ به الخوف أن ييأس من رحمة الله عزوجل ولا يبلغ به الرجاء أن يأمن من مكره، وعلامة ذلك أن يكون دائبا في عمل الخير واجتناب الشر فإن من أيس من رحمة الله فلا يبعد أن يدع ذلك قائلا أنا معذب في الآخرة لا محالة لكثرة ذنوبي فلماذا امنع نفسي هواها فأعذبها في الدنيا بترك شهواتها؟ ومن أمن مكر الله تعالى قال إنه ناج لا محالة فلا يضره أن يتبع نفسه هواها ولم يخلق الله شيئا إلا للبشر ويقرأ ?قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق? [الأعراف: 32] وينسى إن قليلة يدعوا إلى كثيرة والاسترسال إلى الحلال الكثير يعسر عليه الاجتناب من الحرام فيغلب فيجترىء على ما لم يكن له أن يجترىء عليه ويقول إنا مؤمن وكل مؤمن حبيب الله ومن شأن المحبوب أن لا يمنع محبة ما تهواه نفسه ولا يكلفه ما يشق عليه وأشباه ذلك. وقد أجيب بأن الحديث خاص بحال لاحتضار فالمؤمن

(15/214)


المحسن يبدو له من مبشرات تضطره إلى ظن الخير، وإن كان قبل ذلك من أشد الخائفين وغيره يبدو له من المنذرات ما يضطره إلى ظن سوء مصيره، وإن كان قبل ذلك آمنا من مكر الله وهذا كما حمل حديث إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه، وفيه إن لفظ الحديث عام فالتخصيص بلا دليل لا يجوز، وقد يقال أن المراد بالعبد المؤمن الصالح كما تشعر الإضافة في قوله عبدي فهو الذي يكون الله عزوجل عند ظنه به إذ لا يظن به إلا الخير والحق وهو أهل أن لا يخيب رجاءه كما جاء في من لو أقسم على الله لأبره والله اعلم كذا في شرح الأدب المفرد (وأنا معه) أي عونا ونصرا وتائيدا وتوفيقا وتحصيلا لمرامه وهو كقوله تعالى: ?إنني معكما أسمع وأرى? [طه: 46] وهي معية خصوصية أي معه بالرحمة والتوفيق والهداية والرعاية والإعانة فهي أخص من المعية التي في قوله تعالى: ?وهو معكم أينما كنتم? [الحديد: 4] وقوله ?ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم? [المجادلة: 7] فإن معناها المعية بالعلم والإحاطة. قال الشوكاني: هذه معية عامة وتلك معية خاصة حاصلة
إذا ذكرني. فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ. ذكرته

(15/215)


للذاكر على الخصوص بعد دخوله مع أهل المعية العامة، وذلك يقتضي مزيد العناية ووفور الإكرام له والتفضل عليه ومن هذه المعية الخاصة ما ورد في الكتاب العزيز من كونه مع الصابرين وكونه مع الذين اتقوا فلا منافاة بين إثبات المعية الخاصة وإثبات المعية العامة (إذا ذكرني) بلسانه أو قلبه أو بهما (فإن ذكرني) تفريع يفيد أنه تعالى مع الذاكر سواء ذكره في نفسه أو مع غيره (في نفسه) أي سرا وخفية وهو يحتمل أن يكون ذكرا قلبيا أو لسانيا إخفائيا، أي ذكرا شفاهيا على جهة السر دون الجهر، قال الشوكاني: ويدل على هذا الاحتمال الثاني قوله وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه فإنه يدل على أن العبد قد جهر بذكره سبحانه وتعالى بين ذلك الملأ الذي هو فيهم فيقابله الأسرار بالذكر باللسان لا مجرد الذكر القلبي فإنه لا يقابل الذكر الجهري بل يقابل مطلق الذكر اللساني أعم من يكون سرا أو جهرا (ذكرته في نفسي) أي في ذاتي من غير إطلاع أحد من مخلوقاتي أو المراد في غيبي أي إذا ذكرني خاليا أثبته وجازيته عما عمل بما لا يطلع عليه أحد وفيه جواز إطلاق النفس على الله تعالى باعتبار معنى الذات خلافا لمن منع وحمله على المشاكلة كما في قوله تعالى: ?تعلم ما في نفسي ولا اعلم ما في نفسك? [المائدة: 116] لكن يرد عليه قوله تعالى: ?ويحذركم الله نفسه? [آل عمران: 28] وقوله صلى الله عليه وسلم (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك). قال الحافظ: أي إن ذكرني بالتنزيه والتقديس سرا ذكرته بالثواب والرحمة سرا. وقال التوربشتي: الذكر من الله تعالى هو حسن قبوله والمجازاة له بالحسنى، فالمراد من قوله هذا إن العبد إذا ذكره في السر آتاه الله ثواب ذلك سرا على منوال عمله أي ويتولى بنفسه إثابته لا يكله إلى غيره. فإن قيل قد عرفنا فائدة الذكر الخفي من العبد وذلك أنه يكون من الآفات الداخلة على الأعمال بمعزل، ومن الإخلاص بمكان فما فائدة ذكر الله

(15/216)


تعالى عبده في الغيب؟ قلنا الاصطفاء والاستئثار فإن الله تعالى إنما يدع علم الشيء بمكان من الغيب استئثارا به واصطفاء له وفيه أيضا صيانة سر العبد عن إطلاع الملأ الأعلى عليه وتوقي عمله عن إحاطة علم الخلق بكنه ثوابه، وفيه أيضا تنبيه على كون العبد من الله بمكان تكنه الغيرة عن الأغيار (وإن ذكرني في ملأ) بفتح الميم واللام مهموز أي مع جماعة من المؤمنين أو في حضرتهم. قال الجزري: الملأ أشراف الناس ورؤساؤهم ومقدموهم الذين يرجع إلى أقوالهم. وفيه دليل على جواز الذكر بالجهر. واختلفوا في ذلك فمنهم من منعه مطلقا، ومنهم من جوزه مطلقا، ومنهم من فصل كصاحب الفتاوى الخيرية، فقال إن كان الجهر مفرطا منع عنه وإلا جاز، نعم السر أفضل من الجهر لكنه أمر آخر وهذا هو المعتمد عند محققي الحنفية (ذكرته) قال الشوكاني: معناه إن الله يجعل ثواب ذلك الذكر بمرأى ومسمع من ملائكته أو يذكره عندهم بما يعظم به شأنه ويرتفع به مكانه ولا مانع من أن يجمع بين الأمرين. وقيل: المراد منه مجازاة العبد بأحسن مما …
في ملأ خير منهم)). متفق عليه.
2288- (6) وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: ?من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها?

(15/217)


جاء به وأفضل مما يقرب به إلى ربه (في ملأ خير منهم) أي من ملأ الذاكرين وهم الملأ الأعلى ولا يلزم منه تفضيل الملائكة على بني آدم كما ذهب إليه المعتزلة لاحتمال أن يكون المراد بالملأ الذين هم خير من ملأ الذاكرين الأنبياء والشهداء فلم ينحصر ذلك في الملائكة وأيضا فإن الخيرية إنما حصلت بالذاكر والملأ معا فالجانب الذي فيه رب العزة خير من الجانب الذي ليس هو فيه بلا ارتياب فالخيرية حصلت بالنسبة للمجوع على المجموع، وهذا قاله الحافظ مبتكرا لكن قال إنه سبقه إلى معناه الكمال بن الزملكاني في الجزء الذي جمعه في الرفيق الأعلى. وقال الطيبي: الملأ الموصوف بأنه خير منهم هم الملائكة المقربون وأرواح المرسلين فلا دلالة على كون الملائكة أفضل من البشر. قال في اللمعات: والأحسن أن يقال الخيرية من جهة النزاهة والتقدس والعلو، وهي لا تنافي أفضلية البشر من جهة كثرة الثواب على الطاعة مع وجود الموانع والعوارض الجسمانية. وقال ابن الملك: اختلف هل البشر خير من الملائكة أم لا، رجح كلا مرجحون. قيل: والمختار إن خواص البشر كالأنبياء خير من خواص الملائكة كجبريل. وأما عوام البشر فليسوا بخير من الملائكة أصلا فقوله في ملأ خير منهم أي خير منهم حالا فإن حال الملائكة خير من حال الإنس في الجد والطاعة قال الله تعالى: ?لا يعصون الله ما أمرهم? [التحريم: 6] وأحوال المؤمنين مختلفة بين طاعة ومعصية وجد وفترة – انتهى. قلت: قد بسط الحافظ الكلام في ذكر الاختلاف في ذلك مع سرد أدلة قول أهل السنة وقول المعتزلة من شاء الوقوف على ذلك رجع إلى الفتح (متفق عليه) أخرجه البخاري في التوحيد، ومسلم في الذكر والدعاء. وتمام الحديث (وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة). وقد أخرجه أيضا أحمد (ج2ص251) والترمذي في الزهد والنسائي في الكبرى وابن ماجه في ثواب التسبيح، وروى البزار عن

(15/218)


ابن عباس. قال المنذري: بإسناد صحيح مرفوعا قال: قال الله تبارك وتعالى: (يا ابن آدم إذا ذكرتني خاليا ذكرتك خاليا وإذا ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير من الذين تذكرني فيهم).
2288- قوله: (من جاء بالحسنة) أي جاء بها يوم القيامة غير مبطلة ولذا لم يقل من فعل الحسنة، والمراد بفرد من أفرادها أي فرد كان والمعنى من جاء يوم القيامة متلبسا بها متصفا بأنه قد عملها في الدنيا (فله عشر أمثالها) أي ثواب عشر حسنات أمثالها حذف المميز الموصوف وأقيم الصفة مقامه فلا يعترض بأن
وأزيد. ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر. ومن تقرب مني شبرا، تقربت منه ذراعا. ومن تقرب مني ذراعا، تقربت منه باعا. ومن أتاني يمشي أتيته هرولة.

(15/219)


الأمثال جمع مثل وهو مذكر فكان قياسه عشرة بالتاء على القاعدة، والجواب إن المعدود محذوف وهو موصوف أمثالها، والحسنات مؤنث فناسب تذكير العدد يعني أنه روعي في ذلك الموصوف المحذوف والتقدير فله عشر حسنات أمثالها، ثم حذف الموصوف وأقيم صفته مقامه وترك العدد على حاله ومثله مررت بثلاثة نسايات ألحقت في عدد المؤنث مرعاة للموصوف المحذوف إذا الأصل بثلاثة رجال نسايات. والحاصل إن له عشر مثوبات كل منها مثل تلك الحسنة في الكيفية وهذا أقل المضاعفة بمقتضى الواعد ولذا قال (وأزيد) بصيغة المتكلم أي لمن أريد الزيادة من أهل السعادة على عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وإلى أضعاف كثيرة. قال النووي: معناه إن التضعيف بعشر أمثالها لا بد منه بفضل الله ورحمته ووعده الذي لا يخلف والزيادة بعد بكثرة التضعيف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة يحصل لبعض الناس دون بعض على حسب مشيئته سبحانه وتعالى (ومن جاء بالسيئة) أي غير مكفرة (فجزاء سيئة مثلها) أي عدلا (أو أغفر) فضلا. قال الطيبي: اختص ذكر الجزاء بالثانية لأن ما يقابل العمل الصالح كله أفضال وإكرام من الله، وما يقابل السيئة فهو عدل وقصاص فلا يكون مقصودا بالذات كالثواب، فخص بالجزاء. وأما إعادة السيئة نكرة فلتنصيص معنى الوحدة المبهمة في السيئة المعرفة المطلقة وتقريرها. وأما معنى الواو في "وأزيد" فلمطلق الجمع إن أريد بالزيادة الرؤية كقوله تعالى: ?للذين أحسنوا الحسنى وزيادة? [يونس: 26] وإن أريد بها الأضعاف فالواو بمعنى "أو" التنويعية كما هي في قوله أو أغفر قال القاري: والأظهر ما قاله ابن حجر من أن العشر والزيادة يمكن اجتماعهما بخلاف جزاء مثل السيئة ومغفرتها فإنه لا يمكن اجتماعهما فوجب ذكرا والدال على أن الواقع أحدهما فقط ومن تقرب) أي طلب القربة (مني) أي بالطاعة (شبرا) أي مقدارا قليلا، قال الطيبي: شبرا وذراعا وباعا في الشرط والجزء منصوب على الظرفية أي من تقرب إلى

(15/220)


مقدار شبر (ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا) قال الباجي: الباع طول ذراعي الإنسان وعضديه وعرض صدره، وذلك قدر أربعة أذرع. وقيل: هو قدر مد اليدين وما بينهما من البدن (ومن أتاني) حال كونه (يمشي أتيته هرولة) هي الإسراع في المشي دون العدو. وقال الطيبي: هي حال أي مهرولا أو مفعول مطلق لأن الهرولة نوع من الإتيان فهو كرجعت القهقري لكن الحمل على الحال أولى لأن قرينه يمشي حال لا محالة قال النووي: هذا الحديث من أحاديث الصفات ويستحيل إرادة ظاهره (أي لأنه يقتضي قطع المسافات وتداني الأجسام وذلك في حقه تعالى محال) ومعناه من تقرب إلى بطاعتي تقربت إليه برحمتي والتوفيق والإعانة وإن
ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة)). رواه مسلم.
2289- (7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى قال: من عاد لي وليا

(15/221)


زاد زدت، فإن أتاني يمشي وأسرع في طاعتي أتيته هرولة أي صببت عليه الرحمة وسبقته بها ولم أحوجه إلى المشي الكثير في الوصول إلى المقصود، والمراد إن جزاءه يكون تضعيفه على حسب تقربه – انتهى. وكذا فسره الأعمش والراغب والجزري وابن بطال وابن التين والتوربشتي والطيبي والحافظ والعيني وغيرهم من أهل العلم قلت لا حاجة إلى هذا التأويل والتفسير والصواب أن يحمل هذا الحديث كأمثاله على ظاهره فنؤمن به على ما يليق بعظمة الله تعالى كالمجيء والنزول ونحوهما وربنا ليس كمثله شيء وهو السميع البصير والله اعلم (ومن لقيني بقراب الأرض) بضم القاف على المشهور وبكسر أي بمثلها وقدرها. مأخوذ من القرب. وقال الجزري في النهاية: أي بما يقارب ملأها وهو مصدر قارب يقارب (خطيئة) تمييز (لا يشرك بي) حال من فاعل لقيني العائد إلى من (شيئا) مفعول مطلق أو مفعول به (لقيته بمثلها مغفرة) أي إن أردت ذلك له لقوله تعالى: ?ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء? [النساء: 48] ونكته حذفه في الحديث استغناء بعلمه منها ومبالغة في سعة باب الرحمة. قال الطيبي: المقصود من الحديث دفع اليأس بكثرة الذنوب فلا ينبغي أن يغتر في الاستكثار من الخطايا. قال ابن الملك: فإنه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولا يعلم إنه من أيهم – انتهى. وهذا المقصود من آخر الحديث. وأما أوله ففيه الترغيب والتحثيث على المجاهدة في الطاعة والعبادة دفعا للتكاسل والقصور. واعلم أنه قلما يوجد في الأحاديث حديث أرجى من هذا الحديث فإنه صلى الله عليه وسلم رتب قوله لقيته بمثلها مغفرة على عدم الإشراك بالله فقط، ولم يذكر الأعمال الصالحة لكن لا يجوز لأحد أن يغتر ويقول إذا كان كذلك فأكثر الخطيئة حتى يكثر الله المغفرة. وإنما قال تعالى ذلك كيلا ييأس المذنبون من رحمته ولا شك إن لله مغفرة وعقوبة ومغفرته أكثر ولكن لا يعلم إنه من المغفورين أو من المعاقبين فإذن ينبغي للمؤمن أن يكون بين الخوف والرجاء كذا

(15/222)


في المرقاة (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص148- 153- 155- 169- 180) وابن ماجه.
2289- قوله: (من عادى) أي آذى ففي رواية لأحمد في الزهد من حديث عائشة من آذى لي وليا (لي) هو في الأصل صفة لقوله وليا لكنه لما تقدم صار حالا (وليا) الولي المحب والناصر والحافظ وكل من يتولى. أمر أحد. قال الحافظ والعيني: المراد بولي الله العالم بالله المواظب على طاعته المخلص في عبادته. وقال القسطلاني
فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشي أحب إلي مما افترضت عليه،

(15/223)


فعيل بمعنى مفعول وهو من يتولى الله تعالى أمره قال تعالى وهو يتولى الصالحين ولا يكله إلى نفسه لحظة بل يتولى الحق رعايته أو هو فعيل مبالغة من الفاعل وهو الذي يتولى عبادة الله وطاعته فعبادته تجري على التوالي من غير أن يتخللها عصيان، وكلا الوصفين واجب حتى يكون الولي وليا بحسب قيامه بحقوق الله على الاستقضاء والاستبقاء ودوام حفظ الله إياه في السراء والضراء، ومن شرط الولي أن يكون محفوظا كما أن من شرط النبي أن يكون معصوما. قال القشيري: والمراد بكون الولي محفوظا أن يحفظه الله تعالى عن تماديه في الزلل والخطأ إن وقع فيهما بأن يلهمه التوبة فيتوب منهما وإلا فهما لا يقدحان في ولايته – انتهى. وقد استشكل وجود أحد يعادي الولي لأن المعاداة من باب المتفاعلة التي تقع من الجانبين، ومن شأن الولي الحلم والاجتناب عن المعاداة والصفح عمن يجهل عليه. وأجيب بأن المعاداة لم تنحصر في الخصومة والمعاملة الدنيوية مثلا، بل قد تقع عن بغض ينشأ عن التعصب كالرافضي في بغضه لأبي بكر والمبتدع في بغضه للسني فتقع المعاداة من الجانبين. أما من جانب الولي فلله تعالى وفي الله، وأما من جانب الآخر فظاهر وكذا الفاسق المتجاهر يبغضه الولي في الله ويبغضه الآخر لإنكاره عليه وملازمته لنهيه عن شهواته. وقيل لا يحتاج إلى هذا التكلف فإذا قلنا إن الفاعل يأتي بمعنى فعل كما في قوله تعالى: ?وسارعوا إلى مغفرة من ربكم? [آل عمران: 133] بمعنى أسرعوا حصل الجواب ويؤيد هذا قوله من آذى لي وليا كما تقدم (فقد آذنته) بمد الهمزة وفتح المعجمة بعدها نون أي أعلمته من الإيذان وهو الأعلام (بالحرب) أي بمحاربتي إياه ووقع في حديث عائشة من عادى لي وليا فقد استحل محاربتي وفي حديث معاذ عند ابن ماجه وأبي نعيم كما في الفتح فقد بارز الله بالمحاربة، وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني والبيهقي. وحديث أنس عند أبي يعلى والبزار فقد باوزني. وقد استشكل وقوع

(15/224)


المحاربة وهي مفاعلة من الجانبين والمخلوق في أسر الخالق. والجواب إنه من المخاطبة بما يفهم فإن غاية الحرب الهلاك والله لا يغلبه غالب، فكان المعنى فقد تعرض لإهلاكي إياه فأطلق الحرب وأراد لازمه أي أعمل به ما يعمله العدو المحارب. قال الفاكفاني: هذا تهديد شديد لأن من حاربه الله أهلكه وهو من المجاز البليغ لأن من كره من أحب الله خالف الله ومن خالف الله عانده ومن عانده أهلكه، وإذا ثبت هذا في جانب المعاداة ثبت في جانب الموالاة فمن والى أولياء الله أكرمه الله (وما تقرب إلي عبدي) أي المؤمن (بشي) أي من الطاعة (أحب إلي) بفتح أحب صفة لقوله بشي فهو مفتوح في موضع جر وبالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أحب (مما افترضت عليه) سواء كان عينا أو كفاية ظاهرا أو باطنا ويستفاد منه إن أداء الفرائض أحب الأعمال إلى الله وإن قرب العبد إلى ربه بأداء الفرائض أتم وأكمل مما يحصل بأداء النوافل لأن انعزل العبد عن اختياره في امتثال الأمر أشد في أداء الفرائض فإن النوافل يهديها العبد إلى الرب بالاختيار والتبرع، ويحصل في الأول فناء الذات، وفي الثاني فناء الصفات
وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحببته، فإذا أحببته فكنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها،

(15/225)


قال الطوفي: الأمر بالفرائض جازم ويقع بتركها المعاقبة بخلاف النفل في الأمرين، وإن اشترك مع الفرائض في تحصيل الثواب فكانت الفرائض أكمل فلهذا كانت أحب إلى الله تعالى وأشد تقريبا وأيضا الفرض كالأصل والأس والنفل كالفرع والبناء وفي الإتيان بالفرائض على الوجه المأمور به امتثال الأمر واحترام الأمر وتعظيمه بالانقياد إليه وإظهار عظمة الربوبية وذل العبودية فكان التقرب بذلك أعظم العمل (وما يزال) بلفظ المضارع وفي رواية وما زال (عبدي) أي القائم بالفرائض (يتقرب) أي يطلب زيادة القرب (إلي بالنوافل) أي التطوع من جميع أصناف العبادات يعني مع محافظته على الفرائض (حتى أحببته) أي حبا كاملا لجمعه بين الفرائض والنوافل. قال الحافظ: ظاهره إن محبة الله للعبد تقع بملازمة العبد التقرب بالنوافل، قد استشكل بما تقدم أولا إن الفرائض أحب العبادات المتقرب بها إلى الله فكيف لا تنتج المحبة، والجواب إن المراد من النوافل ما كانت حاوية للفرائض مشتملة عليها ومكملة لها. ويؤيده إن في رواية أبي أمامة "ابن آدم إنك لن تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضت عليك" وقال الفاكهاني: معنى الحديث إنه إذا أدى الفرائض ودام على إتيان النوافل من صلاة وصيام وغيرهما أفضى به ذلك إلى محبة الله تعالى. وقال ابن هبيرة: يؤخذ قوله من قوله ما تقرب إلى آخره إن النافلة لا تقدم على الفريضة لأن النافلة إنما سميت نافلة لأنها تأتي زائدة على الفرائض فما لم تؤد الفريضة لا تحصل النافلة، ومن أدى الفرض ثم زاد عليه النفل وأدام ذلك تحققت منه إرادة التقريب وقد تبين بذلك إن المراد من التقرب بالنوافل إن تقع ممن أدى الفرائض لا من أخل بها (فإذا أحببته) لتقربه إلى بما ذكر (فكنت) كذا في أكثر النسخ الحاضرة من المشكاة "حتى أحببته فإذا أحببته فكنت" وفي المصابيح "حتى أحبه (أي بضم أوله) فإذا أحببته كنت) وهكذا وقع في البخاري من رواية الشكميهني ولأبي ذر "حتى أحببته

(15/226)


فكنت" وكذا وقع في نسخة القاري من المشكاة (سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به) بضم الياء وفي رواية، من حديث عائشة عينه التي يبصر بها وفي أخرى عينيه اللتين يبصر بهما بالتثنية وكذا قال في الأذن واليد والرجل (ويده التي يبطش) بفتح الياء وكسر الطاء أي يأخذ (بها ورجله التي يمشي بها) زاد في حديث عائشة وفوأده الذي يعقل به ولسانه الذي يتكلم به ونحوه في حديث أبي أمامة وقد استشكل كيف يكون الباري جل وعلى سمع العبد وبصره الخ وأجيب بأوجه أحدها أنه ورد على سبيل التمثيل والمعنى كنت سمعه وبصره في إيثاره أمري فهو يحب طاعتي ويؤثر خدمتي كما يحب هذه الجوارح ثانيها أن المعنى إن كليته مشغولة بي فلا يصغى بسمعه إلا إلى ما يرضيني ولا يبصر ببصره إلا ما أمرته به ولا يبطش بيده إلا في ما يحل له ولا يسعى برجله إلا في طاعتي

(15/227)


ثالثها أن المعنى أجعل له مقاصده كأنه ينالها ويراها بسمعه وبصره الخ رابعها كنت له في النصرة كسمعه وبصره ويده ورجله في المعاونة على عدوه خامسها قال الفاكهاني: وسبقه إلى معناه ابن هبيرة هو فيما يظهر لي أنه على حذف مضاف، والتقدير كنت حافظ سمعه الذي يسمع به فلا يسمع إلا ما يحل استماعه وحافظ بصره كذلك الخ. سادسها يحتمل معنى آخر أدق من هذا الذي قبله، وهو أن يكون سمعه بمعنى مسموعه، لأن المصدر قد جاء بمعنى المفعول مثل فلان أملي بمعنى مأمولي، والمعنى أنه لا يسمع إلا ذكرى ولا يتلذ إلا بتلاوة كتابي ولا يأنس إلا بمناجاتي ولا ينظر إلا في عجائب ملكوتي ولا يمد يده إلا فيما فيه رضاي ورجله كذلك. وقال الطوفي: اتفق العلماء ممن يعتد بقوله إن هذا مجاز وكناية عن نصرة العبد وتأييده وعنايته حتى كأنه سبحانه ينزل نفسه من عبده منزلة الآلات التي يستعين بها، وقع في رواية فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي. وقال الخطابي: هذه أمثال والمعنى توفيق الله لعبده في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء وتيسير المحبة له فيها، بأن يحفظ جوارحه عليه ويعصمه عن مواقعة ما يكره الله من الإصغاء إلى اللهو بسمعه، ومن النظر إلى ما نهى الله عنه ببصره ومن البطش فيما لا يحل له بيده، ومن السعي إلى الباطل برجله، وإلى هذا نحى الداودي حيث قال: هذا كله من المجاز يعني أنه يحفظه كما يحفظ العبد جوارحه لئلا يقع في مهلكة ومثله قال الكلاباذي وعبر بقوله أحفظه فلا يتصرف إلا في محابي لأنه إذا أحبه كره له أن يتصرف فيما يكرهه منه. وقال التوربشتي: معناه اجعل سلطان حبي غالبا عليه حتى يسلب عنه الاهتمام بشي غير ما يقربه إلى فيصير منخلعا عن الشهوات ذاهلا عن الحظوظ واللذات، حيثما تقلب وأينما توجه لقي الله تعالى بمرأى منه ومسمع لا تطور حول حاله الغفلة، ولا يحول دون شهوده الحجبة. ولا يعتري ذكره النسيان، ولا يخطر بباله الأحداث والأعيان يأخذ بمجامع

(15/228)


قلبه. حب الله فلا يرى إلا ما يحبه ولا يسمع إلا ما يحبه ولا يفعل إلا ما يحبه ويكون الله سبحانه في ذلك له يدا ومؤيدا وعونا وكيلا يحمي سمعه وبصره ويده ورجله عما لا يرضاه، وحقيقة هذا القول ارتهان كلية العبد بمراضي الله وحسن رعاية الله له، وذلك على سبيل الاتساع وهو شائع في كلام العرب إذا أرادوا اختصاص الشيء بنوع من الخصوصية والاهتمام به والعناية والاستغراق فيه والوله إليه. سابعها قاله الخطابي أيضا: قد يكون عبر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء والنجح في الطلب وذلك إن مساعي الإنسان كلها إنما تكون بهذه الجوارح المذكورة. وقال بعضهم: وهو منتزع مما تقدم لا يتحرك له جارحة إلا في الله. ولله فهي كلها تعمل بالحق للحق، وأسند البيهقي في الزهد عن أبي عثمان الجيزي أحد أئمة الطريق قال معناه كنت أسرع إلى قضاء حوائجه من سمعه في الاستماع وعينه في النظر ويده في اللمس ورجله في المشي. قيل: وزعم الاتحادية أنه على حقيقته وإن الحق عين العبد
وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن.

(15/229)


واحتجوا بمجيء جبريل في صورة دحية قالوا: فهو روحاني خلع صورته وظهر بمظهر البشر قالوا: فالله أقدر على أن يظهر في صورة الوجود الكلي أو بعضه تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وحمله بعض أهل الزيغ على ما يدعونه من أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتى يصفي من الكدورات أنه يصير في معنى الحق تعالى الله عن ذلك، وأنه يفنى عن نفسه جملة حتى يشهد أن الله هو الذاكر لنفسه الموحد لنفسه المحب لنفسه وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدما صرفا في شهودة وإن لم تعدم في الخارج وعلى الأوجه كلها فلا متمسك فيه للاتحادية ولا القائلين بالوحدة المطلقة لقوله في بقية الحديث، ولئن سألني ولئن استعاذني فإنه كالصريح في الرد عليهم كذا في الفتح. (وإن سألني لأعطيته) أي ما سأل وهو بفتح اللام وضم الهمزة ونون التأكيد الثقيلة (ولئن استعاذني) بنون الوقاية، وفي بعض النسخ بالموحدة وهو أظهر معنى، والأول أشهر رواية قاله في اللمعات وقال الحافظ: ضبطناه بوجهين الأشهر، بالنون بعد الذال المعجمة، والثاني بالموحدة. (لأعيذنه) أي مما يخاف وقد استشكل بأن جماعة من العباد والصلحاء دعوا وبالغوا ولم يجابوا، والجواب إن الإجابة تتنوع فتارة يقع المطلوب بعينه على الفوز، وتارة يقع لكن يتأخر لحكمة فيه، وتارة قد يقع الإجابة ولكن بغير عين المطلوب حيث لا يكون في المطلوب مصلحة ناجزة وفي الواقع مصلحة ناجزة أو أصلح منها. وقد تمسك بهذا الحديث بعض الجهلة من أهل التجلي والرياضة فقالوا: القلب إذا كان محفوظا مع الله كانت خواطره معصومة من الخطأ، وتعقب ذلك أهل التحقيق من أهل الطريق فقالوا: لا يلتفت إلى شيء من ذلك إلا إذا وافق الكتاب والسنة، والعصمة إنما هي للأنبياء ومن عداهم فقد يخطىء فقد كان عمر رضي الله عنه رأس الملهمين، ومع ذلك فكان ربما رأى الرأي فيخبره بعض الصحابة بخلافه فيرجع إليه ويترك رأيه، فمن ظن أنه يكتفي بما يقع في خاطره

(15/230)


عما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام فقد ارتكب أعظم الخطأ. وفي الحديث إن من أتى بما وجب عليه وتقرب بالنوافل لم يرد دعاءه لوجود هذا الوعد الصادق المؤكد بالقسم وقد تقدم الجواب عما يتخلف من ذلك (وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن) وفي حديث عائشة ترددي عن موته ووقع في الحلية في ترجمة وهب بن منبه إني لأجد في كتب الأنبياء إن الله تعالى يقول (ما ترددت عن شيء قط ترددي عن قبض روح المؤمن) فإن قيل التردد هو التخير بين أمرين لا يدري أيهما أصلح وهو محال على الله تعالى. أجيب بأن المراد من لفظا التردد في هذا الحديث إزالة كراهة الموت من العبد المؤمن بلطائف يحدثها الله له ويظهرها حتى تذهب الكراهة التي في نفسه بما يتحقق عنده من البشرى برضوان الله وكرامته، وهذه الحالة يتقدمها أحوال كثيرة من مرض

(15/231)


وهرم وفاقة وزمانة وشدة بلاء يهون على العبد مفارقة الدنيا، ويقطع عنها علاقته حتى إذا أيس عنها تحقق رجاءه بما عند الله فاشتاق إلى دار الكرامة فأخذه المؤمن عما تشبث به من حب الحياة شيئا فشيئا بالأسباب التي أشرنا إليها يضاهي، ويشبه فعل المتردد من حيث الصنعة فشبه، بفعل المتردد وأدخل في أفراده مبالغة وعبر عنه بالتردد ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المخبر عن الله وعن صفاته وأفعاله بأمور غير معهودة لا يكاد السامع يعرفها على ما هي عليه إذن له أن يعبر عنها بألفاظ مستعملة في أمور معهودة تعريفا للأمة، وتوقيفا لهم بالمجاز على الحقيقة، وتقريبا لما ينأى عن الإفهام، وتقريرا لما يضيق عن الإفصاح به نطاق البيان وذلك بعد أن عرفهم ما يجوز على الله وما لا يجوز قاله التوربشتي. وقال الخطابي: التردد في حق الله غير جائز والبذاء عليه في الأمور غير سائغ ولكن له تأويلان. أحدهما: إن العبد قد يشرف على الهلاك في أيام عمره من داء يصيبه وفاقة تنزل به فيدعوا الله فيشفيه. منها: ويدفع عنه مكروهها فيكون ذلك من فعله كتردد من يريد أمرا ثم يبدو له فيه فيتركه ويعرض عنه، ولا بد له من لقائه إذا بلغ الكتاب أجله لأن الله قد كتب الفناء على خلقه واستأثر بالبقاء لنفسه. والثاني: أن يكون معناه ما رددت رسلي في شيء أنا فاعله كترديدي إياهم في نفس المؤمن، كما روي في قصة موسى عليه السلام، وما كان من لطمة عين ملك الموت وتردده إليه مرة بعد أخرى. قال: وحقيقة المعنى على الوجهين عطف الله على العبد ولطفه به وشفقته عليه وعبر ابن الجوزي عن الثاني، بأن التردد للملائكة الذين يقبضون الروح، وأضاف الحق ذلك لنفسه لأن ترددهم عن أمره قال: وهذا التردد ينشأ عن إظهار كرامة المؤمن على ربه، فإن قيل: إذا أمر الملك بالقبض كيف يقع منه التردد، فالجواب من وجوه. منها: إن معنى التردد اللطف به كأن الملك يؤخر القبض فإنه إذا نظر إلى قدر

(15/232)


المؤمن وعظم المنفعة به لأهل الدنيا احترمه فلم يبسط يده إليه فإذا ذكر أمر ربه لم يجد بدأ من امتثاله. ومنها: إن الملك يتردد فيما لم يحد له فيه الوقت كان يقال لا تقبض روحه إلا إذا رضي. وقيل معنى الحديث ما أخرت وما توقفت توقف المتردد في أمر أنا فاعله إلا في قبض نفس عبدي المؤمن أتوقف فيه وأريد ما أعددت له من النعيم والكرامات حتى يسهل عليه ويميل قلبه إليه شوقا إلى أن ينخرط في سلك المقربين ويتبوأ في أعلى عليين قاله القاضي. وقيل هذا خطاب لنا بما نعقل والمقصود تفهيمنا تحقيق المحبة للولي والدلالة على شرفه ورفعة منزلته حتى لو تأتي أنه تعالى لا يذيقه الموت الذي حتمه على عباده لفعل، ولهذا المعنى ورد لفظ التردد كما إن العبد إذا كان له أمر لا بد له أن يفعله بحبيبه لكنه يؤلمه، فإن نظر إلى ألمه أنكف عن الفعل وإن نظر إلى أنه لا بد له منه أن يفعله لمنفعته أقدم عليه فيعبر عن هذه الحالة في قلبه بالتردد فخاطب الله الخلق بذلك على حسب ما يعرفون، ودلهم به على شرف الولي عنده ورفعة درجته. وقيل المراد أنه يقبض روح المؤمن بالتأني والتدريج بخلاف سائر
يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولا بد له منه)). رواه البخاري.

(15/233)


الأمور فإنها تحصل بمجرد قوله كن سريعا دفعة ذكره الكرماني. وقيل الصواب فيه أن يؤمن به على ما يليق بعظمة الله تعالى وشأنه ولا يتوهم ولا يقال كيف فلا حاجة إلى التأويلات التي ذكروها والله اعلم (يكره الموت) قال القاري: استئناف جوابا عما يقال ما سبب التردد، والمراد أنه يكره شدة الموت بمقتضى طبعه البشرى (وأنا أكره مساءته) بفتح الميم والمهملة بعدها همزة ففوقية مصدر ساء الأمر فلانا أي أحزنه. قال ابن الملك: أي إيذاءه بما يلحقه من صعوبة الموت وكربه. وقال ابن حجر: أي أكره ما يسوءه لأني أرحم به من والديه لكن لا بد له منه لينتقل من دار الهموم إلى دار النعيم والمسرات، فعلته به إيثارا لتلك النعمة العظمى والمسرات الكبرى كما أن الأب الشفوق يكلف الابن بما يكلفه من العلم وغيره وإن شق عليه نظرا لكماله الذي يترتب على ذلك – انتهى. قال القاري: وهو خلاصة كلام الطيبي وحاصل كلامهم إن إضافة المساءة من باب إضافة المصدر إلى مفعوله، والظاهر إنها مضافة إلى فاعله والمعنى أكره مساءته لكراهة الموت فإنه لا ينبغي أن يكره الموت بل يحبه فإن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه من كره لقاء الله كره الله لقاءه – انتهى. وقال الجنيد: الكراهة هنا لما يلقى المؤمن من الموت وصعوبته وكربه وليس المعنى إني أكره له الموت لأن الموت يورده إلى رحمة الله ومغفرته – انتهى. وعبر بعضهم عن هذا بأن الموت حتم مقضي وهو مفارقة الروح للجسد ولا تحصل غالبا إلا بألم عظيم جدا، فلما كان الموت بهذا الوصف والله يكره أذى المؤمن أطلق على ذلك الكراهة، ويحتمل أن تكون المساءة بالنسبة إلى طول الحياة لأنها تؤدي إلى أرذل العمر وتنكس الخلق والرد إلى أسفل سافلين كذا في الفتح. (ولا بد له منه) كذا وقعت هذه الزيادة في بعض نسخ المشكاة موافقا لما في المصابيح وسقطت من بعضها كنسخة القاري التي أخذها في شرحه وكنسخة أشعة اللمعات للشيخ الدهلوي وليست أيضا في

(15/234)


البخاري. قال القاري: وفي نسخة صحيحتي من المشكاة ولا بد له منه وكذا في أصل مبرك وهو كذا في شرح المصابيح لابن الملك. وقال ابن حجر: كما في رواية. وقال الحافظ: زاد محمد بن مخلد (يعني عند الذهبي) عن ابن كرامة (شيخ البخاري) في آخر الحديث ولا بد له منه. ووقعت هذه الزيادة أيضا في حديث وهب بن منبه المقطوع عند أحمد في الزهد، وأبي نعيم في الحلية. قال القاري: والمعنى ولا بد للمؤمن من الموت فلا معنى للكراهة أو ولهذا لا ادفع عنه الموت (رواه البخاري) في باب التواضع من كتاب الرقاق. قال: حدثنا محمد بن عثمان بن كرامة، حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان بن بلال، حدثنا شريك بن عبد الله بن نمر عن عطاء عن أبي هريرة. قال الذهبي: في ترجمة خالد بن مخلد من الميزان (ج1ص300، 301) قال أحمد: له مناكير. وقال أبوحاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن سعد: منكر الحديث مفرط في التشيع. وقال أبوداود: صدوق ولكنه يتشيع، وذكره ابن عدي ثم ساق له عشرة أحاديث
2290- (8) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر،

(15/235)


استنكرها. قال الذهبي: ومما انفرد ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن كرامة عنه وذكر حديث أبي هريرة من عادى لي وليا الخ. وساقه من طريق محمد بن مخلد عن محمد بن عثمان بن كرامة شيخ البخاري فيه ثم قال: فهذا غريب جدا ولو لا هيبة الجامع الصحيح لعدته في منكرات خالد بن مخلد وذلك لغرابة لفظه، ولأنه مما ينفرد به شريك وليس بالحافظ ولم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد ولا أخرجه من عدا البخاري ولا أظنه في مسند أحمد – انتهى. قلت شريك هذا قد وثقه ابن سعد وأبوداود. وقال النسائي وابن معين: لا بأس به واحتج به الجماعة إلا أن في روايته عن أنس في حديث الإسراء مواضع شاذة. وأما خالد بن مخلد فقد وثقه العجلي وصالح ابن محمد جزرة وعثمان بن أبي شيبة وابن حبان. وقال ابن عدي: هو من المكثرين لا بأس به. وقال الأزدي: في حديثه بعض المناكير وهو عندنا في عداد أهل الصدق ولا يلتفت إلى قول أبي حاتم لا يحتج به لأنه جرح مبهم. وأما التشيع والمناكير. فقال الحافظ في مقدمة الفتح في ذكر خالد: هذا قلت: أما التشيع فقد قدمنا إنه إذا كان ثبت الأخذ والأداء لا يضره لا سيما ولم يكن داعية إلى رأيه. وأما المناكير فقد تتبعها ابن عدي من حديثه وأوردها في كامله وليس فيها شيء مما أخرجه البخاري بل لم أر له عنده من أفراده سوى حديث واحد، وهو حديث أبي هريرة من عادى لي وليا – الحديث. وقال في الفتح (ج26ص145) بعد ذكر كلام الذهبي المتقدم، قلت: ليس هذا الحديث في مسند أحمد جزما، وإطلاق أنه لم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد مردود، ومع ذلك فشريك شيخ شيخ خالد فيه مقال أيضا، ولكن للحديث طرق أخرى يدل على مجموعها على أن له أصلا منها عن عائشة أخرجه أحمد في الزهد، وابن أبي الدنيا وأبونعيم في الحلية، والبيهقي في الزهد من طريق عبدالواحد بن ميمون عن عروة عنها، وذكر ابن حبان وابن عدي أنه تفرد به. وقد قال البخاري: أنه منكر الحديث، ومنها عن علي عند

(15/236)


الإسماعيلي في مسند علي وعن ابن عباس أخرجه الطبراني وسندهما ضعيف. وعن أنس أخرجه أبويعلى والبزار والطبراني وفي سنده ضعف أيضا. وعن حذيفة أخرجه الطبراني مختصرا وسنده حسن غريب، وعن معاذ بن جبل أخرجه ابن ماجه وأبونعيم في الحلية مختصرا وسنده ضعيف أيضا، وعن وهب بن منبه مقطوعا أخرجه أحمد في الزهد وأبونعيم في الحلية – انتهى. هذا وقد بسط الكلام في تخريج هذا الحديث وشرحه ابن رجب الحنبلي في شرح الأربعين النووية (ص259، 260) فارجع إليه إن شئت.
2290- قوله: (إن لله ملائكة) أي من المقربين غير الحفظة المرتبين مع الخلائق بل هم سيارة سياحة في الأرض لا وظيفة لهم، وإنما مقصودهم حلق الذكر (يطوفون) أي يدورون (في الطرق) أي طرق المسلمين (يلتمسون أهل الذكر) أي يطلبون مجالستهم. وقيل: أي يطلبون من يذكر الله من بني آدم ليزوروهم ويدعوا لهم ويستمعوا إلى
فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم. قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا. قال: فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم. ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يسبحونك، ويكبرونك، ويحمدونك، ويمجدونك.

(15/237)


ذكرهم، وفي الرواية الآتية يبتغون مجالس الذكر، وفي حديث جابر بن عبدالله عند أبي يعلى والبزار إن لله سرايا من الملائكة تقف وتحل بمجالس الذكر. (تنادوا) بفتح الدال أي نادى بعض تلك الملائكة بعضا قائلين (هلموا) أي تعالوا مسرعين (إلى حاجتكم) أي إلى ما تطلبون من استماع الذكر وزيارة الذاكر، فإنا قد وجدنا جماعة من أهل الذكر. وفي رواية أحمد والترمذي إلى بغيتكم بكسر الباء وضمها مع سكون الغين وفتح الياء مخففة، وبفتح الباء وكسر الغين مع تشديد الياء المفتوحة أي إلى مطلوبكم ومرغوبكم وقوله "هلموا" ورد على لغة أهل نجد أنها تثنى وتجمع وتؤنث ولغة أهل الحجاز بناء لفظها على الفتح وبقاءه بحاله مع المثنى والجمع والمؤنث ومنه قوله تعالى: ?قل هلم شهداءكم? [الأنعام: 150] (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (فيحفونهم) بفتح التحتية وضم الحاء وتشديد الفاء من الحف وهو الاشتمال حول شيء أي يطوفون بهم ويدورون حولهم من جوانبهم (بأجنحتهم) قال المظهري: الباء للتعدية أي يديرون أجنحتهم حول الذاكرين. وقال الطيبي: الظاهر إنها للاستعانة كما في قولك كتبت بالقلم أي يطيفونهم ويحدقون بهم بأجنحتهم لأن حفهم الذي ينتهي إلى السماء إنما يستقيم بواسطة الأجنحة (إلى السماء الدنيا) وفي رواية، إلى سماء الدنيا. قال الطيبي: أي يقف بعضهم فوق بعض إلى السماء الدنيا. (فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم) أي بالذاكرين من الملائكة. قال الطيبي: وهو أعلم حال والأحسن أن تكون معترضة أو تتميما صيانة عن التوهم يعني لتوهم أن تكون الحال منتقلة، والحال أنها مؤكدة. وفائدة السؤال مع العلم بالمسئول إظهار شرف بني آدم وصلاحهم والتعريض بالملائكة بقولهم في بني آدم ?أتجعل فيها من يفسد فيها? [البقرة: 30] الخ (ما يقول عبادي) الإضافة للتشريف (يقولون) أي الملائكة (يسبحونك) أي عبادك يسبحونك (ويحمدونك) بالتخفيف (ويمجدونك) بتشديد الجيم أي يذكرونك بالعظمة أو ينسبونك إلى

(15/238)


المجد وهو الكرم. قال الجزري: التمجيد التعظيم والمجيد الشريف العظيم، وفي رواية مسلم الآتية ذكر التهليل بدل التمجيد، وفي حديث أنس عند البزار يعظمون آلائك ويتلون كتابك ويصلون على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ويسألونك لآخرتهم ودنياهم. قال الحافظ: ويؤخذ من مجموع هذه الطرق المراد بمجالس الذكر وإنها التي تشتمل على ذكر الله بأنواع الذكر الواردة من تسبيح وتكبير وغيرهما، وعلى تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى وعلى الدعاء بخيري الدنيا والآخرة وفي دخول قراءة الحديث النبوي ومدارسة العلم الشرعي ومذاكرته، والاجتماع على صلاة النافلة
قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك. قال: فيقول كيف لو رأوني؟ قال: فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيدا، وأكثر لك تسبيحا. قال: فيقول: فما يسألون؟ قالوا: يسألونك الجنة. قال: يقول: وهل رأوها. قال: فيقولون: لا والله يا رب! ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا، وأشد لها طلبا، وأعظم فيها رغبة. قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون: من النار. قال: يقول فهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارا، أو أشد لها مخافة. قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم. قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم،

(15/239)


في هذه المجالس نظر. والأشبه اختصاص ذلك بمجالس التسبيح والتكبير ونحوهما، والتلاوة حسب وإن كانت قراءة الحديث ومدارسة العلم والمناظرة فيه من جملة ما يدخل تحت مسمى ذكر الله تعالى – انتهى. قلت، وقال العيني: قوله "أهل الذكر" أي في قوله "يلتمسون أهل الذكر" يتناول الصلاة وقراءة القرآن وتلاوة الحديث وتدريس العلوم ومناظرة العلماء – انتهى. فاختلف الحافظ والعيني في أن المراد بمجالس الذكر وأهل الذكر الخصوص أو العموم، فاختار الحافظ الخصوص نظرا إلى ظاهر ألفاظ الطرق المذكورة، واختار العيني العموم نظرا إلى أن ما في هذه الطرق من ألفاظ الذكر تمثيلات. قال شيخنا في شرح الترمذي: والظاهر هو الخصوص كما قال الحافظ: والله تعالى اعلم. (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (فيقول) أي الله (كيف لو رأوني) أي لو رأوني كيف يكون حالهم في الذكر (وأشد لك تمجيدا) أي تعظيما، وزاد في رواية تحميدا، وفي أخرى وأشد لك ذكرا (وأكثر لك تسبيحا) فيه إيماء إلى أن تحمل مشقة الخدمة على قدر المعرفة والمحبة (فما يسالون) أي مني، وفي رواية فما يسألوني وفي أخرى فما يسألونني (وهل رأوها) أي الجنة (كانوا أشد عليها حرصا وأشد لها طلبا وأعظم فيها رغبة) لأن الخبر ليس كالمعانية (فمم) أي من شيء حذفت ألف "ما" وأبقيت الفتحة على الميم، فإنه يجب حذف ألف "ما" الاستفهامية إذا جرت، وإبقاء الفتحة على الميم دليلا عليها نحو ?فيم أنت من ذكراها? [النازعات: 43] فناظرة بم يرجع المرسلون ?لم تقولون ما لا تفعلون? [الصف: 2] وعلة حذف الألف الفرق بين الاستفهام والخبر (فأشهدكم) من الأشهاد أي أجعلكم شاهدين (إني قد غفرت لهم) أي بذكرهم فـ ?إن الحسنات يذهبن السيئات?[هود: 114] (فيهم فلان) كناية عن اسمه ونسبه (ليس منهم) أي
إنما جاء لحاجة. قال: هم الجلساء لا يشقى جليسهم)) رواه البخاري. وفي رواية مسلم، قال: إن لله ملائكة سيارة

(15/240)


من الذاكرين. قال القاري: حال من المستتر في الخبر. وقيل: من فلان على مذهب سيبويه. (إنما جاء) أي إليهم (لحاجة) أي دنيوية له فجلس معهم يريد الملك بهذا إنه لا يستحق المغفرة (هم الجلساء) جمع جليس (لا يشقى) بفتح الياء أي يصير شقيا (جليسهم) أي مجالسهم. قال الطيبي: أي هم جلساء لا يخيب جليسهم عن كرامتهم فيشقى – انتهى. وفي الحديث فضل مجالس الذكر والذاكرين وفضل الاجتماع على ذلك وإن جليسهم يندرج معهم في جميع ما يتفضل الله تعالى عليهم إكراما لهم، ولو لم يشاركهم في أصل الذكر وفيه محبة الملائكة لبني آدم واعتناءهم بهم، وفيه إن السؤال قد يصدر من السائل وهو اعلم بالمسئول عنه من المسئول لإظهار العناية بالمسئول عنه والتنويه بقدره والإعلان بشرف منزلته. وقيل: إن في خصوص سؤال الله الملائكة عن أهل الذكر الإشارة إلى قوله ?أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك? [البقرة: 30] فكأنه قيل لهم: انظروا إلى ما حصل منهم من التسبيح والتقديس مع ما سلط عليهم من الشهوات ووساوس الشيطان وكيف عالجوا ذلك وضاهوكم في التسبيح والتقديس. وقيل: إنه يؤخذ من هذا الحديث إن الذكر الحاصل من بني آدم أعلى وأشرف من الذكر الحاصل من الملائكة لحصول ذكر الآدميين مع كثرة الشواغل ووجود الصوارف وصدوره في عالم الغيب بخلاف الملائكة في ذلك كله كذا في الفتح. (رواه البخاري) في أواخر الدعوات من طريق جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وكذا خرجه ابن حبان من هذا الطريق ومن طريق الفضيل بن عياض عن الأعمش: قال الحافظ: لم أره من حديث الأعمش إلا بالعنعنة لكن اعتمد البخاري على وصله لكون شعبة رواه عن الأعمش (عند أحمد) فإن شعبه كان لا يحدث عن شيوخه المنسوبين للتدليس إلا بما تحقق إنهم سمعوه – انتهى. والحديث أخرجه أحمد (ج2ص252) ومسلم والطيالسي من طريق وهيب عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، وقد ذكر المصنف لفظ مسلم

(15/241)


بعد ذلك وأخرجه أحمد أيضا (ج2ص251) والترمذي نحو رواية مسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش، فقال عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد الخدري بالشك، وهذا الشك من الأعمش كما صرح في رواية أحمد، والظاهر إن الأعمش استيقن بعد ما شك أو شك بعد ما استيقن ولا أثر لهذا الشك على صحة الحديث كما هو بديهي.
(وفي رواية مسلم قال إن لله ملائكة سيارة) بتشديد الياء من السير أي سياحون في الأرض، قال في اللسان: والسيارة القافلة والسيارة القوم يسيرون أنث على معنى الرفقة والجماعة، وفي رواية أحمد (ج2ص251) والترمذي إن لله ملائكة سياحين في الأرض، بفتح السين المهملة وتشديد الياء التحتية من قولهم ساح في الأرض
فضلا يبتغون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضا بأجنحتهم، حتى يملأوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، قال: فيسألهم الله، وهو أعلم من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عبادك في الأرض يسبحونك، ويكبرونك، ويهللونك، ويحمدونك، ويسألونك. قال: وماذا يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنتك. قال: وهل رأو جنتي؟ قالوا: لا أي رب!

(15/242)


إذا ذهب فيها وسار، وأصله من سيح الماء الجاري (فضلا) زاد في رواية أحمد والترمذي وابن حبان عن كتاب الناس وقوله "فضلا" صفة بعد صفة للملائكة وهو بضمتين وسكون الثاني تخفيفا جمع فاضل كنزل ونازل أي زيادة عن الملائكة الحفظة وغيرهم المرتبين مع الخلائق لا وظيفة لهم إلا حلق الذكر. قال النووي: ضبطوا فضلا على أوجه. أحدها: وهو أرجحها وأشهرها في بلادنا فضلا بضم الفاء والضاد، والثانية بضم الفاء وإسكان الضاد ورجحها بعضهم وادعى أنها أكثر وأصوب، والثالثة: بفتح الفاء وإسكان الضاد، والرابعة: فضل بضم الفاء والضاد، ورفع اللام على أنه خبر مبتدأ محذوف، والخامسة: فضلاء بالمد جمع فاضل، قال العلماء: معناه على جميع الروايات أنهم ملائكة زائدون على الحفظة وغيرهم من المرتبين مع الخلائق فهؤلاء السيارة لا وظيفة لهم، وإنما مقصودهم حلق الذكر – انتهى. وقوله "عن كتاب الناس" بضم الكاف وتشديد التاء المثناة جمع كاتب، والمراد بهم الكرام الكاتبون وغيرهم المرتبون مع الناس (يبتغون) أي يطلبون. قال النووي: ضبطوه على وجهين، أحدهما يتتبعون بالعين المهملة من التتبع وهو البحث عن الشيء والتفتيش، والثاني يبتغون بالغين المعجمة من الابتغاء وهو الطلب وكلاهما صحيح (قعدوا معهم) أي مع الذاكرين (وحف بعضهم) أي بعض الملائكة (بعضا) أي بعضا آخر منهم (بأجنحتهم) أي باستعانتها (حتى يملأوا) أي الملائكة (ما بينهم) أي ما بين الذاكرين (فإذا تفرقوا) أي أهل الذكر (عرجوا) أي الملائكة من عرج يعرج إذا صعد إلى فوق (وصعدوا) بكسر العين (إلى السماء) أي السابعة (وهو اعلم) أي بهم كما في بعض النسخ من المشكاة وكما وقع في صحيح مسلم (من أين جئتم فيقولون جئنا من عند عبادك) قوله "من عند عبادك" كذا في جميع النسخ من المشكاة، وكذا وقع في المصابيح والترغيب للمنذري، والذي في صحيح مسلم من عند عباد لك، وهكذا نقله الجزري والحافظ، وفيه غاية تشريف لبني آدم حال

(15/243)


كونهم (في الأرض) وفي رواية أحمد والترمذي فيقول الله أي شيء تركتم عبادي يصنعون (ماذا يسألوني) بتشديد النون وتخفف، ويروي أيضا ماذا يسألونني، وفي رواية أحمد والترمذي فأي شيء
قال: وكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجيرونك. قال: ومما يستجيروني؟ قالوا: من نارك. قال: هل روا ناري؟ قالوا: لا. قال: فكيف لو رأوا ناري؟ قالوا: يستغفرونك. قال: فيقول: قد غفرت لهم، فأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا. قال: يقولون: رب! فيهم فلان عبد خطاء، إنما مر فجلس معهم. قال: فيقول: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)).

(15/244)


يطلبون (وكيف لو رأوا جنتي) قال الطيبي: جواب "لو" ما دل عليه كيف لأنه سؤال عن الحال أي لو رأوا جنتي ما يكون حالهم في الذكر (ويستجيرونك) عطف على ويسألونك، والجملة من السؤال، والجواب فيما بينهما معترضة أي يستعيذونك. قال الجزري: الاستجارة طلب الجوار والإجارة الحماية والدفاع والمنعة عن الإنسان (ومما) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا في نسخ مسلم من طبعات الهند وجامع الأصول (ج5ص238) ووقع في النسخ المصرية من صحيح مسلم و"مم" أي بحذف الألف وإبقاء الفتحة على الميم، وكذا نقله المنذري في الترغيب والحافظ في الفتح وهذا هو الصواب، والظاهر إن الأول خطأ من النساخ (يستجيروني) بالوجهين ويرو أيضا يستجيرون (من نارك) أي يطلبون الأمان منها (يستغفرونك) أي أيضا وفي بعض النسخ ويستغفرونك بالعطف موافقا لما في صحيح مسلم (قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا) قال القاري: لعل العدول عن الواو إلى الفاء لترتب الإعطاء على المغفرة. قلت: قوله "فأعطيتهم" بالفاء كذا وقع في جميع النسخ من المشكاة والذي في صحيح مسلم وأعطيتهم أي بالواو، وهكذا في المصابيح والترغيب وجامع الأصول والفتح والظاهر إن ما وقع في المشكاة خطأ من الناسخ (وأجرتهم) من أجاره يجيره إذا آمنه من الخوف (يقولون رب) أي يا رب! (عبد خطأ) بفتح الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة والمد أي كثير الخطأ والذنب، أو ملازم الخطايا غير تارك لها وهو من أبنية المبالغة. قال القاري: بدل من فلان (إنما مر) أي لحاجة (فجلس معهم) قال الطيبي في التركيب: تقديم وتأخير أي إنما فلان مر أي ما فعل فلان إلا المرور والجلوس عقبه يعني ما ذكر الله تعالى (فيقول وله غفرت) أي أيضا. قال الطيبي: الواو للعطف وهو يقتضي معطوفا عليه أي قد غفرت لهم وله ثم اتبع غفرت تأكيدا وتقريرا (هم القوم) قال الطيبي: تعريف الخبر يدل على الكمال أي هم القوم كل القوم الكاملون فيما هم فيه من السعادة فيكون قوله

(15/245)


(لا يشقى بهم) أي بسببهم وببركتهم (جليسهم) استئنافا لبيان المقتضى لكونهم أهل الكمال وفي هذه العبارة مبالغة في نفي الشقاء عن جليس الذاكرين. فلو قيل يسعد بهم جليسهم لكان
2291- (9) وعن حنظلة بن الربيع الأسيدي، قال: ((لقيني أبوبكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة. قال: سبحان الله ما تقول؟
ذلك في غاية الفضل، لكن التصريح بنفي الشقاء أبلغ في حصول المقصود،وفي الحديث فضيلة الجلوس مع أهل الذكر وإن لم يشاركهم وفضل مجالسة الصالحين وبركتهم.

(15/246)


2291- قوله: (وعن حنظلة بن الربيع) بفتح الراء وكسر الموحدة وسكون التحتية (الأسيدي) قال النووي: ضبطوه بوجهين أصحهما وأشهرهما ضم الهمزة وفتح السين وكسر الياء المشددة، والثاني كذلك إلا أنه بإسكان الياء ولم يذكر القاضي (عياض) إلا هذا الثاني وهو منسوب إلى بني أسيد بطن من بني تميم – انتهى. وقال الفتني في المغني: الأسيدي بمضمومة ومفتوحة وشذة تحتية مكسورة وسكونها والشدة عند المحدثين للأصل وتسكينها عند أهل اللغة للخفة منسوب إلى أسيد بن عمرو بن تميم بن مر، ومنه حنظلة بن الربيع – انتهى. وقال ابن عبدالبر: بنو أسيد بن عمرو بن تميم من أشراف بني تميم وهو أسيد بكسر الياء وتشديدها – انتهى. وحنظلة هذا هو حنظلة بن الربيع بن صيفي بفتح الصاد المهملة بعدها تحتية ساكنة التميمي المعروف بحنظلة الكاتب لأنه كتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - الوحي، ففي مسلم والترمذي من طريق أبي عثمان النهدي عن حنظلة "وكان من كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - " وهو ابن أخي أكثم بن صيفي حكيم العرب، وليس هو حنظلة بن أبي عامر غسيل الملائكة أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل الطائف وشهد القادسية ونزل الكوفة وتخلف عن علي في قتال أهل البصرة يوم الجمل، ونزل قرقيسياء حتى مات في خلافة معاوية ولا عقب له (لقيني أبوبكر) وفي الترمذي أنه مر بأبي بكر وهو (أي حنظلة) يبكي (كيف أنت يا حنظلة) سؤال عن الحال أي كيف استقامتك على ما تسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - أهي موجود أم لا؟ قاله القاري. وقال الطيبي: أي أتستقيم على الطريق أم لا (نافق حنظلة) أي صار منافقا وأراد نفاق الحال لإنفاق الإيمان. قال الطيبي: فيه تجريد لأن أصل الكلام نافقت فجرد من نفسه شخصا آخر مثله فهو يخير عنه لما رأى من نفسه ما لا يرضي لمخالفة السر العلن والحضور الغيبة. وقال الجزري: النفاق ضد الإخلاص وأراد به في هذا الحديث إنني في الظاهر إذا كنت عند النبي - صلى

(15/247)


الله عليه وسلم - أخلصت وإذا انفردت عنه رغبت في الدنيا وتركت ما كنت عليه فكأنه نوع من الظاهر والباطن وما كان يرضي أن يسامح به نفسه، وكذلك كان الصحابة رضي الله عنهم أجمعين يؤاخذون أنفسهم بأقل الأشياء. وقال النووي: معناه إنه خاف أنه منافق حيث كان يحصل له الخوف في مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - ويظهر عليه ذلك مع المراقبة والفكر والإقبال على الآخرة فإذا خرج اشتغل بالزوجة والأولاد ومعاش الدنيا، وأصل النفاق إظهار ما يكتم خلافه من الشر فخاف أن يكون ذلك نفاقا فأعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه ليس بنفاق وأنهم لا يكلفون الدوام على ذلك. (قال سبحان الله) تعجب أو تبرئة وتنزيه (ما تقول) قال الطيبي:
قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة كأنا رأى عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا. قال أبوبكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: نافق حنظلة يا رسول الله! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله! نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأى عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر

(15/248)


"ما" استفهامية وقوله "تقول" هو المتعجب منه يعني عجبت من قولك هذا الذي حكمت فيه بالنفاق على نفسك (قلت نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي لا عجب في ذلك لأنا نكون عنده، وأتى بضمير الجمع لأن من المعلوم إنه لا بد في الحاضرين من يشابه حنظلة في ذلك ولم يقل نافقنا لئلا يتوهم العموم الشامل للخصوص (يذكرنا) بالتشديد أي يعظنا (بالنار) أي بعذابها تارة (والجنة) أي بنعيمها أخرى ترهيبا وترغيبا أو يذكرنا الله بذكرهما أو بقربهما (كأنا) أي حتى صرنا كأنا (رأى عين) بالنصب أي كأنا نرى الله والجنة والنار رأي عين فهو مفعول مطلق بإضمار نرى، وروى بالرفع أي كأنا راؤن الجنة والنار بالعين على أنه مصدر بمعنى اسم الفاعل ويصح كونه الخبر للمبالغة كرجل عدل. قال القاضي: ضبطناه رأى عين بالرفع أي كأنا بحال من يراهما بعينه. قال ويصح النصب على المصدر أي نراهما رأي عين (عافسنا الأزواج والأولاد) بالفاء والسين المهملة أي خالطناهم ولاعبناهم وعالجنا أمورهم واشتغلنا بمصالحهم. قال الهروي وغيره: معناه حاولنا ذلك ومارسناه واشتغلنا به أي عالجنا معايشنا وحظوظنا (والضيعات) أي الأراضي والبساتين جمع ضيعة بالضاد المعجمة المفتوحة، وهي معاش الرجل من مال أو حرفة أو صناعة. قال الهروي في الغريبين: ضيعة الرجل ما يكون منه معاشه من صناعة أو نخل أو غلة أو غيرها كذلك أسمعنيه الأزهري قال: شمر ويدخل فيها الحرفة والتجارة يقال ما ضيعتك فتقول كذا (نسينا) بدل اشتمال من عافسنا أو هو جواب "إذا" وجملة عافسنا بتقدير قد حال قاله القاري وللترمذي ونسينا (كثيرا) أي نسينا كثيرا مما ذكرنا به أو نسيانا كثيرا كأنا ما سمعنا منه شيئا قط وهذا أنسب بقوله رأي عين (وما ذاك) أي وما سبب ذلك القول (لو تدومون) أي في حال غيبتكم مني (على ما تكونون عندي) أي من صفاء القلب والخوف من الله تعالى (وفي الذكر) قال الطيبي: عطف على خبر كان الذي هو عندي.

(15/249)


وقال ابن الملك: الواو بمعنى أو عطف على قوله "ما تكونون" أو على عندي أي لو تدومون في الذكر أو على ما تكونون في الذكر وأنتم بعداء مني من الاستغراق
لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات)). رواه مسلم.
?الفصل الثاني?
2292- (10) وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم؟ وأرفعها في درجاتكم؟ وخير لكم من إنفاق الذهب والورق؟
فيه (لصافحتكم الملائكة) قيل: أي علانية وإلا فكون الملائكة يصافحون أهل الذكر حاصل. وقال ابن حجر: أي عيانا في سائر الأحوال (على فرشكم وفي طرقكم) قال الطيبي: المراد الدوام (ولكن يا حنظلة ساعة وساعة) أي ساعة كذا وساعة كذا يعني ساعة في الحضور تؤدون فيها حقوق ربكم، وساعة في الغيبة والفتور تقضون فيها حظوظ أنفسكم لينتظم بذلك أمر الدين والمعاش وفي كل منهما رحمة على العباد. قال في المفاتيح: أي لا يكون الرجل منافقا بأن يكون في وقت على غاية الحضور وصفاء القلب وفي الذكر وفي وقت لا يكون بهذه الصفة، بل لا بأس بأن يكون ساعة في الذكر وساعة في الاستراحة والنوم والزراعة ومعاشرة النساء والأولاد وغير ذلك من المباحات (ثلاث مرات) أي قال ذلك ثلاث مرات وهو يحتمل أن يكون قوله "ولكن يا حنظلة ساعة وساعة" أو قوله "ساعة وساعة" ويحتمل أن يكون المراد تثليث لفظ ساعة أي ساعة في الحضور في الذكر وساعة في حق النفس خاصة وساعة في العاقبة واختار الطيبي الثاني (رواه مسلم) في التوبة وأخرجه أيضا أحمد (ج4ص178) والترمذي وابن ماجه في الزهد.

(15/250)


2292- قوله: (ألا أنبئكم) وفي رواية ألا أخبركم وقوله "ألا" يحتمل أن يكون للتنبيه وأنبئكم استئناف بيان والأظهر أنه مركب "من" لا النافية واستفهام التقرير كما يدل عليه قولهم الآتي بلى (بخير أعمالكم) أي أفضلها لكم (وأزكاها) أي أنماها من حيث الثواب الذي يقابلها وأظهرها من حيث كمال ذاتها لا بالنظر إلى الثواب (عند مليككم) المليك بمعنى المالك للمبالغة. وقال في القاموس: الملك ككتف وأمير وصاحب ذو الملك (وأرفعها) أي أكثرها رفعة بمقتضى السببية (في درجاتكم) أي أكثرها رفعا لمنازلكم في الجنة (وخير لكم من إنفاق الذهب والورق) بكسر الراء وتسكن أي الفضة أي من صرفهما في سبيل الله ابتغاء مرضاته. قال الطيبي: قوله و"خير" مجرور عطفا على خير أعمالكم من حيث المعنى لأن المعنى ألا أنبئكم بما هو خير لكم من بذل أموالكم وأنفسكم في سبيل الله – انتهى. وقال ابن حجر: عطف على "خير أعمالكم" عطف خاص على عام، لأن الأول خير الأعمال مطلقا، وهذا خير من بذل الأموال والأنفس، أو عطف مغاير بأن يراد بالأعمال الأعمال اللسانية فيكون ضد هذا يعني مغايرة، لأن بذل الأموال والنفوس من الأعمال الفعلية انتهى. وقال الشوكاني:
وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناكم؟ قالوا: بلى: قال: ذكر الله)).

(15/251)


في تخصيص هذين العملين الفاضلين: (الإنفاق والجهاد) بالذكر أيضا بعد تعميم جميع الأعمال زيادة تأكيدا لما دل عليه ألا أنبئكم بخير أعمالكم وما بعده من فضيلة الذكر على كل الأعمال ومبالغة في النداء بفضله عليها ودفع لما يظن من أن المراد بالأعمال ههنا غير ما هو متناة في الفضيلة وارتفاع الدرجة – وهو الجهاد والصدقة بما هو محبب إلى قلوب العباد فوق كل نوع من أنواع المال وهو الذهب والفضة (وخير لكم من أن تلقوا عدوكم) أي للجهاد والعدو يطلق على الجمع ولذا جمع ضمير أعناقهم (فتضربوا أعناقهم) أي أعناق بعضهم (ويضربوا) أي بعضهم (أعناقكم) أي كلكم أو بعضكم يعني خير لكم من بذل الأموال والأنفس في سبيل الله بأن تجاهدوا الكفار (قالوا بلى) أي أخبرنا، وفي رواية أحمد وابن ماجه قالوا: وما ذاك يا رسول الله! (قال ذكر الله) أي هو ذكركم له سبحانه وإطلاق الذكر يشمل القليل والكثير مع المداومة وعدمها. وفي الحديث دليل على أن الذكر أفضل عند الله تعالى من جميع الأعمال التي يعملها العبد وإنه أكثرها نماء وبركة وأرفعها درجة وفي هذا ترغيب عظيم، فإنه يدخل تحت الأعمال كل عمل يعمله العبد كائنا ما كان. قال السندي: أحاديث أفضل الأعمال مختلفة، وقد ذكر العلماء في توفيقها وجوها من جملتها أن الاختلاف بالنظر إلى اختلاف أحوال المخاطبين، فمنهم من يكون الأفضل له الاشتغال بعمل، ومنهم من يكون الأفضل له الاشتغال بأخر يعني فمن كان مطيقا للجهاد قوى الأثر فيه شجاعا باسلا يحصل به نفع الإسلام،فأفضل أعماله الجهاد، ومن كان كثير المال غنيا ينتفع الفقراء بماله فأفضل أعماله الصدقة، ومن كان غير متصف بأحد الصفتين المذكورتين فأفضل أعماله الذكر ونحوه. وقال الحافظ: المراد بذكر الله في حديث أبي الدرداء الذكر الكامل وهو ما يجتمع فيه ذكر اللسان والقلب بالتفكر في المعنى واستحضار عظمة الله تعالى، وإن الذي يحصل له ذلك يكون أفضل ممن يقاتل الكفار

(15/252)


مثلا من غير استحضار لذلك، وإن أفضلية الجهاد إنما هي بالنسبة إلى ذكر اللسان المجرد، فمن اتفق له أنه جمع ذلك كمن يذكر الله بلسانه وقلبه واستحضاره وكل ذلك حال صلاته أو في صيامه أو تصدقه أو قتاله الكفار مثلا فهو بلغ الغاية القصوى والعلم عند الله تعالى. وأجاب القاضي أبوبكر بن العربي بأنه ما من عمل صالح إلا والذكر مشترط في تصحيحه، فمن لم يذكر الله عند صدقته أو صيامه مثلا فليس عمله كاملا فصار الذكر أفضل الأعمال من هذه الحيثية، ويشير إلى ذلك حديث نية المؤمن أبلغ من عمله. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في قواعده: هذا الحديث يدل على أن الثواب لا يترتب على قدر النصب في جميع العبادات بل قد يأجر الله تعالى على قليل الأعمال أكثر مما يأجر على كثيرها فإذا الثواب يترتب على تفاوت الرتب في الشرف – انتهى. وقيل: لعل الخيرية والأرفعية في الذكر لأجل إن سائر العبادات من إنفاق الذهب والفضة ومن ملاقاة العدو، والمقاتلة معهم إنما هي وسائل ووسائط تتقرب العباد بها إلى الله تعالى. والذكر إنما هو المقصود الأسنى والمطلوب الأعلى كما قال الله تعالى
رواه مالك، وأحمد، والترمذي، وابن ماجه، إلا أن مالكا وقفه على أبي الدرداء.
2293- (11) وعن عبد الله بن بسر، قال: ((جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أي الناس خير؟ فقال: طوبى لمن طال عمره، وحسن عمله

(15/253)


?وأقم الصلاة لذكرى? [طه:14] وقال ?ولذكر الله أكبر? [العنكبوت: 45] فالذكر لب العبادات. وقال في حجة الله (ج2ص54) الأفضلية تختلف بالاعتبار ولا أفضل من الذكر باعتبار تطلع النفس إلى الجبروت ولا سيما في نفوس زكية لا تحتاج إلى الرياضات وإنما تحتاج إلى مداومة التوجه هذا. وقد بسط الغزالي الكلام في ذلك في آخر الباب الأول من كتاب الأذكار من إحياء العلوم فارجع إليه (رواه مالك) في أواخر الصلاة (وأحمد) (ج5ص195) موصولا ومنقطعا وفي (ج6ص447) منقطعا (والترمذي) في الدعوات (وابن ماجه) في فضل الذكر، وأخرجه أيضا الحاكم (ج1ص496) وابن أبي الدنيا والطبراني في الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان وابن شاهين في الترغيب في الذكر، وحسن إسناده المنذري والهيثمي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. (إلا أن مالكا وقفه) بالتخفيف (على أبي الدرداء) يعني والباقون رفعوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يضر لأن الحكم لمن وصل لا لمن وقف لأن مع الأول زيادة العلم بالوصل وزيادة الثقة مقبولة، ولأن هذا مما لا يقال من قبل الرأي فوقفه كرفع غيره قاله القاري. قلت: وفي سند الموطأ انقطاع أيضا فإنه رواه مالك عن زياد بن أبي زياد إنه قال قال أبوالدرداء: ألا أخبركم الخ ورواه أحمد (ج5ص195) والترمذي وابن ماجه وغيرهم من طريق زياد ابن أبي زياد عن أبي بحرية عن أبي الدرداء، وفي الباب عن معاذ بن جبل عند أحمد. قال المنذري: بإسناد جيد إلا أن فيه انقطاعا. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح إلا أن زياد بن أبي زياد لم يدرك معاذا وعن ابن عمر عند البيهقي في شعب الإيمان.

(15/254)


2293- قوله: (طوبى) فعلى من الطيب (لمن طال عمره) بضمتين على ما هو الأفصح الوارد في كلامه سبحانه، وفي القاموس العمر بالفتح وبالضم وبضمتين الحياة (وحسن عمله) قال الطيبي: إن الأوقات والساعات كرأس المال للتاجر فينبغي أن يتجر فيما يربح فيه وكلما كان رأس ماله كثيرا كان الربح أكثر فمن انتفع من عمره بأن حسن عمله فقد فاز وأفلح، ومن أضاع رأس ماله لم يربح وخسر خسرانا مبينا – انتهى. قال ابن حجر: طوبى فعلى من الطيب، والمراد بها الثناء عليه والدعاء له بطيب حاله في الدارين، وإلا ظهر أنه خبر لأنه في جواب أي الناس خير، ويمكن أن يكون المراد من طوبى الجنة أو شجرة في الجنة تعم أهلها وتشمل محلها. قال الطيبي: وكان من الظاهر أن يجاب من طال عمره وحسن عمله، فالجواب من الأسلوب الحكيم كأنه قال غير خاف إن خير الناس من طال عمره وحسن عمله بل الذي يهمك أن تدعوا له فتصيب من بركته – انتهى.
قال: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله)). رواه أحمد والترمذي.
2294- (12) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مررتم برياض الجنة

(15/255)


والأظهر أنه إخبار عن طيب حاله وحسن مآله فيكون متضمنا للجواب ببلاغة مقاله كذا في المرقاة. قلت: الرواية عند أحمد والترمذي بغير زيادة كلمة "طوبى" وكذا ذكرها الجزري بغير هذه الزيادة في جامع الأصول (ج12ص321) فالجواب في روايتهما على ما يقتضيه الظاهر (ولسانك) الواو للحالية (رطب) بفتح الراء وسكون الطاء أي قريب العهد أو متحرك طري (من ذكر الله) قال الطيبي: رطوبة اللسان عبارة عن سهولة جريانه كما أن يبسه عبارة عن ضده ثم إن جريان اللسان عبارة عن مداومة الذكر فكأنه قيل خير الأعمال مداومة الذكر، فهو من أسلوب قوله تعالى: ?ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون? [البقرة: 132] انتهى. وقيل: المقصود في الحديث الحث على الذكر القلبي والمداومة عليه، لكن لما كان الذكر اللساني دالا عليه ومنبئا عنه مثابا عليه اكتفى بذكره إقامة للدال مقام المدلول. وأما إذا اجتمعا فهو أولى وأحرى (رواه أحمد والترمذي) فيه نظر فإن بين السياق الذي ذكره المصنف ههنا تبعا للمصابيح وبين سياق أحمد والترمذي فرقا بينا، فإن الترمذي أخرج الفصل الأول فقط في باب ما جاء في طول العمر للمؤمن من كتاب الزهد بلفظ: إن أعرابيا قال يا رسول الله! من خير الناس قال من طال عمره وحسن عمله. وروى الفصل الثاني فقط بسنده الأول في فضل الذكر من الدعوات بالسياق الذي يأتي في الفصل الثالث من هذا الباب. وأما الإمام أحمد فروى الحديث بتمامه في موضعين الأول بلفظ: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرابيان فقال أحدهما من خير الرجال يا محمد: قال من طال عمره وحسن عمله، وقال الآخر: إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا فباب نتمسك به جامع قال لا يزال لسانك رطبا بذكر الله، والثاني بلفظ: جاء أعرابيان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما أي الناس خير؟ قال من طال عمره وحسن عمله. وقال الآخر يا رسول الله: إن شرائع الإسلام فذكر مثل السياق الآتي في الفصل الثالث، ونسب

(15/256)


هذا الحديث في تنقيح الرواة للبغوي في شرح السنة والله اعلم. والحديث قد حسنه الترمذي، وروى الجزء الأول أيضا الطبراني في الكبير وأبونعيم في الحلية كما في الجامع الصغير. وروى نحوه أحمد ورجاله رجال الصحيح وابن حبان في صحيحه والبيهقي عن أبي هريرة والترمذي وصححه، وأحمد والدارمي والطبراني والحاكم: والبيهقي عن أبي بكرة وأبويعلى بإسناد حسن عن أنس والحاكم عن جابر. وقال صحيح على شرط الشيخين، وأما الجزء الثاني فسيأتي تخريجه في الفصل الثالث.
2294- قوله: (إذا مررتم برياض الجنة) جمع روضة، وهي أرض مخضرة بأنواع النبات يقال لها
فارتعوا. قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر)). رواه الترمذي.
2295- (13) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قعد مقعدا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضجعا لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة

(15/257)


بالفارسية مرغزار أي بساتينها الموضوعة في الدنيا المورثة للجنات العالية في العقبى، والمراد بها مجالس الذكر ومواضعه فهو من باب تسمية الشيء باسم ما يؤل إليه أو بما يوصل إليه (فارتعوا) من رتع كمنع رتعا ورتوعا ورتاعا بالكسر، أكل وشرب ما شاء في خصب وسعة، أو هو الأكل والشرب رغدا أو في الريف أو بشره، وهو كناية عن أخذ الحظ الأوفر والنصيب الأوفى، يعني فافعلوا فيها ما يكون سببا لحصولها من الأذكار لما جاء أن الجنة قيعان وغراسها أذكاره تعالى (حلق الذكر) أي هي حلق الذكر. قال في النهاية: الحلق بكسر الحاء وفتح اللام جمع الحلقة (بفتح الحاء وسكون اللام مثل قصعة وقصع) وهي الجماعة من الناس مستديرون كحلقة الباب وغيره. وقال في جامع الأصول: الحلقة بسكون اللام الشيء المستدير كحلقة الخاتم ونحوها، والمراد به الجماعة من الناس يكونون كذلك. وقال الجوهري: جمع الحلقة حلق بفتح الحاء على غير قياس. وحكى عن أبي عمر وإن الواحد حلقة بالتحريك والجمع حلق بالحق بالفتح. وقال ثعلب كلهم يجيزه على ضعفه. شبه في هذا الحديث مجالس الذكر وفي حديث ابن عباس عند الطبراني مجالس العلم برياض الجنة، وشبه الاشتغال بالأذكار واكتساب العلم وهو علم الكتاب والسنة وما يتوصل به إليهما برتع الحيوانات في أنواع النبات بجامع النفع قيل: هذا الحديث مطلق في المكان والذكر فيحمل على المقيد المذكور في باب المساجد والذكر هو سبحان الله والحمد لله الخ ذكره الطيبي، والأظهر حمله على العموم وذكر الفرد الأكمل بالخصوص لا ينافي عموم المنصوص. وقد تقدم شيء من الكلام في هذا في شرح حديث أبي هريرة في باب المساجد فعليك أن تراجعه (رواه الترمذي) في الدعوات وحسنه وأخرجه أيضا أحمد والبيهقي في شعب الإيمان.

(15/258)


2295- قوله: (كانت) أي القعدة (عليه) أي على القاعد (من الله) أي من جهة أمره وحكمه (ترة) بكسر التاء وتخفيف الراء أي حسرة والموتور الذي قتل له قتيل ولم يدرك بدمه وكذلك وتره حقه أي نقصه وكلا الأمرين معقب للحسرة، ومنه قوله تعالى: ?لن يتركم أعمالكم? [محمد: 35] أي لن ينقصكم أعمالكم والهاء عوضا عن الواو المحذوفة مثل عدة. وقال الجزري: أصل الترة، النقص، ومعناها ههنا التبعة، يقال وترت الرجل ترة على وزن وعدته عدة. وقال النووي في الأذكار: معناه نقص وقيل: تبعه ويجوز أن يكون حسرة كما في الرواية الأخرى – انتهى. وهو منصوب على الخبرية وروى بالرفع على أن الكون تام (ومن اضطجع مضجعا لا يذكر الله فيه كانت) أي الاضطجاعة (من الله ترة) بالوجهين. قال الطيبي: كانت في الموضعين رويت على
رواه أبوداود.
2296- (14) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم حسرة)). رواه أحمد وأبوداود.

(15/259)


التأنيث في أبي داود وجامع الأصول وفي الحديثين اللذين يليانه على التذكير فيهما فعلى رواية التأنيث في كانت ورفع ترة ينبغي أن يؤول مرجع الضمير في كانت مؤنثا إلى القعدة أو الاضطجاعة فيكون ترة مبتدأ والجار والمجرور أي عليه خبر، والجملة خبر كانت. وأما على رواية التذكير ونصب ترة كما هو في المصابيح فظاهر والجار متعلق بترة ويؤيد هذه الرواية الأحاديث الآتية بعد – انتهى. قال القاري: ويمكن أن يقال تأنيث كان لتأنيث الخبر وقال الجزري: يجوز رفع ترة ونصبها على أنه اسم كان وخبرها. قال القاري: ثم المراد يذكر المكانين استيعاب الأمكنة كذكر الزمانين بكرة وعشيا لاستيعاب الأزمنة يعني من فتر ساعة من الأزمنة وفي مكان من الأمكنة وفي حال من الأحوال من قيام وقعود واضطجاع كان عليه حسرة وندامة، لأنه ضيع عظيم ثواب الذكر كما ورد ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرت بهم ولم يذكروا الله فيه – الحديث. (أخرجه الطبراني والبيهقي عن معاذ) ثم في الحديث أتى "بلم" في الجملة الأولى و"بلا" في الجملة الثانية تفننا – انتهى. (رواه أبوداود) في الأدب وسكت عنه. قال المنذري في الترغيب: رواه أحمد وابن أبي الدنيا والنسائي وابن حبان في صحيحه بنحوه وعزاه في تلخيص السنن إلى النسائي. وقال في إسناده محمد بن عجلان وفيه مقال.

(15/260)


2296- قوله: (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار) أي ملئها في النتن والقذارة وذلك لغفلتهم عن الذكر ولأن المجلس لا يخلو عادة عن لغو الكلام وسقطه وعن الكلام في إعراض الناس. قال الطيبي: أي ما يقومون قياما إلا هذا القيام وضمن قاموا معي تجاوزوا وبعدوا فعدي بعن يعني لا يوجد عنهم قيام عن مجلسهم إلا كقيام المتفرقين عن أكل الجيفة التي هي غاية في القذر والنتن والجيفة جثة الميت المنتنة. قال ابن الملك: وتخصيص جيفة الحمار بالذكر لأنه أدون الجيف من بين الحيوانات التي تخالطنا وفي هذا التشبيه غاية التنفير عن ترك ذكر الله تعالى في المجالس، وإنه مما ينبغي لكل أحد أن لا يجلس في مجلس الغفلة ولا يلابس أهله. وإن يفر عنه كما يفر عن جيفة الحمار، فإن كل عاقل يفر عنها ولا يقعد عندها (وكان) أي ذلك المجلس (عليهم حسرة) أي ندامة يوم القيامة بسبب تفريطهم في ذكر الله في ذلك المجلس وذلك لما يظهر لهم في موقف الحساب من أجور العامرين لمجالسهم بذكر الله تعالى فيتحسرون على كل لحظة من أعمارهم لم يذكروا الله فيها. وحسرة روى بالنصب على أنه خبر "كان" وبالرفع على أنه اسم "كان" أو على أن كان تامة أي وقع عليهم حسرة (رواه أحمد وأبوداود) في الأدب وسكت عنه هو والمنذري. وقال النووي في الأذكار: إسناده صحيح وأخرجه أيضا
2297- (15) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم، إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم)). رواه الترمذي.
2298- (16) وعن أم حبيبة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو ذكر الله)).
النسائي وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص143) والحاكم (ج1ص492) وقال حديث على شرط مسلم.

(15/261)


2297- قوله (ولم يصلوا على نبيهم) تخصيص بعد تعميم (إلا كان) أي ذلك المجلس (عليهم ترة فإن شاء عذبهم) أي بذنوبهم السابقة وتقصيراتهم اللاحقة. وقال الطيبي: دل على أن المراد بالترة التبعة قال وقوله "فإن شاء عذبهم" من باب التشديد والتغليظ ويحتمل أن يصدر من أهل المجلس ما يوجب العقوبة من حصائد ألسنتهم (وإن شاء غفر لهم)أي كرما منه وفضلا ورحمة، وفيه إيماء بأنهم إذا ذكروا الله لم يعذبهم حتما بل يغفر لهم جزما (رواه الترمذي) من طريق سفيان عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة، وقال حديث حسن. وقد روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه – انتهى. وأخرجه الحاكم (ج1ص496) من طريق عمارة بن غزية عن صالح. وقال حديث صحيح الإسناد وصالح ليس بالساقط، وتعقبه الذهبي فقال صالح ضعيف. وقال الترغيب بعد ذكر تحسين الترمذي: ورواه بهذا اللفظ ابن أبي الدنيا والبيهقي - انتهى. قلت: صالح مولى التوأمة صدوق اختلط بآخره لا بأس برواية القدماء عنه، ولقيه السفيانان بعد ما كبر وتغير وخرف كما في التهذيب والظاهر إن الترمذي حسنه لمتابعاته وشواهده، فقد ورد في كراهة القيام من المجلس قبل ذكر الله أحاديث ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10ص79، 80) من شاء الوقوف عليها رجع إليه.

(15/262)


2298- قوله: (كل كلام ابن آدم) كذا في جميع النسخ بزيادة كل وهكذا في المصابيح وجامع الأصول والترغيب، والذي في الترمذي وابن ماجه كلام ابن آدم أي بدون لفظ "كل" أو هكذا وقع في الوابل الصيب لابن القيم (عليه) أي ضرره ووباله عليه ولو كان مباحا، فإن أقله تطويل الحساب وقد يجر إلى المكروه أو المحرم فيصير سببا للعذاب، أو يورث الغفلة عن الذكر فيكون وسيلة إلى نقص الثواب. وقيل: معنى "عليه" أي يكتب عليه (لا له) أي ليس له نفع فيه أولا يكتب له ذكره تأكيدا (إلا أمر بمعروف) مما فيه نفع الغير من الأوامر الشرعية (أو نهي عن منكر) مما فيه موعظة الخلق من الأمور المنهية (أو ذكر الله) أي ما فيه رضا الله من الأذكار الإلهية. قال القاري: وظاهر الحديث أنه لا يظهر في الكلام نوع يباح للأنام اللهم إلا أن يحمل على المبالغة والتأكيد في الزجر عن القول الذي ليس بسديد وقد يقال إن قوله "لا له" تفسير لقوله "عليه" ولا شك أن
رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب.
2299- (17) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي)). رواه الترمذي.

(15/263)


المباح ليس له نفع في العقبى أو يقال التقدير كل كلام ابن آدم حسرة عليه لا منفعة له فيه إلا المذكورات وأمثالها، فيوافق بقية الأحاديث المذكورة وهو مقتبس من قوله تعالى: ?لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس? [النساء: 114] وبه يرتفع اضطراب الشراح في أمر المباح – انتهى كلام القاري. (رواه الترمذي) في الزهد (وابن ماجه) في الفتن كلاهما من طريق محمد بن يزيد بن خنيس المكي عن سعيد بن حسان عن أم صالح بنت صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبية (وقال الترمذي: هذا حديث غريب) وفي بعض نسخ الترمذي حسن غريب ونسبه المنذري في الترغيب لابن أبي الدنيا أيضا. وقال بعد ذكر كلام الترمذي: رواته ثقات وفي محمد بن يزيد كلام قريب لا يقدح وهو شيخ صالح – انتهى. قلت: وأم صالح بنت صالح. قال الحافظ في التقريب: إنها لا يعرف حالها.

(15/264)


2299- قوله: (لا تكثروا) بضم التاء من الإكثار كذا وقع في جميع النسخ بصيغة الجمع، وهكذا في المصابيح وجامع الأصول وكذا نقله المنذري في الترغيب وعلي المتقي في الكنز والنووي في الرياض والذي في نسخ الترمذي الموجودة عندنا لا تكثر بصيغة الإفراد (الكلام بغير ذكر الله) فيه إشارة إلى أن بعض الكلام مباح وهو ما يعينه (فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة) بفتح القاف وسكون السين أي سبب قساوة (للقلب) وهي النبو عن سماع الحق والميل إلى مخالطة الخلق وقلة الخشية وعدم الخشوع والبكاء وكثرة الغفلة عن دار البقاء (وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي) أي صاحبه أو التقدير أبعد قلوب الناس القلب القاسي أو أبعد الناس من له القلب القاسي. قال الطيبي: ويمكن أن يعبر بالقلب عن الشخص لأنه به كما قيل المرأ بأصغريه أي بقلبه ولسانه، فلا يحتاج إذا إلى حذف الموصول مع بعض الصلة قال تعالى: ?ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة? الآية [البقرة: 74] وقال عزوجل: ?ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم? [الحديد: 16] (رواه الترمذي) في الزهد وأخرجه أيضا البيهقي وابن شاهين في الترغيب كما في الكنز. وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن عبدالله بن حاطب (عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر) قال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: رواه الترمذي والبيهقي. وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
2300- (18) وعن ثوبان، قال: ((لما نزلت ?والذين يكنزون الذهب والفضة? كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره: فقال بعض أصحابه: نزلت في الذهب والفضة، لو علمنا أي المال خير فنتخذه؟ فقال أفضله لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه))

(15/265)


2300- قوله: (فقال بعض أصحابه نزلت في الذهب والفضة) أي ما نزلت أو نزلت هذه الآية في الذهب والفضة وعرفنا حكمها ومذمتهما (لو علمنا) لو للتمني (أي المال خير) مبتدأ وخبر والجملة سدت مسد المفعولين لعلمنا تعليقا (فنتخذه) منصوب بإضمار أن بعد الفاء جوابا للتمني واللفظ المذكور للترمذي. ولفظ أحمد (ج5ص278) فقال بعض أصحابه قد نزل في الذهب والفضة ما نزل فلو أنا علمنا أي المال خير اتخذناه. قيل: السؤال وإن كان عن تعيين المال ظاهرا لكنهم أرادوا ما ينتفع به عند تراكم الحوائج فلذلك أجاب عنه بما أجاب ففيه شائبة عن الجواب عن أسلوب الحكيم (فقال أفضله) أي أفضل المال أو أفضل ما يتخذه الإنسان قنية (لسان ذاكر) أي بتحميد الله تعالى وتقديسه وتسبيحه وتهليله والثناء عليه بجميع محامده وتلاوة القرآن (وقلب شاكر) أي على إنعامه وإحسانه (وزوجة مؤمنة) قال الطيبي: الضمير في أفضله راجع إلى المال على التأويل بالنافع أي لو علمنا أفضل الأشياء نفعا فنقتنيه ولهذا السر استثنى الله من أتى الله بقلب سليم من قوله : ?مال ولا بنون? [الشعراء: 88] والقلب إذا سلم من آفاته شكر الله تعالى، فسرى ذلك إلى لسانه فحمد الله وأثنى عليه، ولا يحصل ذلك إلا بفراغ القلب ومعاونة رفيق يعينه في طاعة الله – انتهى. ولهذا قال (تعينه على إيمانه) أي على دينه بأن تذكره الصلاة والصوم وغيرهما من العبادات وتمنعه من الزنا وسائر المحرمات قال السندي: عد المذكورات من المال المشاركتها للمال أي في ميل قلب المؤمن إليها وإنها أمور مطلوبة عنده، ثم عدها من أفضل الأموال لأن نفعها باق ونفع سائر الأموال زائل، وبالجملة فالجواب من أسلوب الحكيم للتنبيه على أن هم المؤمن ينبغي أن يتعلق بالآخرة فيسأل عما ينفعه، وإن أموال الدنيا كلها لا تخلو عن الشر – انتهى. قال القاري: ظاهر كلام الطيبي إن القلب مقدم على اللسان في نسخته فبنى عليه ما ذكر، وإلا فيقال إذا ذكر الله

(15/266)


بلسانه سرى ذلك إلى جنانه فشكر على إحسانه فقدر الله تعالى له مؤنسة تعينه على إيمانه – انتهى. قلت: وقع في رواية ابن ماجه وكذا في رواية لأحمد بتقديم القلب على اللسان ولفظهما عن ثوبان. قال: لما نزل في الفضة والذهب ما نزل. قالوا فأي المال نتخذ قال عمر أنا اعلم ذلك لكم قال فأوضع على بعير فأدركه وأنا في أثره فقال يا رسول الله! أي المال نتخذ قال ليتخذ أحدكم قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة مؤمنة تعينه على أمر الآخرة
رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه.
?الفصل الثالث?
2301- (19) عن أبي سعيد، قال: ((خرج معاوية على حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا غيره.
(رواه أحمد) (ج5ص278- 282) (والترمذي) في تفسير سورة التوبة واللفظ له (وابن ماجه) في أبواب النكاح كلهم من طريق سالم بن أبي الجعد عن ثوبان. قال الترمذي: حديث حسن سألت محمد بن إسماعيل فقلت له سالم بن أبي الجعد سمع من ثوبان فقال لا، قلت له ممن سمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال سمع من جابر بن عبد الله وأنس بن مالك. وذكر غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – انتهى. وقال الذهلي عن أحمد: لم يسمع سالم من ثوبان ولم يلقه وبينهما معدان بن أبي طلحة. وقال أبوحاتم: أدرك أبا أمامة ولم يدرك عمرو بن عبسة ولا أبا الدرداء ولا ثوبان كذا في تهذيب التهذيب (ج3ص432) قلت: والحديث يؤيده ما رواه الطبراني عن ابن عباس. قال المنذري بإسناد جيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أرب من أعطيهن فقد أعطى خير الدنيا والآخرة قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وبدنا على البلاء صابرا، وزوجة لا تبغيه حوبا في نفسها وماله.

(15/267)


2301- قوله: (خرج معاوية) بن أبي سفيان (على حلقة) بسكون اللام وتفتح أي جماعة متحلقة. قال في المجمع: الحلقة كالقصعة، وهي الجماعة من الناس مستديرون. وقال الجزري: قوله "حلقة" بسكون اللام الشيء المستدير كحلقة الخاتم ونحوها، والمراد به الجماعة من الناس يكونون كذلك (فقال ما أجلسكم) أي ما السبب الداعي إلى جلوسكم على هذه الهيئة ههنا وهو استفهام (قال آلله) بالمد والجر. قال السيد جمال الدين: قيل الصواب بالجر لقول المحقق الشريف في حاشيته همزة الاستفهام وقعت بدلا عن حرف القسم ويجب الجر معها – انتهى. وكذا صحح في أهل سماعنا من المشكاة ومن صحيح مسلم. ووقع في بعض نسخ المشكاة بالنصب – انتهى. وقال الطيبي: قيل آلله بالنصب أي أتقسمون بالله؟ فحذف الجار وأوصل الفعل ثم حذف الفعل كذا في المرقاة. وقال في اللمعات: قد يحذف حرف القسم فينصب بالإيصال وقد يجر نحو الله لأفعلن كذا ثم أدخلت حرف الاستفهام فمد. وقيل: حرف الاستفهام صار بدلا من حرف القسم فيجر بها، ويرده جواز النصب بل هو الغالب والجر شاذ، وإدخال حرف الاستفهام في الجواب بطريق المشاكلة – انتهى. (قالوا آلله) تقديره أي أو نعم نقسم بالله (ما أجلسنا غيره) فوقع الهمزة موقعها مشاكلة وتقريرا لذلك كما قرره الطيبي، وفي نسخ
قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثا مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: ما أجلسكم ههنا؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومن به علينا. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك. قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه آتاني جبرئيل فأخبرني أن الله عزوجل يباهي بكم الملائكة)).

(15/268)


مسلم الموجودة عندنا قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، وهكذا وقع في بعض نسخ الترمذي: (قال) أي معاوية (أما) بالتخفيف للتنبيه (إني) بكسر الهمزة (لم أستحلفكم تهمة لكم) بضم أوله وسكون الهاء وتفتح. قال في النهاية: التهمة وقد تفتح الهاء فعلة من الوهم، والتاء بدل من الواو أتهمته ظننت فيه ما نسب إليه أي ما أستحلفكم تهمة لكم بالكذب ولكني أردت المتابعة والمشابهة فيما وقع له صلى الله عليه وسلم مع الصحابة، وقدم بيان قربه منه عليه الصلاة والسلام وقلة نقله من أحاديثه دفعا لتهمة الكذب عن نفسه فيما ينقله فقال. (وما كان أحد بمنزلتي) أي بمنزلة قربي (من رسول الله صلى الله عليه وسلم) لكونه محرما لأم حبيبة أخته من أمهات المؤمنين ولكونه من إجلاء كتبة الوحي (أقل) خبر كان (عنه) أي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا مني) أي لاحتياطي في الحديث وإلا كان مقتضى منزلته أن يكون كثير الرواية (ومن) فعل ماض من المن من باب نصر أي أنعم (به) أي بالإسلام (علينا) أي من بين الأنام كما حكى الله تعالى عن مقول أهل دار السلام ?الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله? [الأعراف: 43] (قال آلله ما أجلسكم إلا ذلك) لعله أراد به الإخلاص (قال أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم) لأنه خلاف حسن الظن بالمؤمنين (ولكنه) أي الشأن (إن الله عزوجل يباهي بكم الملائكة) أي فأردت أن أحقق بماذا كانت المباهاة فللاهتمام بتحقيق ذلك الأمر الإشعار بتعظيمه أستحلفكم. قال النووي: قوله "إن الله يباهي بكم الملائكة" معناه يظهر فضلكم لهم ويريهم حسن عملكم ويثنى عليكم عندهم، وأصل البهاء الحسن والجمال، وفلان يباهي بماله وأهله أي يفتخر ويتجمل بهم على غيرهم ويظهر حسنهم – انتهى. وقيل: معنى المباهاة بهم إن الله تعالى يقول لملائكته أنظروا إلى عبيدي هؤلاء كيف سلطت عليهم نفوسهم وشهواتهم وأهويتهم والشيطان وجنوده ومع ذلك قويت همتهم على مخالفة

(15/269)


هذه الدواعي القوية إلى البطالة وترك العبادة والذكر فاستحقوا أن يمدحوا أكثر منكم، لأنكم لا تجدون للعبادة مشقة بوجه، وإنما هي منكم كالتنفس منهم ففيها غاية الراحة والملائمة للنفس. قال الطيبي: أي فأردت أن أتحقق
رواه مسلم.
2302- (20) وعن عبدالله بن بسر، أن رجلا قال: ((يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأخبرني بشي أتشبث به. قال: لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله)).
ما هو السبب في ذلك فالتحليف لمزيد التقرير والتأكيد لا التهمة، كما هو الأصل في وضع التحليف فإن من لا يتهم لا يحلف. قال ابن القيم: هذه المباهاة من الله تعالى دليل على شرف الذكر عند الله ومحبته له وإن له مزية على غيره من الأعمال (رواه مسلم) في الدعوات وأخرجه أيضا أحمد (ج4ص92) والترمذي في الدعوات وأخرج النسائي في آخر القضاء المسند منه فقط ونسبه في الكنز لابن حبان أيضا.

(15/270)


2302- قوله: (إن رجلا) هذا لفظ الترمذي ولابن ماجه إن أعرابيا (إن شرائع الإسلام) قال الطيبي: الشريعة مورد الإبل على الماء الجاري والمراد ما شرع الله وأظهره لعباده من الفرائض والسنن – انتهى. قال القاري: والظاهر إن المراد بها ههنا النوافل لقوله (قد كثرت علي) بضم المثلثة ويفتح أي غلبت علي بالكثرة حتى عجزت عنها لضعفي (فأخبرني بشي) قال الطيبي: التنكير في بشي للقليل المتضمن لمعنى التعظيم كقوله تعالى: ?ورضوان من الله أكبر? [التوبة: 72] ومعناه أخبرني بشي يسير مستجلب لثواب كثير – انتهى. (أتشبث به) بتشديد الموحدة أي أتعلق به واعتصم واستمسك وهذا لفظ الترمذي، ولابن ماجه فأنبئني منها بشي أتشبث به قال السندي: أي ليسهل علي أدائها أو ليحصل به فضل ما فات منها من غير الفرائض ولم يرد الاكتفاء به عن الفرائض والواجبات والله اعلم – انتهى. وقال الطيبي: لم يرد أنه يترك ذلك رأسا ويشتغل بغيره فحسب. وإنما أراد إنه بعد أداء ما افترض عليه يتشبث بما يستغني به عن سائر ما لم يفترض عليه (قال لا يزال) أي هو إنه لا يزال (لسانك رطبا من ذكر الله) أي طريا مشتغلا قريب العهد منه وهو كناية عن المداومة على الذكر. قال ابن القيم في الوابل الصيب: الفائدة السابعة والخمسون للذكر أن أدامته تنوب عن التطوعات وتقوم مقامها سواء كانت بدنية أو مالية كحج التطوع، وقد جاء ذلك صريحا في حديث أبي هريرة إن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ولهم فضل أموالهم يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون. فقال: ألا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم. قالوا: بلى يا رسول الله! قال تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة – الحديث متفق عليه. فجعل الذكر عوضا لهم عما فاتهم من الحج

(15/271)


والعمرة والجهاد وأخبر أنهم يسبقونهم بهذا الذكر، فلما سمع أهل الدثور بذلك عملوا به فازدادوا إلى صدقاتهم وعبادتهم بمالهم التعبد بهذا الذكر فحازوا الفضيلتين فنفسهم الفقراء وأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم
رواه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
2303- (21) وعن أبي سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل: ((أي العباد أفضل وأرفع درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات. قيل: يا رسول الله!

(15/272)


قد شاركوهم في ذلك وانفردوا عنهم بما لا قدرة لهم عليه، فقال: ?ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء? [الجمعة: 4] وفي حديث عبدالله بن بسر قال جاء أعرابي فقال: يا رسول الله! كثرت علي خلال الإسلام وشرائعه فأخبرني بأمر جامع يكفيني. قال: عليك بذكر الله تعالى قال: ويكفيني يا رسول الله قال نعم ويفضل عنك. فدله الناصح - صلى الله عليه وسلم - على شيء يبعثه على شرائع الإسلام والحرص والاستكثار منها، فإنه إذا اتخذ ذكر الله تعالى شعاره أحبه وأحب ما يحب فلا شيء أحب إليه من التقرب بشرائع الإسلام، فدله - صلى الله عليه وسلم - على ما يتمكن به من شرائع الإسلام وتسهل به عليه وهو ذكر الله عزوجل (رواه الترمذي) في الدعوات واللفظ له (وابن ماجه) في فضل الذكر وأخرجه أيضا أحمد (ج4ص188، 190) والحاكم (ج1ص195) وابن حبان وابن أبي شيبة. والحديث حسنه الترمذي وصححه الحاكم والذهبي. قال الحافظ: وأخرج ابن حبان نحوه أيضا من حديث معاذ بن جبل، وفيه أنه السائل عن ذلك. وحديث عبدالله بن بسر عزاه الجزري في جامع الأصول (ج5ص241) للترمذي فقط وذكره بلفظ: إن رجلا قال: يا رسول الله! إن أبواب الخير كثيرة ولا أستطيع القيام بكلها فأخبرني بشي أتشبث به ولا تكثر علي فأنسى قال، وفي رواية إن شرائع الإسلام قد كثرت وأنا قد كبرت فأخبرني بشي أتشبث به ولا تكثر علي فأنسى، قال لا يزال لسانك رطبا بذكر الله تعالى – انتهى. ولم أجد هذا السياق في جامع الترمذي.

(15/273)


2303- قوله: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل أي العباد أفضل) وفي مسند الإمام أحمد إن أبا سعيد هو السائل عن ذلك (وأرفع) ليس هذا اللفظ في المسند ولا في نسخ الترمذي الموجودة عندنا، نعم ذكره الجزري في جامع الأصول وابن القيم في الوابل الصيب، ونسبا الحديث للترمذي. (قال الذاكرون الله كثيرا) قيل: المراد بهم المداومون على ذكره ومكره، والقائمون بالطاعة المواظبون على شكره. وقيل: المراد بهم الذين يأتون بالأذكار الواردة في جميع الأحوال والأوقات (والذاكرات) أي الله كثيرا. قال القاري: وفي بعض النسخ أي من المشكاة والذاكرات غير موجودة – انتهى. قلت: وسقوطها هو الصواب فإنها ليست عند أحمد ولا الترمذي ولم يذكرها أحد ممن عزا الحديث للترمذي كالنووي في الأذكار والمنذري في الترغيب والجزري في جامع الأصول والسيوطي في الجامع الصغير وابن القيم في الوابل الصيب وعلي المتقي في الكنز والشوكاني في تحفة الذاكرين. ولم يذكرهن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع إرادتهن تغليبا للمذكر على المؤنث (قيل يا رسول الله) وفي المسند قال قلت: …
ومن الغازي في سبيل الله؟ قال: لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما، فإن الذاكر لله أفضل منه درجة)). رواه أحمد والترمذي. وقال: هذا حديث حسن غريب.
2304- (22) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس، وإذا غفل وسوس)).

(15/274)


يا رسول الله! (ومن الغازي في سبيل الله) أي الذاكرون أفضل من غيرهم، ومن الغازي أيضا قالوا ذلك تعجبا (قال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جوابه (لو ضرب) أي الغازي (بسيفه في الكفار) هذا من قبيل يجرح في عراقيبها نصلي حيث جعل المفعول به مفعولا فيه مبالغة أن يوجد فيهم الضرب ويجعلهم مكانا للضرب بالسيف، لأن جعلهم مكانا للضرب أبلغ من جعلهم مضروبين به فقط (والمشركين) تخصيص بعد تعميم اهتماما بشأنهم فإنهم ضد الموحدين (حتى ينكسر) أي سيفه (ويختضب) أي هو أو سيفه (دما) وهو كناية عن الشهادة (فإن الذاكر لله) وفي المسند، والترمذي لكان الذاكرون الله (أفضل منه) أي من الغازي (درجة) تحتمل الوحدة أي بدرجة واحد عظيمة وتحتمل الجنس أي بدرجات متعددة (رواه أحمد) (ج3ص78) (الترمذي) في الدعوات ونسبه في الكنز لأبي يعلى وابن شاهين أيضا. قال المنذري: ورواه البيهقي مختصرا قال قيل يا رسول الله! أي الناس أعظم درجة قال الذاكرون الله (وقال) أي الترمذي (هذا حديث حسن غريب) كذا في بعض النسخ بزيادة لفظ حسن، وفي بعضها هذا حديث غريب، أي بحذف لفظ حسن كما في جامع الترمذي والترغيب والكنز، وفي سنده ابن لهيعة وفيه كلام معروف عن دراج عن أبي الهيثم. قال في التقريب في ترجمة دراج: أنه صدوق وفي حديثه عن أبي الهيثم ضعف.

(15/275)


2304- قوله: (الشيطان جاثم) بجيم ومثلثة أي لازم الجلوس ودائم اللصوق من جثم الرجل أو الطائر أو الحيوان بجثم جثما وجثوما أي تلبد بالأرض ولزمها والتصق بها على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله) أي ابن آدم بقلبه أو ذكر قلبه الله (خنس) من باب ضرب ونصر أي انقبض الشيطان وتأخر وتنحى عنه، ولكثرة هذا الوصف فيه سمي الخناس في سورة الناس. قال الجزري: الخنوس التأخر والانقباض (وإذا غفل) بمعجمة وفاء أي هو أو قلبه عن ذكر الله (وسوس) أي إليه الشيطان وتمكن تمكنا تاما منه، وفيه إيماء إلى أن الغفلة سبب الوسوسة لا العكس، ووقع في حديث الحارث الأشعري عند أحمد والترمذي وأمركم أن تذكروا الله تعالى فإن مثل ذلك مثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى إذا أتى إلى حصن حصين فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله – انتهى. قال ابن القيم: لو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقا
رواه البخاري تعليقا.
2305- (23) وعن مالك، قال: ((بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ذاكر الله في الغافلين كالمقاتل خلف الفارين،

(15/276)


بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى وأن لا يزال لهجا بذكره فإنه لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر ولا يدخل عليه العدو، إلا من باب الغفلة فهو يرصده، فإذا غفل وثب عليه وافترسه، وإذا ذكر الله تعالى انخنس عدو الله تعالى وتصاغر وانقمع حتى يكون كالوصع وكالذباب ولهذا سمي الوسواس الخناس أي يوسوس في الصدور، فإذا ذكر الله خنس أي كف وانقبض، ثم ذكر عن عباس مثل حديث الباب موقوفا عليه. (رواه البخاري تعليقا) أي بلا ذكر سند قلت في عزو هذا السياق المرفوع للبخاري نظر فإنه ذكر في تفسير سورة الناس معناه عن ابن عباس موقوفا عليه من قوله لا مرفوعا حيث قال: ويذكر عن ابن عباس الوسواس إذا ولد خنسه الشيطان (أي أخره وأزاله عن مكانه لشدة نخسه وطعنه بإصبعه) فإذا ذكر الله ذهب وإذا لم يذكر الله ثبت على قلبه. قال الحافظ: إسناده إلى ابن عباس ضعيف، أخرجه الطبري والحاكم (ج2ص541) وفي إسناده حكيم بن جبير وهو ضعيف، ولفظه ما من مولود إلا على قلبه الوسواس فإن ذكر الله خنس وإن غفل وسوس، وهو قوله تعالى: ?الوسواس الخناس? [الناس: 4] قلت: قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي وعزاه الشوكاني في الفتح القدير لابن المنذر وابن مردوية والضياء والبيهقي أيضا، وأخرجه سعيد بن منصور من وجه آخر عن ابن عباس بلفظ: يولد الإنسان والشيطان جاثم على قلبه، فإذا عقل وذكر اسم الله خنس وإذا غفل وسوس. وأخرجه ابن مردوية من وجه آخر عن ابن عباس. قال: الوسواس هو الشيطان يولد المولود، والوسواس على قلبه فهو يصرفه حيث شاء فإذا ذكر الله خنس، وإذا غفل جثم على قلبه فوسوس ولأبي يعلى والبيهقي في الشعب وابن أبي الدنيا والحكيم الترمذي في النوارد من حديث أنس مرفوعا. قال: إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإن ذكر الله خنس وإن نسي التقم قلبه فذلك الوسواس الخناس قال الحافظ: إسناده ضعيف. وقال الهيثمي: فيه عدي بن عمارة وهو

(15/277)


ضعيف. ولسعيد بن منصور من طريق عروة بن رويم. قال: سأل عيسى عليه السلام ربه أن يريه موضع الشيطان من بني آدم فأراه فإذا رأسه مثل رأس الحية واضع رأسه على ثمرة القلب فإذا ذكر العبد ربه خنس وإذا ترك مناه حدثه.
2305- قوله: (وعن مالك قال بلغني) تقدم الكلام في بلاغات مالك المذكورة في الموطأ، وهذا البلاغ قد وصله أبونعيم وغيره كما سيأتي (ذاكر الله في الغافلين) أي عن الذكر (كالمقاتل)أي للكفار (خلف الفارين) بتشديد الراء أي المنهزمين الفارين من الزحف إذا التحم الحرب في قتال الكفار، وفي حديث ابن عمر عند أبي نعيم
وذاكر الله في الغافلين كغصن أخضر في شجر يابس. وفي رواية: مثل الشجرة الخضراء في وسط الشجر، وذاكر الله في الغافلين مثل مصباح في بيت مظلم، وذاكر الله في الغافلين يريه الله مقعده من الجنة وهو حي وذاكر الله في الغافلين يغفر له بعدد كل فصيح وأعجم. والفصيح: بنوآدم، والأعجم: البهائم)).

(15/278)


وغيره كالمقاتل عن الفارين شبه الذاكر الذي يذكر بين جمع لم يذكروا بالمجاهد الذي يقاتل بعد فرار أصحابه في كون كل منهما قاهرا للعدو، فالذاكر قاهر الشيطان وقامع لجنوده المسلطة على القلب كما أن القاتل الصابر قاهر وقامع لجنود الكفار ففيه تشبيه المعقول بالمحسوس (وذاكر الله) كرره لينيط به في كل مرة غير ما أناط به في الأخرى إعلاما بأنه أمر عظيم له فوائد متعددة مستقلة (في الغافلين) أي فيما بينهم فالجار ظرف أي بينهم أو محله الرفع على أنه صفة والتقدير الذاكر الكائن في الغافلين (كغصن أخضر في شجر يابس) قال القاري: أي بجنب الأشجار اليابسة (وفي رواية) هذه هي رواية ابن عمر عند أبي نعيم وغيره (مثل الشجرة الخضراء في وسط الشجر) بفتح السين المهملة ويسكن أي الشجر اليابس، زاد في حديث ابن عمر الذي قد تحات من الصريد أي تساقط من شدة البرد فقد تهيأت حينئذ للحرق بالنار فكذا الغافل عن ذكر الله متهيئ للمؤاخذة والعذاب فشبه فيه الذاكر بغصن أخضر مثمر أو شجرة خضراء مثمرة. والغافل بيابس تهيأ للحرق (وذاكر الله في الغافلين مثل مصباح في بيت مظلم) فإن الذكر نور وسرور والغفلة ظلمة وغيبة. قال الطيبي: شبه الذاكر الذي يذكر الله بين جماعة لم يذكروا بالمجاهد الذي يقاتل الكفار بعد فرار أصحابه منهم، فالذاكر قاهر لجند الشيطان وهازم له، والغافل مقهور منهزم منه. ثم شبه بالغصن الأخضر الذي يعد للأثمار، والغافل باليابس الذي يهيأ للإحراق. ثم شبه ثالثا بالمصباح في مجرد كونه مضيئا في نفسه، والغافل في البيت المظلم في مجرد الظلمة (يريه الله) وفي حديث ابن عمر يعرفه الله بضم أوله وشدة الراء المكسورة (مقعده) أي وما أعد له (من الجنة وهو حي) جملة حالية وليست هذه الجملة في حديث ابن عمر. قال العزيزي: يحتمل أن يكون ذلك في النوم. وقال القاري: لعل الإراءة بالمكاشفة أو بنزول الملائكة عند النزع لقوله تعالى: ?إن الذين قالوا ربنا الله ثم

(15/279)


استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون? [فصلت: 30] (يغفر له) أي ذنوبه (بعدد كل فصيح وأعجم) المراد بالأعجم هنا كل دابة لا نطق لها، وفي رواية للبيهقي من حديث ابن عمر وذاكر الله في الغافلين من الأجر بعدد كل فصيح وأعجم، وذاكر الله في الغافلين ينظر الله إليه نظرة لا يعذبه أبدا، وذاكر الله في السوق له بكل شعرة
رواه رزين.
2306- (24) وعن معاذ بن جبل، قال: ((ما عمل العبد عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله)).
نور يوم يلقى الله (رواه رزين) قال في التنقيح: الحديث ذكره رزين في جامعه ولا يوجد في شيء من أصوله الستة يعني صحيحي البخاري ومسلم والموطأ لمالك وجامع أبي عيسى الترمذي وسنن أبي داود السجستاني وسنن أبي عبد الرحمن النسائي، وهذا يدل على خطأ ما وقع في نسخة جامع الأصول المطبوعة بمصر سنة 1368 من عزو هذا الحديث لموطأ الإمام مالك، فقد رقم في أوله ط علامة لإخراج مالك له في موطأه. وقال في آخره أخرجه الموطأ هذا وذكره علي المتقي في الكنز (ج1ص386) من حديث ابن عمر، ونسبه لأبي نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب وابن صهري في أماليه وابن شاهين في الترغيب وابن النجار. قال وقال ابن شاهين: هذا حديث صحيح الإسناد حسن المتن غريب الألفاظ – انتهى. وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين بعد عزوه لأبي نعيم والبيهقي: وفي إسناده عمران بن مسلم القصير. قال البخاري: منكر الحديث. وقال الحافظ العراقي: سنده ضعيف، ولعله يشير إلى كون في إسناده هذا الرجل – انتهى. ورواه الطبراني في الكبير والأوسط والبزار عن ابن مسعود مختصرا ذاكر الله في الغافلين بمنزلة الصابر في الفارين. قال الهيثمي: (ج9ص80) رجال الأوسط وثقوا. وقال العزيزي قال الشيخ: حديث صحيح.

(15/280)


2306- قوله: (ما عمل العبد عملا) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا وقع في جامع الأصول (ج5ص244) عزوا للموطأ فقط، والذي جاء في نسخ الموطأ الموجودة ما عمل ابن آدم من عمل، وهكذا ذكر في جامع الأصول (ج10ص315) وقال في آخر الحديث أخرجه الموطأ والترمذي، وللترمذي ما شيء أنجى، ولابن ماجه ما عمل امرؤا بعمل ورواه أحمد (ج5ص239) بلفظ: ما عمل آدمي عملا قط، والحاكم بلفظ: ما عمل آدمي من عمل، وما في "ما عمل" نافية "وعملا" مفعول مطلق أو مفعول به على أن عمل بمعنى كسب أي فعل عملا من أعمال البر ويؤيد هذا ما وقع في رواية من عمل (أنجى له) قال في الحرز الثمين أفعل تفضيل من الإنجاء لا من النجاة، لأن النجاة من الخلاص والمعنى هنا على التلخيص وهو معنى الانجاء وبناء أفعل التفضيل على هذا الوزن من باب الإفعال قياس عند سيبويه، ويؤيده كثرة السماع كقولهم هو أعطاهم للدينار وأنت أكرم لي من فلان وهو عند غيره سماع مع كثرته. ونقل عن المبرد والأخفش جواز بنا أفعل التفضيل من جميع المزيد فيه كأفعل واستفعل وغيرهما كذا أفاده الشيخ الرضى – انتهى. (من عذاب الله من ذكر الله) من الأولى صلة أنجى والثانية تفضيلية أي فجميع أعمال الخير تنجي من عذاب الله، لكن الذكر أعظم إنجاء من غيره بأي صيغة كان من صيغ الذكر وهذا لأن سائر العبادات وسائل ووسائط يتقرب بها إلى الله تعالى والذكر هو المقصود الأسنى والمطلوب الأعلى. …
رواه مالك، والترمذي، وابن ماجه.
2307- (25) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى يقول: أنا مع عبدي

(15/281)


قال ابن عبد البر: فضائل الذكر كثيرة لا يحيط بها كتاب وحسبك بقوله تعالى: ?إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر? [العنكبوت: 45] – انتهى. وزاد في رواية الطبراني في الكبير وابن أبي شيبة في المصنف. قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع قاله ثلاث مرات. (رواه مالك) في باب ما جاء في ذكر الله من كتاب الصلاة (والترمذي وابن ماجه) في فضل الذكر من الدعوات وكذا الحاكم (ج1ص496) ومثله لا يقال من قبل الرأي فهو في حكم المرفوع قاله القاري. قلت: روي أحمد (ج5ص239) وابن أبي شيبة والطبراني في الكبير وابن عبد البر والبيهقي قول معاذ هذا مرفوعا. قال المنذري في الترغيب: رواه أحمد بإسناد جيد إلا أن فيه انقطاعا. وقال الهيثمي (ج10ص73) بعد أن عزاه لأحمد: رجاله رجال الصحيح إلا أن زياد بن أبي زياد مولى ابن عياش لم يدرك معاذا – انتهى. قلت يدل على ذلك رواية أحمد حيث وقع فيها "عن زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة أنه بلغه عن معاذ بن جبل أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ والحديث ذكره الحافظ في بلوغ المرام. وقال أخرجه ابن أبي شيبة والطبراني بإسناد حسن، وفي الباب عن جابر عند الطبراني في الأوسط والصغير. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.

(15/282)


2307- قوله: (إن الله تعالى يقول أنا مع عبدي) أي عونا ونصرا وتأييدا وتوفيقا فهذه معية خاصة تفيد عظمة ذكره تعالى وإنه مع ذاكره برحمته ولطفه وإعانته والرضا بحاله وتحصيل مرامه. قال ابن القيم: الفائدة الثانية والأربعون للذكر أن الذاكر قريب من مذكوره ومذكوره معه، وهذه المعية معية خاصة غير معية العلم والإحاطة العامة فهي معية بالقرب والولاية والمحبة والنصرة والتوفيق كقوله تعالى: ?إن الله مع الذين اتقوا والله مع الصابرين? [البقرة: 249] ?وإن الله لمع المحسنين? [العنكبوت: 69] ?لا تحزن إن الله معنا? [التوبة: 40] وللذاكر من هذه المعية نصيب وافر كما في الحديث الإلهي أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه وأثر آخر أهل ذكرى أهل مجالستي الخ. والمعية الحاصلة للذاكر معية لا يشبهها شيء وهي أخص من المعية الحاصلة للمحسن والمتقي وهي معية لا تدركها العبارة ولا تنالها الصفة وإنما تعلم بالذوق وهي مزلة أقدام إن لم يصحب العبد فيها تمييز بين القديم والمحدث، بين الرب والعبد، بين الخالق والمخلوق، بين العابد والمعبود، وإلا وقع في حلول يضاهيء به النصارى أو اتحاد يضاهيء به القائلين بوحدة الوجود تعالى الله عما يقول الظالمون
إذا ذكرني، وتحركت بي شفتاه)). رواه البخاري.
2308- (26) وعن عبدالله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول: ((لكل شيء صقالة، وصقالة القلوب ذكر الله،

(15/283)


والجاحدون علوا كبيرا (إذا ذكرني) في سنن ابن ماجه "إذا هو ذكرني" وفي الكنز وبلوغ المرام والوابل الصيب "ما ذكرني" (وتحركت بي) أي بذكري (شفتاه) قال الطيبي: فيه من المبالغة ما ليس في قوله إذا ذكرني باللسان هذا إذا كان الواو للحال. وأما إذا كان للعطف فيحتمل الجمع بين الذكر باللسان والقلب، وهذا التأويل أولى لأن المؤثر النافع هو الذكر باللسان مع حضور القلب، وأما الذكر باللسان والقلب لاه فهو قليل الجدوى (رواه البخاري) تعليقا الحديث ذكر الحافظ في بلوغ المرام. وقال: أخرجه ابن ماجه وصححه ابن حبان وذكره البخاري تعليقا – انتهى. وفيه نظر، فإن الحديث بهذا السياق ليس في نسخ البخاري الموجودة عندنا لا مسندا ولا معلقا وليس هو في جامع الأصول أيضا ولم ينسبه أحد إلى البخاري نعم هو في البخاري (في كتاب التوحيد) بلفظ: يقول الله أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي الخ. وقد تقدم في الفصل الأول من هذا الباب والحديث ذكره المنذري في الترغيب. وقال رواه ابن ماجه واللفظ له وابن حبان في صحيحه وعزاه في الكنز (ج1ص733) لأحمد وابن ماجه والحاكم وابن عساكر. قلت: أخرجه الحاكم (ج1ص496) من حديث أبي الدرداء وقال حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وفي إسناده عند ابن ماجه محمد بن مصعب القرقساني. قال في الزوائد: قال فيه صالح بن محمد هو ضعيف في الأوزاعي، لكن رواه ابن حبان في صحيحه من طريق أيوب بن سويد عن الأوزاعي أيضا، وأيوب بن سويد ضعيف – انتهى. قلت قال أحمد: حديث القرقساني عن الأوزاعي مقارب. وقال الحاكم: أبوأحمد روى عن الأوزاعي أحاديث منكرة وليس بالقوي عندهم. وقال الحافظ في التقريب: هو صدوق كثير الغلط.

(15/284)


2308- قوله: (لكل شي) أي مما يصدأ حقيقة أو مجازا (صقالة) بكسر الصاد أي انجلاء. وقيل: أي تجلية وتصفية. قال في المصباح: صقلت السيف ونحوه صقلا من باب قتل وصقالا أيضا بالكسر جلوته (وصقالة القلوب ذكر الله) قال الطيبي: صدء القلوب الرين في قوله تعالى: ?كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون? [المطففين: 14] بمتابعة الهوى المعنى بها في قوله تعالى: ?أفرأيت من اتخذ إلهه هواه? [الجاثية: 23] فكلمة "لا إله" تخليها وكلمة "إلا الله" تجليها والله اعلم. وقال ابن القيم تحت هذا الحديث: لا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرهما وجلاءه بالذكر فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرأة البيضاء فإذا ترك صدأ فإذا ذكر جلاه. وصدأ القلب بأمرين بالغفلة والذنب، وجلاءه بشيئين بالاستغفار والذكر فمن كانت الغفلة أغلب
وما من شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله. قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع)). رواه البيهقي في الدعوات الكبير.

(15/285)


أوقاته كان الصدأ متراكبا على قلبه، وصدأه بحسب غفلته، وإذا صدىء لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه، فيرى الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل، لأنه لما تراكم عليه الصدأ أظلم فلم تظهر فيه صور الحقائق كما هي عليه. فإذا تراكم عليه صدأ وأسود وركبه الران فسد تصوره وإدراكه فلا يقبل حقا ولا ينكر باطلا، وهذا أعظم عقوبات القلب. وأصل ذلك من الغفلة واتباع الهوى فإنهما يطمسان نور القلب ويعميان بصره – انتهى. وقال بعض العارفين: إن كان القلب صافيا مجليا من كل كدر ارتسمت فيه صور المعارف والعلوم وكان محلا لكل خير وإلا بأن كان ملوثا مدنسا بالمعاصي لم يقبل شيئا من ذلك كالمرأة التي ركبها الصدأ (وما من شيء أنجى) أي له (من عذاب الله) قال المناوي: كذا في كثير من النسخ أي من الجامع الصغير لكن رأيت نسخة المؤلف يعني السيوطي بخطه من عذاب بالتنوين (قالوا ولا الجهاد) بالرفع (قال ولا الجهاد في سبيل الله) يعني الجهاد المجرد عن ذكر الله تعالى (قال: ولا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع) أي هو أو سيفه وقوله "ولا أن يضرب" هكذا في جميع النسخ من المشكاة، وذكر المنذري في الترغيب وابن القيم في الوابل الصيب بلفظ: ولو أن يضرب، والسيوطي في الجامع الصغير وعلي المتقي في الكنز بلفظ: ولو أن تضرب بسيفك (رواه البيهقي في الدعوات الكبير) قال المنذري: رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي من رواية سعيد بن سنان واللفظ له. وقال العزيزي قال الشيخ: حديث صحيح.
(2) باب أسماء الله تعالى

(15/286)


(كتاب أسماء الله تعالى) قال الله عزوجل ?ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسماءه? [الأعراف: 180] قال البغوي في المعالم التنزيل: الإلحاد في أسماءه تسمية بما لا ينطق به كتاب ولا سنة. وقيل: الإلحاد في أسماءه يكون على ثلاثة أوجه إما بالتغيير كما فعله المشركون فإنهم أخذوا اسم اللات من الله والعزى من العزيز ومناة من المنان، أو بالزيادة عليها بأن يخترعوا أسماء من عندهم لم يأذن الله بها، أو بالنقصان منها بأن يدعوه ببعضها دون بعض – انتهى. وقال تعالى: ?قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى? [الإسراء: 110] وقال تعالى: ?الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى? [طه: 8] اعلم أن اسمه تعالى ما يصح أن يطلق عليه وذلك باعتبار ذاته كالله أو باعتبار صفة من صفاته السلبية كالقدوس والأول أو الحقيقة الثبوتية كالعليم والقادر أو الإضافة كالحميد والملك أو باعتبار فعل من أفعاله كالخالق والرازق. قال القرطبي: أسماء الله وإن تعددت فلا تعدد في ذاته ولا تركيب لا محسوسا كالجسميات ولا عقليا كالمحدودات، وإنما تعددت الأسماء بحسب الاعتبارات الزائدة على الذات ثم هي من جهة دلالتها على أربعة أضرب. الأول ما يدل على الذات مجردة كالجلالة، فإنه يدل عليه دلالة مطلقة غير مقيدة، وبه يعرف جميع أسمائه فيقال الرحمن مثلا من أسماء الله، ولا يقال الله من أسماء الرحمن ولهذا كان الأصح إنه اسم علم غير مشتق وليس بصفة. الثاني: ما يدل على الصفات الثابتة للذات كالعليم والقدير والسميع والبصير. الثالث: ما يدل على إضافة أمر ما إليه كالخالق والرازق. الرابع: ما يدل على سلب شيء عنه كالعلي والقدوس وهذه الأقسام الأربعة منحصرة في النفي والإثبات – انتهى. قال الغزالي: الاسم هو اللفظ الدال على المعنى بالوضع لغة والمسمى هو المعنى الموضوع له الاسم والتسمية وضع ذلك اللفظ لذلك المعنى، أو إطلاقه عليه. وقد

(15/287)


يطلق الاسم ويراد به المعنى فالمراد بالاسم هو المسمى على التقدير الثاني وغير المسمى على التقدير الأول، فلذلك اختلف في أن الاسم هو المسمى أو غيره، ومحل هذا المبحث وإن صفاته تعالى عين ذاته أو غيرها كتب العقائد ولم يتكلف السلف في ذلك تورعا وطلبا للسلامة ولنا فيهم أسوة واختلف في الأسماء الحسنى هل هي توقيفية بمعنى أنه لا يجوز لأحد أن يشتق من الأفعال الثابتة لله أسماء إلا إذا ورد نص إما في الكتاب أو السنة فقال الفخر الرازي: المشهور عن أصحابنا إنها توقيفية. وقالت المعتزلة والكرامية: إذا دل العقل على أن معنى اللفظ ثابت في حق الله جاز إطلاقه عليه، يعني أنه يصح أن يطلق على الله كل اسم يصح معناه فيه، والإفهام الصحيحة البشرية لها سعة ومجال في
?الفصل الأول?
2309- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما،

(15/288)


اختيار الصفات. قال الراغب: وما ذهب إليه أهل الحديث هو الصحيح، ولو ترك الإنسان وعقله لما جسر أن يطلق عليه عامة هذه الأسماء التي ورد الشرع بها إذ كان أكثرها على حسب تعارفنا، يقتضي إعراضا إما كمية نحو العظيم والكبير وإما كيفية نحو الحي والقادر أو زمانا نحو القديم والباقي أو مكانا نحو العلي والمتعالي أو انفعالا نحو الرحيم والودود، وهذه معان لا تصح عليه سبحانه وتعالى على حسب ما هو متعارف بيننا وإن كان لها معان معقولة عند أهل الحقائق من أجلها صح إطلاقها عليه عزوجل. وقال القاضي أبوبكر الباقلاني والغزالي: الأسماء توقيفية دون الصفات. قال: هذا هو المختار، واتفقوا على أنه لا يجوز أن يطلق عليه اسم ولا صفة توهم نقصا، ولو ورد ذلك نصا فلا يقال ماهد ولا زارع ولا فالق ولا نحو ذلك، وإن ثبت في نحو قوله: ?فنعم الماهدون? ?أم نحن الزارعون? ?فالق الحب والنوى? [الأنعام: 95] ونحوها ولا يقال له ماكر ولا بناء وإن ورد مكر الله ?والسماء بنيناها? وقال أبوالقاسم القشيري: أسماء الله تؤخذ توقيفا من الكتاب والسنة والإجماع فكل اسم ورد فيها وجب إطلاقه في وصفه وما لم يرد لا يجوز ولو صح معناه وقال أبوإسحاق الزجاج: لا يجوز لأحد أن يدعوا الله بما لم يصف به نفسه فيقول يا رحيم لا يا رفيق ويقول يا قوي لا يا جليد. قال الحافظ: والضابط إن كل ما أذن الشرع أن يدعى به سواء كان مشتقا أو غير مشتق فهو من أسماء وكل ما جاز أن ينسب إليه سواء كان مما يدخله التأويل أولا، فهو من صفاته ويطلق عليه أسماء أيضا. وقال الحليمي: إن أسماء الله التي ورد بها الكتاب والسنة وإجماع العلماء على تسميته بها منقسمة بين عقائد خمس. الأولى: إثبات الباري ردا على المعطلين وهي الحي والباقي والوارث وما في معناها. الثانية: إثبات وحدانيته لتقع البراءة عن الشرك وهي الكافي والعلي والقادر ونحوها. والثالثة: تنزيهه ردا على المشبهة وهي القدوس والمجيد

(15/289)


والمحيط وغيرها. والرابعة: اعتقادا إن كل موجود من اختراعه ردا على القول بالعلة والمعلول وهي الخالق والباري والمصور وما يلحق بها. والخامسة: إثبات إنه مدبر لما اخترعه ومصرفه على ما يشاء لتقع البراءة من قول القائلين بالطبائع أو بتدبير الكواكب أو بتدبير الملائكة وهي القيوم والعليم والحكيم وشبهها.
2309- قوله: (إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما) بالنصب على التمييز. قال الخطابي: فيه دليل على أن أشهر أسماءه تعالى الله لإضافة هذه الأسماء إليه، وقد روى إن الله هو اسمه الأعظم. وقال ابن مالك: ولكون
مائة إلا واحدة

(15/290)


الله اسما علما، وليس بصفة. قيل في كل اسم من أسماءه تعالى سواه اسم من أسماء الله، وهو من قول الطبري على ما حكاه النووي إلى الله ينسب كل اسم له فيقال الكريم من أسماء الله ولا يقال من أسماء الكريم الله. قال القسطلاني: ولما كانت معرفة أسماء الله تعالى، وصفاته توقيفية إنما تعرف من طريق الوحي والسنة ولم يكن لنا أن نتصرف فيها بما لم يهتد إليه مبلغ علمنا، ومنتهى عقولنا، وقد منعنا عن إطلاق ما يرد به التوقيف في ذلك وإن جوزه العقل، وحكم به القياس كان الخطأ في ذلك غير هين والمخطيء فيه غير معذور والنقصان عنه كالزيادة فيه غير مرضى، وكان الاحتمال في رسم الخط واقعا باشتباه تسعة وتسعين في زلة الكاتب وهفوة القلم بسبعة وسبعين، أو سبعة وتسعين، أو تسعة وسبعين، فينشأ الاختلاف في المسموع من المسطور أكده حسما للمادة وإرشادا إلى الاحتياط بقوله (مائة) بالنصب على البدلية (إلا واحدا) أي إلا اسما واحدا. وقال في فتوح الغيب: قوله "مائة إلا واحدا" تأكيد وفذلكة لئلا يزاد على ما ورد كقوله: ?تلك عشرة كاملة? [البقرة: 196] وفيه رفع التصحيف، فإن تسعة تصحف بسبعة وتسعين بسبعين بالموحدة فيهما. وقيل أتى بذلك للتنصيص على العدد المقصود على وجه المبالغة. وقيل: إنما قال ذلك لئلا يتوهم العدد على التقريب وفيه فائدة رفع الاشتباه في الخط. قال السندي: وهذا مبني على معرفته - صلى الله عليه وسلم - رسم الخط وإن كونه أميا لا يتأتي معرفة ذلك إلا بالإلهام من الله تعالى – انتهى. وقوله "إلا واحدا" بالتذكير في أكثر الروايات ويروي واحدة بالتأنيث. قال ابن مالك: أنث باعتبار معنى التسمية أو الصفة أو الكلمة واختلف في هذا العدد هل المراد به حصر الأسماء الحسنى في هذه العدة أو إنها أكثر من ذلك، ولكن اختصت هذه بأن من أحصاها دخل الجنة فذهب الجمهور إلى الثاني. ونقل النووي اتفاق العلماء عليه فقال ليس في الحديث حصر لأسماء الله تعالى

(15/291)


وليس معناه إنه ليس له اسم غير هذه التسعة والتسعين، وإنما مقصود الحديث إن هذه الأسماء التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصاءها لا الإخبار بحصر الأسماء. ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود الذي أخرجه أحمد وصححه ابن حبان أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك. وعند مالك عن كعب الأحبار في دعاءه وأسالك بأسمائك الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم. ولابن ماجه من حديث عائشة إنها دعت بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو ذلك. وقال الخطابي: في هذا الحديث إثبات هذه الأسماء المخصوصة بهذا العدد وليس فيه منع ما عداها في الزيادة وإنما التخصيص لكونها أكثر الأسماء وأبينها معاني وخبر المبتدأ في الحديث هو قوله من أحصاها لا قوله لله وهو كقولك لزيد ألف درهم أعدها للصدقة أو لعمرو ومائة ثوب من زاره ألبسه إياها. وقال القرطبي في المفهم والتوربشتي في شرح المصابيح: نحو ذلك. وبالغ بعضهم في تكثير الأسماء الحسنى حتى قال ابن العربي
من أحصاها

(15/292)


في شرح الترمذي حاكيا عن بعض أهل العلم: إنه جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله تعالى ألف اسم. قلت: وذهبت بعضهم إلى حصرها في التسعة والتسعين. قال ابن حزم من زاد شيئا في الأسماء على التسعة والتسعين من عند نفسه فقد الحد في أسماءه، واحتج لذلك بالتأكيد في قوله - صلى الله عليه وسلم - "مائة إلا واحدا" قال لأنه لو جاز أن يكون له اسم زائد على العدد المذكور لزم أن يكون له مائة اسم فيبطل قوله "مائة إلا واحدا" وهذا الذي قاله ليس بحجة على ما تقدم لأن الحصر المذكور عند الجمهور باعتبار الوعد الحاصل لمن أحصاها فمن أدعى أن الوعد وقع لمن أحصى زائدا على ذلك أخطأ، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون هناك اسم زائد وأما الحكمة في القصر على العدد المخصوص المذكور فذكر الفخر الرازي عن الأكثر أنه تعبد لا يعقل معناه. وقيل: الحكمة فيه أنها في القرآن كما في بعض طرقه. وقال: آخرون الأسماء الحسنى مائة على درجات الجنة استأثر الله تعالى منها بواحدة وهو الاسم الأعظم فلم يطلع عليه أحدا فكأنه قال مائة ولكن واحد منها عند الله. وقال بعضهم: ليس الاسم المكمل للمائة مخفيا بل هو الجلالة وبه جزم السهيلي فقال: الأسماء الحسنى مائة على عدد درجات الجنة والذي يكمل المائة الله ويؤيده قوله تعالى: ?ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها? [الأعراف: 180] فالتسعة والتسعون لله فهي زائدة عليه وبه تكمل المائة وقيل غير ذلك (من أحصاها) وفي رواية لمسلم من حفظها وفي رواية للبخاري: لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة. قال الشوكاني: وهذا اللفظ يفسر معنى قوله "أحصاها" فالإحصاء هو الحفظ. وقيل: أحصاها قرأها كلمة كلمة كأنه يعدها. وقيل: أحصاها علمها وتدبر معانيها واطلع على حقائقها وقيل: أطاق القيام بحقها والعمل بمقتضاها والتفسير الأول هو الراجح المطابق للمعنى اللغوي وقد فسرته الرواية المصرحة بالحفظ كما عرفت. وقال النووي قال البخاري وغيره من المحققين: معناه

(15/293)


حفظها وهذا هو الأظهر لثبوته نصا في الخبر. وقال في الأذكار: هو قول الأكثرين. وقال الخطابي: الإحصاء في هذا يحتمل وجوها. أحدها: وهو أظهرها أن يعدها حتى يستوفيها يريد أنه لا يقتصر على بعضها لكن يدعو الله بها كلها ويثني عليه بجميعها فيستوجب الموعود عليها من الثواب. ثانيها: المراد بالإحصاء إلا طاقة كقوله تعالى: ?علم أن لن تحصوه? [المزمل: 20] والمعنى من أطاق القيام بحق هذه الأسماء والعمل بمقتضاها وهو أن يعتبر معانيها فيلزم نفسه بواجبها فإذا قال الرزاق: وثق بالرزق وكذلك سائر الأسماء. ثالثها: المراد العقل والإحاطة بمعانيها من قول العرب فلان ذو حصاة أي ذو عقل ومعرفة. وقيل: معنى أحصاها عرفها لأن العارف بها لا يكون إلا مؤمنا والمؤمن يدخل الجنة. وقال ابن الجوزي: فيه خمسة أقوال. أحدها: من استوفاها حفظا. والثاني: من أطاق العمل بمقتضاها مثل أن يعلم أنه سميع فيكف لسانه عن القبيح. والثالث: من عقل معانيها. والرابع: من أحصاها علما وإيمانا. والخامس: أن المعنى من قرأ القرآن حتى يختمه لأن جميع الأسماء فيه. وقال القرطبي:
دخل الجنة، وفي رواية وهو وتر يحب الوتر)). متفق عليه.
?الفصل الثاني?
2310- (2) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما،

(15/294)


المرجو من كرم الله تعالى إن من حصل له إحصاء هذه الأسماء على أحد هذه المراتب مع صحة النية أنه يدخل الجنة. قال السندي: كأنه مبني على إرادة المعاني كلها من المشترك لا بشرط الاجتماع بل على البدلية والله اعلم والمحققون على أن معنى أحصاها حفظها. قلت: وهذا هو الراجح (دخل الجنة) ذكر الجزاء بلفظ الماضي تحقيقا لوقوعه وتنبيها على أنه وإن لم يقع فهو في حكم الواقع لأنه كائن لا محالة (وفي رواية) للبخاري في الدعوات (وهو) أي ذاته تعالى (وتر) ولمسلم والله وتر، وفي أخرى له أنه وتر، والوتر بفتح الواو وكسرها الفرد ومعناه في حق الله تعالى أنه الواحد الذي لا شريك له في ذاته ولا نظير ولا انقسام (يحب الوتر) من كل شيء وقيل: هو منصرف إلى من يعبد الله بالوحدانية والتفرد على سبيل الإخلاص. وقيل: المراد يحب من الأذكار والطاعات ما هو على عدد الوتر ويثيب عليه لاشتماله على الفردية. وقيل: يحب الوتر لأنه أمر بالوتر في كثير من الأعمال والطاعات كما في الصلوات الخمس ووتر الليل وإعداد الطهارة وتكفين الميت والطواف والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار في الحج ونصاب المعشرات والورق والإبل في الزكاة وفي كثير من المخلوقات كالسماوات والأرض وأيام الأسبوع – انتهى. وقال القرطبي: الظاهر أن الوتر هنا للجنس إذ لا معهود جرى ذكره حتى يحمل عليه فيكون معناه أنه وتر يحب كل وتر شرعه ومعنى محبته له أنه أمر به وأثاب عليه ويصلح ذلك لعموم ما خلقه وترا من مخلوقاته تنبيه قد طعن أبوزيد البلخى في صحة الحديث بأن دخول الجنة ثبت في القرآن مشروطا ببذل النفس والمال فكيف يحصل بمجرد حفظ ألفاظ تعد في اليسر مدة. وتعقب بأن الشرط المذكور ليس مطردا ولا حصر فيه بل قد تحصل الجنة بغير ذلك كما ورد في كثير من الأعمال غير الجهاد أن فاعله يدخل الجنة. وأما دعوى إن حفظها يحصل في اليسر مدة فإنما يرد على من حمل الحفظ والإحصاء على معنى أن يسردها عن ظهر

(15/295)


قلب. فأما من أوله على بعض الوجوه المتقدمة فإنه يكون في غاية المشقة، ويمكن الجواب عن الأول بأن الفضل واسع كذا في الفتح (متفق عليه) أخرجاه في الدعوات وأخرجه البخاري أيضا في الشروط وفي التوحيد دون قوله "هو وتر" الخ والحديث رواه أيضا أحمد (ج2ص258، 267، 214) والترمذي والنسائي في الكبرى وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وغيرهم.
2310- قوله: (إن لله تسعة وتسعين اسما) ليس الغرض الحصر بل نص على ذلك لما رتبه عليه فغيرها
من أحصاها دخل الجنة. هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، الملك القدوس

(15/296)


من الأسماء وإن حصل على إحصاءه ثواب عظيم إلا أنه ليس فيه هذه الخصوصية (من أحصاها) قال الجزري: الإحصاء العدد والحفظ، والمراد من حفظها على قلبه وقيل المراد من استخرجها. من كتاب الله تعالى وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعدها لهم ولهذا لم ترد مسرودة معدودة من هذه الكتب السنة إلا في كتاب الترمذي (وقد تكلموا في روايته) وقيل المراد من أخطر بباله عند ذكرها معناها وتفكر في مدلولها معتبرا متدبرا ذاكرا راغبا راهبا معظما لمسماها مقدسا لذات الله تعالى، وبالجملة ففي كل اسم يجريه على لسانه يخطر بباله الوصف الدال عليه أقوال (دخل الجنة) قيل أي استحق دخولها. وقيل أي دخولا أوليا أو مع المقربين السابقين أو وصل أعلى مراتب نعيمها (هو الله الذي لا إله إلا هو) الاسم المعدود في هذه الجملة من أسماءه هو الله لا غيره من هو وإله كما يدل عليه روايات أخر "هي الله الواحد" الخ عند ابن ماجه "أسأل الله الرحمن الرحيم" عند البيهقي "الله الرحمن الرحيم" عند الحاكم والجملة تفيد الحصر والتحقيق لإلهيته ونفي ما عداه عنها. قال الطيبي: الجملة مستأنفة إما لبيان كمية تلك الأعداد أنها ما هي في قوله إن لله تسعة وتسعين اسما وذكر الضمير نظرا إلى الخبر وإما لبيان كيفية الإحصاء في قوله "من أحصاها دخل الجنة" بأنه كيف يحصى. فالضمير راجع إلى مسمى الدال عليه قوله لله كأنه لما قيل ولله الأسماء الحسنى. سأل وما تلك الأسماء فأجيب هو الله أو لما قيل من أحصاها دخل الجنة، سأل كيف أحصاها فأجاب قل هو الله أحد فعلى هذا الضمير ضمير الشأن مبتدأ والله مبتدأ ثان وقوله "الذي لا إله إلا هو" خبره والجملة خبر الأول والموصول مع الصلة صفة لله – انتهى. والله أعلم دال على المعبود بحق دلالة جامعة لجميع معاني الأسماء الآتية (الرحمن الرحيم) هما اسمان مشتقان من الرحمة مثل ندمان ونديم وهما من ابنية المبالغة،

(15/297)


والأكثر على أن فعلان أبلغ من فعيل. ومن ثم قيل الرحمن أبلغ من الرحيم ونصره السهيلي بأنه ورد على صيغة التثنية، والتثنية تضعيف فكان البناء تضاعفت فيه الصفة. وذهب ابن الأنباري إلى أن الرحيم أبلغ من الرحمن ورجحه ابن عساكر بتقديم الرحمن عليه وبأنه جاء على صيغة الجمع كعبيد وهو أبلغ من صيغة التثنية. وذهب قطرب إلى أنهما سواء والرحمن خاص لله لا يسمى به غيره ولا يوصف والرحيم يوصف به غير الله تعالى فيقال رجل رحيم ولا يقال رحمن (الملك) أي ذو الملك التام، والمراد به القدرة على الإيجاد والاختراع من قولهم، فلان يملك الانتفاع بكذا إذا تمكن منه، فيكون من أسماء الصفات. وقيل: المتصرف في الأشياء بالإيجاد والإفناء والإماتة والإحياء فيكون من أسماء الأفعال كالخالق (القدوس) أي الطاهر من العيوب المنزه عنها، وفعول من أبنية المبالغة من القدوس وهو النزاهة عما يوجب نقصا. وقريء بالفتح وهو لغة فيه. قال الجزري: هو مضموم الأول. وقد
السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارىء المصور

(15/298)


روى بفتحه وليس بالكثير، ولم يجيء مضموم الأول من هذا البناء إلا قدوس وسبوح وذروح. وقال سيبويه: ليس في الكلام فعول بالضم (السلام) أي ذو السلام مما يلحق الخلق من العيب والفناء. قال الجزري: أي الذي سلم من كل عيب وبريء من كل آفة مصدر نعت به للمبالغة كرجل عدل، فكأنه عين السلامة يقال سلم يسلم سلامة وسلاما، ومنه قيل للجنة دار السلام لأنها دار السلامة من الآفات. وقيل: معناه المسلم عباده عن المخاوف والمهالك (المؤمن) أي الذي يصدق عباده وعده فهو من الإيمان التصديق أو يؤمنهم في القيامة من عذابه فهو من الأمان، والأمن ضد الخوف كذا قال الجزري في النهاية وجامع الأصول وشرح المصابيح (المهيمن) الرقيب المبالغ في المراقبة والحفظ، ومنه هيمن الطائر إذا نشر جناحه على فراخه صيانة لها. وقيل: الشاهد أي العالم الذي لا ينهب عنه مثقال ذرة. وقيل الذي يشهد على كل نفس بما كسبت ومنه قوله تعالى: ?ومهيمنا عليه? [المائدة: 48] أي شاهدا. وقيل القائم بأمور الخلق. وقيل أصله مؤيمن أبدلت الهاء من الهمزة فهو مفعيل من الأمانة بمعنى الأمين الصادق الوعد (العزيز) أي الغالب القاهر القوي الذي لا يغلب والعزة في الأصل القوة والشدة والغلبة تقول عز يعز بالكسر إذا صار عزيزا وعز يعز بالفتح إذا اشتد (الجبار) معناه الذي يقهر العباد على ما أراد من أمر ونهي، يقال جبر الخلق وأجبرهم وأجبر أكثر. وقيل هو العالي فوق خلقه وفعال من أبنية المبالغة ومنه قولهم نخلة جبارة وهي العظيمة التي تفوت يد المتناول (المتكبر) أي العظيم ذو الكبرياء. وقيل المتعالي عن صفات الخلق. وقيل الذي يتكبر على عتاة خلقه إذا نازعوه العظمة فيقصمهم، والتاء فيه للتفرد والتخصص لا تاء التعاطي والتكلف والكبرياء العظمة والملك قال تعالى: ?وتكون لكما الكبرياء في الأرض? [يونس: 78] أي الملك. وقيل هي عبارة عن كمال الذات وكمال الوجود ولا يوصف بها إلا الله تعالى وهو من الكبر

(15/299)


وهو العظمة (الخالق) أي الذي أوجد الأشياء جميعها بعد إن لم تكن موجودة. وأصل الخلق التقدير فهو باعتبار تقدير ما منه وجودها باعتبار الإيجاد على وفق التقدير خالق. وقال في المرقاة: الخالق من الخلق وأصله التقدير المستقيم ومنه قوله تعالى: ?فتبارك الله أحسن الخالقين? [المؤمنون: 14] أي المقدرين ويستعمل بمعنى الإبداع وإيجاد شيء من غير أصل كقوله تعالى: ?خلق السماوات والأرض? [الأنعام: 1] وبمعنى التكوين كقوله عزوجل: ?خلق الإنسان من نطفة? [النحل: 4] فالله خالق كل شيء بمعنى أنه مقدره أو موجده من أصل أو من غير أصل (الباريء) بالهمزة في آخره، ويجوز إبداله ياء في الوقف وهو الذي خلق الخلق لا عن مثال إلا أن لهذه اللفظة من الاختصاص بخلق الحيوان ما ليس لها بغيره من المخلوقات وقلما تستعمل في غير الحيوان فيقال برأ الله النسمة وخلق السماوات والأرض (المصور) بكسر الواو المشددة أي الذي صور جميع
الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم،

(15/300)


الموجودات ورتبها فأعطي كل شيء منها صورة خاصة وهيئة منفردة يتميز بها عن غيره على اختلاف أنواعها وكثرة أفرادها. وقال الجزري: هو أنشأ خلقه على صور مختلفة ومعنى التصوير التخطيط والتشكيل (الغفار) أي الذي يستر العيوب والذنوب في الدنيا بإسبال الستر عليها وفي العقبى بترك المعاتبة والمعاقبة لها، وهو لزيادة بناءه أبلغ من الغفور. وقيل المبالغة في الغفار باعتبار الكمية وفي الغفور باعتبار الكيفية. وأصل الغفر الستر. وقال الجزري في النهاية: في أسماء الله الغفار والغفور وهما من أبنية المبالغة ومعناهما الساتر لذنوب عباده وعيوبهم المتجاوز عن خطاياهم وذنوبهم، وأصل الغفر التغطية يقال غفر الله لك غفرا وغفرانا ومغفرة، والمغفرة الباس الله تعالى العفو للمذنبين. وقال في جامع الأصول: الغفار هو الذي يغفر ذنوب عباده مرة بعد مرة، وأصل الغفر الستر والتغطية فالله غافر لذنوب عباده ساتر لها بترك العقوبة عقوبة عليها (القهار) أي الغالب على جميع الخلائق كما قال تعالى: ?وهو القاهر فوق عباده? [الأنعام: 18] يقال قهره يقهره قهرا غلبه فهو قاهر وقهارا للمبالغة (الوهاب) أي كثير الإنعام دائم العطاء بلا عوض والهبة العطية الخالية عن الأعواض والأغراض فإذا كثرت سمي صاحبها وهابا (الرزاق) أي خالق الأرزاق ومعطيها لجميع ما يحتاج إلى الرزق من مخلوقاته. والأرزاق نوعان ظاهرة للأبدان كالأقوات، وباطنة للقلوب والنفوس كالمعارف والعلوم (الفتاح) أي الحاكم بين عباده يقال فتح الحاكم بين الخصمين إذا فصل بينهما. وقيل للحاكم الفاتح ومنه قوله تعالى: ?ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين? [الأعراف: 89] وقيل هو الذي يفتح أبواب الرزق وخزائن الرحمة والعلم والمعرفة لعباده والمنغلق عليهم من أرزاقه (العليم) أي العالم المحيط علمه بجميع الأشياء ظاهرها وباطنها دقيقها وجليلها على أتم الإمكان، وفعيل من أبنية المبالغة (القابض) أي

(15/301)


الذي يضيق ويمسك الرزق وغيره من الأشياء عن العباد بلطفه وحكمته ويقبض الأرواح عند الممات (الباسط) أي الذي يبسط الرزق لعباده ويوسعه عليهم بجوده ورحمته ويبسط الأرواح وينشرها في الأجساد عند الحياة (الخافض) أي الذي يخفض الجبارين والفراعنة أي يضعهم ويهينهم ويخفض كل شيء يريد خفضه والخفض ضد الرفع (الرافع) أي الذي يرفع أولياءه ويعزهم والرفع ضد الخفض (المعز) أي الذي يهب العز لمن يشاء من عباده ويجعله عزيزا (المذل) الذي يلحق الذل بمن يشاء من عباده وينفي عنه أنواع العز جميعها فيجعله ذليلا (السميع) المدرك لكل مسموع (البصير) المدرك لكل مبصر (الحكم) بفتحتين مبالغة الحاكم، وحقيقته الذي سلم له الحكم ورد إليه قاله الجزري: وقيل هو الحاكم
العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم

(15/302)


الذي لا راد لقضاه ولا معقب لحكمه (العدل) بسكون الدال المهملة وهو الذي لا يميل به الهوى فيجوز في الحكم وهو في الأصل مصدر سمي به فوضع موضع العادل وهو أبلغ منه لأنه جعل المسمى نفسه عدلا (اللطيف) أي الذي اجتمع له الرفق في الفعل والعلم بدقائق المصالح وإيصالها لمن قدرها له من خلقه يقال لطف به وله بالفتح لطفا إذا رفق به فأما لطف بالضم يلطف فمعناه صغر ودق. وقال الشوكاني: اللطيف العالم بخفيات الأمور والملاطف لعباده. وقال الجزري: هو الذي يوضل إليك أربك في رفق، وقيل هو الذي لطف عن أن يدرك بالكيفية (الخبير) أي العالم ببواطن الأشياء وحقائقها من الخبرة وهي العلم بالخفايا الباطنة. وقال الجزري: العالم العارف بما كان وما يكون (الحليم) أي الذي لا يستخفه شيء من عصيان العباد ولا يستفزه الغضب عليهم ولكنه جعل لكل شيء مقدارا فهو منته إليه (العظيم) أي الذي بلغ إلى أقصى مراتب العظمة وجل عن حدود العقول حتى لا تتصور الإحاطة بكنهه وحقيقته، والعظم في صفات الأجسام كبر الطول والعرض والعمق والله تعالى جل قدره عن ذلك (الغفور) تقدم معناه (الشكور) أي الذي يعطي الثواب الجزيل على العمل القليل أو المثنى على عباده المطيعين. وقال الجزري: أي الذي يجازي عباده ويثيبهم على أفعالهم الصالحة فشكر الله لعباده إنما هو مغفرته لهم وقبوله لعبادتهم (العلي) فعيل من العلو وهو البالغ في علو الرتبة بحيث لا رتبة إلا وهي منحطة عن رتبته. وقال بعضهم هو الذي علا عن الإدراك ذاته وكبر عن التصور صفاته (الكبير) هو الموصوف بالجلال وكبر الشأن قاله الجزري. وقال القاري: الكبير وضده الصغير يستعملان باعتبار مقادير الأجسام وباعتبار الرتب، وهو المراد هنا إما باعتبار أنه أكمل الموجودات وأشرفها من حيث أنه قديم أزلي غنى على الإطلاق وما سواه حادث مفتقر إليه في الإيجاد والإمداد بالاتفاق، وإما باعتبار أنه كبير عن مشاهدة الحواس وإدراك العقول

(15/303)


(الحفيظ) أي البالغ في الحفظ يحفظ الموجودات من الزوال والاختلال مدة ما شاء أو يحفظ على العباد أعمالهم وأقوالهم (المقيت) بضم الميم وكسر القاف وسكون التحتية أي الحفيظ. وقيل المقتدر. وقيل الذي يعطي أقوات الخلائق وهو من إقاته يقيته إذا أعطاه قوته وهي لغة في قاته يقوته وإقاتة أيضا إذا حفظه (الحسيب) أي الكافي فعيل بمعنى مفعل كالميم مؤلم من أحسبني الشيء إذا كفاني وأحسبته وحسبته بالتشديد أعطيته ما يرضيه حتى يقول حسبي. وقيل إنه مأخوذ من الحسبان أي هو المحاسب للخلائق يوم القيامة فعيل بمعنى مفاعل (الجليل) أي المنعوت بنعوت الجلال والحاوي لجميعها هو الجليل المطلق (الكريم) أي كثير الجود والعطاءه الذي لا ينفد عطاءه ولا تفنى خزائنه وهو الكريم المطلق
الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي،

(15/304)


(الرقيب) أي الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء فعيل بمعنى فاعل. وقيل مراقب الأشياء وملاحظها فلا يعزب عنه مثقال ذرة (المجيب) أي الذي يقابل الدعاء والسؤال بالقبول والعطاء وهو اسم فاعل من أجاب يجيب. قال الجزري: المجيب الذي يقبل دعاء عباده ويستجيب لهم (الواسع) أي الذي وسع غناه كل فقير ورحمته كل شيء يقال وسعه الشيء يسعه سعة فهو واسع ووسع بالضم وساعة فهو وسيع، والوسع والسعة الجدة والطاقة (الحكيم) أي الحاكم بمعنى القاضي فعيل بمعنى فاعل، أو هو الذي يحكم الأشياء ويتقنها فهو فعيل بمعنى مفعل، وقيل الحكيم ذو الحكمة، والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء فأفضل العلوم، ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها حكيم (الودود) فعول بمعنى مفعول من الود المحبة يقال وددت الرجل أوده، ودا إذا أحببته فالله تعالى مودود أي محبوب في قلوب أوليائه أو هو فعول بمعنى فاعل أي إنه يحب عباده الصالحين. وقيل هو الذي يتودد أي يتحبب إلى عباده بنعمه الدائمة عليهم (المجيد) هو مبالغة الماجد من المجد وهو سعة الكرم فهو الذي لا تدرك سعة كرمة. قال الجزري: المجيد هو الواسع الكرم. وقيل هو الشريف (الباعث) أي الذي يبعث الخلق ويحييهم بعد الموت يوم القيامة أو باعث الرسل إلى الأمم (الشهيد) هو الذي لا يغيب عنه شيء والشاهد الحاضر من الشهود وهو الحضور أي إنه حاضر يشاهد الأشياء ويراها لا يعزب عنه شي، وفعيل من أبنية المبالغة في فاعل فإذا اعتبر العلم مطلقا فهو العليم، وإذا أضيف إلى الأمور الباطنة فهو الخبير، وإذا أضيف إلى الأمور الظاهرة فهو الشهيد، وقد يعتبر مع هذا أن يشهد على الخلق يوم القيامة بما علم وشاهد منهم (الحق) أي الثابت الموجود حقيقة المتحقق كونه ووجوده وإلهيته والحق ضد الباطل (الوكيل) القائم بأمور عباده المتكفل بمصالحهم. وقال الجزري: الوكيل هو الكفيل بأرزاق العباد وحقيقته أنه الذي يستقل بأمر الموكول إليه ومنه قوله تعالى: ?وقالوا

(15/305)


حسبنا الله ونعم الوكيل? [آل عمران: 173] (القوى) أي ذو القدرة التامة البالغة إلى الكمال الذي لا يلحقه ضعف. قال الجزري: القوى القادر. وقيل التام القدرة والقوة الذي لا يعجزه شيء (المتين) أي القوي الشديد الذي لا يلحقه في أفعاله مشقة ولا كلفة ولا تعب والمتانة الشدة والقوة، فهو من حيث إنه بالغ القدرة تامها قوى ومن حيث أنه شديد القوة متين (الولي) أي الناصر. وقيل المتولي لأمور العالم والخلائق القائم بها كولي اليتيم. وقيل المحب لأولياءه (الحميد) أي المحمود المستحق للثناء على كل حال فعيل بمعنى مفعول (المحصى) أي الذي أحصى كل شيء بعلمه وإحاطه به فلا يفوته شيء من الأشياء دق أو جل والإحصاء العد والحفظ
المبديء، المعيد، المحي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول،

(15/306)


(المبديء) بالهمزة وقد تبدل وقفا أي الذي أنشأ الأشياء واخترعها ابتداء من غير مثال سبق (المعيد) أي الذي يعيد الخلق بعد الحياة إلى الممات في الدنيا وبعد الممات إلى الحياة يوم القيامة (المحي) أي خالق الحياة ومعطيها لمن شاء (المميت) أي خالق الموت ومسلطه على من شاء من خلقه (الحي) أي الدائم البقاء (القيوم) القائم بنفسه والمقيم لغيره وهو فيعول للمبالغة (الواجد) بالجيم أي الغني الذي لا يفتقر. وقد وجد يجد جدة أي استغنى غنى لا فقر بعده. وقيل الذي يجد كل ما يريده ويطلبه ولا يفوته شيء (الماجد) بمعنى المجيد لكن المجيد أبلغ. وقيل الماجد المتعالي المتنزه (الواحد) أي الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر. وقيل هو المنقطع القرين والشريك (الأحد) كذا في بعض النسخ من المشكاة بزيادة الأحد بعد الواحد وهكذا في المصابيح والحصن وجامع الأصول (ج5ص25) وليست هذه الزيادة في نسخ الترمذي الموجودة عندنا، ولم تقع أيضا في رواية الحاكم (ج1ص16) قال الطيبي في جامع الأصول: لفظ الأحد بعد الواحد ولم يوجد في جامع الترمذي والدعوات للبيهقي ولا في شرح السنة – انتهى. قال الجزري في جامع الأصول (ج5ص201) الأحد والفرد الفرق بينه وبين الواحد إن "أحدا" بنى لنفي ما يذكر معه من العدد فهو يقع على المذكر والمؤنث يقال ما جاءني أحد أي ذكر ولا أنثى، وأما الواحد فإنه وضع لمفتتح العدد تقول جاءني واحد من الناس ولا تقول جاءني أحد من الناس، والواحد بنى على انقطاع النظير والمثل، والأحد بنى على الإنفراد الوحدة عن الأصحاب، فالواحد منفرد بالذات والأحد منفرد بالمعنى _ انتهى. وقيل: إن الأحدية لتفرد الذات والواحدية لنفي المشاركة في الصفات، وبسط الطيبي في بيان الفرق بينهما من حيث اللفظ والمعنى جميعا فارجع إليه إن شئت (الصمد) هو السيد الذي انتهى إليه السودد، وقيل هو الدائم الباقي، وقيل هو الذي لا جوف له، وقيل الذي يصمد في الحوائج إليه أي

(15/307)


يقصد. (القادر المقتدر) معناهما ذو القدرة إلا أن المقتدر أبلغ لما في البناء من معنى التكلف والاكتساب فإن ذلك وإن امتنع في حقه تعالى حقيقة لكنه يفيد المعنى مبالغة كذا في المرقاة. وقيل: القادر المتمكن من كل ما يريده بلا معالجة ولا واسطة والمقتدر المستولى على كل من أعطاه حظا من قدرة (المقدم) بكسر الدال أي الذي يقدم الأشياء بعضها على بعض ويضعها في مواضعها اللائقة بها (المؤخر) بكسر الخاء المعجمة أي الذي يؤخر الأشياء إلى أماكنها ومواقيتها المناسبة لها فمن استحق التقديم قدمه، ومن استحق التأخير أخره ولا مقدم لما أخره ولا مؤخر لما قدمه (الأول) أي الذي لا بداية
الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرؤف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع،

(15/308)


لأوليته. وقيل أي السابق على الأشياء كلها فإنه موجدها ومبدعها (الآخر) أي الباقي وحده بعد أن يفنى جميع الخلق ولا نهاية لآخريته (الظاهر) أي الذي ظهر فوق كل شيء وعلاه. وقيل هو الذي عرف بطرق الاستدلال العقلي بما ظهر لهم من آثار أفعاله وأوصافه (الباطن) المحتجب عن أبصار الخلائق وأوهامهم فلا يدركه بصر ولا يحيط به وهم (الوالي) أي مالك الأشياء جميعها المتصرف فيها. وقيل المتولي لجميع أمور خلقه (المتعالي) البالغ في العلو المرتفع عن النقص. وقيل الذي جل عن إفك المفترين وعلا شأنه. وقيل الذي جل عن كل وصف وثناء وهو متفاعل من العلو. وقال الجزري: هو المتنزه عن صفات المخلوقين تعالى أن يوصف بها وجل ويجوز حذف يائه على ما قريء في المتواتر وقفا ووصلا (البر) بفتح الموحدة مشتق من البر بالكسر بمعنى الإحسان وهو مبالغة البار أي المحسن البالغ في البر والإحسان. قال الجزري: البر هو العطوف على عباده ببره ولطفه (التواب) الذي يقبل توبة عباده مرة بعد أخرى. وقيل الذي يرجع بالإنعام على كل مذنب رجع إلى التزام الطاعة بقبول توبته من التوب وهو الرجوع (المنتقم) هو المبالغ في العقوبة لمن يشاء من العصاة مفتعل من نقم ينقم إذا بلغت به الكراهية حد السخط (العفو) فعول من العفو وهو الذي يمحو السيئات ويتجاوز عن المعاصي وهو أبلغ من الغفور لأن الغفران ينبىء عن الستر والعفو ينبىء عن المحو والطمس وهو من أبنية المبالغة يقال عفا يعفو عفوا فهو عاف وعفو (الرؤف) ذو الرحمة البالغة من الرأفة وهي شدة الرحمة فهو أبلغ من الرحيم والراحم. قال الجزري: والفرق بين الرأفة والرحمة إن الرحمة قد تقع في الكراهة للمصلحة، والرأفة لا تكاد تكون في الكراهة. وقيل إن الرحمة إحسان مبدؤه شفقة المحسن، والرأفة إحسان مبدؤه فاقة المحسن إليه (مالك الملك) أي الذي تنفذ مشيئته في ملكه ويجري الأمور فيه على ما يشاء أو الذي له التصرف المطلق (ذو الجلال والإكرام) أي

(15/309)


ذو العظمة والكبرياء وذو الإكرام لأولياءه بأنعامه عليهم. وقيل الذي لا شرف ولا كمال إلا هو له أي هو مستحقة ولا كرامة ولا مكرمة إلا وهي منه (المقسط) أي العادل في حكمه يقال أقسط الرجل يقسط فهو مقسط إذا عدل، ومنه ?إن الله يحب المقسطين? [المائدة: 25] وقسط يقسط فهو قاسط إذا جار ومنه ?وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا? [الجن: 15] فكأن الهمزة في أقسط للسلب كما يقال شكا إليه فأشكاه (الجامع) أي الذي يجمع الخلائق ليوم الحساب. وقيل المؤلف بين المتماثلات والمتباينات والمتضادات في
الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور)). رواه الترمذي، والبيهقي في "الدعوات الكبير"

(15/310)


الوجود (الغني) أي المستغني عن كل شيء لا يحتاج إلى أحد في شيء وكل أحد يحتاج إليه وهذا هو الغني المطلق ولا يشارك الله فيه غيره (المغني) أي الذي يغني من يشاء من عباده عن غيره يعطي من يشاء ما يشاء (المانع) الدافع لأسباب الهلاك والنقص. وقال الجزري: هو الناصر الذي يمنع أولياءه أن يؤذيهم أحد. وقيل: يمنع من يريد من خلقه ما يريد ويعطيه ما يريد (الضار) أي الذي يضر من يشاء من خلقه حيث هو خالق الأشياء كلها خيرها وشرها ونفعها وضرها (النافع) أي الذي يوصل النفع إلى من يشاء من خلقه حيث هو خالق النفع والضر والخير والشر (النور) هو الذي يبصر بنوره ذو العماية ويرشد بهداه ذو الغواية فيصل إلى تمام الهداية. وقيل هو الظاهر الذي به كل ظهور فالظاهر بنفسه المظهر لغيره يسمى نورا (الهادي) أي الذي بصر عباده وعرفهم طريق معرفته حتى أقروا بربوبيته وهدى كل مخلوق إلى ما لا بد منه في بقاءه ودوام وجوده (البديع) أي الخالق المخترع لا عن مثال سابق، فعيل بمعنى مفعل يقال أبدع فهو مبدع (الباقي) أي الدائم الوجود الذي لا يقبل الفناء (الوارث) أي الذي يرث الخلائق ويبقى بعد فناءهم (الرشيد) أي الذي أرشد الخلق إلى مصالحهم أي هداهم ودلهم عليها فعيل بمعنى مفعل. وقيل: هو الذي تنساق تدابيره إلى غاياتها على سنن السداد من غير إشارة مشير ولا تسديد مسدد (الصبور) أي الذي لا يعاجل العصاة بالمؤاخذة والانتقام منهم بل يؤخر ذلك إلى أجل مسمى فمعنى الصبور في صفة الله تعالى قريب من معنى الحليم. والفرق بينهما أن العصاة لا يأمنون العقوبة في صفة الصبور كما يأمنونها في صفة الحليم هذا، ومن أراد استقصاء معاني الأسماء الحسنى فعليه أن يرجع إلى المقصد الأسنى في شرح الأسماء الحسنى للغزالي وأشعة اللمعات للشيخ عبد الحق الدهلوي (رواه الترمذي والبيهقي) وأخرجه أيضا ابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم (ج1ص16) والطبراني وابن أبي الدنيا

(15/311)


كلاهما في الدعاء، وابن أبي عاصم وأبوالشيخ وابن مردوية كلاهما في التفسير، وأبونعيم في الأسماء الحسنى، وابن مندة وجعفر الفريابي في الذكر، وفي رواياتهم اختلاف شديد في سرد الأسماء وزيادة ونقص كما أشار إليه الحافظ في الفتح والقسطلاني في إرشاد الساري (ج11ص68- 69) والشوكاني في فتح القدير (ج2ص256- 257) وكما يدل عليه ما ذكره السيوطي في الجامع الصغير وعلي المتقي في الكنز من سياق بعض الروايات، وفي الباب عن ابن عباس وابن عمر. قال الشوكاني: وقد أخرجها بهذا العدد الذي أخرجه الترمذي وابن مردوية وأبونعيم
وقال الترمذي: هذا حديث غريب.

(15/312)


عن ابن عباس وابن عمر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكراه ولا أدري كيف إسناده – انتهى. (وقال الترمذي) أي بعد أن أخرجه عن الجوزجاني عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم عن شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة (هذا حديث غريب) وبعده حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح ولا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح وهو ثقة عند أهل الحديث – انتهى. قال الحافظ: لم ينفرد به صفوان فقد أخرجه البيهقي (وكذا الحاكم ج1ص16) من طريق موسى بن أيوب النصيبي وهو ثقة عن الوليد أيضا. وقد اختلف في سنده على الوليد ثم ذكر الحافظ الاختلاف وبسط الكلام في ذلك. قال الترمذي: وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعلم في كبير شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث – انتهى. قال الحافظ: وقع سرد الأسماء في رواية زهير بن محمد عن موسى بن عقبة عند ابن ماجه. أي كما وقع في رواية الوليد بن مسلم عن شعيب (عند الترمذي وغيره) وهذان الطريقان يرجعان إلى رواية الأعرج وفيهما اختلاف شديد في سرد الأسماء وزيادة ونقص، ووقع سرد الأسماء أيضا في طريق ثالث أخرجها الحاكم في المستدرك (ج1ص17) وجعفر الفريابي في الذكر من طريق عبد العزيز بن الحصين عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة – انتهى كلام الحافظ. قلت: الطرق الثلاث كلها ضعيفة. أما طريق ابن ماجه فلضعف عبد الملك بن محمد صاحب زهير بن محمد. وأما طريق الوليد وعبدالعزيز بن الحصين فلما سيأتي في كلام الحافظ. واختلف العلماء في سرد الأسماء هل هو مرفوع أو مدرج في الخبر من بعض الرواة فمشي كثير منهم على الأول واستدلوا به على جواز تسمية الله تعالى بما لم يرد في القرآن بصيغة الاسم لأن كثيرا من هذه الأسماء كذلك وذهب آخرون إلى أن التعيين مدرج لخلو أكثر الروايات عنه. ونقله عبدالعزيز اليخشبي عن كثير من العلماء. قال ابن كثير في تفسيره

(15/313)


(ج4ص270) والذي عول عليه جماعة من الحفاظ إن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه. وإنما ذلك لأنه رواه عبد الملك بن محمد الصنعاني عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك أي أنهم جمعوها من القرآن كما روي عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة وأبي زيد اللغوي – انتهى. قال الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص54) بعد ذكر كلام ابن كثير هذا: ولا يخفاك إن هذا العدد قد صححه إمامان يعني ابن حبان والحاكم وحسنه إمام يعني النووي في الأذكار فالقول بأن بعض أهل العلم جمعها من القرآن غير سديد ومجرد بلوغ واحد أنه وقع ذلك لا ينتهض لمعارضة الرواة ولا تدفع الأحاديث بمثله – انتهى. قلت قال الحاكم بعد تخريج الحديث من طريق صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم: هذا حديث قد خرجاه في الصحيحين بأسانيد صحيحة دون ذكر الأسامي والعلة فيه عندهما تفرد الوليد بن مسلم، وليس هذا بعلة فإني لا أعلم اختلافا بين أئمة الحديث إن الوليد أوثق وأحفظ وأجل وأعلم من
2311- (3) وعن بريدة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: ((اللهم إني أسألك بأنك أنت الله،

(15/314)


أبي اليمامان وبشر بن شعيب وعلي بن عياش وغيرهما من أصحاب شعيب. قال الحافظ: يشير إلى أن بشرا وعليا وأبا اليمان رووه عن شعيب بدون سياق الأسماء فرواية أبي اليمان عند البخاري في الشروط ورواية علي عند النسائي ورواية بشر عند البيهقي. قال الحافظ: وليست العلة عند الشيخين تفرد الوليد فقط بل الاختلاف فيه والاضطراب وتدليسه واحتمال الإدراج – انتهى. قال الترمذي: وقد روي هذا الحديث بإسناد آخر عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر فيه الأسماء وليس له إسناد صحيح – انتهى. قال الحافظ في التلخيص بعد نقل كلام الترمذي: هذا ما لفظه الطريق التي أشار إليها الترمذي رواها الحاكم (ج1ص17) من طريق عبد العزيز بن الحصين عن أيوب وهشام بن حسان جميعا عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة وفيها زيادة ونقصان. قال الحاكم: هذا حديث محفوظ عن أيوب وهشام بدون ذكر الأسامي وعبد العزيز ثقة. قال الحافظ: بل متفق على ضعفه وهاه البخاري ومسلم وابن معين. وقال البيهقي: هو ضعيف عند أهل النقل – انتهى. قلت وقال الذهبي في تلخيصه متعقبا على الحاكم قلت: بل ضعفوه – انتهى. وقال الحاكم أيضا: إنما أخرجت رواية عبد العزيز بن الحصين شاهدا لرواية الوليد عن شعيب لأن الأسماء التي زادها على الوليد كلها في القرآن. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر كلام الحاكم: هذا كذا قال وليس كذلك وإنما تؤخذ من القرآن بضرب من التكلف لا أن جميعها ورد فيه بصورة الأسماء. قلت: قد استضعف حديث سرد الأسماء جماعة، منهم ابن حزم والداودي وابن العربي وأبوالحسن القابسي وأبوزيد البلخي. قال ابن حزم: الأحاديث الواردة في سرد الأسماء ضعيفة لا يصح شيء منها أصلا ومال الحافظ في الفتح إلى رجحان أن سرد الأسماء مدرج في الحديث إذ قال. وإذا تقرر رجحان أن سرد الأسماء ليس مرفوعا فقد اعتنى جماعة بتتبعها من القرآن من غير تقييد بعدد كما روي عن محمد بن يحيى الذهلي أنه استخرج

(15/315)


الأسماء من القرآن، وعن أبي جعفر بن محمد الصادق أنه قال هي في القرآن، وعن أبي زيد اللغوي أنه أخرجها من القرآن ووافقه سفيان على ذلك، وتقدم عن الشوكاني أنه قوي حديث السرد ورجح القول بكون سرد الأسماء مرفوعا، وفي شرح الأذكار لابن علان ليس لهذا الاختلاف كبير جدوى، فإن الموقوف كذلك حكمه المرفوع لأن مثله لا يقال رأيا – انتهى فتأمل.
2311- قوله: (وعن بريدة) أي ابن الحصيب الأسلمي (سمع رجلا) الظاهر إنه أبوموسى الأشعري كما سيأتي في حديث بريدة الآتي في الفصل الثالث وكما يدل عليه رواية أحمد في مسنده (ج5ص349) (اللهم إني أسألك) لم يذكر المسئول لعدم الحاجة إليه (بأنك أنت الله) كذا في جميع النسخ من المشكاة والمصابيح
لا إله إلا أنت، الأحد، الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، فقال: دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا سأل به أعطى، وإذا دعي به أجاب)). رواه الترمذي، وأبوداود

(15/316)


وفي بعض نسخ أبي داود وهكذا وقع في رواية ابن ماجه والحاكم، ووقع في بعض نسخ أبي داود اللهم إني أسألك إني أشهد إنك أنت الله، ولفظ الترمذي بأني أشهد أنك أنت الله وهكذا عند أحمد. والباء للسببية أي بسبب إني أو بوسيلة إني أشهد فهذا ذكر للوسيلة، وأما المسئول فغير مذكور (الأحد) أي بالذات والصفات (الصمد) أي المقصود في الحوائج على الدوام (الذي لم يلد) لانتفاء مجانسته (ولم يولد) لانتفاء الحدوث عنه (ولم يكن له كفوا أحد) أي مكافئا ومماثلا فله متعلق بكفوا. وقدم عليه لأنه محط القصد بالنفي وأخر أحد وهو اسم يكن عن خبرها رعاية للفاصلة (فقال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (دعا الله) لفظ الترمذي لقد سأل الله، وهكذا في ابن ماجه والمسند والمستدرك في رواية، ولأبي داود لقد سألت الله، وأما لفظ الكتاب فهو للحاكم في رواية أخرى (باسمه الأعظم) في شرح السنة في هذا الحديث دلالة على أن لله تعالى اسما أعظم إذا دعي به أجاب، وإن ذلك هو المذكور ههنا، وهو حجة على من قال ليس الاسم الأعظم اسما معينا بل كل اسم ذكر بإخلاص تام مع الإعراض عما سوى الله هو الاسم الأعظم، لأن شرف الاسم بشرف المسمى لا بواسطة الحروف المخصوصة. قال الطيبي: وقد ذكر في أحاديث أخر مثل ذلك: وفيها أسماء ليست في هذا الحديث إلا أن لفظ الله مذكور في الكل فيستدل بذلك على أنه الاسم الأعظم – انتهى. وسيأتي الكلام في ذلك مفصلا في آخر الباب (الذي إذا سأل به أعطى وإذا دعي بها أجاب) كذا في رواية أبي داود وابن ماجه وأحمد بتقديم السؤال على الدعاء. ووقع عند الترمذي بتقديم الدعاء على السؤال. قيل السؤال أن يقول العبد أعطني الشيء الفلاني فيعطي، والدعاء أن ينادي ويقول يا رب فيجيب الرب تعالى ويقول لبيك يا عبدي ففي مقابلة السؤال الإعطاء وفي مقابلة الدعاء الإجابة وهذا هو الفرق بينهما ويذكر أحدهما مقام الآخر أيضا. وقيل الفرق بينهما إن الثاني أبلغ، فإن إجابة

(15/317)


الدعاء تدل على شرف الداعي ووجاهته عند المجيب بخلاف السؤال فإنه قد يكون مذموما كما يكون في إثم أو قطيعة رحم. وقال الطيبي: إجابة الداعي تدل على وجاهة الداعي عند المجيب فيتضمن قضاء الحاجة بخلاف الإعطاء فالأخير أبلغ وقوله أعطي وأجاب أي بأن يعطي عين المسئول بخلاف الدعاء بغيره فإنه وإن كان لا يرد لكنه إما أن يعطاه أو يدخره للآخرة أو يعوض (رواه الترمذي) في جامع الدعوات وحسنه (وأبو داود) في أواخر الصلاة وسكت عنه وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص350) والنسائي في الكبرى وابن ماجه في الدعاء وابن حبان وابن أبي شيبة وابن السني (ص243) والحاكم (ج1ص504) وقال: صحيح على شرط الشيخين. ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره، وقال قال شيخنا أبوالحسن المقدسي: إسناده لا مطعن فيه ولا أعلم أنه روي في هذا الباب
2312- (4) وعن أنس، قال: ((كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، ورجل يصلي، فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت الحنان، المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم! أسألك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
حديث أجود إسنادا منه، وهو يدل على بطلان مذهب من ذهب إلى نفي القول بأن لله اسما هو الاسم الأعظم وهو حديث حسن – انتهى. وقال الحافظ في الفتح: هو أرجح من حيث السند من جميع ما ورد في ذلك انتهى.

(15/318)


2312- قوله: (وعن أنس قال كنت جالسا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ورجل يصلي فقال اللهم) لفظ الترمذي عن أنس قال دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد ورجل قد صلى وهو يدعو وهو يقول في دعائه اللهم، ولأبي داود عن أنس أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا ورجل يصلي ثم دعا اللهم، وفي ابن ماجه عن أنس قال سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يقول اللهم والرجل المذكور هم أبوعياش الزرقي، فإن الحديث ذكره المنذري في الترغيب من رواية الإمام أحمد وفيه مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي عياش الزرقي بن الصامت وهو يصلي وهو يقول اللهم الحديث. قال الهيثمي بعد عزوه لأحمد والطبراني في الصغير: ورجال أحمد ثقات إلا أن ابن إسحاق مدلس وإن كان ثقة (بأن لك الحمد) تقديم الجار للاختصاص (لا إله إلا أنت) زاد ابن ماجه وحدك لا شريك لك (الحنان) كذا في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة والمصابيح، وسقط هذا اللفظ عن النسخ التي اعتمدها القاري وأخذها في شرحه ولم يقع أيضا في رواية الترمذي وأبي داود وابن ماجه والحاكم، نعم وقع عند أحمد كما في الترغيب. قال القاري: وفي نسخة صحيحة يعني من المشكاة الحنان قبل المنان وهو المفهوم من المفاتيح – انتهى. قال في النهاية: الحنان الرحيم بعباده فعال للمبالغة من الحنان بالتخفيف بمعنى الرحمة (المنان) بتشديد النون أيضا وهو المنعم المعطي من المن العطاء لا من المنة، وكثيرا ما يرد المن في كلامهم بمعنى الإحسان إلى من لا يستثيبه ولا يطلب الجزاء عليه فالمنان من أبنية المبالغة كالسفاك والوهاب أي كثير العطاء والإنعام. قال صاحب الصحاح: من عليه منا أي أنعم (بديع السماوات والأرض) قال القاري: يجوز فيه الرفع على أنه صفة المنان أو خبر المبتدأ محذوف أي هو أو أنت وهو أظهر والنصب على النداء ويقويه رواية الواحدي في كتاب الدعاء له يا بديع السماوات كذا في شرح الجزري على

(15/319)


المصابيح. قلت: في رواية أحمد على ما نقله المنذري في الترغيب يا حنان يا منان يا بديع السماوات والأرض، وفي الأدب المفرد يا بديع السماوات يا حي يا قيوم إني أسألك (يا ذا الجلال والإكرام) أي ذا العظمة والكبرياء وذا الإكرام لأوليائه (يا حي يا قيوم) ليس هذا اللفظ عند الترمذي وابن ماجه، نعم وقع عند أبي داود والنسائي وابن حبان والحاكم (أسألك) أي ولا أسأل غيرك ولا أطلب سواك أو أسألك كلما أسأل أو هو تأكيد للأول وليس هذا اللفظ في الحصن ولم أره في كتاب سوى
دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سأل به أعطى)). رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه.
2313- (5) وعن أسماء بنت يزيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: ?وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم?، وفاتحة آل عمران: ?الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم?
المشكاة وسوى الأدب المفرد، وزاد الحاكم في رواية أسألك الجنة وأعوذ بك من النار (دعا الله باسمه الأعظم) هكذا عند الترمذي وابن ماجه وفي سنن أبي داود دعا الله باسمه العظيم (رواه الترمذي) وقال هذا حديث غريب (وأبو داود) وسكت عنه (والنسائي) في الكبرى (وابن ماجه) وأخرجه أيضا أحمد وابن حبان والحاكم وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي والطبراني في الصغير وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد مختصرا بلفظ: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعا رجل فقال: يا بديع السماوات يا حي يا قيوم إني أسألك فقال أتدرون بما دعا؟ والذي نفسي بيده دعا باسمه الذي إذا دعي به أجاب، وفي الباب عن أبي طلحة عند الطبراني وفيه أبان بن عياش وهو متروك.

(15/320)


2313- قوله: (وعن أسماء بنت يزيد) هن الزيادة ابن السكن بن رافع بن امرىء القيس بن زيد بن عبد الأشهل الأنصارية الأوسية ثم الأشهلية أم سلمة، ويقال أم عامر وهي من المبايعات روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة أحاديث كانت من ذوات العقل والدين، وكان يقال لها خطيبة النساء وهي ابنة عمة معاذ بن جبل، وقد شهدت اليرموك وقتلت يومئذ تسعة من الروم بعمود فسطاطها وعاشت بعد ذلك دهرا روي عنها شهر بن حوشب وغيره (اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين) أي في جميعهما، أو مجموعهما يجوز أن يراد أنه في هاتين الآيتين كلتيهما على سبيل الاجتماع لا الإنفراد كما حديث أبي أمامة عند ابن ماجه وغيره كذا قال القاري في شرح الحصن. وقال السندي: قوله اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين الخ يريد أنه لا إله إلا هو وهذا هو المراد من حديث القاسم عن أبي أمامة أيضا (وإلهكم إله واحد) أي المستحق للعبادة واحد لا شريك له (لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) المنعم بجلائل النعم ودقائقها (وفاتحة آل عمران) أي ابتداء سورة آل عمران وفاتحة بالجر على أنها وما قبلها بدلان أو عطف بيان، وجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ثانيتهما أو الأخرى أو بالعكس أي ومنهما والنصب بتقدير أعني (الم، الله لا إله إلا هو الحي القيوم) كذا وقع تعيين الآيتين عند من عزا له المصنف – الحديث. وهو عند الثلاثة من رواية عيسى بن يونس عن عبيد الله بن أبي زياد عن شهر عن أسماء، وعند الدارمي من رواية
رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه، والدارمي.

(15/321)


أبي عاصم عن عبيدالله، وخالف محمد بن بكر عيسى بن يونس وأبا عاصم فروى أحمد (ج6ص461) من طريقه عن عبيد الله عن شهر عن أسماء قالت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في هاتين الآيتين: ?الله لا إله إلا هو الحي القيوم ? [آل عمران: 2] و ?الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم? [آل عمران: 1، 2] إن فيهما اسم الله الأعظم وروي ابن ماجه والحاكم (ج1ص509) والطبراني في الكبير من طريق القاسم بن عبدالرحمن الشامي عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن اسم الله الأعظم في ثلاث سور من القرآن في سورة البقرة وآل عمران وطه. قال المناوي في شرحه الكبير على الجامع: وفيه أي عند الحاكم والطبراني هشام بن عمار مختلف فيه. وقال في المختصر: وإسناده حسن، وقيل صحيح. وقال البوصيري في الزوائد: في إسناده أي عند ابن ماجه غيلان بن أنس لم أر لأحد فيه كلاما لا يجرح ولا توثيق وباقي رجال الإسناد ثقات – انتهى. قلت قال الحافظ في التقريب في ترجمة غيلان هذا: إنه مقبول – انتهى. قال القاسم بن عبد الرحمن الشامي المذكرر: فالتمستها فعرفت أنه الحي القيوم. وقال الجزري في الحصن: وعندي إنه الله لا إله إلا هو الحي القيوم جمعا بين الحديثين، وبيانه إن حديث أسماء نص في أنه لا إله إلا هو الحي القيوم، وحديث أبي أمامة في ثلاث سور البقرة وآل عمران وطه ?والله لا إله إلا هو الحي القيوم? في هذه السور أما البقرة وآل عمران فظاهر، وأما طه ففيها أولا ?الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى? [طه: 8] وآخرا وعنت الوجوه للحي القيوم. قال الحنفي: فيه نظر لجواز كون الاسم الأعظم المأخوذ في هذا المجموع، قلت: (قائله القاري) الأظهر في هذا المجمع أن يقال الله لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الحي القيوم ليكون مشتملا على جميع ما ذكره في السور وكأن الجزري نظر إلى أن الموجود في جميعها الله لا إله إلا هو الحي القيوم كذا ذكره القاري في شرح الحصن.

(15/322)


قلت: والأظهر عندي ما قاله الجزري لما ذكرنا من رواية أحمد وتقدم عن السندي أنه قال المراد به لا إله إلا هو والله تعالى أعلم (رواه الترمذي الخ) وأخرجه أيضا أحمد (ج6ص461) وابن أبي شيبة كلهم من طريق عبيدالله بن أبي زياد القداح عن شهر بن حوشب عن أسماء، قال الترمذي: حديث حسن صحيح وسكت عنه أبوداود. وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر الحديث: حسنه الترمذي، وفي نسخة صححه وفيه نظر لأنه من رواية شهر بن حوشب – انتهى. وقال المنذري في تلخيص السنن: وأخرجه الترمذي وقال حديث حسن، هذا آخر كلامه، وشهر بن حوشب وثقه أحمد وابن معين وتكلم فيه غير واحد، وعبيد الله بن أبي زياد القداح المكي قد تكلم فيه أيضا غير واحد – انتهى. وقال في رجال الترغيب في ترجمة عبيد الله هذا قال ابن معين ضعيف. وقال أبوداود أحاديث مناكير، وقال أحمد: ليس بثقة وقال مرة صالح الحديث، وقال أبوأحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. وقال ابن عدي: لم أر له شيئا منكرا، وقال يحيى
2314- (6) وعن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعوة ذي النون، إذا دعا ربه، وهو في بطن الحوت، ?لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين?، لم يدع بها، رجل مسلم في شيء، إلا استجاب)). رواه أحمد والترمذي.
ابن سعيد كان وسطا ليس بذاك وصحح الترمذي حديثه في اسم الله الأعظم. وقال الحافظ في التقريب في عبيد الله بن أبي زياد القداح المكي: ليس بالقوي عندهم، وفي شهر بن حوشب صدوق كثير الإرسال والأوهام.

(15/323)


2314- قوله: (وعن سعد) أي ابن أبي وقاص (دعوة ذي النون) أي دعا صاحب الحوت وهو يونس عليه الصلاة والسلام (إذا دعا ربه) كذا في بعض النسخ من المشكاة وهكذا في الأذكار للنووي وفي بعضها إذا دعا أي بسقوط ربه، وفي الترمذي إذا دعا وهكذا ذكر الجزري في جامع الأصول (ج5ص110) والبغوي في المصابيح وكذا وقع عند الحاكم. قال القاري: قوله "إذا دعا" أي ربه كما في نسخة صحيحة يعني من المشكاة وهو غير موجود في الترمذي لكنه مذكور في الأذكار كذا في المفاتيح وهو ظرف دعوة. ولفظ أحمد دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت (وهو في بطن الحوت) جملة حالية ?لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين? [الأنبياء: 87] قال القاري: بدل من الدعوة لأنها في الأصل المرة من الدعاء، ويراد بها هنا المدعو به مع التوسل فيه بما يكون سببا لاستجابته (لم يدع بها) أي بتلك الدعوة أو بهذه الكلمات وفي الترمذي فإنه لم يدع بها وكذا نقله المنذري في الترغيب عن الترمذي وهكذا وقع في رواية أحمد. وعلى هذا فالظاهر إن قوله لا إله إلا أنت خبر لقوله دعوة ذي النون، والتقدير فعليك أن تدعو بهذه الدعوة فإنه لم يدع بها الخ (في شي) أي من الحاجات (إلا استجاب) أي الله (رواه أحمد) (ج1ص170) أي مطولا مع قصة وكذا أبويعلى والبزار. قال الهيثمي (ج10ص159) وهو عند الترمذي طرف منه، قال ورجال أحمد وأبي يعلى وأحد إسنادي البزار رجال الصحيح غير إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقاص وهو ثقة. (والترمذي) وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن أبي حاتم وابن مردوية، والبيهقي في الشعب كما في فتح القدير (ج3ص410) والحاكم (ج1ص505) وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وزاد الحاكم في طريق عنده فقال رجل يا رسول الله هل كانت ليونس خاصة أم للمؤمنين عامة؟ فقال رسول الله، ألا تسمع قول الله عزوجل ?ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين? [الأنبياء: 88]

(15/324)


ورواه ابن جرير بلفظ: اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطي دعوة يونس بن متي، قلت يا رسول الله هل ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال هي ليونس خاصة وللمؤمنين عامة إذا دعوا به الم تسمع قول الله ?وكذلك ننجي المؤمنين? فهو شرط من الله لمن دعاه.
?الفصل الثالث?
2315- (7) عن بريده، قال: ((دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد عشاء، فإذا رجل يقرأ، ويرفع صوته، فقلت: يا رسول الله! أتقول: هذا مراء؟ قال: بل مؤمن منيب. قال: وأبوموسى الأشعري يقرأ، ويرفع صوته، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسمع لقراءته، ثم جلس أبوموسى يدعوا، فقال: اللهم إني أشهد أنك أنت الله، لا إله إلا أنت، أحدا صمدا، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد سأل الله باسمه الذي إذا سئل به أعطي، وإذا دعي به أجاب. قلت: يا رسول الله! أخبره بما سمعت منك؟ قال: نعم. فأخبرته بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال لي: أنت اليوم لي

(15/325)


2315- قوله: (عشاء) أي وقت عشاء أو لصلاة عشاء (فإذا) للمفاجأة (أتقول) قال ابن حجر: أي أترى وهو أولى من قول الشارح يعني الطيبي أي أتعتقد أو أتحكم لرواية شرح السنة أتراه مرائيا (هذا) أي هذا الرجل (مراء) أي يقرأ للسمعة والرياء بقرينة رفع صوته المحتمل أن يكون كذلك (منيب) أي راجع من الغفلة إلى الذكر (قال وأبوموسى الأشعري يقرأ ويرفع صوته) أي قال بريدة قلت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحال إن أبا موسى هو الذي يقرأ فالرجل المذكور في صدر الحديث هو أبوموسى كما صرح به في رواية أحمد وشرح السنة ومحمل قول بريدة أتقول هذا مراء عدم معرفته به قبل ذلك، والحديث ذكره الجزري في جامع الأصول (ج5ص22) عن رزين وفيه، قال أبوموسى الأشعري يقرأ الخ، أي بسقوط الواو قبل أبوموسى والظاهر أن الحذف من الناسخ (يتسمع) من باب التفعل فهو من التسمع لا من الاستماع (ثم جلس أبوموسى يدعوا) لعله في التشهد أو بعد الصلاة. قال ابن حجر: علم منه إن قراءته مع رفع صوته كانت وهو قائم (فقال) أي أبوموسى في دعائه (اللهم إني أشهدك) أي أعتقد فيك قاله القاري. وفي رواية أحمد اللهم إني أسألك بأني أشهد (أحدا صمدا) منصوبان على الاختصاص كقوله ?شهد الله أنه لا إله إلا هو? إلى قوله ?قائما بالقسط? وفي شرح السنة معرفان مرفوعان على أنهما صفتان لله ذكره القاري، قلت وكذا وقعا معرفين مرفوعين في رواية أحمد (لقد سأل) أي أبوموسى الأشعري (أخبره) بحذف الاستفهام، وفي رواية أحمد ألا أخبره (بما سمعت منك) من مدحه ومدح دعائه (فقال لي) أي أبوموسى فرحا بما ذكرته له (أنت اليوم لي) أي في هذا الزمان
أخ صديق، حدثتني بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم)). رواه رزين.

(15/326)


(أخ صديق) أي الجامع بين الأخوة والصداقة، وسقط لفظ الأخ في جامع الأصول وهو غير موجود أيضا في رواية أحمد (حدثتني بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم) حال أو استئناف. بيان وفيه إشعارا بأن الباعث له على المؤاخاة هو تحديثه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تضمنه لمدحه ولو كان ذلك أيضا ليس فيه بأس لأن تبشيره به من لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعادة عظيمة ليس فيه محل عجب أو تزكية للنفس كذا في اللمعات (رواه رزين) أي ذكره رزين في تجريده هكذا مطولا بدون سند. قلت ويدل كلام ابن حجر والقاري أنه رواه البغوي في شرح السنة بسنده هكذا مطولا، ورواه أحمد في مسنده (ج5ص349) عن عثمان بن عمر أنا مالك (بن مغول) عن ابن بريدة عن أبيه قال خرج بريدة عشاء فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيده فأدخله المسجد فإذا صوت رجل يقرأ فقال النبي صلى الله عليه وسلم تراه مرائيا فأسكت بريدة فإذا رجل يدعوا فقال اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده أو قال والذي نفس محمد بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سأل به أعطي وإذا دعي به أجاب، قال فلما كان من القابلة خرج بريده عشاء فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيده فأدخله المسجد، فإذا صوت الرجل يقرأ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أتقوله مراء فقال بريدة أتقوله مرائيا يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا، بل مؤمن منيب، فإذا الأشعري يقرأ بصوت له في جانب المسجد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الأشعري أو إن عبد الله بن قيس أعطى مزمارا من مزامير داود، فقلت ألا أخبره يا رسول الله! قال بلى! فأخبره فأخبرته فقال أنت لي صديق أخبرتني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث - انتهى. وأصل الحديث عند الأربعة وأحمد

(15/327)


أيضا وابن حبان وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور والحاكم والبيهقي كما تقدم وسبق أيضا عن الحافظ أنه قال حديث بريدة أرجح ما ورد في الاسم الأعظم من حيث السندي هذا وقد ذكر المصنف في تعيين الاسم الأعظم كما ترى أربعة أحاديث. وقد ورد في ذلك أحاديث أخرى، منها حديث أبي أمامة وقد ذكرنا لفظه في شرح حديث أسماء، ومنها حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في هذه الآية من آل عمران: ?قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء? [آل عمران: 36] إلى آخر الآية. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وفيه حنش بن فرقد وهو ضعيف. قال المناوي: وفي إسناده، أيضا محمد بن زكريا السعداني وثقه ابن معين، وقال أحمد: ليس بالقوي، وقال النسائي والدار قطني: ضعيف. وفي إسناده أيضا أبوالجوزاء وفيه نظر. ومنها حديث ابن عباس أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - اسم الله الأعظم في آيات من آخر سورة الحشر، أخرجه الديلمي ذكره الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص52) وسكت عنه. وفي

(15/328)


هذه الأحاديث دلالة واضحة على أن لله تعالى اسما أعظم إذا سأل به أعطي وإذا دعي به أجاب. وقد أنكره بعض أهل العلم،وذهب إلى أنه لا وجود له كما سيأتي والقول الراجح قول من أثبته وهم الجمهور، وأحاديث الباب حجة على المنكرين. قال الحافظ في الفتح: قد أنكره قوم كأبي جعفر الطبري وأبي الحسن الأشعري وجماعة بعدهما كأبي حاتم بن حبان والقاضي أبي بكر الباقلاني فقالوا: لا يجوز تفضيل بعض الأسماء الإلهية على بعض، لأنه يؤذن باعتقاد نقصان المفضول عن الأفضل. وحملوا ما ورد من ذلك على أن المراد بالأعظم العظيم وإن أسماء الله كلها عظيمة. وعبارة أبي جعفر الطبري اختلف الآثار في تعيين الاسم الأعظم والذي عندي إن الأقوال كلها صحيحة إذ لم يرد في خبر أنه الاسم الأعظم ولا شيء أعظم منه فكأنه يقول كل اسم من أسماءه تعالى يجوز وصفه بكونه أعظم فيرجع إلى معنى عظيم كما تقدم. وقال ابن حبان: إلا عظيمة الواردة في الأخبار إنما يراد بها مزيد ثواب الداعي بذلك كما أطلق ذلك في القرآن والمراد به مزيد ثواب القاري وقيل المراد بالاسم الأعظم كل اسم من أسماء الله تعالى دعا العبد به ربه مستغرقا بحيث لا يكون في فكره حالتئذ غير الله تعالى، فإن من تأتي له ذلك استجيب له، ونقل معنى هذا عن جعفر الصادق وعن الجنيد وعن غيرهما. وقال آخرون استأثر الله تعالى بعلم الاسم الأعظم ولم يطلع عليه أحدا من خلقه وأثبته آخرون معينا واضطربوا في ذلك وجملة ما وقفت عليه من ذلك أربعة عشر قولا. الأول، الاسم الأعظم "هو" نقله الفخر الرازي عن بعض أهل الكشف واحتج له بأن من أراد أن يعبر عن كلام معظم بحضرته لم يقل له أنت قلت كذا، وإنما يقول هو يقول تأدبا معه. الثاني الله لأنه اسم لم يطلق على غيره ولأنه الأصل في الأسماء الحسنى ومن ثم أضيفت إليه. الثالث الله الرحمن الرحيم ولعل مستنده ما أخرجه ابن ماجه عن عائشة إنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمها الاسم

(15/329)


الأعظم فلم يفعل فصلت ودعت اللهم إني أدعوك الله وأدعوك الرحمن وأدعوك الرحيم وأدعوك بأسمائك الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم – الحديث. وفيه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال إنه لفي الأسماء التي دعوت بها. قال الحافظ: وسنده ضعيف، وفي الاستدلال به نظر لا يخفي. الرابع الرحمن الرحيم الحي القيوم لما أخرج الترمذي من حديث أسماء بنت يزيد يعني حديثها المذكور في الباب. الخامس الحي القيوم أخرج ابن ماجه من حديث أبي أمامة يعني حديثه الذي ذكرنا في شرح حديث أسماء وقواه الفخر الرازي واحتج بأنهما يدلان من صفات العظمة بالربوبية ما لا يدل على ذلك غيرهما كدلالتهما. السادس الحنان المنان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام الحي القيوم، ورد ذلك مجموعا في حديث أنس عند أحمد والحاكم وأصله عند أبي داود والنسائي وصححه ابن حبان.
(3) باب ثواب التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير

(15/330)


السابع بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام أخرجه أبويعلى من طريق السري بن يحيى عن رجل من طي وأثنى عليه قال كنت أسأل الله أن يريني الاسم الأعظم فأريته مكتوبا في الكواكب في السماء. الثامن ذو الجلال والإكرام أخرج الترمذي من حديث معاذ بن جبل قال سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يقول يا ذا الجلال والإكرام، فقال قد استجيب لك فسل، واحتج له الفخر بأنه يشمل جميع الصفات المعتبرة في الإلهية لأن في الجلال إشارة إلى جميع السلوب وفي الإكرام إشارة إلى جميع الإضافات. التاسع الله لا إله إلا هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، أخرجه أبوداود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث بريدة وهو أرجح من حيث السند من جميع ما ورد في ذلك. العاشر رب رب أخرجه الحاكم من أبي الدرداء وابن عباس بلفظ: اسم الله الأكبر رب رب. وأخرج ابن أبي الدنيا عن عائشة إذا قال العبد يا رب يا رب قال الله تعالى لبيك عبدي سل تعط، رواه مرفوعا وموقوفا. الحادي عشر دعوة ذي النون فذكر حديث سعد المذكور في الباب. الثاني عشر نقل الفخر الرازي عن زين العابدين أنه سأل الله أن يعلمه الاسم الأعظم فرأى في النوم هو الله الله الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم. الثالث عشر هو مخفي في الأسماء الحسنى ويؤيده حديث عائشة المتقدم لما دعت ببعض الأسماء وبالأسماء الحسنى فقال لها صلى الله عليه وسلم إنه لفي الأسماء التي دعوت بها، الرابع عشر كلمة التوحيد نقله عياض عن بعض العلماء – انتهى كلام الحافظ باختصار يسير. وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين: قد اختلف في تعيين الاسم الأعظم على نحو أربعين قولا قد أفردها السيوطي بالتصنيف قال ابن حجر: وأرجحها من حيث السند الله لا إله إلا هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد – انتهى.

(15/331)


(باب ثواب التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير) تخصيص بعد تعميم من باب ذكر الله عزوجل، والمراد بيان الأحاديث التي وردت في فضل قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وثوابه، ومعنى التسبيح تنزيه الله تعالى عما لا يليق به من كل نقص فيلزم نفي الشريك والصاحبة والولد وجميع الرذائل وسمات الحدوث مطلقا. وقد يطلق التسبيح ويراد به جميع ألفاظ الذكر ويطلق به ويراد به الصلاة النافلة. وقال ابن الأثير: وأصل التسبيح التنزيه من النقائص ثم استعمل في مواضع تقرب منه اتساعا يقال سبحته أسبحة تسبيحا وسبحانا أي برا ونزه، ويقال أيضا للذكر والصلاة النافلة سبحة، يقال قضيت سبحتي والسبحة من التسبيح كالسخرة من التسخير.
?الفصل الأول?
2316- (1) عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الكلام أربع: سبحان الله،

(15/332)


2316- قوله: (أفضل الكلام) أي كلام البشر، أما كلام الله تعالى فهو أفضل مطلقا، وأما الاشتغال فهو بالقرآن أفضل إلا بالذكر في وقت مخصوص فهو أفضل من الاشتغال بالقرآن، فالكلام في مقامين نفس الكلام والاشتغال، أي صرف الوقت. قال النووي: هذا (الحديث وما أشبهه) محمول على كلام الآدمي وإلا فالقرآن أفضل، وكذا قراءة القرآن أفضل من التسبيح والتهليل المطلق. فأما المأثور في وقت أو حال أو نحو ذلك فالاشتغال به أفضل – انتهى. وقال القاري: أفضل الكلام أربع أي أفضل كلام البشر، لأن الرابعة لم توجد في القرآن ولا يفضل ما ليس فيه على ما هو فيه، ولقوله عليه الصلاة والسلام هي أفضل الكلام بعد القرآن وهي من القرآن أي غالبها يعني إن الثلاثة الأول وإن وجدت في القرآن لكن الرابعة لم توجد فيه فقوله هي من القرآن مبني على التغليب. قلت: أراد القاري بقوله عليه الصلاة والسلام ما رواه أحمد (ج5ص20) عن سمرة بلفظ: أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهي من القرآن لا يضرك بأيهن بدأت – الحديث. وقيل: معنى هي من القرآن أي متفرقة فيه لا مجتمعة لورود "سبحان الله حين تمسون ولمجيء الحمد لله كثيرا" ولقوله تعالى: ?فاعلم أنه لا إله إلا الله? [محمد: 19] وأما قوله الله أكبر فغير موجود بهذا المبنى لكنه بحسب المعنى مستفاد من قوله تعالى: ?وكبره تكبيرا? [الإسراء: 111] ومن قوله ?وربك فكبر? [المدثر: 3] ومأخوذ من قوله ?ولذكر الله أكبر? [العنكبوت: 45] ومن قوله: ?ورضوان من الله أكبر? [التوبة: 72] والحاصل إن المجموع بهذا الترتيب ليس من القرآن ولذا قال الجزري: أي كل منها جاءت في القرآن – انتهى. قال القاري: ويحتمل أي قوله أفضل الكلام في حديث الباب أن يتناول كلام الله أيضا فإنها موجودة فيه لفظا، إلا الرابعة فإنها موجودة معنى وأفضليتها مطلقا لأنها هي الجامعة لمعاني التنزيه والتوحيد وأقسام الثناء والتحميد وكل كلمة منها معدودة من كلام الله وهذا

(15/333)


ظاهر معنى ما ورد هي من القرآن أي كلها – انتهى. (سبحان الله) سبحان اسم مصدر وهو التسبيح. وقيل: بل سبحان مصدر لأنه سمع له فعل ثلاثي وهو من الأسماء اللازمة للإضافة وقد يفرد وإذا أفرد منع الصرف للتعريف وزيادة الألف والنون كقوله:
أقول لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر
وجاء منونا كقوله:
سبحانه ثم سبحانا يعود له وقبلنا سبح الجودي والجمد
والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)).
فقيل صرف ضرورة، وقيل هو بمنزلة قبل وبعد إن نوى تعريفه بقي على حاله وإن نكر أعرب منصرفا وهذا البيت يساعد على كونه مصدر إلا اسم مصدر لوروده منصرفا، ولقائل القول الأول أن يجيب بأن هذا نكرة لا معرفة وهو من الأسماء اللازمة النصب على المصدرية والناصب له فعل مقدر لا يجوز إظهار تقديره سبحت الله سبحانا كسبحت الله تسبيحا فهو واقع موقع المصدر. وعن الكسائي أنه منادى تقديره يا سبحانك ومنعه جمهور النحويين وهو مضاف إلى المفعول، أي سبحت الله، ويجوز أن يكون مضافا إلى الفاعل أي نزه الله نفسه والأول هو المشهور (والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) قال المناوي: وإنما كانت هذه الكلمات الأربع أفضل الكلام لأنها تتضمن تنزيهه تعالى عن كل ما يستحيل عليه ووصفه بكل ما يجب له من أوصاف كماله وإنفراده لوحدانيته واختصاصه بعظمته وقدمه المفهومين من أكبريته. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: أسماء الله الحسنى التي سمي بها نفسه في كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - مندرجة في أربع كلمات هن الباقيات الصالحات. الكلمة الأولى: قوله سبحان الله ومعناها في كلام العرب التنزيه والسلب، فهي مشتملة على سلب النقص والعيب عن ذات الله تعالى وصفاته فما كان من أسمائه سلبا فهو مندرج تحت هذه الكلمة كالقدوس، وهو الطاهر من كل عيب والسلام وهو الذي سلم من كل آفة. الكلمة الثانية: قوله الحمد لله وهي مشتملة على ضروب الكمال لذاته وصفاته فما كان من

(15/334)


أسمائه متضمنا للإثبات كالعليم والقدير والسميع والبصير فهو مندرج تحت الكلمة الثانية، فقد نفينا بقولنا سبحان الله كل عيب عقلناه، وكل نقص فهمناه وأثبتنا بالحمد لله كل كمال عرفناه، وكل جلال أدركناه، ووراء ما نفيناه وأثبتناه شأن عظيم قد غاب عنا وجهلناه فنحققه من جهة الإجمال بقولنا الله أكبر، وهي الكلمة الثالثة: بمعنى أنه أجل مما نفيناه، وأثبتناه، وذلك معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك فما كان من أسماءه متضمن المدح فوق ما عرفناه وأدكناه كالأعلى والمتعالي، فهو مندرج تحت قولنا الله أكبر، فإذا كان في الوجود من هذا شأنه نفينا أن يكون في الوجود من يشاكله أو يناظره فحققنا ذلك بقولنا لا إله إلا الله وهي الكلمة الرابعة: فإن الألوهية ترجع إلى استحقاق العبودية ولا يستحق العبودية إلا من اتصف بجميع ما ذكرناه فما كان من أسماءه متضمنا للجميع على الإجمال كالواحد الأحد ذي الجلال والإكرام فهو مندرج تحت قولنا لا إله إلا الله. وإنما استحق العبودية لما وجب له من أوصاف الجمال ونعوت الكمال الذي لا يصفه الواصفون ولا يعده العادون كذا ذكره السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (ج5ص86، 87) وفي الحديث إن أفضل الكلام هذه الكلمات الأربع، وظاهره يعارض ما سيأتي من حديث أبي ذر سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الكلام أفضل؟ فقال: سبحان وبحمده. وما سيأتي في الفصل الثاني من حديث جابر أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأيضا حديث أبي ذر هذا يدل
وفي رواية: ((أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر لا يضرك بأيهن بدأت)).

(15/335)


على أفضلية التسبيح مطلقا وهو مخالف لحديث جابر، فإنه يدل على أفضلية التهليل مطلقا: وقد جمع القرطبي بما حاصله إن هذه الأذكار إذا أطلق على بعضها أنه أفضل الكلام أو أحبه إلى الله، فالمراد إذا انضمت إلى أخواتها بدليل حديث سمرة عند مسلم أحب الكلام أربع لا يضرك بأيهن بدأت سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر: ويحتمل أن يكتفي في ذلك بالمعنى فيكون من اقتصر على بعضها كفى، لأن حاصلها التعظيم والتنزيه ومن نزهه فقد عظمه ومن عظمه فقد نزهه – انتهى. وقيل: يحتمل أن يجمع بأن تكون "من" مضمرة في قوله أفضل الذكر لا إله إلا الله، وفي قوله أفضل الكلام وكذا في قوله الآتي أحب الكلام بناء على أن لفظ أفضل وأحب متساويان في المعنى. قلت: ويؤيد ذلك ما وقع في رواية أحمد (ج5ص11) أربع من أطيب الكلام وهن من القرآن لا يضرك بأيهن بدأت سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص243) تحت رواية سمرة: أحب الكلام إلى الله أربع الخ. في الحديث دليل على أن هذه الأربع الكلمات أحب إلى الله تعالى، ولا ينافيه ما سيأتي من أن سبحان الله وبحمده أحب الكلام إلى الله، لأن التسبيح والتحميد هن من جملة هذه الأربع المذكورة هنا (وفي رواية أحب الكلام إلى الله أربع )أي أربع كلمات (سبحان الله) أي اعتقد تنزهه عن كل ما لا يليق بجمال ذاته وكمال صفاته وهذا بمنزلة التخلية ولذا أردفه بما يدل على أنه المتصف بالأسماء الحسنى والصفات العلى المستحق لإظهار الشكر وإبداء الثناء وهو بمنزلة التحلية ولذا قال (والحمد لله) ثم أشار إلى أنه متوحد في صفاته السلبية ونعوته الثبوتية فقال (ولا إله إلا الله) ثم أو ما إلى أنه لا يتصور كنه كبريائه وعظمة إزاره وردائه بقوله (والله أكبر) ثم قال (لا يضرك بأيهن) أي بأي الكلمات (بدأت) أي لا يضرك أيها الآتي بهن في حيازة ثوابهن لأن كلا منها مستقل فيما قصد بها من

(15/336)


بيان جلال الله وكماله، ولكن الترتيب المذكورة أفضل وأكمل للمناسبة الظاهرة من تقديم التنزيه وإثبات التحميد ثم الجمع بينهما بكلمة التوحيد المشتملة على التسبيح والتحميد ثم الختم بكون سبحانه أكبر من أن يعرف حقيقة تسبيحه وتحميده. قال ابن الملك: يعني بدأت بسبحان الله أو بالحمد لله أو بلا إله إلا الله أو بالله أكبر جاز، وهذا يدل على أن كل جملة منها مستقلة لا يجب ذكرها على نظمها المذكور لكن مراعاتها أولى، لأن المتدرج في المعارف يعرفه أولا بنعوت جلاله التي تنزه ذاته عما يوجب نقصا، ثم بصفات كماله وهي صفاته الثبوتية التي بها يستحق الحمد، ثم يعلم أن من هذا صفته لا مماثل له ولا يستحق الألوهية غيره فيكشف له من ذلك إنه أكبر إذ كل شيء هالك إلا وجهه – انتهى. قال الشوكاني: واعلم أن هذه "الواو" الواقعة بين هذه الكلمات هي واقعة لعطف بعضها على بعض كسائر الأمور المتعاطفة فهل يكون
رواه مسلم.
2317- (2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس)). رواه مسلم.
2318- (3) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال سبحان الله

(15/337)


الذكر بها بغير واو فيقول الذاكر سبحان الله الحمد لله لا إله إلا الله الله أكبر، أو يكون الذكر بها مع الواو فيقول الذاكر سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، والظاهر الأول لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بأنهم يقولون كذا وكذا فالمقول هو المذكور من دون حرف العطف كسائر التعليمات الواردة عنه صلى الله عليه وسلم – انتهى (رواه مسلم) فيه نظر فإن الرواية الأولى ليست في صحيح مسلم. إنما روي مسلم الرواية الثانية فقط في باب كراهة التسمية بالأسماء القبيحة من كتاب الآداب. وأما الرواية الأولى فأخرجها ابن ماجه في فضل التسبيح ونسبها في التنقيح لابن أبي شيبة وابن حبان أيضا وأخرجها أحمد (ج5ص20) وزاد "بعد القرآن وهي من القرآن" ورواها أيضا أحمد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال المنذري: رواته محتج بهم في الصحيح. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح والرواية الثانية أخرجها أيضا أحمد (ج5ص10، 21) ونسبها في الكنز والتنقيح لابن أبي شيبة وابن حبان والطبراني في الكبير وابن شاهين في الترغيب والنسائي في اليوم والليلة أيضا.

(15/338)


2317- قوله: (أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) أي من الدنيا وما فيها من الأموال وغيرها. وقيل: هو كناية عن المخلوقات كلها. قال ابن العربي: أطلق المفاضلة بين قول هذه الكلمات وبين ما طلعت عليه الشمس ومن شرط المفاضلة استواء الشيئين في أصل المعنى، ثم يزيد أحدهما على الآخر وأجاب بما حاصله أن أفعل قد يراد به أصل الفعل لا المفاضلة كقوله تعالى: ?خير مستقرا وأحسن مقيلا? [الفرقان: 24] ولا مفاضلة بين الجنة والنار أو إن الخطاب واقع على ما استقر في نفس أكثر الناس فإنهم يعتقدون أن الدنيا لا شيء مثلها وإنها المقصود فأخبر بأنها عنده خير مما تظنون أنه لا شيء مثله أو لا شيء أفضل منه. وقيل: يحتمل أن يكون المراد إن هذه الكلمات أحب إلي من أن يكون لي الدنيا فأتصدق بها، والحاصل إن الثواب المترتب على قول هذا الكلام أكثر من ثواب من تصدق بجميع الدنيا لو فرض أنه ملكها (رواه مسلم) في الدعوات وكذا الترمذي وذكره الجزري في الحصن ونسبه لمسلم والترمذي والنسائي وابن أبي شيبة وأبي عوانة.
2318- قوله: (سبحان الله) منصوب على المصدرية بفعل محذوف أي أسبح الله سبحانا يعني أنزهه من
وبحمده في يوم مائة مرة، حطت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر)). متفق عليه.

(15/339)


كل نقص (وبحمده) قال القاري: الباء للمقارنة والواو زائدة أي أسبحه تسبيحا مقرونا بحمده أو متعلق بمحذوف عطف الجملة على الأخرى معناه، أسبح الله وأبتدىء بحمده أو أثنى بثناءه. وقال العيني: الواو فيه للحال تقديره أسبح الله متلبسا بحمدى له من أجل توفيقه لي بالتسبيح (في يوم) قال الطيبي: أي في يوم مطلق لم يعلم في أي وقت من أوقاته فلا يقيد بشي منها. وقال المظهر: ظاهر الإطلاق يشعر بأنه يحصل هذا الأجر المذكور لمن قال ذلك مائة مرة سواء قالها متوالية أو متفرقة في مجالس أو بعضها أول النهار وبعضها آخر النهار لكن الأفضل أن يأتي بها متوالية في أول النهار، وزاد في الحديث الآتي من قال حين يصبح وحين يمسي، ويأتي في ذلك ما ذكره صاحب المظهر من أن الأفضل أن يقول ذلك متواليا في أول النهار وفي أول الليل (حطت) بصيغة المجهول أي وضعت ومحيت (خطاياه) أي غفرت ذنوبه. قال القاري: أي الصغيرة ويحتمل الكبيرة. وقال العيني: أي من حقوق الله لأن حقوق الناس لا تنحط إلا باسترضاء الخصوم. وقال الباجي: يريد أن يكون كفارة له كقوله تعالى: ?إن الحسنات يذهبن السيئآت? [هود: 114] (وإن كانت مثل زبد البحر) الزبد بفتحتين ما يعلو الماء ونحوه عند هيجانه من الرغوة، ومعناه بالفارسية كفك آب وشير وسيم وجزآن، والمراد به الكناية عن المبالغة في الكثرة. قال الطيبي: وهذا وأمثاله كنايات يعبر بها عن الكثرة عرفا. قال عياض: قوله "حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" مع قوله في التهليل (في حديث أبي هريرة الآتي وهو تاسع أحاديث الباب) محيت عنه مائة سيئة قد يشعر بأفضلية التسبيح على التهليل يعني لأن عدد زبد البحر أضعاف أضعاف المائة، وقد قال في حديث التهليل ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به. فيحتمل أن يجمع بينهما بأن التهليل المذكور أفضل ويكون ما فيه من زيادة كتب الحسنات ومحو السيئات ثم ما جعل مع ذلك من فضل عتق الرقاب وكونه حرزا من الشيطان زائدا على

(15/340)


فضل التسبيح وتكفيره جميع الخطايا، لأنه قد ثبت أن من اعتق رقبة اعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار، وقد حصل بعتق رقبة واحدة تكفير جميع الخطايا عموما بعد حصر ما عدد منها خصوصا، مع ما يبقى له من زيادة عتق الرقاب الزائدة على الواحدة، ومع ما فيه من زيادة مائة درجة، وكونه حرزا من الشيطان. ويؤيده ما سيأتي في حديث جابر أن أفضل الذكر لا إله إلا الله مع الحديث الآخر إنه أفضل ما قلته أنا والنبييون قبلي. وقيل إنه الاسم الأعظم وهي كلمة التوحيد والإخلاص كذا ذكره الحافظ والنووي (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد (ج2ص302) ومالك في أواخر الصلاة والترمذي وابن ماجه وأبوعوانة ونسبه في التنقيح للنسائي وابن حبان أيضا.
2319- (4) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه)). متفق عليه.
2320- (5) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلمتان

(15/341)


2319- قوله: (من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة) قال القاري: أي فيهما بأن يأتي ببعضها في هذا وببعضها في هذا أو في كل واحد منهما وهو الأظهر (لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء) أي القائل (به) وهو قول المائة المذكورة (إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه) قال في اللمعات: لا بد من تمحل في بيان معناه بأن يقال تقديره لم يأت أحد بمساو ولا جاء بأفضل مما جاء إلا أحد، قال مثل ما قال فإنه أتى بمثله أو أحد زاد عليه فإنه أتى بأفضل منه والله أعلم. وقال القاري: وأجيب عن الإعتراض المشهور بأن الاستثناء منقطع أو كلمة أو بمعنى الواو. قال الطيبي: أي يكون ما جاء به أفضل من كل ما جاء به غيره إلا مما جاء به من قال مثله أو زاد عليه. قيل: الاستثناء منقطع والتقدير لم يأت أحد بأفضل مما جاء به لكن رجل قال مثل ما قاله فإنه يأتي بمساواته فلا يستقيم أن يكون متصلا إلا على تأويل نحو قوله:
وبلدة ليس بها أنيس

(15/342)


وقيل بتقدير لم يأت أحد بمثل ما جاء به أو بأفضل مما جاء به الخ والاستثناء متصل كذا في المرقاة. فإن قلت: كيف يجوز الزيادة وقد قالوا إن تحديدات الشرع في الإعداد لا يجوز التجاوز عنها؟ قلنا: لما صرح في الحديث بجواز الزيادة علم أنه ليس من ذلك القبيل كإعداد الركعات ونحوها فعدم جواز الزيادة في الإعداد ليس كليا، أو المراد زاد عليه من أعمال الخير فافهم كذا في اللمعات (متفق عليه) فيه نظر فإن الحديث لم يخرجه البخاري. وقد ذكره المنذري في تلخيص السنن والجزري في الحصن والنابلسي في ذخائر المواريث ولم ينسبه أحد منهم للبخاري. وقال المناوي في الكشف كما في تنقيح الرواة: رواه مسلم والترمذي كلاهما في الدعوات، وصححه الترمذي وأبوداود في الأدب والنسائي في اليوم والليلة ولم يخرجه البخاري – انتهى. قلت: أخرجه الترمذي وكذا ابن السني في اليوم والليلة (ص27) بلفظ الكتاب. وأما أبوداود فأخرجه في الأدب بلفظ: من قال حين يصبح سبحان الله العظيم وبحمده مائة مرة وإذا أمسى كذلك، لم يواف أحد من الخلائق بمثل ما وافى. قال المنذري: وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي بنحوه أتم منه ونسب الجزري لفظ التسبيح المذكور في أبي داود للحاكم وابن حبان وأبي عوانة أيضا والله أعلم.
2320- قوله: (كلمتان) أي كلامان يعني جملتان مفيدتان، والكلمة تطلق على الكلام كما يقال كلمة
خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان،

(15/343)


الإخلاص وكلمة الشهادة، وقال السندي: المراد بالكلمة اللغوية أو العرفية لا النحوية – انتهى. وهو خبر مقدم وما بعده صفة بعد صفة، والمبتدأ سبحان الله إلى آخره، والنكتة في تقديم الخبر تشويق السامع إلى المبتدأ، فإن من جملة الأسباب المقتضية لتقديم المسند تشويق السامع إلى المسند إليه كما نص عليه أهل المعاني فكلما طال الكلام في وصف الخبر حسن تقديمه، لأن كثرة الأوصاف الجميلة تزيد السامع شوقا إلى المسند إليه فيكون أوقع في النفس وأدخل في القبول لأن الحاصل بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب، ولا يخفي أن هذا متحقق في هذا الحديث بل هو أحسن من المثال الذي أوردوه بكثير وهو قول الشاعر:
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها شمس الضحى وأبوإسحاق والقمر

(15/344)


قال السندي: الظاهر إن قوله "كلمتان" خبر لقوله "سبحان الله" الخ قدم على المبتدأ لتشويق السامع إليه، وذلك لأن كلمتان نكرة وسبحان الله الخ معرفة، لأنه أريد به نفسه، واللفظ إذا أريد به نفسه يكون معرفة حقيقة عند من قال بوضع الألفاظ لأنفسها وحكما عند من ينفيه، والمعرفة لا تكون خبر النكرة عند غالب النحاة – انتهى. وبعضهم جعل "كلمتان" مبتدأ و"سبحان الله" الخ الخبر، لأن سبحان لازم الإضافة إلى مفرد فجرى مجرى الظروف والظروف لا تقع إلا خبرا ورجحه الكمال بن الهمام قال، لأنه مؤخر لفظا والأصل عدم مخالفة وضع الشيء محله بلا موجب، ولأن سبحان الله الخ محط الفائدة بنفسه بخلاف كلمتان فإنه إنما يكون محطا للفائدة بواسطة وصفه بالخفة على اللسان والثقل في الميزان والمحبة للرحمن. ألا ترى أن جعل كلمتان الخبر غير بين لأنه ليس متعلق الغرض الإخبار منه - صلى الله عليه وسلم - عن سبحان الله إلى آخره إنهما كلمتان بل بملاحظة وصف الخبر بما تقدم، أعني خفيفتان ثقيلتان حبيبتان فكان اعتبار سبحان الله إلى آخره خبرا أولى – انتهى. وللنظر في بعضه مجال فتأمل (خفيفتان على اللسان) أي تجريان عليه بالسهولة للين حروفهما فالنطق بهما سريع وذلك لأنه ليس فيهما من حروف الشدة المعروفة عند أهل العربية وهي الهمزة والباء الموحدة والتاء المثناة الفوقية والجيم والدال والطاء المهملتان والقاف والكاف ولا من حروف الاستعلاء أيضا وهي الخاء المعجمة والصاد والضاد والطاء والظاء والغين المعجمة والقاف سوى حرفين الباء الموحدة والظاء المعجمة، ومما يستثقل أيضا من الحروف الثاء المثلثة والشين المعجمة وليستا فيهما، ثم إن الأفعال أثقل من الأسماء وليس فيهما فعل، وفي الأسماء أيضا ما يستثقل كالذي لا ينصرف وليس فيهما شيء من ذلك، وقد اجتمعت فيهما حروف اللين الثلاثة الألف والواو والياء وبالجملة الحروف السهلة الخفيفة أكثر من العكس (ثقيلتان في الميزان)

(15/345)


حقيقة. قال الحافظ: وصفهما بالخفة والثقل لبيان قلة العمل وكثرة الثواب، قال السندي: خفتهما سهولتهما على اللسان لقلة حروفهما وحسن نظمهما واشتمالهما على الاسم الجليل الذي يذعن الطباع في ذكره كأنهما في ذلك كالحمل الخفيف الذي يسهل حمله وثقلهما
حبيبتان إلى الرحمن،
في الميزان لعظم لفظهما قدرا عند الله. وقال الطيبي: الخفة مستعارة للسهولة شبه سهولة جريان هذا الكلام على اللسان بما يخف على الحامل من بعض المحمولات، ولا يشق عليه فحذف ذكر المشبه به وأبقى شيئا من لوازمه وهو الخفة. وأما الثقل فعلى حقيقته عند أهل السنة لأن الأعمال تتجسم عند الميزان، والميزان هو الذي يوزن به في القيامة أعمال العباد وفي كيفيته أقوال، والأصح إنه جسم محسوس ذو لسان وكفتين والله تعالى يجعل الأعمال كالأعيان موزونة. وقيل توزن صحائف الأعمال، وأما الأعمال فإنها أعراض والأعراض يستحيل وزنها إذ لا تقوم بأنفسها فلا توصف بثقل ولا خفة ويقويه حديث البطاقة الذي أخرجه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه. وفيه فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة – انتهى. وقيل: تجعل الأعمال في أجسام فتصير أعمال الطائعين في صورة حسنة وأعمال المسيئين في صورة قبيحة، ثم توزن. قال الحافظ: والصحيح إن الأعمال هي التي توزن، وقد أخرج أبوداود والترمذي وصححه ابن حبان عن أبي الدرداء مرفوعا ما يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من خلق حسن. قلت القول باستحالة وزن الأعمال معللا بأنها لا تقوم بأنفسها بل تفنى سخيف جدا بل هو باطل قد أبطله أصحاب العلوم الطبيعية اليوم، وحققوا أن الأقوال لا تفنى بل تكون باقية في الخلاء يمكن اختطافها وهم بصدد اختراع آلات ميكانية يسهل بها القبض عليها. وفي الحديث إشارة إلى أن سائر التكاليف صعبة شاقة على النفوس ثقيلة وهذه خفيفة سهلة عليها مع أنها تثقل في الميزان فلا ينبغي التفريط فيه. وقد روي في الآثار أن عيسى عليه السلام سأل ما بال الحسنة

(15/346)


تثقل والسيئة تخف، فقال لأن الحسنة حضرت مرارتها وغابت حلاوتها فثقلت فلا يحملنك ثقلها على تركها، والسيئة حضرت حلاوتها وغابت سرارتها فلذلك خفت عليكم فلا يحملنك على فعلها خفتها فإن بذلك تخف الموازين يوم القيامة (حبيبتان إلى الرحمن) كذا وقع بتقديم خفيفتان وتأخير حبيبتان عند البخاري في الدعوات وفي الإيمان والنذور، وكذا عند أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان. ووقع في التوحيد عند البخاري بتقديم حبيبتان وتأخير ثقيلتان، وهي تثنية حبيبة بمعنى محبوبة، لأن فيهما المدح بالصفات السلبية التي يدل عليها التنزيه وبالصفات الثبوتية التي يدل عليها الحمد، وقال السندي: معنى "حبيبتان إلى الرحمن" إنهما موصوفتان بكثرة المحبوبية عنده تعالى تفيده الأحاديث الأخر مثل أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وإلا جميع الذكر محبوب عنده تعالى. وقيل: المراد محبوبية قائلهما ومحبة الله للعبد إرادة إيصال الخير له والتكريم وخص الرحمن من الأسماء الحسنى، لأن المقصود من الحديث بيان سعة رحمة الله تعالى على عباده حيث يجازي على العمل القليل بالثواب الجزيل ويجوز أن يقال اختصاص ذلك لإقامة السحج أعنى الفواصل وهي من محسنات الكلام على ما عرف في علم البديع، وإنما نهي عن السجع ما كان متكلفا أو متضمنا لباطل كسجع الكهان لا ما جاء عن غير قصد أو تضمن حقا. قال الكرماني: فإن قيل فعيل بمعنى مفعول
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)). متفق عليه.
2321- (6) وعن سعد بن أبي وقاص، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ((أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟ فسأله سائل من جلسائه كيف يكسب أحدنا ألف حسنة. قال: يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة)).

(15/347)


يستوي فيه المذكر والمؤنث، ولا سيما إذا كان موصوفه معه نحو رجل قتيل وامرأة قتيل، فلم عدل عن التذكير إلى التأنيث، فالجواب عن ذلك جائز لا واجب وأيضا فهو أي وجوب ذلك في المفرد لا المثنى أو أنثهما لمناسبة الخفيفة والثقليلة لأنهما بمعنى الفاعلة لا المفعولة. وقيل هذه التاء لنقل اللفظ عن الوصفية إلى الاسمية (سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) هكذا وقع عند البخاري في الإيمان والنذور وفي التوحيد بتقديم سبحان الله وبحمده على سبحان الله العظيم، وكذا وقع عند أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه، ووقع عند البخاري في الدعوات بتقديم سبحان الله العظيم على سبحان الله وبحمده، وكذلك وقع عند الترمذي. قال السندي: "الواو" في وبحمده للحال بتقدير وأنا متلبس بحمده. وقيل للعطف أي أنزهه وأتلبس بحمده. وقيل زائدة أي أسبحه متلبسا بحمده. وفي الحديث الاعتناء بشأن التسبيح أكثر من التحميد لكثرة المخالفين فيه، وذلك من جهة تكريره بقوله سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم. وقد جاءت السنة به عل أنواع شتى كما في صحيح مسلم وغيره من كتب السنن والمسانيد والجوامع والمعاجم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الدعوات وفي الإيمان والنذور وفي التوحيد في باب قول الله ?ونضع الموازين القسط? [الأنبياء:47] وهو آخر حديث في صحيح البخاري وأخرجه مسلم في الدعوات ورواه أيضا أحمد (ج2ص232) والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان وابن أبي شيبة.

(15/348)


2321- قوله: (أيعجز) بكسر الجيم (أن يكسب) أي يحصل (فيكتب) كذا بالتذكير في جميع النسخ، وهكذا وقع في المصابيح وفي جامع الأصول والحصن وتحفة الذاكرين، ووقع في صحيح مسلم فتكتب بالتأنيث وكذا نقله المنذري في الترغيب (له ألف حسنة) لأن الحسنة الواحدة بعشر أمثالها وهو أقل المضاعفة الموعودة في القرآن بقوله ?من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها والله يضاعف لمن يشاء? [الأنعام: 16] (أو يحط) أي يوضع (عنه ألف خطيئة) لقوله تعالى: ?إن الحسنات يذهبن السيئات? [هود: 114] وفيه إشعار بأن الحسنات المتضاعفة تمحو السيئات. قال النووي: هكذا هو في عامة نسخ صحيح مسلم أو يحط "بأو" وفي بعضها "ويحط" بالواو. قلت: وكذا وقع بالواو بغير ألف عند أحمد (ج1ص174) والترمذي والنسائي وابن حبان فعلى الرواية الأولى
رواه مسلم. وفي كتابه في جميع الروايات عن موسى الجهني أو يحط: قال أبوبكر البرقاني: ورواه شعبة

(15/349)


يكون أجر القائل بذلك أن يكتب له ألف حسنة أو تحط عنه ألف سيئة أي يحصل أحد الأمرين. وعلى الرواية الثانية أنه يجمع له بين الأمرين فيكتب له ألف حسنة وتحط عنه ألف خطيئة وسيأتي مزيد الكلام في ذلك (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج1ص174، 180، 185) والترمذي والنسائي وابن حبان ونسبه في تنقيح الرواة لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبي نعيم أيضا (وفي كتابه) أي في كتاب مسلم (في جميع الروايات عن موسى الجهني أو يحط) أي بالألف وموسى هذا هو موسى بن عبد الله، ويقال ابن عبدالرحمن الجهني أبوسلمة، ويقال أبوعبدالله الكوفي روى عن زيد بن وهب ومصعب بن سعد ومجاهد ونافع مولى ابن عمر وغيرهم، وعنه شعبة والثوري وعبدالله بن نمير والقطان ويعلى بن عبيد وآخرون. قال الحافظ: ثقة عابد. قلت: وثقة القطان وأحمد وابن معين والنسائي والعجلي وابن سعد وغيرهم، وعن يعلى بن عبيد قال كان بالكوفة أربعة من رؤساء الناس ونبلائهم وذكره منهم، وعن مسعر قال ما رأيت موسى الجهني إلا وهو في اليوم الآتي خير منه في اليوم الماضي مات سنة أربع وأربعين ومائة (قال أبوبكر البرقاني) بكسر الباء الموحدة وفتحها وبالقاف والنون هو الإمام الحافظ شيخ الفقهاء والمحدثين أبوبكر أحمد بن محمد بن أحمد ابن غالب الخوارزمي البرقاني الشافعي شيخ بغداد، سمع من أبي العباس بن حمدان وغيره ببلده خوارزم، ومن أبي بكر الإسماعيلي بحرجان، ومن أبي عمرو بن حمدان بنيسابور، ومن أبي بكر بن أبي الحديد بدمشق. ومن عبد الغني الأسدي وابن النحاس بمصر، ومن أبي على الصواف وأبي بكر بن الهيثم وطبقتهم ببغداد. وحدث عنه أبوبكر البيهقي والخطيب وأبوإسحاق الشيرازي الفقيه وأبوعبد الله الصوري وآخرون، وصنف التصانيف وخرج على الصحيحين. قال الخطيب البغدادي: كان ثقة ورعا ثبتا لم نرى في شيوخنا أثبت منه عارفا بالفقه، له حظ من علم العربية كثير صنف مسندا ضمنه ما اشتمل عليه صحيح البخاري ومسلم، قال

(15/350)


ولم يقطع التصنيف حتى مات. وسمعت محمد بن يحيى الكرماني يقول: ما رأيت في أصحاب الحديث أكثر عبادة من البرقاني، ولد سنة ثلاث وثلاثين. وقيل: سنة ست وثلاثين وثلامائة ومات ببغداد في أول رجب سنة خمس وعشرين وأربع مائة كذا في تذكرة الحفاظ (ورواه شعبة) هو شعبة بن حجاج بن الورد العتكي الأزدي مولاهم أبوبسطام الواسطي ثم البصري ثقة حافظ متقن، كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث وهو أول من فتش بالعراق عن الرجال وذب عن السنة وكان عابدا مات سنة ستين ومائة، كذا في التقريب وقد بسط في ترجمته في تهذيب التهذيب (ج4ص338- 346) وفي التذكير (ج1ص174- 177) وفي الجرح والتعديل (ج2ق1ص369
وأبوعوانة ويحيى بن سعيد القطان عن موسى، فقالوا: ويحط بغير ألف هكذا في كتاب الحميدي.
2322- (7) وعن أبي ذر، قال سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الكلام أفضل. ((قال ما اصطفى الله

(15/351)


370) (وأبوعوانة) هو الوضاح بتشديد المعجمة ثم حاء مهملة ابن عبدالله اليشكري بالمعجمة الواسطي البزار مولى يزيد بن عطاء أبوعوانة الحافظ مشهور بكنيته ثقة ثبت قاله في التقريب. وقال ابن عبدالبر: اجمعوا على أنه ثقة ثبت حجة فيما حدث من كتابه، وقال إذا حدث من حفظه ربما غلط، مات في ربيع الأول سنة خمس أو ست وسبعين ومائة بالبصرة، وارجع للبسط في ترجمته إلى تهذيب التهذيب (ج11ص116- 119) والتذكرة (ج1ص213- 215) والجرح والتعديل (ج4ق2ص40- 41) (ويحيى بن سعيد القطان) تقدم ترجمته في جزء الأول (ص94) من هذا الشرح (عن موسى) أي المذكور الذي رواه مسلم من جهته (فقالوا) بصيغة الجمع والضمير لشعبة وصاحبيه (ويحط بغير ألف) أي بالواو. وقال الشوكاني بعد ذكر كلام البرقاني: هذا ورواية هؤلاء الثلاثة الحفاظ حجة على رواية غيرهم. قلت: رواية شعبة عند أحمد (ج1ص174) وأما رواية أبي عوانة فلم أقف عليها ولعلها عند النسائي أو ابن حبان. وأما رواية يحيى القطان فهي عند الترمذي بالواو وعند أحمد (ج1ص180) بأو أي بالألف ووافقه على ذلك عبد الله بن نمير عند مسلم، وأحمد (ج1ص185) ويعلى بن عبيد عند أحمد (ج1ص185) قال عبدالله بن أحمد بعد رواية يحيى: بأو أي بالألف قال أبي. وقال ابن نمير أيضا: أو يحط ويعلى أيضا أو يحط، وعلم من هذا أنه اتفق شعبة وأبوعوانة على الرواية بالواو وابن نمير، ويعلى على الرواية بالألف. واختلفت رواية يحيى فروى عنه محمد بن بشار عند الترمذي بالواو، والإمام أحمد بالألف، ولم يظهر لي وجه ترجيح أحديهما على الأخرى، ولعل الجمع بينهما أولى من الترجيح. قال القاري في المرقاة: قد تأتي الواو بمعنى أو فلا منافاة بين الروايتين وكأن المعنى إن من قالها يكتب له ألف حسنة إن لم يكن عليه خطيئة وإن كانت فيحط بعض ويكتب بعض، ويمكن أن تكون أو بمعنى الواو أو بمعنى بل فحينئذ يجمع له بينهما وفضل الله أوسع من ذلك – انتهى. وقال في شرح

(15/352)


الحصن: أو هنا للتنويع في اختلاف الحالة فالكتابة للمتقي والحط للمخطي أو بمعنى الوار الموضوعة للجمع كما يدل قوله ويحط (هكذا) المشار إليه قوله وفي كتابه إلى آخره (في كتاب الحميدي) وهو الجمع بين الصحيحين يعني الجامع بين البخاري ومسلم جمعا وأفرادا: وقد ذكر كلام الحميدي هذا النووي في شرح مسلم وفي الأذكار، والمنذري في الترغيب، والشوكاني في تحفة الذاكرين وتقدم ترجمة الحميدي ووصف كتابه في الجزء الأول (ص16- 17).
2322- قوله: (سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الكلام) أي من جملة الأذكار (أفضل قال ما اصطفى الله)
لملائكته، سبحان الله وبحمده)). رواه مسلم.
2323- (8) وعن جويرية،

(15/353)


كذا في جميع النسخ من المشكاة وهكذا في المصابيح، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول والمنذري في الترغيب. ووقع في بعض نسخ صحيح مسلم ما اصطفاه الله وكذا نقله الحافظ في الفتح وهكذا وقع عند أحمد (ج5ص148) (لملائكته) أي الذي اختاره من الذكر لملائكته وأمرهم بالمداومة عليه ومواظبته لغاية فضله فليس في هذا الحديث ما يدل على حصره فاندفع ما قيل أنه يعلم منه أن الملائكة يتكلمون بهذه الكلمة لا غير، وقد ثبت منهم كلمات أخر من الأذكار والتسبيحات والدعوات وليس هذا محل بسطها (سبحان الله وبحمده) قال الطيبي: فيه تلميح إلى قوله تعالى حكاية عن الملائكة ?ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك? [البقرة: 30] ويمكن أن يكون سبحان الله وبحمده مختصرا من الكلمات الأربع سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر لما سبق أن سبحان الله تنزيه لذاته عما لا يليق بجلاله وتقديس لصفاته من النقائص فيندرج فيه معنى لا إله إلا الله وقوله: "بحمده" صريح في معنى الحمد لله، لأن الإضافة فيه بمعنى اللام في الحمد. ويستلزم ذلك معنى الله أكبر لأنه إذا كان كل الفضل والأفضال لله ومن الله وليس من غيره شيء من ذلك فلا يكون أحد أكبر منه. فإن قلت يلزم من هذا أن يكون التسبيح أفضل من التهليل؟ قلت: لا يلزم ذلك إذ التهليل صريح في التوحيد والتسبيح متضمن له، ولأن نفي الإلهية في قول لا إله نفي لمضمنها من الخالقية والرازقية والإثابة والمعاقبة وقوله "إلا الله" إثبات لذلك ويلزم منه نفي ما يضاد الإلهية ويخالفها من النقائص، ومنطوق سبحان الله تنزيه ومفهومه توحيد، يعني فيكون لا إله إلا الله أفضل لأن التوحيد أصل والتنزيه ينشأ عنه. قال فإذا اجتمعنا دخلا في أسلوب الطرد والعكس – انتهى كلام الطيبي وتقدم شيء من الكلام في ذلك في شرح حديث سمرة بن جندب (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص148) ونسبه في الحصن لأبي عوانة أيضا، وفي رواية لمسلم قال أبوذر قال رسول الله

(15/354)


صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله؟ قلت: يا رسول الله! أخبرني بأحب الكلام إلى الله. فقال أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده. وأخرجها أيضا أحمد (ج5ص161) والنسائي وابن أبي شيبة كما في الحصن وأخرجها الترمذي والحاكم (ج1ص501) وابن حبان وأبوعوانة أيضا إلا أنهم قالوا سبحان ربي وبحمده.
2323- قوله: (وعن جويرية) تصغير جارية وهي جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية من بني المصطلق أم المؤمنين، كان اسمها برة فغيرها النبي صلى الله عليه وسلم إلى جويرية فصارت علما لها، فلهذا لا ينصرف. سباها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم المريسيع وهي غزوة بني المصطلق في سنة خمس أو ست، وكانت تحت
((أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندنا بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة. قال: ما زلت على الحال التي فارقتك عليها. قالت: نعم! قال لنبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت

(15/355)


مسافع بن صفوان المصطلقي، وقد قتل في هذه الغزوة وكانت قد وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس أو ابن عم له فكاتبته على نفسها فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه على كتابتها، فقالت: يا رسول الله! أنا جويرية بنت الحارث سيد قومه وقد أصابني من الأمر ما لم يخف عليك فوقعت في السهم لثابت بن قيس أو لابن عم له فكاتبته على نفسي وجئتك أستعينك، فقال لها: هل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله! قال أقضى كتابتك وأتزوجك قالت نعم! قال قد فعلت فبلغ الناس أنه قد تزوجها فقالوا إصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسلوا ما كان في أيديهم من بني المصطلق فلقد أعتق الله بها مائة أهل بيت من بني المصطلق. قالت عائشة: فما أعلم امرأة أعظم بركة منها على قومها. وأخرج ابن سعد في الطبقات عن أبي قلابة أن النبي صلى الله عليه وسلم سبى جويرية فجاء أبوها فقال إن ابنتي لا تسبى مثلها فخل سبيلها، فقال أرأيت إن خيرتها أليس قد أحسنت قال بلى! فأتاها أبوها فذكر لها ذلك فقالت قد اخترت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ: هذا مرسل صحيح الإسناد وماتت سنة خمسين على الصحيح. قال الخزرجي: لها أحاديث انفرد البخاري بحديثين ومسلم بمثلهما (بكرة) بضم الموحدة أي أول النهار (حين صلى الصبح) أي أراد صلاة الصبح يعني أراد أن يصلي فرض الصبح (وهي) أي جويرية (في مسجدها) بفتح الجيم ويكسر أي موضع صلاتها والجملة حالية (ثم رجع) إليها (بعد أن أضحى) أي دخل في الضحوة وهي ارتفاع النهار (وهي جالسة) أي في موضعها ففي رواية أبي داود فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي في مصلاها ورجع وهي في مصلاها. وفي رواية أحمد والترمذي والنسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر عليها بكرة وهي في المسجد تدعو، ثم مر بها قريبا من نصف النهار. ولابن ماجه مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى الغداة أو بعد ما صلى الغداة وهي تذكر الله فرجع

(15/356)


حين ارتفع النهار، أو قال انتصف وهي كذلك، وفي الأدب المفرد ثم رجع إليها بعد ما تعالى النهار وهي في مجلسها (ما زلت) بكسر التاء خطاب لجويرية على تقدير الاستفهام أي ثبت في مكانك وما زالت (على الحال) هو مما يجوز تذكيره وتأنيثه ولذا قال (التي فارقتك عليها) أي من الجلوس على ذكر الله تعالى. وفي رواية أبي داود لم تزالي في مصلاك هذا وفي الأدب المفرد ما زالت في مجلسك (لقد قلت بعدك) أي بعد أن خرجت من عندك أو بعد ما فارقتك (أربع كلمات) نصبة على المصدر أي تكلمت بعد مفارقتك أربع كلمات (لو وزنت) بصيغة المجهول أي قوبلت (بما قلت) أي بجميع ما قلت من الذكر
منذ اليوم لوزنتهن، سبحان الله وبحمده، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته)).

(15/357)


من أول النهار إلى هذا الوقت (منذ) بضم الميم وقد تكسر (اليوم) بالجر على ما هو المختار "ومنذ" على هذا حرف جر بمعنى "من" أو في أي من ابتداء النهار أو في الوقت المذكور، ويجوز رفع اليوم وتفصيله في المغنى لابن هشام (ج2ص21- 22) وفي القاموس (لوزنتهن) بفتح الزاء والنون أي ساوتهن في الوزن.يقال هذا يزن درهما أي يساويه أو غلبتهن في الوزن، يقال وازنه فوزن إذا غلب عليه وزاد في الوزن، وقال القاضي أي لرجحت تلك الكلمات على جميع أذكارك وزادت عليهن في الأجر والثواب والضمير راجع إلى ما باعتبار المعنى (عدد خلقه) هو وما عطف عليه منصوبات بنزع الخافض ويقدر المقدار في الثلاثة الأخيرة أي بعدد جميع مخلوقاته وبمقدار رضا ذاته الشريفة أي بمقدار يكون سببا لرضاه تعالى أو بمقدار يرضي به لذاته، ويختاره فهو مثل ما جاء وبملأ ما شئت من شيء بعد، وفيه إطلاق النفس عليه تعالى من غير مشاكلة، وبمقدار ثقل عرشه، وبمقدار زيادة كلماته أي بمقدار يساويهما يساوي العرش وزنا والكلمات عددا. وقيل: نصب الكل على الظرفية بتقدير قدر أي قدر عدد مخلوقاته وقدر رضاه الخ. وقيل: نصب هذه الألفاظ على المصدرية أي أعد تسبيحه المقرون بحمده عدد خلقه وأقدر مقدار ما يرضى لنفسه وزنة عرشه ومقدار كلماته (وزنة عرشه) أي قدر وزن عرشه ولا يعلم وزنة إلا الله (ومداد كلماته) بكسر الميم. قيل: معناه مثلها في العدد، وقيل مثلها في عدم النفاد، وقيل مثلها في الكثرة. والمداد مصدر مثل المدد وهو الزيادة والكثرة. وقال في النهاية: أي مثل عددها. وقيل قدر ما يوازيها في الكثرة عيار كيل أو وزن أو عدد أو ما أشبهه من وجوه الحصر والتقدير. وهذا تمثيل يراد به التقريب لأن الكلام لا يدخل في الكيل والوزن، وإنما يدخل في العدد. والمداد مصدر كالمدد يقال مددت الشيء مدا ومدادا وهو ما يكثر به ويزاد انتهى. قال العلماء: واستعماله هنا مجاز لأن كلمات الله تعالى لا تحصر بعد ولا

(15/358)


غيره، والمراد المبالغة به في الكثرة لأنه ذكر أولا ما يحصره العدد الكثير من عدد الخلق، ثم ارتقى إلى ما هو أعظم من ذلك وعبر عنه بهذا أي ما لا يحصيه عد كما لا تحصى كلمات الله تعالى. ذكره النووي وقال في اللمعات: وهذا ادعاء ومبالغة في تكثيرها كأنه تكلم بهذا المقدار فلا يتجه أن يقال إنه ما معنى أسبحه بهذا المقدار سواء كان خبرا أو إنشاء وهو لم يسبح إلا واحد – انتهى. وقال السندي: فإن قلت كيف يصح تقييد التسبيح بالعدد للذكور مع أن التسبيح هو التنزيه عن جميع ما لا يليق بجنابه الأقدس وهو أمر واحد في ذاته لا يقبل التعدد، وباعتبار صدوره عن المتكلم لا يمكن اعتبارا هذا العدد فيه، لأن المتكلم لا يقدر عليه، ولو فرض قدرته عليه أيضا لما صح تعلق هذا العدد بالتسبيح إلا بعد أن صدر منه بهذا العدد أو عزم على ذلك. وأما بمجرد أنه قال مرة سبحان الله لا يحصل منه هذا العدد. قلت: لعل التقييد بملاحظة استحقاق ذاته الأقدس
رواه مسلم.
2324- (9) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل

(15/359)


الأطهر أن يصدر من المتكلم التسبيح بهذا العدد، فالحاصل أن العدد ثابت لقول المتكلم لكن لا بالنظر إلى الوقوع بل بالنظر إلى الاستحقاق أي بالنظر إلى أنه تحقق منه التسبيح بهذا العدد بل باعتبار أنه تعالى حقيق بأن يقول المتكلم التسبيح في حقه بهذا العدد والله تعالى أعلم. وفي الحديث دليل على فضل هذه الكلمات، وإن من قال سبحان الله عدد كذا وزنة كذا الخ يدرك فضيلة ذلك القدر وفضل الله يمن به على من يشاء من عباده. قال الشوكاني: ولا يتجه أن يقال إن مشقة من قال هكذا أخف من مشقة من كرر لفظ الذكر حتى يبلغ إلى مثل ذلك العدد، فإن هذا باب منحه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعباد الله وأرشدهم ودلهم عليه تخفيفا لهم وتكثيرا لأجورهم من دون تعب ولا نصب فلله الحمد. وقد ورد ما يقوى هذا في كثير من الأحاديث (رواه مسلم) في الدعوات وكذا الترمذي وابن ماجه وأخرجه النسائي في الصلاة (ج6ص325- 430) وابن سعد في الطبقات (ج8ص84- 85) ونسبه الجزري في الحصن لابن أبي شيبة أيضا. واعلم أن الحديث رواه مسلم عن ابن عباس عن جويرية وكذا الترمذي والنسائي وابن ماجه فالحديث عندهم من مسند جويرية. وأما أبوداود فرواه عن ابن عباس قال خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من عند جويرية الخ، وهكذا وقع عند أبي عوانة. وهذا بظاهره يدل على أن الحديث من مسانيد ابن عباس، ورواه أحمد في مسنده على النحوين ذكره أولا في مسند ابن عباس (ج1ص258- 353) ثم ذكره في مسند جويرية (ج6ص325- 430) ورواه البخاري في الأدب المفرد أولا عن ابن عباس عن جويرية، ثم رواه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عند جويرية ولم يسق لفظه، نعم زاد ولم يقل أي سفيان عن جويرية إلا مرة واحدة، والراجح عندنا أن الحديث من مسند جويرية رواه عنها ابن عباس، ووقع في رواية أبي داود ومن وافقه الحذف من ابن عباس أو ممن دونه والله تعالى أعلم.

(15/360)


2324- قوله: (لا إله إلا الله) اختلف في تقديره على أقوال ذكر بعضها الزرقاني في شرح الموطأ (وحده لا شريك له) وحده حال مؤولة بمنفردا لأن الحال لا تكون معرفة ولا شريك له حال ثانية مؤكدة لمعنى الأولى (له الملك) بضم الميم (في يوم مائة مرة) مجتمعة أو متفرقة (كانت) أي هذه الكلمة أو التهليلة، وفي رواية كان بالتذكير أي القول المذكور (له) أي للقائل بها (عدل) بفتح العين بمعنى المثل والنظير. قال
عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه)).

(15/361)


ابن التين: قرأناه بفتح العين. قال الفراء: العدل بالفتح ما عدل الشيء من غير جنسه وبالكسر المثل كذا في الفتح. وقال في المجمع: عدل ذلك مثله فإذا كسر العين فهو زنته أي هو بفتح عين بمعنى مثله بكسر الميم، وبكسر عين بمعنى زنة ذلك أي موازنة قدرا، أو حديث عدل عشر رقاب بالفتح أي مثلها. وفي النهاية العدل بالكسر والفتح بمعنى المثل، وقيل بالفتح ما عادله من جنسه، وبالكسر ما ليس من جنسه، وقيل بالعكس. (عشر) بسكون الشين (رقاب) أي مثل ثواب إعتاق عشر، رقاب جمع رقبة بمعنى العنق في الأصل فجعلت كناية عن جميع ذات الإنسان تسمية للشي ببعضه أي يضاعف ثوابها حتى يصير مثل أصل ثواب الإعتاق المذكور (وكتبت) أي ثبتث (مائة حسنة) بالرفع (ومحيت) أي أزيلت (عنه مائة سيئة) قال الطيبي: جعل في هذا الحديث التهليل ماحيا من السيئات مقدارا معلوما، وفي حديث التسبيح ماحيا لها مقدار زبد البحر فيلزم أن يكون التسبيح أفضل. وقد قال في حديث التهليل لم يأت أحد بأفضل مما جاء به، أجاب القاضي عياض أن التهليل المذكور في هذا الحديث أفضل لأن جزاءه مشتمل على محو السيئات وعلى عتق عشر رقاب وعلى إثبات مائة حسنة والحرز من الشيطان (حرزا) بكسر الحاء المهملة وسكون الراء وبالزاي أي حصنا. وقال المظهر: أي حفظا ومنعا (يومه) بالنصب على الظرفية (ذلك) أي في ذلك اليوم الذي قالها فيه (حتى يمسي) وفي رواية ابن ماجه سائر يومه إلى الليل أي بقية يومه أو كله. قال القاري: ظاهر التقابل إنه إذا قال في الليل كانت له حرزا منه ليلة ذلك حتى يصبح، فيحتمل أن يكون اختصارا من الراوي أو ترك لوضوح المقابلة وتخصيص النهار لأنه أحوج فيه إلى الحفظ – انتهى. قلت قال الحافظ في الفتح: قوله "وكانت له حرزا من الشيطان" في رواية عبدالله سعيد (عند ابن السني ص26) وحفظ يومه حتى يمسي وزاد من قال مثل ذلك حين يمسي كان له مثل ذلك، ومثل ذلك في طرق أخرى يأتي التنبيه عليها بعد –

(15/362)


انتهى. قال النووي: ظاهر إطلاق الحديث أنه يحصل هذا الأجر المذكور في الحديث لمن قال هذا التهليل مائة مرة في يومه سواء قاله متوالية أو متفرقة في مجالس أو بعضها أول النهار وبعضها آخره لكن الأفضل أن يأتي بها متوالية في أول النهار ليكون حرزا له في جميع نهاره، وكذا في أول الليل ليكون حرزا له في جميع ليلة. (ولم يأت أحد) أي يوم القيامة (بأفضل مما جاء به) أي بأي عمل كان من الحسنات (إلا رجل عمل أكثر منه) استثناء منقطع أي لكن أحد عمل أكثر مما عمل فإنه يزيد عليه أو متصل بتأويل. قال ابن عبد البر: فيه تنبيه على أن المائة غاية في الذكر وأنه قل من يزيد عليه. وقال إلا أحد لئلا يظن أن الزيادة على
متفق عليه.
2325- (10) وعن أبي موسى الأشعري، قال: ((كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس؟ أربعوا على أنفسكم.

(15/363)


ذلك ممنوعة كتكرار العمل في الوضوء، ويحتمل أن يريد أنه لا يأتي أحد من سائر أبواب البر بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل من هذا الباب أكثر مما عمله، ونحوه قول القاضي عياض ذكر المائة دليل على أنها غاية للثواب المذكور، وقوله إلا أحد يحتمل أن يريد الزيادة على هذا العدد فيكون لقائله من الفضل بحسابه لئلا يظن أنه من الحدود التي نهى عن اعتدائها وأنه لا فضل في الزيادة عليها كما في ركعات السنن المحدودة وإعداد الطهارة، ويحتمل أن تراد الزيادة من غير هذا الجنس من الذكر وغيره أي إلا أن يزيد أحد عملا آخر من الأعمال الصالحة – انتهى. وقال النووي: فيه دليل أنه لو قال هذا التهليل أكثر من مائة مرة في اليوم كان له هذا الأجر المذكور في الحديث على المائة ويكون له ثواب آخر على الزيادة وليس هذا من الحدود التي نهى عن إعدائها ومجاوزة إعدادها وإن زيادتها لا فضل فيها أو تبطلها كالزيادة في عدد الطهارة وعدد ركعات الصلاة، ويحتمل أن يكون المراد الزيادة من أعمال الخير لا من نفس التهليل، ويحتمل أن يكون المراد مطلق الزيادة سواء كانت من التهليل أو من غيره أو منه ومن غيره وهذا الاحتمال أظهر والله أعلم – انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في صفة إبليس من بدأ الخلق وفي الدعوات، ومسلم فيه وأخرجه أيضا أحمد (ج2ص202) ومالك في أواخر الصلاة والترمذي والنسائي وابن ماجه في الدعوات وأبوعوانة وابن أبي شيبة.

(15/364)


2325- قوله: (كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر) وفي رواية في غزاة، وهذه الغزوة غزوة خيبر كما وقع التصريح بذلك في رواية البخاري في باب غزوة خيبر من كتاب المغازي (فجعل الناس يجهرون بالتكبير) أي يبالغون في الجهر ورفع الصوت بالتكبير كلما صعدوا ثنية وعلوا شرفا، والمراد بالتكبير قول لا إله إلا الله والله أكبر، ففي رواية البخاري التي أشرنا إليها لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله (أربعوا) بهمزة وصل مكسورة ثم موحدة مفتوحة (على أنفسكم) أي أرفقوا بها بخفض أصواتكم ولا تجهدوا على أنفسكم يعني لا تبالغوا في الجهر أو أعطفوا على أنفسكم بالرفق بها والكف من الشدة عليها. قال ابن السكيت ربع الرجل يربع إذا رفق وكف. وقال القاري: أي أرفقوا بها وأمسكوا عن الجهر الذي يضركم، وفيه إشارة إلى أنهم بالغوا في الجهر ورفع الصوت
إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، أنكم تدعون سميعا بصيرا، وهو معكم، والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته، قال أبوموسى: وأنا خلفه أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله في نفسي،

(15/365)


فلا يلزم منه المنع من الجهر مطلقا، لأن النهي للتيسير والإرفاق لا لكون الجهر غير مشروع (إنكم) استيناف فيه معنى التعليل (لا تدعون أصم ولا غائبا) قال الكرماني: فإن قلت المناسب ولا أعمى قلت الأعمى غائب عن الإحساس بالمبصر والغائب كالأعمى في عدم رؤيته ذلك المبصر فنفي لازمه ليكون أبلغ وأعم وزاد قريبا (أي في رواية أخرى) إذ رب سامع وباصر لا يسمع ولا يبصر لبعده عن المحسوس فأثبت القرب ليتبين المقتضى وعدم المانع ولم يرد بالقرب قرب المسافة بل القرب بالعلم. وقال الحافظ: ومناسبة الغائب ظاهرة من أجل النهي عن رفع الصوت (إنكم) تأكيد وقيل هو كالتعليل لقوله لا تدعون أصم (سميعا بصيرا) كذا وقع في رواية البخاري في باب الدعاء إذا علا عقبة من كتاب الدعوات وفي كتاب القدر، ووقع عنده في المغازي سميعا قريبا وهكذا عند مسلم، ووقع في التوحيد عند البخاري سميعا بصيرا قريبا. قال في اللمعات: وجه زيادة قوله بصيرا مع أنه لا حاجة إليه لمناسبة قوله سميعا فإنهما مذكوران معا في أكثر المواضع، أو لإرادة أنه لا حاجة لكم إلى الجهر ورفع الصوت فإنه يسمع من غير جهر ورفع صوت ومع ذلك يبصركم ويعلم حالكم من صوركم وهيئاتكم فأفهم. وقال الطيبي: فائدة زيادة قوله بصيرا إن السميع البصير أشد إدراكا وأكمل إحساسا من السميع الأعمى. وقال ابن حجر: سميعا مقابل لقوله أصم وبصيرا أتى به لأنه ملازم للسميع في الذكر لما بينهما من التناسب في الإدراك (وهو معكم) أي بالعلم والقدرة والإحاطة عموما والفضل والرحمة خصوصا. قال القاري: أي حاضر بالعلم والإطلاع على حالكم أين ما كنتم سواء أعلنتم أو أخفيتم وهو بظاهره مقابل لقوله "ولا غائبا" ثم زاد في تحقيق هذه المعية المعنوية الدالة على غاية الشرف والعظمة بقوله (والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) هذه الجملة انفرد بها مسلم لم يذكرها البخاري وهذا تمثيل وتقريب إلى الفهم وإلا فهو

(15/366)


أقرب من حبل الوريد. قال النووي: قوله "هو معكم" أي بالعلم والإحاطة وقوله "والذي تدعونه أقرب" الخ هو بمعنى ما سبق وحاصله إنه مجاز كقوله تعالى: ?ونحن أقرب إليه من حبل الوريد? [ق: 16] أي نحن أقرب إليه بالعلم من حبل وريده، لا يخفى علينا شيء من خفياته فكأن ذاته قريبة منه، وحاصله إنه تجوز بقرب الذات عن قرب العلم. ونقل الذهبي في كتاب العلو عن الإمام أبي الحسن الأشعري أنه قال إن الله يقرب من خلقه كيف شاء كما قال: ?ونحن أقرب إليه من حبل الوريد? (في نفسي) متعلق بأقول أي بلساني سرا من غير ارتفاع صوتي وقوله "في نفسي" تفرد به البخاري وهو عنده في الدعوات وفي التوحيد، ووقع عنده في المغازي وأنا خلف دابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فقال: يا عبدالله بن قيس! ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ فقلت: بلى يا رسول الله! قال: لا حول ولا قوة إلا بالله)). متفق عليه.
?الفصل الثاني?
2326- (11) عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة)).

(15/367)


فسمعني وأنا أقول لا حول الخ (يا عبد الله) هو اسم أبي موسى (ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة) معنى كونه كنزا أنه يعد لقائله ويدخر له من الثواب ما يقع له في الجنة موقع الكنز في الدنيا، وحاصله أنه من ذخائر الجنة أو من محصلات نفائس الجنة (لا حول ولا قوة إلا بالله) خبر مبتدأ محذوف أي هو، أو كنز الجنة لا حول ولا قوة إلا بالله. قال النووي قال العلماء: سبب ذلك إنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى واعتراف بالإذعان له وإنه لا صانع غيره ولا راد لأمره وإن العبد لا يملك شيئا من الأمر، ومعنى الكنز هنا إنه ثواب مدخر في الجنة وهو ثواب نفيس كما أن الكنز أنفس أموالكم. قال أهل اللغة: الحول الحركة والحيلة أي لا حركة ولا استطاعة ولا حيلة إلا بمشيئة الله تعالى. وقيل معناه لا حول ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله، وقيل لا حول عن معصية الله إلا بعصمته ولا قوة على طاعته إلا بمعونته وحكى هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه (عند البزار مرفوعا) وكله مقارب – انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجهاد والمغازي والدعوات والقدر والتوحيد، ومسلم في الدعوات بألفاظ متقاربة وليس السياق المذكور لواحد منهما بل هو مأخوذ مجموع من مجموع ما فيهما، والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج4ص394، 400، 402، 403، 407، 417، 418- 419) والترمذي في الدعوات وأبوداود في أواخر الصلاة والنسائي في الكبرى، وابن ماجه في الدعوات مختصرا وابن السني (ص165).

(15/368)


2326- قوله: (غرست له) بصيغة المجهول من باب ضرب يقال غرست الشجرة غرسا وغراسة إذا نصبتها وأثبتها في الأرض (نخلة) أي غرس له بكل مرة نخلة، ووقع في رواية النسائي شجرة بدل نخلة لكن تحمل هذه الرواية المطلقة على المقيدة بالنخلة فيكون المغروس هنا في الجنة هو النخلة (في الجنة) أي المعدة لقائلها. فيه إن التمرة من ثمار الجنة كما قال تعالى: ?فيهما فاكهة ونخل ورمان? [الرحمن: 68] وخصت النخلة هنا لكثرة نفعها وطيب طعمها وكثرة ميل العرب إليها. وقد قال العلماء أيضا: إنما خص النخلة لأنها أنفع الأشجار وأطيبها ولذلك ضرب الله تعالى مثل المؤمن وإيمانه بها وثمرتها في قوله تعالى: ?ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة?
رواه الترمذي.
2327- (12) وعن الزبير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من صباح يصبح العباد فيه إلا مناد ينادي: سبحوا الملك القدوس)). رواه الترمذي.
[إبراهيم: 24] وهي كلمة التوحيد ?كشجرة طيبة? [إبراهيم: 24] وهي النخلة (رواه الترمذي) وحسنه وأخرجه أيضا النسائي إلا أنه قال: غرست له شجرة وابن حبان في صحيحه والحاكم في موضعين بإسنادين قال في أحدهما على شرط مسلم وقال في الآخر على شرط البخاري كذا في الترغيب للمنذري. قلت: في النسخة المطبوعة للمستدرك في الموضع الأول (ج1ص502) "هذا حديث صحيح على شرط مسلم" ورمز الذهبي في تلخيصه في آخر الحديث (خ) وفي الموضع الثاني (ج1ص512) ذكره الحاكم شاهد الحديث رواه هو وابن ماجه عن أبي هريرة بلفظ: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر يغرس لك بكل واحدة شجرة. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وله شاهد عن جابر. ثم ذكره وسكت عنه أعني لم يحكم عليه بشي ولم يذكره الذهبي في تلخيصه، والحديث نسبه الجزري في الحصن لابن أبي شيبة أيضا، وفي الباب عن عبدالله بن عمرو أخرجه البزار. قال الهيثمي (ج10ص94) وإسناد جيد.

(15/369)


2327- قوله: (وعن الزبير) أي ابن العوام (ما من صباح يصبح العبد فيه) قال الطيبي: صباح نكرة وقعت في سياق النفي وضمت إليها من الاستغراقية لإفادة الشمول ثم جيء بقوله يصبح صفة مؤكدة لمزيد الإحاطة كقوله تعالى: ?وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها? [هود: 6] ?ولا طائر يطير بجناحيه? [الأنعام: 38] (إلا مناد) من الملائكة وهو مبتدأ والواو مقدرة (سبحوا) بصيغة الأمر من التسبيح أي نزهوا (الملك القدوس) أي عما هو منزه عنه، والمعنى اعتقدوا أنه منزه عنه وليس المراد نشاء تنزيه لأنه منزه أزلا وأبدا أو أذكروه بالتسبيح لقوله تعالى: ?وإن من شيء إلا يسبح بحمده? [الإسراء: 44] ولذا قال الطيبي: أي قولوا سبحان الملك القدوس أو قولوا سبوح قدوس رب الملائكة والروح، أي نحوهما من قول سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وقوله "سبحوا الملك القدوس" كذا وقع في أكثر نسخ الترمذي ووقع في بعضها سبحان الملك القدوس، وهكذا نقله النووي في الأذكار والجزري في جامع الأصول والسيوطي في الجامع الصغير، ونقله على المتقي في الكنز على النحوين بأن جعلهما روايتين للترمذي، والقصد من مناداة الملك بسبحان الملك القدوس على ما وقع في بعض نسخ الترمذي حث الناس على قول ذلك، كما صرح بذلك في رواية أبي يعلى وابن السني، وهي تؤيد ما في أكثر نسخ الترمذي من قوله سبحوا الملك القدوس (رواه الترمذي) من طريق موسى بن عبيدة الربذي عن محمد بن ثابت عن
2328- (13) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله،

(15/370)


أبي حكيم مولى الزبير عن الزبير. قال الترمذي: هذا حديث غريب –انتهى. قلت: وإسناده ضعيف لضعف موسى ابن عبيدة ولجهالة محمد بن ثابت وأبي حكيم، وأخرجه أبويعلى وابن السني (ص22) بلفظ: ما من صباح يصبح العباد إلا وصارخ يصرخ أيها الخلائق سبحوا الملك القدوس. قال الهيثمي (ج10ص94) وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف جدا. قلت: وفيه أيضا محمد بن ثابت وأبوحكيم المذكوران في سند الترمذي وقد تقدم أنهما مجهولان.
2328- قوله: (أفضل الذكر لا إله إلا الله) لأنها كلمة التوحيد والتوحيد لا يماثله شي، وهي الفارقة بين الكفر والإيمان، وباب الإسلام الذي لا يدخل إليه إلا منه، ولأنها أجمع للقلب مع الله وأنفى للغير وأشد تزكية للنفس وتصفية للباطن وتنقية للخاطر من خبث النفس وأطرد للشيطان. قال الطيبي قال بعض المحققين: إنما جعل التهليل أفضل الذكر لأن له تأثيرا في الباطن عن الأوصاف الذميمة التي هي معبودات في باطن الذاكر. قال تعالى ?أرأيت من اتخذ إلهه هواه? [الفرقان: 43] فيفيد نفي عموم الآلهة بقوله لا إله ويثبت الواحد بقوله إلا الله ويعود الذكر من ظاهر لسانه إلى باطن قلبه فيتمكن فيه ويستولى على جوارحه وجد حلاوة هذا من ذاق. وقيل: لأنه لا يصح الإيمان إلا به وليس هذا فيما سواه من الأذكار والحديث يعارضه في الظاهر حديث أبي ذر المتقدم قال سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الكلام أفضل قال ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده، وحديث سمرة بن جندب أفضل الكلام أربع سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وسبق وجه الجمع بينهما في شرح هذين الحديثين. (وأفضل الدعاء الحمد لله) يحتمل أن المراد به سورة الفاتحة بتمامها كأن هذا اللفظ بمنزلة القلب لها. قال الطيبي: يمكن أن يكون قوله الحمد لله من باب التلميح والإشارة إلى قوله تعالى: ?اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم? [الفاتحة: 5، 6] وأي دعاء أفضل وأكمل وأجمع من

(15/371)


ذلك، ويحتمل أن المراد هذه اللفظة، وعلى هذا فقيل إطلاق الدعاء على الحمد من باب المجاز ولعله جعل أفضل الدعاء من حيث أنه سؤال لطيف يدق مسلكه. ومن ذلك قول أمية بن أبي الصلت حين خرج إلى بعض الملوك يطلب نائلته:
إذا أثنى عليك المرأ يوما كفاه من تعرضه الثناء
وقيل: جعل الحمد من أنواع الدعاء باعتبار ما يلزمه فإنه إذا وقع في مقابلة نعمة كان شكرا، وقد قال تعالى: ?لئن شكرتم لأزيدنكم? [إبراهيم: 7] فهو يتضمن الطلب. قال المظهر: إنما جعل الحمد دعاء لأن الدعاء عبارة عن ذكر الله وأن تطلب منه حاجة، والحمد يشملهما، فإن من حمد الله إنما يحمده على نعمته، والحمد على النعمة
رواه الترمذي، وابن ماجه.
2329- (14) وعن عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحمد رأس الشكر، ما شكر الله عبد لا يحمده)).
2330- (15) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله في السراء والضراء)).
طلب مزيد. قال تعالى: ?لئن شكرتم لأزيدنكم? – انتهى. قلت: في قوله إنما يحمده على نعمته نظر ظاهر لمن ينظر فيما ذكروا في تحقيق معنى الحمد لله (رواه الترمذي) وحسنه (وابن ماجه) وأخرجه أيضا النسائي وابن حبان وصححه والحاكم (ج1ص398- 503) وقال حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، ورواه أحمد بلفظ: لا إله إلا الله أفضل الذكر وهي أفضل الحسنات. قال الشوكاني: وهكذا في مسند البزار.

(15/372)


2329- قوله: (الحمد رأس الشكر) لأن الشكر تعظيم المنعم وفعل اللسان أظهر وأدل على ذلك، أما فعل القلب فخفي وفي دلالة أفعال الجوارح قصور كذا في اللمعات. وقال بعض الشراح: الحمد رأس الشكر أي بعض خصاله وأعلاها لأن الحمد باللسان وحده والشكر به وبالقلب والجوارح إذ الشكر صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خلق لأجله، فالحمد إحدى شعب الشكر ورأس الشيء بعضه فهو من هذه الجهة بعض الشكر. وجعل رأسه لأن الرأس أعظم أجزاء البدن والثناء باللسان أعظم أجزاء الشكر فإن ذكر النعمة باللسان والثناء على موليها أشيع لها وأدل على مكانها لخفاء الاعتقاد ولما في أعمال الجوارح من الاحتمال بخلاف عمل اللسان (ما شكر الله عبد لا يحمده) قال القاضي: لما جعل الحمد رأس الشكر وأصله والعمدة فيه حتى انعكس عليه لم يعتمده فيه لغيره من الشعب عند فقده وكان التارك له كالعرض عن الشكر رأسا.
2330- قوله: (أو ل من يدعى إلى الجنة) أي بالدخول (الذين يحمدون الله في السراء والضراء) أي في حالة الرخاء والشدة والأحوال كلها إذا الإنسان لا يخلو عن مسرة أو مضرة والمقابل للسراء الحزن وللضراء النفع وفي إيقاع التقابل بين السراء والضراء مزيد التعميم والإحاطة لشمول نقيضهما كأنه قال في السرور والحزن والنفع والضر، لأن ذكر كل يقتضي ذكره مقابله فيتضمن ذكر الكل مع اختصار وهذا طريق في البيان يسلكه الفصحاء وله نظائر. وقيل: المعنى أي الذين يرضون عن مولاهم بما أجرى عليهم من الحكم غنى كان أو فقرا شدة كان أو رخاء فالمراد الدوام. وقيل: الحمد في السراء ظاهر، وأما في الضراء فالحمد لأجل أنه تعالى لطف به ولم ينزل به أكبر من
رواهما البيهقي في "شعب الإيمان".

(15/373)


2331- (16) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال موسى عليه السلام: يا رب! علمني شيئا أذكرك به، أو أدعوك به. فقال: يا موسى! قل لا إله إلا الله. فقال رب: كل عبادك يقول هذا، إنما أريد شيئا تخصني به، قال: يا موسى! لو أن السماوات السبع
ذلك أو لأجل ما يشاهد في طي الضراء من الثواب وتكفير الذنوب (رواهما البيهقي في شعب الإيمان) حديث عبد الله بن عمرو ذكره السيوطي في الجامع الصغير، ونسبه لعبدالرزاق في جامعه والبيهقي في شعبه. قال العزيزي: رجاله ثقات لكنه منقطع. وقال الحافظ في الفتح: أخرج الطبري من رواية عبد الله بن باباه عن عبد الله بن عمرو ابن العاص، قال: إن الرجل إذا قال لا إله إلا الله فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله عملا حتى يقولها، وإذا قال الحمد لله فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله عبد حتى يقولها. وحديث ابن عباس ذكره المنذري في الترغيب. وقال رواه ابن أبي الدنيا والبزار والطبراني في الثلاثة بأسانيد أحدها حسن والحاكم (ج1ص502) وقال صحيح على شرط مسلم – انتهى. قلت: ووافقه الذهبي وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10ص95) وقال رواه الطبراني في الثلاثة بأسانيد وفي أحدها قيس بن الربيع وثقة شعبة والثوري وغيرهما وضعفه يحيى القطان وغيره وبقية رجاله رجال الصحيح، ورواه البزار بنحوه إسناده حسن – انتهى.

(15/374)


2331- قوله: (علمني شيئا) أي من الأذكار (أذكرك به) بالرفع على أنه صفة لشيئا وليس جوابا للأمر بدليل قوله "أو أدعوك به" وهو مرفوع بإثبات الواو. وقيل: خبر مبتدأ محذوف استئنافا أي أنا أذكرك به. قيل: ويجوز الجزم وعطف أدعوك على منوال قوله تعالى: ?إنه من يتق ويصبر? [يوسف: 90] على قراءة إثبات الياء مع جزم يصبر إتقافا (أو أدعوك به) كذا في جميع النسخ الحاضرة عندنا من المشكاة ويظهر من كلام القاري والشيخ الدهلوي إنه وقع في أكثر نسخها الموجودة عندهما أو بالألف وفي بعضها بالواو بدل أو، وهكذا بالواو وقع في مجمع الزوائد (ج10ص82) والكنز والترغيب والمستدرك (ج1ص528) فأو على ما في أكثر النسخ بمعنى الواو. وقيل: للتنويع (قل لا إله إلا الله) فإنه متضمن لكل ذكر ودعاء سواه مع زيادة دلالة على توحيد ذاته وتفريد صفاته (كل عبادك يقول) أفرد رعاية للفظ كل دون معناه (هذا) أي هذا الكلام أو هذا الذكر (إنما أريد شيئا تخصني) أي أنت (به) أي بذلك الشيء من بين عموم عبادك (قال يا موسى لو أن السماوات السبع إلخ) قال الطيبي: فإن قلت: طلب موسى عليه الصلاة السلام ما به يفوق على غيره من الذكر أو الدعاء فما مطابقة الجواب للسؤال. قلت: كأنه قال طلبت شيئا محالا إذ لا ذكر ولا دعاء أفضل من هذا قال:
وعامرهن غيري والأرضين السبع وضعن في كفة، ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله)). رواه في شرح السنة.
2332- 2333- (17- 18) وعن أبي سعيد وأبي هريرة، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال: لا إله إلا الله والله أكبر،

(15/375)


وحاصل الجواب إن ما طلبت من أمر مختص بك فائق على الأذكار كلها محال لأن هذه الكلمة ترجح على الكائنات كلها من السماوات وسكانها والأرضين وقطانها (وعامرهن) بالنصب عطف على السماوات. قيل: عامر الشيء حافظه ومصلحه ومدبره الذي يمسكه من الخلل ولذا سمي ساكن البلد والمقيم به عامره من عمرت المكان إذا أقمت فيه، والمراد المعنى الأعم الذي هو الأصل ليصح استثناءه تعالى منه بقول (غيري) قاله الطيبي. وقال غيره أي ساكنهن والاستثناء منقطع. وقيل: المراد هنا جنس من يعمرها من الملك وغيره والله تعالى عامرها خلقا وحفظا، وقد دخل فيه من حيث يتوقف عليه صلاحها توقفهن على الساكن ولذا استثنى وقال غيري (والأرضين السبع) أي الطباق ولم يذكر عامر الأرضين لقلته أو اكتفى بذكر عامر السماوات (وضعن) بصيغة المجهول (في كفة) بكسر الكاف وتشديد الفاء يعني كفة الميزان لاستدارتها وكل مستدير كفة بالكسر وكفة الميزان ما يجعل عليه الموزون ويقال لها بالفارسية بلة ترازو (ولا إله إلا الله) أي ثوابها أو بطاقتها وهي ورقة كتابتها ويؤيده حديث البطاقة (في كفة) أي أخرى ( لمالت بهن) أي لرجحت عليهن وغلبتهن وزادت عليهن يقال مال بفلان أي غلبه (لا إله إلا الله) هو من باب وضع الظاهر موضع الضمير. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: يؤخذ منه أن الذكر بلا إله إلا الله أرجح من الذكر بالحمد لله، ولا يعارضه حديث أبي مالك الأشعري رفعه، والحمد لله تملأ الميزان فإن الملء يدل على المساواة والرجحان صريح في الزيادة فيكون أولى، ومعنى ملء الميزان إن ذاكرها يمتلىء ميزانه ثوابا – انتهى. (رواه) أي البغوي (في شرح السنة) أي بإسناده والحديث ذكره المنذري في الترغيب. وقال: رواه النسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم (ج1ص528) كلهم من طريق دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد. وقال الحاكم: صحيح إسناد – انتهى. قلت: ووافقه الذهبي وذكره الحافظ في الفتح وقال: أخرجه النسائي

(15/376)


بسند صحيح ونسبه الهيثمي (ج10ص82) لأبي يعلى وقال: ورجاله وثقوا وفيهم ضعف، وذكره على المتقي في الكنز (ج1ص396) ونسبه لأبي يعلى والحكيم الترمذي وابن حبان والحاكم وأبي نعيم في الحلية والبيهقي في الأسماء.
2332- 2333- قوله: (وعن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) في الترمذي وابن ماجه
صدقه ربه. قال: لا إله إلا أنا وأنا أكبر، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الله: لا إله إلا أنا وحدي، لا شريك لي، وإذا قال: لا إله إلا الله له الملك وله الحمد، قال: لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد، وإذا قال: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال: لا إله إلا أنا لا حول ولا قوة إلا بي، وكان يقول: من قالها في مرضه ثم مات لم تطعمه النار)).

(15/377)


والحاكم أنهما شهدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الخ قال ابن التين: أراد بهذا اللفظ التأكيد للرواية قلت: هو من صنيع أداء الحديث. قال السيوطي في ندريب الراوي (ص135) عقد الرامهرمزي أبوابا في تنويع ألفاظ التحمل والأداء منها الإتيان بلفظ الشهادة كقول أبي سعيد أشهد على رسول الله أنه نهى عن الجر أن ينتبذ فيه، وقول عبدالله ابن طاؤس أشهد على والدي أنه قال أشهد على جابر بن عبدالله أنه قال أشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: أمرت أن أقاتل الناس – الحديث. وقول ابن عباس شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر – الحديث. في الصلاة بعد العصر وبعد الصبح (صدقه) بتشديد الدال (ربه قال) أي قال ربه بيانا لتصديقه أي قرره بأن قال (لا إله إلا أنا وأنا أكبر) وهذا أبلغ من أن يقول صدقت قاله القاري قلت قوله "صدقه ربه" قال هكذا في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة ووقع في الترمذي صدقه ربه، وقال أي بزيادة الواو قبل قال وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج5ص138) وفي الترغيب صدقه ربه فقال أي بالفاء بدل الواو، وفي ابن ماجه إذا قال العبد لا إله إلا الله والله أكبر قال يقول الله عزوجل صدق عبدي لا إله إلا أنا وأنا أكبر (وإذا قال) أي العبد (لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول الله) أي تصديقا لعبده وفي الترمذي ههنا قال الله (لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي) كذا في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة، ووقع في الترمذي قبل ذلك، وإذا قال لا إله إلا الله وحده قال (أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ) يقول الله لا إله إلا أنا وأنا وحدي، وكذا وقع عند ابن ماجه، وهكذا نقله في الترغيب وجامع الأصول، والظاهر إن ما في المشكاة اختصار من المصنف. قال القاري: وحذف صدقه ربه هنا للعلم به مما قبله وعبر هنا بيقول وثمة وفيما يأتي بقال تفننا. قلت: وقع عند ابن ماجه والحاكم كلمة "قال صدق عبدي" ههنا وفيما يأتي بعد،

(15/378)


والظاهر أنه وقع الاختصار من أحد الرواة في رواية الترمذي والله أعلم (قال لا إله إلا أنا لا حول) قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة ولا حول مطابقا لما قبله. قلت: في نسخ الترمذي الموجودة عندنا ولا حول بالواو في الموضعين، وكذا وقع عند ابن ماجه، وهكذا في الترغيب والجامع (وكان يقول) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (من قالها) أي هذه الكلمات من دون الجوابات (ثم مات) أي من ذلك المرض (لم تطعمه النار) أي لم تمسه أو لم تحرقه يعني لم تأكله استعار الطعم للإحراق مبالغة كأن
رواه الترمذي، وابن ماجه.
2334- (19) وعن سعد بن أبي وقاص، ((أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة وبين يديها نوى أو حصى، تسبح به، فقال: ألا أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا أو أفضل؟

(15/379)


الإنسان طعامها تتقوى وتتغذى به، وفي ابن ماجه من رزقهن عند موته لم تمسه النار. قال السندي: "من رزقهن" على بناء المفعول ورجع نائب الفاعل إلى من أي من أعطاه الله تعالى هذه الكلمات عند موته ووفقه لها "لم تمسه النار" بل يدخل الجنة ابتداء مع الأبرار – انتهى. وفي الحديث دليل على أن هذه الكلمات المذكورة في الحديث إذا قالها العبد في مرضه ومات في ذلك المرض على تلك الكلمات، أي كانت خاتمة كلامه الذي يتكلم به عاقلا مختارا لم تمسه النار ولم يضره ما تقدم من المعاصي، وأنها تكفر جميع الذنوب وراجع إلى تحفة الذاكرين (ص231، 235- 236) (رواه الترمذي) وقال حديث حسن (وابن ماجه) وأخرجه أيضا النسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم (ج1ص5) وقال هذا حديث صحيح رواه كلهم من طريق أبي إسحاق عن الأغر أبي مسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة. قال الترمذي: وقد رواه شعبة عن أبي إسحاق عن الأغر عنهما نحوه بمعناه ولم يرفعه شعبة، وكذا قال الذهبي في تلخيص المستدرك أوقفه شعبة وغيره – انتهى. قلت: ولا يضر وقف من وقفه فإن الرفع زيادة والزيادة من الثقة مقبولة، ولو سلم فهو مرفوع حكما لأن الحكم المذكور فيه مما لا مسرح للاجتهاد فيه.

(15/380)


2334- قوله: (على امرأة) أي محرم له أو كان ذلك قبل نزول الحجاب على أنه لا يلزم من الدخول الرؤية (وبين يديها) الواو للحال (نوى) اسم جمع لنواة وهي عظم التمر (أو حصى) اسم جمع لحصاة وهي الأحجار الصغيرة و أو للشك من الراوي (تسبح) أي المرأة (به) أي بما ذكر من النوى أو الحصى وهذا لفظ أبي داود وللترمذي وبين يديها نواة أو قال حصاة تسبح بها، وفيه دليل على جواز عد التسبيح بالنوى والحصى قيل وكذا بالسبحة لعدم الفارق بين المنظومة والمنثورة وهذا لتقريره - صلى الله عليه وسلم - المرأة على ذلك وعدم إنكاره والإرشاد إلى ما هو أفضل لا ينافي الجواز كذا قيل، وعندي فيه نظر لأن الحديث ضعيف، وإن حسنه الترمذي وصححه الحاكم والذهبي ولم يثبت عد التسبيح بالحصى أو النوى مرفوعا من فعله أو قوله أو تقريره - صلى الله عليه وسلم -، والخير إنما هو في اتباع ما ثبت عنه لا في ابتداع من خلف (فقال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (ألا أخبرك بما هو أيسر) أي أخف وأسهل (من هذا) أي من هذا الجمع والتعداد (أو أفضل) قيل أو للشك من سعد أو ممن دونه. وقيل بمعنى الواو. وقيل بمعنى بل. قال القاري: وهو الأظهر. قلت: وقع في بعض نسخ الترمذي وأفضل أي بالواو وهذه النسخة تؤيد
سبحان الله عدد ما خلق في السماء، وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض، وسبحان الله عدد ما بين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك)). رواه الترمذي، وأبوداود، وقال الترمذي: هذا حديث غريب.

(15/381)


أن أو الواقعة في أبي داود وبعض نسخ الترمذي بمعنى الواو. قال الطيبي: وإنما كان أفضل لأنه اعتراف بالقصور وإنه لا يقدر أن يحصى ثناءه وفي العد بالنوى إقدام على أنه قادر على الإحصاء. قال القاري: وفيه أنه لا يلزم من العد هذا الإقدام ثم ذكر وجوها أخرى للأفضلية ولا يخلو واحد منها عن خدشة ولا يخفى ذلك على المتأمل (سبحان الله عدد ما خلق) فيه تغليب لكثرة غير ذوي العقول الملحوظة في المقام (عدد ما بين ذلك) أي ما بين ما ذكر من السماء والأرض من الهواء والطير والسحاب وغيرها (عدد ما هو خالق) أي خالقه أو خالق له فيما بعد ذلك واختاره ابن حجر وهو الأظهر لكن الأدق الأخفى ما قال الطيبي: أي ما هو خالق له من الأزل إلى الأبد، والمراد الاستمرار فهو إجمال بعد التفصيل لأن اسم الفاعل إذا أسند إلى الله تعالى يفيد الاستمرار من بدأ الخلق إلى الأبد كما تقول الله قادر عالم فلا تقصد زمانا دون زمان (والله أكبر مثل ذلك) قال الطيبي: منصوب نصب عدد في القرائن السابقة على المصدر. وقال بعض الشراح: بنصب مثل أي الله أكبر عدد ما هو خالقه أي بعدده فجعل مرجع الإشارة إلى أقرب ما ذكر، والظاهر أن المشار إليه جميع ما ذكر فيكون التقدير الله أكبر عدد ما خلق في السماء والله أكبر عدد ما خلق في الأرض والله أكبر عدد ما خلق بين ذلك والله أكبر عدد ما هو خالق ذكره القاري قال والأظهر إن هذا من اختصار الراوي فنقل آخر الحديث بالمعنى خشية الملالة بالإطالة، ويدل على ما قلنا بعض الآثار أيضا – انتهى. وقال في اللمعات: المثل منصوب نصب عدد في القرائن السابقة وهذا ما عبارة عن العبارة السابقة أي قال الله أكبر عدد ما خلق في السماء الخ أو قال لفظ مثل ذلك بدل عدد ما خلق (رواه الترمذي) في الدعوات (وأبوداود) في أواخر الصلاة وأخرجه أيضا النسائي في اليوم والليلة وابن حبان في صحيحه والحاكم (ج1ص548) كلهم من طريق عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن

(15/382)


خزيمة عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص عن أبيها. وقال الترمذي: حديث حسن وسكت عنه أبوداود، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. قلت: في تحسين الترمذي وتصحيح الحاكم والذهبي نظر، فإن خزيمة هذا مجهول. قال الذهبي: نفسه في الميزان خزيمة لا يعرف تفرد عنه سعيد بن أبي هلال وكذا قال الحافظ في التقريب: أنه لا يعرف وسعيد بن أبي هلال مع ثقته حكى الباجي عن أحمد أنه اختلط فأنى للحديث الصحة أو الحسن (وقال الترمذي هذا حديث غريب) كذا في جميع النسخ
2335- (20) وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سبح الله مائة بالغداة ومائة بالعشي، كان كمن حج مائة حجة، ومن حمد الله مائة بالغداة ومائة بالعشي، كان كمن حمل على مائة فرس في سبيل الله، ومن هلل الله مائة بالغداة ومائة بالعشي، كان كمن أعتق مائة رقبة من ولد إسماعيل، ومن كبر الله مائة بالغداة ومائة بالعشي، لم يأت في ذلك اليوم أحد بأكثر مما أتى به إلا من قال مثل ذلك، أو زاد على ما قال)).
الحاضرة من المشكاة. قال القاري: وفي نسخة حسن غريب قلت وهذه هي الصواب لموافقتها لما وقع في جامع الترمذي ولما نقله المنذري في تلخيص السنن وفي الترغيب.

(15/383)


2335- قوله: (من سبح الله مائة) أي من قال سبحان الله مائة مرة (بالغداة ومائة بالعشي) أي أول النهار وأول الليل أو في الملوين (كان كمن حج مائة حجة) أي نافلة دل الحديث على أن الذكر بشرط الحضور مع الله بسهولته أفضل من العبادات الشاقة بغفلة ويمكن أن يكون الحديث من باب إلحاق الناقص بالكامل مبالغة في الترغيب ويراد التساوي بين التسبيح المضاعف بالحجج الغير المضاعفة والله أعلم. (كان كمن حمل) بالتخفيف أي أركب مائة نفس (على مائة فرس في سبيل الله) أي في نحو الجهاد أما صدقة أو عارية وفي الترمذي بعد هذا أو قال غز مائة غزاة وهو شك من الراوي (ومن هلل الله) أي قال لا إله إلا الله (كان كمن أعتق مائة رقبة) فيه تسلية للذاكرين من الفقراء العاجزين عن العبادات المالية المختصة بها الأغنياء (من ولد إسماعيل) بضم الواو وسكون اللام وبفتحهما يقع على الواحد والثنية والجمع، فإن قلت ما وجه تخصيص كونه من ولد إسماعيل عليه السلام. قلت لأن من كان من ولده له فضل على عتق غيره وذلك أن محمد أو إسماعيل وإبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم بعضهم من بعض، وقال الطيبي: قوله "من ولد إسماعيل" تتميم ومبالغة في معنى العتق لأن فك الرقاب أعظم مطلوب وكونه عن عنصر إسماعيل الذي هو أشرف الخلق نسبا أعظم وأمثل (لم يأت في ذلك اليوم أحد) أي يوم القيامة (بأكثر) أي بثواب أكثر أو المراد بعمل أفضل وإنما عبر بأكثر لأنه معنى أفضل (مما أتى به) أي جاء به أو بمثله. قيل: ظاهره إن هذا أفضل من جميع ما قبله والذي دلت الأحاديث الصحيحة الكثيرة إن أفضل هذا التهليل فالتحميد فالتكبير فالتسبيح، فحينئذ يؤول بأن يقال لم يأت في ذلك اليوم أحد غير المهلل والحامد المذكورين أكثر مما أتى به (إلا من قال مثل ذلك أو زاد على ما قال) الكلام فيه كما مر في
رواه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن غريب.

(15/384)


2336- (21) وعن عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((التسبيح نصف الميزان، والحمد لله يملأه،
حديث أبي هريرة في الفصل الأول (رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب) في سنده الضحاك بن حمرة بضم الحاء وسكون الميم وفتح الراء المهملة الأملوكي بضم الهمزة الواسطي روي عن عمرو بن شعيب وغيره قال الحافظ في التقريب: إنه ضعيف، وقال في تهذيب التهذيب قال ابن معين: ليس بشي. وقال النسائي والدولابي ليس بثقة. وقال البرقاني عن الدارقطني: ليس بالقوي يعتبر به. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن شاهين في الثقات: وثقه إسحاق بن راهوية – انتهى مختصرا. وقال الذهبي في الميزان قال النسائي: ليس بثقة. وقال البخاري: منكر الحديث مجهول. وقال ابن معين: ليس بشي. ثم ذكر الذهبي هذا الحديث ثم قال رواه الترمذي عن محمد بن وزير الواسطي (عن أبي سفيان الحميري عن الضحاك بن حمرة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده) وحسنه فلم يصنع شيئا.

(15/385)


2336- قوله: (التسبيح نصف الميزان) أي ثوابه بعد تجسمه يملأ نصف الميزان والمراد به إحدى كفتيه الموضوعة لوضع الحسنات فيها (والحمد لله يملأه) أي الميزان كله لو وضع فيه وحده فيكون أفضل من التسبيح ويكون ثوابه ضعف ثواب التسبيح لأن التسبيح نصف الميزان والحمد لله وحده يملأه أي يملأ كفتيه، أو المراد إن الحمد لله يملأ نصفه الآخر أي لو وضع ثوابه في الكفة الأخرى بعد وضع ثواب التسبيح في إحدى كفتيه امتلأ الميزان، فيكون ثواب الحمد كثواب التسبيح لأن كل واحد منهما يأخذ نصف الميزان فيملآن الميزان معا فيكونان متساويين. قال الطيبي: في الحديث توجيهان. أحدهما أن يراد التسوية بين التسبيح والتحميد بأن كل واحد منهما يأخذ نصف الميزان فيملآن الميزان معا، وذلك لأن الأذكار التي هي أم العبادات البدنية تنحصر في نوعين، أحدهما التنزيه والآخر التحميد والتسبيح يستوعب القسم الأول والتحميد يتضمن القسم الثاني. وثانيهما أن يراد تفضيل الحمد على التسبيح وإن ثوابه ضعف ثواب التسبيح لأن التسبيح نصف الميزان والتحميد وحده يملأه وذلك لأن الحمد المطلق إنما يستحقه من كان مبرأ عن النقائص منعوتا بنعوت الجلال وصفات الإكرام، فيكون الحمد شاملا للأمرين وأعلى القسمين وإلى الوجه الأول الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، وإلى الثاني بقوله صلوات الله عليه بيدي لواء الحمد. أقول يؤيد معنى الترجيح الترقي في قوله ولا إله إلا الله ليس لها حجاب لأن هذه الكلمة اشتملت على التنزيه والتحميد لله تعالى كما مر، وعلى نفي ذلك عما سواه صريحا ومن ثم جعل من جنس آخر لأن الأولين دخلا في معنى الوزن والمقدار في الأعمال وهذا حصل منه
ولا إله إلا الله ليس لها حجاب دون الله حتى تخلص إليه)). رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غريب، وليس إسناده بالقوي.

(15/386)


2337- (22) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما قال عبد لا إله إلا الله مخلصا قط إلا فتحت له أبواب السماء حتى يفضي إلى العرش ما اجتنب الكبائر)).
القرب إلى الله تعالى من غير حاجز ولا مانع – انتهى كلام الطيبي. واستشكل ظاهر الحديث بأن التحميد إذا يملأ الميزان فبقية الأعمال كيف توزن، وظاهر الأحاديث الواردة في وزن الحسنات والسيئات إن جميع الأعمال الحسنة توضع في كفة واحدة. والسيئات بأسرها في الأخرى، وأجيب بأنه يحتمل أن تجعل تلك الأعمال والأذكار عند الوزن في صور وأجسام صغيرة، ومع ذلك لا يتفاوت وزنها ولا يزاحم بعضها بعضا والله أعلم (ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب) أي ليس لقبولها حجاب يمنعها عنه لاشتمالها على التنزيه والتحميد ونفي السوي صريحا (حتى تخلص) بضم اللام (إليه) أي تصل إليه وتنتهي إلى محل القبول والمراد بهذا وأمثاله سرعة القبول والإجابة وكثرة الأجر والإثابة، وفيه دلالة ظاهرة إن لا إله إلا الله أفضل من سبحان الله والحمد لله (رواه الترمذي) من طريق إسماعيل بن عياش عن عبد الرحمن بن زياد الإفريقي عن عبدالله بن يزيد عن عبدالله بن عمرو (وقال هذا حديث غريب وليس بإسناده بالقوي) أي إسناده ضعيف لأن عبد الرحمن بن زياد ضعيف وإسماعيل بن عياش صدوق في روايته عن أهل بلده مخلط في غيرهم.

(15/387)


2337- قوله: (ما قال عبدلاإله إلا الله مخلصا) أي حال كونه مخلصا من قلبه لا منافقا ولا مرائيا (قط) كذا في جميع النسخ من المشكاة أي وقع قط بعد قوله مخلصا وفي الترمذي ما قال عبد لا إله إلا الله قط مخلصا أي وقع لفظ قط قبل مخلصا، وهكذا وقع في الترغيب وجامع الأصول والحصن والجامع الصغير (إلا فتحت) بصيغة المجهول مخففا وقد يشدد (له) أي لهذا الكلام أو القول (أبواب السماء) أي فلا تزال كلمة الشهادة صاعدة (حتى يفضي) بضم الياء وكسر المعجمة بصيغة المعلوم من الإفضاء أي يصل وقوله "يفضي" بالياء كذا وقع في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا نقله في الترغيب وجامع الأصول، وفي الترمذي تفضي أي بالتاء، وهكذا الحصن والجامع الصغير (إلى العرش) أي ينتهي إليه (ما اجتنب) أي صاحبه (الكبائر) أي وذلك مدة تجنب قائلها الكبائر من الذنوب. قال الطيبي: الحديث السابق دل على تجاوزه من العرش حتى انتهى إلى الله تعالى، والمراد من ذلك سرعة القبول والاجتناب عن الكبائر شرط للسرعة لا لأجل الثواب والقبول – انتهى. أو لأجل كمال الثواب ومراتب القبول لأن السيئة لا تحبط الحسنة بل الحسنة تذهب السيئة
رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غريب.
2338- (23) وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقيت إبراهيم ليلة أسري بي. فقال: يا محمد! أقري أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)).
كذا في المرقاة، وفي الحديث تحذير عن ارتكاب الكبائر وإشعار إلى قوله تعالى: ?إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه? [فاطر:10] (رواه الترمذي) نسبه الجزري في الحصن للترمذي والنسائي والحاكم (وقال هذا حديث غريب) وفي الترمذي هذا حديث حسن غريب وهكذا في الترغيب وشرح الجامع الصغير للعزيزي.

(15/388)


2338- قوله (لقيت إبراهيم) أي الخليل عليه الصلاة والسلام (ليلة أسري بي) قال القاري: بالإضافة، وفي نسخة يعني من المشكاة بتنوين ليلة أي ليلة أسري فيها بي، وهي ليلة المعراج (فقال) أي إبراهيم وهو في محله من السماء السابعة مسندا ظهره إلى البيت المعمور (قريء أمتك) أمر من الإقراء أي بلغهم وأوصلهم (مني السلام) يقال أقرأ فلان فلانا السلام، وأقرأ عليه السلام، أي أبلغه إياه كأنه حين يبلغه سلامه يحمله على أن يقرأ السلام ويرده. قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة إقرأ أي بكسر الهمزة، وفتح الراء من القراءة، أي أبلغهم من جانبي السلام، وفيه ما قيل إنه يقال في الأمر منه إقرأ عليه السلام، وتعديته بنفسه خطأ، فلا يقال اقرأه السلام. قال القاري لكن في الصحاح والقاموس إن قرأه السلام وأقرأه السلام بمعنى (طيبة التربة) بضم التاء وسكون الراء وهي التراب فإن ترابها المسك والزعفران ولا أطيب منهما (عذبة الماء) أي مائها طيب لا ملوحة فيه (وأنها) بفتح الهمزة وتكسر أي الجنة (قيعان) بكسر القاف جمع قاع وهي الأرض المستوية الخالية من الشجر (وإن) بالوجهين (غراسها) بكسر الغين المعجمة جمع غرس بالفتح بمعنى المغروس والضمير إلى القيعان. قال القاري: جمع غرس بالفتح وهو ما يغرس أي يستره تراب الأرض من نحو البذر لينبت بعد ذلك، وإذا كانت تلك التربة طيبة وماءها عذابا كان الغراس أطيب لا سيما. والغرس الكلمات الطيبات وهن الباقيات الصالحات والمعنى أعلمهم بأن هذه الكلمات ونحوها سبب لدخول قائلها الجنة، ولكثرة أشجار منزله فيها لأنه كلما كررها نبت له أشجار لعددها – انتهى. قال التوربشتي: الغرس إنما يصلح في التربة الطيبة وينمو بالماء العذب أي أعلمهم إن هذه الكلمات تورث قائلها الجنة وإن الساعي في اكتسابها لا يضيع سعيه لأنها المغرس الذي لا يتلف ما استودع فيه. قال الشيخ الدهلوي: واستشكل بأنه يدل على أن أرضها خالية عن الأشجار والقصور

(15/389)


رواه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن غريب إسنادا.
2339- (24) وعن يسيرة، وكانت من المهاجرات،
وهو خلاف مدلول الجنة. وأجيب بأنه لا يدل على أنها الآن قيعان بل على أنها في نفسها قيعان والأشجار فيها مغروسة بجزاء الأعمال، أو المراد إن الأشجار فيها لما كانت لأجل الأعمال فكأنه غرست بها فافهم. وقال الطيبي: في هذا الحديث إشكال لأنه يدل على أن أرض الجنة خالية عن الأشجار والقصور، ويدل قوله: ?جنات تجري من تحتها الأنهار? [البقرة: 25] وقوله ?أعدت للمتقين? على أنها غير خالية عنها لأنها إنما سميت جنة لأشجارها المتكاثفة المظلة بالتفاف أغصانها، وتركيب الجنة دائر على معنى الستر وإنها مخلوقة معدة، والجواب أنها كانت قيعانا ثم إن الله تعالى أوجد بفضله وسعة رحمته فيها أشجارا وقصورا على حسب أعمال العاملين لكل عامل ما يختص به بحسب عمله، ثم إن الله تعالى لما يسره لما خلق له من العمل لينال به ذلك الثواب جعله كالغارس لتلك الأشجار على سبيل المجاز إطلاقا للسبب على المسبب – انتهى. وأجيب أيضا بأنه لا دلالة في الحديث على الخلو الكلي من الأشجار والقصور لأن معنى كونها قيعانا إن أكثرها مغروس وما عداه منها أمكنة واسعة بلا غرس لينغرس بتلك الكلمات، ويتميز غرسها الأصلي الذي بلا سبب وغرسها المسبب عن تلك الكلمات. (رواه الترمذي) قال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: رواه الترمذي والطبراني في الصغير والأوسط وزاد ولا حول ولا قوة إلا بالله روياه من طريق عبدالواحد بن زياد عن عبدالرحمن بن إسحاق عن القاسم بن عبدالرحمن عن أبيه عن ابن مسعود (وقال) أي الترمذي (هذا حديث حسن غريب إسنادا) وفي الجامع الترمذي حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ابن مسعود. قال المنذري "أبو القاسم هو عبدالرحمن بن عبدالله ابن مسعود وعبدالرحمن هذا لم يسمع من أبيه وعبدالرحمن بن إسحاق هو أبوشيبة الكوفي واه ورواه الطبراني أيضا بإسناد رواه من

(15/390)


حديث سلمان الفارسي ولفظه: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن في الجنة قيعانا فأكثروا من غرسها. قالوا: يا رسول الله! وما غرسها؟ قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر – انتهى. قلت ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10ص89- 90) وقال فيه الحسين بن علوان وهو ضعيف.
2339- قوله: (وعن يسيرة) بمثناة تحتية مضمومة وسين وراء مهملتين مفتوحتين بينهما مثناة تحتية ساكنة. ويقال أسيرة بالهمزة في أوله بدل الياء أم ياسر بمثناة تحت وكسر سين مهملة ويقال بنت ياسر وتكنى أم حميضة (وكانت من المهاجرات) الأول المبايعات. وقيل: من الأنصار. قال الحافظ في تهذيب التهذيب: ذكرها ابن سعد في النساء الغرائب من غير الأنصار. وقال ابن حبان وابن مندة وأبونعيم وابن عبدالبر: كانت
قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكن بالتسبيح، والتهليل، والتقديس، واعقدن بالأنامل، فإنهن مسئولات مستنطقات، ولا تغفلن فتنسين الرحمة)).

(15/391)


من المهاجرات. قلت: قد أخرج أحمد والترمذي وابن سعد من طريق هانيء بن عثمان عن أمه حميضة بنت ياسر عن جدتها يسيرة وكانت من المهاجرات. قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكن بالتسبيح - الحديث. وفي رواية الحاكم وكانت إحدى المهاجرات وهذا يؤيد ما قاله ابن حبان ومن وافقه. (قال لنا) أي معشر النساء (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) زاد في المسند بعده يا نساء المؤمنات! (عليكن) اسم فعل بمعنى الزمن وأمسكن (بالتسبيح) أي بقول سبحان الله (والتهليل) أي قول لا إله إلا الله (والتقديس) أي قول سبحان الملك القدوس أو سبوح قدوس رب الملائكة والروح (واعقدن) بكسر القاف أي أعددن عدد مرات التسبيح وما عطف عليه (بالأنامل) أي بعقدها أو برؤسها يقال عقد الشيء بالأنامل عده. قال الطيبي: حرضهن النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يحصين تلك الكلمات بأناملهن، ليحط عنها بذلك ما اجترحته من الذنوب ويدل على أنهن كن يعرفن عقد الحساب – انتهى. والأنامل جمع أنملة بتثليث الميم والهمزة تسع لغات التي فيها الظفر كذا في القاموس، والظاهر أن يراد بها الأصابع من باب إطلاق البعض وإرادة الكل عكس ما ورد في قوله تعالى: ?يجعلون أصابعهم في أذانهم? [البقرة: 19] لإرادة المبالغة (فإنهن) أي الأنامل كسائر الأعضاء (مسئولات) أي يسألن يوم القيامة عما اكتسبن وبأي شيء استعملن (مستنطقات) بفتح التاء أي متكلمات بخلق النطق فيها فيشهدن لصاحبهن أو عليه بما اكتسبه من خير أو شر قال تعالى: ?يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون? [النور: 24] ?وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم? [فصلت: 22] وفيه حث على استعمال الأعضاء فيما يرضي الرب تعالى وتعريض بالتحفظ عن الفواحش والآثام (ولا تغفلن) بضم الفاء والفتح لحن أي عن الذكر يعني لا تتركن الذكر (فتنسين الرحمة) بفتح التاء بصيغة المعروف من النسيان أي فتتركن الرحمة،

(15/392)


والمراد بنسيان الرحمة نسيان أسبابها أي لا تتركن الذكر فإنكن لو تركتن الذكر لحرمتن ثوابه فكأنكن تركتن الرحمة قال تعالى: ?فاذكروني? أي بالطاعة ?أذكركم? أي بالرحمة. ويجوز أن يكون تنسين بضم المثناة الفوقية بصيغة المجهول من الإنساء، ونصب الرحمة على المفعول الثاني والمعنى لا تغفلن عن الذكر بأن تتركنه فتنسين من الرحمة وتحرمن ثواب الذكر. قال الطيبي: لا تغفلن نهي لأمرين أي لا تغفلن عما ذكرت لكن من اللزوم على الذكر والمحافظة عليه. والعقد بالأصابع توثيقا وقوله "فتنسين" جواب "لو" أي إنكن لو تغفلن عما ذكرت لكن لتركتن سدى عن رحمة الله، وهذا من باب قوله تعالى: ?لا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي? [طه: 81] أولا يكن منكن

(15/393)


الغفلة فيكون من الله ترك الرحمة فعبر بالنسيان عن ترك الرحمة كما في قوله تعالى: ?وكذلك اليوم تنسى? [طه: 126] – انتهى. قال الشوكاني: والحديث يدل على مشروعية عقد التسبيح بالأنامل. وقد أخرج أبوداود والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه عن عبد الله بن عمرو، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح بيده، زاد في رواية لأبي داود وغيره بيمينه. وقد علل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك في حديث يسيرة بأن الأنامل مسئولات مستنطقات، يعني أنهن يشهدن بذلك فكان عقدهن بالتسبيح من هذه الحيثية أولى من السبحة والحصى. قلت: ويدل على جواز عد التسبيح بالنوى والحصى. حديث سعد بن وقاص المتقدم، وحديث صفية قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يدي أربعة آلات نواة أسبح بها – الحديث. أخرجه الترمذي والحاكم وصححه السيوطي. قال الشوكاني: هذان الحديثان يدلان على جواز عد التسبيح بالنوى والحصى، وكذا بالسبحة لعدم الفارق لتقريره صلى الله عليه وسلم للمرأتين على ذلك وعدم إنكاره، والإرشاد إلى ما هو أفضل لا ينافي الجواز. وقد وردت بذلك آثار ثم ذكرها من شاء الوقوف عليها رجع إلى النيل (ج2ص211)، قلت: حديث سعد قد قدمنا أنه ضعيف. وأما حديث صفية فهو أيضا ضعيف ضعفه الترمذي بقوله هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث هاشم بن سعيد الكوفي عن كنانة مولى صفية عن صفية، وليس إسناده بمعروف. وأما الحاكم فقال صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي وتبعه السيوطي واغتر به الشوكاني وهذا منهم عجيب، فإن هاشم بن سعيد هذا أورده الذهبي في الميزان. وقال: قال ابن معين ليس بشي. وقال ابن عدي: مقدار ما يرويه لا يتابع عليه. ولهذا قال الحافظ في التقريب: ضعيف فائدة إعلم أن للعرب طريقة معروفة في عقود الحساب تواطؤا عليها وهي أنواع من الآحاد والعشرات والمئين والألوف. أما الآحاد فللواحد عقد الخنصر إلى أقرب ما يليه من باطن الكف

(15/394)


وللإثنين عقد البنصر معها كذلك، وللثلاثة عقد الوسطى معها كذلك، وللأربعة حل الخنصر، وللخمسة حل البنصر معها دون الوسطى، وللستة عقد البنصر وحل جميع الأنامل، وللسبعة بسط الخنصر إلى أصل الإبهام مما يلي الكف، وللثمانية بسط البنصر فوقها كذلك، وللتسعة بسط الوسطى فوقها كذلك. وأما العشرات فلها الإبهام والسبابة فللعشرة الأولى عقد رأس الإبهام على طرف السبابة، وللعشرين إدخال الإبهام بين السبابة والوسطى, وللثلاثين عقد رأس السبابة على رأس الإبهام عكس العشرة، وللأربعين ترك الإبهام على العقد الأوسط من السبابة، وعطف الإبهام إلى أصلها، وللخمسين عطف الإبهام إلى أصلها وللستين تركيب السبابة على ظهر الإبهام عكس الأربعين، وللسبعين إلقاء رأس الإبهام على العقد الأوسط من السبابة. ورد طرف السبابة إلى الإبهام، وللثمانين رد طرف السبابة إلى أصلها، وبسط الإبهام على جنب السبابة
رواه الترمذي، وأبوداود.
?الفصل الثالث?
2340- (25) عن سعد بن أبي وقاص، قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: علمني كلاما أقوله، قال: قل: ((لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم. فقال: فهؤلاء لربي، فمالي؟ فقال: قل اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني، وعافني)). شك الراوي في "عافني"

(15/395)


من ناحية الإبهام، وللتسعين عطف السبابة إلى أصل الإبهام وضمها بالإبهام. وأما المئين فكالآحاد إلى تسع مائة في اليد اليسرى والألوف كالعشرات في اليسرى كذا في سبل السلام (ج1ص306، 307) وفي تفصيل هذه الطريقة المعروفة عند العرب وتوضيحها رسالة لطيفة في اللغة الأردية اسمها "عقد أنامل" وهي ترجمة ما ذكره صاحب "غياث اللغات" (ص291، 292) بالفارسية (رواه الترمذي وأبوداود) واللفظ للترمذي، وفي رواية أبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهن أن يراعين بالتكبير والتقديس والتهليل، وأن يعقدن بالأنامل فإنهن مسئولات مستنطقات. وأخرج أحمد (ج6ص371) والنسائي في الكبرى وابن سعد والحاكم والطبراني بلفظ الترمذي. وقال الترمذي: هذا حديث إنما نعرفه من حديث هانيء بن عثمان – انتهى. وسكت عنه أبوداود والمنذري. وقال الذهبي صحيح.
2340- قوله: (جاء أعرابي) أي بدوي (علمني كلاما) أي ذكرا (أقوله) أي ألازم وأداوم عليه (الله أكبر كبيرا) منصوب بفعل محذوف، أي كبرت كبيرا أو ذكرت كبيرا، ويجوز أن يكون حالا مؤكدة كقولك زيد أبوك عطوفا (والحمد لله كثيرا) صفة مفعول مطلق أي حمدا كثيرا (العزيز الحكيم) وفي رواية البزار العلي العظيم وهو المشهور على الألسنة (فقال) أي الأعرابي، وفي مسلم قال بدون الفاء وكذا في المسند، وهكذا وقع في الترغيب وجامع الأصول (فهؤلاء) أي الكلمات وفي المسند هؤلاء وهكذا في الترغيب والجامع (لربي) أي موضوعة لذكره (فمالي) أي من الدعاء لنفسي (اللهم اغفر لي) بمحو السيئات (وارحمني) أي بتوفيق الطاعات (واهدني) أي لأحسن الأحوال (وارزقني) أي المال الحلال (وعافني) أي من الابتلاء بما يضر في المال (شك الراوي) هو موسى الجهني الراوي للحديث عن مصعب بن سعد عن أبيه (في عافني) أي
رواه مسلم.

(15/396)


2341- (26) وعن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على شجرة يابسة الورق، فضربها بعصاه، فتناثر الورق، فقال: ((إن الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، تساقط ذنوب العبد كما يتساقط ورق هذه الشجرة)). رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غريب.
في إثباته ونفيه. والراجح إثباته لأن الحديث رواه مسلم عن شيخين، قال حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة نا علي بن مسهر وابن نمير عن موسى الجهني ح، وحدثنا محمد بن عبدالله بن نمير واللفظ له، نا أبي نا موسى الجهني عن مصعب بن سعد عن أبيه قال جاء أعرابي الخ، ثم قال بعد قوله وارزقني. قال موسى: أما عافني فأنا أتوهم وما أدري، ولم يذكر ابن أبي شيبة في حديثه قول موسى – انتهى. ورواه أحمد في مسنده (ج1ص180)عن يحي بن سعيد عن موسى فذكر قوله "وعافني" من غير شك فيه ثم رواه (ج1ص185) عن عبدالله بن نمير ويعلى بن موسى. وقال بعد قوله "وارزقني". قال ابن نمير قال موسى: أما عافني فأنا أتوهم وما أدري (رواه مسلم) وأخرجه أيضا البزار. قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، وروى مسلم عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتاه رجل فقال: يا رسول الله! كيف أقول حين أسأل ربي؟ قال: قل اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني، فإن هؤلاء تجمع لك دنياك وآخرتك.

(15/397)


2341- قوله: (فضربها) أي أغصان الشجرة (فتناثر الورق) أي تساقط (إن الحمد لله وسبحان الله إلخ) قال الطيبي: هذه الكلمات كلها بالنصب على اسم إن وخبرها (تساقط) بضم التاء من باب المفاعلة (ذنوب العبد) أي المتكلم بهذه الكلمات والمفاعلة للمبالغة، وقوله "تساقط ذنوب العبد" كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا وقع في جامع الأصول، وفي الترمذي لتساقط (بزيادة اللام المفتوحة) من ذنوب العبد، وهكذا نقله في الترغيب والكنز (كما يتساقط) بصيغة المضارع المعلوم من باب التفاعل، وهكذا وقع في جامع الأصول، والذي في الترمذي والترغيب والكنز كما تساقط أي بصيغة الماضي المعلوم (ورق هذه الشجرة) يعني إن هذه الكلمات تساقط ذنوب العبد فتتساقط كما يتساقط ورق هذه الشجرة فقوله كما "يتساقط" حال من الذنوب والتقدير تساقط الذنوب مشبها تساقطها بتساقط الورق. قال في اللمعات: لما كان المقصود ههنا بيان حال الكلمات وفضلها وثمة أعني في أوراق الشجرة بيان سقوطها لا إسقاط العصا إياها قال:كما قال: فافهم (رواه الترمذي) من طريق الأعمش عن أنس (وقال هذا حديث غريب) قال ولا نعرف للأعمش سماعا عن أنس إلا أنه قد رآه ونظر إليه – انتهى. قال المنذري في الترغيب: وأخرجه أحمد من غير طريق الأعمش، ورجاله رجال الصحيح، ولفظه
2342- (27) وعن مكحول، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها من كنز الجنة. قال مكحول: فمن قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا منجا من الله إلا إليه، كشف الله عنه سبعين بابا من الضر، أدناها الفقر)). رواه الترمذي. وقال: هذا حديث ليس إسناده بمتصل، ومكحول لم يسمع عن أبي هريرة.

(15/398)


إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ غصنا فنفضه فلم ينتفض ثم نفضه فلم ينتفض ثم نفضه فانتفض، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ينفضن الخطايا كما تنفض الشجرة ورقها. قلت وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد من غير طريق الأعمش مثل رواية أحمد.
2342- قوله: (فإنها) أي هذه الكلمة (من كنز الجنة) أي من ذخائر الجنة أو من محصلات نفائس الجنة. قال النووي: المعنى إن قولها يحصل ثوابا نفسيا يدخر لصاحبه في الجنة (قال مكحول) أي موقوفا عليه (ولا منجا) بالألف يعني بالقصر أي لا مهرب ولا مخلص (من الله) أي من سخطه وعقوبته (إلا إليه) أي بالرجوع إلى رضاه ورحمته (كشف الله) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا في الترغيب وجامع الأصول وتحفة الذاكرين، والذي في الترمذي كشف أي بغير ذكر لفظ الجلالة (سبعين بابا) أي نوعا (من الضر) بضم الضاد وتفتح وهو يحتمل التحديد والتكثير (أدناها) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا في جامع الأصول والذي في الترمذي أدناهن، وهكذا في الترغيب وتحفة الذاكرين (الفقر) أي أحط السبعين وأدنى مراتب الأنواع نوع مضرة الفقر. قال القاري: والمراد الفقر القلبي الذي جاء في الحديث كاد الفقر أن يكون كفرا لأن قائلها إذا تصور معنى هذه الكلمة تقرر عنده وتيقن في قلبه إن الأمر كله بيد الله وإنه لا نفع ولا ضر إلا منه ولا عطاء ولا منع إلا به، فصبر على البلاء وشكر على النعماء وفوض أمره إلى الله تعالى ورضي بالقدر – انتهى. قلت: حديث كاد الفقر أن يكون كفرا، رواه أبونعيم في الحلية والبيهقي في الشعب. قال ابن الديبع الشيباني في تمييز الطيب: من الخبيث (ص144): وفي سنده يزيد الرقاشي وهو ضعيف وله شواهد ضعيفة – انتهى. وقال المناوي في شرح الجامع الصغير: إسناده رواه. وقال صاحب مجمع البحار في تذكرة الموضوعات (ص174) ضعيف. ولكن صح من قول أبي سعيد –

(15/399)


انتهى. قال شيخنا وتقييد الفقر بالقلبي مما لا حاجة إليه كما لا يخفى (رواه الترمذي وقال: هذا) أي صدر الحديث (حديث ليس إسناده بمتصل) وبين عدم الاتصال بقوله (ومكحول) كذا في جميع نسخ المشكاة بذكر الواو قبل مكحول، وليست في الترمذي ولا في الترغيب (لم يسمع عن أبي هريرة) قال ابن حجر: كذا في النسخ يعني من المشكاة، والمشهور من قلت في الترمذي من بدل عن، وهكذا وقع في
2343- (28) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حول ولا قوة إلا بالله دواء من تسعة وتسعين داء أيسرها الهم)).
2344- (29) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أدلك على كلمة من تحت العرش من كنز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله، يقول الله تعالى:
الترغيب. قال المنذري بعد نقل كلام الترمذي: هذا ما لفظه، ورواه النسائي والبزار مطولا ورفعا ولا منجا من الله إلا إليه ورواتهما ثقات محتج بهم. قال وفي رواية للحاكم وصححها، قال يا أبا هريرة ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة. قلت بلى يا رسول الله! قال تقول لا حول ولا قوة إلا بالله ولا ملجأ ولا منجأ من الله إلا إليه ذكره في حديث – انتهى. قلت: رواية الحاكم هذه أخرجها أحمد (ج2ص309) ورواته ثقات.

(15/400)


2343- قوله: (لا حول ولا قوة إلا بالله دواء) أي معنوي (من تسعة وتسعين) لا يعلم حكمة تخصيص هذا العدد إلا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقال الشوكاني: ظاهره إن هذا الذكر شفاء هذا العدد المذكور، ويمكن أن يكون خارجا مخرج المبالغة كما في قوله تعالى: ?ذرعها سبعون ذراعا? [الحاقة: 32] فيكون المراد إنه شفاء من جميع الأمراض والعلل التي أيسرها الهم (داء) من أدواء الباطن كالكبر والعجب والشرك الخفي وغلبة الهوى، أو أعم من ذلك وهذا أظهر. وقال القاري أي من الأدواء الدنيوية والأخروية (أيسرها) أي أقلها وأسهلها (الهم) أي جنس الهم المتعلق بالدين أو الدنيا أو هم المعاش وغم المعاد. قال المناوي: وذلك لأن العبد إذا تبرأ من الأسباب انشرح صدره وانفرج غمه وأتته القوة والغياث والتأييد وبسطت الطبيعة على ما في الباطن من الداء فدفعته.
2344- قوله: (من تحت العرش من كنز الجنة) قال الطيبي: "من تحت العرش" صفة كلمة أي كائنة من تحت العرش مستقرة فيه، ويجوز أن تكون من ابتدائية أي ناشئة من تحت العرش "ومن" في من كنز الجنة بيانية أي بيان لتحت العرش، كأنه يقول التحت الذي هو كنز وإذا جعل العرش سقف الجنة، جاز أن يكون من كنز الجنة بدلا من قوله من تحت العرش – انتهى. والمعنى أنها من الكنوز المعنوية العرشية وذخائر الجنة العالية العلوية لا من الكنوز الفانية الحسية السفلية. وقيل: المعنى أي كلمة أنزلت من كنز الجنة الكائنة تحت العرش، وفي الحديث تقديم وتأخير. ويؤيده رواية أحمد (ج2 ص298) بلفظ: ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة من تحت العرش (يقول الله تعالى) قال الطيبي: هذا جزاء شرط محذوف أي إذا قال العبد هذه الكلمة يقول الله تعالى قال ابن حجر: أي لملائكته معلما لهم بكمال قائلها المتحلي بمعناها. وقال القاري: الظاهر إن قوله يقول الله
أسلم عبدي، واستسلم)). رواهما البيهقي في "الدعوات الكبير"

(15/401)


2345- (30) وعن ابن عمر، أنه قال: ((سبحان الله هي صلاة الخلائق، والحمد لله كلمة الشكر، ولا إله إلا الله كلمة الإخلاص،
استئناف لبيان فضيلة تلك الكلمة وفضل قائلها. قلت: وقع عند الحاكم بلفظ: تقول لا حول ولا قوة إلا بالله فيقول الله عزوجل أسلم عبدي الخ وهذا يؤيده ما قاله الطيبي (أسلم عبدي) أي انقاد لإحكام الألوهية وأخلص (واستسلم) أي بالغ في الانقياد له تعالى. قال الطيبي: أسلم عبدي واستسلم أي فوض أمور الكائنات إلى الله بأسرها وانقاد هو بنفسه لله مخلصا له الدين (رواهما البيهقي) ذكر الأول منهما المنذري في الترغيب والجزري في الحصن ونسباه للطبراني في الأوسط والحاكم، ونسبه السيوطي في الجامع الصغير وعلي المتقي في الكنز لابن أبي الدنيا في كتاب الفرج. قال الحاكم (ج1ص542) هذا حديث صحيح، وبشر بن رافع الحارثي ليس بالمتروك وتعقبه الذهبي فقال قلت: بشرواه. وقال الهيثمي بعد عزوه إلى الطبراني: وفيه بشر بن رافع الحارثي وهو ضعيف. وقد وثق بقية رجاله رجال الصحيح. وقال المنذري بعد نقل تصحيح الحاكم: بل في إسناده بشر بن رافع أبوالاسباط قال، وضعفه أحمد وغيره وقواه ابن معين وغيره. وقال ابن عدي: هو مقارب الحديث لا بأس بأخباره ولم أجد له حديثا منكرا – انتهى. قلت: بشر هذا ضعفه أحمد والنسائي وأبوحاتم وابن عبدالبر وابن حبان. وقال الترمذي يضعف في الحديث. وقال الحاكم أبوأحمد: ليس بالقوي عندهم. وقال يعقوب بن سفيان والبزار: لين الحديث. وقال الدارقطني: منكر الحديث. وقال الحافظ: فقيه ضعيف الحديث – انتهى. ولم أجد أحدا قوى أمره غير ابن معين وابن عدي، وفي الباب عدة أحاديث يقوي بعضها بعضا منها حديث جابر عند الطبراني في الأوسط، ومنها حديث ابن عباس عند ابن عساكر، ومنها حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عند الطبراني في الأوسط وابن عساكر. والحديث الثاني أخرجه أحمد في مواضع من مسنده منها في (ج2ص298) والبزار والحاكم

(15/402)


(ج1ص21) وقال هذا حديث صحيح ولا يحفظ له علة، ووافقه الذهبي. ونقل المنذري في الترغيب كلام الحاكم وأقره. وقال الهيثمي (ج10ص99) بعد عزوه لأحمد والبزار: رجالهما رجال الصحيح غير أبي بلج (يحي بن أبي سليم) الكبير وهو ثقة.
2345- قوله: (وعن ابن عمر أنه بقال) أي موقوفا (سبحان الله هي صلاة الخلائق) أي عبادتها قال تعالى: ?وإن من شيء إلا يسبح بحمده? [الإسراء: 44] وقال ?كل قد علم صلاته وتسبيحه? [النور: 41] قيل والتسبيح إما بالمقال أو بالحال حيث يدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته وعلى تنزهه تعالى مما لا يجوز عليه من الشريك وغيره (والحمد لله كلمة الشكر) أي عمدته ورأسه كما سبق (ولا إله إلا الله كلمة الإخلاص) أي كلمة التوحيد الموجبة لإخلاص
والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض، وإذا قال العبد: لا حول ولا قوة إلا بالله، قال الله تعالى: أسلم واستسلم)). رواه رزين.
قائلها من النار أو كلمة لا تنفع إلا مقرونة بالصدق والإخلاص (والله أكبر تملأ) بالتأنيث باعتبار الكلمة والتذكير باعتبار اللفظ أي يملأ ثوابها (ما بين السماء والأرض) قيل: ويحتمل أن يكون ما بين السماء والأرض كناية عن العالم كله (وإذا قال العبد لا حول ولا قوة لا بالله) أي وتصور مبناه وتحقق بمعناه (قال الله تعالى أسلم) أي إسلاما كاملا (واستسلم) أي انقاد ظاهرا وباطنا (رواه رزين) ذكر قول ابن عمر هذا رزين في جامعه بغير سند، ولا يوجد في شيء من أصوله ولم أقف على من أخرجه فالله أعلم بحال إسناده.
بعون الله وحسن توفيقه تم الجزء السابع من مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح ويليه الجزء الثامن إن شاء الله تعالى، وأوله "باب الاستغفار والتوبة"

(15/403)


بسم الله الرحمن الرحيم
(4) باب الاستغفار والتوبة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( باب الاستغفار ) أي : طلب المغفرة ، وقد سبق بيان معناها عند شرح اسم الله الغفار في حديث الأسماء الحسنى فارجع إليه . وقال الحافظ : الاستغفار استفعال من الغفران ، وأصله الغفر ، وهو إلباس الشيء ما يصونه عما يدنسه وتدنيس كل شيء بحسبه ، والغفران من الله للعبد أن يصونه من العذاب - انتهى . قال القاري : الاستغفار قد يتضمن التوبة وقد لا يتضمن ولذا قال : ( والتوبة ) أو الاستغفار باللسان والتوبة بالجنان ، وهي الرجوع من المعصية إلى الطاعة والمغفرة منه تعالى لعبده ستره لذنبه في الدنيا بأن يطلع عليه أحدا ، وفي الآخرة بأن لا يعاقبه عليه . قال الطيبي : والتوبة في الشرع ترك الذنب لقبحه والندم على ما فرط والعزيمة على ترك المعاودة وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة هذا كلام الراغب . وزاد النووي وقال : إن كان الذنب متعلقا ببني آدم فلها شرط آخر ، وهو رد المظلمة إلى صاحبها أو تحصيل البراءة منه ، وقال ابن القيم في مدارج السالكين (ج1 : ص169) في الكلام على تفسير التوبة المطلقة : وكثير من الناس إنما يفسر التوبة بالعزم على أن لا يعاود الذنب ، وبالإقلاع عنه في الحال ، وبالندم عليه في الماضي . وإن كان في حق آدمي فلابد من أمر رابع وهو التحلل منه ، وهذا الذي ذكروه بعض مسمى التوبة بل شرطها . وإلا فالتوبة في كلام الله ورسوله كما تتضمن ذلك تتضمن العزم على فعل المأمور والتزامه ، فلا يكون بمجرد الإقلاع والعزم والندم تائبا حتى يوجد منه العزم الجازم على فعل المأمور والإتيان به ، هذا حقيقة التوبة ، وهي اسم لمجموع الأمرين لكنها إذا قرنت بفعل المأمور كانت عبارة عما ذكروه ، فإذا أفردت تضمنت الأمرين ، وهي كلفظة التقوى التي عند إفرادها تقتضى فعل ما أمر الله به ، وترك ما نهى الله عنه ، وعند اقترانها بفعل

(16/1)


المأمور تقتضي الانتهاء عن المحظور ، فإن حقيقة التوبة الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يحب ، وترك ما يكره ، فهي رجوع من مكروه إلى محبوب ، فالرجوع إلى المحبوب جزء
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسماها ، والرجوع عن المكروه الجزء الآخر ، ولهذا علق سبحانه الفلاح المطلق على فعل المأمور وترك المحظور بها فقال : ? وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ? ( النور : 31) فكل تائب مفلح ولا يكون مفلحا إلا من فعل ما أمر به وترك ما نهي عنه . وقال تعالى : ? ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ? ( الحجرات : 11) وترك المأمور ظالم كما إن فاعل المحظور ظالم ، وزوال اسم الظلم عنه بالتوبة الجامعة الأمرين ، قال : وإنما سمي التائب تائبا لرجوعه إلى أمر الله من نهيه وإلى طاعته من معصيته كما تقدم فإذا التوبة هي حقيقة دين الإسلام والدين كله داخل في مسمى التوبة ، وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين , وإنما يحب الله من فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه ، فإذا التوبة هي الرجوع مما يكرهه الله ظاهرا وباطنا إلى ما يحبه ظاهرا وباطنا ، ويدخل في مسماها الإسلام والإيمان والإحسان وتتناول جميع المقدمات . قال ابن القيم ( مشيرا إلى الفرق بين الاستغفار والتوبة ) : وأما الاستغفار فهو نوعان مفرد ومقرون بالتوبة فالمفرد كقول نوح عليه السلام لقومه : ? استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ? ( نوح : 10 ، 11) وكقول صالح عليه السلام لقومه : ? لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون ? ( النمل : 46) وكقوله تعالى : ? واستغفروا الله إن الله

(16/2)


غفور رحيم ? ( المزمل : 20) وقوله : ? وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ? ( الأنفال : 33) والمقرون كقوله تعالى : ? وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله ? ( هود : 3) وقول صالح لقومه : ? فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ? ( هود : 52 - 61) وقول شعيب : ? واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود ? ( هود : 90) فالاستغفار المفرد كالتوبة بل هو التوبة بعينها مع تضمنه طلب المغفرة من الله وهو محو الذنب وإزالة أثره ووقاية شره ، لا كما ظنه بعض الناس إنها الستر فإن الله يستر على من يغفر له ، ومن لا يغفر له ، ولكن الستر لازم مسماها أو جزءه ، فدلالتها عليه إما بالتضمن وإما باللزوم ، وحقيقتها وقاية شر الذنب ، ومنه المغفر لما يقي الرأس من الأذى ، والستر لازم لهذا المعنى ، وألا فالعمامة لا تسمى مغفرا ولا القبع ونحوه مع ستره فلابد في لفظ المغفر من الوقاية . وهذا الاستغفار الذي يمنع العذاب في قوله : ? وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ? ( الأنفال : 33) فإن الله لا يعذب مستغفرا . وأما من أصر على الذنب وطلب من الله مغفرته فهذا ليس باستغفار مطلق ، ولهذا لا يمنع العذاب فالاستغفار يتضمن التوبة ، والتوبة تتضمن الاستغفار ، وكل منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق . وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى فالاستغفار طلب وقاية شر ما مضى ، والتوبة والرجوع طلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله فها هنا ذنبان . ذنب قد مضى فالاستغفار طلب وقاية شره ، وذنب يخاف وقوعه فالتوبة العزم على أن لا يفعله والرجوع إلى الله

(16/3)


يتناول النوعين . رجوع إليه ليقيه شر ما مضى ، ورجوع إليه ليقيه شر ما
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يستقبل من شر نفسه وسيئات أعماله ، وأيضا فإن المذنب بمنزلة من ارتكب طريقا تؤديه إلى هلاكه ولا توصله إلى المقصود فهو مأموران يوليها ظهره ويرجع إلى الطريق التي فيها نجاته ، وتوصله إلى مقصودة وفيها فلاحه فها هنا أموال لابد منهما مفارقة شيء . والرجوع إلى غيره فخصت التوبة بالرجوع والاستغفار بالمفارقة ، وعند إفرادهما يتناول الأمرين ، ولهذا والله أعلم جاء الأمر بهما مرتبا بقوله :?واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه ? ( هود : 90) فإنه الرجوع إلى طريق الحق بعد مفارقة الباطل ، وأيضا فالاستغفار من باب إزالة الضرر والتوبة طلب جلب المنفعة ، فالمغفرة أن يقيه شر الذنب ، والتوبة أن يحصل له بعد الوقاية ما يحبه ، وكل منهما يستلزم الآخر عند إفراده والله أعلم . وقيل : في الفرق بينهما إن التوبة لا تكون إلا لنفسه أي لما اجترحته نفسه خاصة من الآثام بخلاف الاستغفار ، فإنه يكون لنفسه ولغيره أو لغيره فقط كما قال تعالى : ? والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ? ( الحشر : 10) وقال تعالى حاكيا عن الملائكة : ? ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا ? ( غافر : 7) وإن التوبة هي الندم على ما فرط في الماضي ، والغرم على الامتناع منه في المستقبل ، والاستغفار طلب الغفران لما صدر منه ولا يجب فيه الغرم في المستقبل هذا . وللتوبة أحكام لا يليق بالعبد جهلها . ذكر ابن القيم نبذا منها في مدارج السالكين شرح منازل السائرين (ج1 :ص150

(16/4)


: 169) فعليك أن تطالعه وأضف إلى ذلك مطالعة كتاب التوبة من الإحياء للغزالي, وقد عقد ابن القيم في المدارج (ج1 : ص172 ، 173) فصلا لإيضاح الفرق بين الذنب والسيئة والتكفير والمغفرة فطالعه أيضا مع ما تعقبه وعلق عليه محشيه وقد ذكر صاحب المنازل أسرارا للتوبة بسط ابن القيم الكلام في شرح السر الأول وتوضيحه أحببنا إيراده لغاية حسنه ولطافته . قال صاحب المنازل : ولطائف أسرار التوبة ثلاثة أشياء أولها : أن ينظر الجناية والقضية فيعرف مراد الله فيها إذ خلاك وإتيانها ، فإن الله عز وجل إنما خلي العبد والذنب لمعنيين أحدهما : أن يعرف عزته في قضائه وبره في ستره وحلمه في إمهال راكبه وكرمه في قبول العذر منه وفضله في مغفرته . الثاني : أن يقيم على عبده حجة عدله فيعاقبه على ذنبه بحجته . قال ابن القيم في شرح هذا الكلام (ج1 : ص111) اعلم أن صاحب البصيرة إذا صدرت منه الخطيئة فله نظر إلى خمسه أمور أحدها : أن ينظر إلى أمر الله ونهيه فيحدث له ذلك الاعتراف بكونها خطيئة والإقرار على نفسه بالذنب . الثاني : أن ينظر إلى الوعد والوعيد فيحدث له ذلك خوفا وخشية تحمله على التوبة . الثالث : أن ينظر إلى تمكين الله له منها وتخليته بينه وبينها أو تقديرها عليه وإنه لو شاء لعصمه منها وحال بينه وبينها ، فيحدث له ذلك أنواعا من المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وحكمته ورحمته ومعرفته وعفوه وحلمه وكرمه ، وتوجب هذه المعرفة عبودية بهذه الأسماء لا تحصل بدون
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/5)


لوازمها البتة ، ويعلم ارتباط الخلق والأمر والجزاء والوعد بأسمائه وصفاته ، وأن ذلك موجب الأسماء والصفات وأثرها في الوجود ، وإن كل اسم وصفة مقتض لأثره وموجبه متعلق به لا بد منه ، وهذا المشهد يطلعه على رياض مونقة من المعارف والإيمان وأسرار القدر والحكمة يضيق عن التعبير عنها نطاق الكلم . فمن بعضها : ما ذكره الشيخ يعني صاحب المنازل أن يعرف العبد عزته في قضائه وهو أنه سبحانه العزيز الذي يقضى بما يشاء وإنه لكمال عزه حكم على العبد وقضى عليه بأن قلب قلبه وصرف إرادته على ما يشاء وحال بين العبد وقلبه . وجعله مريدا شائيا لما شاء منه العزيز الحكيم . وهذا من كمال العزة إذ لا يقدر على ذلك إلا الله ، وغاية المخلوق أن يتصرف في بدنك وظاهرك . وأما جعلك مريدا شائيا لما شاءه منك ، ويريده فلا يقدر عليه إلا ذو العزة الباهرة فإذا عرف العبد عز سيده ولاحظه بقلبه وتمكن شهوده منه كان الاشتغال به عن ذل المعصية أولى به وأنفع له لأنه يصير مع الله لا مع نفسه ومن معرفة عزته في قضائه أن يعرف أنه مدبر مقهور ناصيته بيد غيره لا عصمة له ، إلا بعصمته ولا توفيق له إلا بمعونته ، فهو ذليل حقير في قبضة عزيز حميد ، ومن شهود عزته أيضا في قضائه أن يشهد أن الكمال والحمد والغناء التام والعزة كلها لله ، وإن العبد نفسه أولى بالتقصير والذم والعيب والظلم والحاجة وكلما ازداد شهوده لذله ونقصه وعيبه وفقره ازداد شهوده لعزة الله وكماله وعبده وغناه وكذلك بالعكس ، فنقص الذنب وذلته يطلعه على مشهد العزة ، ومنها إن العبد لا يريد معصية مولاه من حيث هي معصية فإذا شهد جريان الحكم عليه وجعله فاعلا لما هو غير مختار له ولا مريد بإرادته ومشيئته واختياره ، فكأنه مختار غير مختار ، مريد غير مريد ، شاء غير شاء ، فهذا يشهد عزة الله وعظمته وكمال قدرته . ومنها : أن يعرف بره سبحانه في ستره عليه حال ارتكاب المعصية مع كمال رؤيته له ، ولو شاء

(16/6)


لفضحه بين خلقه فحذروه ، وهذا من كمال بره ومن أسمائه البر ، وهذا البر من سيده به نفع كمال غناه عنه ، وكمال فقر العبد إليه ، فيشتغل بمطالعة هذه المنة ، ومشاهدة هذا البر والإحسان والكرم فيذهل عن ذكر الخطيئة فيبقى مع الله سبحانه ، وذلك أنفع له من الاشتغال بجنايته وشهود ذل معصيته ، فإن الاشتغال بالله والغفلة عما سواه هو المطلب الأعلى والمقصد الأسنى ، ولا يوجب هذا نسيان الخطيئة مطلقا بل في هذه الحال . فإذا فقدها فليرجع إلى مطالعة الخطيئة وذكر الجناية ولكل وقت ومقام عبودية تليق به . ومنها : شهود حلم الله سبحانه وتعالى في إمهال راكب الخطيئة ولو شاء لعاجله بالعقوبة ، ولكنه الحليم الذي لا يعجل فيحدث له ذلك معرفته سبحانه باسمه الحليم ومشاهدة صفة الحلم ، والتعبد بهذا الاسم والحكمة والمصلحة الحاصلة من ذلك بتوسط الذنب أحب إلى الله ، وأصلح للعبد وأنفع من فوتها ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع . ومنها : معرفة العبد كرم ربه في قبول العذر منه إذا اعتذر إليه بنحو ما تقدم (ص99) المدارج من الاعتذار لا بالقدر فإنه مخاصمة ومحاجة كما تقدم (ص99) فيقبل عذره بكرمه وجوده فيوجب له
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/7)


ذلك اشتغالا بذكره وشكره ومحبة أخرى لم تكن حاصلة له قبل ذلك ، فإن محبتك لمن شكرك على إحسانك وجازاك به ثم غفر لك إساءتك ولم يؤاخذك بها أضعاف محبتك على شكر الإحسان وحده والواقع شاهد بذلك ، فعبودية التوبة بعد الذنب لون ( وهذا لون ) آخر يعني إن عبودية التوبة بعد الذنب لون ، وهذا الذي ذكره أخيرا من معرفة العبد كرم ربه إلخ لون آخر ومنها : أن يشهد فضله في مغفرته فإن المغفرة فضل من الله ، وإلا فلو وأخذ بالذنب لو أخذ يمحض حقه وكان عادلا محمودا . وإنما عفوه بفضله لا باستحقاقك فيوجب لك ذلك أيضا شكرا له ومحبة وإنابة إليه وفرحا وابتهاجا به ومعرفة له باسمه الغفار ، ومشاهدة لهذه الصفة ، وتعبدا بمقتضاها وذلك أكمل في العبودية والمحبة والمعرفة . ومنها : أن يكمل لعبده مراتب الذل والخضوع والانكسار بين يديه والافتقار إليه ، فإن النفس فيها مضاها الربوبية لو قدرت لقالت كقول فرعون ولكنه قدر فأظهر وغيره عجز فأضمر ، وإنما يخلصها من هذه المضاهاة ذل العبودية وهو أربع مراتب . المرتبة الأولى : مشتركة بين الخلق وهي ذل الحاجة والفقر إلى لله فأهل السماوات والأرض محتاجون إليه فقراء إليه ، وهو وحده الغني عنهم وكل أهل السماوات والأرض يسألونه وهو لا يسأل أحدا . المرتبة الثانية : ذل الطاعة والعبودية ، وهو ذل الاختيار ، وهذا خاص بأهل طاعته وهو سر العبودية . المرتبة الثالثة ذل المحبة ، فإن المحب ذليل بالذات لمحبوبه وعلى قدر محبته له يكون ذله ، فالمحبة أسست على الذلة للمحبوب كما قيل :
أخضع وذل لمن تحب فليس في ( ... حكم الهوى أنف يسأل ويعقد (
وقال آخر :
مساكين أهل الحب حتى قبورهم ( ... عليها تراب الذل بين المقابر (

(16/8)


المرتبة الرابعة : ذل المعصية والجناية ، فإذا اجتمعت هذه المراتب الأربع كان الذل لله والخضوع له أكمل وأتم ، إذ يذل له خوفا وخشية ومحبة وإنابة وإطاعة وفقرا وفاقة ، وحقيقة ذلك هو الفقر الذي يشير إليه القوم ، وهذا المعنى أجل من أن يسمى بالفقر بل هو لب العبودية وسرها وحصوله أنفع شيء للعبد ، وأحب شيء إلى الله فلا بد من تقدير لوازمه من أسباب الضعف والحاجة ، وأسباب العبودية والطاعة ، وأسباب المحبة والإنابة ، وأسباب المعصية والمخالفة إذ وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع ، والغاية من تقدير عدم هذا الملزوم ولازمه مصلحة وجوده خير من مصلحة فوته ومفسدة فوته أكبر من مفسدة وجوده ، والحكمة مبناها على دفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وقد فتح لك الباب ، فإن كنت من أهل المعرفة فادخل وإلا فرد الباب وارجع بسلام . ومنها : إن أسماءه الحسنى تقتضي آثارها اقتضاء الأسباب التامة لمسبباتها
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/9)


فاسم السميع البصير يقتضي مسموعا ومبصرا . واسم الرزاق يقتضي مرزوقا ، واسم الرحيم يقتضي مرحوما ، وكذلك اسم الغفور والعفو والتواب والحليم يقتضي من يغفر له ويتوب عليه ويعفو عنه ويحلم ، ويستحيل تعطيل هذه الأسماء والصفات إذ هي أسماء حسنى وصفات كمال ونعوت جلال وأفعال حكمة ، وإحسان وجود فلا بد من ظهور آثارها في العالم . وقد أشار إلى هذا أعلم الخلق بالله صلوات الله وسلامه عليه حيث يقول : ( لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ، ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم ) . وأنت إذا فرضت الحيوان بحملته معدوما فلمن يرزق الرزاق سبحانه ؟ وإذا فرضت المعصية والخطيئة منتفية من العالم فلمن يغفر وعمن يعفو ؟ وعلى من يتوب ويحلم ؟ وإذا فرضت الفاقات كلها قد سدت ، والعبيد أغنياء معافون فأين السؤال والتضرع والابتهال والإجابة ، وشهود الفضل والمنة والتخصيص بالإنعام والإكرام ؟ فسبحان من تعرف إلى خلقه بجميع أنواع التعرفات ودلهم عليه بأنواع الدلالات وفتح لهم إليه جميع الطرقات ، ثم نصب إليه الصراط المستقيم وعرفهم به ودلهم عليه ? ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم ? ( الأنفال : 24) . ومنها : السر الذي لا تقتحمه العبارة ولا تجسر عليه الإشارة لو لا ينادى عليه منادى الإيمان على رؤوس الأشهاد ، فشهد به قلوب خواص العباد فازدادت به معرفة لربها ومحبة له وطمأنينة وشوقا إليه ولهجا بذكره وشهودا لبره ولطفه وكرمه وإحسانه ومطالعة لسر العبودية وإشرافا على حقيقة الإلهية وهو ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( لله أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها ، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته ، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده ، فأخذ بخطامها

(16/10)


، ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك . أخطأ من شدة الفرح ) هذا لفظ مسلم . وفي الحديث من قواعد العلم إن اللفظ الذي يجري على لسان العبد خطأ من فرح شديد أو غيظ شديد ، ونحوه لا يؤاخذ به ولهذا لم يكن هذا كافرا بقوله أنت عبدي وأنا ربك قال . والقصد إن هذا الفرح له شأن لا ينبغي للعبد إهماله والإعراض عنه ، ولا يطلع عليه إلا من له معرفة خاصة بالله وأسمائه وصفاته وما يليق بعز جلاله ، وقد كان الأولى بناطي الكلام فيه إلى ما هو اللائق بإفهام بنى الزمان وعلومهم ونهاية أقدامهم من المعرفة وضعف عقولهم عن احتماله غير أنا نعلم أن الله عز وجل سيسوق هذه البضاعة إلى تجارها ومن هو عارف بقدرها ، وإن وقعت في الطريق بيد من ليس عارفا بها فرب حامل فقه ليس بفقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، فاعلم أن الله سبحانه وتعالى اختص نوع الإنسان من بين خلقه بأن كرمه وفضله وشرفه وخلقه لنفسه ، وخلق كل شيء له وخصه من معرفته ومحبته وقربه وإكرامه بما لم يعطه غيره ، وسخر له في سماواته وأرضه وما بينهما حتى ملائكته الذين هم أهل قرية استخدمهم وجعلهم حفظة له في
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/11)


منامه ويقظته وظعنه وإقامته ، وأنزل إليه وعليه كتبه ، وأرسله وأرسل إليه ، وخاطبه وكلمه منه إليه ، واتخذ منهم الخليل والكليم والأولياء والخواص والأحبار ، وجعلهم معدن أسراره ومحل حكمته وموضع حبه ، وخلق لهم الجنة والنار ، فالخلق والأمر والثواب والعقاب مداره على النوع الإنساني ، فإنه خلاصة الخلق وهو المقصود بالأمر والنهي ، وعليه الثواب والعقاب ، فللإنسان شأن ليس لسائر المخلوقات ، وقد خلق أباه بيده ونفخ من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء وأظهر فضله على الملائكة ، فمن دونهم من جميع المخلوقات وطرد إبليس عن قربه وأبعده عن بابه إذ لم يسجد له مع الساجدين ، واتخذه عدوا له فالمؤمنون من نوع الإنسان خير البرية على الإطلاق وخيرية الله على العالمين فإنه خلقه ليتم نعمته عليه وليتواتر إحسانه إليه ، وليخصه من كرامته وفضله بما لم تنله أمنيته ولم يخطر على باله ، ولم يشعر به ليسأله من المواهب والعطايا الباطنة والظاهرة العاجلة والآجلة التي لا تنال إلا بمحبته ولا تنال محبته إلا بطاعته وإيثاره على ما سواه ، فاتخذه محبوبا له وأعدله أفضل ما يعده محب غنى قادر جواد لمحبوبه ، إذ أقدم عليه وعهد إليه عهدا يقدم إليه فيه بأوامره ونواهيه وأعلمه في عهده ما يقربه إليه ويزيده محبة له وكرامة عليه ، وما يبعده منه ويسخطه عليه ، ويسقطه من عينه ، وللمحبوب عدو هو أبغض خلق خلقه إليه قد جاهره بالعداوة ، وأمر عباده أن يكون دينهم وطاعتهم وعبادتهم له دون وليهم ومعبودهم الحق ، واستقطع عباده واتخذ منهم حزبا ظاهروه ووالوه على ربهم ، وكانوا أعداء له مع هذا العدو ، يدعون إلى سخطه ويطعنون في ربوبيته وإلهيته ووحدانيته ويسبونه ويكذبونه ويفتنون أولياءه ويؤذونهم بأنواع الأذى ، ويجهدون على إعدامهم من الوجود وإقامة الدالة لهم ومحو كل ما يحبه الله ويرضاه وتبديله بكل ما يسخطه ويكرهه ، فعرفه بهذا العدو وطرائقهم وأعمالهم وما

(16/12)


لهم ، وحذره موالاتهم والدخول في زمرتهم ، والكون معهم ، وأخبره في عهده أنه أجود الأجودين ، وأكرم الأكرمين ، وأرحم الراحمين . وأنه : سبقت رحمته غضبه وحلمه عقوبته وعفوه مؤاخذته ، وإنه قد أفاض على خلقه النعمة وكتب على نفسه الرحمة ، وإنه يحب الإحسان والجود والعطاء والبر ، وإن الفضل كله بيده والخير كله منه ، والجود كله له ، وأحب ما إليه أن يجود على عباده ويوسعهم فضلا ويغمرهم إحسانا وجود ، أو يتم عليهم نعمه ، ويضاعف لديهم مننه ويتعرف ، إليهم بأوصافه وأسماءه ، ويتحبب إليهم بنعمه وآلاءه فهو الجواد لذاته ، وجود كل جواد خلقه الله ويخلقه أبدا أقل من ذرة بالقياس إلى جوده ، فليس الجواد على الإطلاق إلا هو ، وجود كل جواد فمن جوده ومحبته للجود والإعطاء والإحسان والبر والإنعام والأفضال فوق ما يخطر ببال الخلق ، أو يدور في أوهامهم وفرحه بعطائه وجوده وأفضاله أشد من فرح الآخذ بما يعطاه أو يأخذ أحوج ما هو إليه وأعظم ما كان قدرا فإذا اجتمع شدة الحاجة وعظم قدر العطية والنفع بها فما الظن بفرح المعطي ؟ ففرح المعطي سبحانه بعطائه أشد وأعظم من فرح هذا بما
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/13)


يأخذه ، ولله المثل الأعلى إذ هذا شأن الجواد من الخلق فإنه يحصل له من الفرح والسرور والابتهاج واللذة بعطائه ، وجوده فوق ما يحصل لمن يعطيه ، ولكن الآخذ غائب بلذة أخذه عن لذة المعطى وابتهاجه وسروره . هذا مع كمال حاجته إلى ما يعطيه وفقره إليه وعدم وثوقه باستخلاف مثله ، وخوف الحاجة إليه عند ذهابه والتعرض لذل الاستعانة بنظيره ومن هو دونه ، ونفسه قد طبعت على الحرص والشح ، فما الظن بمن تقدس وتنزه عن ذلك كله ؟ ولو أن أهل سماواته وأرضه وأول خلقه وآخرهم وإنسهم وجنهم ورطبهم ويابسهم قاموا في صعيد واحد فسألوه فأعطى كلا ما سأله ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة ، وهو الجواد لذاته كما أنه الحي لذاته العليم لذاته السميع البصير لذاته ، فجوده العالي من لوازم ذاته ، والعفو أحب إليه من الانتقام ، والرحمة أحب إليه من العقوبة ، والفضل أحب إليه من العدل ، والعطاء أحب إليه من المنع ، فإذا تعرض عبده ومحبوبة الذي خلقه لنفسه وأعد له أنواع كرامته وفضله على غيره وجعله محل معرفته وأنزل إليه كتابه ، وأرسل إليه رسوله واعتنى بأمره ، ولم يهمله ولم يتركه سدى ، فتعرض لغضبه وارتكب مساخطه وما يكرهه وأبق منه ، ووالى عدوه وظاهره عليه ، وتحيز إليه وقطع طريق نعمه وإحسانه إليه التي هي أحب شيء إليه ، وفتح طريق العقوبة والغضب والانتقام فقد استدعى من الجود الكريم خلاف ما هو موصوف به من الجود والإحسان والبر ، وتعرض لإغضابه وإسخاطه وانتقامه ، وأن يصير غضبه وسخطه في موضع رضاه ، وانتقامه وعقوبته في موضع كرمه وبره وعطاءه ، فاستدعى بمعصيته من أفعاله ما سواه أحب إليه منه ، وخلاف ما هو من لو لزم ذاته من الجود والإحسان . فبينما هو حبيبه المقرب المخصوص بالكرامة إذا انقلب آبقا شاردا رادا لكرامته ، مائلا عنه إلى عدوه مع شدة حاجته إليه ، وعدم استغناءه عنه طرفة عين ، فبينما ذلك الحبيب مع العدو في طاعته وخدمته ناسيا لسيده ،

(16/14)


منهمكا في موافقة عدوه ، قد استدعى من سيده خلاف ما هو أهله إذ عرضت له فكرة فتذكر بر سيده وعطفه وجوده وكرمه ، وعلم أنه لا بد له منه ، وأن مصيره إليه ، وعرضه عليه ، وإنه لم يقدم عليه بنفسه قدم به عليه ، على أسوأ الأحوال ، ففر إلى سيده من بلد عدوه وجد في الهرب إليه حتى وصل إلى بابه فوضع خده على عتبة بابه وتوسد ثرى أعتابه متذللا متضرعا خاشعا باكيا آسفا ، يتملق سيده ويسترحمه ويستعطفه ويعتذر إليه ، قد ألقى بيده إليه ، واستسلم له وأعطاه قياده ، وألقى إليه زمانه ، فعلم سيده ما في قلبه فعاد مكان الغضب عليه رضا عنه ، ومكان الشدة عليه رحمة به ، وأبدله بالعقوبة عفوا ، وبالمنع عطاء وبالمؤاخذة حلما ، فاستدعى بالتوبة الرجوع من سيده ما هو أهله وما هو موجب أسماءه الحسنى وصفاته العلى ، فكيف يكون فرح سيده به ، وقد عاد إليه حبيبه ووليه طوعا واختيارا ، وراجع ما يحبه سيده منه ويرضاه ، وفتح طريق البر والإحسان والجود التي هي أحب إلى سيده من طريق الغضب والانتقام والعقوبة ؟ وهذا موضع الحكاية المشهورة عن بعض العارفين
( الفصل الأول )
2346- (1) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عله وسلم : والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/15)


أنه حصل له شرود وإباق عن سيده ، فرأى في بعض السكك بابا قد فتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكى وأمه خلفه تطرده ، حتى خرج فأغلقت الباب في وجهه ودخلت فذهب الصبي غير بعيد ، ثم وقف مفكرا فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه ، ولا من يؤويه غير والدته فرجع مكسور القلب حزينا فوجد الباب مرتجا فتوسده ، ووضع خده على عتبة الباب ونام فخرجت أمه ، فلما رأته على تلك الحالة لم تملك أن رمت نفسها عليه والتزمته تقبله وتبكي وتقول : يا ولدى أين تذهب عني ومن يؤويك سواي ؟ ألم أقل لك : لا تخالفني ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة لك والشفقة عليك وإرادتي الخير لك ؟ ثم أخذته ودخلت فتأمل قول الأم : ( لا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة والشفقة ) وتأمل قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها ) وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء ؟ فإذا أغضبه العبد بمعصيته فقد استدعى منه صرف تلك الرحمة عنه فإذا تاب إليه فقد استدعى منه ما هو أهله وأولى به ، فهذه نبذة يسيرة تطلعك على سر فرح الله بتوبة عبده أعظم من فرح هذا الواجد لراحلته في الأرض المهلكة بعد اليأس منها ، ووراء هذا ما تجفوا عنه العبارة وتدق عن إدراكه الأذهان وإياك وطريقة التعطيل والتمثيل ، فإن كلا منهما منزل ذميم ومرتع على علاته وخيم ، ولا يحل لأحدهما أن يجد روائح هذا الأمر ونفسه لأن زكام التعطيل والتمثيل مفسد لحاسة الشم كما هو مفسد لحاسة الذوق ، فلا يذوق طعم الإيمان ولا يجد ريحه . والمحروم كل المحروم من عرض عليه الغنى والخير فلم يقبله ، فلا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العليم ) ثم بسط ابن القيم الكلام في شرح قول صاحب المنازل : (( الثاني أن يقيم على عبده حجة عدله فيعاقبه على ذنبه )) ثم ذكر النظر الرابع من الأنظار الخمسة

(16/16)


التي تحصل عند صدور المعصية من العبد وهو النظر إلى محل الجناية ومصدرها أي النفس الأمارة بالسوء وشرح في ضمنه اللطيفة الثانية من لطائف أسرار التوبة ثم ذكر النظر الخامس وهو نظره إلى الآمر له بالمعصية المزين له فعلها ، الحاض له عليها ، وهو شيطانه الموكل به ، ثم أطال الكلام في شرح اللطيفة الثالثة من أحب الوقف على ذلك رجع إلى المدارج (ج1 : ص119 : 126) .
2346- قوله : ( والله ) فيه : القسم على الشيء تأكيدا له وإن لم يكن عند السامع فيه شك ( إني لأستغفر الله وأتوب إليه ) يحتمل أن يكون المراد يقول هذا اللفظ بعينه ويؤيده ما أخرجه النسائي بسند جيد من طريق
في اليوم أكثر من سبعين مرة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/17)


مجاهد عن ابن عمر أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه في المجلس قبل أن يقوم مائة مرة . ويحتمل أنه يطلب المغفرة ويعزم على التوبة وينشئها . ويؤيده ما سيأتي في آخر الفصل الثاني من حديث ابن عمر قال : إن كنا نعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلس رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور . مائة مرة . أخرجه أحمد ، والترمذي ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة من طريق محمد بن سوقة عن نافع عن ابن عمر ( في اليوم ) الواحد ( أكثر من سبعين مرة ) ، كذا في شعيب عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، عند البخاري ، وفي رواية معمر عن الزهري عن أبي سلمة عند الترمذي ، وابن السني إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة ، وهكذا وقع في حديث أنس عند أبي يعلي ، والبزار ، والطبراني ، فيحتمل أن يريد به المبالغة والتكثير . والعرب تصنع السبع والسبعين والسبعمائة موضع الكثرة ، ويحتمل أن يريد العدد بعينه . وقوله في رواية الكتاب أكثر مبهم ، فيحتمل أن يفسر بحديث ابن عمر المذكور وأنه يبلغ المائة . وقد وقع في رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عند النسائي ، وابن ماجة بلفظ : إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم مائة مرة . وفي حديث الأغر الآتي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة . قال الشوكاني بعد ذكر الروايات الثلاث : وينبغي الأخذ بالأكثر وهو رواية المائة فيقول في كل يوم أستغفر الله وأتوب إليه مائة مرة ، فإن قال اللهم إني أستغفرك فاغفر لي وأتوب إليك فتب على . فقد أخذ بطرفي الطلب ، والله سبحانه وتعالى ? غافر الذنب وقابل التوب ? ( غافر : 3) - انتهى . وقد استشكل وقوع الاستغفار من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو معصوم . والاستغفار يستدعي وقوع المعصية . وأجيب بعدة أجوبة منها : إن المراد باستغفاره - صلى الله عليه وسلم - استغفاره من

(16/18)


الذي وقع في حديث الأغر الآتي وسيأتي تفسيره وتوضيحه . ومنها قول ابن الجوزي : هفوات لطباع البشرية لا يسلم منها أحد ، والأنبياء وإن عصموا من الكبائر فلم يعصموا من الصغائر . كذا قال وهو مفرع على خلاف المختار ، والراجح عصمتهم من الصغائر أيضا . ومنها : قول ابن بطال الأنبياء أشد الناس اجتهادا في العبادة لما أعطاهم الله تعالى من المعرفة فهم دائبون في شكره معترفون له بالتقصير - انتهى . ومحصله جوابه أن الاستغفار من التقصير في أداء الحق الذي يجب لله تعالى . ويحتمل أن يكون لاشتغاله بالأمور المباحة من أكل أو شرب أو جماع أو نوم أو راحة أو لمخاطبة الناس ، والنظر في مصالحهم ومحاربة عدوهم تارة ومداراته أخرى ، وتأليف المؤلفة وغير ذلك مما يحجبه عن الاشتغال بذكر الله والتضرع إليه ، ومشاهدته ومراقبته فيرى ذلك ذنبا بالنسبة إلى المقام العلي وهو الحضور في حظيرة القدس . ومنها إن الاستغفار تشريع
رواه البخاري .
2347- (2) وعن الأغر المزني قال : قال رسول الله صلى الله عله وسلم : إنه ليغان على قلبي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وتعليم لأمته أو من ذنوب أمته فهو كالشفاعة لهم . وقال الغزالي في الإحياء : كان - صلى الله عليه وسلم - دائم الترقي ، فإذا ارتقى إلى حال رأى ما قبلها دونها فاستغفر من الحالة السابقة ، وهذا مفرع على أن العدد المذكور في استغفاره كان مفرقا بحسب تعدد الأحوال وظاهر ألفاظ الحديث يخالف ذلك . ومنها : إن استغفاره كان إظهارا للعبودية وافتقارا لكرم الربوبية . ( رواه البخاري ) في الدعوات وأخرجه أيضا أحمد (ج2 : ص282) ، والطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد (ج10 : ص208) .

(16/19)


2347- قوله : ( وعن الأغر ) بفتح الهمزة والغين المعجمة وتشديد الراء ( المزني ) نسبة إلى قبيلة مزينة مصغرا . قال في التقريب : الأغر بن عبد الله المزني ، ويقال : الجهني . ومنهم من فرق بينهما صحابي . قال البخاري : المزني أصح . وقال في الخلاصة : الأغر بن يسار المزني أو الجهني ، والمزني أصح صحابي من المهاجرين الأولين. وقيل : اسم أبيه عبد الله . له ثلاثة أحاديث خرج له مسلم منها فرد حديث ، وروى عنه ابن عمر ومعاوية بن قرة وأبو بردة . قلت : غاير بين الأغر المزني والجهني ابن منده ، وكذا مال إلى التفرقة بينهما ابن الأثير ، وجزم أبو نعيم وابن عبد البر بأنهما واحد ، وصوبه الحافظ في الإصابة والتهذيب . ( إنه ليغان ) بضم الياء وبالغين المعجمة مبنيا للمفعول من باب ضرب من الغين وهو الغين والغطاء لغة ، والمراد هنا ما يغشى القلب ويغطيه ( على قلبي ) نائب فاعل يغان أي يغشى أو يغطى قلبي . قال الجزري : الغين الغيم ، وغينت السماء تغان إذا أطلق عليها الغيم . وقيل : الغين شجره ملتف أراد ما يغشاه من السهو الذي لا يخلو منه البشر لأن قلبه أبدا كان مشغولا بالله تعالى ، فإن عرض له وقتا ما عارض بشري يشغله من أمور الأمة والملة ومصالحهما عد ذلك ذنبا وتقصيرا فيفزع إلى الاستغفار - انتهى . وقال القاري : يقال : غين عليه كذا أي غطى عليه ، (( وعلى قلبي )) مرفوع على نيابة الفاعل يعني ليغشى على قلبه ما لا يخلوا البشر عنه من سهو والتفات إلى حظوظ النفس من مأكول ومنكوح ونحوهما ، فإنه كحجاب وغيم يطبق على قلبه فيحول بينه وبين الملأ الأعلى حيلولة ما فيستغفر تصفية للقلب وإزاحة للغاشية ، وهو إن لم يكن ذنبا لكنه من حيث أنه بالنسبة إلى سائر أحواله نقص وهبوط إلى حضيض البشرية يشابه الذنب فيناسبه الاستغفار - انتهى . قلت : تحير العلماء في بيان معنى هذا الحديث وتأويله حتى قال السيوطي : هذا من المتشابه الذي لا يعلم معناه ،

(16/20)


وقد وقف الأصمعي إمام اللغة على تفسيره وقال : لو كان عن غير قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لتكلمت عليه وفسرته ، ولكن العرب تزعم أن الغين الغم الرقيق . وقال
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السندي : حقيقته بالنظر إلى قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تدري وإن قدره - صلى الله عليه وسلم - أجل وأعظم مما يخطر في كثير من الأوهام ، فالتفويض في مثله أحسن نعم القدر المقصود بالإفهام مفهوم ، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحصل له حالة داعية إلى الاستغفار فيستغفر كل يوم مائه مرة فكيف غيره والله أعلم . وقال عياض : المراد بالغين الفترات والغفلات عن الذكر الذي كان شأنه الدوام عليه ، فإذا فتر عنه أو غفل لأمر ما عد ذلك ذنبا فاستغفر منه وقيل : هو شيء يعترى القلوب الصافية مم يتحدث به النفس فيهوشها . وقيل : هو السكينة التي تغشى قلبه ، ويكون استغفاره إظهارا للعبودية والافتقار وملازمة الخشوع وشكرا لما أولاه . وقيل : هي حالة خشية وإعظام تغشى القلب ويكون استغفاره شكرها كما سبق . ومن ثم قال المحاسبي : خوف المتقربين الأنبياء والملائكة خوف إجلال وإعظام وإن كانوا آمنين عذاب الله . وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي : لا ينبغي أن يعتقد أن الغين نقص في حال صلوات الله عليه وسلامه ، بل كمال أو تتمة كمال ، وهذا سر دقيق لا ينكشف إلا بمثال ، وهو أن الجفن المسبل على حدقة البصر ، وإن كان صورته صورة نقصان من حيث هو إسبال وتغطية على ما من شأنه . أن يكون باديا مكشوفا ، فإن المقصود من خلق العين إدراك المدركات الحسية ، وذلك لا يتأتى إلا بانبعاث الأشعة الحسية من داخل العين واتصالها بالمرئيات على مذهب قوم ، وبانطباع صور المدركات في الكرة الجليدية على مذهب آخر ، فكيفما قدر لا يتم المقصود إلا بانكشاف

(16/21)


العين عما يمنع من انبعاث الأشعة ، ولكن لما كان الهواء المحيط بالأبدان الحيوانية قلما يخلو من الأغبرة السائرة بحركة الرياح ، فلو كانت الحدقة دائمة الانكشاف لاستضرت بملاقاتها وتراكمها عليها ، فأسبلت أغطية الجفون وقاية لها ومصقلة لتنصقل الحدقة بأسباب الأهداب ، ورفعها لخفة حركة الجفن . فيدوم جلاؤها ويحتد نظرها ، فالجفن وإن كان نقصانا ظاهرا فهو كمال حقيقة ، فهكذا لم تزل بصيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - معترضة ، لأن تصدأ بالأغبرة الثائرة من أنفاس الأغيار ، فلا جرم دعت الحاجة إلى إسبال جفن من الغين على حدقة بصيرته سترا لها ووقاية وصقالا عن تلك الأغبرة المثارة بروية الأغيار وأنفاسها فصح أن الغين وإن كانت صورته نقصا فمعناه كمال وصقال حقيقة . ثم قال أيضا : إن روح النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل في الترقي إلى مقامات القرب مستتبعة للقلب في رقيها إلى مركزها ، وهكذا القلب كان يستتبع نفسه الزكية ولا خفاء إن حركة الروح والقلب أسرع وأتم من نهضة النفس وحركتها ، فكانت خطأ النفس تقصر عن مدى الروح والقلب في العروج والولوج في حرم القرب ولحوقها بهما فاقتضت العواطف الربانية على الضعفاء من الأمة إبطاء حركة القلب بإلقاء الغين عليه لئلا يسرع القلب ويسرح في معارج الروح ومدارجها ، فتنقطع علاقة النفس عنه لقوة الانجذاب فتبقى العباد مهملين محرومين عن الاستنارة بأنوار النبوة والاستضاءة بمشكاة مصباح الشريعة ،
وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة . رواه مسلم .
2348- (3) وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أيها الناس توبوا إلى الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/22)


وحيث كان يرى - صلى الله عليه وسلم - إبطاء القلب بالغين الملقى عليه وقصور النفس عن شأو ترقي الروح إلى الرفيق الأعلى كان يفزع إلى الاستغفار إذ لم تف قواها في سرعة اللحوق لها - انتهى كلام الشيخ السهروردي . وقد ذكر الحافظ محصله في الفتح في شرح حديث أبي هريرة المتقدم . وقال التوربشتي في شرح المصابيح : (( ونحن بالنور المقتبس من مشكاة مشايخ الصوفية نذهب في الوقت عليهم مذهبين )) أحدهما : أن نقول لما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أتم القلوب صفاء وأكثرها ضياء وأعرفها عرفانا ، وكان معنيا مع ذلك بتشريع الملة وتأسيس السنة ميسرا غير معسر لم يكن له بد من النزول إلى الرخص والإلتفات إلى حظوظ النفس ، مع ما كان ممتحنا به من أحكام البشرية ، وكان إذا تعاطى شيئا من ذلك أسرع كدورة ما إلى القلب لكمال رقته وفرط نورانيته ، فإن الشيء كلما كان أرق وأصفى كان ورود التأثيرات عليه أبين وأهدى ، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا أحس بشيء من ذلك عده على النفس ذنبا فاستغفر منه ، ولهذا المعنى كان استغفاره عند خروجه من الخلاء فيقول : غفرانك . والآخر : أن تقول : إن الله تعالى كما اقتناه عن العالمين أراد أن يبقيه لهم لينتفعوا به ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لو ترك ما هو عليه ، وفيه من الحضور والتجليات الإلهية لم يكن لينفرغ لتعريف الجاهد وتعليم الجاهل ، فاقتضت الحكمة الإلهية أن يرد إليهم الفينة بعد الفينة بنوع من الحجية والاستتار ليكمل حظهم عنه فيرى ذلك من سيئات حاله فيستغفر منه والله أعلم - انتهى . ( وإني لأستغفر الله ) جملة أخرى معطوفة ( في اليوم مائة مرة ) قال المناوي : أراد بالمائة التكثير فلا ينافي رواية : سبعين . ( رواه مسلم ) ، وأخرجه أيضا أحمد (ج4 : ص211 : 260) ، والبخاري في تاريخه (ج1 : ق2 ص44) ، وأبو داود في أواخر الصلاة ، كلهم من طريق حماد عن ثابت عن أبي بردة عن الأغر المزني ونسبه في الحصن

(16/23)


والكنز للنسائي أيضا .
2348- قوله : ( وعنه ) أي الأغر المزني ( يا أيها الناس توبوا إلى الله ) فيه تلميح إلى قوله تعالى : ? وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون ? ( النور : 31) فالتوبة واجبة على الناس جميعا . قال النووي : هذا الأمر بالتوبة موافق لقوله تعالى: ? وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون ? وقوله تعالى : ? يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا ? ( التحريم : 8) قلت : وجوب التوبة ظاهر بحديث الأغر هذا ، وبالأحاديث الأخرى وبالآيتين المذكورتين ، وهو واضح بنور البصيرة عند من شرح الله بنور الإيمان صدره ، فإن من عرف أن لا سعادة في دار البقاء إلا في لقاء الله تعالى ، وإن كل محجوب عنه يشقى لا محالة محول بينه وبين ما يشتهي محترق بنار الفراق
فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة . رواه مسلم .
2349- (4) وعن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن الله تبارك وتعالى أنه قال : يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/24)


ونار الجحيم ، وعلم أن لا مبعد عن لقاء الله إلا إتباع الشهوات ولا مقرب من لقاءه إلا الإقبال على الله بدوام ذكره ، وعلم أن الذنوب سبب كونه محجوبا مبعدا عن الله تعالى . فلا يشك في أن الانصراف عن طريق البعد واجب للوصول إلى القرب . وإنما يتم الانصراف بالغلم والندم والعزم ، وهكذا يكون الإيمان الحاصل عن البصيرة ، ومن لم يترشح لهذا المقام فيلاحظ ما ورد في ذلك من الآيات والأحاديث وارجع للبسط إلى كتاب التوبة من الإحياء للغزالي . قال القاري : قوله : (( يا أيها الناس توبوا إلى الله )) الظاهر إن المراد بهم المؤمنون لقوله تعالى : ? وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ? ( النور : 31) وفي الآية والحديث دليل وشاهد على أن كل أحد في مقامه وحاله يحتاج إلى الرجوع لتوقية كماله ، وإن كل أحد مقصر في القيام بحق عبوديته كما قضاه وقدر ، قال تعالى : ? كلا لما يقض ما أمره ? ( عبس : 23) ويدل عليه أيضا قوله : ( فإني أتوب إليه ) أي أرجع رجوعا يليق به إلى شهوده أو سؤاله أو إظهار الافتقار بين يديه ( في اليوم مائة مرة ) فأنتم أولى بأن ترجعوا إليه في ساعة ألف كرة ( رواه مسلم ) وأخرجه أيضا أحمد (ج4 : ص211 ، 260) كلاهما من طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي بردة أنه سمع الأغر المزني يحدث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أيها الناس . إلخ وأخرج النسائي ، وابن أبي شيبة ، والطبراني ، والحكيم الترمذي بنحوه .

(16/25)


2349- قوله : ( فيما يروى ) هكذا في رواية أبي أسماء عن أبي ذر ، ووقع في رواية أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر فيما روى أي بلفظ الماضي ( إنه ) قال القاري : ضبط بفتح الهمزة وكسرها فتأمل في الفرق بينهما . ( قال : يا عبادي ) قال الطيبي : الخطاب لثقلين لتعاقب التقوى والفجور فيهم ، ويحتمل أن يعم الملائكة فيكون ذكرهم مدرجا في الجن لشمول الإجتنان لهم ، وتوجه هذا الخطاب لا يتوقف على صدور الفجور ولا على إمكانه - انتهى . قال شيخنا : والظاهر هو الاحتمال الأول ( إني حرمت ) أي منعت ( الظلم على نفسي ) أي تقدست عنه وتعاليت فهو في حقي كالمحرم في حق الناس ، إذا لا يتصور في حقه ظلم سواء قلنا إن الظلم وضع الشيء في غير محله أو أنه التعدي في ملك الغير أو مجاوزة الحد وهو المحمود في كل فعال من غير فصل ، لأن فعله إما عدل وإما فضل . قال النووي قال العلماء : قوله حرمت الظلم على نفسي . معناه تقدست عنه وتعاليت والظلم مستحيل في حق الله سبحانه وتعالى ، كيف يجاوز سبحانه حدا وليس فوقه من يطيعه وكيف يتصرف في غير
وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/26)


ملك ، والعالم كله ملكه وسلطانه . وأصل التحريم في اللغة المنع فسمى تقديسه عن الظلم تحريما لمشابهته للممنوع في أصل عدم الشيء - انتهى . ( وجعلته بينكم محرما ) أي حكمت بتحريمه فيما بينكم فإذا علمتم ذلك ( فلا تظالموا ) بفتح التاء وشدة الظاء للإدغام وتخفيفه أصله تتظالموا حذفت إحدى التاءين تخفيفا أي لا يظلم بعضكم بعضا ، والمعنى أنه تعالى حرم الظلم عل عباده ونهاهم أن يتظالموا فيما بينهم فحرام على كل عبد أن يظلم غيره ( يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته ) يعني إن الهداية لمن حصلت إنما هي من عند الله لا من عند نفسه ، وكذلك الطعام والكسوة لمن حصل فإنما هو من عند الله لا من عند نفسه ، وهذا يقتضي أن جميع الخلق مفتقرون إلى الله تعالى في جلب مصالحهم ودفع مضارهم في أمور دينهم ودنياهم ، وإن العباد لا يملكون لأنفسهم شيئا من ذلك كله ، وإن من لم يتفضل الله عليه بالهدى والرزق فإنه يحرمهما في الدنيا . قال المازري : ظاهر هذا أنهم خلقوا على الضلال إلا من هداه الله تعالى ، وفي الحديث المشهور كل مولود يولد على الفطرة . قال : فقد يكون المراد بالأول وصفهم بما كانوا عليه قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم أو أنهم تركوا وما في طباعهم من إيثار الشهوات والراحة وإهمال النظر لضلوا ، وهذا الثاني أظهر . وقال المناوي : كلكم ضال أي غافل عن الشرائع قبل إرسال الرسل إلا من هديته أي وقفته للإيمان أي للخروج عن مقتضى طبعه . وقال القاري : هذا لا ينافي قوله عليه الصلاة والسلام كل مولود يولد على الفطرة ، فإن المراد بالفطرة التوحيد ، والمراد بالضلالة جهالة تفصيل أحكام الإيمان وحدود الإسلام . ومنه قوله تعالى : ? ووجدك ضالا فهدى ? ( الضحى : 7) - انتهى . وقال ابن رجب : قد ظن بعضهم أن قوله كلكم ضال إلا من هديته معارض لحديث عياض بن حماد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( يقول الله عز وجل خلقت عبادي

(16/27)


حنفاء )) ، وفي رواية (( مسلمين فاجتالتهم الشاطين )) وليس كذلك فإن الله خلق بني آدم وفطرهم على قبول الإسلام ، والميل إليه دون غيره والتهيأ لذلك والاستعداد له بالقوة لكن لا بد للعبد من تعليم الإسلام بالفعل ، فإنه قبل التعلم جاهل لا يعلم شيئا كما قال تعالى : ? والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا ? ( النحل : 78 ) وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : ? ووجدك ضالا فهدى ? والمراد ? وجدك ? غير عالم مما علمك من الكتاب والحكمة ، كما قال تعالى : ? وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا ? ( الشورى : 52) فالإنسان يولد مفطورا على قبول الحق فإن هداه الله تعالى سبب له من يعلمه الهدى فصار مهديا بالفعل بعد أن كان مهديا بالقوة ، وإن خذله الله قيض له من يعلمه ما يغير فطرته كما قال - صلى الله عليه وسلم - كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه . وأما سؤال المؤمن من الله الهداية . فإن الهداية نوعان : هداية مجملة ، وهي الهداية للإسلام والإيمان وهي حاصلة
فاستهدوني أهدكم . يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم . يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم . يا عبادي إنكم تخطئون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/28)


للمؤمن ، وهداية مفصلة ، وهي هداية إلى معرفة تفاصيل أجزاء الإيمان والإسلام وإعانته على فعل ذلك ، وهذا يحتاج إليه كل مؤمن ليلا ونهارا ، ولهذا أمر الله عباده أن يقرؤوا في كل ركعة من صلاتهم قوله : ? اهدنا الصراط المستقيم ? ( فاستهدوني ) أي ساوني الهدى وأطلبوه مني ( أهدكم ) أوفقكم للهداية ( يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته ) قال العلقمي : وذلك لأن الناس عبيد لا يملكون شيئا وخزائن الرزق بيد الله عز وجل فمن لا يطعمه بفضله بقى جائعا بعد له إذ ليس عليه إطعام أحد . فإن قلت : كيف هذا مع قوله تعالى : ? وما من دآبة في الأرض إلا على الله رزقها ? (هود: 6) قلت : هذا التزام منه تفضلا ، لا أن للدابة حقا بالأصالة . فإن قلت كيف ينسب الإطعام إلى الله تعالى ؟ ونحن نشاهد الأرزاق مرتبة على هذه الأسباب الظاهرة من الحرف والصناعات وأنواع للاكتساب . قلت : هو القدر لتلك الأسباب الظاهرة بقدرته وحكمته الباطنة ، فالجاهل محجوب بالظاهر ، عن الباطن ، والعارف محجوب بالباطن عن الظاهر ، قال والعالم جماده وحيوانه مطيع لله عز وجل طاعة العبد لسيده ، فكما أن السيد يقول لعبده أعط فلانا كذا ، وأهد لفلان كذا، وتصدق على هذا الفقير بكذا ، كذلك الله عز وجل يسخر السحاب فيسقي أرض فلان أو البلد الفلاني ويحرك قلب فلان لإعطاء فلان ، ويوجه فلان إلى فلان بوجه من الوجوه لينال منه نفعا ونحو ذلك - انتهى . وقال القاري : إلا من أطعمته أي من أطعمته وبسطت عليه الرزق وأغنيته فلا يشكل أن الإطعام عام للجميع فكيف يستثني ( فاستطعموني ) أي اطلبوا الطعام وتيسير القوت مني ( أطعمكم ) أي أيسر لكم أسباب تحصيله ( كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني ) أي أطلبوا مني الكسوة ( أكسكم ) بضم السين أي أيسر لكم ستر عوراتكم وأزيل عنكم مساوي كشف سوءاتكم . قال الطيبي : فإن قلت ما معنى الاستثناء في قوله إلا من أطعمته

(16/29)


وكسوته إذ ليس أحد من الناس محروم منهما . قلت : الإطعام والكسوة لما كانا معبرين عن النفع التام والبسط في الرزق وعدمهما عن التقتير والتضييق كما قال الله تعالى : ? الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ? ( الرعد : 26) سهل التقصى عن الجواب ، من هذا أن ليس المراد من إثبات الجوع والعرى في المستثنى منه ، نفي الشبع والكسوة بالكلية ، وليس في المستثنى إثبات الشبع والكسوة مطلقا ، بل المراد بسطهما وتكثيرهما وبوضع الحديث الرابع عشر من الفصل الثاني أنه وضع قوله : (( وكلكم فقراء إلا من أغنيته )) في موضوعه - انتهى . ( يا عبادي أنكم تخطئون ) بضم أوله وكسر ثالثه من أخطأ ، وبفتحهما من خطئ يخطأ خطأ أي أذنب فهو خطئ قال النووي : الرواية المشهورة بضم التاء ، وروى بفتحها وفتح الطاء يقال خطأ يخطأ إذا فعل ما يأثم به فهو خطئ ، ومنه قوله تعالى ? استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين ? ( يوسف : 97) ويقال في الإثم أيضا أخطأ فهما صحيحان
بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم . يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني . يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا . يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/30)


( بالليل والنهار ) أي وخطيئة كل بحسب مقامه ( وأنا أغفر الذنوب جميعا ) أي بالتوبة أو ما عدا الشرك إن شاء وهي كقوله : ? إن الله يغفر الذنوب جميعا ? ( الزمر : 53) ( فاستغفروني ) أي أطلبوا مني المغفرة ( إنكم لن تبلغوا ضري ) بفتح الضاد وضمه ( فتضروني ) حذف . نون الإعراب منه في نصبه بأن المضمرة في جواب النفي وكذا قوله ( فتنفعوني ) يعني أن العباد لا يقدرون أن يوصلوا إلى الله نفعا ولا ضرا ، فإن الله تعالى في نفسه غني حميد لا حاجة له بطاعات العباد ولا يعود نفعها إليه . وإنما هم ينتفعون بها ولا يتضرر بمعاصيهم وإنما هم يتضررون بها قال الله تعالى ? ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا ? ( آل عمران : 176) وقال حاكيا عن موسى وقال موسى : ? إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ? ( إبراهيم : 8) . قال القاري : أي : لا يصح منكم ضري ولا نفعي فإنكم لو اجتمعتم على عبادتي أقصى ما يمكن ما نفعتموني في ملكي ، ولو اجتمعتم على عصياني أقصى ما يمكن لم تضروني بل ? إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ? ( الإسراء : 7) وهذا معنى قوله : ( لو أن أولكم ) أي : من الموجودين