الخميس، 1 سبتمبر 2022

ج17.وج18.مرعاة المفاتيح

 

17. مرعاة المفاتيح

له طهورا وزكاة وقربة تقربه بها منه يوم القيامة، وفيه قصة لأم سليم. قال النووي: في الحديث بيان ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من الشفقة على أمته والاعتناء بمصالحهم والاحتياط لهم والرغبة في كل ما ينفعهم. ورواية أنس تبين المراد بباقي الروايات المطلقة وإنما يكون دعاءه عليه رحمة وكفارة وزكاة، ونحو ذلك إذا لم يكن أهلا للدعاء عليه والسب واللعن ونحوه وما كان مسلما وإلا فقد دعا - صلى الله عليه وسلم - على الكفار والمنافقين ولم يكن ذلك رحمة لهم. قلت: وهذا هو الجواب عما استشكل بأنه لعن جماعة كثيرة منها المصور والعشار ومن ادعى إلى غير أبيه والمحلل والسارق وشارب الخمر وآكل الربا وغيرهم. فيلزم أن يكون لهم رحمة وطهورا، فالمراد في الحديث من لم يكن أهلا لذلك ومن لعنه في حال غضبه على مقتضى ضعف البشرية، فمن فعل منهيا عنه فلا يدخل في ذلك. فإن قيل كيف يدعوا - صلى الله عليه وسلم - بدعوة على من ليس لها بأهل أو يسبه أو يلعنه أو نحو ذلك أجيب بأن المراد بقوله ليس لها بأهل عندك في باطن أمره لا على ما يظهر مما يقتضيه حاله وجنايته حين دعائي عليه، يعني إن المراد ليس بأهل لذلك عند الله وفي باطن الأمر ولكنه في الظاهر مستوجب له فيظهر له صلى الله عليه وسلم استحقاقه لذلك بإمارة شرعية ويكون في باطن الأمر ليس أهلا لذلك فكأنه يقول من كان باطن أمره عندك إنه ممن ترضي عنه فاجعل دعوتي التي اقتضاها ما ظهر لي من مقتضى حاله حينئذ طهورا وزكاة، وهذا معنى صحيح لا إحالة فيه لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان متعبدا ومأمورا بالحكم بالظواهر وحساب الناس في البواطن على الله فإنه هو المتولي للسرائر. فإن قيل فما معنى قوله "وأغضب كما يغضب البشر" فإن هذا يشير إلى أن تلك الدعوة وقعت بحكم سورة الغضب لا أنها على مقتضى الشرع فيعود السؤال. فالجواب إنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن دعوته عليه أو سبه أو جلده كان مما خير

(15/141)


فيه بين أمرين عقوبة للجاني أحدهما هذا فعله والثاني تركه والزجر له بأمر آخر سوى ذلك فيكون الغضب لله تعالى حمله وبعثه على أحد الأمرين المخير فيهما وهو سبه أو لعنه أو جلده ونحو ذلك وليس ذلك خارجا من حكم الشرع. ويحتمل أن يكون اللعن والسب يقع منه من غير قصد إليه فلا يكون في ذلك كاللعنة الواقعة رغبة إلى الله وطلبا للاستجابة. وأشار عياض إلى ترجيح هذا الاحتمال فقال: يحتمل أن يكون ما ذكره من سب ودعاء غير مقصود ولا منوي، لكن جرى على عادة العرب في دعم كلامها وصلة خطابها عند الحرج والتأكيد للعتب لا على نية وقوع ذلك كقولهم "عقري حلقي" و "تربت يمينك" وفي قصة أم سليم المذكورة في حديث أنس عند مسلم الذي أشرنا إليه "لا كبرت سنك" وفي حديث معاوية عند مسلم أيضا "لا أشبع الله بطنه" ونحو ذلك لا يقصدون بشي من ذلك حقيقة الدعاء فخاف - صلى الله عليه وسلم - أن يصادف شيء من ذلك الإجابة وأشفق من موافقة أمثالها القدر فعاهد ربه ورغب إليه وسأله أن يجعل ذلك القول رحمة وكفارة وقربة وطهورا وأجرا. وإنما كان يقع هذا منه في النادر والشاذ من الأزمان ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - فاحشا ولا متفشحا ولا لعانا ولا منتقما لنفسه. قال الحافظ: وهذا الاحتمال الذي أشار عياض إلى
متفق عليه.
2247- (3) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت،

(15/142)


ترجيحه حسن إلا أنه يرد عليه قوله جلدته فإن هذا الجواب لا يتمشى فيه إذ لا يقع الجلد عن غير قصد، وقد ساق الجمع مساقا واحدا إلا أن حمل على الجلدة الواحدة فيتجه. ويحتمل أن يقال إنه كان لا يقول ولا يفعل - صلى الله عليه وسلم - في حال غضبه إلا الحق لكن غضبه الله قد يحمله على تعجيل معاقبة مخالفة وترك الاغضاء والصفح، ويؤيده حديث عائشة ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله وهو في الصحيح. قال الحافظ: فعلى هذا فمعنى قوله ليس لها بأهل أي من جهة تعين التعجيل قال. وفي الحديث كمال شفقته - صلى الله عليه وسلم - على أمته وجميل خلقه وكرم ذاته حيث قصد مقابلة ما وقع منه بالجبر والتكريم، وهذا كله في حق المعين في زمنه واضح. وأما ما وقع منه بطريق التعميم لغير معين حتى يتناول من لم يدرك زمنه - صلى الله عليه وسلم - فما أظنه يشمله والله اعلم - انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الدعوات، ومسلم في الأدب واللفظ المذكور لمسلم، وأخرجه أيضا أحمد (ج2ص243) وأبويعلى وقد جاء هذا الحديث من طرق مختلفة اللفظ باتفاق المعنى، فقد ورد عن عائشة وجابر وأنس عند مسلم وعن أبي سعيد عند أبي يعلى وسمرة بن جندب عند الطبراني وأبي الطفيل عامر بن واثلة عند الطبراني أيضا وأنس وعائشة أيضا عند أحمد بغير السياق الذي في صحيح مسلم.

(15/143)


2247- قوله: (إذا دعا أحدكم) أي طلب من الله وسأله شيئا (فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت إلخ) قال في المفاتيح: نهى عن قول إن شئت في الدعاء لأن هذا شك في قبول الدعاء، ولأن لفظ إن شئت إذا قلته لأحد معناه إني جعلت الخيرة إليك يعني لم يكن قبل قولك إن شئت مختارا، بل لو لم تقل إن شئت كان يلزم عليه قبول الدعاء شاء أو لم يشأ فإذا قلت إن شئت جعلته مخيرا وهذا لا يجوز في حق الله سبحانه وتعالى فإنه لا حكم لأحد عليه وليس لأحد أن يكرهه بل هو فعال لما يريد. فكيف يجوز أن يقال له إن شئت بل يعزم السائل مسألته وليسأل من غير شك وتردد بل ليكن متيقنا في قبول الدعاء، فإن الله كريم لا بخل عنده وقدير لا يعجز عن شيء – انتهى. وقال الباجي: معنى الحديث لا يشترط مشيئة باللفظ، فإن ذلك أمر معلوم متيقن إنه لا يغفر إلا أن يشاء ولا يصح غير هذا، فلا معنى لاشتراط المشيئة لأنها إنما تشترط فيمن يصح منه أن يفعل دون أن يشاء بالإكراه وغيره مما تنزه الله سبحانه عنه. وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث بقوله "فإنه لا مكره له" - انتهى. مع أنه يتضمن إيهام الاستغناء الغير اللائق بمقام الدعاء والسؤال فاللائق بالمقام تركه، والنهي للتحريم أو للتنزيه فيه خلاف. قال الحافظ قال ابن عبدالبر: لا يجوز لأحد أن يقول اللهم أعطني إن شئت وغير ذلك من أمور الدين والدنيا، لأنه كلام مستحيل لا وجه له، لأنه لا يفعل إلا ما شاءه وظاهره إنه
ارحمني إن شئت، ارزقني إن شئت، وليعزم مسئلته إنه يفعل ما يشاء، ولا مكره له)).

(15/144)


حمل النهي على التحريم وهو الظاهر. وحمل النووي النهي في ذلك على كراهة التنزيه وهو أولى يؤيده حديث الاستخارة. قال وقال الداودي: لا يقل إن شئت كالمستثنى ولكن دعاء البائس الفقير. قلت: وكأنه أشار بقوله كالمستثنى إلى أنه إذا قالها على سبيل التبرك لا للاستثناء لا يكره وهو جيد – انتهى. (ارحمني إن شئت ارزقني إن شئت) أي ونحو ذلك فالمذكور كله أمثلة (وليعزم) بكسر الزاء (مسئلته) أي ليطلب جازما من غير شك وتردد، والمراد بالمسألة الدعاء. وقد وقع في رواية لأحمد ومسلم الدعاء، يقال عزم الأمر وعليه عقد ضميره على فعله وصمم عليه وعزم الرجل جد في الأمر. قال الجزري: عزمت على الأمر إذا عقدت قلبك عليه وجددت في فعله، والعزم الجد والقطع، على فعل الشيء ونفي التردد عنه، والمعنى لا تكن في دعائك مترددا بل أجزم المسألة – انتهى. وقال غيره: عزم المسألة الشدة في طلبها، والجزم بها من غير ضعف في الطلب ولا تعليق على مشيئة ونحوها، يعني هو أن يجزم بوقوع مطلوبة ولا يعلق ذلك بمشيئة الله تعالى. وقيل هو حسن الظن بالله تعالى في الإجابة. وقال الداودي: ليعزم المسألة أي يجتهد ويلح ولا يقل إن شئت كالمستثنى ولكن دعاء البائس الفقير. قلت: وأخرج الطبراني في الدعاء قال الحافظ: بسند رجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة بقية عن عائشة مرفوعا (إن الله يحب الملحين في الدعاء) قال ابن بطال: في الحديث أنه ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة ولا يقنط من الرحمة فإنه يدعوا كريما: وقال ابن عيينة: لا يمنعن أحدا الدعاء ما يعلم في نفسه يعني من التقصير فإن الله تعالى قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال ?رب أنظرني إلى يوم يبعثون? [الأعراف: 14] (إنه يفعل ما يشاء) استئناف فيه معنى التعليل، وفي رواية لمسلم فإن الله صانع ما شاء (ولا مكره) بكسر الراء وفي حديث أنس عند الشيخين لا مستكره من الاستكراه، وهما بمعنى وقوله "ولا مكره" كذا

(15/145)


وقع في أكثر النسخ بذكر العاطف، وفي بعضها لا مكره أي بحذفه، وهكذا في البخاري وكذا في المصابيح وجامع الأصول (له) أي لله على الفعل أو لا يقدر أحد أن يكرهه على فعل أمر أراد تركه ولا حكم لأحد عليه بل يفعل ما يشاء فلا معنى لقوله "إن شئت" لأنه أمر معلوم من الدين بالضرورة فلا حاجة إلى التقييد به مع أنه موهم لعدم الاعتناء بوقوع ذلك الفعل أو لاستعظامه على الفاعل على المتعارف بين الناس. وقال الحافظ: المراد أن الذي يحتاج إلى التعليق بالمشيئة ما إذا كان المطلوب منه يتأتي إكراهه على الشيء فيخفف الأمر عليه ويعلم بأنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه. وأما الله سبحانه فهو منزه عن ذلك فليس للتعليق فائدة. وقيل: المعنى أي سبب المنع إن فيه صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه والأول أولى – انتهى. وقد تقدم إن للدعاء شروطا وآدابا كثيرة، وقد ذكر في هذا الحديث ما هو من أهم آدابه وأفرده بالذكر
رواه البخاري.
2248- (4) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه)). رواه مسلم.
2249- (5) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة،
اهتماما بشأنه (رواه البخاري) في باب المشيئة والإرادة من كتاب التوحيد إلا أنه ليس فيه قوله إذا دعا أحدكم بل أول الحديث لا يقل أحدكم "اللهم اغفر لي الخ" وأخرجه في الدعوات مختصرا بلفظ: لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت ليعزم المسئلة فإنه لا مكره له، وأخرج مسلم نحوه وكذا أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن أبي شيبة، وفي الباب عن أنس عند أحمد والشيخين والنسائي وأبي سعيد عند ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد.

(15/146)


2248- قوله: (إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت) أي مثلا (ولكن ليعزم) أي ليجزم بالمسئلة (وليعظم) بالتشديد (الرغبة) أي الميل فيه بالإلحاح. قال الحافظ: معنى قوله "ليعظم الرغبة" أي يبالغ في ذلك بتكرار الدعاء والإلحاح فيه، ويحتمل أن يراد به الأمر بطلب الشيء العظيم الكثير ويؤيده ما في آخر هذه الرواية، فإن الله لا يتعاظمه شيء – انتهى. (فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه) الضمير المنصوب في "أعطاه" يرجع إلى شيء يعني لا يعظم عليه إعطاء شيء بل جميع الموجودات في أمره يسير وهو على كل شيء قدير، يقال تعاظم زيدا هذا الأمر أي كبر وعظم عليه وعسر عليه (رواه مسلم) وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد وابن حبان وأبوعوانة.
2249- قوله: (يستجاب) بصيغة المجهول من الاستجابة بمعنى الإجابة. قال الشاعر: فلم يستجبه عند ذاك مجيب (للعبد) أي بعد شروط الإجابة وقوله "يستجاب" كذا وقع في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة وكذا في المصابيح، ولمسلم لا يزال يستجاب، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول والحافظ والقسطلاني في شرحيهما (ما) ظرف ليستجاب بمعنى المدة أي مدة كونه (لم يدع بإثم) أي بمعصية مثل أن يقول اللهم قدرني على قتل فلان وهو مسلم ليس مستوجبا للقتل، أو اللهم ارزقني الخمر أو الفلانة وهي محرمة عليه ويريد زناها. (أو قطيعة رحم) أي بالقطع بينه وبين أقاربه مثل أن يقول اللهم بعد بيني وبين أبي وأمي أو أخي وما أشبه ذلك فهو تخصيص بعد تعميم. قال الجزري: القطيعة الهجر والصد والرحم والأقارب والأهلون، والمراد أن
ما لم يستعجل. قيل: يا رسول الله! ما الاستعجال! قال: يقول: قد دعوت، وقد دعوت. فلم أر
يستجاب لي،

(15/147)


لا يصل أهله ويبرهم ويحسن إليهم (ما لم يستعجل) وفي رواية ما لم يعجل بفتح التحتية، والجيم بينهما عين ساكنة من سمع يعني يقبل دعاءه بشرط أن لا يستعجل. قال الطيبي: الظاهر ذكر العاطف في قوله "ما لم يستعجل" لكنه ترك تنبيها على استقلال كل من القيدين أي يستجاب ما لم يدع بإثم يستجاب ما لم يستعجل (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (يقول) أي الدعي (قد دعوت وقد دعوت) أي مرة بعد أخرى يعني مرات كثيرة فتكرار "دعوت" للاستمرار أي دعوت مرارا كثيرا (فلم أر يستجاب لي) قال القاري: أي لم أر آثار استجابة دعائي وهو إما استبطاء أو إظهار يأس وكلاهما مذموم، أما الأول فلأن الإجابة لها وقت معين كما ورد إن بين دعاء موسى وهارون على فرعون وبين الإجابة أربعين سنة. وأما القنوط فلا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون مع أن الإجابة على أنواع: منها تحصيل عين المطلوب في الوقت المطلوب ومنها وجوده في وقت آخر لحكمة اقتضت تأخيره ومنها دفع شر بدله أو إعطاء خير آخر خير من مطلوبه ومنها ادخاره ليوم يكون أحوج إلى ثوابه – انتهى. قلت: المراد بالاستجابة في الحديث وفي قوله تعالى: ?ادعواني استجب لكم? [غافر: 60] وقوله ?أجيب دعوة الداع إذا دعان? [البقرة: 186] ما هو أعم من تحصيل المطلوب بعينه، أو ما يقوم مقامه ويزيد عليه، فكل داع يستجاب له بشروط الإجابة لكن تتنوع الإجابة فتارة تقع بعين ما دعا به وتارة بعوضه. وقد ورد في ذلك حديث صحيح أخرجه الترمذي والحاكم من حديث عبادة بن الصامت رفعه ما على الأرض مسلم يدعوا بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه السوء مثلها، ولأحمد من حديث أبي هريرة إما أن يعجلها له وإما أن يدخرها له، وسيأتي حديث أبي سعيد في الفصل الثالث ما من مسلم يدعوا بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث، إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها وإلى ذلك أشار

(15/148)


القاري، وأشار إليه أيضا ابن الجوزي بقوله اعلم أن دعاء المؤمن لا يرد غير أنه قد يكون الأولى له تأخير الإجابة أو يعوض بما هو أولى له عاجلا أو آجلا، فينبغي للمؤمن أن لا يترك الطلب من ربه فإنه متعبد بالدعاء كما هو متعبد بالتسليم والتفويض، وفي رواية للشيخين وغيرهما يستجاب لأحدكم (أي يجاب دعاء كل واحد منكم إذا سم الجنس المضاف يفيد العموم على الأصح) ما لم يعجل بقول (بيان لقوله يعجل) دعوت فلم يستجب لي (بضم المثناة التحتية وفتح الجيم ) قال الباجي: قوله "يستجاب لأحدكم" الخ يحتمل معنيين أن يكون بمعنى الإخبار عن وجوب وقوع الإجابة. والثاني: الإخبار عن
فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء)). رواه مسلم.
2250- (6) وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعوة المرء المسلم لأخيه،

(15/149)


جواز وقوعها فإذا كانت بمعنى الإخبار عن الوجوب فالإجابة تكون لأحد الثلاثة أشياء إما أن يعجل ما سأل فيه وإما أن يكفر عنه به، وإما أن يدخر له فإذا قال دعوت فلم يستجب لي بطل وجوب أحد هذه الثلاثة الأشياء وعري الدعاء من جميعها. وإذا كان بمعنى جواز الإجابة فالإجابة تكون حينئذ بفعل ما دعا به خاصة، ويمنع من ذلك قول الداعي قد دعوت فلم يستجب لي لأن ذلك من باب القنوط وضعف اليقين والسخط – انتهى. (فيستحسر) أي ينقطح ويمل ويفتر وهو بمهملات استفعال من حسر إذا أعي وتعب وانقطع عن الشي. وقال الجزري: الاستحسار الاستنكاف عن السؤال وأصله من حسر الطرف إذا كل وضعف نظره يعني أن الداعي إذا تأخرت إجابته تضجر ومل فترك الدعاء واستنكف – انتهى. (عند ذلك) أي عند رؤيته عدم الاستجابة في الحال (ويدع) بفتح الدال المهلة (الدعاء) أي يتركه مطلقا أو ذلك الدعاء. قال المظهري: من كان له ملالة من الدعاء لا يقبل دعاءه، لأن الدعاء عبادة حصلت الإجابة أو لم تحصل فلا ينبغي للمؤمن أن يمل من العبادة وتأخير الإجابة إما لأنه لم يأت وقتها فإن لكل شيء وقتا مقدارا في الأزل فما لم يأت وقته لا يكون ذلك الشي، وإما لأنه لم يقدر في الأزل قبول دعاءه في الدنيا وإذا لم يقبل دعاءه يعطيه الله في الآخرة من الثواب عوضه، وإما أن يؤخر قبول دعاءه ليلح ويبالغ في الدعاء فإن الله تعالى يحب الإلحاح في الدعاء مع ما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار، ومن يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له، ومن يكثر الدعاء يوشك أن يستجاب له فلا ينبغي أن يترك الدعاء. وقال ابن بطال: المعنى إنه يسأم فيترك الدعاء كالمان بدعاءه أو إنه أتى من الدعاء ما يستحق به الإجابة فيصير كالمبخل للرب الكريم الذي لا تعجزه الإجابة ولا ينقصه العطاء. وفي هذا الحديث أدب من آداب الدعاء وهو أنه يلازم الطلب ويديم الدعاء ولا يستبطىء الإجابة ولا ييأس منها، لما في ذلك من الانقياد

(15/150)


والاستسلام وإظهار الافتقار حتى قال بعض السلف لأنا أشد خشية أن أحرم الدعاء من أحرم الإجابة وكأنه أشار إلى حديث ابن عمر الآتي في الفصل الثاني من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة – الحديث. (رواه مسلم) وأخرج أيضا مالك والبخاري والترمذي وأبوداود وابن ماجه نحوه مختصرا ومطولا بألفاظ، وفي الباب عن أنس عند أحمد وأبي يعلى والبزار والطبراني، وفيه أبوهلال الراسبي وهو ثقة، وفيه خلاف وبقية رجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح، وعن عبادة الصامت أخرجه الطبراني في الأوسط، وفيه مسلمة بن علي وهو ضعيف كذا في مجمع الزوائد.
2250- قوله: (دعوة المرء المسلم) أي الشخص الشامل للرجل والمرأة (لأخيه) في الدين أي المسلم
بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك مؤكل، كلما دعا لأخيه بخير. قال الملك المؤكل به: آمين، ولك بمثل)). رواه مسلم.
2251- (7) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم،

(15/151)


(بظهر الغيب) أي في غيبة المدعو له وفي السر. قال القاري: الظهر مقحم للتأكيد أي في غيبة المدعو له عنه وإن كان حاضرا معه بأن دعا له بقلبه حينئذ أو بلسانه ولم يسمعه. (مستجابة) يعني إذا دعا مسلم لمسلم بخير في غيبة أي بحيث لا يشعر ولو كان حاضرا في المجلس يستجاب دعاءه، لأن هذا الدعاء أبلغ في الإخلاص لله تعالى، وليس للرياء ولا لطمع عوض وما كان كذلك يكون مقبولا. قال الطيبي: موضع بظهر الغيب نصب على الحال من المضاف إليه، لأن الدعوة مصدر أضيف إلى فاعله، ويجوز أن يكون ظرفا للمصدر وقوله "مستجابة" خبر لها (عند رأسه) أي الداعي (ملك) جملة مستأنفة مبينة لسبب استجابة دعا الشخص بالغيب. وتخلف الإجابة لعائق من عدم أكل الحلال أو عدم صدق نية مثلا (مؤكل) أي بتأمين دعاءه أو بالدعاء له عند دعاءه لأخيه (كلما دعا لأخيه بخير) أي أو دفع شر (آمين) أي استجب له يا رب دعاءه لأخيه فقوله (ولك) فيه التفات أو استجباب الله دعاءك في حق أخيك ولك أيها الداعي (بمثل) بكسر الميم وإسكان المثلثة وتنوين اللام يقال هو مثله ومثيله بزيادة الياء أي عديلة سواء يعني ولك مثل ما دعوت به لأخيك، قال الطيبي: الباء زائدة في المبتدأ كما في بحسبك درهم – انتهى. قال النووي: في هذا الحديث فضل الدعاء لأخيه المسلم بظهر الغيب ولو دعا لجماعة من المسلمين حصلت هذه الفضيلة ولو دعا لجميع المسلمين، فالظاهر حصولها أيضا وكان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لنفسه يدعو لأخيه المسلم بتلك الدعوة لأنها تستجاب ويحصل له مثلها (رواه مسلم) في الدعوات، وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص195) وأبوداود في أواخر الصلاة وابن ماجه في الحج، والبخاري في الأدب المفرد وابن أبي شيبة وأبوعوانة وابن حبان، وفي الباب عن أنس أخرجه البزار، وعن أم كرز أخرجه أبوبكر في الغيلانيات وعن أبي هريرة أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق.

(15/152)


2251- قوله: (لا تدعوا) أي دعاء سوء (على أنفسكم) أي بالهلاك والويل ونحو ذلك عند التضجر في مصيبة المرض أو الموت مثلا (ولا تدعوا على أولادكم) أي بالعمى واللعن ونحو ذلك وقد كثرت وغلبت هذه البلية في النساء فإنهن يدعون على أولادهن عند الضجر والملال (ولا تدعوا على أموالكم) قال القاري: أي من العبيد والإماء بالموت وغيره. قلت: زاد في رواية أبي داود ولا تدعوا على خدمكم قبل قوله "ولا تدعوا على
لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم)). رواه مسلم، وذكر حديث ابن عباس: ((اتق دعوة المظلوم)). في كتاب الزكاة.
?الفصل الثاني?
2252- (8) عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء هو العبادة.

(15/153)


أموالكم" فالظاهر إن المراد بالأموال في رواية مسلم ما هو الأعم من العبيد والإماء (لا توافقوا) نهى للداعي أي وعلة للنهي أي لا تدعوا على من ذكر لئلا توافقوا (من الله ساعة) أي ساعة إجابة (يسأل) أي الله (فيها عطاء) بالنصب على أنه مفعول ثان. قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة بالرفع على أنه نائب الفاعل ليسأل – انتهى. وفي رواية أبي داود لا توافقوا من الله ساعة نيل فيها عطاء. قال المظهر: العطاء ما يعطي من خير أو شر وأكثر استعمال العطاء يكون في الخير والمعنى ههنا يسئل فيها مسئلة (فيستجيب) بالرفع عطفا على يسئل أو التقدير فهو يستجيب (لكم) يعني لا تدعوا دعاء سوء على ما ذكر مخافة أن يصادف دعوتكم ساعة إجابة فيستجاب دعاءكم السوء ثم تندموا على ما دعوتم ولا ينفعكم الندامة يعني لا تدعوا إلا بخير. وقيل "فيستجيب" منصوب لأنه جواب "لا توافقوا" قال الطيبي: جواب النهي من قبيل لا تدن من الأسد فيأكلك على مذهب أي مذهب الكسائي ويحتمل أن يكون مرفوعا أي فهو يستجيب (رواه مسلم) في أثناء حديث جابر الطويل في آخر صحيحه، وأخرجه أيضا أبوداود في أواخر الصلاة، وفي الباب عن أم سلمة بلفظ: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون، وقد تقدم في باب ما يقال عند من حضره الموت (ج1ص449).
(وذكر حديث ابن عباس إتق) أي احذر (دعوة المظلوم) أي لا تظلم أحدا بأن تأخذ منه شيئا ظلما أو تمنع أحدا حقه تعديا أو تتكلم في عرضه افتراء حتى لا يدعوا عليك، وتمام الحديث فإنه ليس بينها وبين الله حجاب. (في كتاب الزكاة) في أوله لكونه في ضمن حديث طويل هناك فأسقطه للتكرار ونبه عليه لا لكون الحديث أنسب بذلك الكتاب حتى يرد السؤال والجواب.

(15/154)


2253- قوله: (الدعاء هو العبادة) هذه الصفة المقتضية للحصر من جهة تعريف المسند إليه ومن جهة تعريف المسند ومن جهة ضمير الفصل تقتضي أن الدعاء هو أعلى أنواع العبادة وأرفعها وأشرفها، وإلى هذا أشار بقوله الدعاء مخ العبادة. قال الطيبي: معنى الحديث أن تحمل العبادة على المعنى اللغوي إذا الدعاء هو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله والاستكانة له، وما شرعت العبادات إلا للخضوع للباري وإظهار الافتقار وينصر هذا
ثم قرأ: ?وقال ربكم ادعوني أستجب لكم?

(15/155)


التأويل ما بعد الآية المتلوة ?إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم? [غافر: 6] داخرين حيث عبر عن عدم الافتقار والتذلل والخضوع بالاستكبار، ووضع عبادتي موضع دعائي وجعل جزاء ذلك الاستكبار الصغار والهوان. وقيل: لا وجه لحمل العبادة على المعنى اللغوي ولا فائدة فيه والأقرب أن يقال أن العبادة سواء كانت دعاء أم غيره لا يخلو أن يقصد بها استدعاء رضوان الله تعالى واستدفاع سخطه أو يقصد بها غرض دنيوي محض كالتوسعة في الرزق ليتنعم والشفاء من المرض ليتخلص من الألم وعلى كل فذلك القصد يصح أن يسمى دعاء، لأنه دعاء قلبي وإذا اعتبرنا العبادات الشرعية سوى الدعاء وجدنا الشارع، قد شرع الدعاء في كل منهما بما يوافق ذلك القصد فصار الدعاء عبارة عن الأمرين، السؤال باللسان والقصد بالجنان، لأن الدعاء باللسان إنما هو ترجمة لذلك القصد فإذا صح هذا فإننا إذا أفرزنا الدعاء من العبادة وهو القصد القلبي وترجمته اللسانية لم يبق من العبادة إلا صورتها. ولا شك أن القصد القلبي مع الترجمة عنه أكرم على الله تعالى وأشرف من صورة العبادة مجردة عن ذلك، ولهذا صح إن الدعاء مخ العبادة، وهو معنى قوله إن الدعاء هو العبادة على وزان قوله الحج عرفة وقد يتوسع في هذا فيقال إن صورة العبادة كالصوم دعاء بالحال، وبهذا يصح إن العبادات كلها دعاء. وقال ميرك: أتى بضمير الفصل والخبر المعرف باللام ليدل على الحصر في أن العبادة ليست غير الدعاء مبالغة ومعناه إن الدعاء معظم العبادة كما قال صلى الله عليه وسلم (الحج عرفة أي معظم أركان الحج الوقوف بعرفة). قال القاري في شرح الحصن بعد نقل كلام ميرك: والأظهر أن الحصر حقيقي لا ادعائي فإن إظهار العبد العجز، والاحتياج عن نفسه والاعتراف بأن الله تعالى قادر على إجابته سواء استجاب له أو لم يستجب كريم غني لا بخل له ولا فقر ولا احتياج له إلى شيء حتى يدخر لنفسه ويمنعه من عباده هو عين العبادة بل مخها – انتهى.

(15/156)


(ثم قرأ وقال ربكم ادعوني استجب لكم) ذكر الآية بعد الحديث على وجه البيان لأن في الآية الأمر بالدعاء والقيام بحكم الأمر هو العبادة. قال القاري: قيل استدل بالآية على أن الدعاء عبادة لأنه مأمور به والمأمور به عبادة. وقال القاضي البيضاوي: لما حكم بأن الدعاء هو العبادة الحقيقية التي تستحق أن تسمى عبادة من حيث أنه يدل على أن فاعله مقبل بوجهه إلى الله تعالى معرض عمن سواه لا يرجو ولا يخاف إلا منه استدل عليه بالآية فإنها تدل على أنه أمر مأمور به إذا أتى به المكلف قبل منه لا محالة وترتب عليه المقصود ترتب الجزاء على الشرط، والمسبب على السبب وما كان كذلك كان أتم العبادات وأكملها، ويقرب منه قوله مخ العبادة أي خالصها. وقيل الاستدلال بالآية بتمامها وذلك لأن أول الكلام مسوق للدعاء، فالمناسب به أن يقول: إن الذين يستكبرون عن دعائي، فإطلاق العبادة في موضع الدعاء ويدل على أن الدعاء عبادة. قال الحافظ: هذه الآية ظاهرة في ترجيح الدعاء على

رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه.
2253- (9) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء مخ العبادة)). رواه الترمذي.
2254- (10) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس شيء أكرم

(15/157)


التفويض وأجاب عنها من ذهب إلى أن الأفضل ترك الدعاء والاستسلام للقضاء بأن آخرها دل على أن المراد بالدعاء (أي في الآية) العبادة لقوله: ?إن الذين يستكبرون عن عبادتي? واستدلوا بحديث النعمان يعني الذي نحن في شرحه. وأجاب الجمهور أي الذين قالوا بترجيح الدعاء على التفويض بأن الدعاء من أعظم العبادة فهو كالحديث الآخر الحج عرفة أي معظم الحج وركنه الأكبر، ويؤيده حديث الدعاء مخ العبادة، وقد تواردت الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالترغيب في الدعاء والحث عليه. وقال الشيخ تقي الدين السبكي: الأولى حمل الدعاء في الآية على ظاهره، وأما قوله بعد ذلك عن عبادتي فوجه الربط إن الدعاء أخص من العبادة فمن استكبر عن العبادة استكبر عن الدعاء وعلى هذا فالوعيد إنما هو في حق من ترك الدعاء استكبارا، ومن فعل ذلك كفرا، وأما من تركه لمقصد من المقاصد فلا يتوجه إليه الوعيد المذكور، وإن كنا نرى أن ملازمة الدعاء والاستكثار أرجح من الترك لكثرة الأدلة الواردة في الحث عليه – انتهى. قلت: الأمر في الآية للاستحباب والوعيد ليس على ترك الدعاء مطلقا بل على تركه استكبارا (رواه أحمد) (ج4ص267، 271، 276) (والترمذي) في تفسير سورتي البقرة والمؤمن وفي الدعوات. وقال: هذا حديث حسن صحيح. (وأبوداود) في أواخر الصلاة وسكت عنه. ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره (والنسائي) في الكبرى (وابن ماجه) في الدعاء وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد وابن أبي شيبة في مصنفه وابن حبان في صحيحه، والحاكم (ج1ص491) والطبراني في كتاب الدعاء. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي وأخرجه أبويعلى من حديث البراء كما في الكنز.

(15/158)


2253- قوله: (الدعاء مخ العبادة) المخ بالضم نقي العظيم والدماغ وشحمة العين وخالص كل شي، والمعنى إن الدعاء لب العبادة وخالصها، وذلك لأن الداعي إنما يدعوا الله عند انقطاع أمله مما سواه، وذلك حقيقة التوحيد والإخلاص ولا عبادة فوقهما، قال ابن العربي: وبالمخ تكون القوة للأعضاء فكذا الدعاء مخ العبادة به تتقوى عبادة العابدين فإنه روح العبادة (رواه الترمذي) في الدعوات. وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة – انتهى. وابن لهيعة فيه مقال مشهور، وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة مرفوعا أشرف العبادة الدعاء.
2254- قوله: (ليس شيء أكرم) بالنصب على أنه خبر ليس أي أكثر كرامة أي شرفا يعني أعلى قدرا
على الله من الدعاء)). رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
2255- (11) وعن سلمان الفارسي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يرد القضاء

(15/159)


وأرفع درجة. وقيل أي أفضل وأشرف (على الله) أي عند الله (من الدعاء) أي من حسن السؤال والطلب لأن فيه إظهار الفقر والعجز والتذلل والاعتراف بقوة الله وقدرته والمعنى ليس شيء من أنواع العبادات القولية أكرم عند الله من الدعاء لأن شرف كل شيء يعتبر في بابه فلا يرد أن الصلاة أفضل العبادات البدنية، ولا يتوهم أنه مناف لقوله تعالى: ?إن أكرمكم عند الله أتقاكم? [الحجرات: 13] وقيل: الأظهر أن الدعاء أفضل من جميع الأذكار والطاعات وقيل: المراد بقوله أكرم أسرع قبولا وأنفع تأثيرا. وقيل يمكن أن يراد بالدعاء الدعاء إلى الله تعالى فيكون المعنى أكرم الأعمال هو الهداية إلى الله تعالى التي هي وظيفة الرسل والعلماء النائبين عنهم، وهذا معنى صحيح ولا يظهر فيه إشكال فتأمل (رواه الترمذي وابن ماجه) في الدعوات وأخرجه أيضا أحمد، والبخاري في الأدب المفرد وفي التاريخ وابن حبان والحاكم (ج1ص490) (وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد وأقره الذهبي. قال الشوكاني: وإنما لم يصححه الترمذي لأن في إسناده عمران بن داور القطان ضعفه النسائي وأبوداود ومشاة أحمد. وقال ابن القطان: رواته كلهم ثقات إلا عمران، وفيه خلاف - انتهى. قلت: عمران هذا قال البخاري فيه: إنه صدوق يهم، ووثقه عفان والعجلي. وقال الساجي والحاكم: صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث وضعفه أبوداود والنسائي. وقال ابن معين: ليس بالقوي. وقوله هذا حديث حسن غريب كذا وقع في النسخ المطبوعة في الهند من المشكاة وفي النسخة التي على هامش المرقاة، وهكذا نقله الشوكاني في تحفة الذاكرين وليس في نسخ الترمذي الموجودة عندنا لفظ حسن، وكذا لم يقع في متن المرقاة ولم يذكره البغوي أيضا والحديث لا ينزل عن درجة الحسن.

(15/160)


2255- قوله: (لا يرد القضاء) بالنصب على المفعولية (إلا الدعاء) قال القاري أخذا عن التوربشتي: القضاء هو الأمر المقدر. وتأويل الحديث إنه إن أراد بالقضاء ما يخافه العبد من نزول المكروه به ويتوقاه، فإذا وفق للدعاء دفعه الله عنه فتسميته قضاء مجاز على حسب ما يعتقده المتوقي عنه يوضحه، قوله - صلى الله عليه وسلم - في "الرقى" هو من قدر الله، وقد أمر بالتداوي والدعاء مع أن المقدور كائن لخفاءه على الناس وجودا وعدما. ولما بلغ عمر الشام وقيل له إن بها طاعونا رجع. فقال أبوعبيدة: أتفر من القضاء يا أمير المؤمنين؟ فقال لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم! نفر من قضاء الله أو أراد برد القضاء إن كان المراد حقيقته تهوينه وتيسير الأمر حتى كأنه لم ينزل يؤيده قوله في الحديث الآتي إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل - انتهى. وقيل هكذا كله تكلف وحقيقة المعنى إن المراد بالقضاء
إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر)). رواه الترمذي.

(15/161)


القضاء الذي علق رده بالدعاء وجعل الدعاء سببا لرده، فإن القضاء لا ينافي السبب والمسبب، فمن جملة القضاء أن يكون شيء سببا لحصول شيء أو يكون سببا لرده فالدعاء ورد البلاء به من قدر الله تعالى فقد يقضى بشي على عبده قضاء مقيدا بأن لا يدعوه، فإن دعاءه اندفع عنه فالدعاء كالترس والبلاء كالسهم (ولا يزيد في العمر) بضم الميم وتسكن (إلا البر) بكسر الباء وهو الإحسان والطاعة. والظاهر إنه يزاد حقيقة قال تعالى: ?وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب? [فاطر: 11] وقال: ?يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب? [الرعد: 39] والمعنى أنه لو لم يكن بارا لقصر عمره من القدر الذي كان إذا بر، والتفاوت إنما يظهر في التقدير المعلق لا فيما يعلم الله تعالى إن الأمر يصير إليه فإن ذلك لا يقبل التغيير، ولا يخفي ما بين الحصرين المستفادين من الجملتين من التناقض فيجب حمل القدر أي المقدر في الجملة الأولى على غير العمر فليتأمل ذكر في الكشاف إنه لا يطول عمر الإنسان ولا يقصر إلا في كتاب، وصورته أن يكتب في اللوح إن لم يحج فلان أو يغز فعمره أربعون سنة وإن حج وغزا فعمره ستون سنة فإذا جمع بينهما فبلغ الستين فقد عمر وإذا أفرد أحدهما فلم يتجاوز به الأربعين فقد نقص من عمره الذي هو الغاية وهو الستون، وذكر نحوه في معالم التنزيل وقيل معناه إذا بر لا يضيع عمره فكأنه زاد وقيل قدر أعمال البر سببا لطول العمر كما قدر الدعاء سببا لرد البلاء، فالبر على الوالدين وبقية الأرحام يزيد في العمر، إما بمعنى أنه يبارك له في عمره فييسر له في الزمن القليل من الأعمال الصالحة ما لا يتيسر لغيره من العمل الكثير فالزيادة مجازية لأنه يستحيل في الآجال الزيادة الحقيقية. قال الطيبي: اعلم أن الله تعالى إذا علم أن زيدا يموت سنة خمس مائة استحال أن يموت قبلها أو بعدها فاستحال أن تكون الآجال التي عليها علم الله تزيد أو تنقص فتعين تأويل

(15/162)


الزيادة إنها النسبة إلى ملك الموت أو غيره ممن وكل بقبض الأرواح وأمره بالقبض بعد آجال محدودة فإنه تعالى بعد أن يأمره بذلك أو يثبت في اللوح المحفوظ ينقص منه أو يزيد على ما سبق علمه في كل شيء وهو بمعنى قوله تعالى: ?يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب? وعلى ما ذكر يحمل قوله عزوجل ?ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده? [الأنعام: 2] فالإشارة بالأجل الأول إلى ما في اللوح المحفوظ، وما عند ملك الموت وأعوانه، وبالأجل الثاني إلى ما في قوله تعالى: ?وعنده أم الكتاب? وقوله تعالى: ?فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون? [الأعراف: 34] والحاصل أن القضاء المعلق يتغير. وأما القضاء المبرم فلا يبدل ولا يغير - انتهى. (رواه الترمذي) في القدر. وقال: حديث حسن غريب. قال الشوكاني: وصححه ابن حبان ولم يصححه الترمذي لأن في إسناده أبا مودود البصري واسمه فضة بكسر أوله وتشديد المعجمة. قال أبوحاتم: ضعيف. قلت: فضة أبومودود بصري مشهور بكنيته.
2256- (12) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء)). رواه الترمذي.
2257- (13) ورواه أحمد عن معاذ بن جبل، قال
قال الحافظ في التقريب: فيه لين. قال الشوكاني: وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير والضياء في المختارة، ومثله حديث ثوبان الذي أخرجه ابن أبي شيبة والطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك (ج1ص493) وابن حبان في صحيحه لا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه - انتهى. قلت: حديث ثوبان أخرجه أيضا ابن ماجه في السنة والفتن. قال في الزوائد: سألت شيخنا أبا الفضل القرافي عن هذا الحديث فقال: حسن. وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد وأقره الذهبي.

(15/163)


2256- قوله: (إن الدعاء ينفع مما نزل) أي من بلاء نزل بالرفع إن كان معلقا وبالصبر إن كان محكما فيسهل عليه تحمل ما نزل به فيصبره أو يرضيه به حتى لا يكون في نزوله متمنيا خلاف ما كان بل يتلذذ بالبلاء كما يتلذذ أهل الدنيا بالنعماء (ومما لم ينزل) أي بأن يصرفه عنه ويدفعه منه أو يمده قبل النزول بتأييد من عنده يخف معه أعباء ذلك إذ أنزل به (فعليكم) أي إذا كان هذا شأن الدعاء فالزموا (عباد الله) أي يا عباد الله (بالدعاء) لأنه من لوازم العبودية التي هي القيام بحق الربوبية (رواه الترمذي) في الدعوات، وكذا الحاكم (ج1ص493) كلاهما من رواية عبدالرحمن بن أبي بكر القرشي عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبدالرحمن بن أبي بكر القرشي وهو ضعيف في الحديث قد تكلم فيه بعض أهل الحديث من قبل حفظه – انتهى. والحديث قال الحافظ في الفتح. في سنده: لين. وسكت عنه الحاكم. وقال الذهبي في مختصره: قلت عبدالرحمن واه، وقال المنذري في الترغيب: هو ذاهب الحديث.
2257- قوله: (ورواه أحمد) (ج5ص234) (عن معاذ بن جبل) وكذا الطبراني كلاهما من طريق إسماعيل بن عياش عن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي حسين المكي عن شهر بن حوشب عن معاذ بلفظ: لن ينفع حذر من قدر ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم بالدعاء عباد الله. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10ص146) شهر بن حوشب لم يسمع من معاذ ورواية إسماعيل بن عياش عن أهل الحجاز ضعيفة - انتهى. قلت: ورواه أيضا البزار عن معاذ بن جبل، وفيه إبراهيم بن خيثم وهو متروك، ورواه البزار أيضا والطبراني في الأوسط والحاكم (ج1ص492) عن عائشة. قال الحاكم: صحيح الإسناد. وتعقبه الذهبي بأن زكريا ابن منظور أحد رجاله مجمع على ضعفه. وقال الهيثمي (ج7ص209، ج10ص146): زكريا بن منظور وثقه
وقال الترمذي: هذا حديث غريب.

(15/164)


2258- (14) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أحد يدعوا بدعاء إلا آتاه الله ما سأل، أو كف عنه من السوء مثله، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم)). رواه الترمذي.
2259- (15) وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يسأل، وأفضل العباد انتظار الفرج)).
أحمد بن صالح المصري وضعفه الجمهور وبقية رجاله ثقات (وقال الترمذي هذا) أي حديث ابن عمر (غريب) ومع غرابته فهو ضعيف كما تقدم.
2258- قوله: (إلا آتاه الله ما سأل) أي إن جرى في الأزل تقدير إعطاءه ما سأل (أو كف عنه من السوء مثله) أي دفع عنه من البلاء عوضا مما منع قدر مسئوله إن لم يجر التقدير. قال الطيبي: فإن قلت كيف مثل جلب النفع بدفع الضرر وما وجه التشبيه. قلت: الوجه ما هو السائل مفتقر إليه وما هو ليس مستغني عنه. وقال ابن حجر: أي يدفع الله عنه سوأ تكون الراحة في دفعه بقدر الراحة التي تحصل له لو أعطى ذلك المسئول فالمثلية بإعتبار الراحة في دفع ذلك. وجلب هذا (ما لم يدع بإثم) أي بمعصية (أو قطيعة رحم) تخصيص بعد تعميم (رواه الترمذي) لم يحكم الترمذي عليه بشي من الصحة أو الضعف وفي سنده ابن لهيعة وفي الباب عن عبادة بن الصامت. أخرجه الترمذي وصححه هو والحافظ في الفتح، ونسبه المنذري والحافظ للحاكم أيضا، وعن أبي سعيد أخرجه أحمد، وسيأتي في الفصل الثالث وعن أبي هريرة أخرجه أحمد. قال المنذري: بإسناد لا بأس به والترمذي والحاكم وقال صحيح الإسناد.

(15/165)


2259- قوله: (وعن ابن مسعود) كذا في جميع النسخ الحاضرة عندنا، وهكذا وقع في الترغيب للمنذري والجامع الصغير وكنز العمال. قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة أبي مسعود بالياء بدل النون - انتهى. وهكذا وقع في جامع الأصول للجزري (ج5ص19) وهو غلط من الناسخ والصواب ابن مسعود فإن الحديث من مسند عبدالله بن مسعود كما وقع مصرحا بذلك في جامع الترمذي وهكذا ذكره الحافظ في الفتح (سلوا الله من فضله) أي بعض فضله فإن فضله واسع وليس هناك مانع (فإن الله يحب أن يسأل) أي من فضله. وقال الطيبي: أي لا يمنعكم شيء من السؤال فإن الله يحب أن يسأل من فضله لأن خزائنه ملأي لا تغضيها نفقة سحاء الليل والنهار فلما حث على السؤال هذا الحث البليغ وعلم أن بعضهم يمتنع من الدعاء لاستبطاء الإجابة قال (وأفضل العبادة انتظار الفرج) أي إذا سألتم وأبطئت عنكم الإجابة فلا تضجروا، لأن انتظار الفرج من أفضل
رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غريب.
2260- (16) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يسأل الله يغضب عليه)). رواه الترمذي.

(15/166)


العبادة، والفرج بفتحتين بالفارسية كشايس، يقال فرج الله الغم عنه أي كشفه وأذهبه. قال القاري: انتظار الفرج أي ارتقاب ذهاب البلاء والحزن بالصبر وترك الشكاية إلى غيره تعالى، وكونه أفضل العبادة لأن الصبر في البلاء انقياد للقضاء (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا ابن مردوية وابن أبي الدنيا كلهم من طريق حماد بن واقد عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبدالله (وقال: هذا حديث غريب) ليست هذه الجملة في نسخ الترمذي الموجودة عندنا بل فيها بعد تمام الحديث "هكذا روي حماد بن واقد هذا الحديث وحماد بن واقد ليس بالحافظ وروى أبونعيم (الفضل بن دكين) هذا الحديث عن إسرائيل عن حكيم بن جبير عن رجل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح" انتهى كلام الترمذي. قلت: حماد بن واقد العيشي أبوعمرو الصفار البصري قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمته: قال ابن معين: ضعيف. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبوزرعة: لين الحديث. له عند الترمذي حديث واحد وهو في انتظار الفرج وأعله – انتهى مختصرا. وإنما رجح الترمذي حديث أبي نعيم لأن أبا نعيم وهو الفضل بن دكين ثقة ثبت. وأما حماد بن واقد فضعيف كما عرفت آنفا والرجل المبهم في طريق أبي نعيم يحتمل أن يكون صحابيا ويحتمل أن يكون تابعيا، وعلى الثاني يكون هذا الطريق مرسلا، وفي الباب عن أنس بلفظ: إن أفضل العبادة انتظار الفرج أخرجه البزار. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10ص147) وفيه من لم أعرفه.
2260- قوله: (من لم يسأل الله يغضب عليه) لأن ترك السؤال تكبر واستغناء وهذا لا يجوز للعبد ولنعم ما قيل:
الله يغضب إن تركت سؤاله وترى ابن آدم حين يسأل يغضب

(15/167)


وقال الطيبي: وذلك لأن الله يحب أن يسئل من فضله فمن لم يسأل الله يبغضه، والمبغوض مغضوب عليه – انتهى. قال الحافظ: ويؤيده حديث ابن مسعود رفعه سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسئل أخرجه الترمذي، وفي الحديث دليل على أن الدعاء من العبد لربه من أهم الواجبات وأعظم المفروضات لأن تجنب ما يغضب الله منه لا خلاف في وجوبه (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا أحمد والبخاري في الأدب المفرد وابن ماجه والبزار والحاكم (ج1ص491) وابن أبي شيبة كلهم من رواية أبي صالح الخوزي بضم الخاء المعجمة وسكون الواو ثم زاي عن أبي هريرة، وهذا الخوزي مختلف فيه ضعفه ابن معين وقواه أبوزرعة، وظن الحافظ ابن كثير أنه
2261- (17) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، وما سأل الله شيئا - يعني أحب إليه - من أن يسأل العافية)). رواه الترمذي.
أبوصالح السمان فجزم بأن أحمد تفرد بتخريجه وليس كما قال، فقد جزم شيخه المزي في الأطراف بأن أبا صالح هو الخوزي وقع في رواية البزار والحاكم عن أبي صالح الخوزي سمعت أبا هريرة كذا في الفتح (ج26ص19، 20).

(15/168)


2261- قوله: (من الفتح) بصيغة المفعول (له منكم باب الدعاء) أي بأن وفق لأن يدعوا الله كثيرا مع وجود شرائطه و حصول آدابه (فتحت له أبواب الرحمة) يعني أنه يجاب لمسئوله تارة ويدفع عنه مثله من السوء أخرى كما في رواية ابن أبي شيبة فتحت له أبواب الإجابة، وفي رواية الحاكم فتحت له أبواب الجنة ورواية الكتاب أعم وأشمل (وما سأل) بصيغة المجهول (الله) بالرفع نائب الفاعل (شيئا) وفي رواية الحاكم ولا يسأل الله عبد شيئا (يعني أحب إليه) كذا في جميع النسخ الحاضرة، وهكذا في المصابيح وجامع الترمذي وهكذا نقله المنذري في الترغيب أي بزيادة لفظة يعني قبل أحب ولا توجد هذه اللفظة في جامع الأصول والحصن والكنز وتحفة الذاكرين وليست أيضا في رواية الحاكم. قال الطيبي: أحب إليه تقييد للمطلق بيعني وفي الحقيقة صفة شيئا – انتهى. قلت قوله يعني من كلام بعض الرواة وذكر ذلك لأنه لم يحفظ ولم يستحضر لفظ الحديث بعد قوله شيئا فرواه بالمعنى فما بعد يعني نقل ورواية بالمعنى و "شيئا" مفعول مطلق وأحب إليه صفته وإن في قوله (من أن يسأل العافية) مصدرية، والمعنى ما سئل الله سؤالا أحب إليه من سؤال العافية، ويجوز أن يكون "شيئا" مفعولا به أي ما سئل الله مسؤلا أحب إليه من العافية وزيد أن يسئل اهتماما بشأن المسؤل وللإيذان بأن الأحب إليه سؤال العافية لا ذاتها. قال الطيبي إنما كانت العافية أحب لأنها لفظة جامعه لخير الدارين من الصحة في الدنيا والسلامة فيها. وفي الآخرة. لأن العافية أن يسلم من الأسقام والبلايا وهي الصحة ضد المرض – انتهى. وقيل: المراد بالعافية السلامة عن جميع الآفات الظاهرة والباطنة في الدنيا والآخرة (رواه الترمذي) وكذا الحاكم (ج1ص498) كلاهما من طريق عبدالرحمن بن أبي بكر القرشي المليكي عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال الترمذي: حديث غريب، والمليكي ضعيف في الحديث. وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد وتعقبه الذهبي بأن

(15/169)


المليكي ضعيف. وقال المنذري: هو ذاهب الحديث. وقال الحافظ في سنده: لين. وقد صححه مع ذلك الحاكم.
2262- (18) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء)). رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غريب.
2263- (19) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء
2262- قوله: ( من سره) أي أعجبه وأوقعه في الفرح والسرور (أن يستجيب الله له عند الشدائد) جمع الشديدة وهي الحادثة الشاقة. وقال الجزري: الشديدة كل ما يمر بالإنسان من مصائب الدنيا، وفي الترمذي زيادة، والكرب بضم الكاف وفتح الراء جمع الكربة، وهي الغم الذي يأخذ بالنفس لشدته (فليكثر) أمر من الإكثار (الدعاء في الرخاء) بفتح الراء والخاء المعجمة ممدود أي في حالة الصحة والفراغ والعافية. قال الجزري: الرخاء السعة في العيش وطيبة وهو ضد الشدة – انتهى. والمعنى فليلازم الدعاء في حال الصحة والرفاهية والسلامة من المحن، فإن من شيمة المؤمن الحازم أن يريش أسهم قبل أن يرمي ويلتجىء إلى الله قبل مس الاضطرار إليه بخلاف الكافر والفاجر كما قال الله تعالى: ?وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إلى خوله نعمة منه نسي ما كان يدعوا إليه من قبل? الآية [الزمر: 8] وقال ?وإذا مس الإنسان ضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه? [يونس:12] (رواه الترمذي) وكذا الحاكم (ج1ص544) وقال حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. قال المنذري في الترغيب: ورواه الحاكم من حديث أبي هريرة ومن حديث سلمان وقال في كل منهما صحيح الإسناد.

(15/170)


2263- قوله: (وأنتم موقنون بالإجابة) المراد ملزومه أي ادعوا الله والحال إنكم ملتبسون بالصفات التي هي سبب في الإجابة. قال التوربشتي: أي كونوا عند الدعاء على حالة تستحقون فيها الإجابة وذلك إتيان المعروف واجتناب المنكر وغير ذلك من مرعاة أركان الدعاء وآدابه حتى تكون الإجابة على قلوبكم أغلب من الردأ، والمراد ادعوه معتقدين لوقوع الإجابة لأن الداعي إذا لم يكن متحققا في الرجاء لم يكن رجاءه صادقا وإذا لم يكن الرجاء صادقا لم يكن الدعاء خالصا والداعي مخلصا فإن الرجاء هو الباعث على الطلب ولا يتحقق الفرع إلا بتحقق الأصل. وقيل: لا بد من اجتماع المعنيين إذ كل منهما مطلوب لرجاء الإجابة، وقال المظهر: المعنى ليكن الداعي ربه على يقين بأن الله تعالى يجيبه لأن رد الدعاء إما لعجز في إجابته أو لعدم كرم في المدعو أو لعدم علم المدعو بدعاء الداعي وهذه الأشياء منتفية عن الله تعالى فإن الله جل جلاله عالم كريم قادر لا مانع له من الإجابة، فإذا علم الداعي إنه لا مانع لله في إجابة الدعاء فليكن موقنا بالإجابة. فإن قيل قد قلتم إن الداعي ليكن موقنا بالإجابة واليقين إنما يكون إذا لم يكن الخلاف في ذلك الأمر، ونحن قد نرى بعض الدعاء يستجاب وبعضها لا يستجاب
من قلب غافل لاه)). رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غريب.
2264- (20) وعن مالك بن يسار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها)).

(15/171)


فكيف يكون للداعي يقين. قلنا: الداعي لا يكون محروما عن إجابة الدعاء البتة لأنه يعطي ما يسأل وإن لم يكن إجابته مقدرا في الأزل لا يستجاب دعاءه فيما يسأل ولكن يدفع عنه السوء مثل ما يسأل كما جاء في الحديث أو يعطي عوض ما يسأل يوم القيامة من الثواب والدرجة، لأن الدعاء عبادة ومن عمل عبادة لا يجعل محروما من الثواب – انتهى. (من قلب غافل) بالإضافة وتركها أي معرض عن الله أو عما يسأله (لاه) من اللهو أي لاعب بما سأله أو مشتغل بغير الله وهذا عمدة آداب الدعاء ولهذا خص بالذكر (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا الحاكم (ج1ص493) وفي سندهما صالح بن بشير بن وداع البصري القاص الزاهد المعروف بالمرى بضم الميم وتشديد الراء وهو ضعيف. (وقال هذا حديث غريب) وقال الحاكم: حديث مستقيم الإسناد تفرد به صالح المرى وهو أحد زهاد أهل البصرة. قال المنذري: لا شك في زهده لكن تركه أبوداود والنسائي – انتهى. قلت: وقال البخاري منكر الحديث. وضعفه الجمهور. وللحديث شاهد من حديث عبدالله بن عمرو إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال القلوب أوعية وبعضها أوعي من بعض فإذا سألتم الله عزوجل أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيب لعبد دعاءه عن ظهر قلب غافل. أخرجه أحمد (ج2ص177) وحسن المنذري والهيثمي إسناده، ويؤيده ما روى الطبراني من حديث ابن عمر بنحو ذلك. قال الهيثمي (ج10ص148) بعد ذكره: وفيه بشير بن ميمون الواسطي وهو مجمع على ضعفه.

(15/172)


2264- قوله: (وعن مالك بن يسار) بفتح الياء السكوني بفتح السين. قال في التقريب: صحابي قليل الحديث - انتهى. وقال سلمان بن عبدالحميد: شيخ أبي داود لمالك بن يسار عندنا صحبة. قال المنذري في مختصر السنن والحافظ في الإصابة: وفي نسخة من السنن "ما" لمالك بزيادة "ما" النافية وقال أبوالقاسم البغوي: لا اعلم بهذا الإسناد غير هذا الحديث ولا أدري له صحبة أو، لا – انتهى. وقال المصنف: قد اختلف في صحبته. (إذا سألتم الله) شيئا من جلب نفع (فاسألوه ببطون أكفكم) جمع الكف أي مع رفعها إلى السماء (ولا تسألوه بظهورها) قال ابن حجر: لأن اللائق لطالب شيء يناله أن يمد كفه إلى المطلوب ويبسطها متضرعا ليملأها من عطاءه الكثير المؤذن به رفع اليدين إليه جميعا، أما من سأل رفع شيء وقع به من البلاء فالسنة أن يرفع إلى السماء ظهر كفيه إتباعا له عليه الصلاة والسلام وحكمته التفاؤل في الأول بحصول المأمول، وفي الثاني بدفع المحظور - انتهى.
2265- (21) وفي رواية ابن عباس، قال: ((سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها، فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم)). رواه أبوداود.
قلت يدل على هذا الفرق ما ذكرنا في (ج2ص394) من حديث السائب بن خلاد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سأل جعل باطن كفيه إليه وإذ استعاذ جعل ظاهرهما إليه أخرجه أحمد وفي إسناده ابن لهيعة وفيه مقال مشهور. وقيل: جعل ظهر الكف فوق بطنها مخصوص بالاستسقاء كقلب الرداء. واستدل لذلك بما تقدم في الاستسقاء من حديث أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء رواه مسلم وفيه إنه ليس فيه ما يدل على اختصاص ذلك بالاستسقاء وفي الباب عن أبي بكرة أخرجه الطبراني: قال الهيثمي (ج10ص169) ورجاله رجال الصحيح غير عمار بن خالد الواسطي وهو ثقة.

(15/173)


2265- قوله: (وفي رواية ابن عباس إلخ) أي زاد في حديث ابن عباس بعد قوله بظهورها فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم" (قال) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (سلوا الله ببطون أكفكم) لأن هذه هيئة السائل الطالب المنتظر للأخذ إذ مادة من طلب شيئا من غيره أن يمده يده إليه ليضع ما يعطيه له فيها (فإذا فرغتم) أي من الدعاء (فامسحوا بها) أي بأكفكم (وجوهكم) فإنها تنزل عليها آثار الرحمة فتصل بركتها إليها. قال في اللمعات: أي تبركا بما فاض من أنوار الإجابة وإيصالها إلى الوجه الذي هو أشرف الأعضاء وأقربها أولى – انتهى. وفيه استحباب مسح اليدين بالوجه عقب الدعاء. واتفقوا على ذلك خارج الصلاة. وإما في الصلاة فقال البيهقي (ج2ص212) بعد رواية أثر عمر في رفع اليدين في القنوت. أما مسح اليدين بالوجه عند الفراغ من الدعاء فلست أحفظه عن أحد من السلف في دعاء القنوت وإن كان يروي عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة وقد روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث فيه ضعف (يشير إلى حديث ابن عباس) وهو مستعمل عند بعضهم خارج الصلاة وإما في الصلاة فهو عمل لم يثبت بخبر صحيح ولا أثر ثابت ولا قياس. فالأولى أن يفعله ويقتصر على ما فعله السلف رضي الله عنهم من رفع اليدين دون مسحهما بالوجه في الصلاة - انتهى. (رواه أبوداود) في أواخر الصلاة. وحديث مالك بن يسار أخرجه البغوي وابن أبي عاصم وابن السكن والمعمري في اليوم والليلة وابن قانع كلهم من طريق ضمضم بن زرعة الحضرمي الشامي عن شريح بن عبيد عن أبي ظبية عن أبي بحرية عنه. وقد اقتصر أبوداود على ذكر كلام شيخه في مالك بن يسار. ونقل المنذري بعد ذكره اختلاف النسخة التي أشرنا إليه وكلام البغوي، ثم قال وفي إسناده إسماعيل بن عياش (راوي الحديث عن ضمضم) وقد تكلم فيه غير واحد وصحح بعضهم روايته عن الشاميين وفي إسناده أيضا ضمضم بن زرعة الحضرمي وهو شامي وثقه يحيى بن معين – انتهى. وحديث ابن عباس رواه

(15/174)


أبوداود من طريق عبدالله بن يعقوب بن
2266- (22) وعن سلمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا))
إسحاق عمن حدثه عن محمد بن كعب القرظي عن عبدالله بن عباس. قال أبوداود: روى هذا الحديث من غير وجه عن محمد بن كعب كلها واهية وهذا الطريق قائلها وهو ضعيف أيضا - انتهى. قلت: عبدالله بن يعقوب بن إسحاق. قال الحافظ في التقريب في ترجمته: وهو مجهول الحال. وقال في مبهماته: عبدالله بن يعقوب عمن حدثه عن محمد بن كعب يقال هو أبوالمقدام هشام بن زياد. وقال في مبهمات التهذيب: عبدالله بن يعقوب بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي عن ابن عباس الحديث مشهور برواية المقدام هشام بن زياد عن محمد بن كعب – انتهى. قلت: وأبوالمقدام هشام بن زياد ضعيف متروك. والحديث رواه ابن ماجه في الدعاء والحاكم (ج1ص536) من طريق صالح بن حسان عن محمد بن كعب، وصالح هذا ضعيف متروك وحديث ابن عباس وأخرجه أيضا البيهقي في السنن الكبرى (ج2ص212) من طريق أبي داود ثم نقل كلام أبي داود المتقدم.

(15/175)


2266- قوله: (إن ربكم) هذا لفظ أبي داود وللترمذي والبيهقي إن الله (حيي) بكسر الياء الأولى وتشديد الثانية فعيل من الحياء أي كثير الحياء ووصفه تعالى بالحياء يحمل على ما يليق له كسائر صفاته نؤمن بها ولا نكيفها (كريم) هو الذي يعطي من غير سؤال فكيف بعده. وقيل: الكريم هو الجواد المعطي الذي لا ينفد عطاءه وهو الكريم المطلق (يستحي) عينه ولامه حرفا علة (من عبده إذا رفع يديه إليه) ولفظ الترمذي والبيهقي يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه (أن يردهما صفرا) بكسر الصاد المهملة وسكون الفاء أي خاليتين فارغتين يقال صفر الشيء بكسر الفاء أي خلا، والمصدر الصفر بالتحريك ولا يدخلون فيه تاء التأنيث بل يستعملونه على صيغته هذه في المذكر والمؤنث والتثنية والجمع، وزاد في رواية الترمذي والبيهقي خائبتين من الخيبة وهو الحرمان وفي الحديث دلالة على استحباب رفع اليدين في الدعاء ويكونان مضمومتين، لما روى الطبراني في الكبير عن ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا دعا ضم كفيه وجعل بطونهما مما يلي وجهه) ذكره ابن رسلان كذا في السراج المنير. وقال في هامش تحفة الذاكرين نقلا عن عدة الحصن الحصين بعد ذكر حديث ابن عباس هذا وسنده ضعيف - انتهى. وقد ورد في رفع الأيدي عند الدعاء أحاديث كثيرة صحيحة صريحة كما ذكرها شيخنا في شرح الترمذي في باب ما يقول إذا سلم، والحافظ في الفتح في باب رفع الأيدي في الدعاء من كتاب الدعوات والجمع بين هذه الأحاديث وبين ما تقدم من حديث أنس إنه لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في شيء من دعاءه إلا في الاستسقاء رواه الشيخان بأن المنفي صفة خاصة لا أصل الرفع، قال الحافظ: ما حاصله إن الرفع
رواه الترمذي، وأبوداود، والبيهقي في "الدعوات الكبير"
2267- (23) وعن عمر، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه)) رواه الترمذي.

(15/176)


في الاستسقاء يخالف غيره إما بالمبالغة إلى أن تصير اليدان حذو الوجه مثلا وفي الدعاء إلى حذو المنكبين ولا يعكر على ذلك إنه ثبت في كل منهما حتى يرى بياض أبطيه بل يجمع بأن تكون روية البياض في الاستسقاء أبلغ منها في غيره. وأما إن الكفين في الاستسقاء يليان الأرض وفي الدعاء يليان السماء. قال المنذري: وبتقدير تعذر الجمع فجانب الإثبات أرجح – انتهى. (رواه الترمذي) في الدعوات (وأبوداود) في أواخر الصلاة (والبيهقي في الدعوات الكبير) وكذا في السنن الكبرى (ج2ص211) وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص438) وابن ماجه وابن حبان والحاكم (ج1ص497- 535) قال الترمذي: حديث حسن غريب. وروى بعضهم ولم يرفعه. وقال البيهقي: رفعه جعفر بن ميمون بياع الأنماط عن أبي عثمان النهدي عن سلمان هكذا، ووفقه سليمان التيمي عن أبي عثمان في إحدى الروايتين عنه. قلت: رواه أحمد والحاكم موقوفا ومرفوعا وقال الحاكم: إسناد صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وسكت عنه أبوداود. وقال الحافظ في الفتح: سنده جيد. قال الحاكم: وله شاهد بإسناد صحيح من حديث أنس بن مالك ثم رواه نحو حديث سلمان. قال المنذري: في تصحيح سنده نظر. وقال الذهبي: عامر بن يساف (أحد رواة حديث أنس) ذو مناكير – انتهى. قلت: ونسب في الكنز (ج1ص169) حديث أنس إلى عبدالرزاق وأبي يعلى أيضا.

(15/177)


2267- قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء) قيل: حكمة الرفع إلى السماء إنها قبله الدعاء ومهبط الرزق والوحي وموضع الرحمة والبركة (لم يحطهما) بضم الحاء المهملة ونصب الطاء المشددة أي لم يضعهما حتى يمسح بهما وجهه) وذلك على طريق التيمن والتفاؤل فكأنه يشير إلى أن كفيه ملئتا من البركات السماوية والأنوار الإلهية فهو يفيض منها على وجه الذي هو أولى الأعضاء بالكرامة قاله التوربشتي وقال في السبل: في الحديث دليل على مشروعية مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء. وقيل: وكأن المناسبة إنه تعالى لما كان لا يردهما صفرا فكان الرحمة أصابتهما فناسب إفاضة ذلك على الوجه الذي هو أشرف الأعضاء وأحقها بالتكريم - انتهى. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا الحاكم (ج1ص536) كلاهما من طريق حماد بن عيسى الجهني عن حنظلة بن أبي سفيان الجحمي عن سالم بن عبدالله عن أبيه عن عمر. قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن عيسى وقد تفرد به وهو قليل الحديث. وقد حدث عنه الناس وحنظلة
2268- (24) وعن عائشة، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلك)). رواه أبوداود.
2269- (25) وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أسرع الدعاء إجابة دعوة غائب لغائب)). رواه الترمذي وأبوداود.
ابن أبي سفيان ثقة وثقة يحيى القطان – انتهى. قلت: حماد هذا ضعيف ضعفه أبوحاتم وأبوداود والدارقطني. وقال مأكولا: ضعفوا أحاديثه كذا في تهذيب التهذيب، والحديث سكت عنه الحاكم والذهبي. وقال النووي في الأذكار (ص294) في إسناده ضعف، وأما قول الحافظ عبدالحق إن الترمذي قال فيه إنه حديث صحيح فليس في النسخ المعتمدة من الترمذي إنه صحيح بل قال حديث غريب - انتهى.

(15/178)


2268- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحب) أي يحب (الجوامع من الدعاء) أي الجامعة لخير الدنيا والآخرة. وقيل: هي ما كان لفظه قليلا ومعناه كثيرا شاملا لأمور الدنيا والآخرة كما في قوله تعالى ?ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار? [البقرة: 201] ومثل الدعاء بالعافية في الدنيا والآخرة وقيل: هي الجامعة للتحميد والصلاة وجميع آداب الدعاء. وقيل: هي ما يجمع الأغراض الصالحة والمقاصد الصحيحة (ويدع) أي يترك (ما سوى ذلك) أي من الأدعية في غالب الأحيان (رواه أبوداود) في آخر الصلاة وسكت عنه هو والمنذري وأخرجه الحاكم (ج1ص539) وقال حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
2269- قوله: (وعن عبدالله بن عمرو) بالواو (إن أسرع الدعاء إجابة) تمييز، وهذا لفظ أبي داود وللترمذي ما دعوة أسرع إجابة من دعوة غائب لغائب (دعوة غائب لغائب) معناه في غيبة المدعو له أو في سره كأنه من وراء معرفته أو معرفة الناس. روى الخرائطي في مكارم الأخلاق عن يوسف بن أسباط قال مكثت دهرا وأنا أظن هذا الحديث إذا كان غائبا عن شخصه ثم نظرت فيه فإذا هو لو كان على المائدة وهو لا يسمع كان غائبا، وخص حالة الغيبة بالذكر للبعد عن الرياء والأغراض الفاسدة المنقصة من الأجر فإنه في حالة الغيبة يتمحض الإخلاص ويصح قصد وجه الله تعالى بذلك فيوافقه الملك فيدعو له بمثل ذلك ويؤمن على دعاءه كما تقدم دعاءه أقرب إلى الإجابة لأن الملك معصوم. وفي الحديث الحث على الدعاء للمؤمنين بظهر الغيب. (رواه الترمذي) في البر والصلة (وأبو داود) في أواخر الصلاة كلاهما من طريق عبدالرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي عن عبدالله بن يزيد عن عبدالله بن عمرو بن العاص. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه والإفريقي يضعف في الحديث – انتهى. وسكت عنه أبوداود ونقل المنذري كلام الترمذي وأقره. قلت:

(15/179)


2270- (26) وعن عمر بن الخطاب، قال: ((استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن لي، وقال: شركنا يا أخي! في دعائك ولا تنسنا. فقال كلمة ما يسرني إن لي بها الدنيا)). رواه أبوداود والترمذي وانتهت روايته عند قوله: ولا تنسنا.
والحديث أخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد والطبراني في الكبير، وفي الباب أحاديث كثيرة، منها حديث أبي الدرداء، وقد تقدم، ومنها حديث عمران بن حصين أخرجه البزار، ومنها حديث ابن عباس الآتي في آخر الباب، ومنها حديث واثلة عند أبي نعيم في الحلية.

(15/180)


2270- قوله: (استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة) أي من المدينة. قال ابن حجر: في قضاء عمرة كان نذرها في الجاهلية ذكره القاري (فأذن لي) أي فيها (أشركنا) يحتمل نون العظمة وأن يريد نحن وأتباعنا (يا أخي) بالتصغير أو بدونه، والمراد بالتصغير الاختصاص بالتلطف والتعطف لا التحقير (في دعائك) في إظهار الخضوع والمسكنة في مقام العبودية بالتماس الدعاء ممن عرف له الهداية وحث للأمة على الرغبة في دعاء الصالحين وأهل العبادة وتنبيه لهم أن لا يخصوا أنفسهم بالدعاء ولا يشاركوا فيه أقاربهم وأحباءهم لا سيما في مظان الإجابة وتفخيم لشأن عمر وإرشادة بذكره في السامعين وإرشاد إلى ما يحمى دعاءه من الرد (ولا تنسنا) تأكيد أو أراد به في سائر أحواله (فقال) قال القاري: عطف على "قال أشركنا" لتعقيب المبين بالمبين أي قال عمر فقال بمعنى تكلم النبي صلى الله عليه وسلم (كلمة) وهي أشركنا أو يا أخي! بالإضافة إلى نفسه الشريفة أو لا تنسنا أو غير ما ذكر ولم يذكره توقيا عن التفاخر ونحوه من آفات النفوس (ما يسرني) بضم السين (إن لي بها الدنيا) الباء للبدلية و "ما" نافية وإن مع اسمه وخبره فاعل يسرني أي لا يعجبني ولا يفرحني كون جميع الدنيا لي بدلها قاله القاري. قلت: وفي رواية أحمد فقال عمر: ما أحب إن لي بها ما طلعت عليه الشمس لقوله يا أخي (رواه أبوداود) في أواخر الصلاة (والترمذي) في الدعوات وأخرجه أيضا أحمد (ج1ص29) (ج2ص59) وابن ماجه في فضل دعاء الحاج من كتاب الحج ونسبة في التنقيح لأبي داود الطيالسي والبيهقي في الشعب أيضا (وانتهت روايته) أي الترمذي وكذا رواية ابن ماجه (عند قوله ولا تنسنا) والحديث صححه الترمذي وسكت عنه أبوداود. قلت: في سنده عندهم عاصم بن عبيدالله بن عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي وهو ضعيف. كما ستعرف. فالحديث ضعيف الإسناد. قال المنذري بعد نقل تصحيح الترمذي: وفي إسناده عاصم بن عبيدالله بن عاصم بن عمر بن

(15/181)


الخطاب، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة – انتهى. قلت: ضعفه ابن معين والنسائي
2271- (27) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب! وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين)). رواه الترمذي.
وابن خراش وغيرهم. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث ولا يحتج به. وقال ابن نمير وأبوحاتم والبخاري: منكر الحديث. وقال شعبة: كان عاصم لو قيل له: من بنى مسجد البصرة لقال فلان عن فلان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال الدارقطني: مديني يترك وهو مغفل. وقال ابن حبان: كان سيء الحفظ كثير الوهم فاحش الخطأ فترك من أجل كثرة خطأه كذا في تهذيب التهذيب.

(15/182)


2271- قوله: (ثلاثة) أي أشخاص أو ثلاثة رجال (الصائم) أي منهم أو أحدهم الصائم (حين يفطر) لأنه بعد عبادة وحال تضرع ومسكنة (والإمام العادل) بين رعيته (ودعوة المظلوم) كان مقتضى الظاهر أن يقول، والمظلوم، ولعله لما كانت المظلومية ليست بذاتها مطلوبة عدل عنه قاله القاري. وقال الطيبي: أي دعوة الصائم ودعوة الإمام بدليل قوله ودعوة المظلوم، ويكون بدلا من دعوتهم وقوله "يرفعها" حال كذا قيل، والأولى أن يكون أي يرفعها خبرا لقوله ودعوة المظلوم وقطع هذا القسم عن أخويه لشدة الاعتناء بشأن دعوة المظلوم ولو فاجرا أو كافرا وينصر هذا الوجه عطف قوله ويقول الرب على قوله ويفتح فإنه لا يلائم الوجه الأول لأن ضمير يرفعها للدعوة حينئذ لا لدعوة المظلوم كما في الوجه الأول. قال القاري: والظاهر إن الضمير على الوجهين لدعوة المظلوم وإنما بولغ في حقها لأنه لما لحقته نار الظلم واحترقت أحشاءه خرج منه بالتضرع والانكسار وحصل له حاله الاضطرار فيقبل دعاءه كما قال تعالى: ?أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء? [النمل: 62] (يرفعها الله فوق الغمام) أي تجاوز الغمام أي السحاب (ويفتح) أي الله (لها) أي لدعوته (أبواب السماء) بالنصب على أن يفتح مذكر معلوم وبالرفع على أنه مؤنث مجهول. قيل: رفعها فوق الغمام وفتح أبواب السماء لها كناية عن سرعة القبول والوصول إلى مصعد الإجابة (لأنصرنك) بفتح الكاف أي أيها المظلوم (ولو بعد حين) الحين يستعمل لمطلق الوقت ولستة أشهر ولأربعين سنة، والمعنى لا أضيع حقك ولا أرد دعائك ولو مضي زمان طويل لأني حليم لا أعجل عقوبة العباد لعلهم يرجعون عن الظلم والذنوب إلى إرضاء الخصوم والتوبة، وفيه إيماء إلى أنه تعالى يمهل ولا يهمله (رواه الترمذي) في موضعين الأول في باب صفة الجنة ونعيمها من طريق حمزة الزيات عن زياد الطائي عن أبي هريرة. وقال بعد روايته: هذا حديث ليس إسناده بذلك القوى، وليس هو عندي بمتصل – انتهى.

(15/183)


قلت: زياد الطائي. قال الذهبي في الميزان: فيه
2272- (28) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث دعوات مستجابات. لا شك فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم)). رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه.
لا يعرف. وقال الحافظ في التقريب: مجهول أرسل عن أبي هريرة، والثاني في الدعوات في باب بعد باب أي الكلام أحب إلى الله من طريق سعدان القمي وهو صدوق عن أبي مجاهد سعد الطائي وهو لا بأس به عن أبي مدلة بضم الميم وكسر المهملة وتشديد اللام وهو مقبول عن أبي هريرة: قال الترمذي، حديث حسن. ونسبه السيوطي في الجامع الصغير لأحمد أيضا والشوكاني في تحفة الذاكرين لابن خزيمة وابن حبان أيضا.

(15/184)


2272- قوله: (ثلاث دعوات) مبتدأ خبره (مستجابات) قال الطيبي: الحديث السابق ثلاثة، وفي هذا ثلاث دعوات، لأن الكلام على الأول في شأن الداعي وتحرية في طريق الاستجابة وما هي منوطة به من الصوم والعدل بخلاف الوالد والمسافر إذ ليس عليهما الاجتهاد في العمل. (لا شك فيهن) أي في استجابتهن وهو أكد من حديث لا ترد. وإنما أكد به لالتجاء هؤلاء الثلاثة إلى الله تعالى بصدق الطلب ورقة القلب وانكسار الخاطر قاله القاري. (في دعوة الوالد) أي لولده أو عليه ولم يذكر الوالدة لأن حقها أكد فدعاءها أولى بالإجابة وقوله "دعوة الوالد" هذه رواية أبي داود، وكذا وقع في رواية لأحمد ولفظ الترمذي "دعوة الوالد على ولده" وهكذا وقع في أكثر روايات أحمد وفي رواية الأدب المفرد "دعوة الوالدين على ولدهما" وفي رواية ابن ماجه "دعوة الوالد لولده" وكذا وقع في رواية أبي داود الطيالسي (ودعوة المسافر) يحتمل أن تكون دعوته لمن أحسن إليه وبالشر لمن آذاه وأساء إليه لأن دعاءه لا يخلو عن الرقة (ودعوة المظلوم) أي لمن ينصره ويعينه أو يسليه ويهون عليه أو على من ظلمه بأي نوع من أنواع الظلم. وقال السندي: قوله "دعوة المظلوم" أي في حق الظالم وأثر الاستجابة قد لا يظهر في الحال لكون المجيب تعالى حكيما –انتهى. قال التوربشتي: اختص هؤلاء الثلاثة بإجابة الدعوة لانقطاعهم إلى الله لصدق الطلب ورقة القلب وانكسار البال ورثاثة الحال. أما المسافر فلأنه منقطع عن الوطن المألوف مفارق عما كان يستأنس به مستشعر في سفره من طوارق الحدثان فلا يخلو ساعتئذ عن الرقة والرجوع إلى الله بالباطن. وأما المظلوم فإنه منقلب إلى ربه على صفة الاضطرار. وأما الوالد فإنه يدعو لولده على نعت الحنو والرقة وإيثار الولد على نفسه بما يستطيع فيخلص في دعاءه مبلغ جهده. (رواه الترمذي) في باب دعاء الوالدين في أوائل البر والصلة وفي باب دعوة المسافر من أبواب الدعوات. وقال: حديث حسن.

(15/185)


(وأبوداود) في أواخر الصلاة وسكت عنه، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره (وابن ماجه) في الدعاء وأخرجه أيضا أحمد في مواضع، والبخاري في الأدب المفرد وأبوداود الطيالسي، وفي الباب عن عقبة بن عامر الجهني عند الطبراني بإسناد جيد.
?الفصل الثالث?
2273- (29) عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى يسأل شسع نعله إذا انقطع)).
2274- (30) زاد في رواية عن ثابت البناني مرسلا، ((حتى يسأله الملح، وحتى يسأله شسعة إذا انقطع)). رواه الترمذي.
2273- قوله: (حاجته) مفعول ثان (كلها) تأكيد لها أي جميع مقصوداته إشعارا بالافتقار إلى الاستعانة في كل لحظة ولمحة، ولأن خزائن الجود بيده وأزمته إليه ولا معطي إلا هو (حتى يسأل) أي ربه وفي بعض النسخ حتى يسأله (شسع نعله) بكسر المعجمة وسكون المهملة، أي شراكها. قال في المجمع: هو من سيور النعل ما يدخل بين الإصبعين ويدخل طرفه في الثقب الذي في صدر النعل المشدود في الزمام، والزمام سير يعقد فيه الشسع. وقال الجزري: شسع النعل سير من سيورها التي تكون على وجهها يدخل بين الإصبعين – انتهى. قال الطيبي: وهذا من باب التتميم لأن ما قبله جئ في المهمات وما بعده في المتمات.

(15/186)


2274- قوله: (وزاد في رواية) حق المصنف أن يقول وفي رواية أو يقول رواه الترمذي زاد في رواية قاله القاري (عن ثابت) بن أسلم (البناني) بضم الموحدة وخفة النون الأولى وكسر الثانية منسوب إلى بنانة اسم أم سعد بن لؤي، وثابت هذا من ثقات التابعين وحكى عنه قال: صحبت أنسا أربعين سنة (مرسلا) أي مرفوعا بحذف الصحابي (حتى يسأله الملح) ونحوه من الأشياء التافهة وهذا هو القدر الزائد، وأما قوله "حتى يسأله شسع نعله الخ" فهو موجود في الروايتين وإنما ذكره تنبيها على موضع الزائد (حتى يسأله شسعة) فإنه لم ييسره لم يتيسر ودفع به وبما قبله ما قد يتوهم من أن الدقائق لا ينبغي أن تطلب منه لحقارتها (رواه الترمذي) الحديث الموصول رواه الترمذي عن أبي داود صاحب السنن عن قطن بن نسير البصري وهو صدوق يخطئ كما في التقريب عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس. قال الترمذي: هذا حديث غريب وروى غير واحد هذا الحديث عن جعفر بن سليمان عن ثابت البناني عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكروا فيه عن أنس حدثنا صالح بن عبدالله نا جعفر بن سليمان عن ثابت البناني إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ليسأل أحدكم ربه حاجته حتى يسأله الملح وحتى يسأله شسع نعله إذا انقطع، وهذا أصح من حديث قطن عن جعفر بن سليمان – انتهى. يعني إن حديث صالح بن عبدالله عن جعفر بن سليمان مرسلا أصح من حديث قطن عن جعفر متصلا، لأن صالح بن عبدالله أوثق من قطن ومع ذلك
2275- (31) وعنه، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء حتى يرى بياض إبطيه)).

(15/187)


قد تابع صالح بن عبدالله غير واحد. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة قطن ما لفظه. قال ابن عدي: حدثنا البغوي ثنا القواريري ثنا جعفر عن ثابت بحديث ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها فقال رجل للقواريري إن شيخا يحدث به عن جعفر عن ثابت عن أنس. فقال القواريري: باطل. قال ابن عدي: وهو كما قال – انتهى. قلت: حديث أنس نسبه السيوطي وغيره لابن حبان أيضا ونسبه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10ص150) للبزار وفيه زيادة قوله حتى يسأله الملح. قال الهيثمي: رواه الترمذي غير قوله وحتى يسأله الملح. ورجاله أي عند البزار رجال الصحيح غير سيار بن حاتم وهو ثقة. وفي الباب عن عائشة بلفظ سلوا الله كل شيء حتى الشسع فإن الله إن لم ييسره لم يتيسره. قال الهيثمي: رواه أبويعلى ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبيدالله بن المنادي وهو ثقة.

(15/188)


2275- قوله: (وعنه) أي عن أنس (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء) أي في مواضع مخصوصية قاله القاري. (حتى يرى) بصيغة المجهول أي يبصر (بياض إبطيه) قال القاري: لعل المراد بياض طرفي إبطيه ولا ينافيه حديث أبي داود المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك فإنه يحمل على الأقل في الرفع أو على أكثر الأوقات، والأول على بيان الجواز وفي الاستسقاء ونحوه من شدة البلاء والمبالغة في الدعاء - انتهى. قلت: قد ثبت في كل من الاستسقاء وغيره حتى يرى بياض إبطيه، أما الاستسقاء ففي الصحيحين من حديث أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعاء إلا في الاستسقاء، وإنه يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه، وأما غير في الاستسقاء ففي البخاري عن أبي موسى في قصة قتل عمه أبي عامر الأشعري قال: فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بماء فتوضع ثم رفع يديه، فقال: اللهم اغفر لعبيد أبي عامر ورأيت بياض إبطيه، وفي الصحيحين من حديث أبي عبيد في قصة ابن اللتبية ثم رفع يديه حتى رأيت عفرتي إبطيه يقول: اللهم هل بلغت. قال الحافظ: في ذلك رد على من قال لا يرفع كذا إلا في الاستسقاء. قلت: ويدل على رفع اليدين كذلك مطلقا ما روى البخاري معلقا في الاستسقاء والدعوات عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه، وما روى مسلم من وجه آخر عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء حتى يرى بياض إبطيه ويجمع بين ذلك بأن تكون رؤية البياض في الاستسقاء أبلغ منها في غيره وفي الباب عن أبي برزة عند أبي يعلى وعن عائشة عند البزار ذكرهما الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10ص168) مع الكلام عليهما.
2276- (32) وعن سهل بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((كان يجعل إصبعيه حذاء منكبيه، ويدعوا)).

(15/189)


2277- (33) وعن السائب بن يزيد، عن أبيه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا، فرفع يديه مسح وجهه بيديه)). رواه البيهقي الأحاديث الثلاثة في الدعوات.
2276- قوله: (كان يجعل إصبعيه) أي أصابع يديه مرتفعة (حذاء منكبيه) دل الحديث على القصد والتوسط في رفع اليدين وهو الأكثر والحديث السابق على الزيادة وهي حالة المبالغة والإلحاح في الدعاء والمسألة قاله القاري (ويدعوا) أي بعد ذلك.
2277- قوله: (وعن السائب بن يزيد) تقدم ترجمته في باب أحكام المياه (عن أبيه) هو يزيد بن سعيد ابن ثمامة بن الأسود الكندي والد السائب بن يزيد المعروف بابن أخت النمر صحابي أسلم يوم الفتح. قال الزهري: عن سعيد بن المسيب قال ما اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم قاضيا ولا أبوبكر ولا عمر حتى كان في وسط خلافة عمر فإنه قال ليزيد ابن أخت النمر: اكفني بعض الأمر يعني صغارها. وقال ابن سعد: استعمله عمر على السوق (فرفع يديه) عطف على دعا (مسح وجهه بيديه) قال ابن حجر: جواب "إذا" والصواب إنه خبر كان، وإذا ظرف له. قال الطيبي: دل على أنه إذا لم يرفع يديه في الدعاء لم يمسح وهو قيد حسن، لأنه - صلى الله عليه وسلم -كان يدعوا كثيرا كما في الصلاة والطواف وغيرهما من الدعوات المأثورة دبر الصلوات وعند النوم وبعد الأكل وأمثال ذلك ولم يرفع يديه لم يمسح بهما وجهه (روى البيهقي الأحاديث الثلاثة) حديث أنس قد أخرجه أيضا البخاري ومسلم كما تقدم. وأما حديث سهل بن سعد فأخرجه أحمد (ج5ص337) والحاكم (ج1ص536) من رواية عبدالرحمن بن إسحاق عن عبدالرحمن بن معاوية عن ابن أبي ذباب عن سهل بن سعد قال: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاهرا يديه قط يدعوا على منبر ولا غيره ما كان يدعوا إلا يضع يديه حذو منكبيه ويشير بإصبعه إشارة لفظ أحمد، وفي رواية الحاكم كان يجعل إصبعيه بحذاء منكبيه ويدعوا. قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي:

(15/190)


(ج10ص167) فيه عبدالرحمن بن إسحاق الزرقي المدني وثقه ابن حبان، وضعفه مالك وجمهور الأئمة، وبقية رجاله ثقات - انتهى. وأما حديث السائب بن يزيد عن أبيه فأخرجه أيضا أبوداود في أواخر الصلاة من طريق حفص بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص عن السائب بن يزيد عن أبيه. وقد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري: في إسناده عبدالله بن لهيعة وهو ضعيف. وقال الحافظ في الإصابة: (ج3ص656) في ترجمة يزيد والد السائب بن يزيد بعد ذكر هذا الحديث من رواية أبي داود وفي السند ابن لهيعة
2278- (34) وعن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ((المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك أو نحوهما، والاستغفار أن تشير بإصبع واحدة، والابتهال أن تمد يديك جميعا)) وفي رواية قال: والابتهال هكذا ورفع يديه وجعل ظهورهما مما يلي وجهه. رواه أبوداود.
2279- (35) وعن ابن عمر، أنه يقول: ((إن رفعكم أيديكم بدعة، ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا - يعني إلى الصدر -
واختلف عليه في سنده – انتهى. قلت: ذكر الحافظ هذا الاختلاف في تهذيب التهذيب في ترجمة حفص بن هاشم بن عتبة من شاء الوقوف عليه رجع إلى تهذيبه وحفص هذا قال الحافظ: مجهول. وقال الذهبي: لا يدري من هو – انتهى. ويؤيده حديث عمر المتقدم في الفصل الثاني.

(15/191)


2278- قوله: (المسألة) مصدر بمعنى السؤال والمضاف مقدر ليصح الحمل أي أدبها (أن ترفع يديك حذو منكبيك أو نحوهما) أي قريبا منهما (والاستغفار) أي أدبه (أن تشير بإصبع واحدة) وهي السبابة سبا للنفس الأمارة والشيطان والتعوذ منهما إلى الله تعالى وقيده بواحدة لأنه يكره الإشارة بالإصبعين قاله الطيبي: (والابتهال) أي التضرع والاجتهاد والمبالغة في الدعاء في دفع المكروه عن النفس أدبه (أن تمد يديك جميعا) أي حتى يرى بياض أبطيك (وفي رواية قال والابتهال هكذا) تعليم فعلى والمشار إليه قوله: (ورفع) أي ابن عباس (يديه وجعل ظهورهما مما يلي وجهه) أي رفع يديه رفعا كليا حتى ظهر بياض الإبطين جميعا وصارت كفاءة محاذيين لرأسه. قال الطيبي: ولعله أراد بالابتهال دفع ما يتصوره من مقابلة العذاب فيجعل يديه كالترس يستره من المكروه – انتهى. والفرق بين الروايتين، إن في الرواية الأولى بيان الابتهال بالقول، وفي الثانية بالفعل. (رواه أبوداود) في أواخر الصلاة وسكت عليه هو والمنذري ونسبه الحافظ في الفتح للحاكم أيضا وسكت عنه.

(15/192)


2279- قوله: (إن رفعكم أيديكم) أي مبالغتكم في الرفع في الدعاء (بدعة ما زاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي غالبا (على هذا يعني) أي يريد بالمشار إليه (إلى الصدر) قال الطيبي: يعني تفسير لما فعله ابن عمر من رفع اليدين إلى الصدر وأنكر عليهم غالب أحوالهم في الدعاء وعدم تمييزهم بين الحالات من الرفع إلى الصدر لأمر وفوقه إلى المنكبين لأمر آخر وفوقهما لغير ذلك – انتهى. وقال في اللمعات: قوله "إن رفعكم أيديكم" بدعة يعني رفعكم فوق صدوركم دائما أو في أكثر الأحوال من غير تمييز بين الأحوال المذكورة في الحديث السابق بدعة، لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان حاله صلى الله عليه وسلم مختلفا تارة، كما ذكر قوله على هذا قد رفعهما ابن عمر إلى الصدر فأراهم إياه بقوله وفعله، ولذلك فسر الراوي بقوله يعني إلى الصدر - انتهى. وقال ابن حجر:
رواه أحمد.
2280 – (36) وعن أبي بن كعب، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه)). رواه الترمذي.

(15/193)


استند ابن عمر في قوله ما زاد إلى علمه فهو ناف وغيره أثبت عنه صلى الله عليه وسلم الرفع إلى حذو المنكبين تارة وإلى أعلى من ذلك أخرى والحجة للمثبت. وقال الحافظ: وما نقل عن ابن عمر من إنكار رفع اليدين في الدعاء فإنما أنكر رفعهما إلى حذو المنكبين. وقال ليجعلهما حذو صدره كذلك أسنده الطبري عنه قال: وقد صح عن ابن عمر خلاف ذلك أخرجه البخاري في الأدب المفرد من طريق القاسم بن محمد رأيت ابن عمر يدعو عند القاص يرفع يديه حتى يحاذى بهما منكبيه. (رواه أحمد) قال الهيثمي: (ج10:ص168) فيه بشر بن حرب وهو ضعيف وفي الباب عن أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفة يدعو هكذا ورفع يديه وجعل يديه حيال ثندوته وجعل بطون كفيه مما يلى الأرض، وفي رواية جعل ظهر كفيه مما يلى وجهه ورفعهما فوق ثندوته وأسفل من منكبيه، رواه أحمد وفيه أيضا بشر بن حرب، وعن ابن عباس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بعرفة ويداه إلى صدره كاستطعام المسكين رواه الطبراني في الأوسط، وفيه الحسين بن عبدالله بن عبيدالله وهو ضعيف كذا في مجمع الزوائد (ج10:ص167).

(15/194)


2280 – قاله: (فدعا له) عطف على ذكر أي فأراد أن يدعو له (بدأ نفسه) جزاء إذا ذكر وفيه تعليم للأمة وأنه يندب للداعي أن يبدأ بنفسه ثم يثني بمن أراد الدعاء له، وقد عقد البخاري في صحيحه باب قول الله تعالى وصل عليهم، ومن خص أخاه بالدعاء دون نفسه، ثم ذكر فيه ثمانية أحاديث تدل على ذلك. قال الحافظ: في هذه الترجمة إشارة إلى رد ما جاء عن ابن عمر أخرجه ابن أبي شيبة والطبري من طريق سعيد بن يسار قال: ذكرت رجلا عند ابن عمر فترحمت عليه فلهز في صدري، وقال لي: إبدأ بنفسك. وعن إبراهيم النخعي: كان يقال إذا دعوت فابدأ بنفسك فإنك لا تدري في أي دعاء يستجاب لك، وأحاديث الباب ترد على ذلك قال: وأما ما أخرجه الترمذي من حديث أبي بن كعب رفعه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه وهو عند مسلم في أول قصة موسى والخضر، ولفظه: وكان إذا ذكر أحدا من الأنبياء بدأ بنفسه، قال: ويؤيد هذا القيد أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لغير نبي فلم يبدأ بنفسه كقوله في قصة هاجر يرحم الله أم إسماعيل لوتركت زمزم لكانت عينا معينا. وحديث أبي هريرة: اللهم أيده بروح القدس يريد حسان بن ثابت، وحديث ابن عباس: اللهم فقهه في الدين وغيره ذلك من الأمثلة مع أن الذي جاء في حديث أبي لم يطرد، فقد ثبت أنه دعا لبعض الأنبياء فلم يبدأ بنفسه كحديث أبي هريرة: يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد – انتهى كلام الحافظ. قلت: فظهر إن بدأه - صلى الله عليه وسلم - بنفسه عند ذكر أحد والدعاء له لم يكن من عادته المستمرة (رواه الترمذي) في الدعوات وأخرجه
وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح.

(15/195)


2281 – (37) وعن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه قال: ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطعية رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها. قالوا: إذا نكثر قال: الله أكثر)) رواه أحمد.
أيضا أحمد (ج5:ص121) وأبوداود في الحروف والنسائي، ونسبه في الجامع الصغير لابن حبان والحاكم أيضا وفي الباب عن أبي أيوب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دعا بدأ بنفسه رواه الطبراني. قال الهيثمي: إسناده حسن (وقال هذا حديث حسن غريب صحيح) وسكت عنه أبوداود والمنذري، وقد تقدم أن أصل الحديث عند مسلم.

(15/196)


2281 – قوله: (ليس فيها إثم) أي معصية (ولا قطعية رحم) تخصيص بعد تعميم والقطيعة الهجران والصد أي ترك البر إلى الأهل والأقارب (إلا أعطاه الله بها) أي بتلك الدعوة (إحدى ثلاث) أي من الخصال (إما أن يعجل له دعوته) أي بخصوصها أو من جنسها في الدنيا في وقت إرادة إن قدر وقوعها في الدنيا يعني يعجل له دعوته في الدنيا في أحوج أوقاته وأوفقها لا على أوقات تمنيه (وإما أن يدخرها) أي تلك المطلوبة أو مثلها أو أحسن منها أو ثوابها وبدلهها يعني يجعلها ذخيرة بأن يعطيه جزيل ثوابها (له) أي للداعي (في الآخرة) إن لم يقدر وقوعها في الدنيا (وإما أن يصرف) أي يدفع (من السوء) أي البلاء النازل أو غيره في أمر دينه أو دنياه أو بدنه (مثلها) أي مثل تلك الدعوة كمية وكيفية إن لم يقدر له وقوعها في الدنيا. والحاصل إن ما لم يقدر له فيها أحد الأمرين إما الثواب المدخر وإما دفع قدرها من السوء (قالوا) أي بعض الصحابة (إذا) أي إذا كان الدعاء لا يرد منه شيء ولا يخيب الداعي في شيء منه (نكثر) أي من الدعاء لعظيم فوائده (قال) النبي صلى الله عليه وسلم (الله أكثر) قال الطيبي: أي الله أكثر إجابة من دعاءكم. وقيل: إن معناه فضل الله أكثر أي ما يعطيه من فضله وسعة كرمه أكثر مما يعطيكم في مقابلة دعاءكم. وقيل: الله أغلب في الكثرة يعني فلا تعجزونه في الاستكثار فإن خزائنه لا تنفد وعطاياه لا تفنى. وقيل الله أكثر ثوابا وعطاء مما في نفوسكم فأكثروا ما شئتم فإنه تعالى يقابل أدعيتكم بما هو أكثر منها وأجل (رواه أحمد) (ج3ص18) وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد والطحاوي في مشكل الآثار وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10ص148) وعزاه لأحمد ثم قال: ورواه أبويعلى بنحوه والبزار والطبراني في الأوسط ورجال أحمد وأبي يعلى وأحد إسنادي البزار رجاله

(15/197)


2282- (38) وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((خمس دعوات يستجاب لهن: دعوة المظلوم حتى ينتصر، ودعوة الحاج حتى يصدر، ودعوة المجاهد حتى يفقد، ودعوة المريض حتى يبرأ، ودعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب، ثم قال: وأسرع هذه الدعوات إجابة دعوة الأخ بظهر الغيب)). رواه البيهقي في الدعوات الكبير.
رجال الصحيح غير علي بن علي الرفاعي وهو ثقة – انتهى. وقال المنذري رواه أحمد وأبويعلى والبزار بأسانيد جيدة، والحاكم (ج1ص493) وقال صحيح الإسناد. قلت: ووافقه الذهبي ونسبه في الكنز (ج1ص179) لابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبيهقي في الشعب أيضا، وفي الباب عن جابر. وقد تقدم في الفصل الثاني وعن عبادة بن الصامت وأبي هريرة وقد سبق تخريجهما هناك.

(15/198)


2282- قوله: (خمس دعوات يستجاب لهن) مبتدأ وخبره (دعوة المظلوم) وإن كان كافرا أو فاجرا (حتى ينتصر) أي إلى أن ينتقم من الظالم بلسانه أو يده. قال القاري: لأنه إن انتقم بمثل حقه شرعا فقد استوفى أو انقص فواضح أولا بمثله شرعا أو بأزيد صار ظالما. قال الطيبي: حتى في القرائن الأربع بمعنى إلى كقولك سرت حتى تغيب الشمس لأن ما بعدها غير داخل فيما قبلها (ودعوة الحاج) حجا مبرورا (حتى يصدر) بضم الدال أي إلى أن يرجع إلى بلده وأهله. وقيل: أي يرجع من الحج ويدخل بيته (ودعوة المجاهد) وفي الجامع الصغير والكنز (ج1ص174) الغازي بدل المجاهد، أي الغازي في سبيل الله لإعلاء كلمة الله (حتى يفقد) بسكون الفاء وكسر القاف من الفقدان، من باب ضرب أي إلى أن يفرغ من الجهاد ويفقد أسبابه. قال الطيبي: أي يفقد ما يستتب له من مجاهدته أي حتى يفرغ منها – انتهى. واستتب له الأمر أي تهيأ واستقام على ما في الصحاح وفي بعض النسخ حتى يقعد بسكون القاف وضم العين من القعود أي عن الجهاد وفي بعضها يقفل بسكون القاف وضم الفاء من القفول بمعنى يرجع أي إلى وطنه ومنه القافلة تفاؤلا. قلت: والظاهر هي النسخة الأخيرة، ويؤيدها إنه هكذا نقلها السيوطي في الجامع الصغير وعلى المتقي في الكنز عن الشعب للبيهقي (ودعوة المريض حتى يبرأ) من علته أو يتعافى أو يموت (ودعوة الأخ لأخيه) في الدين (بظهر الغيب) أي بحيث لا يشعر وإن كان حاضرا في المجلس (وأسرع هذه الدعوات إجابة دعوة الأخ) لأخيه (بظهر الغيب) لدلالتها على خلوص النية وصفاء الطوية والبقية لا تخلو دعوتهم عن حظوظهم النفسية وأغراضهم الطبيعية، ولذا ورد الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم كذا في المرقاة (رواه البيهقي في الدعوات الكبير) وكذا في شعب الإيمان كما في الجامع الصغير والكنز والله أعلم بحال إسناده.
(1) باب ذكر الله عزوجل والتقرب إليه

(15/199)


(باب ذكر الله عزوجل) أي فضل ذكر الله (والتقرب إليه) أي التقرب بذكر الله إلى الله والمراد بالذكر هنا الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها والإكثار منها، مثل الباقيات الصالحات وهي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وما يلتحق بها من الحوقلة والبسملة والحسبلة والاستغفار ونحو ذلك والدعاء بخير الدنيا والآخرة. ويطلق ذكر الله أيضا ويراد به المواظبة على العمل بما أوجبه أو ندب إليه كتلاوة القرآن وقراءة الحديث ومدارسة العلم والتنفل بالصلاة. ثم الذكر يقع تارة باللسان ويوجر عليه الناطق ولا يشترط استحضاره لمعناه، ولكن يشترط أن لا يقصد به غير معناه وإن إنضاف إلى النطق الذكر بالقلب فهو أكمل فإن إنضاف إلى ذلك استحضار معنى الذكر وما اشتمل عليه من تعظيم الله تعالى ونفي النقائص عنه ازداد كمالا، فإن وقع ذلك في عمل صالح مهما فرض من صلاة أو جهاد أو غيرهما ازداد كمالا، فإن صحح التوجه وأخلص لله تعالى في ذلك فهو أبلغ الكمال قاله الحافظ. وقال الفخر الرازي: المراد بذكر اللسان الألفاظ الدالة على التسبيح والتحميد والتمجيد والذكر بالقلب التفكر في أدلة الذات والصفات وفي أدلة التكاليف من الأمر والنهي حتى يطلع على أحكامها وفي أسرار مخلوقات الله، والذكر بالجوارح هو أن تصير مستغرقة في الطاعات ومن سمي الله تعالى الصلاة ذكرا فقال: ?فاسعوا إلى ذكر الله? [الجمعة: 9] ونقل عن بعض العارفين. قال: الذكر على سبعة إنحاء فذكر العينين بالبكاء، وذكر الأذنين بالإصغاء، وذكر اللسان بالثناء، وذكر اليدين بالعطاء، وذكر البدن بالوفاء وذكر القلوب بالخوف والرجاء وذكر الروح بالتسليم والرضا. وقال القاضي عياض: ذكر القلب نوعان: أحدهما، وهو أرفع الأذكار وأجلها الفكر في عظمة الله وجلاله وجبروته وملكوته وآياته في سماواته وأرضه، ومنه حديث خير الذكر الخفي (أخرجه أحمد وأبويعلى من حديث سعد بن أبي وقاص ذكره الهيثمي

(15/200)


(ج10ص81) مع الكلام عليه) والمراد به هذا، والثاني ذكره بالقلب عند الأمر والنهي فيمتثل ما أمر به ويترك ما نهى عنه، ويقف عما أشكل عليه. وأما ذكر اللسان مجردا فهو أضعف الأذكار ولكن فيه فضل عظيم كما جاءت به الأحاديث، قال وذكر ابن جرير الطبري وغيره اختلاف السلف في ذكر القلب واللسان أيهما أفضل. قال القاضي: والخلاف عندي إنما يتصور في مجرد ذكر القلب تسبيحا وتهليلا وشبههما، وعليه يدل كلامهم لا أنهم مختلفون في الذكر الخفي الذي ذكرناه أولا فذلك لا يقاربه ذكر اللسان فكيف يفاضله، وإنما الخلاف في ذكر القلب بالتسبيح المجرد ونحوه. والمراد بذكر اللسان مع حضور القلب فإن كان لاهيا فلا خلاف في فضل الذكر بالقلب حينئذ، واحتج من رجح ذكر القلب وحده بأن عمل السر أفضل. ومن رجح ذكر اللسان أي
?الفصل الأول?
2283- 2284- (1- 2) عن أبي هريرة، وأبي سعيد، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة،

(15/201)


مع حضور القلب قال: لأن العمل فيه أكثر لأنه زاد باستعمال اللسان فاقتضى زيادة أجر. قال النووي والصحيح أن ذكر اللسان مع حضور القلب أفضل من القلب وحده. وقال ابن القيم في الوابل الصيب. الذكر يكون بالقلب واللسان تارة وذلك أفضل الذكر وبالقلب وحده تارة، وهي الدرجة الثانية، وباللسان وحده تارة وهي الدرجة الثالثة، فأفضل الذكر ما تواطأ عليه القلب واللسان. وإنما كان ذكر القلب وحده أفضل من ذكر اللسان وحده لأن ذكر القلب يثمر المعرفة ويهيج المحبة ويثير الحياء ويبعث على المخافة ويدعوا إلى المراقبة ويزع عن التقصير في الطاعات والتهاون في المعاصي والسيئات وذكر اللسان وحده لا يوجب شيئا من هذه الآثار وإن أثمر شيئا منها فثمرة ضعيفة – انتهى. قال النووي في الأذكار: فضيلة الذكر غير منحصرة في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحوها، بل كل عامل لله تعالى بطاعة فهو ذاكر لله تعالى كذا قاله سعيد بن جبير وغيره من العلماء. وقال عطاء: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام كيف تشتري وتبيع وتصلي وتصوم وتنكح وتطلق وتحج وأشباه هذا. وقال ابن حجر: مجالس الذكر مجالس سائر الطاعات، ومن قال: هي مجالس الحلال والحرام أراد التنصيص على أخص أنواعه. وقال النووي: أيضا الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها واجبة كانت أو مستحبة لا يحسب شيء منها ولا يعتد به حتى يتلفظ به بحيث يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع لا عارض له. قال القاري: ومقصودة الحكم الفقهي وهو أنه إذا قرأ في باطنه حال القراءة أو سبح بلسان قلبه حال الركوع والسجود لا يكون آتيا بفرض القراءة وسنة التسبيح لا أن الذكر القلبي لا يترتب عليه الثواب الأخروي هذا، وقد ورد الذكر القرآن على عشرة أوجه يدل كل واحد منها على أهميته وغاية عظمته، وقد سردها ابن القيم في مدارج السالكين وقال في الوابل الصيب بعد سرد، الأحاديث في فضل الذكر: وفي الذكر أكثر من مائة فائدة، ثم ذكر منها تسعا

(15/202)


وسبعين فائدة مع البسط من أحب الوقوف على ذلك رجع إلى هذين الكتابين.
2283- 2284- قوله: (لا يقعد قوم يذكرون الله) قال ابن حجر: التعبير بالقعود للغالب كما هو ظاهر لأن المقصود حبس النفس على ذكر الله مع الدخول في عداد الذاكرين لتعود عليه بركة أنفاسهم ولحظ إيناسهم - انتهى. وقيل: فيه إشارة إلى أن القعود أحسن هيئات الذكر لدلالته على جميعه الحواس الظاهرة والباطنة. وقيل: هو كناية عن الاستمرار ومداومة الأذكار (إلا حفتهم) بتشديد الفاء أي أحاطت بهم (الملائكة) أي
وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة،

(15/203)


الذين يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر (وغشيتهم) بكسر الشين أي غطتهم (الرحمة) الخاصة بالذاكرين. قال السندي: أي غطتهم الرحمة من كل جانب إذ الغشيان يستعمل فيما يشمل المغشي من جميع جوانبه. وقال الشوكاني: "قوله حفتهم الملائكة" أي أحدقت بهم واستدارت عليهم، ومعنى غشتهم الرحمة سترتهم من التغشي بالثواب. (ونزلت عليهم السكينة) أي الطمأنينة والوقار لقوله تعالى: ?ألا بذكر الله تطمئن القلوب? [الرعد: 28] ومنه قوله تعالى: ?هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم? [الفتح:4] وقيل: المراد بالسكينة الرحمة ويرد ذلك عطفها على قوله غشيتهم الرحمة. وقيل: أنها الملائكة وقيل: هي ما يحصل به السكون وقوة القلب وذهاب الظلمة النفسانية. وقال ابن القيم في مدارج السالكين: وقد ذكر الله تعالى السكينة في كتابه في ستة مواضع الأول قوله تعالى: ?وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم? [البقرة: 248] الثاني قوله تعالى: ?ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين? [التوبة:26] الثالث قوله تعالى: ?إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها? [التوبة: 40] الرابع ?هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السموات والأرض وكان الله عليما حكيما? [الفتح: 4] الخامس قوله تعالى: ?لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا? [الفتح: 18] السادس قوله تعالى: ?إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين? الآية [الفتح: 26] وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا اشتدت عليه الأمور قرأ آيات السكينة وقد جربت أنا أيضا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب فرأيت لها تأثيرا عظيما في سكونه وطمأنينته. وأصل

(15/204)


السكينة هي الطمأنينة والوقار والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده عند اضطرابه من شدة المخاوف فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه ويوجب له زيادة الإيمان وقوة اليقين والثبات ولهذا أخبر سبحانه وتعالى عن إنزالها على رسوله وعلى المؤمنين في مواضع القلق والاضطراب كيوم الهجرة إذ هو وصاحبه في الغار والعدو فوق رؤسهما لو نظر أحدهم إلى ما تحت قدميه لرآهما وكيوم حنين إذ ولو مدبرين من شدة بأس الكفار لا يلوي أحد منهم على أحد وكيوم الحديبية حين اضطربت قلوبهم من تحكم الكفار ودخولهم تحت شروطهم التي تحملها النفوس وحسبك بضعف عمر عن حملها وهو عمر حتى ثبته الله بالصديق. قال ابن عباس: كل سكينة في القرآن فهي طمأنينة إلا التي في سورة البقرة. ثم بين ابن القيم الفرق بين السكينة والطمأنينة فقال الفرق بينهما إن السكينة صولة تورث خمود الهيبة الحاصلة في القلب وذلك في بعض الأوقات فليس حكما دائما مستمرا، وهذا يكون لأهل الطمأنينة دائما ويصحبه الأمن والإنس والاستراحة.
وذكرهم الله فيمن عنده)). رواه مسلم.
2285- (3) وعن أبي هريرة، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسير في طريق مكة، فمر على جبل يقال له: جمدان، فقال: سيروا، هذا جمدان، سبق المفردون.

(15/205)


والفرق الثاني إن السكينة تكون نعتا لا تزول وقد تكون حينا بعد حين. وأما الطمأنينة فهي لا تفارق صاحبها، والفرق الثالث إن السكينة بمنزلة من واجهه عدو يريد هلاكه فهرب منه عدوه فسكن روحه، والطمأنينة بمنزلة حصن رآه مفتوحا فدخله وأمن فيه وتقوى بصاحبه وعدته – انتهى. (وذكرهم الله) أي مباهاة وافتخارا بهم بما يعظم به شأنهم ويرتفع به مكانهم من الثناء الجميل عليهم ووعد الجزاء الجزيل لهم (فيمن عنده) أي من الملائكة المقربين الذين كانوا يدعون لأنفسهم التسبيح والتقديس ولبني آدم الفساد وسفك الدماء ووجه المفاخرة بهم أنهم مع موانعهم من النفس والشيطان وسائر العلائق والعوائق لا يغفلون عن ذكره ويقومون بوظيفة شكره. وفي الحديث ترغيب عظيم للاجتماع على الذكر، فإن هذه الأربع الخصائص في كل واحدة منها على انفرادها ما يثير رغبة الراغبين ويقوى عزم الصالحين على ذكر رب العالمين. ووقع في حديث أبي هريرة عند مسلم من وجه آخر ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة الخ. قال النووي: في هذا دليل لفضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد وهو مذهبنا ومذهب الجمهور. وقال مالك: يكره. وتأوله بعض أصحابه ويلتحق بالمسجد في تحصيل هذه الفضيلة الاجتماع في مدرسة ورباط ونحوهما إنشاء الله ويدل عليه الحديث الذي بعده يعني الذي نحن في شرحه، فإنه مطلق يتناول جميع المواضع ويكون التقييد في هذا الحديث خرج على الغالب لا سيما في ذلك الزمان فلا يكون له مفهوم يعمل به – انتهى. (رواه مسلم) في الدعوات وكذا الترمذي وابن ماجه ونسبه الشوكاني في تحفة الذاكرين لأحمد وأبي داود الطيالسي وعبد بن حميد وأبي يعلى وابن حبان وابن أبي شيبة وابن شاهين في الترغيب في الذكر أيضا.

(15/206)


2285- قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة) يحتمل أن يكون ذاهبا إلى مكة أو راجعا إلى المدينة (فمر على جبل يقال له جمدان) بضم الجيم وسكون الميم وفي آخره نون جبل على ليلة من المدينة (فقال سيروا) أي سيرا حسنا مقرونا بذكر وحضور وشكر وسرور (هذا جمدان) ومع جماديته يشعر بذكر الرحمن ويستبشر بمن مر عليه من أرباب العرفان، كما ورد أن الجبل ينادي الجبل باسمه أي فلان هل مربك أحد ذكر الله فإذا قال نعم استبشر، رواه الطبراني عن ابن مسعود من قوله. قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح (سبق المفردون) قال الجزري: هو بضم الميم وفتح الفاء وكسر الراء مشددة كذا روينا وضبطنا
قالوا: وما المفردون؟ يا رسول الله! قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات)). رواه مسلم.

(15/207)


عن شيوخنا. وقال النووي في شرح مسلم: بفتح الفاء وكسر الراء المشددة هكذا نقله القاضي عن متقنى شيوخهم وذكر غيره أنه روى بتخفيفها وإسكان الفاء. وقال في الأذكار: روي المفردون بتشديد الراء وتخفيفها والمشهور الذي قاله الجمهور التشديد، يقال فرد الرجل في رأيه وأفرد وفرد واستفرد كله بمعنى أي استقل به وتخلى بتدبيره. والمراد به الذين تفردوا بذكر الله تعالى وانفردوا واعتزلوا عن الناس للتعبد. وقيل: هم الذين هلك أترابهم من الناس وذهب القرن الذين كانوا فيه وانفردوا عنهم وبقوا بعدهم يذكرون الله تعالى، وقال ابن الإعرابي: يقال فرد الرجل إذ اتفقه واعتزل الناس وخلا بمراعاة الأمر والنهي (قالوا) أي بعض الصحابة (وما المفردون) أي من هم "فما" بمعنى من كما في قوله تعالى: ?والسماء وما بناها? [الشمس: 5] والواو رابطة بين السؤال والجواب. وقيل: الواو للعطف على محذوف كأنهم قالوا: لا نعلم المفردين ونقول ما المفردون. وقيل: الواو زائدة للتحسين، قال التوربشتي: فإن قيل لم قالوا ما المفردون؟ ولم يقولوا من المفردون؟ قلنا: لأنهم فتشوا عن معرفة معنى هذا اللفظ عند الإطلاق ما هو المراد منه لا تعيين المتصفين به وتعريف أشخاصهم يعني أن السؤال عن الصفة أي التفريد أو الإفراد فأجاب صلى الله عليه وسلم بأن التفريد الحقيقي المتعبد هو تفريد النفس بذكر الله تعالى. وقيل: الأظهر إن "ما" ههنا تغليب غير ذوي العقول لكثرتهم على ذوي العقول لقلتهم لما حرر في محله أن الأشياء كلها له حظ من الذكر والتسبيح ومعرفة الرب والخشية منه (الذاكرون الله كثيرا) أي ذكرا كثيرا. واختلف في تفسير الكثرة. فقال ابن عباس: كثرة الذكر يحصل بالذكر في أدبار الصلاة والغدو والعشي وفي المضاجع وكلما استيقظ من نومه وكلما غدا أو راح من منزله. وقال مجاهد: يحصل بذكره قياما وقعودا واضطجاعا. وقال عطاء: بإقامة الصلوات الخمس مع حقوقها، وسأل ابن

(15/208)


الصلاح عن ذلك فقال: بالمواظبة على الأذكار المأثورة المثبتة صباحا ومساءا في الأوقات والأحوال المختلفة ليلا ونهارا وهي مبينة في كتاب عمل اليوم والليلة وهذه الأقوال ذكرها النووي في الأذكار (والذاكرات) قال النووي: تقديره والذاكراته فحذفت الهاء هنا كما حذفت في القرآن لمناسبة رؤس الآي، ولأنه مفعول يجوز حذفه (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي والحاكم (ج1ص495) ولفظ الترمذي في الجواب. قال المستهترون في ذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون يوم القيامة خفافا، والمستهترون بضم الميم وفتح التاءين. قال في جامع الأصول: المستهتر بالشي المولع به المواظب عليه عن حب ورغبة فيه. وقال في النهاية: يقال أهتر فلان بكذا واستهتر فهو مهتر به ومستهتر أي مولع به لا يتحدث بغيره ولا يفعل غيره – انتهى. وقال المنذري: المستهترون بذكر الله هم المولعون به المداومون عليه لا يبالون ما قيل فيهم ولا ما فعل بهم. وقال ابن القيم في
2286- (4) وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر، مثل الحي والميت)). متفق عليه.

(15/209)


الوابل الصيب: اهتر بالشي يرفعه وفيه أولع به ولزمه وجعله دأبه وكذا استهتر فيه وبه أي الذين أولعوا بذكر الله وفيه تفسير آخر إن اهتروا في ذكر الله أي كبروا وهلك أقرانهم وهم في ذكر الله يقال اهتر الرجل فهو مهتر إذا سقط في كلامه من الكبر. والهتر السقط من الكلام كأنه بقي في ذكر الله حتى خرف وأنكر عقله والهتر الباطل أيضا ورجل مستهتر إذا كان كثير الأباطيل، وحقيقة اللفظ إن الاستهتار الاستكثار من الشيء والولوع به حقا كان أو باطلا، وغلب استعماله على المبطل حتى إذا قيل فلان مستهتر لا يفهم منه إلا الباطل. وإنما إذا قيد بشي تقيد به نحو هو مستهتر، وقد اهتر في ذكر الله أي أولع به وأغرى به. ويقال استهتر فيه وبه - انتهى. والحديث رواه الطبراني في الكبير عن أبي الدرداء وفيه ضعف.

(15/210)


2286- قوله: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر) زاد أبوذر بعد هذه ربه (مثل الحي والميت) بفتح الميم والمثلثة في مثل في الموضعين. وهو لف ونشر مرتب شبه الذاكر بالحي الذي ظاهره متزين بنور الحياة وإشراقها فيه، وبالتصرف التام فيما يريده وباطنه بنور العلم والفهم والإدراك كذلك الذاكر مزين ظاهره بنور العلم والطاعة، وباطنه بنور العلم والمعرفة فقلبه مستقر في حظيرة القدس، وسره في مخدع الوصل. وغير الذاكر عاطل ظاهره وباطل باطنه. وقيل: موقع التشبيه بالحي والميت لما في الحي من النفع لمن يواليه والضرر لمن يعاديه وليس ذلك في الميت، وفي هذا التمثيل منقبة للذاكر جليلة وفضيلة له نبيلة وإنه بما يقع منه من ذكر الله عزوجل في حياة ذاتية وروحية لما يغشاه من الأنوار ويصل إليه من الأجور كما أن التارك للذكر، وإن كان في حياة ذاتية فليس لها اعتبار بل هو شبيه بالأموات الذين لا يفيض عليهم بشي مما يفيض على الإحياء المشغولين بطاعة الله عزوجل ومثل ما في هذا الحديث قوله تعالى ?أو من كان ميتا فأحييناه? [الأنعام: 123] والمعنى تشبيه الكافر بالميت وتشبيه الهداية إلى الإسلام بالحياة (متفق عليه) واللفظ للبخاري أخرجه في كتاب الدعوات ورواه مسلم في كتاب الصلاة (في باب استحباب صلاة النافلة في بيته) بلفظ: مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت، وكذا أخرجه الإسماعيلي وابن حبان في صحيحه وأبوعوانة فلعل البخاري رواه بالمعنى، فإن الذي يوصف بالحياة والموت حقيقة هو الساكن لا المسكن وإن إطلاق الحي والميت في وصف البيت إنما يراد به ساكن البيت فهو من باب ذكر المحل وإرادة الحال. وقيل: معنى قوله "مثل الحي والميت، وفي رواية مسلم أي مثل قلبهما أو مثل مكانهما ولذا ورد لا تجعلوا بيوتكم قبورا أي خالية عن الذكر.

(15/211)


2287- (5) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي،
2287- قوله: (أنا عند ظن عبدي) المؤمن (بي) قال الطيبي: أخذا عن التوربشتي الظن لما كان واسطة بين الشك واليقين استعمل تارة بمعنى اليقين، وذلك إن ظهرت إماراته وتارة بمعنى الشك إذا ضعفت علاماته، وعلى المعنى الأول قوله تعالى: ?الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم? [البقرة:46] أي يوقنون على ربهم المعنى الثاني قوله تعالى: ?وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون? [القصص: 39] أي توهموا، والظن في الحديث يجوز إجراءه على ظاهره، ويكون المعنى أنا أعامله على حسب ظنه بي وأفعل به ما يتوقعه مني من خير أو شر. والمراد الحث على تغليب الرجاء على الخوف وحسن الظن بالله كقوله عليه الصلاة والسلام (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله، ويجوز أن يراد بالظن اليقين والمعنى أنا عند يقينه بي وعلمه بأن مصيره إلي وحسابه علي وإن ما قضيت به له أو عليه من خير أو شر لا مرد له لا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت – انتهى. وقال القرطبي في المفهم: قيل معنى ظن عبدي بي ظن الإجابة عند الدعاء وظن القبول عند التوبة وظن المغفرة عند الاستغفار وظن المجازاة عند فعل العبادة بشروطها تمسكا بصادق وعده قال، ويؤيده في الحديث الآخر ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة قال ولذلك ينبغي للمرأ أن يجتهد في القيام بما عليه موقنا بأن الله يقبله ويغفر له لأنه وعد بذلك وهو لا يخلف الميعاد، فإن اعتقد أو ظن إن الله لا يقبلها وإنها لا تنفعه فهذا هو اليأس من رحمة الله وهو من الكبائر، ومن مات على ذلك وكل إلى ما ظن كما في بعض طرق الحديث المذكور فليظن بي عبدي ما شاء. قال وأما ظن المغفرة مع الإصرار على المعصية فذلك محض الجهل والعزة وهو يجر إلى مذهب المرجئة – انتهى. قلت: تغليب الرجاء وترجيحه على الخوف قيده بعض أهل التحقيق بالمحتضر. قال الحافظ: ويؤيد ذلك حديث لا

(15/212)


يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله وهو عند مسلم من حديث جابر، وأما قبل ذلك فأقول ثالثها الاعتدال. وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين في شرح هذا الحديث: فعلى العبد أن يكون حسن الظن بربه في جميع حالاته ويستعين على تحصيل ذلك باستحضار ما ورد من الأدلة الدالة على سعة رحمة الله سبحانه وتعالى في الكتاب والسنة. وقال ابن عباد: حسن الظن يطلب من العبد في أمر دنياه وفي أمر آخرته. أما أمر دنياه فأن يكون واثقا بالله تعالى في إيصال المنافع والمرافق إليه من غير كد أو بسعي خفيف مأذون فيه ومأجور عليه، وبحيث لا يفوته ذلك شيئا من فرض ولا نفل فيوجب له ذلك سكونا وراحة في قلبه وبدنه فلا يستفزه طلب ولا يزعجه سبب. وأما أمر آخرته فإن يكون قوى الرجاء في قبول أعماله الصالحة وتوفية أجوره عليها في دار الجزء فيوجب له ذلك المبادرة لإمثتال الأمر والتكثير من أعمال البر يوجد أن حلاوة ونشاط ومن مواطن حسن الظن بالله تعالى التي لا ينبغي
وأنا معه

(15/213)


للعبد أن يفارقه فيها أوقات الشدائد والمحن، وحلول المصائب في الأهل والمال والبدن لئلا يقع بعدم ذلك في الجزع والسخط. وقيل: الظن تغليب أحد المجوزين بسبب يقتضي التغليب فلو خلا عن السبب المغلب لم يكن ظنا بل عرة وتمنيا، والمعنى المشهور أنا له كما يظن بي فإن ظن إني أصنع به خيرا صنعت به خيرا، وإن ظن إني أصنع به شرا صنعت به شرا. ويشكل على هذا نصوص كثيرة كقوله تعالى: ?يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا? [الأعراف: 169] وقوله تعالى: ?وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون? [الزمر: 47] وفي الحديث "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من اتبع نفسه هواه وتمنى على الله الأماني" وقد ورد في الأمن من مكر الله وقد جاءت نصوص كثيرة في مدح الخشية من الله عزوجل والخوف منه، وجاء عن أكابر الصحابة وخيار التابعين آثار كثيرة في شدة خوفهم، فمنهم من تمنى إن أمه لم تلده وإن كان شجرة تعضد، والقاعدة في هذا إن المحمود أن يكون العبد بين الخوف والرجاء ولا يبلغ به الخوف أن ييأس من رحمة الله عزوجل ولا يبلغ به الرجاء أن يأمن من مكره، وعلامة ذلك أن يكون دائبا في عمل الخير واجتناب الشر فإن من أيس من رحمة الله فلا يبعد أن يدع ذلك قائلا أنا معذب في الآخرة لا محالة لكثرة ذنوبي فلماذا امنع نفسي هواها فأعذبها في الدنيا بترك شهواتها؟ ومن أمن مكر الله تعالى قال إنه ناج لا محالة فلا يضره أن يتبع نفسه هواها ولم يخلق الله شيئا إلا للبشر ويقرأ ?قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق? [الأعراف: 32] وينسى إن قليلة يدعوا إلى كثيرة والاسترسال إلى الحلال الكثير يعسر عليه الاجتناب من الحرام فيغلب فيجترىء على ما لم يكن له أن يجترىء عليه ويقول إنا مؤمن وكل مؤمن حبيب الله ومن شأن المحبوب أن لا يمنع محبة ما تهواه نفسه ولا يكلفه ما يشق عليه وأشباه ذلك. وقد أجيب بأن الحديث خاص بحال لاحتضار فالمؤمن

(15/214)


المحسن يبدو له من مبشرات تضطره إلى ظن الخير، وإن كان قبل ذلك من أشد الخائفين وغيره يبدو له من المنذرات ما يضطره إلى ظن سوء مصيره، وإن كان قبل ذلك آمنا من مكر الله وهذا كما حمل حديث إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه، وفيه إن لفظ الحديث عام فالتخصيص بلا دليل لا يجوز، وقد يقال أن المراد بالعبد المؤمن الصالح كما تشعر الإضافة في قوله عبدي فهو الذي يكون الله عزوجل عند ظنه به إذ لا يظن به إلا الخير والحق وهو أهل أن لا يخيب رجاءه كما جاء في من لو أقسم على الله لأبره والله اعلم كذا في شرح الأدب المفرد (وأنا معه) أي عونا ونصرا وتائيدا وتوفيقا وتحصيلا لمرامه وهو كقوله تعالى: ?إنني معكما أسمع وأرى? [طه: 46] وهي معية خصوصية أي معه بالرحمة والتوفيق والهداية والرعاية والإعانة فهي أخص من المعية التي في قوله تعالى: ?وهو معكم أينما كنتم? [الحديد: 4] وقوله ?ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم? [المجادلة: 7] فإن معناها المعية بالعلم والإحاطة. قال الشوكاني: هذه معية عامة وتلك معية خاصة حاصلة
إذا ذكرني. فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ. ذكرته

(15/215)


للذاكر على الخصوص بعد دخوله مع أهل المعية العامة، وذلك يقتضي مزيد العناية ووفور الإكرام له والتفضل عليه ومن هذه المعية الخاصة ما ورد في الكتاب العزيز من كونه مع الصابرين وكونه مع الذين اتقوا فلا منافاة بين إثبات المعية الخاصة وإثبات المعية العامة (إذا ذكرني) بلسانه أو قلبه أو بهما (فإن ذكرني) تفريع يفيد أنه تعالى مع الذاكر سواء ذكره في نفسه أو مع غيره (في نفسه) أي سرا وخفية وهو يحتمل أن يكون ذكرا قلبيا أو لسانيا إخفائيا، أي ذكرا شفاهيا على جهة السر دون الجهر، قال الشوكاني: ويدل على هذا الاحتمال الثاني قوله وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه فإنه يدل على أن العبد قد جهر بذكره سبحانه وتعالى بين ذلك الملأ الذي هو فيهم فيقابله الأسرار بالذكر باللسان لا مجرد الذكر القلبي فإنه لا يقابل الذكر الجهري بل يقابل مطلق الذكر اللساني أعم من يكون سرا أو جهرا (ذكرته في نفسي) أي في ذاتي من غير إطلاع أحد من مخلوقاتي أو المراد في غيبي أي إذا ذكرني خاليا أثبته وجازيته عما عمل بما لا يطلع عليه أحد وفيه جواز إطلاق النفس على الله تعالى باعتبار معنى الذات خلافا لمن منع وحمله على المشاكلة كما في قوله تعالى: ?تعلم ما في نفسي ولا اعلم ما في نفسك? [المائدة: 116] لكن يرد عليه قوله تعالى: ?ويحذركم الله نفسه? [آل عمران: 28] وقوله صلى الله عليه وسلم (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك). قال الحافظ: أي إن ذكرني بالتنزيه والتقديس سرا ذكرته بالثواب والرحمة سرا. وقال التوربشتي: الذكر من الله تعالى هو حسن قبوله والمجازاة له بالحسنى، فالمراد من قوله هذا إن العبد إذا ذكره في السر آتاه الله ثواب ذلك سرا على منوال عمله أي ويتولى بنفسه إثابته لا يكله إلى غيره. فإن قيل قد عرفنا فائدة الذكر الخفي من العبد وذلك أنه يكون من الآفات الداخلة على الأعمال بمعزل، ومن الإخلاص بمكان فما فائدة ذكر الله

(15/216)


تعالى عبده في الغيب؟ قلنا الاصطفاء والاستئثار فإن الله تعالى إنما يدع علم الشيء بمكان من الغيب استئثارا به واصطفاء له وفيه أيضا صيانة سر العبد عن إطلاع الملأ الأعلى عليه وتوقي عمله عن إحاطة علم الخلق بكنه ثوابه، وفيه أيضا تنبيه على كون العبد من الله بمكان تكنه الغيرة عن الأغيار (وإن ذكرني في ملأ) بفتح الميم واللام مهموز أي مع جماعة من المؤمنين أو في حضرتهم. قال الجزري: الملأ أشراف الناس ورؤساؤهم ومقدموهم الذين يرجع إلى أقوالهم. وفيه دليل على جواز الذكر بالجهر. واختلفوا في ذلك فمنهم من منعه مطلقا، ومنهم من جوزه مطلقا، ومنهم من فصل كصاحب الفتاوى الخيرية، فقال إن كان الجهر مفرطا منع عنه وإلا جاز، نعم السر أفضل من الجهر لكنه أمر آخر وهذا هو المعتمد عند محققي الحنفية (ذكرته) قال الشوكاني: معناه إن الله يجعل ثواب ذلك الذكر بمرأى ومسمع من ملائكته أو يذكره عندهم بما يعظم به شأنه ويرتفع به مكانه ولا مانع من أن يجمع بين الأمرين. وقيل: المراد منه مجازاة العبد بأحسن مما …
في ملأ خير منهم)). متفق عليه.
2288- (6) وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: ?من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها?

(15/217)


جاء به وأفضل مما يقرب به إلى ربه (في ملأ خير منهم) أي من ملأ الذاكرين وهم الملأ الأعلى ولا يلزم منه تفضيل الملائكة على بني آدم كما ذهب إليه المعتزلة لاحتمال أن يكون المراد بالملأ الذين هم خير من ملأ الذاكرين الأنبياء والشهداء فلم ينحصر ذلك في الملائكة وأيضا فإن الخيرية إنما حصلت بالذاكر والملأ معا فالجانب الذي فيه رب العزة خير من الجانب الذي ليس هو فيه بلا ارتياب فالخيرية حصلت بالنسبة للمجوع على المجموع، وهذا قاله الحافظ مبتكرا لكن قال إنه سبقه إلى معناه الكمال بن الزملكاني في الجزء الذي جمعه في الرفيق الأعلى. وقال الطيبي: الملأ الموصوف بأنه خير منهم هم الملائكة المقربون وأرواح المرسلين فلا دلالة على كون الملائكة أفضل من البشر. قال في اللمعات: والأحسن أن يقال الخيرية من جهة النزاهة والتقدس والعلو، وهي لا تنافي أفضلية البشر من جهة كثرة الثواب على الطاعة مع وجود الموانع والعوارض الجسمانية. وقال ابن الملك: اختلف هل البشر خير من الملائكة أم لا، رجح كلا مرجحون. قيل: والمختار إن خواص البشر كالأنبياء خير من خواص الملائكة كجبريل. وأما عوام البشر فليسوا بخير من الملائكة أصلا فقوله في ملأ خير منهم أي خير منهم حالا فإن حال الملائكة خير من حال الإنس في الجد والطاعة قال الله تعالى: ?لا يعصون الله ما أمرهم? [التحريم: 6] وأحوال المؤمنين مختلفة بين طاعة ومعصية وجد وفترة – انتهى. قلت: قد بسط الحافظ الكلام في ذكر الاختلاف في ذلك مع سرد أدلة قول أهل السنة وقول المعتزلة من شاء الوقوف على ذلك رجع إلى الفتح (متفق عليه) أخرجه البخاري في التوحيد، ومسلم في الذكر والدعاء. وتمام الحديث (وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة). وقد أخرجه أيضا أحمد (ج2ص251) والترمذي في الزهد والنسائي في الكبرى وابن ماجه في ثواب التسبيح، وروى البزار عن

(15/218)


ابن عباس. قال المنذري: بإسناد صحيح مرفوعا قال: قال الله تبارك وتعالى: (يا ابن آدم إذا ذكرتني خاليا ذكرتك خاليا وإذا ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير من الذين تذكرني فيهم).
2288- قوله: (من جاء بالحسنة) أي جاء بها يوم القيامة غير مبطلة ولذا لم يقل من فعل الحسنة، والمراد بفرد من أفرادها أي فرد كان والمعنى من جاء يوم القيامة متلبسا بها متصفا بأنه قد عملها في الدنيا (فله عشر أمثالها) أي ثواب عشر حسنات أمثالها حذف المميز الموصوف وأقيم الصفة مقامه فلا يعترض بأن
وأزيد. ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر. ومن تقرب مني شبرا، تقربت منه ذراعا. ومن تقرب مني ذراعا، تقربت منه باعا. ومن أتاني يمشي أتيته هرولة.

(15/219)


الأمثال جمع مثل وهو مذكر فكان قياسه عشرة بالتاء على القاعدة، والجواب إن المعدود محذوف وهو موصوف أمثالها، والحسنات مؤنث فناسب تذكير العدد يعني أنه روعي في ذلك الموصوف المحذوف والتقدير فله عشر حسنات أمثالها، ثم حذف الموصوف وأقيم صفته مقامه وترك العدد على حاله ومثله مررت بثلاثة نسايات ألحقت في عدد المؤنث مرعاة للموصوف المحذوف إذا الأصل بثلاثة رجال نسايات. والحاصل إن له عشر مثوبات كل منها مثل تلك الحسنة في الكيفية وهذا أقل المضاعفة بمقتضى الواعد ولذا قال (وأزيد) بصيغة المتكلم أي لمن أريد الزيادة من أهل السعادة على عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وإلى أضعاف كثيرة. قال النووي: معناه إن التضعيف بعشر أمثالها لا بد منه بفضل الله ورحمته ووعده الذي لا يخلف والزيادة بعد بكثرة التضعيف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة يحصل لبعض الناس دون بعض على حسب مشيئته سبحانه وتعالى (ومن جاء بالسيئة) أي غير مكفرة (فجزاء سيئة مثلها) أي عدلا (أو أغفر) فضلا. قال الطيبي: اختص ذكر الجزاء بالثانية لأن ما يقابل العمل الصالح كله أفضال وإكرام من الله، وما يقابل السيئة فهو عدل وقصاص فلا يكون مقصودا بالذات كالثواب، فخص بالجزاء. وأما إعادة السيئة نكرة فلتنصيص معنى الوحدة المبهمة في السيئة المعرفة المطلقة وتقريرها. وأما معنى الواو في "وأزيد" فلمطلق الجمع إن أريد بالزيادة الرؤية كقوله تعالى: ?للذين أحسنوا الحسنى وزيادة? [يونس: 26] وإن أريد بها الأضعاف فالواو بمعنى "أو" التنويعية كما هي في قوله أو أغفر قال القاري: والأظهر ما قاله ابن حجر من أن العشر والزيادة يمكن اجتماعهما بخلاف جزاء مثل السيئة ومغفرتها فإنه لا يمكن اجتماعهما فوجب ذكرا والدال على أن الواقع أحدهما فقط ومن تقرب) أي طلب القربة (مني) أي بالطاعة (شبرا) أي مقدارا قليلا، قال الطيبي: شبرا وذراعا وباعا في الشرط والجزء منصوب على الظرفية أي من تقرب إلى

(15/220)


مقدار شبر (ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا) قال الباجي: الباع طول ذراعي الإنسان وعضديه وعرض صدره، وذلك قدر أربعة أذرع. وقيل: هو قدر مد اليدين وما بينهما من البدن (ومن أتاني) حال كونه (يمشي أتيته هرولة) هي الإسراع في المشي دون العدو. وقال الطيبي: هي حال أي مهرولا أو مفعول مطلق لأن الهرولة نوع من الإتيان فهو كرجعت القهقري لكن الحمل على الحال أولى لأن قرينه يمشي حال لا محالة قال النووي: هذا الحديث من أحاديث الصفات ويستحيل إرادة ظاهره (أي لأنه يقتضي قطع المسافات وتداني الأجسام وذلك في حقه تعالى محال) ومعناه من تقرب إلى بطاعتي تقربت إليه برحمتي والتوفيق والإعانة وإن
ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة)). رواه مسلم.
2289- (7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى قال: من عاد لي وليا

(15/221)


زاد زدت، فإن أتاني يمشي وأسرع في طاعتي أتيته هرولة أي صببت عليه الرحمة وسبقته بها ولم أحوجه إلى المشي الكثير في الوصول إلى المقصود، والمراد إن جزاءه يكون تضعيفه على حسب تقربه – انتهى. وكذا فسره الأعمش والراغب والجزري وابن بطال وابن التين والتوربشتي والطيبي والحافظ والعيني وغيرهم من أهل العلم قلت لا حاجة إلى هذا التأويل والتفسير والصواب أن يحمل هذا الحديث كأمثاله على ظاهره فنؤمن به على ما يليق بعظمة الله تعالى كالمجيء والنزول ونحوهما وربنا ليس كمثله شيء وهو السميع البصير والله اعلم (ومن لقيني بقراب الأرض) بضم القاف على المشهور وبكسر أي بمثلها وقدرها. مأخوذ من القرب. وقال الجزري في النهاية: أي بما يقارب ملأها وهو مصدر قارب يقارب (خطيئة) تمييز (لا يشرك بي) حال من فاعل لقيني العائد إلى من (شيئا) مفعول مطلق أو مفعول به (لقيته بمثلها مغفرة) أي إن أردت ذلك له لقوله تعالى: ?ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء? [النساء: 48] ونكته حذفه في الحديث استغناء بعلمه منها ومبالغة في سعة باب الرحمة. قال الطيبي: المقصود من الحديث دفع اليأس بكثرة الذنوب فلا ينبغي أن يغتر في الاستكثار من الخطايا. قال ابن الملك: فإنه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولا يعلم إنه من أيهم – انتهى. وهذا المقصود من آخر الحديث. وأما أوله ففيه الترغيب والتحثيث على المجاهدة في الطاعة والعبادة دفعا للتكاسل والقصور. واعلم أنه قلما يوجد في الأحاديث حديث أرجى من هذا الحديث فإنه صلى الله عليه وسلم رتب قوله لقيته بمثلها مغفرة على عدم الإشراك بالله فقط، ولم يذكر الأعمال الصالحة لكن لا يجوز لأحد أن يغتر ويقول إذا كان كذلك فأكثر الخطيئة حتى يكثر الله المغفرة. وإنما قال تعالى ذلك كيلا ييأس المذنبون من رحمته ولا شك إن لله مغفرة وعقوبة ومغفرته أكثر ولكن لا يعلم إنه من المغفورين أو من المعاقبين فإذن ينبغي للمؤمن أن يكون بين الخوف والرجاء كذا

(15/222)


في المرقاة (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص148- 153- 155- 169- 180) وابن ماجه.
2289- قوله: (من عادى) أي آذى ففي رواية لأحمد في الزهد من حديث عائشة من آذى لي وليا (لي) هو في الأصل صفة لقوله وليا لكنه لما تقدم صار حالا (وليا) الولي المحب والناصر والحافظ وكل من يتولى. أمر أحد. قال الحافظ والعيني: المراد بولي الله العالم بالله المواظب على طاعته المخلص في عبادته. وقال القسطلاني
فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشي أحب إلي مما افترضت عليه،

(15/223)


فعيل بمعنى مفعول وهو من يتولى الله تعالى أمره قال تعالى وهو يتولى الصالحين ولا يكله إلى نفسه لحظة بل يتولى الحق رعايته أو هو فعيل مبالغة من الفاعل وهو الذي يتولى عبادة الله وطاعته فعبادته تجري على التوالي من غير أن يتخللها عصيان، وكلا الوصفين واجب حتى يكون الولي وليا بحسب قيامه بحقوق الله على الاستقضاء والاستبقاء ودوام حفظ الله إياه في السراء والضراء، ومن شرط الولي أن يكون محفوظا كما أن من شرط النبي أن يكون معصوما. قال القشيري: والمراد بكون الولي محفوظا أن يحفظه الله تعالى عن تماديه في الزلل والخطأ إن وقع فيهما بأن يلهمه التوبة فيتوب منهما وإلا فهما لا يقدحان في ولايته – انتهى. وقد استشكل وجود أحد يعادي الولي لأن المعاداة من باب المتفاعلة التي تقع من الجانبين، ومن شأن الولي الحلم والاجتناب عن المعاداة والصفح عمن يجهل عليه. وأجيب بأن المعاداة لم تنحصر في الخصومة والمعاملة الدنيوية مثلا، بل قد تقع عن بغض ينشأ عن التعصب كالرافضي في بغضه لأبي بكر والمبتدع في بغضه للسني فتقع المعاداة من الجانبين. أما من جانب الولي فلله تعالى وفي الله، وأما من جانب الآخر فظاهر وكذا الفاسق المتجاهر يبغضه الولي في الله ويبغضه الآخر لإنكاره عليه وملازمته لنهيه عن شهواته. وقيل لا يحتاج إلى هذا التكلف فإذا قلنا إن الفاعل يأتي بمعنى فعل كما في قوله تعالى: ?وسارعوا إلى مغفرة من ربكم? [آل عمران: 133] بمعنى أسرعوا حصل الجواب ويؤيد هذا قوله من آذى لي وليا كما تقدم (فقد آذنته) بمد الهمزة وفتح المعجمة بعدها نون أي أعلمته من الإيذان وهو الأعلام (بالحرب) أي بمحاربتي إياه ووقع في حديث عائشة من عادى لي وليا فقد استحل محاربتي وفي حديث معاذ عند ابن ماجه وأبي نعيم كما في الفتح فقد بارز الله بالمحاربة، وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني والبيهقي. وحديث أنس عند أبي يعلى والبزار فقد باوزني. وقد استشكل وقوع

(15/224)


المحاربة وهي مفاعلة من الجانبين والمخلوق في أسر الخالق. والجواب إنه من المخاطبة بما يفهم فإن غاية الحرب الهلاك والله لا يغلبه غالب، فكان المعنى فقد تعرض لإهلاكي إياه فأطلق الحرب وأراد لازمه أي أعمل به ما يعمله العدو المحارب. قال الفاكفاني: هذا تهديد شديد لأن من حاربه الله أهلكه وهو من المجاز البليغ لأن من كره من أحب الله خالف الله ومن خالف الله عانده ومن عانده أهلكه، وإذا ثبت هذا في جانب المعاداة ثبت في جانب الموالاة فمن والى أولياء الله أكرمه الله (وما تقرب إلي عبدي) أي المؤمن (بشي) أي من الطاعة (أحب إلي) بفتح أحب صفة لقوله بشي فهو مفتوح في موضع جر وبالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أحب (مما افترضت عليه) سواء كان عينا أو كفاية ظاهرا أو باطنا ويستفاد منه إن أداء الفرائض أحب الأعمال إلى الله وإن قرب العبد إلى ربه بأداء الفرائض أتم وأكمل مما يحصل بأداء النوافل لأن انعزل العبد عن اختياره في امتثال الأمر أشد في أداء الفرائض فإن النوافل يهديها العبد إلى الرب بالاختيار والتبرع، ويحصل في الأول فناء الذات، وفي الثاني فناء الصفات
وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحببته، فإذا أحببته فكنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها،

(15/225)


قال الطوفي: الأمر بالفرائض جازم ويقع بتركها المعاقبة بخلاف النفل في الأمرين، وإن اشترك مع الفرائض في تحصيل الثواب فكانت الفرائض أكمل فلهذا كانت أحب إلى الله تعالى وأشد تقريبا وأيضا الفرض كالأصل والأس والنفل كالفرع والبناء وفي الإتيان بالفرائض على الوجه المأمور به امتثال الأمر واحترام الأمر وتعظيمه بالانقياد إليه وإظهار عظمة الربوبية وذل العبودية فكان التقرب بذلك أعظم العمل (وما يزال) بلفظ المضارع وفي رواية وما زال (عبدي) أي القائم بالفرائض (يتقرب) أي يطلب زيادة القرب (إلي بالنوافل) أي التطوع من جميع أصناف العبادات يعني مع محافظته على الفرائض (حتى أحببته) أي حبا كاملا لجمعه بين الفرائض والنوافل. قال الحافظ: ظاهره إن محبة الله للعبد تقع بملازمة العبد التقرب بالنوافل، قد استشكل بما تقدم أولا إن الفرائض أحب العبادات المتقرب بها إلى الله فكيف لا تنتج المحبة، والجواب إن المراد من النوافل ما كانت حاوية للفرائض مشتملة عليها ومكملة لها. ويؤيده إن في رواية أبي أمامة "ابن آدم إنك لن تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضت عليك" وقال الفاكهاني: معنى الحديث إنه إذا أدى الفرائض ودام على إتيان النوافل من صلاة وصيام وغيرهما أفضى به ذلك إلى محبة الله تعالى. وقال ابن هبيرة: يؤخذ قوله من قوله ما تقرب إلى آخره إن النافلة لا تقدم على الفريضة لأن النافلة إنما سميت نافلة لأنها تأتي زائدة على الفرائض فما لم تؤد الفريضة لا تحصل النافلة، ومن أدى الفرض ثم زاد عليه النفل وأدام ذلك تحققت منه إرادة التقريب وقد تبين بذلك إن المراد من التقرب بالنوافل إن تقع ممن أدى الفرائض لا من أخل بها (فإذا أحببته) لتقربه إلى بما ذكر (فكنت) كذا في أكثر النسخ الحاضرة من المشكاة "حتى أحببته فإذا أحببته فكنت" وفي المصابيح "حتى أحبه (أي بضم أوله) فإذا أحببته كنت) وهكذا وقع في البخاري من رواية الشكميهني ولأبي ذر "حتى أحببته

(15/226)


فكنت" وكذا وقع في نسخة القاري من المشكاة (سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به) بضم الياء وفي رواية، من حديث عائشة عينه التي يبصر بها وفي أخرى عينيه اللتين يبصر بهما بالتثنية وكذا قال في الأذن واليد والرجل (ويده التي يبطش) بفتح الياء وكسر الطاء أي يأخذ (بها ورجله التي يمشي بها) زاد في حديث عائشة وفوأده الذي يعقل به ولسانه الذي يتكلم به ونحوه في حديث أبي أمامة وقد استشكل كيف يكون الباري جل وعلى سمع العبد وبصره الخ وأجيب بأوجه أحدها أنه ورد على سبيل التمثيل والمعنى كنت سمعه وبصره في إيثاره أمري فهو يحب طاعتي ويؤثر خدمتي كما يحب هذه الجوارح ثانيها أن المعنى إن كليته مشغولة بي فلا يصغى بسمعه إلا إلى ما يرضيني ولا يبصر ببصره إلا ما أمرته به ولا يبطش بيده إلا في ما يحل له ولا يسعى برجله إلا في طاعتي

(15/227)


ثالثها أن المعنى أجعل له مقاصده كأنه ينالها ويراها بسمعه وبصره الخ رابعها كنت له في النصرة كسمعه وبصره ويده ورجله في المعاونة على عدوه خامسها قال الفاكهاني: وسبقه إلى معناه ابن هبيرة هو فيما يظهر لي أنه على حذف مضاف، والتقدير كنت حافظ سمعه الذي يسمع به فلا يسمع إلا ما يحل استماعه وحافظ بصره كذلك الخ. سادسها يحتمل معنى آخر أدق من هذا الذي قبله، وهو أن يكون سمعه بمعنى مسموعه، لأن المصدر قد جاء بمعنى المفعول مثل فلان أملي بمعنى مأمولي، والمعنى أنه لا يسمع إلا ذكرى ولا يتلذ إلا بتلاوة كتابي ولا يأنس إلا بمناجاتي ولا ينظر إلا في عجائب ملكوتي ولا يمد يده إلا فيما فيه رضاي ورجله كذلك. وقال الطوفي: اتفق العلماء ممن يعتد بقوله إن هذا مجاز وكناية عن نصرة العبد وتأييده وعنايته حتى كأنه سبحانه ينزل نفسه من عبده منزلة الآلات التي يستعين بها، وقع في رواية فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي. وقال الخطابي: هذه أمثال والمعنى توفيق الله لعبده في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء وتيسير المحبة له فيها، بأن يحفظ جوارحه عليه ويعصمه عن مواقعة ما يكره الله من الإصغاء إلى اللهو بسمعه، ومن النظر إلى ما نهى الله عنه ببصره ومن البطش فيما لا يحل له بيده، ومن السعي إلى الباطل برجله، وإلى هذا نحى الداودي حيث قال: هذا كله من المجاز يعني أنه يحفظه كما يحفظ العبد جوارحه لئلا يقع في مهلكة ومثله قال الكلاباذي وعبر بقوله أحفظه فلا يتصرف إلا في محابي لأنه إذا أحبه كره له أن يتصرف فيما يكرهه منه. وقال التوربشتي: معناه اجعل سلطان حبي غالبا عليه حتى يسلب عنه الاهتمام بشي غير ما يقربه إلى فيصير منخلعا عن الشهوات ذاهلا عن الحظوظ واللذات، حيثما تقلب وأينما توجه لقي الله تعالى بمرأى منه ومسمع لا تطور حول حاله الغفلة، ولا يحول دون شهوده الحجبة. ولا يعتري ذكره النسيان، ولا يخطر بباله الأحداث والأعيان يأخذ بمجامع

(15/228)


قلبه. حب الله فلا يرى إلا ما يحبه ولا يسمع إلا ما يحبه ولا يفعل إلا ما يحبه ويكون الله سبحانه في ذلك له يدا ومؤيدا وعونا وكيلا يحمي سمعه وبصره ويده ورجله عما لا يرضاه، وحقيقة هذا القول ارتهان كلية العبد بمراضي الله وحسن رعاية الله له، وذلك على سبيل الاتساع وهو شائع في كلام العرب إذا أرادوا اختصاص الشيء بنوع من الخصوصية والاهتمام به والعناية والاستغراق فيه والوله إليه. سابعها قاله الخطابي أيضا: قد يكون عبر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء والنجح في الطلب وذلك إن مساعي الإنسان كلها إنما تكون بهذه الجوارح المذكورة. وقال بعضهم: وهو منتزع مما تقدم لا يتحرك له جارحة إلا في الله. ولله فهي كلها تعمل بالحق للحق، وأسند البيهقي في الزهد عن أبي عثمان الجيزي أحد أئمة الطريق قال معناه كنت أسرع إلى قضاء حوائجه من سمعه في الاستماع وعينه في النظر ويده في اللمس ورجله في المشي. قيل: وزعم الاتحادية أنه على حقيقته وإن الحق عين العبد
وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن.

(15/229)


واحتجوا بمجيء جبريل في صورة دحية قالوا: فهو روحاني خلع صورته وظهر بمظهر البشر قالوا: فالله أقدر على أن يظهر في صورة الوجود الكلي أو بعضه تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وحمله بعض أهل الزيغ على ما يدعونه من أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتى يصفي من الكدورات أنه يصير في معنى الحق تعالى الله عن ذلك، وأنه يفنى عن نفسه جملة حتى يشهد أن الله هو الذاكر لنفسه الموحد لنفسه المحب لنفسه وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدما صرفا في شهودة وإن لم تعدم في الخارج وعلى الأوجه كلها فلا متمسك فيه للاتحادية ولا القائلين بالوحدة المطلقة لقوله في بقية الحديث، ولئن سألني ولئن استعاذني فإنه كالصريح في الرد عليهم كذا في الفتح. (وإن سألني لأعطيته) أي ما سأل وهو بفتح اللام وضم الهمزة ونون التأكيد الثقيلة (ولئن استعاذني) بنون الوقاية، وفي بعض النسخ بالموحدة وهو أظهر معنى، والأول أشهر رواية قاله في اللمعات وقال الحافظ: ضبطناه بوجهين الأشهر، بالنون بعد الذال المعجمة، والثاني بالموحدة. (لأعيذنه) أي مما يخاف وقد استشكل بأن جماعة من العباد والصلحاء دعوا وبالغوا ولم يجابوا، والجواب إن الإجابة تتنوع فتارة يقع المطلوب بعينه على الفوز، وتارة يقع لكن يتأخر لحكمة فيه، وتارة قد يقع الإجابة ولكن بغير عين المطلوب حيث لا يكون في المطلوب مصلحة ناجزة وفي الواقع مصلحة ناجزة أو أصلح منها. وقد تمسك بهذا الحديث بعض الجهلة من أهل التجلي والرياضة فقالوا: القلب إذا كان محفوظا مع الله كانت خواطره معصومة من الخطأ، وتعقب ذلك أهل التحقيق من أهل الطريق فقالوا: لا يلتفت إلى شيء من ذلك إلا إذا وافق الكتاب والسنة، والعصمة إنما هي للأنبياء ومن عداهم فقد يخطىء فقد كان عمر رضي الله عنه رأس الملهمين، ومع ذلك فكان ربما رأى الرأي فيخبره بعض الصحابة بخلافه فيرجع إليه ويترك رأيه، فمن ظن أنه يكتفي بما يقع في خاطره

(15/230)


عما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام فقد ارتكب أعظم الخطأ. وفي الحديث إن من أتى بما وجب عليه وتقرب بالنوافل لم يرد دعاءه لوجود هذا الوعد الصادق المؤكد بالقسم وقد تقدم الجواب عما يتخلف من ذلك (وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن) وفي حديث عائشة ترددي عن موته ووقع في الحلية في ترجمة وهب بن منبه إني لأجد في كتب الأنبياء إن الله تعالى يقول (ما ترددت عن شيء قط ترددي عن قبض روح المؤمن) فإن قيل التردد هو التخير بين أمرين لا يدري أيهما أصلح وهو محال على الله تعالى. أجيب بأن المراد من لفظا التردد في هذا الحديث إزالة كراهة الموت من العبد المؤمن بلطائف يحدثها الله له ويظهرها حتى تذهب الكراهة التي في نفسه بما يتحقق عنده من البشرى برضوان الله وكرامته، وهذه الحالة يتقدمها أحوال كثيرة من مرض

(15/231)


وهرم وفاقة وزمانة وشدة بلاء يهون على العبد مفارقة الدنيا، ويقطع عنها علاقته حتى إذا أيس عنها تحقق رجاءه بما عند الله فاشتاق إلى دار الكرامة فأخذه المؤمن عما تشبث به من حب الحياة شيئا فشيئا بالأسباب التي أشرنا إليها يضاهي، ويشبه فعل المتردد من حيث الصنعة فشبه، بفعل المتردد وأدخل في أفراده مبالغة وعبر عنه بالتردد ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المخبر عن الله وعن صفاته وأفعاله بأمور غير معهودة لا يكاد السامع يعرفها على ما هي عليه إذن له أن يعبر عنها بألفاظ مستعملة في أمور معهودة تعريفا للأمة، وتوقيفا لهم بالمجاز على الحقيقة، وتقريبا لما ينأى عن الإفهام، وتقريرا لما يضيق عن الإفصاح به نطاق البيان وذلك بعد أن عرفهم ما يجوز على الله وما لا يجوز قاله التوربشتي. وقال الخطابي: التردد في حق الله غير جائز والبذاء عليه في الأمور غير سائغ ولكن له تأويلان. أحدهما: إن العبد قد يشرف على الهلاك في أيام عمره من داء يصيبه وفاقة تنزل به فيدعوا الله فيشفيه. منها: ويدفع عنه مكروهها فيكون ذلك من فعله كتردد من يريد أمرا ثم يبدو له فيه فيتركه ويعرض عنه، ولا بد له من لقائه إذا بلغ الكتاب أجله لأن الله قد كتب الفناء على خلقه واستأثر بالبقاء لنفسه. والثاني: أن يكون معناه ما رددت رسلي في شيء أنا فاعله كترديدي إياهم في نفس المؤمن، كما روي في قصة موسى عليه السلام، وما كان من لطمة عين ملك الموت وتردده إليه مرة بعد أخرى. قال: وحقيقة المعنى على الوجهين عطف الله على العبد ولطفه به وشفقته عليه وعبر ابن الجوزي عن الثاني، بأن التردد للملائكة الذين يقبضون الروح، وأضاف الحق ذلك لنفسه لأن ترددهم عن أمره قال: وهذا التردد ينشأ عن إظهار كرامة المؤمن على ربه، فإن قيل: إذا أمر الملك بالقبض كيف يقع منه التردد، فالجواب من وجوه. منها: إن معنى التردد اللطف به كأن الملك يؤخر القبض فإنه إذا نظر إلى قدر

(15/232)


المؤمن وعظم المنفعة به لأهل الدنيا احترمه فلم يبسط يده إليه فإذا ذكر أمر ربه لم يجد بدأ من امتثاله. ومنها: إن الملك يتردد فيما لم يحد له فيه الوقت كان يقال لا تقبض روحه إلا إذا رضي. وقيل معنى الحديث ما أخرت وما توقفت توقف المتردد في أمر أنا فاعله إلا في قبض نفس عبدي المؤمن أتوقف فيه وأريد ما أعددت له من النعيم والكرامات حتى يسهل عليه ويميل قلبه إليه شوقا إلى أن ينخرط في سلك المقربين ويتبوأ في أعلى عليين قاله القاضي. وقيل هذا خطاب لنا بما نعقل والمقصود تفهيمنا تحقيق المحبة للولي والدلالة على شرفه ورفعة منزلته حتى لو تأتي أنه تعالى لا يذيقه الموت الذي حتمه على عباده لفعل، ولهذا المعنى ورد لفظ التردد كما إن العبد إذا كان له أمر لا بد له أن يفعله بحبيبه لكنه يؤلمه، فإن نظر إلى ألمه أنكف عن الفعل وإن نظر إلى أنه لا بد له منه أن يفعله لمنفعته أقدم عليه فيعبر عن هذه الحالة في قلبه بالتردد فخاطب الله الخلق بذلك على حسب ما يعرفون، ودلهم به على شرف الولي عنده ورفعة درجته. وقيل المراد أنه يقبض روح المؤمن بالتأني والتدريج بخلاف سائر
يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولا بد له منه)). رواه البخاري.

(15/233)


الأمور فإنها تحصل بمجرد قوله كن سريعا دفعة ذكره الكرماني. وقيل الصواب فيه أن يؤمن به على ما يليق بعظمة الله تعالى وشأنه ولا يتوهم ولا يقال كيف فلا حاجة إلى التأويلات التي ذكروها والله اعلم (يكره الموت) قال القاري: استئناف جوابا عما يقال ما سبب التردد، والمراد أنه يكره شدة الموت بمقتضى طبعه البشرى (وأنا أكره مساءته) بفتح الميم والمهملة بعدها همزة ففوقية مصدر ساء الأمر فلانا أي أحزنه. قال ابن الملك: أي إيذاءه بما يلحقه من صعوبة الموت وكربه. وقال ابن حجر: أي أكره ما يسوءه لأني أرحم به من والديه لكن لا بد له منه لينتقل من دار الهموم إلى دار النعيم والمسرات، فعلته به إيثارا لتلك النعمة العظمى والمسرات الكبرى كما أن الأب الشفوق يكلف الابن بما يكلفه من العلم وغيره وإن شق عليه نظرا لكماله الذي يترتب على ذلك – انتهى. قال القاري: وهو خلاصة كلام الطيبي وحاصل كلامهم إن إضافة المساءة من باب إضافة المصدر إلى مفعوله، والظاهر إنها مضافة إلى فاعله والمعنى أكره مساءته لكراهة الموت فإنه لا ينبغي أن يكره الموت بل يحبه فإن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه من كره لقاء الله كره الله لقاءه – انتهى. وقال الجنيد: الكراهة هنا لما يلقى المؤمن من الموت وصعوبته وكربه وليس المعنى إني أكره له الموت لأن الموت يورده إلى رحمة الله ومغفرته – انتهى. وعبر بعضهم عن هذا بأن الموت حتم مقضي وهو مفارقة الروح للجسد ولا تحصل غالبا إلا بألم عظيم جدا، فلما كان الموت بهذا الوصف والله يكره أذى المؤمن أطلق على ذلك الكراهة، ويحتمل أن تكون المساءة بالنسبة إلى طول الحياة لأنها تؤدي إلى أرذل العمر وتنكس الخلق والرد إلى أسفل سافلين كذا في الفتح. (ولا بد له منه) كذا وقعت هذه الزيادة في بعض نسخ المشكاة موافقا لما في المصابيح وسقطت من بعضها كنسخة القاري التي أخذها في شرحه وكنسخة أشعة اللمعات للشيخ الدهلوي وليست أيضا في

(15/234)


البخاري. قال القاري: وفي نسخة صحيحتي من المشكاة ولا بد له منه وكذا في أصل مبرك وهو كذا في شرح المصابيح لابن الملك. وقال ابن حجر: كما في رواية. وقال الحافظ: زاد محمد بن مخلد (يعني عند الذهبي) عن ابن كرامة (شيخ البخاري) في آخر الحديث ولا بد له منه. ووقعت هذه الزيادة أيضا في حديث وهب بن منبه المقطوع عند أحمد في الزهد، وأبي نعيم في الحلية. قال القاري: والمعنى ولا بد للمؤمن من الموت فلا معنى للكراهة أو ولهذا لا ادفع عنه الموت (رواه البخاري) في باب التواضع من كتاب الرقاق. قال: حدثنا محمد بن عثمان بن كرامة، حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان بن بلال، حدثنا شريك بن عبد الله بن نمر عن عطاء عن أبي هريرة. قال الذهبي: في ترجمة خالد بن مخلد من الميزان (ج1ص300، 301) قال أحمد: له مناكير. وقال أبوحاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن سعد: منكر الحديث مفرط في التشيع. وقال أبوداود: صدوق ولكنه يتشيع، وذكره ابن عدي ثم ساق له عشرة أحاديث
2290- (8) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر،

(15/235)


استنكرها. قال الذهبي: ومما انفرد ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن كرامة عنه وذكر حديث أبي هريرة من عادى لي وليا الخ. وساقه من طريق محمد بن مخلد عن محمد بن عثمان بن كرامة شيخ البخاري فيه ثم قال: فهذا غريب جدا ولو لا هيبة الجامع الصحيح لعدته في منكرات خالد بن مخلد وذلك لغرابة لفظه، ولأنه مما ينفرد به شريك وليس بالحافظ ولم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد ولا أخرجه من عدا البخاري ولا أظنه في مسند أحمد – انتهى. قلت شريك هذا قد وثقه ابن سعد وأبوداود. وقال النسائي وابن معين: لا بأس به واحتج به الجماعة إلا أن في روايته عن أنس في حديث الإسراء مواضع شاذة. وأما خالد بن مخلد فقد وثقه العجلي وصالح ابن محمد جزرة وعثمان بن أبي شيبة وابن حبان. وقال ابن عدي: هو من المكثرين لا بأس به. وقال الأزدي: في حديثه بعض المناكير وهو عندنا في عداد أهل الصدق ولا يلتفت إلى قول أبي حاتم لا يحتج به لأنه جرح مبهم. وأما التشيع والمناكير. فقال الحافظ في مقدمة الفتح في ذكر خالد: هذا قلت: أما التشيع فقد قدمنا إنه إذا كان ثبت الأخذ والأداء لا يضره لا سيما ولم يكن داعية إلى رأيه. وأما المناكير فقد تتبعها ابن عدي من حديثه وأوردها في كامله وليس فيها شيء مما أخرجه البخاري بل لم أر له عنده من أفراده سوى حديث واحد، وهو حديث أبي هريرة من عادى لي وليا – الحديث. وقال في الفتح (ج26ص145) بعد ذكر كلام الذهبي المتقدم، قلت: ليس هذا الحديث في مسند أحمد جزما، وإطلاق أنه لم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد مردود، ومع ذلك فشريك شيخ شيخ خالد فيه مقال أيضا، ولكن للحديث طرق أخرى يدل على مجموعها على أن له أصلا منها عن عائشة أخرجه أحمد في الزهد، وابن أبي الدنيا وأبونعيم في الحلية، والبيهقي في الزهد من طريق عبدالواحد بن ميمون عن عروة عنها، وذكر ابن حبان وابن عدي أنه تفرد به. وقد قال البخاري: أنه منكر الحديث، ومنها عن علي عند

(15/236)


الإسماعيلي في مسند علي وعن ابن عباس أخرجه الطبراني وسندهما ضعيف. وعن أنس أخرجه أبويعلى والبزار والطبراني وفي سنده ضعف أيضا. وعن حذيفة أخرجه الطبراني مختصرا وسنده حسن غريب، وعن معاذ بن جبل أخرجه ابن ماجه وأبونعيم في الحلية مختصرا وسنده ضعيف أيضا، وعن وهب بن منبه مقطوعا أخرجه أحمد في الزهد وأبونعيم في الحلية – انتهى. هذا وقد بسط الكلام في تخريج هذا الحديث وشرحه ابن رجب الحنبلي في شرح الأربعين النووية (ص259، 260) فارجع إليه إن شئت.
2290- قوله: (إن لله ملائكة) أي من المقربين غير الحفظة المرتبين مع الخلائق بل هم سيارة سياحة في الأرض لا وظيفة لهم، وإنما مقصودهم حلق الذكر (يطوفون) أي يدورون (في الطرق) أي طرق المسلمين (يلتمسون أهل الذكر) أي يطلبون مجالستهم. وقيل: أي يطلبون من يذكر الله من بني آدم ليزوروهم ويدعوا لهم ويستمعوا إلى
فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم. قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا. قال: فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم. ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يسبحونك، ويكبرونك، ويحمدونك، ويمجدونك.

(15/237)


ذكرهم، وفي الرواية الآتية يبتغون مجالس الذكر، وفي حديث جابر بن عبدالله عند أبي يعلى والبزار إن لله سرايا من الملائكة تقف وتحل بمجالس الذكر. (تنادوا) بفتح الدال أي نادى بعض تلك الملائكة بعضا قائلين (هلموا) أي تعالوا مسرعين (إلى حاجتكم) أي إلى ما تطلبون من استماع الذكر وزيارة الذاكر، فإنا قد وجدنا جماعة من أهل الذكر. وفي رواية أحمد والترمذي إلى بغيتكم بكسر الباء وضمها مع سكون الغين وفتح الياء مخففة، وبفتح الباء وكسر الغين مع تشديد الياء المفتوحة أي إلى مطلوبكم ومرغوبكم وقوله "هلموا" ورد على لغة أهل نجد أنها تثنى وتجمع وتؤنث ولغة أهل الحجاز بناء لفظها على الفتح وبقاءه بحاله مع المثنى والجمع والمؤنث ومنه قوله تعالى: ?قل هلم شهداءكم? [الأنعام: 150] (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (فيحفونهم) بفتح التحتية وضم الحاء وتشديد الفاء من الحف وهو الاشتمال حول شيء أي يطوفون بهم ويدورون حولهم من جوانبهم (بأجنحتهم) قال المظهري: الباء للتعدية أي يديرون أجنحتهم حول الذاكرين. وقال الطيبي: الظاهر إنها للاستعانة كما في قولك كتبت بالقلم أي يطيفونهم ويحدقون بهم بأجنحتهم لأن حفهم الذي ينتهي إلى السماء إنما يستقيم بواسطة الأجنحة (إلى السماء الدنيا) وفي رواية، إلى سماء الدنيا. قال الطيبي: أي يقف بعضهم فوق بعض إلى السماء الدنيا. (فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم) أي بالذاكرين من الملائكة. قال الطيبي: وهو أعلم حال والأحسن أن تكون معترضة أو تتميما صيانة عن التوهم يعني لتوهم أن تكون الحال منتقلة، والحال أنها مؤكدة. وفائدة السؤال مع العلم بالمسئول إظهار شرف بني آدم وصلاحهم والتعريض بالملائكة بقولهم في بني آدم ?أتجعل فيها من يفسد فيها? [البقرة: 30] الخ (ما يقول عبادي) الإضافة للتشريف (يقولون) أي الملائكة (يسبحونك) أي عبادك يسبحونك (ويحمدونك) بالتخفيف (ويمجدونك) بتشديد الجيم أي يذكرونك بالعظمة أو ينسبونك إلى

(15/238)


المجد وهو الكرم. قال الجزري: التمجيد التعظيم والمجيد الشريف العظيم، وفي رواية مسلم الآتية ذكر التهليل بدل التمجيد، وفي حديث أنس عند البزار يعظمون آلائك ويتلون كتابك ويصلون على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ويسألونك لآخرتهم ودنياهم. قال الحافظ: ويؤخذ من مجموع هذه الطرق المراد بمجالس الذكر وإنها التي تشتمل على ذكر الله بأنواع الذكر الواردة من تسبيح وتكبير وغيرهما، وعلى تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى وعلى الدعاء بخيري الدنيا والآخرة وفي دخول قراءة الحديث النبوي ومدارسة العلم الشرعي ومذاكرته، والاجتماع على صلاة النافلة
قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك. قال: فيقول كيف لو رأوني؟ قال: فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيدا، وأكثر لك تسبيحا. قال: فيقول: فما يسألون؟ قالوا: يسألونك الجنة. قال: يقول: وهل رأوها. قال: فيقولون: لا والله يا رب! ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا، وأشد لها طلبا، وأعظم فيها رغبة. قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون: من النار. قال: يقول فهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارا، أو أشد لها مخافة. قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم. قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم،

(15/239)


في هذه المجالس نظر. والأشبه اختصاص ذلك بمجالس التسبيح والتكبير ونحوهما، والتلاوة حسب وإن كانت قراءة الحديث ومدارسة العلم والمناظرة فيه من جملة ما يدخل تحت مسمى ذكر الله تعالى – انتهى. قلت، وقال العيني: قوله "أهل الذكر" أي في قوله "يلتمسون أهل الذكر" يتناول الصلاة وقراءة القرآن وتلاوة الحديث وتدريس العلوم ومناظرة العلماء – انتهى. فاختلف الحافظ والعيني في أن المراد بمجالس الذكر وأهل الذكر الخصوص أو العموم، فاختار الحافظ الخصوص نظرا إلى ظاهر ألفاظ الطرق المذكورة، واختار العيني العموم نظرا إلى أن ما في هذه الطرق من ألفاظ الذكر تمثيلات. قال شيخنا في شرح الترمذي: والظاهر هو الخصوص كما قال الحافظ: والله تعالى اعلم. (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (فيقول) أي الله (كيف لو رأوني) أي لو رأوني كيف يكون حالهم في الذكر (وأشد لك تمجيدا) أي تعظيما، وزاد في رواية تحميدا، وفي أخرى وأشد لك ذكرا (وأكثر لك تسبيحا) فيه إيماء إلى أن تحمل مشقة الخدمة على قدر المعرفة والمحبة (فما يسالون) أي مني، وفي رواية فما يسألوني وفي أخرى فما يسألونني (وهل رأوها) أي الجنة (كانوا أشد عليها حرصا وأشد لها طلبا وأعظم فيها رغبة) لأن الخبر ليس كالمعانية (فمم) أي من شيء حذفت ألف "ما" وأبقيت الفتحة على الميم، فإنه يجب حذف ألف "ما" الاستفهامية إذا جرت، وإبقاء الفتحة على الميم دليلا عليها نحو ?فيم أنت من ذكراها? [النازعات: 43] فناظرة بم يرجع المرسلون ?لم تقولون ما لا تفعلون? [الصف: 2] وعلة حذف الألف الفرق بين الاستفهام والخبر (فأشهدكم) من الأشهاد أي أجعلكم شاهدين (إني قد غفرت لهم) أي بذكرهم فـ ?إن الحسنات يذهبن السيئات?[هود: 114] (فيهم فلان) كناية عن اسمه ونسبه (ليس منهم) أي
إنما جاء لحاجة. قال: هم الجلساء لا يشقى جليسهم)) رواه البخاري. وفي رواية مسلم، قال: إن لله ملائكة سيارة

(15/240)


من الذاكرين. قال القاري: حال من المستتر في الخبر. وقيل: من فلان على مذهب سيبويه. (إنما جاء) أي إليهم (لحاجة) أي دنيوية له فجلس معهم يريد الملك بهذا إنه لا يستحق المغفرة (هم الجلساء) جمع جليس (لا يشقى) بفتح الياء أي يصير شقيا (جليسهم) أي مجالسهم. قال الطيبي: أي هم جلساء لا يخيب جليسهم عن كرامتهم فيشقى – انتهى. وفي الحديث فضل مجالس الذكر والذاكرين وفضل الاجتماع على ذلك وإن جليسهم يندرج معهم في جميع ما يتفضل الله تعالى عليهم إكراما لهم، ولو لم يشاركهم في أصل الذكر وفيه محبة الملائكة لبني آدم واعتناءهم بهم، وفيه إن السؤال قد يصدر من السائل وهو اعلم بالمسئول عنه من المسئول لإظهار العناية بالمسئول عنه والتنويه بقدره والإعلان بشرف منزلته. وقيل: إن في خصوص سؤال الله الملائكة عن أهل الذكر الإشارة إلى قوله ?أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك? [البقرة: 30] فكأنه قيل لهم: انظروا إلى ما حصل منهم من التسبيح والتقديس مع ما سلط عليهم من الشهوات ووساوس الشيطان وكيف عالجوا ذلك وضاهوكم في التسبيح والتقديس. وقيل: إنه يؤخذ من هذا الحديث إن الذكر الحاصل من بني آدم أعلى وأشرف من الذكر الحاصل من الملائكة لحصول ذكر الآدميين مع كثرة الشواغل ووجود الصوارف وصدوره في عالم الغيب بخلاف الملائكة في ذلك كله كذا في الفتح. (رواه البخاري) في أواخر الدعوات من طريق جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وكذا خرجه ابن حبان من هذا الطريق ومن طريق الفضيل بن عياض عن الأعمش: قال الحافظ: لم أره من حديث الأعمش إلا بالعنعنة لكن اعتمد البخاري على وصله لكون شعبة رواه عن الأعمش (عند أحمد) فإن شعبه كان لا يحدث عن شيوخه المنسوبين للتدليس إلا بما تحقق إنهم سمعوه – انتهى. والحديث أخرجه أحمد (ج2ص252) ومسلم والطيالسي من طريق وهيب عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، وقد ذكر المصنف لفظ مسلم

(15/241)


بعد ذلك وأخرجه أحمد أيضا (ج2ص251) والترمذي نحو رواية مسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش، فقال عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد الخدري بالشك، وهذا الشك من الأعمش كما صرح في رواية أحمد، والظاهر إن الأعمش استيقن بعد ما شك أو شك بعد ما استيقن ولا أثر لهذا الشك على صحة الحديث كما هو بديهي.
(وفي رواية مسلم قال إن لله ملائكة سيارة) بتشديد الياء من السير أي سياحون في الأرض، قال في اللسان: والسيارة القافلة والسيارة القوم يسيرون أنث على معنى الرفقة والجماعة، وفي رواية أحمد (ج2ص251) والترمذي إن لله ملائكة سياحين في الأرض، بفتح السين المهملة وتشديد الياء التحتية من قولهم ساح في الأرض
فضلا يبتغون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضا بأجنحتهم، حتى يملأوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، قال: فيسألهم الله، وهو أعلم من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عبادك في الأرض يسبحونك، ويكبرونك، ويهللونك، ويحمدونك، ويسألونك. قال: وماذا يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنتك. قال: وهل رأو جنتي؟ قالوا: لا أي رب!

(15/242)


إذا ذهب فيها وسار، وأصله من سيح الماء الجاري (فضلا) زاد في رواية أحمد والترمذي وابن حبان عن كتاب الناس وقوله "فضلا" صفة بعد صفة للملائكة وهو بضمتين وسكون الثاني تخفيفا جمع فاضل كنزل ونازل أي زيادة عن الملائكة الحفظة وغيرهم المرتبين مع الخلائق لا وظيفة لهم إلا حلق الذكر. قال النووي: ضبطوا فضلا على أوجه. أحدها: وهو أرجحها وأشهرها في بلادنا فضلا بضم الفاء والضاد، والثانية بضم الفاء وإسكان الضاد ورجحها بعضهم وادعى أنها أكثر وأصوب، والثالثة: بفتح الفاء وإسكان الضاد، والرابعة: فضل بضم الفاء والضاد، ورفع اللام على أنه خبر مبتدأ محذوف، والخامسة: فضلاء بالمد جمع فاضل، قال العلماء: معناه على جميع الروايات أنهم ملائكة زائدون على الحفظة وغيرهم من المرتبين مع الخلائق فهؤلاء السيارة لا وظيفة لهم، وإنما مقصودهم حلق الذكر – انتهى. وقوله "عن كتاب الناس" بضم الكاف وتشديد التاء المثناة جمع كاتب، والمراد بهم الكرام الكاتبون وغيرهم المرتبون مع الناس (يبتغون) أي يطلبون. قال النووي: ضبطوه على وجهين، أحدهما يتتبعون بالعين المهملة من التتبع وهو البحث عن الشيء والتفتيش، والثاني يبتغون بالغين المعجمة من الابتغاء وهو الطلب وكلاهما صحيح (قعدوا معهم) أي مع الذاكرين (وحف بعضهم) أي بعض الملائكة (بعضا) أي بعضا آخر منهم (بأجنحتهم) أي باستعانتها (حتى يملأوا) أي الملائكة (ما بينهم) أي ما بين الذاكرين (فإذا تفرقوا) أي أهل الذكر (عرجوا) أي الملائكة من عرج يعرج إذا صعد إلى فوق (وصعدوا) بكسر العين (إلى السماء) أي السابعة (وهو اعلم) أي بهم كما في بعض النسخ من المشكاة وكما وقع في صحيح مسلم (من أين جئتم فيقولون جئنا من عند عبادك) قوله "من عند عبادك" كذا في جميع النسخ من المشكاة، وكذا وقع في المصابيح والترغيب للمنذري، والذي في صحيح مسلم من عند عباد لك، وهكذا نقله الجزري والحافظ، وفيه غاية تشريف لبني آدم حال

(15/243)


كونهم (في الأرض) وفي رواية أحمد والترمذي فيقول الله أي شيء تركتم عبادي يصنعون (ماذا يسألوني) بتشديد النون وتخفف، ويروي أيضا ماذا يسألونني، وفي رواية أحمد والترمذي فأي شيء
قال: وكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجيرونك. قال: ومما يستجيروني؟ قالوا: من نارك. قال: هل روا ناري؟ قالوا: لا. قال: فكيف لو رأوا ناري؟ قالوا: يستغفرونك. قال: فيقول: قد غفرت لهم، فأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا. قال: يقولون: رب! فيهم فلان عبد خطاء، إنما مر فجلس معهم. قال: فيقول: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)).

(15/244)


يطلبون (وكيف لو رأوا جنتي) قال الطيبي: جواب "لو" ما دل عليه كيف لأنه سؤال عن الحال أي لو رأوا جنتي ما يكون حالهم في الذكر (ويستجيرونك) عطف على ويسألونك، والجملة من السؤال، والجواب فيما بينهما معترضة أي يستعيذونك. قال الجزري: الاستجارة طلب الجوار والإجارة الحماية والدفاع والمنعة عن الإنسان (ومما) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا في نسخ مسلم من طبعات الهند وجامع الأصول (ج5ص238) ووقع في النسخ المصرية من صحيح مسلم و"مم" أي بحذف الألف وإبقاء الفتحة على الميم، وكذا نقله المنذري في الترغيب والحافظ في الفتح وهذا هو الصواب، والظاهر إن الأول خطأ من النساخ (يستجيروني) بالوجهين ويرو أيضا يستجيرون (من نارك) أي يطلبون الأمان منها (يستغفرونك) أي أيضا وفي بعض النسخ ويستغفرونك بالعطف موافقا لما في صحيح مسلم (قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا) قال القاري: لعل العدول عن الواو إلى الفاء لترتب الإعطاء على المغفرة. قلت: قوله "فأعطيتهم" بالفاء كذا وقع في جميع النسخ من المشكاة والذي في صحيح مسلم وأعطيتهم أي بالواو، وهكذا في المصابيح والترغيب وجامع الأصول والفتح والظاهر إن ما وقع في المشكاة خطأ من الناسخ (وأجرتهم) من أجاره يجيره إذا آمنه من الخوف (يقولون رب) أي يا رب! (عبد خطأ) بفتح الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة والمد أي كثير الخطأ والذنب، أو ملازم الخطايا غير تارك لها وهو من أبنية المبالغة. قال القاري: بدل من فلان (إنما مر) أي لحاجة (فجلس معهم) قال الطيبي في التركيب: تقديم وتأخير أي إنما فلان مر أي ما فعل فلان إلا المرور والجلوس عقبه يعني ما ذكر الله تعالى (فيقول وله غفرت) أي أيضا. قال الطيبي: الواو للعطف وهو يقتضي معطوفا عليه أي قد غفرت لهم وله ثم اتبع غفرت تأكيدا وتقريرا (هم القوم) قال الطيبي: تعريف الخبر يدل على الكمال أي هم القوم كل القوم الكاملون فيما هم فيه من السعادة فيكون قوله

(15/245)


(لا يشقى بهم) أي بسببهم وببركتهم (جليسهم) استئنافا لبيان المقتضى لكونهم أهل الكمال وفي هذه العبارة مبالغة في نفي الشقاء عن جليس الذاكرين. فلو قيل يسعد بهم جليسهم لكان
2291- (9) وعن حنظلة بن الربيع الأسيدي، قال: ((لقيني أبوبكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة. قال: سبحان الله ما تقول؟
ذلك في غاية الفضل، لكن التصريح بنفي الشقاء أبلغ في حصول المقصود،وفي الحديث فضيلة الجلوس مع أهل الذكر وإن لم يشاركهم وفضل مجالسة الصالحين وبركتهم.

(15/246)


2291- قوله: (وعن حنظلة بن الربيع) بفتح الراء وكسر الموحدة وسكون التحتية (الأسيدي) قال النووي: ضبطوه بوجهين أصحهما وأشهرهما ضم الهمزة وفتح السين وكسر الياء المشددة، والثاني كذلك إلا أنه بإسكان الياء ولم يذكر القاضي (عياض) إلا هذا الثاني وهو منسوب إلى بني أسيد بطن من بني تميم – انتهى. وقال الفتني في المغني: الأسيدي بمضمومة ومفتوحة وشذة تحتية مكسورة وسكونها والشدة عند المحدثين للأصل وتسكينها عند أهل اللغة للخفة منسوب إلى أسيد بن عمرو بن تميم بن مر، ومنه حنظلة بن الربيع – انتهى. وقال ابن عبدالبر: بنو أسيد بن عمرو بن تميم من أشراف بني تميم وهو أسيد بكسر الياء وتشديدها – انتهى. وحنظلة هذا هو حنظلة بن الربيع بن صيفي بفتح الصاد المهملة بعدها تحتية ساكنة التميمي المعروف بحنظلة الكاتب لأنه كتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - الوحي، ففي مسلم والترمذي من طريق أبي عثمان النهدي عن حنظلة "وكان من كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - " وهو ابن أخي أكثم بن صيفي حكيم العرب، وليس هو حنظلة بن أبي عامر غسيل الملائكة أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل الطائف وشهد القادسية ونزل الكوفة وتخلف عن علي في قتال أهل البصرة يوم الجمل، ونزل قرقيسياء حتى مات في خلافة معاوية ولا عقب له (لقيني أبوبكر) وفي الترمذي أنه مر بأبي بكر وهو (أي حنظلة) يبكي (كيف أنت يا حنظلة) سؤال عن الحال أي كيف استقامتك على ما تسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - أهي موجود أم لا؟ قاله القاري. وقال الطيبي: أي أتستقيم على الطريق أم لا (نافق حنظلة) أي صار منافقا وأراد نفاق الحال لإنفاق الإيمان. قال الطيبي: فيه تجريد لأن أصل الكلام نافقت فجرد من نفسه شخصا آخر مثله فهو يخير عنه لما رأى من نفسه ما لا يرضي لمخالفة السر العلن والحضور الغيبة. وقال الجزري: النفاق ضد الإخلاص وأراد به في هذا الحديث إنني في الظاهر إذا كنت عند النبي - صلى

(15/247)


الله عليه وسلم - أخلصت وإذا انفردت عنه رغبت في الدنيا وتركت ما كنت عليه فكأنه نوع من الظاهر والباطن وما كان يرضي أن يسامح به نفسه، وكذلك كان الصحابة رضي الله عنهم أجمعين يؤاخذون أنفسهم بأقل الأشياء. وقال النووي: معناه إنه خاف أنه منافق حيث كان يحصل له الخوف في مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - ويظهر عليه ذلك مع المراقبة والفكر والإقبال على الآخرة فإذا خرج اشتغل بالزوجة والأولاد ومعاش الدنيا، وأصل النفاق إظهار ما يكتم خلافه من الشر فخاف أن يكون ذلك نفاقا فأعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه ليس بنفاق وأنهم لا يكلفون الدوام على ذلك. (قال سبحان الله) تعجب أو تبرئة وتنزيه (ما تقول) قال الطيبي:
قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة كأنا رأى عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا. قال أبوبكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: نافق حنظلة يا رسول الله! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله! نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأى عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر

(15/248)


"ما" استفهامية وقوله "تقول" هو المتعجب منه يعني عجبت من قولك هذا الذي حكمت فيه بالنفاق على نفسك (قلت نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي لا عجب في ذلك لأنا نكون عنده، وأتى بضمير الجمع لأن من المعلوم إنه لا بد في الحاضرين من يشابه حنظلة في ذلك ولم يقل نافقنا لئلا يتوهم العموم الشامل للخصوص (يذكرنا) بالتشديد أي يعظنا (بالنار) أي بعذابها تارة (والجنة) أي بنعيمها أخرى ترهيبا وترغيبا أو يذكرنا الله بذكرهما أو بقربهما (كأنا) أي حتى صرنا كأنا (رأى عين) بالنصب أي كأنا نرى الله والجنة والنار رأي عين فهو مفعول مطلق بإضمار نرى، وروى بالرفع أي كأنا راؤن الجنة والنار بالعين على أنه مصدر بمعنى اسم الفاعل ويصح كونه الخبر للمبالغة كرجل عدل. قال القاضي: ضبطناه رأى عين بالرفع أي كأنا بحال من يراهما بعينه. قال ويصح النصب على المصدر أي نراهما رأي عين (عافسنا الأزواج والأولاد) بالفاء والسين المهملة أي خالطناهم ولاعبناهم وعالجنا أمورهم واشتغلنا بمصالحهم. قال الهروي وغيره: معناه حاولنا ذلك ومارسناه واشتغلنا به أي عالجنا معايشنا وحظوظنا (والضيعات) أي الأراضي والبساتين جمع ضيعة بالضاد المعجمة المفتوحة، وهي معاش الرجل من مال أو حرفة أو صناعة. قال الهروي في الغريبين: ضيعة الرجل ما يكون منه معاشه من صناعة أو نخل أو غلة أو غيرها كذلك أسمعنيه الأزهري قال: شمر ويدخل فيها الحرفة والتجارة يقال ما ضيعتك فتقول كذا (نسينا) بدل اشتمال من عافسنا أو هو جواب "إذا" وجملة عافسنا بتقدير قد حال قاله القاري وللترمذي ونسينا (كثيرا) أي نسينا كثيرا مما ذكرنا به أو نسيانا كثيرا كأنا ما سمعنا منه شيئا قط وهذا أنسب بقوله رأي عين (وما ذاك) أي وما سبب ذلك القول (لو تدومون) أي في حال غيبتكم مني (على ما تكونون عندي) أي من صفاء القلب والخوف من الله تعالى (وفي الذكر) قال الطيبي: عطف على خبر كان الذي هو عندي.

(15/249)


وقال ابن الملك: الواو بمعنى أو عطف على قوله "ما تكونون" أو على عندي أي لو تدومون في الذكر أو على ما تكونون في الذكر وأنتم بعداء مني من الاستغراق
لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات)). رواه مسلم.
?الفصل الثاني?
2292- (10) وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم؟ وأرفعها في درجاتكم؟ وخير لكم من إنفاق الذهب والورق؟
فيه (لصافحتكم الملائكة) قيل: أي علانية وإلا فكون الملائكة يصافحون أهل الذكر حاصل. وقال ابن حجر: أي عيانا في سائر الأحوال (على فرشكم وفي طرقكم) قال الطيبي: المراد الدوام (ولكن يا حنظلة ساعة وساعة) أي ساعة كذا وساعة كذا يعني ساعة في الحضور تؤدون فيها حقوق ربكم، وساعة في الغيبة والفتور تقضون فيها حظوظ أنفسكم لينتظم بذلك أمر الدين والمعاش وفي كل منهما رحمة على العباد. قال في المفاتيح: أي لا يكون الرجل منافقا بأن يكون في وقت على غاية الحضور وصفاء القلب وفي الذكر وفي وقت لا يكون بهذه الصفة، بل لا بأس بأن يكون ساعة في الذكر وساعة في الاستراحة والنوم والزراعة ومعاشرة النساء والأولاد وغير ذلك من المباحات (ثلاث مرات) أي قال ذلك ثلاث مرات وهو يحتمل أن يكون قوله "ولكن يا حنظلة ساعة وساعة" أو قوله "ساعة وساعة" ويحتمل أن يكون المراد تثليث لفظ ساعة أي ساعة في الحضور في الذكر وساعة في حق النفس خاصة وساعة في العاقبة واختار الطيبي الثاني (رواه مسلم) في التوبة وأخرجه أيضا أحمد (ج4ص178) والترمذي وابن ماجه في الزهد.

(15/250)


2292- قوله: (ألا أنبئكم) وفي رواية ألا أخبركم وقوله "ألا" يحتمل أن يكون للتنبيه وأنبئكم استئناف بيان والأظهر أنه مركب "من" لا النافية واستفهام التقرير كما يدل عليه قولهم الآتي بلى (بخير أعمالكم) أي أفضلها لكم (وأزكاها) أي أنماها من حيث الثواب الذي يقابلها وأظهرها من حيث كمال ذاتها لا بالنظر إلى الثواب (عند مليككم) المليك بمعنى المالك للمبالغة. وقال في القاموس: الملك ككتف وأمير وصاحب ذو الملك (وأرفعها) أي أكثرها رفعة بمقتضى السببية (في درجاتكم) أي أكثرها رفعا لمنازلكم في الجنة (وخير لكم من إنفاق الذهب والورق) بكسر الراء وتسكن أي الفضة أي من صرفهما في سبيل الله ابتغاء مرضاته. قال الطيبي: قوله و"خير" مجرور عطفا على خير أعمالكم من حيث المعنى لأن المعنى ألا أنبئكم بما هو خير لكم من بذل أموالكم وأنفسكم في سبيل الله – انتهى. وقال ابن حجر: عطف على "خير أعمالكم" عطف خاص على عام، لأن الأول خير الأعمال مطلقا، وهذا خير من بذل الأموال والأنفس، أو عطف مغاير بأن يراد بالأعمال الأعمال اللسانية فيكون ضد هذا يعني مغايرة، لأن بذل الأموال والنفوس من الأعمال الفعلية انتهى. وقال الشوكاني:
وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناكم؟ قالوا: بلى: قال: ذكر الله)).

(15/251)


في تخصيص هذين العملين الفاضلين: (الإنفاق والجهاد) بالذكر أيضا بعد تعميم جميع الأعمال زيادة تأكيدا لما دل عليه ألا أنبئكم بخير أعمالكم وما بعده من فضيلة الذكر على كل الأعمال ومبالغة في النداء بفضله عليها ودفع لما يظن من أن المراد بالأعمال ههنا غير ما هو متناة في الفضيلة وارتفاع الدرجة – وهو الجهاد والصدقة بما هو محبب إلى قلوب العباد فوق كل نوع من أنواع المال وهو الذهب والفضة (وخير لكم من أن تلقوا عدوكم) أي للجهاد والعدو يطلق على الجمع ولذا جمع ضمير أعناقهم (فتضربوا أعناقهم) أي أعناق بعضهم (ويضربوا) أي بعضهم (أعناقكم) أي كلكم أو بعضكم يعني خير لكم من بذل الأموال والأنفس في سبيل الله بأن تجاهدوا الكفار (قالوا بلى) أي أخبرنا، وفي رواية أحمد وابن ماجه قالوا: وما ذاك يا رسول الله! (قال ذكر الله) أي هو ذكركم له سبحانه وإطلاق الذكر يشمل القليل والكثير مع المداومة وعدمها. وفي الحديث دليل على أن الذكر أفضل عند الله تعالى من جميع الأعمال التي يعملها العبد وإنه أكثرها نماء وبركة وأرفعها درجة وفي هذا ترغيب عظيم، فإنه يدخل تحت الأعمال كل عمل يعمله العبد كائنا ما كان. قال السندي: أحاديث أفضل الأعمال مختلفة، وقد ذكر العلماء في توفيقها وجوها من جملتها أن الاختلاف بالنظر إلى اختلاف أحوال المخاطبين، فمنهم من يكون الأفضل له الاشتغال بعمل، ومنهم من يكون الأفضل له الاشتغال بأخر يعني فمن كان مطيقا للجهاد قوى الأثر فيه شجاعا باسلا يحصل به نفع الإسلام،فأفضل أعماله الجهاد، ومن كان كثير المال غنيا ينتفع الفقراء بماله فأفضل أعماله الصدقة، ومن كان غير متصف بأحد الصفتين المذكورتين فأفضل أعماله الذكر ونحوه. وقال الحافظ: المراد بذكر الله في حديث أبي الدرداء الذكر الكامل وهو ما يجتمع فيه ذكر اللسان والقلب بالتفكر في المعنى واستحضار عظمة الله تعالى، وإن الذي يحصل له ذلك يكون أفضل ممن يقاتل الكفار

(15/252)


مثلا من غير استحضار لذلك، وإن أفضلية الجهاد إنما هي بالنسبة إلى ذكر اللسان المجرد، فمن اتفق له أنه جمع ذلك كمن يذكر الله بلسانه وقلبه واستحضاره وكل ذلك حال صلاته أو في صيامه أو تصدقه أو قتاله الكفار مثلا فهو بلغ الغاية القصوى والعلم عند الله تعالى. وأجاب القاضي أبوبكر بن العربي بأنه ما من عمل صالح إلا والذكر مشترط في تصحيحه، فمن لم يذكر الله عند صدقته أو صيامه مثلا فليس عمله كاملا فصار الذكر أفضل الأعمال من هذه الحيثية، ويشير إلى ذلك حديث نية المؤمن أبلغ من عمله. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في قواعده: هذا الحديث يدل على أن الثواب لا يترتب على قدر النصب في جميع العبادات بل قد يأجر الله تعالى على قليل الأعمال أكثر مما يأجر على كثيرها فإذا الثواب يترتب على تفاوت الرتب في الشرف – انتهى. وقيل: لعل الخيرية والأرفعية في الذكر لأجل إن سائر العبادات من إنفاق الذهب والفضة ومن ملاقاة العدو، والمقاتلة معهم إنما هي وسائل ووسائط تتقرب العباد بها إلى الله تعالى. والذكر إنما هو المقصود الأسنى والمطلوب الأعلى كما قال الله تعالى
رواه مالك، وأحمد، والترمذي، وابن ماجه، إلا أن مالكا وقفه على أبي الدرداء.
2293- (11) وعن عبد الله بن بسر، قال: ((جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أي الناس خير؟ فقال: طوبى لمن طال عمره، وحسن عمله

(15/253)


?وأقم الصلاة لذكرى? [طه:14] وقال ?ولذكر الله أكبر? [العنكبوت: 45] فالذكر لب العبادات. وقال في حجة الله (ج2ص54) الأفضلية تختلف بالاعتبار ولا أفضل من الذكر باعتبار تطلع النفس إلى الجبروت ولا سيما في نفوس زكية لا تحتاج إلى الرياضات وإنما تحتاج إلى مداومة التوجه هذا. وقد بسط الغزالي الكلام في ذلك في آخر الباب الأول من كتاب الأذكار من إحياء العلوم فارجع إليه (رواه مالك) في أواخر الصلاة (وأحمد) (ج5ص195) موصولا ومنقطعا وفي (ج6ص447) منقطعا (والترمذي) في الدعوات (وابن ماجه) في فضل الذكر، وأخرجه أيضا الحاكم (ج1ص496) وابن أبي الدنيا والطبراني في الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان وابن شاهين في الترغيب في الذكر، وحسن إسناده المنذري والهيثمي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. (إلا أن مالكا وقفه) بالتخفيف (على أبي الدرداء) يعني والباقون رفعوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يضر لأن الحكم لمن وصل لا لمن وقف لأن مع الأول زيادة العلم بالوصل وزيادة الثقة مقبولة، ولأن هذا مما لا يقال من قبل الرأي فوقفه كرفع غيره قاله القاري. قلت: وفي سند الموطأ انقطاع أيضا فإنه رواه مالك عن زياد بن أبي زياد إنه قال قال أبوالدرداء: ألا أخبركم الخ ورواه أحمد (ج5ص195) والترمذي وابن ماجه وغيرهم من طريق زياد ابن أبي زياد عن أبي بحرية عن أبي الدرداء، وفي الباب عن معاذ بن جبل عند أحمد. قال المنذري: بإسناد جيد إلا أن فيه انقطاعا. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح إلا أن زياد بن أبي زياد لم يدرك معاذا وعن ابن عمر عند البيهقي في شعب الإيمان.

(15/254)


2293- قوله: (طوبى) فعلى من الطيب (لمن طال عمره) بضمتين على ما هو الأفصح الوارد في كلامه سبحانه، وفي القاموس العمر بالفتح وبالضم وبضمتين الحياة (وحسن عمله) قال الطيبي: إن الأوقات والساعات كرأس المال للتاجر فينبغي أن يتجر فيما يربح فيه وكلما كان رأس ماله كثيرا كان الربح أكثر فمن انتفع من عمره بأن حسن عمله فقد فاز وأفلح، ومن أضاع رأس ماله لم يربح وخسر خسرانا مبينا – انتهى. قال ابن حجر: طوبى فعلى من الطيب، والمراد بها الثناء عليه والدعاء له بطيب حاله في الدارين، وإلا ظهر أنه خبر لأنه في جواب أي الناس خير، ويمكن أن يكون المراد من طوبى الجنة أو شجرة في الجنة تعم أهلها وتشمل محلها. قال الطيبي: وكان من الظاهر أن يجاب من طال عمره وحسن عمله، فالجواب من الأسلوب الحكيم كأنه قال غير خاف إن خير الناس من طال عمره وحسن عمله بل الذي يهمك أن تدعوا له فتصيب من بركته – انتهى.
قال: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله)). رواه أحمد والترمذي.
2294- (12) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مررتم برياض الجنة

(15/255)


والأظهر أنه إخبار عن طيب حاله وحسن مآله فيكون متضمنا للجواب ببلاغة مقاله كذا في المرقاة. قلت: الرواية عند أحمد والترمذي بغير زيادة كلمة "طوبى" وكذا ذكرها الجزري بغير هذه الزيادة في جامع الأصول (ج12ص321) فالجواب في روايتهما على ما يقتضيه الظاهر (ولسانك) الواو للحالية (رطب) بفتح الراء وسكون الطاء أي قريب العهد أو متحرك طري (من ذكر الله) قال الطيبي: رطوبة اللسان عبارة عن سهولة جريانه كما أن يبسه عبارة عن ضده ثم إن جريان اللسان عبارة عن مداومة الذكر فكأنه قيل خير الأعمال مداومة الذكر، فهو من أسلوب قوله تعالى: ?ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون? [البقرة: 132] انتهى. وقيل: المقصود في الحديث الحث على الذكر القلبي والمداومة عليه، لكن لما كان الذكر اللساني دالا عليه ومنبئا عنه مثابا عليه اكتفى بذكره إقامة للدال مقام المدلول. وأما إذا اجتمعا فهو أولى وأحرى (رواه أحمد والترمذي) فيه نظر فإن بين السياق الذي ذكره المصنف ههنا تبعا للمصابيح وبين سياق أحمد والترمذي فرقا بينا، فإن الترمذي أخرج الفصل الأول فقط في باب ما جاء في طول العمر للمؤمن من كتاب الزهد بلفظ: إن أعرابيا قال يا رسول الله! من خير الناس قال من طال عمره وحسن عمله. وروى الفصل الثاني فقط بسنده الأول في فضل الذكر من الدعوات بالسياق الذي يأتي في الفصل الثالث من هذا الباب. وأما الإمام أحمد فروى الحديث بتمامه في موضعين الأول بلفظ: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرابيان فقال أحدهما من خير الرجال يا محمد: قال من طال عمره وحسن عمله، وقال الآخر: إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا فباب نتمسك به جامع قال لا يزال لسانك رطبا بذكر الله، والثاني بلفظ: جاء أعرابيان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما أي الناس خير؟ قال من طال عمره وحسن عمله. وقال الآخر يا رسول الله: إن شرائع الإسلام فذكر مثل السياق الآتي في الفصل الثالث، ونسب

(15/256)


هذا الحديث في تنقيح الرواة للبغوي في شرح السنة والله اعلم. والحديث قد حسنه الترمذي، وروى الجزء الأول أيضا الطبراني في الكبير وأبونعيم في الحلية كما في الجامع الصغير. وروى نحوه أحمد ورجاله رجال الصحيح وابن حبان في صحيحه والبيهقي عن أبي هريرة والترمذي وصححه، وأحمد والدارمي والطبراني والحاكم: والبيهقي عن أبي بكرة وأبويعلى بإسناد حسن عن أنس والحاكم عن جابر. وقال صحيح على شرط الشيخين، وأما الجزء الثاني فسيأتي تخريجه في الفصل الثالث.
2294- قوله: (إذا مررتم برياض الجنة) جمع روضة، وهي أرض مخضرة بأنواع النبات يقال لها
فارتعوا. قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر)). رواه الترمذي.
2295- (13) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قعد مقعدا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضجعا لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة

(15/257)


بالفارسية مرغزار أي بساتينها الموضوعة في الدنيا المورثة للجنات العالية في العقبى، والمراد بها مجالس الذكر ومواضعه فهو من باب تسمية الشيء باسم ما يؤل إليه أو بما يوصل إليه (فارتعوا) من رتع كمنع رتعا ورتوعا ورتاعا بالكسر، أكل وشرب ما شاء في خصب وسعة، أو هو الأكل والشرب رغدا أو في الريف أو بشره، وهو كناية عن أخذ الحظ الأوفر والنصيب الأوفى، يعني فافعلوا فيها ما يكون سببا لحصولها من الأذكار لما جاء أن الجنة قيعان وغراسها أذكاره تعالى (حلق الذكر) أي هي حلق الذكر. قال في النهاية: الحلق بكسر الحاء وفتح اللام جمع الحلقة (بفتح الحاء وسكون اللام مثل قصعة وقصع) وهي الجماعة من الناس مستديرون كحلقة الباب وغيره. وقال في جامع الأصول: الحلقة بسكون اللام الشيء المستدير كحلقة الخاتم ونحوها، والمراد به الجماعة من الناس يكونون كذلك. وقال الجوهري: جمع الحلقة حلق بفتح الحاء على غير قياس. وحكى عن أبي عمر وإن الواحد حلقة بالتحريك والجمع حلق بالحق بالفتح. وقال ثعلب كلهم يجيزه على ضعفه. شبه في هذا الحديث مجالس الذكر وفي حديث ابن عباس عند الطبراني مجالس العلم برياض الجنة، وشبه الاشتغال بالأذكار واكتساب العلم وهو علم الكتاب والسنة وما يتوصل به إليهما برتع الحيوانات في أنواع النبات بجامع النفع قيل: هذا الحديث مطلق في المكان والذكر فيحمل على المقيد المذكور في باب المساجد والذكر هو سبحان الله والحمد لله الخ ذكره الطيبي، والأظهر حمله على العموم وذكر الفرد الأكمل بالخصوص لا ينافي عموم المنصوص. وقد تقدم شيء من الكلام في هذا في شرح حديث أبي هريرة في باب المساجد فعليك أن تراجعه (رواه الترمذي) في الدعوات وحسنه وأخرجه أيضا أحمد والبيهقي في شعب الإيمان.

(15/258)


2295- قوله: (كانت) أي القعدة (عليه) أي على القاعد (من الله) أي من جهة أمره وحكمه (ترة) بكسر التاء وتخفيف الراء أي حسرة والموتور الذي قتل له قتيل ولم يدرك بدمه وكذلك وتره حقه أي نقصه وكلا الأمرين معقب للحسرة، ومنه قوله تعالى: ?لن يتركم أعمالكم? [محمد: 35] أي لن ينقصكم أعمالكم والهاء عوضا عن الواو المحذوفة مثل عدة. وقال الجزري: أصل الترة، النقص، ومعناها ههنا التبعة، يقال وترت الرجل ترة على وزن وعدته عدة. وقال النووي في الأذكار: معناه نقص وقيل: تبعه ويجوز أن يكون حسرة كما في الرواية الأخرى – انتهى. وهو منصوب على الخبرية وروى بالرفع على أن الكون تام (ومن اضطجع مضجعا لا يذكر الله فيه كانت) أي الاضطجاعة (من الله ترة) بالوجهين. قال الطيبي: كانت في الموضعين رويت على
رواه أبوداود.
2296- (14) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم حسرة)). رواه أحمد وأبوداود.

(15/259)


التأنيث في أبي داود وجامع الأصول وفي الحديثين اللذين يليانه على التذكير فيهما فعلى رواية التأنيث في كانت ورفع ترة ينبغي أن يؤول مرجع الضمير في كانت مؤنثا إلى القعدة أو الاضطجاعة فيكون ترة مبتدأ والجار والمجرور أي عليه خبر، والجملة خبر كانت. وأما على رواية التذكير ونصب ترة كما هو في المصابيح فظاهر والجار متعلق بترة ويؤيد هذه الرواية الأحاديث الآتية بعد – انتهى. قال القاري: ويمكن أن يقال تأنيث كان لتأنيث الخبر وقال الجزري: يجوز رفع ترة ونصبها على أنه اسم كان وخبرها. قال القاري: ثم المراد يذكر المكانين استيعاب الأمكنة كذكر الزمانين بكرة وعشيا لاستيعاب الأزمنة يعني من فتر ساعة من الأزمنة وفي مكان من الأمكنة وفي حال من الأحوال من قيام وقعود واضطجاع كان عليه حسرة وندامة، لأنه ضيع عظيم ثواب الذكر كما ورد ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرت بهم ولم يذكروا الله فيه – الحديث. (أخرجه الطبراني والبيهقي عن معاذ) ثم في الحديث أتى "بلم" في الجملة الأولى و"بلا" في الجملة الثانية تفننا – انتهى. (رواه أبوداود) في الأدب وسكت عنه. قال المنذري في الترغيب: رواه أحمد وابن أبي الدنيا والنسائي وابن حبان في صحيحه بنحوه وعزاه في تلخيص السنن إلى النسائي. وقال في إسناده محمد بن عجلان وفيه مقال.

(15/260)


2296- قوله: (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار) أي ملئها في النتن والقذارة وذلك لغفلتهم عن الذكر ولأن المجلس لا يخلو عادة عن لغو الكلام وسقطه وعن الكلام في إعراض الناس. قال الطيبي: أي ما يقومون قياما إلا هذا القيام وضمن قاموا معي تجاوزوا وبعدوا فعدي بعن يعني لا يوجد عنهم قيام عن مجلسهم إلا كقيام المتفرقين عن أكل الجيفة التي هي غاية في القذر والنتن والجيفة جثة الميت المنتنة. قال ابن الملك: وتخصيص جيفة الحمار بالذكر لأنه أدون الجيف من بين الحيوانات التي تخالطنا وفي هذا التشبيه غاية التنفير عن ترك ذكر الله تعالى في المجالس، وإنه مما ينبغي لكل أحد أن لا يجلس في مجلس الغفلة ولا يلابس أهله. وإن يفر عنه كما يفر عن جيفة الحمار، فإن كل عاقل يفر عنها ولا يقعد عندها (وكان) أي ذلك المجلس (عليهم حسرة) أي ندامة يوم القيامة بسبب تفريطهم في ذكر الله في ذلك المجلس وذلك لما يظهر لهم في موقف الحساب من أجور العامرين لمجالسهم بذكر الله تعالى فيتحسرون على كل لحظة من أعمارهم لم يذكروا الله فيها. وحسرة روى بالنصب على أنه خبر "كان" وبالرفع على أنه اسم "كان" أو على أن كان تامة أي وقع عليهم حسرة (رواه أحمد وأبوداود) في الأدب وسكت عنه هو والمنذري. وقال النووي في الأذكار: إسناده صحيح وأخرجه أيضا
2297- (15) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم، إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم)). رواه الترمذي.
2298- (16) وعن أم حبيبة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو ذكر الله)).
النسائي وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص143) والحاكم (ج1ص492) وقال حديث على شرط مسلم.

(15/261)


2297- قوله (ولم يصلوا على نبيهم) تخصيص بعد تعميم (إلا كان) أي ذلك المجلس (عليهم ترة فإن شاء عذبهم) أي بذنوبهم السابقة وتقصيراتهم اللاحقة. وقال الطيبي: دل على أن المراد بالترة التبعة قال وقوله "فإن شاء عذبهم" من باب التشديد والتغليظ ويحتمل أن يصدر من أهل المجلس ما يوجب العقوبة من حصائد ألسنتهم (وإن شاء غفر لهم)أي كرما منه وفضلا ورحمة، وفيه إيماء بأنهم إذا ذكروا الله لم يعذبهم حتما بل يغفر لهم جزما (رواه الترمذي) من طريق سفيان عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة، وقال حديث حسن. وقد روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه – انتهى. وأخرجه الحاكم (ج1ص496) من طريق عمارة بن غزية عن صالح. وقال حديث صحيح الإسناد وصالح ليس بالساقط، وتعقبه الذهبي فقال صالح ضعيف. وقال الترغيب بعد ذكر تحسين الترمذي: ورواه بهذا اللفظ ابن أبي الدنيا والبيهقي - انتهى. قلت: صالح مولى التوأمة صدوق اختلط بآخره لا بأس برواية القدماء عنه، ولقيه السفيانان بعد ما كبر وتغير وخرف كما في التهذيب والظاهر إن الترمذي حسنه لمتابعاته وشواهده، فقد ورد في كراهة القيام من المجلس قبل ذكر الله أحاديث ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10ص79، 80) من شاء الوقوف عليها رجع إليه.

(15/262)


2298- قوله: (كل كلام ابن آدم) كذا في جميع النسخ بزيادة كل وهكذا في المصابيح وجامع الأصول والترغيب، والذي في الترمذي وابن ماجه كلام ابن آدم أي بدون لفظ "كل" أو هكذا وقع في الوابل الصيب لابن القيم (عليه) أي ضرره ووباله عليه ولو كان مباحا، فإن أقله تطويل الحساب وقد يجر إلى المكروه أو المحرم فيصير سببا للعذاب، أو يورث الغفلة عن الذكر فيكون وسيلة إلى نقص الثواب. وقيل: معنى "عليه" أي يكتب عليه (لا له) أي ليس له نفع فيه أولا يكتب له ذكره تأكيدا (إلا أمر بمعروف) مما فيه نفع الغير من الأوامر الشرعية (أو نهي عن منكر) مما فيه موعظة الخلق من الأمور المنهية (أو ذكر الله) أي ما فيه رضا الله من الأذكار الإلهية. قال القاري: وظاهر الحديث أنه لا يظهر في الكلام نوع يباح للأنام اللهم إلا أن يحمل على المبالغة والتأكيد في الزجر عن القول الذي ليس بسديد وقد يقال إن قوله "لا له" تفسير لقوله "عليه" ولا شك أن
رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب.
2299- (17) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي)). رواه الترمذي.

(15/263)


المباح ليس له نفع في العقبى أو يقال التقدير كل كلام ابن آدم حسرة عليه لا منفعة له فيه إلا المذكورات وأمثالها، فيوافق بقية الأحاديث المذكورة وهو مقتبس من قوله تعالى: ?لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس? [النساء: 114] وبه يرتفع اضطراب الشراح في أمر المباح – انتهى كلام القاري. (رواه الترمذي) في الزهد (وابن ماجه) في الفتن كلاهما من طريق محمد بن يزيد بن خنيس المكي عن سعيد بن حسان عن أم صالح بنت صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبية (وقال الترمذي: هذا حديث غريب) وفي بعض نسخ الترمذي حسن غريب ونسبه المنذري في الترغيب لابن أبي الدنيا أيضا. وقال بعد ذكر كلام الترمذي: رواته ثقات وفي محمد بن يزيد كلام قريب لا يقدح وهو شيخ صالح – انتهى. قلت: وأم صالح بنت صالح. قال الحافظ في التقريب: إنها لا يعرف حالها.

(15/264)


2299- قوله: (لا تكثروا) بضم التاء من الإكثار كذا وقع في جميع النسخ بصيغة الجمع، وهكذا في المصابيح وجامع الأصول وكذا نقله المنذري في الترغيب وعلي المتقي في الكنز والنووي في الرياض والذي في نسخ الترمذي الموجودة عندنا لا تكثر بصيغة الإفراد (الكلام بغير ذكر الله) فيه إشارة إلى أن بعض الكلام مباح وهو ما يعينه (فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة) بفتح القاف وسكون السين أي سبب قساوة (للقلب) وهي النبو عن سماع الحق والميل إلى مخالطة الخلق وقلة الخشية وعدم الخشوع والبكاء وكثرة الغفلة عن دار البقاء (وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي) أي صاحبه أو التقدير أبعد قلوب الناس القلب القاسي أو أبعد الناس من له القلب القاسي. قال الطيبي: ويمكن أن يعبر بالقلب عن الشخص لأنه به كما قيل المرأ بأصغريه أي بقلبه ولسانه، فلا يحتاج إذا إلى حذف الموصول مع بعض الصلة قال تعالى: ?ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة? الآية [البقرة: 74] وقال عزوجل: ?ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم? [الحديد: 16] (رواه الترمذي) في الزهد وأخرجه أيضا البيهقي وابن شاهين في الترغيب كما في الكنز. وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن عبدالله بن حاطب (عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر) قال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: رواه الترمذي والبيهقي. وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
2300- (18) وعن ثوبان، قال: ((لما نزلت ?والذين يكنزون الذهب والفضة? كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره: فقال بعض أصحابه: نزلت في الذهب والفضة، لو علمنا أي المال خير فنتخذه؟ فقال أفضله لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه))

(15/265)


2300- قوله: (فقال بعض أصحابه نزلت في الذهب والفضة) أي ما نزلت أو نزلت هذه الآية في الذهب والفضة وعرفنا حكمها ومذمتهما (لو علمنا) لو للتمني (أي المال خير) مبتدأ وخبر والجملة سدت مسد المفعولين لعلمنا تعليقا (فنتخذه) منصوب بإضمار أن بعد الفاء جوابا للتمني واللفظ المذكور للترمذي. ولفظ أحمد (ج5ص278) فقال بعض أصحابه قد نزل في الذهب والفضة ما نزل فلو أنا علمنا أي المال خير اتخذناه. قيل: السؤال وإن كان عن تعيين المال ظاهرا لكنهم أرادوا ما ينتفع به عند تراكم الحوائج فلذلك أجاب عنه بما أجاب ففيه شائبة عن الجواب عن أسلوب الحكيم (فقال أفضله) أي أفضل المال أو أفضل ما يتخذه الإنسان قنية (لسان ذاكر) أي بتحميد الله تعالى وتقديسه وتسبيحه وتهليله والثناء عليه بجميع محامده وتلاوة القرآن (وقلب شاكر) أي على إنعامه وإحسانه (وزوجة مؤمنة) قال الطيبي: الضمير في أفضله راجع إلى المال على التأويل بالنافع أي لو علمنا أفضل الأشياء نفعا فنقتنيه ولهذا السر استثنى الله من أتى الله بقلب سليم من قوله : ?مال ولا بنون? [الشعراء: 88] والقلب إذا سلم من آفاته شكر الله تعالى، فسرى ذلك إلى لسانه فحمد الله وأثنى عليه، ولا يحصل ذلك إلا بفراغ القلب ومعاونة رفيق يعينه في طاعة الله – انتهى. ولهذا قال (تعينه على إيمانه) أي على دينه بأن تذكره الصلاة والصوم وغيرهما من العبادات وتمنعه من الزنا وسائر المحرمات قال السندي: عد المذكورات من المال المشاركتها للمال أي في ميل قلب المؤمن إليها وإنها أمور مطلوبة عنده، ثم عدها من أفضل الأموال لأن نفعها باق ونفع سائر الأموال زائل، وبالجملة فالجواب من أسلوب الحكيم للتنبيه على أن هم المؤمن ينبغي أن يتعلق بالآخرة فيسأل عما ينفعه، وإن أموال الدنيا كلها لا تخلو عن الشر – انتهى. قال القاري: ظاهر كلام الطيبي إن القلب مقدم على اللسان في نسخته فبنى عليه ما ذكر، وإلا فيقال إذا ذكر الله

(15/266)


بلسانه سرى ذلك إلى جنانه فشكر على إحسانه فقدر الله تعالى له مؤنسة تعينه على إيمانه – انتهى. قلت: وقع في رواية ابن ماجه وكذا في رواية لأحمد بتقديم القلب على اللسان ولفظهما عن ثوبان. قال: لما نزل في الفضة والذهب ما نزل. قالوا فأي المال نتخذ قال عمر أنا اعلم ذلك لكم قال فأوضع على بعير فأدركه وأنا في أثره فقال يا رسول الله! أي المال نتخذ قال ليتخذ أحدكم قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة مؤمنة تعينه على أمر الآخرة
رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه.
?الفصل الثالث?
2301- (19) عن أبي سعيد، قال: ((خرج معاوية على حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا غيره.
(رواه أحمد) (ج5ص278- 282) (والترمذي) في تفسير سورة التوبة واللفظ له (وابن ماجه) في أبواب النكاح كلهم من طريق سالم بن أبي الجعد عن ثوبان. قال الترمذي: حديث حسن سألت محمد بن إسماعيل فقلت له سالم بن أبي الجعد سمع من ثوبان فقال لا، قلت له ممن سمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال سمع من جابر بن عبد الله وأنس بن مالك. وذكر غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – انتهى. وقال الذهلي عن أحمد: لم يسمع سالم من ثوبان ولم يلقه وبينهما معدان بن أبي طلحة. وقال أبوحاتم: أدرك أبا أمامة ولم يدرك عمرو بن عبسة ولا أبا الدرداء ولا ثوبان كذا في تهذيب التهذيب (ج3ص432) قلت: والحديث يؤيده ما رواه الطبراني عن ابن عباس. قال المنذري بإسناد جيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أرب من أعطيهن فقد أعطى خير الدنيا والآخرة قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وبدنا على البلاء صابرا، وزوجة لا تبغيه حوبا في نفسها وماله.

(15/267)


2301- قوله: (خرج معاوية) بن أبي سفيان (على حلقة) بسكون اللام وتفتح أي جماعة متحلقة. قال في المجمع: الحلقة كالقصعة، وهي الجماعة من الناس مستديرون. وقال الجزري: قوله "حلقة" بسكون اللام الشيء المستدير كحلقة الخاتم ونحوها، والمراد به الجماعة من الناس يكونون كذلك (فقال ما أجلسكم) أي ما السبب الداعي إلى جلوسكم على هذه الهيئة ههنا وهو استفهام (قال آلله) بالمد والجر. قال السيد جمال الدين: قيل الصواب بالجر لقول المحقق الشريف في حاشيته همزة الاستفهام وقعت بدلا عن حرف القسم ويجب الجر معها – انتهى. وكذا صحح في أهل سماعنا من المشكاة ومن صحيح مسلم. ووقع في بعض نسخ المشكاة بالنصب – انتهى. وقال الطيبي: قيل آلله بالنصب أي أتقسمون بالله؟ فحذف الجار وأوصل الفعل ثم حذف الفعل كذا في المرقاة. وقال في اللمعات: قد يحذف حرف القسم فينصب بالإيصال وقد يجر نحو الله لأفعلن كذا ثم أدخلت حرف الاستفهام فمد. وقيل: حرف الاستفهام صار بدلا من حرف القسم فيجر بها، ويرده جواز النصب بل هو الغالب والجر شاذ، وإدخال حرف الاستفهام في الجواب بطريق المشاكلة – انتهى. (قالوا آلله) تقديره أي أو نعم نقسم بالله (ما أجلسنا غيره) فوقع الهمزة موقعها مشاكلة وتقريرا لذلك كما قرره الطيبي، وفي نسخ
قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثا مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: ما أجلسكم ههنا؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومن به علينا. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك. قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه آتاني جبرئيل فأخبرني أن الله عزوجل يباهي بكم الملائكة)).

(15/268)


مسلم الموجودة عندنا قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، وهكذا وقع في بعض نسخ الترمذي: (قال) أي معاوية (أما) بالتخفيف للتنبيه (إني) بكسر الهمزة (لم أستحلفكم تهمة لكم) بضم أوله وسكون الهاء وتفتح. قال في النهاية: التهمة وقد تفتح الهاء فعلة من الوهم، والتاء بدل من الواو أتهمته ظننت فيه ما نسب إليه أي ما أستحلفكم تهمة لكم بالكذب ولكني أردت المتابعة والمشابهة فيما وقع له صلى الله عليه وسلم مع الصحابة، وقدم بيان قربه منه عليه الصلاة والسلام وقلة نقله من أحاديثه دفعا لتهمة الكذب عن نفسه فيما ينقله فقال. (وما كان أحد بمنزلتي) أي بمنزلة قربي (من رسول الله صلى الله عليه وسلم) لكونه محرما لأم حبيبة أخته من أمهات المؤمنين ولكونه من إجلاء كتبة الوحي (أقل) خبر كان (عنه) أي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا مني) أي لاحتياطي في الحديث وإلا كان مقتضى منزلته أن يكون كثير الرواية (ومن) فعل ماض من المن من باب نصر أي أنعم (به) أي بالإسلام (علينا) أي من بين الأنام كما حكى الله تعالى عن مقول أهل دار السلام ?الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله? [الأعراف: 43] (قال آلله ما أجلسكم إلا ذلك) لعله أراد به الإخلاص (قال أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم) لأنه خلاف حسن الظن بالمؤمنين (ولكنه) أي الشأن (إن الله عزوجل يباهي بكم الملائكة) أي فأردت أن أحقق بماذا كانت المباهاة فللاهتمام بتحقيق ذلك الأمر الإشعار بتعظيمه أستحلفكم. قال النووي: قوله "إن الله يباهي بكم الملائكة" معناه يظهر فضلكم لهم ويريهم حسن عملكم ويثنى عليكم عندهم، وأصل البهاء الحسن والجمال، وفلان يباهي بماله وأهله أي يفتخر ويتجمل بهم على غيرهم ويظهر حسنهم – انتهى. وقيل: معنى المباهاة بهم إن الله تعالى يقول لملائكته أنظروا إلى عبيدي هؤلاء كيف سلطت عليهم نفوسهم وشهواتهم وأهويتهم والشيطان وجنوده ومع ذلك قويت همتهم على مخالفة

(15/269)


هذه الدواعي القوية إلى البطالة وترك العبادة والذكر فاستحقوا أن يمدحوا أكثر منكم، لأنكم لا تجدون للعبادة مشقة بوجه، وإنما هي منكم كالتنفس منهم ففيها غاية الراحة والملائمة للنفس. قال الطيبي: أي فأردت أن أتحقق
رواه مسلم.
2302- (20) وعن عبدالله بن بسر، أن رجلا قال: ((يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأخبرني بشي أتشبث به. قال: لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله)).
ما هو السبب في ذلك فالتحليف لمزيد التقرير والتأكيد لا التهمة، كما هو الأصل في وضع التحليف فإن من لا يتهم لا يحلف. قال ابن القيم: هذه المباهاة من الله تعالى دليل على شرف الذكر عند الله ومحبته له وإن له مزية على غيره من الأعمال (رواه مسلم) في الدعوات وأخرجه أيضا أحمد (ج4ص92) والترمذي في الدعوات وأخرج النسائي في آخر القضاء المسند منه فقط ونسبه في الكنز لابن حبان أيضا.

(15/270)


2302- قوله: (إن رجلا) هذا لفظ الترمذي ولابن ماجه إن أعرابيا (إن شرائع الإسلام) قال الطيبي: الشريعة مورد الإبل على الماء الجاري والمراد ما شرع الله وأظهره لعباده من الفرائض والسنن – انتهى. قال القاري: والظاهر إن المراد بها ههنا النوافل لقوله (قد كثرت علي) بضم المثلثة ويفتح أي غلبت علي بالكثرة حتى عجزت عنها لضعفي (فأخبرني بشي) قال الطيبي: التنكير في بشي للقليل المتضمن لمعنى التعظيم كقوله تعالى: ?ورضوان من الله أكبر? [التوبة: 72] ومعناه أخبرني بشي يسير مستجلب لثواب كثير – انتهى. (أتشبث به) بتشديد الموحدة أي أتعلق به واعتصم واستمسك وهذا لفظ الترمذي، ولابن ماجه فأنبئني منها بشي أتشبث به قال السندي: أي ليسهل علي أدائها أو ليحصل به فضل ما فات منها من غير الفرائض ولم يرد الاكتفاء به عن الفرائض والواجبات والله اعلم – انتهى. وقال الطيبي: لم يرد أنه يترك ذلك رأسا ويشتغل بغيره فحسب. وإنما أراد إنه بعد أداء ما افترض عليه يتشبث بما يستغني به عن سائر ما لم يفترض عليه (قال لا يزال) أي هو إنه لا يزال (لسانك رطبا من ذكر الله) أي طريا مشتغلا قريب العهد منه وهو كناية عن المداومة على الذكر. قال ابن القيم في الوابل الصيب: الفائدة السابعة والخمسون للذكر أن أدامته تنوب عن التطوعات وتقوم مقامها سواء كانت بدنية أو مالية كحج التطوع، وقد جاء ذلك صريحا في حديث أبي هريرة إن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ولهم فضل أموالهم يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون. فقال: ألا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم. قالوا: بلى يا رسول الله! قال تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة – الحديث متفق عليه. فجعل الذكر عوضا لهم عما فاتهم من الحج

(15/271)


والعمرة والجهاد وأخبر أنهم يسبقونهم بهذا الذكر، فلما سمع أهل الدثور بذلك عملوا به فازدادوا إلى صدقاتهم وعبادتهم بمالهم التعبد بهذا الذكر فحازوا الفضيلتين فنفسهم الفقراء وأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم
رواه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
2303- (21) وعن أبي سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل: ((أي العباد أفضل وأرفع درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات. قيل: يا رسول الله!

(15/272)


قد شاركوهم في ذلك وانفردوا عنهم بما لا قدرة لهم عليه، فقال: ?ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء? [الجمعة: 4] وفي حديث عبدالله بن بسر قال جاء أعرابي فقال: يا رسول الله! كثرت علي خلال الإسلام وشرائعه فأخبرني بأمر جامع يكفيني. قال: عليك بذكر الله تعالى قال: ويكفيني يا رسول الله قال نعم ويفضل عنك. فدله الناصح - صلى الله عليه وسلم - على شيء يبعثه على شرائع الإسلام والحرص والاستكثار منها، فإنه إذا اتخذ ذكر الله تعالى شعاره أحبه وأحب ما يحب فلا شيء أحب إليه من التقرب بشرائع الإسلام، فدله - صلى الله عليه وسلم - على ما يتمكن به من شرائع الإسلام وتسهل به عليه وهو ذكر الله عزوجل (رواه الترمذي) في الدعوات واللفظ له (وابن ماجه) في فضل الذكر وأخرجه أيضا أحمد (ج4ص188، 190) والحاكم (ج1ص195) وابن حبان وابن أبي شيبة. والحديث حسنه الترمذي وصححه الحاكم والذهبي. قال الحافظ: وأخرج ابن حبان نحوه أيضا من حديث معاذ بن جبل، وفيه أنه السائل عن ذلك. وحديث عبدالله بن بسر عزاه الجزري في جامع الأصول (ج5ص241) للترمذي فقط وذكره بلفظ: إن رجلا قال: يا رسول الله! إن أبواب الخير كثيرة ولا أستطيع القيام بكلها فأخبرني بشي أتشبث به ولا تكثر علي فأنسى قال، وفي رواية إن شرائع الإسلام قد كثرت وأنا قد كبرت فأخبرني بشي أتشبث به ولا تكثر علي فأنسى، قال لا يزال لسانك رطبا بذكر الله تعالى – انتهى. ولم أجد هذا السياق في جامع الترمذي.

(15/273)


2303- قوله: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل أي العباد أفضل) وفي مسند الإمام أحمد إن أبا سعيد هو السائل عن ذلك (وأرفع) ليس هذا اللفظ في المسند ولا في نسخ الترمذي الموجودة عندنا، نعم ذكره الجزري في جامع الأصول وابن القيم في الوابل الصيب، ونسبا الحديث للترمذي. (قال الذاكرون الله كثيرا) قيل: المراد بهم المداومون على ذكره ومكره، والقائمون بالطاعة المواظبون على شكره. وقيل: المراد بهم الذين يأتون بالأذكار الواردة في جميع الأحوال والأوقات (والذاكرات) أي الله كثيرا. قال القاري: وفي بعض النسخ أي من المشكاة والذاكرات غير موجودة – انتهى. قلت: وسقوطها هو الصواب فإنها ليست عند أحمد ولا الترمذي ولم يذكرها أحد ممن عزا الحديث للترمذي كالنووي في الأذكار والمنذري في الترغيب والجزري في جامع الأصول والسيوطي في الجامع الصغير وابن القيم في الوابل الصيب وعلي المتقي في الكنز والشوكاني في تحفة الذاكرين. ولم يذكرهن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع إرادتهن تغليبا للمذكر على المؤنث (قيل يا رسول الله) وفي المسند قال قلت: …
ومن الغازي في سبيل الله؟ قال: لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما، فإن الذاكر لله أفضل منه درجة)). رواه أحمد والترمذي. وقال: هذا حديث حسن غريب.
2304- (22) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس، وإذا غفل وسوس)).

(15/274)


يا رسول الله! (ومن الغازي في سبيل الله) أي الذاكرون أفضل من غيرهم، ومن الغازي أيضا قالوا ذلك تعجبا (قال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جوابه (لو ضرب) أي الغازي (بسيفه في الكفار) هذا من قبيل يجرح في عراقيبها نصلي حيث جعل المفعول به مفعولا فيه مبالغة أن يوجد فيهم الضرب ويجعلهم مكانا للضرب بالسيف، لأن جعلهم مكانا للضرب أبلغ من جعلهم مضروبين به فقط (والمشركين) تخصيص بعد تعميم اهتماما بشأنهم فإنهم ضد الموحدين (حتى ينكسر) أي سيفه (ويختضب) أي هو أو سيفه (دما) وهو كناية عن الشهادة (فإن الذاكر لله) وفي المسند، والترمذي لكان الذاكرون الله (أفضل منه) أي من الغازي (درجة) تحتمل الوحدة أي بدرجة واحد عظيمة وتحتمل الجنس أي بدرجات متعددة (رواه أحمد) (ج3ص78) (الترمذي) في الدعوات ونسبه في الكنز لأبي يعلى وابن شاهين أيضا. قال المنذري: ورواه البيهقي مختصرا قال قيل يا رسول الله! أي الناس أعظم درجة قال الذاكرون الله (وقال) أي الترمذي (هذا حديث حسن غريب) كذا في بعض النسخ بزيادة لفظ حسن، وفي بعضها هذا حديث غريب، أي بحذف لفظ حسن كما في جامع الترمذي والترغيب والكنز، وفي سنده ابن لهيعة وفيه كلام معروف عن دراج عن أبي الهيثم. قال في التقريب في ترجمة دراج: أنه صدوق وفي حديثه عن أبي الهيثم ضعف.

(15/275)


2304- قوله: (الشيطان جاثم) بجيم ومثلثة أي لازم الجلوس ودائم اللصوق من جثم الرجل أو الطائر أو الحيوان بجثم جثما وجثوما أي تلبد بالأرض ولزمها والتصق بها على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله) أي ابن آدم بقلبه أو ذكر قلبه الله (خنس) من باب ضرب ونصر أي انقبض الشيطان وتأخر وتنحى عنه، ولكثرة هذا الوصف فيه سمي الخناس في سورة الناس. قال الجزري: الخنوس التأخر والانقباض (وإذا غفل) بمعجمة وفاء أي هو أو قلبه عن ذكر الله (وسوس) أي إليه الشيطان وتمكن تمكنا تاما منه، وفيه إيماء إلى أن الغفلة سبب الوسوسة لا العكس، ووقع في حديث الحارث الأشعري عند أحمد والترمذي وأمركم أن تذكروا الله تعالى فإن مثل ذلك مثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى إذا أتى إلى حصن حصين فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله – انتهى. قال ابن القيم: لو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقا
رواه البخاري تعليقا.
2305- (23) وعن مالك، قال: ((بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ذاكر الله في الغافلين كالمقاتل خلف الفارين،

(15/276)


بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى وأن لا يزال لهجا بذكره فإنه لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر ولا يدخل عليه العدو، إلا من باب الغفلة فهو يرصده، فإذا غفل وثب عليه وافترسه، وإذا ذكر الله تعالى انخنس عدو الله تعالى وتصاغر وانقمع حتى يكون كالوصع وكالذباب ولهذا سمي الوسواس الخناس أي يوسوس في الصدور، فإذا ذكر الله خنس أي كف وانقبض، ثم ذكر عن عباس مثل حديث الباب موقوفا عليه. (رواه البخاري تعليقا) أي بلا ذكر سند قلت في عزو هذا السياق المرفوع للبخاري نظر فإنه ذكر في تفسير سورة الناس معناه عن ابن عباس موقوفا عليه من قوله لا مرفوعا حيث قال: ويذكر عن ابن عباس الوسواس إذا ولد خنسه الشيطان (أي أخره وأزاله عن مكانه لشدة نخسه وطعنه بإصبعه) فإذا ذكر الله ذهب وإذا لم يذكر الله ثبت على قلبه. قال الحافظ: إسناده إلى ابن عباس ضعيف، أخرجه الطبري والحاكم (ج2ص541) وفي إسناده حكيم بن جبير وهو ضعيف، ولفظه ما من مولود إلا على قلبه الوسواس فإن ذكر الله خنس وإن غفل وسوس، وهو قوله تعالى: ?الوسواس الخناس? [الناس: 4] قلت: قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي وعزاه الشوكاني في الفتح القدير لابن المنذر وابن مردوية والضياء والبيهقي أيضا، وأخرجه سعيد بن منصور من وجه آخر عن ابن عباس بلفظ: يولد الإنسان والشيطان جاثم على قلبه، فإذا عقل وذكر اسم الله خنس وإذا غفل وسوس. وأخرجه ابن مردوية من وجه آخر عن ابن عباس. قال: الوسواس هو الشيطان يولد المولود، والوسواس على قلبه فهو يصرفه حيث شاء فإذا ذكر الله خنس، وإذا غفل جثم على قلبه فوسوس ولأبي يعلى والبيهقي في الشعب وابن أبي الدنيا والحكيم الترمذي في النوارد من حديث أنس مرفوعا. قال: إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإن ذكر الله خنس وإن نسي التقم قلبه فذلك الوسواس الخناس قال الحافظ: إسناده ضعيف. وقال الهيثمي: فيه عدي بن عمارة وهو

(15/277)


ضعيف. ولسعيد بن منصور من طريق عروة بن رويم. قال: سأل عيسى عليه السلام ربه أن يريه موضع الشيطان من بني آدم فأراه فإذا رأسه مثل رأس الحية واضع رأسه على ثمرة القلب فإذا ذكر العبد ربه خنس وإذا ترك مناه حدثه.
2305- قوله: (وعن مالك قال بلغني) تقدم الكلام في بلاغات مالك المذكورة في الموطأ، وهذا البلاغ قد وصله أبونعيم وغيره كما سيأتي (ذاكر الله في الغافلين) أي عن الذكر (كالمقاتل)أي للكفار (خلف الفارين) بتشديد الراء أي المنهزمين الفارين من الزحف إذا التحم الحرب في قتال الكفار، وفي حديث ابن عمر عند أبي نعيم
وذاكر الله في الغافلين كغصن أخضر في شجر يابس. وفي رواية: مثل الشجرة الخضراء في وسط الشجر، وذاكر الله في الغافلين مثل مصباح في بيت مظلم، وذاكر الله في الغافلين يريه الله مقعده من الجنة وهو حي وذاكر الله في الغافلين يغفر له بعدد كل فصيح وأعجم. والفصيح: بنوآدم، والأعجم: البهائم)).

(15/278)


وغيره كالمقاتل عن الفارين شبه الذاكر الذي يذكر بين جمع لم يذكروا بالمجاهد الذي يقاتل بعد فرار أصحابه في كون كل منهما قاهرا للعدو، فالذاكر قاهر الشيطان وقامع لجنوده المسلطة على القلب كما أن القاتل الصابر قاهر وقامع لجنود الكفار ففيه تشبيه المعقول بالمحسوس (وذاكر الله) كرره لينيط به في كل مرة غير ما أناط به في الأخرى إعلاما بأنه أمر عظيم له فوائد متعددة مستقلة (في الغافلين) أي فيما بينهم فالجار ظرف أي بينهم أو محله الرفع على أنه صفة والتقدير الذاكر الكائن في الغافلين (كغصن أخضر في شجر يابس) قال القاري: أي بجنب الأشجار اليابسة (وفي رواية) هذه هي رواية ابن عمر عند أبي نعيم وغيره (مثل الشجرة الخضراء في وسط الشجر) بفتح السين المهملة ويسكن أي الشجر اليابس، زاد في حديث ابن عمر الذي قد تحات من الصريد أي تساقط من شدة البرد فقد تهيأت حينئذ للحرق بالنار فكذا الغافل عن ذكر الله متهيئ للمؤاخذة والعذاب فشبه فيه الذاكر بغصن أخضر مثمر أو شجرة خضراء مثمرة. والغافل بيابس تهيأ للحرق (وذاكر الله في الغافلين مثل مصباح في بيت مظلم) فإن الذكر نور وسرور والغفلة ظلمة وغيبة. قال الطيبي: شبه الذاكر الذي يذكر الله بين جماعة لم يذكروا بالمجاهد الذي يقاتل الكفار بعد فرار أصحابه منهم، فالذاكر قاهر لجند الشيطان وهازم له، والغافل مقهور منهزم منه. ثم شبه بالغصن الأخضر الذي يعد للأثمار، والغافل باليابس الذي يهيأ للإحراق. ثم شبه ثالثا بالمصباح في مجرد كونه مضيئا في نفسه، والغافل في البيت المظلم في مجرد الظلمة (يريه الله) وفي حديث ابن عمر يعرفه الله بضم أوله وشدة الراء المكسورة (مقعده) أي وما أعد له (من الجنة وهو حي) جملة حالية وليست هذه الجملة في حديث ابن عمر. قال العزيزي: يحتمل أن يكون ذلك في النوم. وقال القاري: لعل الإراءة بالمكاشفة أو بنزول الملائكة عند النزع لقوله تعالى: ?إن الذين قالوا ربنا الله ثم

(15/279)


استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون? [فصلت: 30] (يغفر له) أي ذنوبه (بعدد كل فصيح وأعجم) المراد بالأعجم هنا كل دابة لا نطق لها، وفي رواية للبيهقي من حديث ابن عمر وذاكر الله في الغافلين من الأجر بعدد كل فصيح وأعجم، وذاكر الله في الغافلين ينظر الله إليه نظرة لا يعذبه أبدا، وذاكر الله في السوق له بكل شعرة
رواه رزين.
2306- (24) وعن معاذ بن جبل، قال: ((ما عمل العبد عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله)).
نور يوم يلقى الله (رواه رزين) قال في التنقيح: الحديث ذكره رزين في جامعه ولا يوجد في شيء من أصوله الستة يعني صحيحي البخاري ومسلم والموطأ لمالك وجامع أبي عيسى الترمذي وسنن أبي داود السجستاني وسنن أبي عبد الرحمن النسائي، وهذا يدل على خطأ ما وقع في نسخة جامع الأصول المطبوعة بمصر سنة 1368 من عزو هذا الحديث لموطأ الإمام مالك، فقد رقم في أوله ط علامة لإخراج مالك له في موطأه. وقال في آخره أخرجه الموطأ هذا وذكره علي المتقي في الكنز (ج1ص386) من حديث ابن عمر، ونسبه لأبي نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب وابن صهري في أماليه وابن شاهين في الترغيب وابن النجار. قال وقال ابن شاهين: هذا حديث صحيح الإسناد حسن المتن غريب الألفاظ – انتهى. وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين بعد عزوه لأبي نعيم والبيهقي: وفي إسناده عمران بن مسلم القصير. قال البخاري: منكر الحديث. وقال الحافظ العراقي: سنده ضعيف، ولعله يشير إلى كون في إسناده هذا الرجل – انتهى. ورواه الطبراني في الكبير والأوسط والبزار عن ابن مسعود مختصرا ذاكر الله في الغافلين بمنزلة الصابر في الفارين. قال الهيثمي: (ج9ص80) رجال الأوسط وثقوا. وقال العزيزي قال الشيخ: حديث صحيح.

(15/280)


2306- قوله: (ما عمل العبد عملا) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا وقع في جامع الأصول (ج5ص244) عزوا للموطأ فقط، والذي جاء في نسخ الموطأ الموجودة ما عمل ابن آدم من عمل، وهكذا ذكر في جامع الأصول (ج10ص315) وقال في آخر الحديث أخرجه الموطأ والترمذي، وللترمذي ما شيء أنجى، ولابن ماجه ما عمل امرؤا بعمل ورواه أحمد (ج5ص239) بلفظ: ما عمل آدمي عملا قط، والحاكم بلفظ: ما عمل آدمي من عمل، وما في "ما عمل" نافية "وعملا" مفعول مطلق أو مفعول به على أن عمل بمعنى كسب أي فعل عملا من أعمال البر ويؤيد هذا ما وقع في رواية من عمل (أنجى له) قال في الحرز الثمين أفعل تفضيل من الإنجاء لا من النجاة، لأن النجاة من الخلاص والمعنى هنا على التلخيص وهو معنى الانجاء وبناء أفعل التفضيل على هذا الوزن من باب الإفعال قياس عند سيبويه، ويؤيده كثرة السماع كقولهم هو أعطاهم للدينار وأنت أكرم لي من فلان وهو عند غيره سماع مع كثرته. ونقل عن المبرد والأخفش جواز بنا أفعل التفضيل من جميع المزيد فيه كأفعل واستفعل وغيرهما كذا أفاده الشيخ الرضى – انتهى. (من عذاب الله من ذكر الله) من الأولى صلة أنجى والثانية تفضيلية أي فجميع أعمال الخير تنجي من عذاب الله، لكن الذكر أعظم إنجاء من غيره بأي صيغة كان من صيغ الذكر وهذا لأن سائر العبادات وسائل ووسائط يتقرب بها إلى الله تعالى والذكر هو المقصود الأسنى والمطلوب الأعلى. …
رواه مالك، والترمذي، وابن ماجه.
2307- (25) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى يقول: أنا مع عبدي

(15/281)


قال ابن عبد البر: فضائل الذكر كثيرة لا يحيط بها كتاب وحسبك بقوله تعالى: ?إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر? [العنكبوت: 45] – انتهى. وزاد في رواية الطبراني في الكبير وابن أبي شيبة في المصنف. قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع قاله ثلاث مرات. (رواه مالك) في باب ما جاء في ذكر الله من كتاب الصلاة (والترمذي وابن ماجه) في فضل الذكر من الدعوات وكذا الحاكم (ج1ص496) ومثله لا يقال من قبل الرأي فهو في حكم المرفوع قاله القاري. قلت: روي أحمد (ج5ص239) وابن أبي شيبة والطبراني في الكبير وابن عبد البر والبيهقي قول معاذ هذا مرفوعا. قال المنذري في الترغيب: رواه أحمد بإسناد جيد إلا أن فيه انقطاعا. وقال الهيثمي (ج10ص73) بعد أن عزاه لأحمد: رجاله رجال الصحيح إلا أن زياد بن أبي زياد مولى ابن عياش لم يدرك معاذا – انتهى. قلت يدل على ذلك رواية أحمد حيث وقع فيها "عن زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة أنه بلغه عن معاذ بن جبل أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ والحديث ذكره الحافظ في بلوغ المرام. وقال أخرجه ابن أبي شيبة والطبراني بإسناد حسن، وفي الباب عن جابر عند الطبراني في الأوسط والصغير. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.

(15/282)


2307- قوله: (إن الله تعالى يقول أنا مع عبدي) أي عونا ونصرا وتأييدا وتوفيقا فهذه معية خاصة تفيد عظمة ذكره تعالى وإنه مع ذاكره برحمته ولطفه وإعانته والرضا بحاله وتحصيل مرامه. قال ابن القيم: الفائدة الثانية والأربعون للذكر أن الذاكر قريب من مذكوره ومذكوره معه، وهذه المعية معية خاصة غير معية العلم والإحاطة العامة فهي معية بالقرب والولاية والمحبة والنصرة والتوفيق كقوله تعالى: ?إن الله مع الذين اتقوا والله مع الصابرين? [البقرة: 249] ?وإن الله لمع المحسنين? [العنكبوت: 69] ?لا تحزن إن الله معنا? [التوبة: 40] وللذاكر من هذه المعية نصيب وافر كما في الحديث الإلهي أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه وأثر آخر أهل ذكرى أهل مجالستي الخ. والمعية الحاصلة للذاكر معية لا يشبهها شيء وهي أخص من المعية الحاصلة للمحسن والمتقي وهي معية لا تدركها العبارة ولا تنالها الصفة وإنما تعلم بالذوق وهي مزلة أقدام إن لم يصحب العبد فيها تمييز بين القديم والمحدث، بين الرب والعبد، بين الخالق والمخلوق، بين العابد والمعبود، وإلا وقع في حلول يضاهيء به النصارى أو اتحاد يضاهيء به القائلين بوحدة الوجود تعالى الله عما يقول الظالمون
إذا ذكرني، وتحركت بي شفتاه)). رواه البخاري.
2308- (26) وعن عبدالله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول: ((لكل شيء صقالة، وصقالة القلوب ذكر الله،

(15/283)


والجاحدون علوا كبيرا (إذا ذكرني) في سنن ابن ماجه "إذا هو ذكرني" وفي الكنز وبلوغ المرام والوابل الصيب "ما ذكرني" (وتحركت بي) أي بذكري (شفتاه) قال الطيبي: فيه من المبالغة ما ليس في قوله إذا ذكرني باللسان هذا إذا كان الواو للحال. وأما إذا كان للعطف فيحتمل الجمع بين الذكر باللسان والقلب، وهذا التأويل أولى لأن المؤثر النافع هو الذكر باللسان مع حضور القلب، وأما الذكر باللسان والقلب لاه فهو قليل الجدوى (رواه البخاري) تعليقا الحديث ذكر الحافظ في بلوغ المرام. وقال: أخرجه ابن ماجه وصححه ابن حبان وذكره البخاري تعليقا – انتهى. وفيه نظر، فإن الحديث بهذا السياق ليس في نسخ البخاري الموجودة عندنا لا مسندا ولا معلقا وليس هو في جامع الأصول أيضا ولم ينسبه أحد إلى البخاري نعم هو في البخاري (في كتاب التوحيد) بلفظ: يقول الله أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي الخ. وقد تقدم في الفصل الأول من هذا الباب والحديث ذكره المنذري في الترغيب. وقال رواه ابن ماجه واللفظ له وابن حبان في صحيحه وعزاه في الكنز (ج1ص733) لأحمد وابن ماجه والحاكم وابن عساكر. قلت: أخرجه الحاكم (ج1ص496) من حديث أبي الدرداء وقال حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وفي إسناده عند ابن ماجه محمد بن مصعب القرقساني. قال في الزوائد: قال فيه صالح بن محمد هو ضعيف في الأوزاعي، لكن رواه ابن حبان في صحيحه من طريق أيوب بن سويد عن الأوزاعي أيضا، وأيوب بن سويد ضعيف – انتهى. قلت قال أحمد: حديث القرقساني عن الأوزاعي مقارب. وقال الحاكم: أبوأحمد روى عن الأوزاعي أحاديث منكرة وليس بالقوي عندهم. وقال الحافظ في التقريب: هو صدوق كثير الغلط.

(15/284)


2308- قوله: (لكل شي) أي مما يصدأ حقيقة أو مجازا (صقالة) بكسر الصاد أي انجلاء. وقيل: أي تجلية وتصفية. قال في المصباح: صقلت السيف ونحوه صقلا من باب قتل وصقالا أيضا بالكسر جلوته (وصقالة القلوب ذكر الله) قال الطيبي: صدء القلوب الرين في قوله تعالى: ?كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون? [المطففين: 14] بمتابعة الهوى المعنى بها في قوله تعالى: ?أفرأيت من اتخذ إلهه هواه? [الجاثية: 23] فكلمة "لا إله" تخليها وكلمة "إلا الله" تجليها والله اعلم. وقال ابن القيم تحت هذا الحديث: لا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرهما وجلاءه بالذكر فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرأة البيضاء فإذا ترك صدأ فإذا ذكر جلاه. وصدأ القلب بأمرين بالغفلة والذنب، وجلاءه بشيئين بالاستغفار والذكر فمن كانت الغفلة أغلب
وما من شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله. قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع)). رواه البيهقي في الدعوات الكبير.

(15/285)


أوقاته كان الصدأ متراكبا على قلبه، وصدأه بحسب غفلته، وإذا صدىء لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه، فيرى الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل، لأنه لما تراكم عليه الصدأ أظلم فلم تظهر فيه صور الحقائق كما هي عليه. فإذا تراكم عليه صدأ وأسود وركبه الران فسد تصوره وإدراكه فلا يقبل حقا ولا ينكر باطلا، وهذا أعظم عقوبات القلب. وأصل ذلك من الغفلة واتباع الهوى فإنهما يطمسان نور القلب ويعميان بصره – انتهى. وقال بعض العارفين: إن كان القلب صافيا مجليا من كل كدر ارتسمت فيه صور المعارف والعلوم وكان محلا لكل خير وإلا بأن كان ملوثا مدنسا بالمعاصي لم يقبل شيئا من ذلك كالمرأة التي ركبها الصدأ (وما من شيء أنجى) أي له (من عذاب الله) قال المناوي: كذا في كثير من النسخ أي من الجامع الصغير لكن رأيت نسخة المؤلف يعني السيوطي بخطه من عذاب بالتنوين (قالوا ولا الجهاد) بالرفع (قال ولا الجهاد في سبيل الله) يعني الجهاد المجرد عن ذكر الله تعالى (قال: ولا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع) أي هو أو سيفه وقوله "ولا أن يضرب" هكذا في جميع النسخ من المشكاة، وذكر المنذري في الترغيب وابن القيم في الوابل الصيب بلفظ: ولو أن يضرب، والسيوطي في الجامع الصغير وعلي المتقي في الكنز بلفظ: ولو أن تضرب بسيفك (رواه البيهقي في الدعوات الكبير) قال المنذري: رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي من رواية سعيد بن سنان واللفظ له. وقال العزيزي قال الشيخ: حديث صحيح.
(2) باب أسماء الله تعالى

(15/286)


(كتاب أسماء الله تعالى) قال الله عزوجل ?ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسماءه? [الأعراف: 180] قال البغوي في المعالم التنزيل: الإلحاد في أسماءه تسمية بما لا ينطق به كتاب ولا سنة. وقيل: الإلحاد في أسماءه يكون على ثلاثة أوجه إما بالتغيير كما فعله المشركون فإنهم أخذوا اسم اللات من الله والعزى من العزيز ومناة من المنان، أو بالزيادة عليها بأن يخترعوا أسماء من عندهم لم يأذن الله بها، أو بالنقصان منها بأن يدعوه ببعضها دون بعض – انتهى. وقال تعالى: ?قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى? [الإسراء: 110] وقال تعالى: ?الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى? [طه: 8] اعلم أن اسمه تعالى ما يصح أن يطلق عليه وذلك باعتبار ذاته كالله أو باعتبار صفة من صفاته السلبية كالقدوس والأول أو الحقيقة الثبوتية كالعليم والقادر أو الإضافة كالحميد والملك أو باعتبار فعل من أفعاله كالخالق والرازق. قال القرطبي: أسماء الله وإن تعددت فلا تعدد في ذاته ولا تركيب لا محسوسا كالجسميات ولا عقليا كالمحدودات، وإنما تعددت الأسماء بحسب الاعتبارات الزائدة على الذات ثم هي من جهة دلالتها على أربعة أضرب. الأول ما يدل على الذات مجردة كالجلالة، فإنه يدل عليه دلالة مطلقة غير مقيدة، وبه يعرف جميع أسمائه فيقال الرحمن مثلا من أسماء الله، ولا يقال الله من أسماء الرحمن ولهذا كان الأصح إنه اسم علم غير مشتق وليس بصفة. الثاني: ما يدل على الصفات الثابتة للذات كالعليم والقدير والسميع والبصير. الثالث: ما يدل على إضافة أمر ما إليه كالخالق والرازق. الرابع: ما يدل على سلب شيء عنه كالعلي والقدوس وهذه الأقسام الأربعة منحصرة في النفي والإثبات – انتهى. قال الغزالي: الاسم هو اللفظ الدال على المعنى بالوضع لغة والمسمى هو المعنى الموضوع له الاسم والتسمية وضع ذلك اللفظ لذلك المعنى، أو إطلاقه عليه. وقد

(15/287)


يطلق الاسم ويراد به المعنى فالمراد بالاسم هو المسمى على التقدير الثاني وغير المسمى على التقدير الأول، فلذلك اختلف في أن الاسم هو المسمى أو غيره، ومحل هذا المبحث وإن صفاته تعالى عين ذاته أو غيرها كتب العقائد ولم يتكلف السلف في ذلك تورعا وطلبا للسلامة ولنا فيهم أسوة واختلف في الأسماء الحسنى هل هي توقيفية بمعنى أنه لا يجوز لأحد أن يشتق من الأفعال الثابتة لله أسماء إلا إذا ورد نص إما في الكتاب أو السنة فقال الفخر الرازي: المشهور عن أصحابنا إنها توقيفية. وقالت المعتزلة والكرامية: إذا دل العقل على أن معنى اللفظ ثابت في حق الله جاز إطلاقه عليه، يعني أنه يصح أن يطلق على الله كل اسم يصح معناه فيه، والإفهام الصحيحة البشرية لها سعة ومجال في
?الفصل الأول?
2309- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما،

(15/288)


اختيار الصفات. قال الراغب: وما ذهب إليه أهل الحديث هو الصحيح، ولو ترك الإنسان وعقله لما جسر أن يطلق عليه عامة هذه الأسماء التي ورد الشرع بها إذ كان أكثرها على حسب تعارفنا، يقتضي إعراضا إما كمية نحو العظيم والكبير وإما كيفية نحو الحي والقادر أو زمانا نحو القديم والباقي أو مكانا نحو العلي والمتعالي أو انفعالا نحو الرحيم والودود، وهذه معان لا تصح عليه سبحانه وتعالى على حسب ما هو متعارف بيننا وإن كان لها معان معقولة عند أهل الحقائق من أجلها صح إطلاقها عليه عزوجل. وقال القاضي أبوبكر الباقلاني والغزالي: الأسماء توقيفية دون الصفات. قال: هذا هو المختار، واتفقوا على أنه لا يجوز أن يطلق عليه اسم ولا صفة توهم نقصا، ولو ورد ذلك نصا فلا يقال ماهد ولا زارع ولا فالق ولا نحو ذلك، وإن ثبت في نحو قوله: ?فنعم الماهدون? ?أم نحن الزارعون? ?فالق الحب والنوى? [الأنعام: 95] ونحوها ولا يقال له ماكر ولا بناء وإن ورد مكر الله ?والسماء بنيناها? وقال أبوالقاسم القشيري: أسماء الله تؤخذ توقيفا من الكتاب والسنة والإجماع فكل اسم ورد فيها وجب إطلاقه في وصفه وما لم يرد لا يجوز ولو صح معناه وقال أبوإسحاق الزجاج: لا يجوز لأحد أن يدعوا الله بما لم يصف به نفسه فيقول يا رحيم لا يا رفيق ويقول يا قوي لا يا جليد. قال الحافظ: والضابط إن كل ما أذن الشرع أن يدعى به سواء كان مشتقا أو غير مشتق فهو من أسماء وكل ما جاز أن ينسب إليه سواء كان مما يدخله التأويل أولا، فهو من صفاته ويطلق عليه أسماء أيضا. وقال الحليمي: إن أسماء الله التي ورد بها الكتاب والسنة وإجماع العلماء على تسميته بها منقسمة بين عقائد خمس. الأولى: إثبات الباري ردا على المعطلين وهي الحي والباقي والوارث وما في معناها. الثانية: إثبات وحدانيته لتقع البراءة عن الشرك وهي الكافي والعلي والقادر ونحوها. والثالثة: تنزيهه ردا على المشبهة وهي القدوس والمجيد

(15/289)


والمحيط وغيرها. والرابعة: اعتقادا إن كل موجود من اختراعه ردا على القول بالعلة والمعلول وهي الخالق والباري والمصور وما يلحق بها. والخامسة: إثبات إنه مدبر لما اخترعه ومصرفه على ما يشاء لتقع البراءة من قول القائلين بالطبائع أو بتدبير الكواكب أو بتدبير الملائكة وهي القيوم والعليم والحكيم وشبهها.
2309- قوله: (إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما) بالنصب على التمييز. قال الخطابي: فيه دليل على أن أشهر أسماءه تعالى الله لإضافة هذه الأسماء إليه، وقد روى إن الله هو اسمه الأعظم. وقال ابن مالك: ولكون
مائة إلا واحدة

(15/290)


الله اسما علما، وليس بصفة. قيل في كل اسم من أسماءه تعالى سواه اسم من أسماء الله، وهو من قول الطبري على ما حكاه النووي إلى الله ينسب كل اسم له فيقال الكريم من أسماء الله ولا يقال من أسماء الكريم الله. قال القسطلاني: ولما كانت معرفة أسماء الله تعالى، وصفاته توقيفية إنما تعرف من طريق الوحي والسنة ولم يكن لنا أن نتصرف فيها بما لم يهتد إليه مبلغ علمنا، ومنتهى عقولنا، وقد منعنا عن إطلاق ما يرد به التوقيف في ذلك وإن جوزه العقل، وحكم به القياس كان الخطأ في ذلك غير هين والمخطيء فيه غير معذور والنقصان عنه كالزيادة فيه غير مرضى، وكان الاحتمال في رسم الخط واقعا باشتباه تسعة وتسعين في زلة الكاتب وهفوة القلم بسبعة وسبعين، أو سبعة وتسعين، أو تسعة وسبعين، فينشأ الاختلاف في المسموع من المسطور أكده حسما للمادة وإرشادا إلى الاحتياط بقوله (مائة) بالنصب على البدلية (إلا واحدا) أي إلا اسما واحدا. وقال في فتوح الغيب: قوله "مائة إلا واحدا" تأكيد وفذلكة لئلا يزاد على ما ورد كقوله: ?تلك عشرة كاملة? [البقرة: 196] وفيه رفع التصحيف، فإن تسعة تصحف بسبعة وتسعين بسبعين بالموحدة فيهما. وقيل أتى بذلك للتنصيص على العدد المقصود على وجه المبالغة. وقيل: إنما قال ذلك لئلا يتوهم العدد على التقريب وفيه فائدة رفع الاشتباه في الخط. قال السندي: وهذا مبني على معرفته - صلى الله عليه وسلم - رسم الخط وإن كونه أميا لا يتأتي معرفة ذلك إلا بالإلهام من الله تعالى – انتهى. وقوله "إلا واحدا" بالتذكير في أكثر الروايات ويروي واحدة بالتأنيث. قال ابن مالك: أنث باعتبار معنى التسمية أو الصفة أو الكلمة واختلف في هذا العدد هل المراد به حصر الأسماء الحسنى في هذه العدة أو إنها أكثر من ذلك، ولكن اختصت هذه بأن من أحصاها دخل الجنة فذهب الجمهور إلى الثاني. ونقل النووي اتفاق العلماء عليه فقال ليس في الحديث حصر لأسماء الله تعالى

(15/291)


وليس معناه إنه ليس له اسم غير هذه التسعة والتسعين، وإنما مقصود الحديث إن هذه الأسماء التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصاءها لا الإخبار بحصر الأسماء. ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود الذي أخرجه أحمد وصححه ابن حبان أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك. وعند مالك عن كعب الأحبار في دعاءه وأسالك بأسمائك الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم. ولابن ماجه من حديث عائشة إنها دعت بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو ذلك. وقال الخطابي: في هذا الحديث إثبات هذه الأسماء المخصوصة بهذا العدد وليس فيه منع ما عداها في الزيادة وإنما التخصيص لكونها أكثر الأسماء وأبينها معاني وخبر المبتدأ في الحديث هو قوله من أحصاها لا قوله لله وهو كقولك لزيد ألف درهم أعدها للصدقة أو لعمرو ومائة ثوب من زاره ألبسه إياها. وقال القرطبي في المفهم والتوربشتي في شرح المصابيح: نحو ذلك. وبالغ بعضهم في تكثير الأسماء الحسنى حتى قال ابن العربي
من أحصاها

(15/292)


في شرح الترمذي حاكيا عن بعض أهل العلم: إنه جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله تعالى ألف اسم. قلت: وذهبت بعضهم إلى حصرها في التسعة والتسعين. قال ابن حزم من زاد شيئا في الأسماء على التسعة والتسعين من عند نفسه فقد الحد في أسماءه، واحتج لذلك بالتأكيد في قوله - صلى الله عليه وسلم - "مائة إلا واحدا" قال لأنه لو جاز أن يكون له اسم زائد على العدد المذكور لزم أن يكون له مائة اسم فيبطل قوله "مائة إلا واحدا" وهذا الذي قاله ليس بحجة على ما تقدم لأن الحصر المذكور عند الجمهور باعتبار الوعد الحاصل لمن أحصاها فمن أدعى أن الوعد وقع لمن أحصى زائدا على ذلك أخطأ، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون هناك اسم زائد وأما الحكمة في القصر على العدد المخصوص المذكور فذكر الفخر الرازي عن الأكثر أنه تعبد لا يعقل معناه. وقيل: الحكمة فيه أنها في القرآن كما في بعض طرقه. وقال: آخرون الأسماء الحسنى مائة على درجات الجنة استأثر الله تعالى منها بواحدة وهو الاسم الأعظم فلم يطلع عليه أحدا فكأنه قال مائة ولكن واحد منها عند الله. وقال بعضهم: ليس الاسم المكمل للمائة مخفيا بل هو الجلالة وبه جزم السهيلي فقال: الأسماء الحسنى مائة على عدد درجات الجنة والذي يكمل المائة الله ويؤيده قوله تعالى: ?ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها? [الأعراف: 180] فالتسعة والتسعون لله فهي زائدة عليه وبه تكمل المائة وقيل غير ذلك (من أحصاها) وفي رواية لمسلم من حفظها وفي رواية للبخاري: لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة. قال الشوكاني: وهذا اللفظ يفسر معنى قوله "أحصاها" فالإحصاء هو الحفظ. وقيل: أحصاها قرأها كلمة كلمة كأنه يعدها. وقيل: أحصاها علمها وتدبر معانيها واطلع على حقائقها وقيل: أطاق القيام بحقها والعمل بمقتضاها والتفسير الأول هو الراجح المطابق للمعنى اللغوي وقد فسرته الرواية المصرحة بالحفظ كما عرفت. وقال النووي قال البخاري وغيره من المحققين: معناه

(15/293)


حفظها وهذا هو الأظهر لثبوته نصا في الخبر. وقال في الأذكار: هو قول الأكثرين. وقال الخطابي: الإحصاء في هذا يحتمل وجوها. أحدها: وهو أظهرها أن يعدها حتى يستوفيها يريد أنه لا يقتصر على بعضها لكن يدعو الله بها كلها ويثني عليه بجميعها فيستوجب الموعود عليها من الثواب. ثانيها: المراد بالإحصاء إلا طاقة كقوله تعالى: ?علم أن لن تحصوه? [المزمل: 20] والمعنى من أطاق القيام بحق هذه الأسماء والعمل بمقتضاها وهو أن يعتبر معانيها فيلزم نفسه بواجبها فإذا قال الرزاق: وثق بالرزق وكذلك سائر الأسماء. ثالثها: المراد العقل والإحاطة بمعانيها من قول العرب فلان ذو حصاة أي ذو عقل ومعرفة. وقيل: معنى أحصاها عرفها لأن العارف بها لا يكون إلا مؤمنا والمؤمن يدخل الجنة. وقال ابن الجوزي: فيه خمسة أقوال. أحدها: من استوفاها حفظا. والثاني: من أطاق العمل بمقتضاها مثل أن يعلم أنه سميع فيكف لسانه عن القبيح. والثالث: من عقل معانيها. والرابع: من أحصاها علما وإيمانا. والخامس: أن المعنى من قرأ القرآن حتى يختمه لأن جميع الأسماء فيه. وقال القرطبي:
دخل الجنة، وفي رواية وهو وتر يحب الوتر)). متفق عليه.
?الفصل الثاني?
2310- (2) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما،

(15/294)


المرجو من كرم الله تعالى إن من حصل له إحصاء هذه الأسماء على أحد هذه المراتب مع صحة النية أنه يدخل الجنة. قال السندي: كأنه مبني على إرادة المعاني كلها من المشترك لا بشرط الاجتماع بل على البدلية والله اعلم والمحققون على أن معنى أحصاها حفظها. قلت: وهذا هو الراجح (دخل الجنة) ذكر الجزاء بلفظ الماضي تحقيقا لوقوعه وتنبيها على أنه وإن لم يقع فهو في حكم الواقع لأنه كائن لا محالة (وفي رواية) للبخاري في الدعوات (وهو) أي ذاته تعالى (وتر) ولمسلم والله وتر، وفي أخرى له أنه وتر، والوتر بفتح الواو وكسرها الفرد ومعناه في حق الله تعالى أنه الواحد الذي لا شريك له في ذاته ولا نظير ولا انقسام (يحب الوتر) من كل شيء وقيل: هو منصرف إلى من يعبد الله بالوحدانية والتفرد على سبيل الإخلاص. وقيل: المراد يحب من الأذكار والطاعات ما هو على عدد الوتر ويثيب عليه لاشتماله على الفردية. وقيل: يحب الوتر لأنه أمر بالوتر في كثير من الأعمال والطاعات كما في الصلوات الخمس ووتر الليل وإعداد الطهارة وتكفين الميت والطواف والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار في الحج ونصاب المعشرات والورق والإبل في الزكاة وفي كثير من المخلوقات كالسماوات والأرض وأيام الأسبوع – انتهى. وقال القرطبي: الظاهر أن الوتر هنا للجنس إذ لا معهود جرى ذكره حتى يحمل عليه فيكون معناه أنه وتر يحب كل وتر شرعه ومعنى محبته له أنه أمر به وأثاب عليه ويصلح ذلك لعموم ما خلقه وترا من مخلوقاته تنبيه قد طعن أبوزيد البلخى في صحة الحديث بأن دخول الجنة ثبت في القرآن مشروطا ببذل النفس والمال فكيف يحصل بمجرد حفظ ألفاظ تعد في اليسر مدة. وتعقب بأن الشرط المذكور ليس مطردا ولا حصر فيه بل قد تحصل الجنة بغير ذلك كما ورد في كثير من الأعمال غير الجهاد أن فاعله يدخل الجنة. وأما دعوى إن حفظها يحصل في اليسر مدة فإنما يرد على من حمل الحفظ والإحصاء على معنى أن يسردها عن ظهر

(15/295)


قلب. فأما من أوله على بعض الوجوه المتقدمة فإنه يكون في غاية المشقة، ويمكن الجواب عن الأول بأن الفضل واسع كذا في الفتح (متفق عليه) أخرجاه في الدعوات وأخرجه البخاري أيضا في الشروط وفي التوحيد دون قوله "هو وتر" الخ والحديث رواه أيضا أحمد (ج2ص258، 267، 214) والترمذي والنسائي في الكبرى وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وغيرهم.
2310- قوله: (إن لله تسعة وتسعين اسما) ليس الغرض الحصر بل نص على ذلك لما رتبه عليه فغيرها
من أحصاها دخل الجنة. هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، الملك القدوس

(15/296)


من الأسماء وإن حصل على إحصاءه ثواب عظيم إلا أنه ليس فيه هذه الخصوصية (من أحصاها) قال الجزري: الإحصاء العدد والحفظ، والمراد من حفظها على قلبه وقيل المراد من استخرجها. من كتاب الله تعالى وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعدها لهم ولهذا لم ترد مسرودة معدودة من هذه الكتب السنة إلا في كتاب الترمذي (وقد تكلموا في روايته) وقيل المراد من أخطر بباله عند ذكرها معناها وتفكر في مدلولها معتبرا متدبرا ذاكرا راغبا راهبا معظما لمسماها مقدسا لذات الله تعالى، وبالجملة ففي كل اسم يجريه على لسانه يخطر بباله الوصف الدال عليه أقوال (دخل الجنة) قيل أي استحق دخولها. وقيل أي دخولا أوليا أو مع المقربين السابقين أو وصل أعلى مراتب نعيمها (هو الله الذي لا إله إلا هو) الاسم المعدود في هذه الجملة من أسماءه هو الله لا غيره من هو وإله كما يدل عليه روايات أخر "هي الله الواحد" الخ عند ابن ماجه "أسأل الله الرحمن الرحيم" عند البيهقي "الله الرحمن الرحيم" عند الحاكم والجملة تفيد الحصر والتحقيق لإلهيته ونفي ما عداه عنها. قال الطيبي: الجملة مستأنفة إما لبيان كمية تلك الأعداد أنها ما هي في قوله إن لله تسعة وتسعين اسما وذكر الضمير نظرا إلى الخبر وإما لبيان كيفية الإحصاء في قوله "من أحصاها دخل الجنة" بأنه كيف يحصى. فالضمير راجع إلى مسمى الدال عليه قوله لله كأنه لما قيل ولله الأسماء الحسنى. سأل وما تلك الأسماء فأجيب هو الله أو لما قيل من أحصاها دخل الجنة، سأل كيف أحصاها فأجاب قل هو الله أحد فعلى هذا الضمير ضمير الشأن مبتدأ والله مبتدأ ثان وقوله "الذي لا إله إلا هو" خبره والجملة خبر الأول والموصول مع الصلة صفة لله – انتهى. والله أعلم دال على المعبود بحق دلالة جامعة لجميع معاني الأسماء الآتية (الرحمن الرحيم) هما اسمان مشتقان من الرحمة مثل ندمان ونديم وهما من ابنية المبالغة،

(15/297)


والأكثر على أن فعلان أبلغ من فعيل. ومن ثم قيل الرحمن أبلغ من الرحيم ونصره السهيلي بأنه ورد على صيغة التثنية، والتثنية تضعيف فكان البناء تضاعفت فيه الصفة. وذهب ابن الأنباري إلى أن الرحيم أبلغ من الرحمن ورجحه ابن عساكر بتقديم الرحمن عليه وبأنه جاء على صيغة الجمع كعبيد وهو أبلغ من صيغة التثنية. وذهب قطرب إلى أنهما سواء والرحمن خاص لله لا يسمى به غيره ولا يوصف والرحيم يوصف به غير الله تعالى فيقال رجل رحيم ولا يقال رحمن (الملك) أي ذو الملك التام، والمراد به القدرة على الإيجاد والاختراع من قولهم، فلان يملك الانتفاع بكذا إذا تمكن منه، فيكون من أسماء الصفات. وقيل: المتصرف في الأشياء بالإيجاد والإفناء والإماتة والإحياء فيكون من أسماء الأفعال كالخالق (القدوس) أي الطاهر من العيوب المنزه عنها، وفعول من أبنية المبالغة من القدوس وهو النزاهة عما يوجب نقصا. وقريء بالفتح وهو لغة فيه. قال الجزري: هو مضموم الأول. وقد
السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارىء المصور

(15/298)


روى بفتحه وليس بالكثير، ولم يجيء مضموم الأول من هذا البناء إلا قدوس وسبوح وذروح. وقال سيبويه: ليس في الكلام فعول بالضم (السلام) أي ذو السلام مما يلحق الخلق من العيب والفناء. قال الجزري: أي الذي سلم من كل عيب وبريء من كل آفة مصدر نعت به للمبالغة كرجل عدل، فكأنه عين السلامة يقال سلم يسلم سلامة وسلاما، ومنه قيل للجنة دار السلام لأنها دار السلامة من الآفات. وقيل: معناه المسلم عباده عن المخاوف والمهالك (المؤمن) أي الذي يصدق عباده وعده فهو من الإيمان التصديق أو يؤمنهم في القيامة من عذابه فهو من الأمان، والأمن ضد الخوف كذا قال الجزري في النهاية وجامع الأصول وشرح المصابيح (المهيمن) الرقيب المبالغ في المراقبة والحفظ، ومنه هيمن الطائر إذا نشر جناحه على فراخه صيانة لها. وقيل: الشاهد أي العالم الذي لا ينهب عنه مثقال ذرة. وقيل الذي يشهد على كل نفس بما كسبت ومنه قوله تعالى: ?ومهيمنا عليه? [المائدة: 48] أي شاهدا. وقيل القائم بأمور الخلق. وقيل أصله مؤيمن أبدلت الهاء من الهمزة فهو مفعيل من الأمانة بمعنى الأمين الصادق الوعد (العزيز) أي الغالب القاهر القوي الذي لا يغلب والعزة في الأصل القوة والشدة والغلبة تقول عز يعز بالكسر إذا صار عزيزا وعز يعز بالفتح إذا اشتد (الجبار) معناه الذي يقهر العباد على ما أراد من أمر ونهي، يقال جبر الخلق وأجبرهم وأجبر أكثر. وقيل هو العالي فوق خلقه وفعال من أبنية المبالغة ومنه قولهم نخلة جبارة وهي العظيمة التي تفوت يد المتناول (المتكبر) أي العظيم ذو الكبرياء. وقيل المتعالي عن صفات الخلق. وقيل الذي يتكبر على عتاة خلقه إذا نازعوه العظمة فيقصمهم، والتاء فيه للتفرد والتخصص لا تاء التعاطي والتكلف والكبرياء العظمة والملك قال تعالى: ?وتكون لكما الكبرياء في الأرض? [يونس: 78] أي الملك. وقيل هي عبارة عن كمال الذات وكمال الوجود ولا يوصف بها إلا الله تعالى وهو من الكبر

(15/299)


وهو العظمة (الخالق) أي الذي أوجد الأشياء جميعها بعد إن لم تكن موجودة. وأصل الخلق التقدير فهو باعتبار تقدير ما منه وجودها باعتبار الإيجاد على وفق التقدير خالق. وقال في المرقاة: الخالق من الخلق وأصله التقدير المستقيم ومنه قوله تعالى: ?فتبارك الله أحسن الخالقين? [المؤمنون: 14] أي المقدرين ويستعمل بمعنى الإبداع وإيجاد شيء من غير أصل كقوله تعالى: ?خلق السماوات والأرض? [الأنعام: 1] وبمعنى التكوين كقوله عزوجل: ?خلق الإنسان من نطفة? [النحل: 4] فالله خالق كل شيء بمعنى أنه مقدره أو موجده من أصل أو من غير أصل (الباريء) بالهمزة في آخره، ويجوز إبداله ياء في الوقف وهو الذي خلق الخلق لا عن مثال إلا أن لهذه اللفظة من الاختصاص بخلق الحيوان ما ليس لها بغيره من المخلوقات وقلما تستعمل في غير الحيوان فيقال برأ الله النسمة وخلق السماوات والأرض (المصور) بكسر الواو المشددة أي الذي صور جميع
الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم،

(15/300)


الموجودات ورتبها فأعطي كل شيء منها صورة خاصة وهيئة منفردة يتميز بها عن غيره على اختلاف أنواعها وكثرة أفرادها. وقال الجزري: هو أنشأ خلقه على صور مختلفة ومعنى التصوير التخطيط والتشكيل (الغفار) أي الذي يستر العيوب والذنوب في الدنيا بإسبال الستر عليها وفي العقبى بترك المعاتبة والمعاقبة لها، وهو لزيادة بناءه أبلغ من الغفور. وقيل المبالغة في الغفار باعتبار الكمية وفي الغفور باعتبار الكيفية. وأصل الغفر الستر. وقال الجزري في النهاية: في أسماء الله الغفار والغفور وهما من أبنية المبالغة ومعناهما الساتر لذنوب عباده وعيوبهم المتجاوز عن خطاياهم وذنوبهم، وأصل الغفر التغطية يقال غفر الله لك غفرا وغفرانا ومغفرة، والمغفرة الباس الله تعالى العفو للمذنبين. وقال في جامع الأصول: الغفار هو الذي يغفر ذنوب عباده مرة بعد مرة، وأصل الغفر الستر والتغطية فالله غافر لذنوب عباده ساتر لها بترك العقوبة عقوبة عليها (القهار) أي الغالب على جميع الخلائق كما قال تعالى: ?وهو القاهر فوق عباده? [الأنعام: 18] يقال قهره يقهره قهرا غلبه فهو قاهر وقهارا للمبالغة (الوهاب) أي كثير الإنعام دائم العطاء بلا عوض والهبة العطية الخالية عن الأعواض والأغراض فإذا كثرت سمي صاحبها وهابا (الرزاق) أي خالق الأرزاق ومعطيها لجميع ما يحتاج إلى الرزق من مخلوقاته. والأرزاق نوعان ظاهرة للأبدان كالأقوات، وباطنة للقلوب والنفوس كالمعارف والعلوم (الفتاح) أي الحاكم بين عباده يقال فتح الحاكم بين الخصمين إذا فصل بينهما. وقيل للحاكم الفاتح ومنه قوله تعالى: ?ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين? [الأعراف: 89] وقيل هو الذي يفتح أبواب الرزق وخزائن الرحمة والعلم والمعرفة لعباده والمنغلق عليهم من أرزاقه (العليم) أي العالم المحيط علمه بجميع الأشياء ظاهرها وباطنها دقيقها وجليلها على أتم الإمكان، وفعيل من أبنية المبالغة (القابض) أي

(15/301)


الذي يضيق ويمسك الرزق وغيره من الأشياء عن العباد بلطفه وحكمته ويقبض الأرواح عند الممات (الباسط) أي الذي يبسط الرزق لعباده ويوسعه عليهم بجوده ورحمته ويبسط الأرواح وينشرها في الأجساد عند الحياة (الخافض) أي الذي يخفض الجبارين والفراعنة أي يضعهم ويهينهم ويخفض كل شيء يريد خفضه والخفض ضد الرفع (الرافع) أي الذي يرفع أولياءه ويعزهم والرفع ضد الخفض (المعز) أي الذي يهب العز لمن يشاء من عباده ويجعله عزيزا (المذل) الذي يلحق الذل بمن يشاء من عباده وينفي عنه أنواع العز جميعها فيجعله ذليلا (السميع) المدرك لكل مسموع (البصير) المدرك لكل مبصر (الحكم) بفتحتين مبالغة الحاكم، وحقيقته الذي سلم له الحكم ورد إليه قاله الجزري: وقيل هو الحاكم
العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم

(15/302)


الذي لا راد لقضاه ولا معقب لحكمه (العدل) بسكون الدال المهملة وهو الذي لا يميل به الهوى فيجوز في الحكم وهو في الأصل مصدر سمي به فوضع موضع العادل وهو أبلغ منه لأنه جعل المسمى نفسه عدلا (اللطيف) أي الذي اجتمع له الرفق في الفعل والعلم بدقائق المصالح وإيصالها لمن قدرها له من خلقه يقال لطف به وله بالفتح لطفا إذا رفق به فأما لطف بالضم يلطف فمعناه صغر ودق. وقال الشوكاني: اللطيف العالم بخفيات الأمور والملاطف لعباده. وقال الجزري: هو الذي يوضل إليك أربك في رفق، وقيل هو الذي لطف عن أن يدرك بالكيفية (الخبير) أي العالم ببواطن الأشياء وحقائقها من الخبرة وهي العلم بالخفايا الباطنة. وقال الجزري: العالم العارف بما كان وما يكون (الحليم) أي الذي لا يستخفه شيء من عصيان العباد ولا يستفزه الغضب عليهم ولكنه جعل لكل شيء مقدارا فهو منته إليه (العظيم) أي الذي بلغ إلى أقصى مراتب العظمة وجل عن حدود العقول حتى لا تتصور الإحاطة بكنهه وحقيقته، والعظم في صفات الأجسام كبر الطول والعرض والعمق والله تعالى جل قدره عن ذلك (الغفور) تقدم معناه (الشكور) أي الذي يعطي الثواب الجزيل على العمل القليل أو المثنى على عباده المطيعين. وقال الجزري: أي الذي يجازي عباده ويثيبهم على أفعالهم الصالحة فشكر الله لعباده إنما هو مغفرته لهم وقبوله لعبادتهم (العلي) فعيل من العلو وهو البالغ في علو الرتبة بحيث لا رتبة إلا وهي منحطة عن رتبته. وقال بعضهم هو الذي علا عن الإدراك ذاته وكبر عن التصور صفاته (الكبير) هو الموصوف بالجلال وكبر الشأن قاله الجزري. وقال القاري: الكبير وضده الصغير يستعملان باعتبار مقادير الأجسام وباعتبار الرتب، وهو المراد هنا إما باعتبار أنه أكمل الموجودات وأشرفها من حيث أنه قديم أزلي غنى على الإطلاق وما سواه حادث مفتقر إليه في الإيجاد والإمداد بالاتفاق، وإما باعتبار أنه كبير عن مشاهدة الحواس وإدراك العقول

(15/303)


(الحفيظ) أي البالغ في الحفظ يحفظ الموجودات من الزوال والاختلال مدة ما شاء أو يحفظ على العباد أعمالهم وأقوالهم (المقيت) بضم الميم وكسر القاف وسكون التحتية أي الحفيظ. وقيل المقتدر. وقيل الذي يعطي أقوات الخلائق وهو من إقاته يقيته إذا أعطاه قوته وهي لغة في قاته يقوته وإقاتة أيضا إذا حفظه (الحسيب) أي الكافي فعيل بمعنى مفعل كالميم مؤلم من أحسبني الشيء إذا كفاني وأحسبته وحسبته بالتشديد أعطيته ما يرضيه حتى يقول حسبي. وقيل إنه مأخوذ من الحسبان أي هو المحاسب للخلائق يوم القيامة فعيل بمعنى مفاعل (الجليل) أي المنعوت بنعوت الجلال والحاوي لجميعها هو الجليل المطلق (الكريم) أي كثير الجود والعطاءه الذي لا ينفد عطاءه ولا تفنى خزائنه وهو الكريم المطلق
الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي،

(15/304)


(الرقيب) أي الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء فعيل بمعنى فاعل. وقيل مراقب الأشياء وملاحظها فلا يعزب عنه مثقال ذرة (المجيب) أي الذي يقابل الدعاء والسؤال بالقبول والعطاء وهو اسم فاعل من أجاب يجيب. قال الجزري: المجيب الذي يقبل دعاء عباده ويستجيب لهم (الواسع) أي الذي وسع غناه كل فقير ورحمته كل شيء يقال وسعه الشيء يسعه سعة فهو واسع ووسع بالضم وساعة فهو وسيع، والوسع والسعة الجدة والطاقة (الحكيم) أي الحاكم بمعنى القاضي فعيل بمعنى فاعل، أو هو الذي يحكم الأشياء ويتقنها فهو فعيل بمعنى مفعل، وقيل الحكيم ذو الحكمة، والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء فأفضل العلوم، ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها حكيم (الودود) فعول بمعنى مفعول من الود المحبة يقال وددت الرجل أوده، ودا إذا أحببته فالله تعالى مودود أي محبوب في قلوب أوليائه أو هو فعول بمعنى فاعل أي إنه يحب عباده الصالحين. وقيل هو الذي يتودد أي يتحبب إلى عباده بنعمه الدائمة عليهم (المجيد) هو مبالغة الماجد من المجد وهو سعة الكرم فهو الذي لا تدرك سعة كرمة. قال الجزري: المجيد هو الواسع الكرم. وقيل هو الشريف (الباعث) أي الذي يبعث الخلق ويحييهم بعد الموت يوم القيامة أو باعث الرسل إلى الأمم (الشهيد) هو الذي لا يغيب عنه شيء والشاهد الحاضر من الشهود وهو الحضور أي إنه حاضر يشاهد الأشياء ويراها لا يعزب عنه شي، وفعيل من أبنية المبالغة في فاعل فإذا اعتبر العلم مطلقا فهو العليم، وإذا أضيف إلى الأمور الباطنة فهو الخبير، وإذا أضيف إلى الأمور الظاهرة فهو الشهيد، وقد يعتبر مع هذا أن يشهد على الخلق يوم القيامة بما علم وشاهد منهم (الحق) أي الثابت الموجود حقيقة المتحقق كونه ووجوده وإلهيته والحق ضد الباطل (الوكيل) القائم بأمور عباده المتكفل بمصالحهم. وقال الجزري: الوكيل هو الكفيل بأرزاق العباد وحقيقته أنه الذي يستقل بأمر الموكول إليه ومنه قوله تعالى: ?وقالوا

(15/305)


حسبنا الله ونعم الوكيل? [آل عمران: 173] (القوى) أي ذو القدرة التامة البالغة إلى الكمال الذي لا يلحقه ضعف. قال الجزري: القوى القادر. وقيل التام القدرة والقوة الذي لا يعجزه شيء (المتين) أي القوي الشديد الذي لا يلحقه في أفعاله مشقة ولا كلفة ولا تعب والمتانة الشدة والقوة، فهو من حيث إنه بالغ القدرة تامها قوى ومن حيث أنه شديد القوة متين (الولي) أي الناصر. وقيل المتولي لأمور العالم والخلائق القائم بها كولي اليتيم. وقيل المحب لأولياءه (الحميد) أي المحمود المستحق للثناء على كل حال فعيل بمعنى مفعول (المحصى) أي الذي أحصى كل شيء بعلمه وإحاطه به فلا يفوته شيء من الأشياء دق أو جل والإحصاء العد والحفظ
المبديء، المعيد، المحي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول،

(15/306)


(المبديء) بالهمزة وقد تبدل وقفا أي الذي أنشأ الأشياء واخترعها ابتداء من غير مثال سبق (المعيد) أي الذي يعيد الخلق بعد الحياة إلى الممات في الدنيا وبعد الممات إلى الحياة يوم القيامة (المحي) أي خالق الحياة ومعطيها لمن شاء (المميت) أي خالق الموت ومسلطه على من شاء من خلقه (الحي) أي الدائم البقاء (القيوم) القائم بنفسه والمقيم لغيره وهو فيعول للمبالغة (الواجد) بالجيم أي الغني الذي لا يفتقر. وقد وجد يجد جدة أي استغنى غنى لا فقر بعده. وقيل الذي يجد كل ما يريده ويطلبه ولا يفوته شيء (الماجد) بمعنى المجيد لكن المجيد أبلغ. وقيل الماجد المتعالي المتنزه (الواحد) أي الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر. وقيل هو المنقطع القرين والشريك (الأحد) كذا في بعض النسخ من المشكاة بزيادة الأحد بعد الواحد وهكذا في المصابيح والحصن وجامع الأصول (ج5ص25) وليست هذه الزيادة في نسخ الترمذي الموجودة عندنا، ولم تقع أيضا في رواية الحاكم (ج1ص16) قال الطيبي في جامع الأصول: لفظ الأحد بعد الواحد ولم يوجد في جامع الترمذي والدعوات للبيهقي ولا في شرح السنة – انتهى. قال الجزري في جامع الأصول (ج5ص201) الأحد والفرد الفرق بينه وبين الواحد إن "أحدا" بنى لنفي ما يذكر معه من العدد فهو يقع على المذكر والمؤنث يقال ما جاءني أحد أي ذكر ولا أنثى، وأما الواحد فإنه وضع لمفتتح العدد تقول جاءني واحد من الناس ولا تقول جاءني أحد من الناس، والواحد بنى على انقطاع النظير والمثل، والأحد بنى على الإنفراد الوحدة عن الأصحاب، فالواحد منفرد بالذات والأحد منفرد بالمعنى _ انتهى. وقيل: إن الأحدية لتفرد الذات والواحدية لنفي المشاركة في الصفات، وبسط الطيبي في بيان الفرق بينهما من حيث اللفظ والمعنى جميعا فارجع إليه إن شئت (الصمد) هو السيد الذي انتهى إليه السودد، وقيل هو الدائم الباقي، وقيل هو الذي لا جوف له، وقيل الذي يصمد في الحوائج إليه أي

(15/307)


يقصد. (القادر المقتدر) معناهما ذو القدرة إلا أن المقتدر أبلغ لما في البناء من معنى التكلف والاكتساب فإن ذلك وإن امتنع في حقه تعالى حقيقة لكنه يفيد المعنى مبالغة كذا في المرقاة. وقيل: القادر المتمكن من كل ما يريده بلا معالجة ولا واسطة والمقتدر المستولى على كل من أعطاه حظا من قدرة (المقدم) بكسر الدال أي الذي يقدم الأشياء بعضها على بعض ويضعها في مواضعها اللائقة بها (المؤخر) بكسر الخاء المعجمة أي الذي يؤخر الأشياء إلى أماكنها ومواقيتها المناسبة لها فمن استحق التقديم قدمه، ومن استحق التأخير أخره ولا مقدم لما أخره ولا مؤخر لما قدمه (الأول) أي الذي لا بداية
الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرؤف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع،

(15/308)


لأوليته. وقيل أي السابق على الأشياء كلها فإنه موجدها ومبدعها (الآخر) أي الباقي وحده بعد أن يفنى جميع الخلق ولا نهاية لآخريته (الظاهر) أي الذي ظهر فوق كل شيء وعلاه. وقيل هو الذي عرف بطرق الاستدلال العقلي بما ظهر لهم من آثار أفعاله وأوصافه (الباطن) المحتجب عن أبصار الخلائق وأوهامهم فلا يدركه بصر ولا يحيط به وهم (الوالي) أي مالك الأشياء جميعها المتصرف فيها. وقيل المتولي لجميع أمور خلقه (المتعالي) البالغ في العلو المرتفع عن النقص. وقيل الذي جل عن إفك المفترين وعلا شأنه. وقيل الذي جل عن كل وصف وثناء وهو متفاعل من العلو. وقال الجزري: هو المتنزه عن صفات المخلوقين تعالى أن يوصف بها وجل ويجوز حذف يائه على ما قريء في المتواتر وقفا ووصلا (البر) بفتح الموحدة مشتق من البر بالكسر بمعنى الإحسان وهو مبالغة البار أي المحسن البالغ في البر والإحسان. قال الجزري: البر هو العطوف على عباده ببره ولطفه (التواب) الذي يقبل توبة عباده مرة بعد أخرى. وقيل الذي يرجع بالإنعام على كل مذنب رجع إلى التزام الطاعة بقبول توبته من التوب وهو الرجوع (المنتقم) هو المبالغ في العقوبة لمن يشاء من العصاة مفتعل من نقم ينقم إذا بلغت به الكراهية حد السخط (العفو) فعول من العفو وهو الذي يمحو السيئات ويتجاوز عن المعاصي وهو أبلغ من الغفور لأن الغفران ينبىء عن الستر والعفو ينبىء عن المحو والطمس وهو من أبنية المبالغة يقال عفا يعفو عفوا فهو عاف وعفو (الرؤف) ذو الرحمة البالغة من الرأفة وهي شدة الرحمة فهو أبلغ من الرحيم والراحم. قال الجزري: والفرق بين الرأفة والرحمة إن الرحمة قد تقع في الكراهة للمصلحة، والرأفة لا تكاد تكون في الكراهة. وقيل إن الرحمة إحسان مبدؤه شفقة المحسن، والرأفة إحسان مبدؤه فاقة المحسن إليه (مالك الملك) أي الذي تنفذ مشيئته في ملكه ويجري الأمور فيه على ما يشاء أو الذي له التصرف المطلق (ذو الجلال والإكرام) أي

(15/309)


ذو العظمة والكبرياء وذو الإكرام لأولياءه بأنعامه عليهم. وقيل الذي لا شرف ولا كمال إلا هو له أي هو مستحقة ولا كرامة ولا مكرمة إلا وهي منه (المقسط) أي العادل في حكمه يقال أقسط الرجل يقسط فهو مقسط إذا عدل، ومنه ?إن الله يحب المقسطين? [المائدة: 25] وقسط يقسط فهو قاسط إذا جار ومنه ?وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا? [الجن: 15] فكأن الهمزة في أقسط للسلب كما يقال شكا إليه فأشكاه (الجامع) أي الذي يجمع الخلائق ليوم الحساب. وقيل المؤلف بين المتماثلات والمتباينات والمتضادات في
الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور)). رواه الترمذي، والبيهقي في "الدعوات الكبير"

(15/310)


الوجود (الغني) أي المستغني عن كل شيء لا يحتاج إلى أحد في شيء وكل أحد يحتاج إليه وهذا هو الغني المطلق ولا يشارك الله فيه غيره (المغني) أي الذي يغني من يشاء من عباده عن غيره يعطي من يشاء ما يشاء (المانع) الدافع لأسباب الهلاك والنقص. وقال الجزري: هو الناصر الذي يمنع أولياءه أن يؤذيهم أحد. وقيل: يمنع من يريد من خلقه ما يريد ويعطيه ما يريد (الضار) أي الذي يضر من يشاء من خلقه حيث هو خالق الأشياء كلها خيرها وشرها ونفعها وضرها (النافع) أي الذي يوصل النفع إلى من يشاء من خلقه حيث هو خالق النفع والضر والخير والشر (النور) هو الذي يبصر بنوره ذو العماية ويرشد بهداه ذو الغواية فيصل إلى تمام الهداية. وقيل هو الظاهر الذي به كل ظهور فالظاهر بنفسه المظهر لغيره يسمى نورا (الهادي) أي الذي بصر عباده وعرفهم طريق معرفته حتى أقروا بربوبيته وهدى كل مخلوق إلى ما لا بد منه في بقاءه ودوام وجوده (البديع) أي الخالق المخترع لا عن مثال سابق، فعيل بمعنى مفعل يقال أبدع فهو مبدع (الباقي) أي الدائم الوجود الذي لا يقبل الفناء (الوارث) أي الذي يرث الخلائق ويبقى بعد فناءهم (الرشيد) أي الذي أرشد الخلق إلى مصالحهم أي هداهم ودلهم عليها فعيل بمعنى مفعل. وقيل: هو الذي تنساق تدابيره إلى غاياتها على سنن السداد من غير إشارة مشير ولا تسديد مسدد (الصبور) أي الذي لا يعاجل العصاة بالمؤاخذة والانتقام منهم بل يؤخر ذلك إلى أجل مسمى فمعنى الصبور في صفة الله تعالى قريب من معنى الحليم. والفرق بينهما أن العصاة لا يأمنون العقوبة في صفة الصبور كما يأمنونها في صفة الحليم هذا، ومن أراد استقصاء معاني الأسماء الحسنى فعليه أن يرجع إلى المقصد الأسنى في شرح الأسماء الحسنى للغزالي وأشعة اللمعات للشيخ عبد الحق الدهلوي (رواه الترمذي والبيهقي) وأخرجه أيضا ابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم (ج1ص16) والطبراني وابن أبي الدنيا

(15/311)


كلاهما في الدعاء، وابن أبي عاصم وأبوالشيخ وابن مردوية كلاهما في التفسير، وأبونعيم في الأسماء الحسنى، وابن مندة وجعفر الفريابي في الذكر، وفي رواياتهم اختلاف شديد في سرد الأسماء وزيادة ونقص كما أشار إليه الحافظ في الفتح والقسطلاني في إرشاد الساري (ج11ص68- 69) والشوكاني في فتح القدير (ج2ص256- 257) وكما يدل عليه ما ذكره السيوطي في الجامع الصغير وعلي المتقي في الكنز من سياق بعض الروايات، وفي الباب عن ابن عباس وابن عمر. قال الشوكاني: وقد أخرجها بهذا العدد الذي أخرجه الترمذي وابن مردوية وأبونعيم
وقال الترمذي: هذا حديث غريب.

(15/312)


عن ابن عباس وابن عمر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكراه ولا أدري كيف إسناده – انتهى. (وقال الترمذي) أي بعد أن أخرجه عن الجوزجاني عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم عن شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة (هذا حديث غريب) وبعده حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح ولا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح وهو ثقة عند أهل الحديث – انتهى. قال الحافظ: لم ينفرد به صفوان فقد أخرجه البيهقي (وكذا الحاكم ج1ص16) من طريق موسى بن أيوب النصيبي وهو ثقة عن الوليد أيضا. وقد اختلف في سنده على الوليد ثم ذكر الحافظ الاختلاف وبسط الكلام في ذلك. قال الترمذي: وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعلم في كبير شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث – انتهى. قال الحافظ: وقع سرد الأسماء في رواية زهير بن محمد عن موسى بن عقبة عند ابن ماجه. أي كما وقع في رواية الوليد بن مسلم عن شعيب (عند الترمذي وغيره) وهذان الطريقان يرجعان إلى رواية الأعرج وفيهما اختلاف شديد في سرد الأسماء وزيادة ونقص، ووقع سرد الأسماء أيضا في طريق ثالث أخرجها الحاكم في المستدرك (ج1ص17) وجعفر الفريابي في الذكر من طريق عبد العزيز بن الحصين عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة – انتهى كلام الحافظ. قلت: الطرق الثلاث كلها ضعيفة. أما طريق ابن ماجه فلضعف عبد الملك بن محمد صاحب زهير بن محمد. وأما طريق الوليد وعبدالعزيز بن الحصين فلما سيأتي في كلام الحافظ. واختلف العلماء في سرد الأسماء هل هو مرفوع أو مدرج في الخبر من بعض الرواة فمشي كثير منهم على الأول واستدلوا به على جواز تسمية الله تعالى بما لم يرد في القرآن بصيغة الاسم لأن كثيرا من هذه الأسماء كذلك وذهب آخرون إلى أن التعيين مدرج لخلو أكثر الروايات عنه. ونقله عبدالعزيز اليخشبي عن كثير من العلماء. قال ابن كثير في تفسيره

(15/313)


(ج4ص270) والذي عول عليه جماعة من الحفاظ إن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه. وإنما ذلك لأنه رواه عبد الملك بن محمد الصنعاني عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك أي أنهم جمعوها من القرآن كما روي عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة وأبي زيد اللغوي – انتهى. قال الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص54) بعد ذكر كلام ابن كثير هذا: ولا يخفاك إن هذا العدد قد صححه إمامان يعني ابن حبان والحاكم وحسنه إمام يعني النووي في الأذكار فالقول بأن بعض أهل العلم جمعها من القرآن غير سديد ومجرد بلوغ واحد أنه وقع ذلك لا ينتهض لمعارضة الرواة ولا تدفع الأحاديث بمثله – انتهى. قلت قال الحاكم بعد تخريج الحديث من طريق صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم: هذا حديث قد خرجاه في الصحيحين بأسانيد صحيحة دون ذكر الأسامي والعلة فيه عندهما تفرد الوليد بن مسلم، وليس هذا بعلة فإني لا أعلم اختلافا بين أئمة الحديث إن الوليد أوثق وأحفظ وأجل وأعلم من
2311- (3) وعن بريدة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: ((اللهم إني أسألك بأنك أنت الله،

(15/314)


أبي اليمامان وبشر بن شعيب وعلي بن عياش وغيرهما من أصحاب شعيب. قال الحافظ: يشير إلى أن بشرا وعليا وأبا اليمان رووه عن شعيب بدون سياق الأسماء فرواية أبي اليمان عند البخاري في الشروط ورواية علي عند النسائي ورواية بشر عند البيهقي. قال الحافظ: وليست العلة عند الشيخين تفرد الوليد فقط بل الاختلاف فيه والاضطراب وتدليسه واحتمال الإدراج – انتهى. قال الترمذي: وقد روي هذا الحديث بإسناد آخر عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر فيه الأسماء وليس له إسناد صحيح – انتهى. قال الحافظ في التلخيص بعد نقل كلام الترمذي: هذا ما لفظه الطريق التي أشار إليها الترمذي رواها الحاكم (ج1ص17) من طريق عبد العزيز بن الحصين عن أيوب وهشام بن حسان جميعا عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة وفيها زيادة ونقصان. قال الحاكم: هذا حديث محفوظ عن أيوب وهشام بدون ذكر الأسامي وعبد العزيز ثقة. قال الحافظ: بل متفق على ضعفه وهاه البخاري ومسلم وابن معين. وقال البيهقي: هو ضعيف عند أهل النقل – انتهى. قلت وقال الذهبي في تلخيصه متعقبا على الحاكم قلت: بل ضعفوه – انتهى. وقال الحاكم أيضا: إنما أخرجت رواية عبد العزيز بن الحصين شاهدا لرواية الوليد عن شعيب لأن الأسماء التي زادها على الوليد كلها في القرآن. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر كلام الحاكم: هذا كذا قال وليس كذلك وإنما تؤخذ من القرآن بضرب من التكلف لا أن جميعها ورد فيه بصورة الأسماء. قلت: قد استضعف حديث سرد الأسماء جماعة، منهم ابن حزم والداودي وابن العربي وأبوالحسن القابسي وأبوزيد البلخي. قال ابن حزم: الأحاديث الواردة في سرد الأسماء ضعيفة لا يصح شيء منها أصلا ومال الحافظ في الفتح إلى رجحان أن سرد الأسماء مدرج في الحديث إذ قال. وإذا تقرر رجحان أن سرد الأسماء ليس مرفوعا فقد اعتنى جماعة بتتبعها من القرآن من غير تقييد بعدد كما روي عن محمد بن يحيى الذهلي أنه استخرج

(15/315)


الأسماء من القرآن، وعن أبي جعفر بن محمد الصادق أنه قال هي في القرآن، وعن أبي زيد اللغوي أنه أخرجها من القرآن ووافقه سفيان على ذلك، وتقدم عن الشوكاني أنه قوي حديث السرد ورجح القول بكون سرد الأسماء مرفوعا، وفي شرح الأذكار لابن علان ليس لهذا الاختلاف كبير جدوى، فإن الموقوف كذلك حكمه المرفوع لأن مثله لا يقال رأيا – انتهى فتأمل.
2311- قوله: (وعن بريدة) أي ابن الحصيب الأسلمي (سمع رجلا) الظاهر إنه أبوموسى الأشعري كما سيأتي في حديث بريدة الآتي في الفصل الثالث وكما يدل عليه رواية أحمد في مسنده (ج5ص349) (اللهم إني أسألك) لم يذكر المسئول لعدم الحاجة إليه (بأنك أنت الله) كذا في جميع النسخ من المشكاة والمصابيح
لا إله إلا أنت، الأحد، الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، فقال: دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا سأل به أعطى، وإذا دعي به أجاب)). رواه الترمذي، وأبوداود

(15/316)


وفي بعض نسخ أبي داود وهكذا وقع في رواية ابن ماجه والحاكم، ووقع في بعض نسخ أبي داود اللهم إني أسألك إني أشهد إنك أنت الله، ولفظ الترمذي بأني أشهد أنك أنت الله وهكذا عند أحمد. والباء للسببية أي بسبب إني أو بوسيلة إني أشهد فهذا ذكر للوسيلة، وأما المسئول فغير مذكور (الأحد) أي بالذات والصفات (الصمد) أي المقصود في الحوائج على الدوام (الذي لم يلد) لانتفاء مجانسته (ولم يولد) لانتفاء الحدوث عنه (ولم يكن له كفوا أحد) أي مكافئا ومماثلا فله متعلق بكفوا. وقدم عليه لأنه محط القصد بالنفي وأخر أحد وهو اسم يكن عن خبرها رعاية للفاصلة (فقال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (دعا الله) لفظ الترمذي لقد سأل الله، وهكذا في ابن ماجه والمسند والمستدرك في رواية، ولأبي داود لقد سألت الله، وأما لفظ الكتاب فهو للحاكم في رواية أخرى (باسمه الأعظم) في شرح السنة في هذا الحديث دلالة على أن لله تعالى اسما أعظم إذا دعي به أجاب، وإن ذلك هو المذكور ههنا، وهو حجة على من قال ليس الاسم الأعظم اسما معينا بل كل اسم ذكر بإخلاص تام مع الإعراض عما سوى الله هو الاسم الأعظم، لأن شرف الاسم بشرف المسمى لا بواسطة الحروف المخصوصة. قال الطيبي: وقد ذكر في أحاديث أخر مثل ذلك: وفيها أسماء ليست في هذا الحديث إلا أن لفظ الله مذكور في الكل فيستدل بذلك على أنه الاسم الأعظم – انتهى. وسيأتي الكلام في ذلك مفصلا في آخر الباب (الذي إذا سأل به أعطى وإذا دعي بها أجاب) كذا في رواية أبي داود وابن ماجه وأحمد بتقديم السؤال على الدعاء. ووقع عند الترمذي بتقديم الدعاء على السؤال. قيل السؤال أن يقول العبد أعطني الشيء الفلاني فيعطي، والدعاء أن ينادي ويقول يا رب فيجيب الرب تعالى ويقول لبيك يا عبدي ففي مقابلة السؤال الإعطاء وفي مقابلة الدعاء الإجابة وهذا هو الفرق بينهما ويذكر أحدهما مقام الآخر أيضا. وقيل الفرق بينهما إن الثاني أبلغ، فإن إجابة

(15/317)


الدعاء تدل على شرف الداعي ووجاهته عند المجيب بخلاف السؤال فإنه قد يكون مذموما كما يكون في إثم أو قطيعة رحم. وقال الطيبي: إجابة الداعي تدل على وجاهة الداعي عند المجيب فيتضمن قضاء الحاجة بخلاف الإعطاء فالأخير أبلغ وقوله أعطي وأجاب أي بأن يعطي عين المسئول بخلاف الدعاء بغيره فإنه وإن كان لا يرد لكنه إما أن يعطاه أو يدخره للآخرة أو يعوض (رواه الترمذي) في جامع الدعوات وحسنه (وأبو داود) في أواخر الصلاة وسكت عنه وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص350) والنسائي في الكبرى وابن ماجه في الدعاء وابن حبان وابن أبي شيبة وابن السني (ص243) والحاكم (ج1ص504) وقال: صحيح على شرط الشيخين. ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره، وقال قال شيخنا أبوالحسن المقدسي: إسناده لا مطعن فيه ولا أعلم أنه روي في هذا الباب
2312- (4) وعن أنس، قال: ((كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، ورجل يصلي، فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت الحنان، المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم! أسألك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
حديث أجود إسنادا منه، وهو يدل على بطلان مذهب من ذهب إلى نفي القول بأن لله اسما هو الاسم الأعظم وهو حديث حسن – انتهى. وقال الحافظ في الفتح: هو أرجح من حيث السند من جميع ما ورد في ذلك انتهى.

(15/318)


2312- قوله: (وعن أنس قال كنت جالسا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ورجل يصلي فقال اللهم) لفظ الترمذي عن أنس قال دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد ورجل قد صلى وهو يدعو وهو يقول في دعائه اللهم، ولأبي داود عن أنس أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا ورجل يصلي ثم دعا اللهم، وفي ابن ماجه عن أنس قال سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يقول اللهم والرجل المذكور هم أبوعياش الزرقي، فإن الحديث ذكره المنذري في الترغيب من رواية الإمام أحمد وفيه مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي عياش الزرقي بن الصامت وهو يصلي وهو يقول اللهم الحديث. قال الهيثمي بعد عزوه لأحمد والطبراني في الصغير: ورجال أحمد ثقات إلا أن ابن إسحاق مدلس وإن كان ثقة (بأن لك الحمد) تقديم الجار للاختصاص (لا إله إلا أنت) زاد ابن ماجه وحدك لا شريك لك (الحنان) كذا في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة والمصابيح، وسقط هذا اللفظ عن النسخ التي اعتمدها القاري وأخذها في شرحه ولم يقع أيضا في رواية الترمذي وأبي داود وابن ماجه والحاكم، نعم وقع عند أحمد كما في الترغيب. قال القاري: وفي نسخة صحيحة يعني من المشكاة الحنان قبل المنان وهو المفهوم من المفاتيح – انتهى. قال في النهاية: الحنان الرحيم بعباده فعال للمبالغة من الحنان بالتخفيف بمعنى الرحمة (المنان) بتشديد النون أيضا وهو المنعم المعطي من المن العطاء لا من المنة، وكثيرا ما يرد المن في كلامهم بمعنى الإحسان إلى من لا يستثيبه ولا يطلب الجزاء عليه فالمنان من أبنية المبالغة كالسفاك والوهاب أي كثير العطاء والإنعام. قال صاحب الصحاح: من عليه منا أي أنعم (بديع السماوات والأرض) قال القاري: يجوز فيه الرفع على أنه صفة المنان أو خبر المبتدأ محذوف أي هو أو أنت وهو أظهر والنصب على النداء ويقويه رواية الواحدي في كتاب الدعاء له يا بديع السماوات كذا في شرح الجزري على

(15/319)


المصابيح. قلت: في رواية أحمد على ما نقله المنذري في الترغيب يا حنان يا منان يا بديع السماوات والأرض، وفي الأدب المفرد يا بديع السماوات يا حي يا قيوم إني أسألك (يا ذا الجلال والإكرام) أي ذا العظمة والكبرياء وذا الإكرام لأوليائه (يا حي يا قيوم) ليس هذا اللفظ عند الترمذي وابن ماجه، نعم وقع عند أبي داود والنسائي وابن حبان والحاكم (أسألك) أي ولا أسأل غيرك ولا أطلب سواك أو أسألك كلما أسأل أو هو تأكيد للأول وليس هذا اللفظ في الحصن ولم أره في كتاب سوى
دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سأل به أعطى)). رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه.
2313- (5) وعن أسماء بنت يزيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: ?وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم?، وفاتحة آل عمران: ?الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم?
المشكاة وسوى الأدب المفرد، وزاد الحاكم في رواية أسألك الجنة وأعوذ بك من النار (دعا الله باسمه الأعظم) هكذا عند الترمذي وابن ماجه وفي سنن أبي داود دعا الله باسمه العظيم (رواه الترمذي) وقال هذا حديث غريب (وأبو داود) وسكت عنه (والنسائي) في الكبرى (وابن ماجه) وأخرجه أيضا أحمد وابن حبان والحاكم وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي والطبراني في الصغير وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد مختصرا بلفظ: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعا رجل فقال: يا بديع السماوات يا حي يا قيوم إني أسألك فقال أتدرون بما دعا؟ والذي نفسي بيده دعا باسمه الذي إذا دعي به أجاب، وفي الباب عن أبي طلحة عند الطبراني وفيه أبان بن عياش وهو متروك.

(15/320)


2313- قوله: (وعن أسماء بنت يزيد) هن الزيادة ابن السكن بن رافع بن امرىء القيس بن زيد بن عبد الأشهل الأنصارية الأوسية ثم الأشهلية أم سلمة، ويقال أم عامر وهي من المبايعات روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة أحاديث كانت من ذوات العقل والدين، وكان يقال لها خطيبة النساء وهي ابنة عمة معاذ بن جبل، وقد شهدت اليرموك وقتلت يومئذ تسعة من الروم بعمود فسطاطها وعاشت بعد ذلك دهرا روي عنها شهر بن حوشب وغيره (اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين) أي في جميعهما، أو مجموعهما يجوز أن يراد أنه في هاتين الآيتين كلتيهما على سبيل الاجتماع لا الإنفراد كما حديث أبي أمامة عند ابن ماجه وغيره كذا قال القاري في شرح الحصن. وقال السندي: قوله اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين الخ يريد أنه لا إله إلا هو وهذا هو المراد من حديث القاسم عن أبي أمامة أيضا (وإلهكم إله واحد) أي المستحق للعبادة واحد لا شريك له (لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) المنعم بجلائل النعم ودقائقها (وفاتحة آل عمران) أي ابتداء سورة آل عمران وفاتحة بالجر على أنها وما قبلها بدلان أو عطف بيان، وجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ثانيتهما أو الأخرى أو بالعكس أي ومنهما والنصب بتقدير أعني (الم، الله لا إله إلا هو الحي القيوم) كذا وقع تعيين الآيتين عند من عزا له المصنف – الحديث. وهو عند الثلاثة من رواية عيسى بن يونس عن عبيد الله بن أبي زياد عن شهر عن أسماء، وعند الدارمي من رواية
رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه، والدارمي.

(15/321)


أبي عاصم عن عبيدالله، وخالف محمد بن بكر عيسى بن يونس وأبا عاصم فروى أحمد (ج6ص461) من طريقه عن عبيد الله عن شهر عن أسماء قالت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في هاتين الآيتين: ?الله لا إله إلا هو الحي القيوم ? [آل عمران: 2] و ?الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم? [آل عمران: 1، 2] إن فيهما اسم الله الأعظم وروي ابن ماجه والحاكم (ج1ص509) والطبراني في الكبير من طريق القاسم بن عبدالرحمن الشامي عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن اسم الله الأعظم في ثلاث سور من القرآن في سورة البقرة وآل عمران وطه. قال المناوي في شرحه الكبير على الجامع: وفيه أي عند الحاكم والطبراني هشام بن عمار مختلف فيه. وقال في المختصر: وإسناده حسن، وقيل صحيح. وقال البوصيري في الزوائد: في إسناده أي عند ابن ماجه غيلان بن أنس لم أر لأحد فيه كلاما لا يجرح ولا توثيق وباقي رجال الإسناد ثقات – انتهى. قلت قال الحافظ في التقريب في ترجمة غيلان هذا: إنه مقبول – انتهى. قال القاسم بن عبد الرحمن الشامي المذكرر: فالتمستها فعرفت أنه الحي القيوم. وقال الجزري في الحصن: وعندي إنه الله لا إله إلا هو الحي القيوم جمعا بين الحديثين، وبيانه إن حديث أسماء نص في أنه لا إله إلا هو الحي القيوم، وحديث أبي أمامة في ثلاث سور البقرة وآل عمران وطه ?والله لا إله إلا هو الحي القيوم? في هذه السور أما البقرة وآل عمران فظاهر، وأما طه ففيها أولا ?الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى? [طه: 8] وآخرا وعنت الوجوه للحي القيوم. قال الحنفي: فيه نظر لجواز كون الاسم الأعظم المأخوذ في هذا المجموع، قلت: (قائله القاري) الأظهر في هذا المجمع أن يقال الله لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الحي القيوم ليكون مشتملا على جميع ما ذكره في السور وكأن الجزري نظر إلى أن الموجود في جميعها الله لا إله إلا هو الحي القيوم كذا ذكره القاري في شرح الحصن.

(15/322)


قلت: والأظهر عندي ما قاله الجزري لما ذكرنا من رواية أحمد وتقدم عن السندي أنه قال المراد به لا إله إلا هو والله تعالى أعلم (رواه الترمذي الخ) وأخرجه أيضا أحمد (ج6ص461) وابن أبي شيبة كلهم من طريق عبيدالله بن أبي زياد القداح عن شهر بن حوشب عن أسماء، قال الترمذي: حديث حسن صحيح وسكت عنه أبوداود. وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر الحديث: حسنه الترمذي، وفي نسخة صححه وفيه نظر لأنه من رواية شهر بن حوشب – انتهى. وقال المنذري في تلخيص السنن: وأخرجه الترمذي وقال حديث حسن، هذا آخر كلامه، وشهر بن حوشب وثقه أحمد وابن معين وتكلم فيه غير واحد، وعبيد الله بن أبي زياد القداح المكي قد تكلم فيه أيضا غير واحد – انتهى. وقال في رجال الترغيب في ترجمة عبيد الله هذا قال ابن معين ضعيف. وقال أبوداود أحاديث مناكير، وقال أحمد: ليس بثقة وقال مرة صالح الحديث، وقال أبوأحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. وقال ابن عدي: لم أر له شيئا منكرا، وقال يحيى
2314- (6) وعن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعوة ذي النون، إذا دعا ربه، وهو في بطن الحوت، ?لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين?، لم يدع بها، رجل مسلم في شيء، إلا استجاب)). رواه أحمد والترمذي.
ابن سعيد كان وسطا ليس بذاك وصحح الترمذي حديثه في اسم الله الأعظم. وقال الحافظ في التقريب في عبيد الله بن أبي زياد القداح المكي: ليس بالقوي عندهم، وفي شهر بن حوشب صدوق كثير الإرسال والأوهام.

(15/323)


2314- قوله: (وعن سعد) أي ابن أبي وقاص (دعوة ذي النون) أي دعا صاحب الحوت وهو يونس عليه الصلاة والسلام (إذا دعا ربه) كذا في بعض النسخ من المشكاة وهكذا في الأذكار للنووي وفي بعضها إذا دعا أي بسقوط ربه، وفي الترمذي إذا دعا وهكذا ذكر الجزري في جامع الأصول (ج5ص110) والبغوي في المصابيح وكذا وقع عند الحاكم. قال القاري: قوله "إذا دعا" أي ربه كما في نسخة صحيحة يعني من المشكاة وهو غير موجود في الترمذي لكنه مذكور في الأذكار كذا في المفاتيح وهو ظرف دعوة. ولفظ أحمد دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت (وهو في بطن الحوت) جملة حالية ?لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين? [الأنبياء: 87] قال القاري: بدل من الدعوة لأنها في الأصل المرة من الدعاء، ويراد بها هنا المدعو به مع التوسل فيه بما يكون سببا لاستجابته (لم يدع بها) أي بتلك الدعوة أو بهذه الكلمات وفي الترمذي فإنه لم يدع بها وكذا نقله المنذري في الترغيب عن الترمذي وهكذا وقع في رواية أحمد. وعلى هذا فالظاهر إن قوله لا إله إلا أنت خبر لقوله دعوة ذي النون، والتقدير فعليك أن تدعو بهذه الدعوة فإنه لم يدع بها الخ (في شي) أي من الحاجات (إلا استجاب) أي الله (رواه أحمد) (ج1ص170) أي مطولا مع قصة وكذا أبويعلى والبزار. قال الهيثمي (ج10ص159) وهو عند الترمذي طرف منه، قال ورجال أحمد وأبي يعلى وأحد إسنادي البزار رجال الصحيح غير إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقاص وهو ثقة. (والترمذي) وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن أبي حاتم وابن مردوية، والبيهقي في الشعب كما في فتح القدير (ج3ص410) والحاكم (ج1ص505) وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وزاد الحاكم في طريق عنده فقال رجل يا رسول الله هل كانت ليونس خاصة أم للمؤمنين عامة؟ فقال رسول الله، ألا تسمع قول الله عزوجل ?ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين? [الأنبياء: 88]

(15/324)


ورواه ابن جرير بلفظ: اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطي دعوة يونس بن متي، قلت يا رسول الله هل ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال هي ليونس خاصة وللمؤمنين عامة إذا دعوا به الم تسمع قول الله ?وكذلك ننجي المؤمنين? فهو شرط من الله لمن دعاه.
?الفصل الثالث?
2315- (7) عن بريده، قال: ((دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد عشاء، فإذا رجل يقرأ، ويرفع صوته، فقلت: يا رسول الله! أتقول: هذا مراء؟ قال: بل مؤمن منيب. قال: وأبوموسى الأشعري يقرأ، ويرفع صوته، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسمع لقراءته، ثم جلس أبوموسى يدعوا، فقال: اللهم إني أشهد أنك أنت الله، لا إله إلا أنت، أحدا صمدا، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد سأل الله باسمه الذي إذا سئل به أعطي، وإذا دعي به أجاب. قلت: يا رسول الله! أخبره بما سمعت منك؟ قال: نعم. فأخبرته بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال لي: أنت اليوم لي

(15/325)


2315- قوله: (عشاء) أي وقت عشاء أو لصلاة عشاء (فإذا) للمفاجأة (أتقول) قال ابن حجر: أي أترى وهو أولى من قول الشارح يعني الطيبي أي أتعتقد أو أتحكم لرواية شرح السنة أتراه مرائيا (هذا) أي هذا الرجل (مراء) أي يقرأ للسمعة والرياء بقرينة رفع صوته المحتمل أن يكون كذلك (منيب) أي راجع من الغفلة إلى الذكر (قال وأبوموسى الأشعري يقرأ ويرفع صوته) أي قال بريدة قلت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحال إن أبا موسى هو الذي يقرأ فالرجل المذكور في صدر الحديث هو أبوموسى كما صرح به في رواية أحمد وشرح السنة ومحمل قول بريدة أتقول هذا مراء عدم معرفته به قبل ذلك، والحديث ذكره الجزري في جامع الأصول (ج5ص22) عن رزين وفيه، قال أبوموسى الأشعري يقرأ الخ، أي بسقوط الواو قبل أبوموسى والظاهر أن الحذف من الناسخ (يتسمع) من باب التفعل فهو من التسمع لا من الاستماع (ثم جلس أبوموسى يدعوا) لعله في التشهد أو بعد الصلاة. قال ابن حجر: علم منه إن قراءته مع رفع صوته كانت وهو قائم (فقال) أي أبوموسى في دعائه (اللهم إني أشهدك) أي أعتقد فيك قاله القاري. وفي رواية أحمد اللهم إني أسألك بأني أشهد (أحدا صمدا) منصوبان على الاختصاص كقوله ?شهد الله أنه لا إله إلا هو? إلى قوله ?قائما بالقسط? وفي شرح السنة معرفان مرفوعان على أنهما صفتان لله ذكره القاري، قلت وكذا وقعا معرفين مرفوعين في رواية أحمد (لقد سأل) أي أبوموسى الأشعري (أخبره) بحذف الاستفهام، وفي رواية أحمد ألا أخبره (بما سمعت منك) من مدحه ومدح دعائه (فقال لي) أي أبوموسى فرحا بما ذكرته له (أنت اليوم لي) أي في هذا الزمان
أخ صديق، حدثتني بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم)). رواه رزين.

(15/326)


(أخ صديق) أي الجامع بين الأخوة والصداقة، وسقط لفظ الأخ في جامع الأصول وهو غير موجود أيضا في رواية أحمد (حدثتني بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم) حال أو استئناف. بيان وفيه إشعارا بأن الباعث له على المؤاخاة هو تحديثه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تضمنه لمدحه ولو كان ذلك أيضا ليس فيه بأس لأن تبشيره به من لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعادة عظيمة ليس فيه محل عجب أو تزكية للنفس كذا في اللمعات (رواه رزين) أي ذكره رزين في تجريده هكذا مطولا بدون سند. قلت ويدل كلام ابن حجر والقاري أنه رواه البغوي في شرح السنة بسنده هكذا مطولا، ورواه أحمد في مسنده (ج5ص349) عن عثمان بن عمر أنا مالك (بن مغول) عن ابن بريدة عن أبيه قال خرج بريدة عشاء فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيده فأدخله المسجد فإذا صوت رجل يقرأ فقال النبي صلى الله عليه وسلم تراه مرائيا فأسكت بريدة فإذا رجل يدعوا فقال اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده أو قال والذي نفس محمد بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سأل به أعطي وإذا دعي به أجاب، قال فلما كان من القابلة خرج بريده عشاء فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيده فأدخله المسجد، فإذا صوت الرجل يقرأ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أتقوله مراء فقال بريدة أتقوله مرائيا يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا، بل مؤمن منيب، فإذا الأشعري يقرأ بصوت له في جانب المسجد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الأشعري أو إن عبد الله بن قيس أعطى مزمارا من مزامير داود، فقلت ألا أخبره يا رسول الله! قال بلى! فأخبره فأخبرته فقال أنت لي صديق أخبرتني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث - انتهى. وأصل الحديث عند الأربعة وأحمد

(15/327)


أيضا وابن حبان وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور والحاكم والبيهقي كما تقدم وسبق أيضا عن الحافظ أنه قال حديث بريدة أرجح ما ورد في الاسم الأعظم من حيث السندي هذا وقد ذكر المصنف في تعيين الاسم الأعظم كما ترى أربعة أحاديث. وقد ورد في ذلك أحاديث أخرى، منها حديث أبي أمامة وقد ذكرنا لفظه في شرح حديث أسماء، ومنها حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في هذه الآية من آل عمران: ?قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء? [آل عمران: 36] إلى آخر الآية. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وفيه حنش بن فرقد وهو ضعيف. قال المناوي: وفي إسناده، أيضا محمد بن زكريا السعداني وثقه ابن معين، وقال أحمد: ليس بالقوي، وقال النسائي والدار قطني: ضعيف. وفي إسناده أيضا أبوالجوزاء وفيه نظر. ومنها حديث ابن عباس أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - اسم الله الأعظم في آيات من آخر سورة الحشر، أخرجه الديلمي ذكره الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص52) وسكت عنه. وفي

(15/328)


هذه الأحاديث دلالة واضحة على أن لله تعالى اسما أعظم إذا سأل به أعطي وإذا دعي به أجاب. وقد أنكره بعض أهل العلم،وذهب إلى أنه لا وجود له كما سيأتي والقول الراجح قول من أثبته وهم الجمهور، وأحاديث الباب حجة على المنكرين. قال الحافظ في الفتح: قد أنكره قوم كأبي جعفر الطبري وأبي الحسن الأشعري وجماعة بعدهما كأبي حاتم بن حبان والقاضي أبي بكر الباقلاني فقالوا: لا يجوز تفضيل بعض الأسماء الإلهية على بعض، لأنه يؤذن باعتقاد نقصان المفضول عن الأفضل. وحملوا ما ورد من ذلك على أن المراد بالأعظم العظيم وإن أسماء الله كلها عظيمة. وعبارة أبي جعفر الطبري اختلف الآثار في تعيين الاسم الأعظم والذي عندي إن الأقوال كلها صحيحة إذ لم يرد في خبر أنه الاسم الأعظم ولا شيء أعظم منه فكأنه يقول كل اسم من أسماءه تعالى يجوز وصفه بكونه أعظم فيرجع إلى معنى عظيم كما تقدم. وقال ابن حبان: إلا عظيمة الواردة في الأخبار إنما يراد بها مزيد ثواب الداعي بذلك كما أطلق ذلك في القرآن والمراد به مزيد ثواب القاري وقيل المراد بالاسم الأعظم كل اسم من أسماء الله تعالى دعا العبد به ربه مستغرقا بحيث لا يكون في فكره حالتئذ غير الله تعالى، فإن من تأتي له ذلك استجيب له، ونقل معنى هذا عن جعفر الصادق وعن الجنيد وعن غيرهما. وقال آخرون استأثر الله تعالى بعلم الاسم الأعظم ولم يطلع عليه أحدا من خلقه وأثبته آخرون معينا واضطربوا في ذلك وجملة ما وقفت عليه من ذلك أربعة عشر قولا. الأول، الاسم الأعظم "هو" نقله الفخر الرازي عن بعض أهل الكشف واحتج له بأن من أراد أن يعبر عن كلام معظم بحضرته لم يقل له أنت قلت كذا، وإنما يقول هو يقول تأدبا معه. الثاني الله لأنه اسم لم يطلق على غيره ولأنه الأصل في الأسماء الحسنى ومن ثم أضيفت إليه. الثالث الله الرحمن الرحيم ولعل مستنده ما أخرجه ابن ماجه عن عائشة إنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمها الاسم

(15/329)


الأعظم فلم يفعل فصلت ودعت اللهم إني أدعوك الله وأدعوك الرحمن وأدعوك الرحيم وأدعوك بأسمائك الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم – الحديث. وفيه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال إنه لفي الأسماء التي دعوت بها. قال الحافظ: وسنده ضعيف، وفي الاستدلال به نظر لا يخفي. الرابع الرحمن الرحيم الحي القيوم لما أخرج الترمذي من حديث أسماء بنت يزيد يعني حديثها المذكور في الباب. الخامس الحي القيوم أخرج ابن ماجه من حديث أبي أمامة يعني حديثه الذي ذكرنا في شرح حديث أسماء وقواه الفخر الرازي واحتج بأنهما يدلان من صفات العظمة بالربوبية ما لا يدل على ذلك غيرهما كدلالتهما. السادس الحنان المنان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام الحي القيوم، ورد ذلك مجموعا في حديث أنس عند أحمد والحاكم وأصله عند أبي داود والنسائي وصححه ابن حبان.
(3) باب ثواب التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير

(15/330)


السابع بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام أخرجه أبويعلى من طريق السري بن يحيى عن رجل من طي وأثنى عليه قال كنت أسأل الله أن يريني الاسم الأعظم فأريته مكتوبا في الكواكب في السماء. الثامن ذو الجلال والإكرام أخرج الترمذي من حديث معاذ بن جبل قال سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يقول يا ذا الجلال والإكرام، فقال قد استجيب لك فسل، واحتج له الفخر بأنه يشمل جميع الصفات المعتبرة في الإلهية لأن في الجلال إشارة إلى جميع السلوب وفي الإكرام إشارة إلى جميع الإضافات. التاسع الله لا إله إلا هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، أخرجه أبوداود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث بريدة وهو أرجح من حيث السند من جميع ما ورد في ذلك. العاشر رب رب أخرجه الحاكم من أبي الدرداء وابن عباس بلفظ: اسم الله الأكبر رب رب. وأخرج ابن أبي الدنيا عن عائشة إذا قال العبد يا رب يا رب قال الله تعالى لبيك عبدي سل تعط، رواه مرفوعا وموقوفا. الحادي عشر دعوة ذي النون فذكر حديث سعد المذكور في الباب. الثاني عشر نقل الفخر الرازي عن زين العابدين أنه سأل الله أن يعلمه الاسم الأعظم فرأى في النوم هو الله الله الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم. الثالث عشر هو مخفي في الأسماء الحسنى ويؤيده حديث عائشة المتقدم لما دعت ببعض الأسماء وبالأسماء الحسنى فقال لها صلى الله عليه وسلم إنه لفي الأسماء التي دعوت بها، الرابع عشر كلمة التوحيد نقله عياض عن بعض العلماء – انتهى كلام الحافظ باختصار يسير. وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين: قد اختلف في تعيين الاسم الأعظم على نحو أربعين قولا قد أفردها السيوطي بالتصنيف قال ابن حجر: وأرجحها من حيث السند الله لا إله إلا هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد – انتهى.

(15/331)


(باب ثواب التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير) تخصيص بعد تعميم من باب ذكر الله عزوجل، والمراد بيان الأحاديث التي وردت في فضل قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وثوابه، ومعنى التسبيح تنزيه الله تعالى عما لا يليق به من كل نقص فيلزم نفي الشريك والصاحبة والولد وجميع الرذائل وسمات الحدوث مطلقا. وقد يطلق التسبيح ويراد به جميع ألفاظ الذكر ويطلق به ويراد به الصلاة النافلة. وقال ابن الأثير: وأصل التسبيح التنزيه من النقائص ثم استعمل في مواضع تقرب منه اتساعا يقال سبحته أسبحة تسبيحا وسبحانا أي برا ونزه، ويقال أيضا للذكر والصلاة النافلة سبحة، يقال قضيت سبحتي والسبحة من التسبيح كالسخرة من التسخير.
?الفصل الأول?
2316- (1) عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الكلام أربع: سبحان الله،

(15/332)


2316- قوله: (أفضل الكلام) أي كلام البشر، أما كلام الله تعالى فهو أفضل مطلقا، وأما الاشتغال فهو بالقرآن أفضل إلا بالذكر في وقت مخصوص فهو أفضل من الاشتغال بالقرآن، فالكلام في مقامين نفس الكلام والاشتغال، أي صرف الوقت. قال النووي: هذا (الحديث وما أشبهه) محمول على كلام الآدمي وإلا فالقرآن أفضل، وكذا قراءة القرآن أفضل من التسبيح والتهليل المطلق. فأما المأثور في وقت أو حال أو نحو ذلك فالاشتغال به أفضل – انتهى. وقال القاري: أفضل الكلام أربع أي أفضل كلام البشر، لأن الرابعة لم توجد في القرآن ولا يفضل ما ليس فيه على ما هو فيه، ولقوله عليه الصلاة والسلام هي أفضل الكلام بعد القرآن وهي من القرآن أي غالبها يعني إن الثلاثة الأول وإن وجدت في القرآن لكن الرابعة لم توجد فيه فقوله هي من القرآن مبني على التغليب. قلت: أراد القاري بقوله عليه الصلاة والسلام ما رواه أحمد (ج5ص20) عن سمرة بلفظ: أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهي من القرآن لا يضرك بأيهن بدأت – الحديث. وقيل: معنى هي من القرآن أي متفرقة فيه لا مجتمعة لورود "سبحان الله حين تمسون ولمجيء الحمد لله كثيرا" ولقوله تعالى: ?فاعلم أنه لا إله إلا الله? [محمد: 19] وأما قوله الله أكبر فغير موجود بهذا المبنى لكنه بحسب المعنى مستفاد من قوله تعالى: ?وكبره تكبيرا? [الإسراء: 111] ومن قوله ?وربك فكبر? [المدثر: 3] ومأخوذ من قوله ?ولذكر الله أكبر? [العنكبوت: 45] ومن قوله: ?ورضوان من الله أكبر? [التوبة: 72] والحاصل إن المجموع بهذا الترتيب ليس من القرآن ولذا قال الجزري: أي كل منها جاءت في القرآن – انتهى. قال القاري: ويحتمل أي قوله أفضل الكلام في حديث الباب أن يتناول كلام الله أيضا فإنها موجودة فيه لفظا، إلا الرابعة فإنها موجودة معنى وأفضليتها مطلقا لأنها هي الجامعة لمعاني التنزيه والتوحيد وأقسام الثناء والتحميد وكل كلمة منها معدودة من كلام الله وهذا

(15/333)


ظاهر معنى ما ورد هي من القرآن أي كلها – انتهى. (سبحان الله) سبحان اسم مصدر وهو التسبيح. وقيل: بل سبحان مصدر لأنه سمع له فعل ثلاثي وهو من الأسماء اللازمة للإضافة وقد يفرد وإذا أفرد منع الصرف للتعريف وزيادة الألف والنون كقوله:
أقول لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر
وجاء منونا كقوله:
سبحانه ثم سبحانا يعود له وقبلنا سبح الجودي والجمد
والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)).
فقيل صرف ضرورة، وقيل هو بمنزلة قبل وبعد إن نوى تعريفه بقي على حاله وإن نكر أعرب منصرفا وهذا البيت يساعد على كونه مصدر إلا اسم مصدر لوروده منصرفا، ولقائل القول الأول أن يجيب بأن هذا نكرة لا معرفة وهو من الأسماء اللازمة النصب على المصدرية والناصب له فعل مقدر لا يجوز إظهار تقديره سبحت الله سبحانا كسبحت الله تسبيحا فهو واقع موقع المصدر. وعن الكسائي أنه منادى تقديره يا سبحانك ومنعه جمهور النحويين وهو مضاف إلى المفعول، أي سبحت الله، ويجوز أن يكون مضافا إلى الفاعل أي نزه الله نفسه والأول هو المشهور (والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) قال المناوي: وإنما كانت هذه الكلمات الأربع أفضل الكلام لأنها تتضمن تنزيهه تعالى عن كل ما يستحيل عليه ووصفه بكل ما يجب له من أوصاف كماله وإنفراده لوحدانيته واختصاصه بعظمته وقدمه المفهومين من أكبريته. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: أسماء الله الحسنى التي سمي بها نفسه في كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - مندرجة في أربع كلمات هن الباقيات الصالحات. الكلمة الأولى: قوله سبحان الله ومعناها في كلام العرب التنزيه والسلب، فهي مشتملة على سلب النقص والعيب عن ذات الله تعالى وصفاته فما كان من أسمائه سلبا فهو مندرج تحت هذه الكلمة كالقدوس، وهو الطاهر من كل عيب والسلام وهو الذي سلم من كل آفة. الكلمة الثانية: قوله الحمد لله وهي مشتملة على ضروب الكمال لذاته وصفاته فما كان من

(15/334)


أسمائه متضمنا للإثبات كالعليم والقدير والسميع والبصير فهو مندرج تحت الكلمة الثانية، فقد نفينا بقولنا سبحان الله كل عيب عقلناه، وكل نقص فهمناه وأثبتنا بالحمد لله كل كمال عرفناه، وكل جلال أدركناه، ووراء ما نفيناه وأثبتناه شأن عظيم قد غاب عنا وجهلناه فنحققه من جهة الإجمال بقولنا الله أكبر، وهي الكلمة الثالثة: بمعنى أنه أجل مما نفيناه، وأثبتناه، وذلك معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك فما كان من أسماءه متضمن المدح فوق ما عرفناه وأدكناه كالأعلى والمتعالي، فهو مندرج تحت قولنا الله أكبر، فإذا كان في الوجود من هذا شأنه نفينا أن يكون في الوجود من يشاكله أو يناظره فحققنا ذلك بقولنا لا إله إلا الله وهي الكلمة الرابعة: فإن الألوهية ترجع إلى استحقاق العبودية ولا يستحق العبودية إلا من اتصف بجميع ما ذكرناه فما كان من أسماءه متضمنا للجميع على الإجمال كالواحد الأحد ذي الجلال والإكرام فهو مندرج تحت قولنا لا إله إلا الله. وإنما استحق العبودية لما وجب له من أوصاف الجمال ونعوت الكمال الذي لا يصفه الواصفون ولا يعده العادون كذا ذكره السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (ج5ص86، 87) وفي الحديث إن أفضل الكلام هذه الكلمات الأربع، وظاهره يعارض ما سيأتي من حديث أبي ذر سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الكلام أفضل؟ فقال: سبحان وبحمده. وما سيأتي في الفصل الثاني من حديث جابر أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأيضا حديث أبي ذر هذا يدل
وفي رواية: ((أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر لا يضرك بأيهن بدأت)).

(15/335)


على أفضلية التسبيح مطلقا وهو مخالف لحديث جابر، فإنه يدل على أفضلية التهليل مطلقا: وقد جمع القرطبي بما حاصله إن هذه الأذكار إذا أطلق على بعضها أنه أفضل الكلام أو أحبه إلى الله، فالمراد إذا انضمت إلى أخواتها بدليل حديث سمرة عند مسلم أحب الكلام أربع لا يضرك بأيهن بدأت سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر: ويحتمل أن يكتفي في ذلك بالمعنى فيكون من اقتصر على بعضها كفى، لأن حاصلها التعظيم والتنزيه ومن نزهه فقد عظمه ومن عظمه فقد نزهه – انتهى. وقيل: يحتمل أن يجمع بأن تكون "من" مضمرة في قوله أفضل الذكر لا إله إلا الله، وفي قوله أفضل الكلام وكذا في قوله الآتي أحب الكلام بناء على أن لفظ أفضل وأحب متساويان في المعنى. قلت: ويؤيد ذلك ما وقع في رواية أحمد (ج5ص11) أربع من أطيب الكلام وهن من القرآن لا يضرك بأيهن بدأت سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص243) تحت رواية سمرة: أحب الكلام إلى الله أربع الخ. في الحديث دليل على أن هذه الأربع الكلمات أحب إلى الله تعالى، ولا ينافيه ما سيأتي من أن سبحان الله وبحمده أحب الكلام إلى الله، لأن التسبيح والتحميد هن من جملة هذه الأربع المذكورة هنا (وفي رواية أحب الكلام إلى الله أربع )أي أربع كلمات (سبحان الله) أي اعتقد تنزهه عن كل ما لا يليق بجمال ذاته وكمال صفاته وهذا بمنزلة التخلية ولذا أردفه بما يدل على أنه المتصف بالأسماء الحسنى والصفات العلى المستحق لإظهار الشكر وإبداء الثناء وهو بمنزلة التحلية ولذا قال (والحمد لله) ثم أشار إلى أنه متوحد في صفاته السلبية ونعوته الثبوتية فقال (ولا إله إلا الله) ثم أو ما إلى أنه لا يتصور كنه كبريائه وعظمة إزاره وردائه بقوله (والله أكبر) ثم قال (لا يضرك بأيهن) أي بأي الكلمات (بدأت) أي لا يضرك أيها الآتي بهن في حيازة ثوابهن لأن كلا منها مستقل فيما قصد بها من

(15/336)


بيان جلال الله وكماله، ولكن الترتيب المذكورة أفضل وأكمل للمناسبة الظاهرة من تقديم التنزيه وإثبات التحميد ثم الجمع بينهما بكلمة التوحيد المشتملة على التسبيح والتحميد ثم الختم بكون سبحانه أكبر من أن يعرف حقيقة تسبيحه وتحميده. قال ابن الملك: يعني بدأت بسبحان الله أو بالحمد لله أو بلا إله إلا الله أو بالله أكبر جاز، وهذا يدل على أن كل جملة منها مستقلة لا يجب ذكرها على نظمها المذكور لكن مراعاتها أولى، لأن المتدرج في المعارف يعرفه أولا بنعوت جلاله التي تنزه ذاته عما يوجب نقصا، ثم بصفات كماله وهي صفاته الثبوتية التي بها يستحق الحمد، ثم يعلم أن من هذا صفته لا مماثل له ولا يستحق الألوهية غيره فيكشف له من ذلك إنه أكبر إذ كل شيء هالك إلا وجهه – انتهى. قال الشوكاني: واعلم أن هذه "الواو" الواقعة بين هذه الكلمات هي واقعة لعطف بعضها على بعض كسائر الأمور المتعاطفة فهل يكون
رواه مسلم.
2317- (2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس)). رواه مسلم.
2318- (3) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال سبحان الله

(15/337)


الذكر بها بغير واو فيقول الذاكر سبحان الله الحمد لله لا إله إلا الله الله أكبر، أو يكون الذكر بها مع الواو فيقول الذاكر سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، والظاهر الأول لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بأنهم يقولون كذا وكذا فالمقول هو المذكور من دون حرف العطف كسائر التعليمات الواردة عنه صلى الله عليه وسلم – انتهى (رواه مسلم) فيه نظر فإن الرواية الأولى ليست في صحيح مسلم. إنما روي مسلم الرواية الثانية فقط في باب كراهة التسمية بالأسماء القبيحة من كتاب الآداب. وأما الرواية الأولى فأخرجها ابن ماجه في فضل التسبيح ونسبها في التنقيح لابن أبي شيبة وابن حبان أيضا وأخرجها أحمد (ج5ص20) وزاد "بعد القرآن وهي من القرآن" ورواها أيضا أحمد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال المنذري: رواته محتج بهم في الصحيح. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح والرواية الثانية أخرجها أيضا أحمد (ج5ص10، 21) ونسبها في الكنز والتنقيح لابن أبي شيبة وابن حبان والطبراني في الكبير وابن شاهين في الترغيب والنسائي في اليوم والليلة أيضا.

(15/338)


2317- قوله: (أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) أي من الدنيا وما فيها من الأموال وغيرها. وقيل: هو كناية عن المخلوقات كلها. قال ابن العربي: أطلق المفاضلة بين قول هذه الكلمات وبين ما طلعت عليه الشمس ومن شرط المفاضلة استواء الشيئين في أصل المعنى، ثم يزيد أحدهما على الآخر وأجاب بما حاصله أن أفعل قد يراد به أصل الفعل لا المفاضلة كقوله تعالى: ?خير مستقرا وأحسن مقيلا? [الفرقان: 24] ولا مفاضلة بين الجنة والنار أو إن الخطاب واقع على ما استقر في نفس أكثر الناس فإنهم يعتقدون أن الدنيا لا شيء مثلها وإنها المقصود فأخبر بأنها عنده خير مما تظنون أنه لا شيء مثله أو لا شيء أفضل منه. وقيل: يحتمل أن يكون المراد إن هذه الكلمات أحب إلي من أن يكون لي الدنيا فأتصدق بها، والحاصل إن الثواب المترتب على قول هذا الكلام أكثر من ثواب من تصدق بجميع الدنيا لو فرض أنه ملكها (رواه مسلم) في الدعوات وكذا الترمذي وذكره الجزري في الحصن ونسبه لمسلم والترمذي والنسائي وابن أبي شيبة وأبي عوانة.
2318- قوله: (سبحان الله) منصوب على المصدرية بفعل محذوف أي أسبح الله سبحانا يعني أنزهه من
وبحمده في يوم مائة مرة، حطت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر)). متفق عليه.

(15/339)


كل نقص (وبحمده) قال القاري: الباء للمقارنة والواو زائدة أي أسبحه تسبيحا مقرونا بحمده أو متعلق بمحذوف عطف الجملة على الأخرى معناه، أسبح الله وأبتدىء بحمده أو أثنى بثناءه. وقال العيني: الواو فيه للحال تقديره أسبح الله متلبسا بحمدى له من أجل توفيقه لي بالتسبيح (في يوم) قال الطيبي: أي في يوم مطلق لم يعلم في أي وقت من أوقاته فلا يقيد بشي منها. وقال المظهر: ظاهر الإطلاق يشعر بأنه يحصل هذا الأجر المذكور لمن قال ذلك مائة مرة سواء قالها متوالية أو متفرقة في مجالس أو بعضها أول النهار وبعضها آخر النهار لكن الأفضل أن يأتي بها متوالية في أول النهار، وزاد في الحديث الآتي من قال حين يصبح وحين يمسي، ويأتي في ذلك ما ذكره صاحب المظهر من أن الأفضل أن يقول ذلك متواليا في أول النهار وفي أول الليل (حطت) بصيغة المجهول أي وضعت ومحيت (خطاياه) أي غفرت ذنوبه. قال القاري: أي الصغيرة ويحتمل الكبيرة. وقال العيني: أي من حقوق الله لأن حقوق الناس لا تنحط إلا باسترضاء الخصوم. وقال الباجي: يريد أن يكون كفارة له كقوله تعالى: ?إن الحسنات يذهبن السيئآت? [هود: 114] (وإن كانت مثل زبد البحر) الزبد بفتحتين ما يعلو الماء ونحوه عند هيجانه من الرغوة، ومعناه بالفارسية كفك آب وشير وسيم وجزآن، والمراد به الكناية عن المبالغة في الكثرة. قال الطيبي: وهذا وأمثاله كنايات يعبر بها عن الكثرة عرفا. قال عياض: قوله "حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" مع قوله في التهليل (في حديث أبي هريرة الآتي وهو تاسع أحاديث الباب) محيت عنه مائة سيئة قد يشعر بأفضلية التسبيح على التهليل يعني لأن عدد زبد البحر أضعاف أضعاف المائة، وقد قال في حديث التهليل ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به. فيحتمل أن يجمع بينهما بأن التهليل المذكور أفضل ويكون ما فيه من زيادة كتب الحسنات ومحو السيئات ثم ما جعل مع ذلك من فضل عتق الرقاب وكونه حرزا من الشيطان زائدا على

(15/340)


فضل التسبيح وتكفيره جميع الخطايا، لأنه قد ثبت أن من اعتق رقبة اعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار، وقد حصل بعتق رقبة واحدة تكفير جميع الخطايا عموما بعد حصر ما عدد منها خصوصا، مع ما يبقى له من زيادة عتق الرقاب الزائدة على الواحدة، ومع ما فيه من زيادة مائة درجة، وكونه حرزا من الشيطان. ويؤيده ما سيأتي في حديث جابر أن أفضل الذكر لا إله إلا الله مع الحديث الآخر إنه أفضل ما قلته أنا والنبييون قبلي. وقيل إنه الاسم الأعظم وهي كلمة التوحيد والإخلاص كذا ذكره الحافظ والنووي (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد (ج2ص302) ومالك في أواخر الصلاة والترمذي وابن ماجه وأبوعوانة ونسبه في التنقيح للنسائي وابن حبان أيضا.
2319- (4) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه)). متفق عليه.
2320- (5) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلمتان

(15/341)


2319- قوله: (من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة) قال القاري: أي فيهما بأن يأتي ببعضها في هذا وببعضها في هذا أو في كل واحد منهما وهو الأظهر (لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء) أي القائل (به) وهو قول المائة المذكورة (إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه) قال في اللمعات: لا بد من تمحل في بيان معناه بأن يقال تقديره لم يأت أحد بمساو ولا جاء بأفضل مما جاء إلا أحد، قال مثل ما قال فإنه أتى بمثله أو أحد زاد عليه فإنه أتى بأفضل منه والله أعلم. وقال القاري: وأجيب عن الإعتراض المشهور بأن الاستثناء منقطع أو كلمة أو بمعنى الواو. قال الطيبي: أي يكون ما جاء به أفضل من كل ما جاء به غيره إلا مما جاء به من قال مثله أو زاد عليه. قيل: الاستثناء منقطع والتقدير لم يأت أحد بأفضل مما جاء به لكن رجل قال مثل ما قاله فإنه يأتي بمساواته فلا يستقيم أن يكون متصلا إلا على تأويل نحو قوله:
وبلدة ليس بها أنيس

(15/342)


وقيل بتقدير لم يأت أحد بمثل ما جاء به أو بأفضل مما جاء به الخ والاستثناء متصل كذا في المرقاة. فإن قلت: كيف يجوز الزيادة وقد قالوا إن تحديدات الشرع في الإعداد لا يجوز التجاوز عنها؟ قلنا: لما صرح في الحديث بجواز الزيادة علم أنه ليس من ذلك القبيل كإعداد الركعات ونحوها فعدم جواز الزيادة في الإعداد ليس كليا، أو المراد زاد عليه من أعمال الخير فافهم كذا في اللمعات (متفق عليه) فيه نظر فإن الحديث لم يخرجه البخاري. وقد ذكره المنذري في تلخيص السنن والجزري في الحصن والنابلسي في ذخائر المواريث ولم ينسبه أحد منهم للبخاري. وقال المناوي في الكشف كما في تنقيح الرواة: رواه مسلم والترمذي كلاهما في الدعوات، وصححه الترمذي وأبوداود في الأدب والنسائي في اليوم والليلة ولم يخرجه البخاري – انتهى. قلت: أخرجه الترمذي وكذا ابن السني في اليوم والليلة (ص27) بلفظ الكتاب. وأما أبوداود فأخرجه في الأدب بلفظ: من قال حين يصبح سبحان الله العظيم وبحمده مائة مرة وإذا أمسى كذلك، لم يواف أحد من الخلائق بمثل ما وافى. قال المنذري: وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي بنحوه أتم منه ونسب الجزري لفظ التسبيح المذكور في أبي داود للحاكم وابن حبان وأبي عوانة أيضا والله أعلم.
2320- قوله: (كلمتان) أي كلامان يعني جملتان مفيدتان، والكلمة تطلق على الكلام كما يقال كلمة
خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان،

(15/343)


الإخلاص وكلمة الشهادة، وقال السندي: المراد بالكلمة اللغوية أو العرفية لا النحوية – انتهى. وهو خبر مقدم وما بعده صفة بعد صفة، والمبتدأ سبحان الله إلى آخره، والنكتة في تقديم الخبر تشويق السامع إلى المبتدأ، فإن من جملة الأسباب المقتضية لتقديم المسند تشويق السامع إلى المسند إليه كما نص عليه أهل المعاني فكلما طال الكلام في وصف الخبر حسن تقديمه، لأن كثرة الأوصاف الجميلة تزيد السامع شوقا إلى المسند إليه فيكون أوقع في النفس وأدخل في القبول لأن الحاصل بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب، ولا يخفي أن هذا متحقق في هذا الحديث بل هو أحسن من المثال الذي أوردوه بكثير وهو قول الشاعر:
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها شمس الضحى وأبوإسحاق والقمر

(15/344)


قال السندي: الظاهر إن قوله "كلمتان" خبر لقوله "سبحان الله" الخ قدم على المبتدأ لتشويق السامع إليه، وذلك لأن كلمتان نكرة وسبحان الله الخ معرفة، لأنه أريد به نفسه، واللفظ إذا أريد به نفسه يكون معرفة حقيقة عند من قال بوضع الألفاظ لأنفسها وحكما عند من ينفيه، والمعرفة لا تكون خبر النكرة عند غالب النحاة – انتهى. وبعضهم جعل "كلمتان" مبتدأ و"سبحان الله" الخ الخبر، لأن سبحان لازم الإضافة إلى مفرد فجرى مجرى الظروف والظروف لا تقع إلا خبرا ورجحه الكمال بن الهمام قال، لأنه مؤخر لفظا والأصل عدم مخالفة وضع الشيء محله بلا موجب، ولأن سبحان الله الخ محط الفائدة بنفسه بخلاف كلمتان فإنه إنما يكون محطا للفائدة بواسطة وصفه بالخفة على اللسان والثقل في الميزان والمحبة للرحمن. ألا ترى أن جعل كلمتان الخبر غير بين لأنه ليس متعلق الغرض الإخبار منه - صلى الله عليه وسلم - عن سبحان الله إلى آخره إنهما كلمتان بل بملاحظة وصف الخبر بما تقدم، أعني خفيفتان ثقيلتان حبيبتان فكان اعتبار سبحان الله إلى آخره خبرا أولى – انتهى. وللنظر في بعضه مجال فتأمل (خفيفتان على اللسان) أي تجريان عليه بالسهولة للين حروفهما فالنطق بهما سريع وذلك لأنه ليس فيهما من حروف الشدة المعروفة عند أهل العربية وهي الهمزة والباء الموحدة والتاء المثناة الفوقية والجيم والدال والطاء المهملتان والقاف والكاف ولا من حروف الاستعلاء أيضا وهي الخاء المعجمة والصاد والضاد والطاء والظاء والغين المعجمة والقاف سوى حرفين الباء الموحدة والظاء المعجمة، ومما يستثقل أيضا من الحروف الثاء المثلثة والشين المعجمة وليستا فيهما، ثم إن الأفعال أثقل من الأسماء وليس فيهما فعل، وفي الأسماء أيضا ما يستثقل كالذي لا ينصرف وليس فيهما شيء من ذلك، وقد اجتمعت فيهما حروف اللين الثلاثة الألف والواو والياء وبالجملة الحروف السهلة الخفيفة أكثر من العكس (ثقيلتان في الميزان)

(15/345)


حقيقة. قال الحافظ: وصفهما بالخفة والثقل لبيان قلة العمل وكثرة الثواب، قال السندي: خفتهما سهولتهما على اللسان لقلة حروفهما وحسن نظمهما واشتمالهما على الاسم الجليل الذي يذعن الطباع في ذكره كأنهما في ذلك كالحمل الخفيف الذي يسهل حمله وثقلهما
حبيبتان إلى الرحمن،
في الميزان لعظم لفظهما قدرا عند الله. وقال الطيبي: الخفة مستعارة للسهولة شبه سهولة جريان هذا الكلام على اللسان بما يخف على الحامل من بعض المحمولات، ولا يشق عليه فحذف ذكر المشبه به وأبقى شيئا من لوازمه وهو الخفة. وأما الثقل فعلى حقيقته عند أهل السنة لأن الأعمال تتجسم عند الميزان، والميزان هو الذي يوزن به في القيامة أعمال العباد وفي كيفيته أقوال، والأصح إنه جسم محسوس ذو لسان وكفتين والله تعالى يجعل الأعمال كالأعيان موزونة. وقيل توزن صحائف الأعمال، وأما الأعمال فإنها أعراض والأعراض يستحيل وزنها إذ لا تقوم بأنفسها فلا توصف بثقل ولا خفة ويقويه حديث البطاقة الذي أخرجه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه. وفيه فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة – انتهى. وقيل: تجعل الأعمال في أجسام فتصير أعمال الطائعين في صورة حسنة وأعمال المسيئين في صورة قبيحة، ثم توزن. قال الحافظ: والصحيح إن الأعمال هي التي توزن، وقد أخرج أبوداود والترمذي وصححه ابن حبان عن أبي الدرداء مرفوعا ما يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من خلق حسن. قلت القول باستحالة وزن الأعمال معللا بأنها لا تقوم بأنفسها بل تفنى سخيف جدا بل هو باطل قد أبطله أصحاب العلوم الطبيعية اليوم، وحققوا أن الأقوال لا تفنى بل تكون باقية في الخلاء يمكن اختطافها وهم بصدد اختراع آلات ميكانية يسهل بها القبض عليها. وفي الحديث إشارة إلى أن سائر التكاليف صعبة شاقة على النفوس ثقيلة وهذه خفيفة سهلة عليها مع أنها تثقل في الميزان فلا ينبغي التفريط فيه. وقد روي في الآثار أن عيسى عليه السلام سأل ما بال الحسنة

(15/346)


تثقل والسيئة تخف، فقال لأن الحسنة حضرت مرارتها وغابت حلاوتها فثقلت فلا يحملنك ثقلها على تركها، والسيئة حضرت حلاوتها وغابت سرارتها فلذلك خفت عليكم فلا يحملنك على فعلها خفتها فإن بذلك تخف الموازين يوم القيامة (حبيبتان إلى الرحمن) كذا وقع بتقديم خفيفتان وتأخير حبيبتان عند البخاري في الدعوات وفي الإيمان والنذور، وكذا عند أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان. ووقع في التوحيد عند البخاري بتقديم حبيبتان وتأخير ثقيلتان، وهي تثنية حبيبة بمعنى محبوبة، لأن فيهما المدح بالصفات السلبية التي يدل عليها التنزيه وبالصفات الثبوتية التي يدل عليها الحمد، وقال السندي: معنى "حبيبتان إلى الرحمن" إنهما موصوفتان بكثرة المحبوبية عنده تعالى تفيده الأحاديث الأخر مثل أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وإلا جميع الذكر محبوب عنده تعالى. وقيل: المراد محبوبية قائلهما ومحبة الله للعبد إرادة إيصال الخير له والتكريم وخص الرحمن من الأسماء الحسنى، لأن المقصود من الحديث بيان سعة رحمة الله تعالى على عباده حيث يجازي على العمل القليل بالثواب الجزيل ويجوز أن يقال اختصاص ذلك لإقامة السحج أعنى الفواصل وهي من محسنات الكلام على ما عرف في علم البديع، وإنما نهي عن السجع ما كان متكلفا أو متضمنا لباطل كسجع الكهان لا ما جاء عن غير قصد أو تضمن حقا. قال الكرماني: فإن قيل فعيل بمعنى مفعول
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)). متفق عليه.
2321- (6) وعن سعد بن أبي وقاص، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ((أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟ فسأله سائل من جلسائه كيف يكسب أحدنا ألف حسنة. قال: يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة)).

(15/347)


يستوي فيه المذكر والمؤنث، ولا سيما إذا كان موصوفه معه نحو رجل قتيل وامرأة قتيل، فلم عدل عن التذكير إلى التأنيث، فالجواب عن ذلك جائز لا واجب وأيضا فهو أي وجوب ذلك في المفرد لا المثنى أو أنثهما لمناسبة الخفيفة والثقليلة لأنهما بمعنى الفاعلة لا المفعولة. وقيل هذه التاء لنقل اللفظ عن الوصفية إلى الاسمية (سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) هكذا وقع عند البخاري في الإيمان والنذور وفي التوحيد بتقديم سبحان الله وبحمده على سبحان الله العظيم، وكذا وقع عند أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه، ووقع عند البخاري في الدعوات بتقديم سبحان الله العظيم على سبحان الله وبحمده، وكذلك وقع عند الترمذي. قال السندي: "الواو" في وبحمده للحال بتقدير وأنا متلبس بحمده. وقيل للعطف أي أنزهه وأتلبس بحمده. وقيل زائدة أي أسبحه متلبسا بحمده. وفي الحديث الاعتناء بشأن التسبيح أكثر من التحميد لكثرة المخالفين فيه، وذلك من جهة تكريره بقوله سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم. وقد جاءت السنة به عل أنواع شتى كما في صحيح مسلم وغيره من كتب السنن والمسانيد والجوامع والمعاجم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الدعوات وفي الإيمان والنذور وفي التوحيد في باب قول الله ?ونضع الموازين القسط? [الأنبياء:47] وهو آخر حديث في صحيح البخاري وأخرجه مسلم في الدعوات ورواه أيضا أحمد (ج2ص232) والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان وابن أبي شيبة.

(15/348)


2321- قوله: (أيعجز) بكسر الجيم (أن يكسب) أي يحصل (فيكتب) كذا بالتذكير في جميع النسخ، وهكذا وقع في المصابيح وفي جامع الأصول والحصن وتحفة الذاكرين، ووقع في صحيح مسلم فتكتب بالتأنيث وكذا نقله المنذري في الترغيب (له ألف حسنة) لأن الحسنة الواحدة بعشر أمثالها وهو أقل المضاعفة الموعودة في القرآن بقوله ?من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها والله يضاعف لمن يشاء? [الأنعام: 16] (أو يحط) أي يوضع (عنه ألف خطيئة) لقوله تعالى: ?إن الحسنات يذهبن السيئات? [هود: 114] وفيه إشعار بأن الحسنات المتضاعفة تمحو السيئات. قال النووي: هكذا هو في عامة نسخ صحيح مسلم أو يحط "بأو" وفي بعضها "ويحط" بالواو. قلت: وكذا وقع بالواو بغير ألف عند أحمد (ج1ص174) والترمذي والنسائي وابن حبان فعلى الرواية الأولى
رواه مسلم. وفي كتابه في جميع الروايات عن موسى الجهني أو يحط: قال أبوبكر البرقاني: ورواه شعبة

(15/349)


يكون أجر القائل بذلك أن يكتب له ألف حسنة أو تحط عنه ألف سيئة أي يحصل أحد الأمرين. وعلى الرواية الثانية أنه يجمع له بين الأمرين فيكتب له ألف حسنة وتحط عنه ألف خطيئة وسيأتي مزيد الكلام في ذلك (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج1ص174، 180، 185) والترمذي والنسائي وابن حبان ونسبه في تنقيح الرواة لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبي نعيم أيضا (وفي كتابه) أي في كتاب مسلم (في جميع الروايات عن موسى الجهني أو يحط) أي بالألف وموسى هذا هو موسى بن عبد الله، ويقال ابن عبدالرحمن الجهني أبوسلمة، ويقال أبوعبدالله الكوفي روى عن زيد بن وهب ومصعب بن سعد ومجاهد ونافع مولى ابن عمر وغيرهم، وعنه شعبة والثوري وعبدالله بن نمير والقطان ويعلى بن عبيد وآخرون. قال الحافظ: ثقة عابد. قلت: وثقة القطان وأحمد وابن معين والنسائي والعجلي وابن سعد وغيرهم، وعن يعلى بن عبيد قال كان بالكوفة أربعة من رؤساء الناس ونبلائهم وذكره منهم، وعن مسعر قال ما رأيت موسى الجهني إلا وهو في اليوم الآتي خير منه في اليوم الماضي مات سنة أربع وأربعين ومائة (قال أبوبكر البرقاني) بكسر الباء الموحدة وفتحها وبالقاف والنون هو الإمام الحافظ شيخ الفقهاء والمحدثين أبوبكر أحمد بن محمد بن أحمد ابن غالب الخوارزمي البرقاني الشافعي شيخ بغداد، سمع من أبي العباس بن حمدان وغيره ببلده خوارزم، ومن أبي بكر الإسماعيلي بحرجان، ومن أبي عمرو بن حمدان بنيسابور، ومن أبي بكر بن أبي الحديد بدمشق. ومن عبد الغني الأسدي وابن النحاس بمصر، ومن أبي على الصواف وأبي بكر بن الهيثم وطبقتهم ببغداد. وحدث عنه أبوبكر البيهقي والخطيب وأبوإسحاق الشيرازي الفقيه وأبوعبد الله الصوري وآخرون، وصنف التصانيف وخرج على الصحيحين. قال الخطيب البغدادي: كان ثقة ورعا ثبتا لم نرى في شيوخنا أثبت منه عارفا بالفقه، له حظ من علم العربية كثير صنف مسندا ضمنه ما اشتمل عليه صحيح البخاري ومسلم، قال

(15/350)


ولم يقطع التصنيف حتى مات. وسمعت محمد بن يحيى الكرماني يقول: ما رأيت في أصحاب الحديث أكثر عبادة من البرقاني، ولد سنة ثلاث وثلاثين. وقيل: سنة ست وثلاثين وثلامائة ومات ببغداد في أول رجب سنة خمس وعشرين وأربع مائة كذا في تذكرة الحفاظ (ورواه شعبة) هو شعبة بن حجاج بن الورد العتكي الأزدي مولاهم أبوبسطام الواسطي ثم البصري ثقة حافظ متقن، كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث وهو أول من فتش بالعراق عن الرجال وذب عن السنة وكان عابدا مات سنة ستين ومائة، كذا في التقريب وقد بسط في ترجمته في تهذيب التهذيب (ج4ص338- 346) وفي التذكير (ج1ص174- 177) وفي الجرح والتعديل (ج2ق1ص369
وأبوعوانة ويحيى بن سعيد القطان عن موسى، فقالوا: ويحط بغير ألف هكذا في كتاب الحميدي.
2322- (7) وعن أبي ذر، قال سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الكلام أفضل. ((قال ما اصطفى الله

(15/351)


370) (وأبوعوانة) هو الوضاح بتشديد المعجمة ثم حاء مهملة ابن عبدالله اليشكري بالمعجمة الواسطي البزار مولى يزيد بن عطاء أبوعوانة الحافظ مشهور بكنيته ثقة ثبت قاله في التقريب. وقال ابن عبدالبر: اجمعوا على أنه ثقة ثبت حجة فيما حدث من كتابه، وقال إذا حدث من حفظه ربما غلط، مات في ربيع الأول سنة خمس أو ست وسبعين ومائة بالبصرة، وارجع للبسط في ترجمته إلى تهذيب التهذيب (ج11ص116- 119) والتذكرة (ج1ص213- 215) والجرح والتعديل (ج4ق2ص40- 41) (ويحيى بن سعيد القطان) تقدم ترجمته في جزء الأول (ص94) من هذا الشرح (عن موسى) أي المذكور الذي رواه مسلم من جهته (فقالوا) بصيغة الجمع والضمير لشعبة وصاحبيه (ويحط بغير ألف) أي بالواو. وقال الشوكاني بعد ذكر كلام البرقاني: هذا ورواية هؤلاء الثلاثة الحفاظ حجة على رواية غيرهم. قلت: رواية شعبة عند أحمد (ج1ص174) وأما رواية أبي عوانة فلم أقف عليها ولعلها عند النسائي أو ابن حبان. وأما رواية يحيى القطان فهي عند الترمذي بالواو وعند أحمد (ج1ص180) بأو أي بالألف ووافقه على ذلك عبد الله بن نمير عند مسلم، وأحمد (ج1ص185) ويعلى بن عبيد عند أحمد (ج1ص185) قال عبدالله بن أحمد بعد رواية يحيى: بأو أي بالألف قال أبي. وقال ابن نمير أيضا: أو يحط ويعلى أيضا أو يحط، وعلم من هذا أنه اتفق شعبة وأبوعوانة على الرواية بالواو وابن نمير، ويعلى على الرواية بالألف. واختلفت رواية يحيى فروى عنه محمد بن بشار عند الترمذي بالواو، والإمام أحمد بالألف، ولم يظهر لي وجه ترجيح أحديهما على الأخرى، ولعل الجمع بينهما أولى من الترجيح. قال القاري في المرقاة: قد تأتي الواو بمعنى أو فلا منافاة بين الروايتين وكأن المعنى إن من قالها يكتب له ألف حسنة إن لم يكن عليه خطيئة وإن كانت فيحط بعض ويكتب بعض، ويمكن أن تكون أو بمعنى الواو أو بمعنى بل فحينئذ يجمع له بينهما وفضل الله أوسع من ذلك – انتهى. وقال في شرح

(15/352)


الحصن: أو هنا للتنويع في اختلاف الحالة فالكتابة للمتقي والحط للمخطي أو بمعنى الوار الموضوعة للجمع كما يدل قوله ويحط (هكذا) المشار إليه قوله وفي كتابه إلى آخره (في كتاب الحميدي) وهو الجمع بين الصحيحين يعني الجامع بين البخاري ومسلم جمعا وأفرادا: وقد ذكر كلام الحميدي هذا النووي في شرح مسلم وفي الأذكار، والمنذري في الترغيب، والشوكاني في تحفة الذاكرين وتقدم ترجمة الحميدي ووصف كتابه في الجزء الأول (ص16- 17).
2322- قوله: (سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الكلام) أي من جملة الأذكار (أفضل قال ما اصطفى الله)
لملائكته، سبحان الله وبحمده)). رواه مسلم.
2323- (8) وعن جويرية،

(15/353)


كذا في جميع النسخ من المشكاة وهكذا في المصابيح، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول والمنذري في الترغيب. ووقع في بعض نسخ صحيح مسلم ما اصطفاه الله وكذا نقله الحافظ في الفتح وهكذا وقع عند أحمد (ج5ص148) (لملائكته) أي الذي اختاره من الذكر لملائكته وأمرهم بالمداومة عليه ومواظبته لغاية فضله فليس في هذا الحديث ما يدل على حصره فاندفع ما قيل أنه يعلم منه أن الملائكة يتكلمون بهذه الكلمة لا غير، وقد ثبت منهم كلمات أخر من الأذكار والتسبيحات والدعوات وليس هذا محل بسطها (سبحان الله وبحمده) قال الطيبي: فيه تلميح إلى قوله تعالى حكاية عن الملائكة ?ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك? [البقرة: 30] ويمكن أن يكون سبحان الله وبحمده مختصرا من الكلمات الأربع سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر لما سبق أن سبحان الله تنزيه لذاته عما لا يليق بجلاله وتقديس لصفاته من النقائص فيندرج فيه معنى لا إله إلا الله وقوله: "بحمده" صريح في معنى الحمد لله، لأن الإضافة فيه بمعنى اللام في الحمد. ويستلزم ذلك معنى الله أكبر لأنه إذا كان كل الفضل والأفضال لله ومن الله وليس من غيره شيء من ذلك فلا يكون أحد أكبر منه. فإن قلت يلزم من هذا أن يكون التسبيح أفضل من التهليل؟ قلت: لا يلزم ذلك إذ التهليل صريح في التوحيد والتسبيح متضمن له، ولأن نفي الإلهية في قول لا إله نفي لمضمنها من الخالقية والرازقية والإثابة والمعاقبة وقوله "إلا الله" إثبات لذلك ويلزم منه نفي ما يضاد الإلهية ويخالفها من النقائص، ومنطوق سبحان الله تنزيه ومفهومه توحيد، يعني فيكون لا إله إلا الله أفضل لأن التوحيد أصل والتنزيه ينشأ عنه. قال فإذا اجتمعنا دخلا في أسلوب الطرد والعكس – انتهى كلام الطيبي وتقدم شيء من الكلام في ذلك في شرح حديث سمرة بن جندب (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص148) ونسبه في الحصن لأبي عوانة أيضا، وفي رواية لمسلم قال أبوذر قال رسول الله

(15/354)


صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله؟ قلت: يا رسول الله! أخبرني بأحب الكلام إلى الله. فقال أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده. وأخرجها أيضا أحمد (ج5ص161) والنسائي وابن أبي شيبة كما في الحصن وأخرجها الترمذي والحاكم (ج1ص501) وابن حبان وأبوعوانة أيضا إلا أنهم قالوا سبحان ربي وبحمده.
2323- قوله: (وعن جويرية) تصغير جارية وهي جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية من بني المصطلق أم المؤمنين، كان اسمها برة فغيرها النبي صلى الله عليه وسلم إلى جويرية فصارت علما لها، فلهذا لا ينصرف. سباها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم المريسيع وهي غزوة بني المصطلق في سنة خمس أو ست، وكانت تحت
((أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندنا بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة. قال: ما زلت على الحال التي فارقتك عليها. قالت: نعم! قال لنبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت

(15/355)


مسافع بن صفوان المصطلقي، وقد قتل في هذه الغزوة وكانت قد وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس أو ابن عم له فكاتبته على نفسها فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه على كتابتها، فقالت: يا رسول الله! أنا جويرية بنت الحارث سيد قومه وقد أصابني من الأمر ما لم يخف عليك فوقعت في السهم لثابت بن قيس أو لابن عم له فكاتبته على نفسي وجئتك أستعينك، فقال لها: هل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله! قال أقضى كتابتك وأتزوجك قالت نعم! قال قد فعلت فبلغ الناس أنه قد تزوجها فقالوا إصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسلوا ما كان في أيديهم من بني المصطلق فلقد أعتق الله بها مائة أهل بيت من بني المصطلق. قالت عائشة: فما أعلم امرأة أعظم بركة منها على قومها. وأخرج ابن سعد في الطبقات عن أبي قلابة أن النبي صلى الله عليه وسلم سبى جويرية فجاء أبوها فقال إن ابنتي لا تسبى مثلها فخل سبيلها، فقال أرأيت إن خيرتها أليس قد أحسنت قال بلى! فأتاها أبوها فذكر لها ذلك فقالت قد اخترت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ: هذا مرسل صحيح الإسناد وماتت سنة خمسين على الصحيح. قال الخزرجي: لها أحاديث انفرد البخاري بحديثين ومسلم بمثلهما (بكرة) بضم الموحدة أي أول النهار (حين صلى الصبح) أي أراد صلاة الصبح يعني أراد أن يصلي فرض الصبح (وهي) أي جويرية (في مسجدها) بفتح الجيم ويكسر أي موضع صلاتها والجملة حالية (ثم رجع) إليها (بعد أن أضحى) أي دخل في الضحوة وهي ارتفاع النهار (وهي جالسة) أي في موضعها ففي رواية أبي داود فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي في مصلاها ورجع وهي في مصلاها. وفي رواية أحمد والترمذي والنسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر عليها بكرة وهي في المسجد تدعو، ثم مر بها قريبا من نصف النهار. ولابن ماجه مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى الغداة أو بعد ما صلى الغداة وهي تذكر الله فرجع

(15/356)


حين ارتفع النهار، أو قال انتصف وهي كذلك، وفي الأدب المفرد ثم رجع إليها بعد ما تعالى النهار وهي في مجلسها (ما زلت) بكسر التاء خطاب لجويرية على تقدير الاستفهام أي ثبت في مكانك وما زالت (على الحال) هو مما يجوز تذكيره وتأنيثه ولذا قال (التي فارقتك عليها) أي من الجلوس على ذكر الله تعالى. وفي رواية أبي داود لم تزالي في مصلاك هذا وفي الأدب المفرد ما زالت في مجلسك (لقد قلت بعدك) أي بعد أن خرجت من عندك أو بعد ما فارقتك (أربع كلمات) نصبة على المصدر أي تكلمت بعد مفارقتك أربع كلمات (لو وزنت) بصيغة المجهول أي قوبلت (بما قلت) أي بجميع ما قلت من الذكر
منذ اليوم لوزنتهن، سبحان الله وبحمده، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته)).

(15/357)


من أول النهار إلى هذا الوقت (منذ) بضم الميم وقد تكسر (اليوم) بالجر على ما هو المختار "ومنذ" على هذا حرف جر بمعنى "من" أو في أي من ابتداء النهار أو في الوقت المذكور، ويجوز رفع اليوم وتفصيله في المغنى لابن هشام (ج2ص21- 22) وفي القاموس (لوزنتهن) بفتح الزاء والنون أي ساوتهن في الوزن.يقال هذا يزن درهما أي يساويه أو غلبتهن في الوزن، يقال وازنه فوزن إذا غلب عليه وزاد في الوزن، وقال القاضي أي لرجحت تلك الكلمات على جميع أذكارك وزادت عليهن في الأجر والثواب والضمير راجع إلى ما باعتبار المعنى (عدد خلقه) هو وما عطف عليه منصوبات بنزع الخافض ويقدر المقدار في الثلاثة الأخيرة أي بعدد جميع مخلوقاته وبمقدار رضا ذاته الشريفة أي بمقدار يكون سببا لرضاه تعالى أو بمقدار يرضي به لذاته، ويختاره فهو مثل ما جاء وبملأ ما شئت من شيء بعد، وفيه إطلاق النفس عليه تعالى من غير مشاكلة، وبمقدار ثقل عرشه، وبمقدار زيادة كلماته أي بمقدار يساويهما يساوي العرش وزنا والكلمات عددا. وقيل: نصب الكل على الظرفية بتقدير قدر أي قدر عدد مخلوقاته وقدر رضاه الخ. وقيل: نصب هذه الألفاظ على المصدرية أي أعد تسبيحه المقرون بحمده عدد خلقه وأقدر مقدار ما يرضى لنفسه وزنة عرشه ومقدار كلماته (وزنة عرشه) أي قدر وزن عرشه ولا يعلم وزنة إلا الله (ومداد كلماته) بكسر الميم. قيل: معناه مثلها في العدد، وقيل مثلها في عدم النفاد، وقيل مثلها في الكثرة. والمداد مصدر مثل المدد وهو الزيادة والكثرة. وقال في النهاية: أي مثل عددها. وقيل قدر ما يوازيها في الكثرة عيار كيل أو وزن أو عدد أو ما أشبهه من وجوه الحصر والتقدير. وهذا تمثيل يراد به التقريب لأن الكلام لا يدخل في الكيل والوزن، وإنما يدخل في العدد. والمداد مصدر كالمدد يقال مددت الشيء مدا ومدادا وهو ما يكثر به ويزاد انتهى. قال العلماء: واستعماله هنا مجاز لأن كلمات الله تعالى لا تحصر بعد ولا

(15/358)


غيره، والمراد المبالغة به في الكثرة لأنه ذكر أولا ما يحصره العدد الكثير من عدد الخلق، ثم ارتقى إلى ما هو أعظم من ذلك وعبر عنه بهذا أي ما لا يحصيه عد كما لا تحصى كلمات الله تعالى. ذكره النووي وقال في اللمعات: وهذا ادعاء ومبالغة في تكثيرها كأنه تكلم بهذا المقدار فلا يتجه أن يقال إنه ما معنى أسبحه بهذا المقدار سواء كان خبرا أو إنشاء وهو لم يسبح إلا واحد – انتهى. وقال السندي: فإن قلت كيف يصح تقييد التسبيح بالعدد للذكور مع أن التسبيح هو التنزيه عن جميع ما لا يليق بجنابه الأقدس وهو أمر واحد في ذاته لا يقبل التعدد، وباعتبار صدوره عن المتكلم لا يمكن اعتبارا هذا العدد فيه، لأن المتكلم لا يقدر عليه، ولو فرض قدرته عليه أيضا لما صح تعلق هذا العدد بالتسبيح إلا بعد أن صدر منه بهذا العدد أو عزم على ذلك. وأما بمجرد أنه قال مرة سبحان الله لا يحصل منه هذا العدد. قلت: لعل التقييد بملاحظة استحقاق ذاته الأقدس
رواه مسلم.
2324- (9) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل

(15/359)


الأطهر أن يصدر من المتكلم التسبيح بهذا العدد، فالحاصل أن العدد ثابت لقول المتكلم لكن لا بالنظر إلى الوقوع بل بالنظر إلى الاستحقاق أي بالنظر إلى أنه تحقق منه التسبيح بهذا العدد بل باعتبار أنه تعالى حقيق بأن يقول المتكلم التسبيح في حقه بهذا العدد والله تعالى أعلم. وفي الحديث دليل على فضل هذه الكلمات، وإن من قال سبحان الله عدد كذا وزنة كذا الخ يدرك فضيلة ذلك القدر وفضل الله يمن به على من يشاء من عباده. قال الشوكاني: ولا يتجه أن يقال إن مشقة من قال هكذا أخف من مشقة من كرر لفظ الذكر حتى يبلغ إلى مثل ذلك العدد، فإن هذا باب منحه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعباد الله وأرشدهم ودلهم عليه تخفيفا لهم وتكثيرا لأجورهم من دون تعب ولا نصب فلله الحمد. وقد ورد ما يقوى هذا في كثير من الأحاديث (رواه مسلم) في الدعوات وكذا الترمذي وابن ماجه وأخرجه النسائي في الصلاة (ج6ص325- 430) وابن سعد في الطبقات (ج8ص84- 85) ونسبه الجزري في الحصن لابن أبي شيبة أيضا. واعلم أن الحديث رواه مسلم عن ابن عباس عن جويرية وكذا الترمذي والنسائي وابن ماجه فالحديث عندهم من مسند جويرية. وأما أبوداود فرواه عن ابن عباس قال خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من عند جويرية الخ، وهكذا وقع عند أبي عوانة. وهذا بظاهره يدل على أن الحديث من مسانيد ابن عباس، ورواه أحمد في مسنده على النحوين ذكره أولا في مسند ابن عباس (ج1ص258- 353) ثم ذكره في مسند جويرية (ج6ص325- 430) ورواه البخاري في الأدب المفرد أولا عن ابن عباس عن جويرية، ثم رواه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عند جويرية ولم يسق لفظه، نعم زاد ولم يقل أي سفيان عن جويرية إلا مرة واحدة، والراجح عندنا أن الحديث من مسند جويرية رواه عنها ابن عباس، ووقع في رواية أبي داود ومن وافقه الحذف من ابن عباس أو ممن دونه والله تعالى أعلم.

(15/360)


2324- قوله: (لا إله إلا الله) اختلف في تقديره على أقوال ذكر بعضها الزرقاني في شرح الموطأ (وحده لا شريك له) وحده حال مؤولة بمنفردا لأن الحال لا تكون معرفة ولا شريك له حال ثانية مؤكدة لمعنى الأولى (له الملك) بضم الميم (في يوم مائة مرة) مجتمعة أو متفرقة (كانت) أي هذه الكلمة أو التهليلة، وفي رواية كان بالتذكير أي القول المذكور (له) أي للقائل بها (عدل) بفتح العين بمعنى المثل والنظير. قال
عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه)).

(15/361)


ابن التين: قرأناه بفتح العين. قال الفراء: العدل بالفتح ما عدل الشيء من غير جنسه وبالكسر المثل كذا في الفتح. وقال في المجمع: عدل ذلك مثله فإذا كسر العين فهو زنته أي هو بفتح عين بمعنى مثله بكسر الميم، وبكسر عين بمعنى زنة ذلك أي موازنة قدرا، أو حديث عدل عشر رقاب بالفتح أي مثلها. وفي النهاية العدل بالكسر والفتح بمعنى المثل، وقيل بالفتح ما عادله من جنسه، وبالكسر ما ليس من جنسه، وقيل بالعكس. (عشر) بسكون الشين (رقاب) أي مثل ثواب إعتاق عشر، رقاب جمع رقبة بمعنى العنق في الأصل فجعلت كناية عن جميع ذات الإنسان تسمية للشي ببعضه أي يضاعف ثوابها حتى يصير مثل أصل ثواب الإعتاق المذكور (وكتبت) أي ثبتث (مائة حسنة) بالرفع (ومحيت) أي أزيلت (عنه مائة سيئة) قال الطيبي: جعل في هذا الحديث التهليل ماحيا من السيئات مقدارا معلوما، وفي حديث التسبيح ماحيا لها مقدار زبد البحر فيلزم أن يكون التسبيح أفضل. وقد قال في حديث التهليل لم يأت أحد بأفضل مما جاء به، أجاب القاضي عياض أن التهليل المذكور في هذا الحديث أفضل لأن جزاءه مشتمل على محو السيئات وعلى عتق عشر رقاب وعلى إثبات مائة حسنة والحرز من الشيطان (حرزا) بكسر الحاء المهملة وسكون الراء وبالزاي أي حصنا. وقال المظهر: أي حفظا ومنعا (يومه) بالنصب على الظرفية (ذلك) أي في ذلك اليوم الذي قالها فيه (حتى يمسي) وفي رواية ابن ماجه سائر يومه إلى الليل أي بقية يومه أو كله. قال القاري: ظاهر التقابل إنه إذا قال في الليل كانت له حرزا منه ليلة ذلك حتى يصبح، فيحتمل أن يكون اختصارا من الراوي أو ترك لوضوح المقابلة وتخصيص النهار لأنه أحوج فيه إلى الحفظ – انتهى. قلت قال الحافظ في الفتح: قوله "وكانت له حرزا من الشيطان" في رواية عبدالله سعيد (عند ابن السني ص26) وحفظ يومه حتى يمسي وزاد من قال مثل ذلك حين يمسي كان له مثل ذلك، ومثل ذلك في طرق أخرى يأتي التنبيه عليها بعد –

(15/362)


انتهى. قال النووي: ظاهر إطلاق الحديث أنه يحصل هذا الأجر المذكور في الحديث لمن قال هذا التهليل مائة مرة في يومه سواء قاله متوالية أو متفرقة في مجالس أو بعضها أول النهار وبعضها آخره لكن الأفضل أن يأتي بها متوالية في أول النهار ليكون حرزا له في جميع نهاره، وكذا في أول الليل ليكون حرزا له في جميع ليلة. (ولم يأت أحد) أي يوم القيامة (بأفضل مما جاء به) أي بأي عمل كان من الحسنات (إلا رجل عمل أكثر منه) استثناء منقطع أي لكن أحد عمل أكثر مما عمل فإنه يزيد عليه أو متصل بتأويل. قال ابن عبد البر: فيه تنبيه على أن المائة غاية في الذكر وأنه قل من يزيد عليه. وقال إلا أحد لئلا يظن أن الزيادة على
متفق عليه.
2325- (10) وعن أبي موسى الأشعري، قال: ((كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس؟ أربعوا على أنفسكم.

(15/363)


ذلك ممنوعة كتكرار العمل في الوضوء، ويحتمل أن يريد أنه لا يأتي أحد من سائر أبواب البر بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل من هذا الباب أكثر مما عمله، ونحوه قول القاضي عياض ذكر المائة دليل على أنها غاية للثواب المذكور، وقوله إلا أحد يحتمل أن يريد الزيادة على هذا العدد فيكون لقائله من الفضل بحسابه لئلا يظن أنه من الحدود التي نهى عن اعتدائها وأنه لا فضل في الزيادة عليها كما في ركعات السنن المحدودة وإعداد الطهارة، ويحتمل أن تراد الزيادة من غير هذا الجنس من الذكر وغيره أي إلا أن يزيد أحد عملا آخر من الأعمال الصالحة – انتهى. وقال النووي: فيه دليل أنه لو قال هذا التهليل أكثر من مائة مرة في اليوم كان له هذا الأجر المذكور في الحديث على المائة ويكون له ثواب آخر على الزيادة وليس هذا من الحدود التي نهى عن إعدائها ومجاوزة إعدادها وإن زيادتها لا فضل فيها أو تبطلها كالزيادة في عدد الطهارة وعدد ركعات الصلاة، ويحتمل أن يكون المراد الزيادة من أعمال الخير لا من نفس التهليل، ويحتمل أن يكون المراد مطلق الزيادة سواء كانت من التهليل أو من غيره أو منه ومن غيره وهذا الاحتمال أظهر والله أعلم – انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في صفة إبليس من بدأ الخلق وفي الدعوات، ومسلم فيه وأخرجه أيضا أحمد (ج2ص202) ومالك في أواخر الصلاة والترمذي والنسائي وابن ماجه في الدعوات وأبوعوانة وابن أبي شيبة.

(15/364)


2325- قوله: (كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر) وفي رواية في غزاة، وهذه الغزوة غزوة خيبر كما وقع التصريح بذلك في رواية البخاري في باب غزوة خيبر من كتاب المغازي (فجعل الناس يجهرون بالتكبير) أي يبالغون في الجهر ورفع الصوت بالتكبير كلما صعدوا ثنية وعلوا شرفا، والمراد بالتكبير قول لا إله إلا الله والله أكبر، ففي رواية البخاري التي أشرنا إليها لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله (أربعوا) بهمزة وصل مكسورة ثم موحدة مفتوحة (على أنفسكم) أي أرفقوا بها بخفض أصواتكم ولا تجهدوا على أنفسكم يعني لا تبالغوا في الجهر أو أعطفوا على أنفسكم بالرفق بها والكف من الشدة عليها. قال ابن السكيت ربع الرجل يربع إذا رفق وكف. وقال القاري: أي أرفقوا بها وأمسكوا عن الجهر الذي يضركم، وفيه إشارة إلى أنهم بالغوا في الجهر ورفع الصوت
إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، أنكم تدعون سميعا بصيرا، وهو معكم، والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته، قال أبوموسى: وأنا خلفه أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله في نفسي،

(15/365)


فلا يلزم منه المنع من الجهر مطلقا، لأن النهي للتيسير والإرفاق لا لكون الجهر غير مشروع (إنكم) استيناف فيه معنى التعليل (لا تدعون أصم ولا غائبا) قال الكرماني: فإن قلت المناسب ولا أعمى قلت الأعمى غائب عن الإحساس بالمبصر والغائب كالأعمى في عدم رؤيته ذلك المبصر فنفي لازمه ليكون أبلغ وأعم وزاد قريبا (أي في رواية أخرى) إذ رب سامع وباصر لا يسمع ولا يبصر لبعده عن المحسوس فأثبت القرب ليتبين المقتضى وعدم المانع ولم يرد بالقرب قرب المسافة بل القرب بالعلم. وقال الحافظ: ومناسبة الغائب ظاهرة من أجل النهي عن رفع الصوت (إنكم) تأكيد وقيل هو كالتعليل لقوله لا تدعون أصم (سميعا بصيرا) كذا وقع في رواية البخاري في باب الدعاء إذا علا عقبة من كتاب الدعوات وفي كتاب القدر، ووقع عنده في المغازي سميعا قريبا وهكذا عند مسلم، ووقع في التوحيد عند البخاري سميعا بصيرا قريبا. قال في اللمعات: وجه زيادة قوله بصيرا مع أنه لا حاجة إليه لمناسبة قوله سميعا فإنهما مذكوران معا في أكثر المواضع، أو لإرادة أنه لا حاجة لكم إلى الجهر ورفع الصوت فإنه يسمع من غير جهر ورفع صوت ومع ذلك يبصركم ويعلم حالكم من صوركم وهيئاتكم فأفهم. وقال الطيبي: فائدة زيادة قوله بصيرا إن السميع البصير أشد إدراكا وأكمل إحساسا من السميع الأعمى. وقال ابن حجر: سميعا مقابل لقوله أصم وبصيرا أتى به لأنه ملازم للسميع في الذكر لما بينهما من التناسب في الإدراك (وهو معكم) أي بالعلم والقدرة والإحاطة عموما والفضل والرحمة خصوصا. قال القاري: أي حاضر بالعلم والإطلاع على حالكم أين ما كنتم سواء أعلنتم أو أخفيتم وهو بظاهره مقابل لقوله "ولا غائبا" ثم زاد في تحقيق هذه المعية المعنوية الدالة على غاية الشرف والعظمة بقوله (والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) هذه الجملة انفرد بها مسلم لم يذكرها البخاري وهذا تمثيل وتقريب إلى الفهم وإلا فهو

(15/366)


أقرب من حبل الوريد. قال النووي: قوله "هو معكم" أي بالعلم والإحاطة وقوله "والذي تدعونه أقرب" الخ هو بمعنى ما سبق وحاصله إنه مجاز كقوله تعالى: ?ونحن أقرب إليه من حبل الوريد? [ق: 16] أي نحن أقرب إليه بالعلم من حبل وريده، لا يخفى علينا شيء من خفياته فكأن ذاته قريبة منه، وحاصله إنه تجوز بقرب الذات عن قرب العلم. ونقل الذهبي في كتاب العلو عن الإمام أبي الحسن الأشعري أنه قال إن الله يقرب من خلقه كيف شاء كما قال: ?ونحن أقرب إليه من حبل الوريد? (في نفسي) متعلق بأقول أي بلساني سرا من غير ارتفاع صوتي وقوله "في نفسي" تفرد به البخاري وهو عنده في الدعوات وفي التوحيد، ووقع عنده في المغازي وأنا خلف دابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فقال: يا عبدالله بن قيس! ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ فقلت: بلى يا رسول الله! قال: لا حول ولا قوة إلا بالله)). متفق عليه.
?الفصل الثاني?
2326- (11) عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة)).

(15/367)


فسمعني وأنا أقول لا حول الخ (يا عبد الله) هو اسم أبي موسى (ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة) معنى كونه كنزا أنه يعد لقائله ويدخر له من الثواب ما يقع له في الجنة موقع الكنز في الدنيا، وحاصله أنه من ذخائر الجنة أو من محصلات نفائس الجنة (لا حول ولا قوة إلا بالله) خبر مبتدأ محذوف أي هو، أو كنز الجنة لا حول ولا قوة إلا بالله. قال النووي قال العلماء: سبب ذلك إنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى واعتراف بالإذعان له وإنه لا صانع غيره ولا راد لأمره وإن العبد لا يملك شيئا من الأمر، ومعنى الكنز هنا إنه ثواب مدخر في الجنة وهو ثواب نفيس كما أن الكنز أنفس أموالكم. قال أهل اللغة: الحول الحركة والحيلة أي لا حركة ولا استطاعة ولا حيلة إلا بمشيئة الله تعالى. وقيل معناه لا حول ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله، وقيل لا حول عن معصية الله إلا بعصمته ولا قوة على طاعته إلا بمعونته وحكى هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه (عند البزار مرفوعا) وكله مقارب – انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجهاد والمغازي والدعوات والقدر والتوحيد، ومسلم في الدعوات بألفاظ متقاربة وليس السياق المذكور لواحد منهما بل هو مأخوذ مجموع من مجموع ما فيهما، والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج4ص394، 400، 402، 403، 407، 417، 418- 419) والترمذي في الدعوات وأبوداود في أواخر الصلاة والنسائي في الكبرى، وابن ماجه في الدعوات مختصرا وابن السني (ص165).

(15/368)


2326- قوله: (غرست له) بصيغة المجهول من باب ضرب يقال غرست الشجرة غرسا وغراسة إذا نصبتها وأثبتها في الأرض (نخلة) أي غرس له بكل مرة نخلة، ووقع في رواية النسائي شجرة بدل نخلة لكن تحمل هذه الرواية المطلقة على المقيدة بالنخلة فيكون المغروس هنا في الجنة هو النخلة (في الجنة) أي المعدة لقائلها. فيه إن التمرة من ثمار الجنة كما قال تعالى: ?فيهما فاكهة ونخل ورمان? [الرحمن: 68] وخصت النخلة هنا لكثرة نفعها وطيب طعمها وكثرة ميل العرب إليها. وقد قال العلماء أيضا: إنما خص النخلة لأنها أنفع الأشجار وأطيبها ولذلك ضرب الله تعالى مثل المؤمن وإيمانه بها وثمرتها في قوله تعالى: ?ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة?
رواه الترمذي.
2327- (12) وعن الزبير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من صباح يصبح العباد فيه إلا مناد ينادي: سبحوا الملك القدوس)). رواه الترمذي.
[إبراهيم: 24] وهي كلمة التوحيد ?كشجرة طيبة? [إبراهيم: 24] وهي النخلة (رواه الترمذي) وحسنه وأخرجه أيضا النسائي إلا أنه قال: غرست له شجرة وابن حبان في صحيحه والحاكم في موضعين بإسنادين قال في أحدهما على شرط مسلم وقال في الآخر على شرط البخاري كذا في الترغيب للمنذري. قلت: في النسخة المطبوعة للمستدرك في الموضع الأول (ج1ص502) "هذا حديث صحيح على شرط مسلم" ورمز الذهبي في تلخيصه في آخر الحديث (خ) وفي الموضع الثاني (ج1ص512) ذكره الحاكم شاهد الحديث رواه هو وابن ماجه عن أبي هريرة بلفظ: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر يغرس لك بكل واحدة شجرة. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وله شاهد عن جابر. ثم ذكره وسكت عنه أعني لم يحكم عليه بشي ولم يذكره الذهبي في تلخيصه، والحديث نسبه الجزري في الحصن لابن أبي شيبة أيضا، وفي الباب عن عبدالله بن عمرو أخرجه البزار. قال الهيثمي (ج10ص94) وإسناد جيد.

(15/369)


2327- قوله: (وعن الزبير) أي ابن العوام (ما من صباح يصبح العبد فيه) قال الطيبي: صباح نكرة وقعت في سياق النفي وضمت إليها من الاستغراقية لإفادة الشمول ثم جيء بقوله يصبح صفة مؤكدة لمزيد الإحاطة كقوله تعالى: ?وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها? [هود: 6] ?ولا طائر يطير بجناحيه? [الأنعام: 38] (إلا مناد) من الملائكة وهو مبتدأ والواو مقدرة (سبحوا) بصيغة الأمر من التسبيح أي نزهوا (الملك القدوس) أي عما هو منزه عنه، والمعنى اعتقدوا أنه منزه عنه وليس المراد نشاء تنزيه لأنه منزه أزلا وأبدا أو أذكروه بالتسبيح لقوله تعالى: ?وإن من شيء إلا يسبح بحمده? [الإسراء: 44] ولذا قال الطيبي: أي قولوا سبحان الملك القدوس أو قولوا سبوح قدوس رب الملائكة والروح، أي نحوهما من قول سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وقوله "سبحوا الملك القدوس" كذا وقع في أكثر نسخ الترمذي ووقع في بعضها سبحان الملك القدوس، وهكذا نقله النووي في الأذكار والجزري في جامع الأصول والسيوطي في الجامع الصغير، ونقله على المتقي في الكنز على النحوين بأن جعلهما روايتين للترمذي، والقصد من مناداة الملك بسبحان الملك القدوس على ما وقع في بعض نسخ الترمذي حث الناس على قول ذلك، كما صرح بذلك في رواية أبي يعلى وابن السني، وهي تؤيد ما في أكثر نسخ الترمذي من قوله سبحوا الملك القدوس (رواه الترمذي) من طريق موسى بن عبيدة الربذي عن محمد بن ثابت عن
2328- (13) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله،

(15/370)


أبي حكيم مولى الزبير عن الزبير. قال الترمذي: هذا حديث غريب –انتهى. قلت: وإسناده ضعيف لضعف موسى ابن عبيدة ولجهالة محمد بن ثابت وأبي حكيم، وأخرجه أبويعلى وابن السني (ص22) بلفظ: ما من صباح يصبح العباد إلا وصارخ يصرخ أيها الخلائق سبحوا الملك القدوس. قال الهيثمي (ج10ص94) وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف جدا. قلت: وفيه أيضا محمد بن ثابت وأبوحكيم المذكوران في سند الترمذي وقد تقدم أنهما مجهولان.
2328- قوله: (أفضل الذكر لا إله إلا الله) لأنها كلمة التوحيد والتوحيد لا يماثله شي، وهي الفارقة بين الكفر والإيمان، وباب الإسلام الذي لا يدخل إليه إلا منه، ولأنها أجمع للقلب مع الله وأنفى للغير وأشد تزكية للنفس وتصفية للباطن وتنقية للخاطر من خبث النفس وأطرد للشيطان. قال الطيبي قال بعض المحققين: إنما جعل التهليل أفضل الذكر لأن له تأثيرا في الباطن عن الأوصاف الذميمة التي هي معبودات في باطن الذاكر. قال تعالى ?أرأيت من اتخذ إلهه هواه? [الفرقان: 43] فيفيد نفي عموم الآلهة بقوله لا إله ويثبت الواحد بقوله إلا الله ويعود الذكر من ظاهر لسانه إلى باطن قلبه فيتمكن فيه ويستولى على جوارحه وجد حلاوة هذا من ذاق. وقيل: لأنه لا يصح الإيمان إلا به وليس هذا فيما سواه من الأذكار والحديث يعارضه في الظاهر حديث أبي ذر المتقدم قال سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الكلام أفضل قال ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده، وحديث سمرة بن جندب أفضل الكلام أربع سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وسبق وجه الجمع بينهما في شرح هذين الحديثين. (وأفضل الدعاء الحمد لله) يحتمل أن المراد به سورة الفاتحة بتمامها كأن هذا اللفظ بمنزلة القلب لها. قال الطيبي: يمكن أن يكون قوله الحمد لله من باب التلميح والإشارة إلى قوله تعالى: ?اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم? [الفاتحة: 5، 6] وأي دعاء أفضل وأكمل وأجمع من

(15/371)


ذلك، ويحتمل أن المراد هذه اللفظة، وعلى هذا فقيل إطلاق الدعاء على الحمد من باب المجاز ولعله جعل أفضل الدعاء من حيث أنه سؤال لطيف يدق مسلكه. ومن ذلك قول أمية بن أبي الصلت حين خرج إلى بعض الملوك يطلب نائلته:
إذا أثنى عليك المرأ يوما كفاه من تعرضه الثناء
وقيل: جعل الحمد من أنواع الدعاء باعتبار ما يلزمه فإنه إذا وقع في مقابلة نعمة كان شكرا، وقد قال تعالى: ?لئن شكرتم لأزيدنكم? [إبراهيم: 7] فهو يتضمن الطلب. قال المظهر: إنما جعل الحمد دعاء لأن الدعاء عبارة عن ذكر الله وأن تطلب منه حاجة، والحمد يشملهما، فإن من حمد الله إنما يحمده على نعمته، والحمد على النعمة
رواه الترمذي، وابن ماجه.
2329- (14) وعن عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحمد رأس الشكر، ما شكر الله عبد لا يحمده)).
2330- (15) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله في السراء والضراء)).
طلب مزيد. قال تعالى: ?لئن شكرتم لأزيدنكم? – انتهى. قلت: في قوله إنما يحمده على نعمته نظر ظاهر لمن ينظر فيما ذكروا في تحقيق معنى الحمد لله (رواه الترمذي) وحسنه (وابن ماجه) وأخرجه أيضا النسائي وابن حبان وصححه والحاكم (ج1ص398- 503) وقال حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، ورواه أحمد بلفظ: لا إله إلا الله أفضل الذكر وهي أفضل الحسنات. قال الشوكاني: وهكذا في مسند البزار.

(15/372)


2329- قوله: (الحمد رأس الشكر) لأن الشكر تعظيم المنعم وفعل اللسان أظهر وأدل على ذلك، أما فعل القلب فخفي وفي دلالة أفعال الجوارح قصور كذا في اللمعات. وقال بعض الشراح: الحمد رأس الشكر أي بعض خصاله وأعلاها لأن الحمد باللسان وحده والشكر به وبالقلب والجوارح إذ الشكر صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خلق لأجله، فالحمد إحدى شعب الشكر ورأس الشيء بعضه فهو من هذه الجهة بعض الشكر. وجعل رأسه لأن الرأس أعظم أجزاء البدن والثناء باللسان أعظم أجزاء الشكر فإن ذكر النعمة باللسان والثناء على موليها أشيع لها وأدل على مكانها لخفاء الاعتقاد ولما في أعمال الجوارح من الاحتمال بخلاف عمل اللسان (ما شكر الله عبد لا يحمده) قال القاضي: لما جعل الحمد رأس الشكر وأصله والعمدة فيه حتى انعكس عليه لم يعتمده فيه لغيره من الشعب عند فقده وكان التارك له كالعرض عن الشكر رأسا.
2330- قوله: (أو ل من يدعى إلى الجنة) أي بالدخول (الذين يحمدون الله في السراء والضراء) أي في حالة الرخاء والشدة والأحوال كلها إذا الإنسان لا يخلو عن مسرة أو مضرة والمقابل للسراء الحزن وللضراء النفع وفي إيقاع التقابل بين السراء والضراء مزيد التعميم والإحاطة لشمول نقيضهما كأنه قال في السرور والحزن والنفع والضر، لأن ذكر كل يقتضي ذكره مقابله فيتضمن ذكر الكل مع اختصار وهذا طريق في البيان يسلكه الفصحاء وله نظائر. وقيل: المعنى أي الذين يرضون عن مولاهم بما أجرى عليهم من الحكم غنى كان أو فقرا شدة كان أو رخاء فالمراد الدوام. وقيل: الحمد في السراء ظاهر، وأما في الضراء فالحمد لأجل أنه تعالى لطف به ولم ينزل به أكبر من
رواهما البيهقي في "شعب الإيمان".

(15/373)


2331- (16) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال موسى عليه السلام: يا رب! علمني شيئا أذكرك به، أو أدعوك به. فقال: يا موسى! قل لا إله إلا الله. فقال رب: كل عبادك يقول هذا، إنما أريد شيئا تخصني به، قال: يا موسى! لو أن السماوات السبع
ذلك أو لأجل ما يشاهد في طي الضراء من الثواب وتكفير الذنوب (رواهما البيهقي في شعب الإيمان) حديث عبد الله بن عمرو ذكره السيوطي في الجامع الصغير، ونسبه لعبدالرزاق في جامعه والبيهقي في شعبه. قال العزيزي: رجاله ثقات لكنه منقطع. وقال الحافظ في الفتح: أخرج الطبري من رواية عبد الله بن باباه عن عبد الله بن عمرو ابن العاص، قال: إن الرجل إذا قال لا إله إلا الله فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله عملا حتى يقولها، وإذا قال الحمد لله فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله عبد حتى يقولها. وحديث ابن عباس ذكره المنذري في الترغيب. وقال رواه ابن أبي الدنيا والبزار والطبراني في الثلاثة بأسانيد أحدها حسن والحاكم (ج1ص502) وقال صحيح على شرط مسلم – انتهى. قلت: ووافقه الذهبي وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10ص95) وقال رواه الطبراني في الثلاثة بأسانيد وفي أحدها قيس بن الربيع وثقة شعبة والثوري وغيرهما وضعفه يحيى القطان وغيره وبقية رجاله رجال الصحيح، ورواه البزار بنحوه إسناده حسن – انتهى.

(15/374)


2331- قوله: (علمني شيئا) أي من الأذكار (أذكرك به) بالرفع على أنه صفة لشيئا وليس جوابا للأمر بدليل قوله "أو أدعوك به" وهو مرفوع بإثبات الواو. وقيل: خبر مبتدأ محذوف استئنافا أي أنا أذكرك به. قيل: ويجوز الجزم وعطف أدعوك على منوال قوله تعالى: ?إنه من يتق ويصبر? [يوسف: 90] على قراءة إثبات الياء مع جزم يصبر إتقافا (أو أدعوك به) كذا في جميع النسخ الحاضرة عندنا من المشكاة ويظهر من كلام القاري والشيخ الدهلوي إنه وقع في أكثر نسخها الموجودة عندهما أو بالألف وفي بعضها بالواو بدل أو، وهكذا بالواو وقع في مجمع الزوائد (ج10ص82) والكنز والترغيب والمستدرك (ج1ص528) فأو على ما في أكثر النسخ بمعنى الواو. وقيل: للتنويع (قل لا إله إلا الله) فإنه متضمن لكل ذكر ودعاء سواه مع زيادة دلالة على توحيد ذاته وتفريد صفاته (كل عبادك يقول) أفرد رعاية للفظ كل دون معناه (هذا) أي هذا الكلام أو هذا الذكر (إنما أريد شيئا تخصني) أي أنت (به) أي بذلك الشيء من بين عموم عبادك (قال يا موسى لو أن السماوات السبع إلخ) قال الطيبي: فإن قلت: طلب موسى عليه الصلاة السلام ما به يفوق على غيره من الذكر أو الدعاء فما مطابقة الجواب للسؤال. قلت: كأنه قال طلبت شيئا محالا إذ لا ذكر ولا دعاء أفضل من هذا قال:
وعامرهن غيري والأرضين السبع وضعن في كفة، ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله)). رواه في شرح السنة.
2332- 2333- (17- 18) وعن أبي سعيد وأبي هريرة، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال: لا إله إلا الله والله أكبر،

(15/375)


وحاصل الجواب إن ما طلبت من أمر مختص بك فائق على الأذكار كلها محال لأن هذه الكلمة ترجح على الكائنات كلها من السماوات وسكانها والأرضين وقطانها (وعامرهن) بالنصب عطف على السماوات. قيل: عامر الشيء حافظه ومصلحه ومدبره الذي يمسكه من الخلل ولذا سمي ساكن البلد والمقيم به عامره من عمرت المكان إذا أقمت فيه، والمراد المعنى الأعم الذي هو الأصل ليصح استثناءه تعالى منه بقول (غيري) قاله الطيبي. وقال غيره أي ساكنهن والاستثناء منقطع. وقيل: المراد هنا جنس من يعمرها من الملك وغيره والله تعالى عامرها خلقا وحفظا، وقد دخل فيه من حيث يتوقف عليه صلاحها توقفهن على الساكن ولذا استثنى وقال غيري (والأرضين السبع) أي الطباق ولم يذكر عامر الأرضين لقلته أو اكتفى بذكر عامر السماوات (وضعن) بصيغة المجهول (في كفة) بكسر الكاف وتشديد الفاء يعني كفة الميزان لاستدارتها وكل مستدير كفة بالكسر وكفة الميزان ما يجعل عليه الموزون ويقال لها بالفارسية بلة ترازو (ولا إله إلا الله) أي ثوابها أو بطاقتها وهي ورقة كتابتها ويؤيده حديث البطاقة (في كفة) أي أخرى ( لمالت بهن) أي لرجحت عليهن وغلبتهن وزادت عليهن يقال مال بفلان أي غلبه (لا إله إلا الله) هو من باب وضع الظاهر موضع الضمير. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: يؤخذ منه أن الذكر بلا إله إلا الله أرجح من الذكر بالحمد لله، ولا يعارضه حديث أبي مالك الأشعري رفعه، والحمد لله تملأ الميزان فإن الملء يدل على المساواة والرجحان صريح في الزيادة فيكون أولى، ومعنى ملء الميزان إن ذاكرها يمتلىء ميزانه ثوابا – انتهى. (رواه) أي البغوي (في شرح السنة) أي بإسناده والحديث ذكره المنذري في الترغيب. وقال: رواه النسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم (ج1ص528) كلهم من طريق دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد. وقال الحاكم: صحيح إسناد – انتهى. قلت: ووافقه الذهبي وذكره الحافظ في الفتح وقال: أخرجه النسائي

(15/376)


بسند صحيح ونسبه الهيثمي (ج10ص82) لأبي يعلى وقال: ورجاله وثقوا وفيهم ضعف، وذكره على المتقي في الكنز (ج1ص396) ونسبه لأبي يعلى والحكيم الترمذي وابن حبان والحاكم وأبي نعيم في الحلية والبيهقي في الأسماء.
2332- 2333- قوله: (وعن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) في الترمذي وابن ماجه
صدقه ربه. قال: لا إله إلا أنا وأنا أكبر، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الله: لا إله إلا أنا وحدي، لا شريك لي، وإذا قال: لا إله إلا الله له الملك وله الحمد، قال: لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد، وإذا قال: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال: لا إله إلا أنا لا حول ولا قوة إلا بي، وكان يقول: من قالها في مرضه ثم مات لم تطعمه النار)).

(15/377)


والحاكم أنهما شهدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الخ قال ابن التين: أراد بهذا اللفظ التأكيد للرواية قلت: هو من صنيع أداء الحديث. قال السيوطي في ندريب الراوي (ص135) عقد الرامهرمزي أبوابا في تنويع ألفاظ التحمل والأداء منها الإتيان بلفظ الشهادة كقول أبي سعيد أشهد على رسول الله أنه نهى عن الجر أن ينتبذ فيه، وقول عبدالله ابن طاؤس أشهد على والدي أنه قال أشهد على جابر بن عبدالله أنه قال أشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: أمرت أن أقاتل الناس – الحديث. وقول ابن عباس شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر – الحديث. في الصلاة بعد العصر وبعد الصبح (صدقه) بتشديد الدال (ربه قال) أي قال ربه بيانا لتصديقه أي قرره بأن قال (لا إله إلا أنا وأنا أكبر) وهذا أبلغ من أن يقول صدقت قاله القاري قلت قوله "صدقه ربه" قال هكذا في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة ووقع في الترمذي صدقه ربه، وقال أي بزيادة الواو قبل قال وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج5ص138) وفي الترغيب صدقه ربه فقال أي بالفاء بدل الواو، وفي ابن ماجه إذا قال العبد لا إله إلا الله والله أكبر قال يقول الله عزوجل صدق عبدي لا إله إلا أنا وأنا أكبر (وإذا قال) أي العبد (لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول الله) أي تصديقا لعبده وفي الترمذي ههنا قال الله (لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي) كذا في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة، ووقع في الترمذي قبل ذلك، وإذا قال لا إله إلا الله وحده قال (أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ) يقول الله لا إله إلا أنا وأنا وحدي، وكذا وقع عند ابن ماجه، وهكذا نقله في الترغيب وجامع الأصول، والظاهر إن ما في المشكاة اختصار من المصنف. قال القاري: وحذف صدقه ربه هنا للعلم به مما قبله وعبر هنا بيقول وثمة وفيما يأتي بقال تفننا. قلت: وقع عند ابن ماجه والحاكم كلمة "قال صدق عبدي" ههنا وفيما يأتي بعد،

(15/378)


والظاهر أنه وقع الاختصار من أحد الرواة في رواية الترمذي والله أعلم (قال لا إله إلا أنا لا حول) قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة ولا حول مطابقا لما قبله. قلت: في نسخ الترمذي الموجودة عندنا ولا حول بالواو في الموضعين، وكذا وقع عند ابن ماجه، وهكذا في الترغيب والجامع (وكان يقول) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (من قالها) أي هذه الكلمات من دون الجوابات (ثم مات) أي من ذلك المرض (لم تطعمه النار) أي لم تمسه أو لم تحرقه يعني لم تأكله استعار الطعم للإحراق مبالغة كأن
رواه الترمذي، وابن ماجه.
2334- (19) وعن سعد بن أبي وقاص، ((أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة وبين يديها نوى أو حصى، تسبح به، فقال: ألا أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا أو أفضل؟

(15/379)


الإنسان طعامها تتقوى وتتغذى به، وفي ابن ماجه من رزقهن عند موته لم تمسه النار. قال السندي: "من رزقهن" على بناء المفعول ورجع نائب الفاعل إلى من أي من أعطاه الله تعالى هذه الكلمات عند موته ووفقه لها "لم تمسه النار" بل يدخل الجنة ابتداء مع الأبرار – انتهى. وفي الحديث دليل على أن هذه الكلمات المذكورة في الحديث إذا قالها العبد في مرضه ومات في ذلك المرض على تلك الكلمات، أي كانت خاتمة كلامه الذي يتكلم به عاقلا مختارا لم تمسه النار ولم يضره ما تقدم من المعاصي، وأنها تكفر جميع الذنوب وراجع إلى تحفة الذاكرين (ص231، 235- 236) (رواه الترمذي) وقال حديث حسن (وابن ماجه) وأخرجه أيضا النسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم (ج1ص5) وقال هذا حديث صحيح رواه كلهم من طريق أبي إسحاق عن الأغر أبي مسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة. قال الترمذي: وقد رواه شعبة عن أبي إسحاق عن الأغر عنهما نحوه بمعناه ولم يرفعه شعبة، وكذا قال الذهبي في تلخيص المستدرك أوقفه شعبة وغيره – انتهى. قلت: ولا يضر وقف من وقفه فإن الرفع زيادة والزيادة من الثقة مقبولة، ولو سلم فهو مرفوع حكما لأن الحكم المذكور فيه مما لا مسرح للاجتهاد فيه.

(15/380)


2334- قوله: (على امرأة) أي محرم له أو كان ذلك قبل نزول الحجاب على أنه لا يلزم من الدخول الرؤية (وبين يديها) الواو للحال (نوى) اسم جمع لنواة وهي عظم التمر (أو حصى) اسم جمع لحصاة وهي الأحجار الصغيرة و أو للشك من الراوي (تسبح) أي المرأة (به) أي بما ذكر من النوى أو الحصى وهذا لفظ أبي داود وللترمذي وبين يديها نواة أو قال حصاة تسبح بها، وفيه دليل على جواز عد التسبيح بالنوى والحصى قيل وكذا بالسبحة لعدم الفارق بين المنظومة والمنثورة وهذا لتقريره - صلى الله عليه وسلم - المرأة على ذلك وعدم إنكاره والإرشاد إلى ما هو أفضل لا ينافي الجواز كذا قيل، وعندي فيه نظر لأن الحديث ضعيف، وإن حسنه الترمذي وصححه الحاكم والذهبي ولم يثبت عد التسبيح بالحصى أو النوى مرفوعا من فعله أو قوله أو تقريره - صلى الله عليه وسلم -، والخير إنما هو في اتباع ما ثبت عنه لا في ابتداع من خلف (فقال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (ألا أخبرك بما هو أيسر) أي أخف وأسهل (من هذا) أي من هذا الجمع والتعداد (أو أفضل) قيل أو للشك من سعد أو ممن دونه. وقيل بمعنى الواو. وقيل بمعنى بل. قال القاري: وهو الأظهر. قلت: وقع في بعض نسخ الترمذي وأفضل أي بالواو وهذه النسخة تؤيد
سبحان الله عدد ما خلق في السماء، وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض، وسبحان الله عدد ما بين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك)). رواه الترمذي، وأبوداود، وقال الترمذي: هذا حديث غريب.

(15/381)


أن أو الواقعة في أبي داود وبعض نسخ الترمذي بمعنى الواو. قال الطيبي: وإنما كان أفضل لأنه اعتراف بالقصور وإنه لا يقدر أن يحصى ثناءه وفي العد بالنوى إقدام على أنه قادر على الإحصاء. قال القاري: وفيه أنه لا يلزم من العد هذا الإقدام ثم ذكر وجوها أخرى للأفضلية ولا يخلو واحد منها عن خدشة ولا يخفى ذلك على المتأمل (سبحان الله عدد ما خلق) فيه تغليب لكثرة غير ذوي العقول الملحوظة في المقام (عدد ما بين ذلك) أي ما بين ما ذكر من السماء والأرض من الهواء والطير والسحاب وغيرها (عدد ما هو خالق) أي خالقه أو خالق له فيما بعد ذلك واختاره ابن حجر وهو الأظهر لكن الأدق الأخفى ما قال الطيبي: أي ما هو خالق له من الأزل إلى الأبد، والمراد الاستمرار فهو إجمال بعد التفصيل لأن اسم الفاعل إذا أسند إلى الله تعالى يفيد الاستمرار من بدأ الخلق إلى الأبد كما تقول الله قادر عالم فلا تقصد زمانا دون زمان (والله أكبر مثل ذلك) قال الطيبي: منصوب نصب عدد في القرائن السابقة على المصدر. وقال بعض الشراح: بنصب مثل أي الله أكبر عدد ما هو خالقه أي بعدده فجعل مرجع الإشارة إلى أقرب ما ذكر، والظاهر أن المشار إليه جميع ما ذكر فيكون التقدير الله أكبر عدد ما خلق في السماء والله أكبر عدد ما خلق في الأرض والله أكبر عدد ما خلق بين ذلك والله أكبر عدد ما هو خالق ذكره القاري قال والأظهر إن هذا من اختصار الراوي فنقل آخر الحديث بالمعنى خشية الملالة بالإطالة، ويدل على ما قلنا بعض الآثار أيضا – انتهى. وقال في اللمعات: المثل منصوب نصب عدد في القرائن السابقة وهذا ما عبارة عن العبارة السابقة أي قال الله أكبر عدد ما خلق في السماء الخ أو قال لفظ مثل ذلك بدل عدد ما خلق (رواه الترمذي) في الدعوات (وأبوداود) في أواخر الصلاة وأخرجه أيضا النسائي في اليوم والليلة وابن حبان في صحيحه والحاكم (ج1ص548) كلهم من طريق عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن

(15/382)


خزيمة عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص عن أبيها. وقال الترمذي: حديث حسن وسكت عنه أبوداود، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. قلت: في تحسين الترمذي وتصحيح الحاكم والذهبي نظر، فإن خزيمة هذا مجهول. قال الذهبي: نفسه في الميزان خزيمة لا يعرف تفرد عنه سعيد بن أبي هلال وكذا قال الحافظ في التقريب: أنه لا يعرف وسعيد بن أبي هلال مع ثقته حكى الباجي عن أحمد أنه اختلط فأنى للحديث الصحة أو الحسن (وقال الترمذي هذا حديث غريب) كذا في جميع النسخ
2335- (20) وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سبح الله مائة بالغداة ومائة بالعشي، كان كمن حج مائة حجة، ومن حمد الله مائة بالغداة ومائة بالعشي، كان كمن حمل على مائة فرس في سبيل الله، ومن هلل الله مائة بالغداة ومائة بالعشي، كان كمن أعتق مائة رقبة من ولد إسماعيل، ومن كبر الله مائة بالغداة ومائة بالعشي، لم يأت في ذلك اليوم أحد بأكثر مما أتى به إلا من قال مثل ذلك، أو زاد على ما قال)).
الحاضرة من المشكاة. قال القاري: وفي نسخة حسن غريب قلت وهذه هي الصواب لموافقتها لما وقع في جامع الترمذي ولما نقله المنذري في تلخيص السنن وفي الترغيب.

(15/383)


2335- قوله: (من سبح الله مائة) أي من قال سبحان الله مائة مرة (بالغداة ومائة بالعشي) أي أول النهار وأول الليل أو في الملوين (كان كمن حج مائة حجة) أي نافلة دل الحديث على أن الذكر بشرط الحضور مع الله بسهولته أفضل من العبادات الشاقة بغفلة ويمكن أن يكون الحديث من باب إلحاق الناقص بالكامل مبالغة في الترغيب ويراد التساوي بين التسبيح المضاعف بالحجج الغير المضاعفة والله أعلم. (كان كمن حمل) بالتخفيف أي أركب مائة نفس (على مائة فرس في سبيل الله) أي في نحو الجهاد أما صدقة أو عارية وفي الترمذي بعد هذا أو قال غز مائة غزاة وهو شك من الراوي (ومن هلل الله) أي قال لا إله إلا الله (كان كمن أعتق مائة رقبة) فيه تسلية للذاكرين من الفقراء العاجزين عن العبادات المالية المختصة بها الأغنياء (من ولد إسماعيل) بضم الواو وسكون اللام وبفتحهما يقع على الواحد والثنية والجمع، فإن قلت ما وجه تخصيص كونه من ولد إسماعيل عليه السلام. قلت لأن من كان من ولده له فضل على عتق غيره وذلك أن محمد أو إسماعيل وإبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم بعضهم من بعض، وقال الطيبي: قوله "من ولد إسماعيل" تتميم ومبالغة في معنى العتق لأن فك الرقاب أعظم مطلوب وكونه عن عنصر إسماعيل الذي هو أشرف الخلق نسبا أعظم وأمثل (لم يأت في ذلك اليوم أحد) أي يوم القيامة (بأكثر) أي بثواب أكثر أو المراد بعمل أفضل وإنما عبر بأكثر لأنه معنى أفضل (مما أتى به) أي جاء به أو بمثله. قيل: ظاهره إن هذا أفضل من جميع ما قبله والذي دلت الأحاديث الصحيحة الكثيرة إن أفضل هذا التهليل فالتحميد فالتكبير فالتسبيح، فحينئذ يؤول بأن يقال لم يأت في ذلك اليوم أحد غير المهلل والحامد المذكورين أكثر مما أتى به (إلا من قال مثل ذلك أو زاد على ما قال) الكلام فيه كما مر في
رواه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن غريب.

(15/384)


2336- (21) وعن عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((التسبيح نصف الميزان، والحمد لله يملأه،
حديث أبي هريرة في الفصل الأول (رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب) في سنده الضحاك بن حمرة بضم الحاء وسكون الميم وفتح الراء المهملة الأملوكي بضم الهمزة الواسطي روي عن عمرو بن شعيب وغيره قال الحافظ في التقريب: إنه ضعيف، وقال في تهذيب التهذيب قال ابن معين: ليس بشي. وقال النسائي والدولابي ليس بثقة. وقال البرقاني عن الدارقطني: ليس بالقوي يعتبر به. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن شاهين في الثقات: وثقه إسحاق بن راهوية – انتهى مختصرا. وقال الذهبي في الميزان قال النسائي: ليس بثقة. وقال البخاري: منكر الحديث مجهول. وقال ابن معين: ليس بشي. ثم ذكر الذهبي هذا الحديث ثم قال رواه الترمذي عن محمد بن وزير الواسطي (عن أبي سفيان الحميري عن الضحاك بن حمرة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده) وحسنه فلم يصنع شيئا.

(15/385)


2336- قوله: (التسبيح نصف الميزان) أي ثوابه بعد تجسمه يملأ نصف الميزان والمراد به إحدى كفتيه الموضوعة لوضع الحسنات فيها (والحمد لله يملأه) أي الميزان كله لو وضع فيه وحده فيكون أفضل من التسبيح ويكون ثوابه ضعف ثواب التسبيح لأن التسبيح نصف الميزان والحمد لله وحده يملأه أي يملأ كفتيه، أو المراد إن الحمد لله يملأ نصفه الآخر أي لو وضع ثوابه في الكفة الأخرى بعد وضع ثواب التسبيح في إحدى كفتيه امتلأ الميزان، فيكون ثواب الحمد كثواب التسبيح لأن كل واحد منهما يأخذ نصف الميزان فيملآن الميزان معا فيكونان متساويين. قال الطيبي: في الحديث توجيهان. أحدهما أن يراد التسوية بين التسبيح والتحميد بأن كل واحد منهما يأخذ نصف الميزان فيملآن الميزان معا، وذلك لأن الأذكار التي هي أم العبادات البدنية تنحصر في نوعين، أحدهما التنزيه والآخر التحميد والتسبيح يستوعب القسم الأول والتحميد يتضمن القسم الثاني. وثانيهما أن يراد تفضيل الحمد على التسبيح وإن ثوابه ضعف ثواب التسبيح لأن التسبيح نصف الميزان والتحميد وحده يملأه وذلك لأن الحمد المطلق إنما يستحقه من كان مبرأ عن النقائص منعوتا بنعوت الجلال وصفات الإكرام، فيكون الحمد شاملا للأمرين وأعلى القسمين وإلى الوجه الأول الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، وإلى الثاني بقوله صلوات الله عليه بيدي لواء الحمد. أقول يؤيد معنى الترجيح الترقي في قوله ولا إله إلا الله ليس لها حجاب لأن هذه الكلمة اشتملت على التنزيه والتحميد لله تعالى كما مر، وعلى نفي ذلك عما سواه صريحا ومن ثم جعل من جنس آخر لأن الأولين دخلا في معنى الوزن والمقدار في الأعمال وهذا حصل منه
ولا إله إلا الله ليس لها حجاب دون الله حتى تخلص إليه)). رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غريب، وليس إسناده بالقوي.

(15/386)


2337- (22) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما قال عبد لا إله إلا الله مخلصا قط إلا فتحت له أبواب السماء حتى يفضي إلى العرش ما اجتنب الكبائر)).
القرب إلى الله تعالى من غير حاجز ولا مانع – انتهى كلام الطيبي. واستشكل ظاهر الحديث بأن التحميد إذا يملأ الميزان فبقية الأعمال كيف توزن، وظاهر الأحاديث الواردة في وزن الحسنات والسيئات إن جميع الأعمال الحسنة توضع في كفة واحدة. والسيئات بأسرها في الأخرى، وأجيب بأنه يحتمل أن تجعل تلك الأعمال والأذكار عند الوزن في صور وأجسام صغيرة، ومع ذلك لا يتفاوت وزنها ولا يزاحم بعضها بعضا والله أعلم (ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب) أي ليس لقبولها حجاب يمنعها عنه لاشتمالها على التنزيه والتحميد ونفي السوي صريحا (حتى تخلص) بضم اللام (إليه) أي تصل إليه وتنتهي إلى محل القبول والمراد بهذا وأمثاله سرعة القبول والإجابة وكثرة الأجر والإثابة، وفيه دلالة ظاهرة إن لا إله إلا الله أفضل من سبحان الله والحمد لله (رواه الترمذي) من طريق إسماعيل بن عياش عن عبد الرحمن بن زياد الإفريقي عن عبدالله بن يزيد عن عبدالله بن عمرو (وقال هذا حديث غريب وليس بإسناده بالقوي) أي إسناده ضعيف لأن عبد الرحمن بن زياد ضعيف وإسماعيل بن عياش صدوق في روايته عن أهل بلده مخلط في غيرهم.

(15/387)


2337- قوله: (ما قال عبدلاإله إلا الله مخلصا) أي حال كونه مخلصا من قلبه لا منافقا ولا مرائيا (قط) كذا في جميع النسخ من المشكاة أي وقع قط بعد قوله مخلصا وفي الترمذي ما قال عبد لا إله إلا الله قط مخلصا أي وقع لفظ قط قبل مخلصا، وهكذا وقع في الترغيب وجامع الأصول والحصن والجامع الصغير (إلا فتحت) بصيغة المجهول مخففا وقد يشدد (له) أي لهذا الكلام أو القول (أبواب السماء) أي فلا تزال كلمة الشهادة صاعدة (حتى يفضي) بضم الياء وكسر المعجمة بصيغة المعلوم من الإفضاء أي يصل وقوله "يفضي" بالياء كذا وقع في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا نقله في الترغيب وجامع الأصول، وفي الترمذي تفضي أي بالتاء، وهكذا الحصن والجامع الصغير (إلى العرش) أي ينتهي إليه (ما اجتنب) أي صاحبه (الكبائر) أي وذلك مدة تجنب قائلها الكبائر من الذنوب. قال الطيبي: الحديث السابق دل على تجاوزه من العرش حتى انتهى إلى الله تعالى، والمراد من ذلك سرعة القبول والاجتناب عن الكبائر شرط للسرعة لا لأجل الثواب والقبول – انتهى. أو لأجل كمال الثواب ومراتب القبول لأن السيئة لا تحبط الحسنة بل الحسنة تذهب السيئة
رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غريب.
2338- (23) وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقيت إبراهيم ليلة أسري بي. فقال: يا محمد! أقري أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)).
كذا في المرقاة، وفي الحديث تحذير عن ارتكاب الكبائر وإشعار إلى قوله تعالى: ?إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه? [فاطر:10] (رواه الترمذي) نسبه الجزري في الحصن للترمذي والنسائي والحاكم (وقال هذا حديث غريب) وفي الترمذي هذا حديث حسن غريب وهكذا في الترغيب وشرح الجامع الصغير للعزيزي.

(15/388)


2338- قوله (لقيت إبراهيم) أي الخليل عليه الصلاة والسلام (ليلة أسري بي) قال القاري: بالإضافة، وفي نسخة يعني من المشكاة بتنوين ليلة أي ليلة أسري فيها بي، وهي ليلة المعراج (فقال) أي إبراهيم وهو في محله من السماء السابعة مسندا ظهره إلى البيت المعمور (قريء أمتك) أمر من الإقراء أي بلغهم وأوصلهم (مني السلام) يقال أقرأ فلان فلانا السلام، وأقرأ عليه السلام، أي أبلغه إياه كأنه حين يبلغه سلامه يحمله على أن يقرأ السلام ويرده. قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة إقرأ أي بكسر الهمزة، وفتح الراء من القراءة، أي أبلغهم من جانبي السلام، وفيه ما قيل إنه يقال في الأمر منه إقرأ عليه السلام، وتعديته بنفسه خطأ، فلا يقال اقرأه السلام. قال القاري لكن في الصحاح والقاموس إن قرأه السلام وأقرأه السلام بمعنى (طيبة التربة) بضم التاء وسكون الراء وهي التراب فإن ترابها المسك والزعفران ولا أطيب منهما (عذبة الماء) أي مائها طيب لا ملوحة فيه (وأنها) بفتح الهمزة وتكسر أي الجنة (قيعان) بكسر القاف جمع قاع وهي الأرض المستوية الخالية من الشجر (وإن) بالوجهين (غراسها) بكسر الغين المعجمة جمع غرس بالفتح بمعنى المغروس والضمير إلى القيعان. قال القاري: جمع غرس بالفتح وهو ما يغرس أي يستره تراب الأرض من نحو البذر لينبت بعد ذلك، وإذا كانت تلك التربة طيبة وماءها عذابا كان الغراس أطيب لا سيما. والغرس الكلمات الطيبات وهن الباقيات الصالحات والمعنى أعلمهم بأن هذه الكلمات ونحوها سبب لدخول قائلها الجنة، ولكثرة أشجار منزله فيها لأنه كلما كررها نبت له أشجار لعددها – انتهى. قال التوربشتي: الغرس إنما يصلح في التربة الطيبة وينمو بالماء العذب أي أعلمهم إن هذه الكلمات تورث قائلها الجنة وإن الساعي في اكتسابها لا يضيع سعيه لأنها المغرس الذي لا يتلف ما استودع فيه. قال الشيخ الدهلوي: واستشكل بأنه يدل على أن أرضها خالية عن الأشجار والقصور

(15/389)


رواه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن غريب إسنادا.
2339- (24) وعن يسيرة، وكانت من المهاجرات،
وهو خلاف مدلول الجنة. وأجيب بأنه لا يدل على أنها الآن قيعان بل على أنها في نفسها قيعان والأشجار فيها مغروسة بجزاء الأعمال، أو المراد إن الأشجار فيها لما كانت لأجل الأعمال فكأنه غرست بها فافهم. وقال الطيبي: في هذا الحديث إشكال لأنه يدل على أن أرض الجنة خالية عن الأشجار والقصور، ويدل قوله: ?جنات تجري من تحتها الأنهار? [البقرة: 25] وقوله ?أعدت للمتقين? على أنها غير خالية عنها لأنها إنما سميت جنة لأشجارها المتكاثفة المظلة بالتفاف أغصانها، وتركيب الجنة دائر على معنى الستر وإنها مخلوقة معدة، والجواب أنها كانت قيعانا ثم إن الله تعالى أوجد بفضله وسعة رحمته فيها أشجارا وقصورا على حسب أعمال العاملين لكل عامل ما يختص به بحسب عمله، ثم إن الله تعالى لما يسره لما خلق له من العمل لينال به ذلك الثواب جعله كالغارس لتلك الأشجار على سبيل المجاز إطلاقا للسبب على المسبب – انتهى. وأجيب أيضا بأنه لا دلالة في الحديث على الخلو الكلي من الأشجار والقصور لأن معنى كونها قيعانا إن أكثرها مغروس وما عداه منها أمكنة واسعة بلا غرس لينغرس بتلك الكلمات، ويتميز غرسها الأصلي الذي بلا سبب وغرسها المسبب عن تلك الكلمات. (رواه الترمذي) قال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: رواه الترمذي والطبراني في الصغير والأوسط وزاد ولا حول ولا قوة إلا بالله روياه من طريق عبدالواحد بن زياد عن عبدالرحمن بن إسحاق عن القاسم بن عبدالرحمن عن أبيه عن ابن مسعود (وقال) أي الترمذي (هذا حديث حسن غريب إسنادا) وفي الجامع الترمذي حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ابن مسعود. قال المنذري "أبو القاسم هو عبدالرحمن بن عبدالله ابن مسعود وعبدالرحمن هذا لم يسمع من أبيه وعبدالرحمن بن إسحاق هو أبوشيبة الكوفي واه ورواه الطبراني أيضا بإسناد رواه من

(15/390)


حديث سلمان الفارسي ولفظه: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن في الجنة قيعانا فأكثروا من غرسها. قالوا: يا رسول الله! وما غرسها؟ قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر – انتهى. قلت ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10ص89- 90) وقال فيه الحسين بن علوان وهو ضعيف.
2339- قوله: (وعن يسيرة) بمثناة تحتية مضمومة وسين وراء مهملتين مفتوحتين بينهما مثناة تحتية ساكنة. ويقال أسيرة بالهمزة في أوله بدل الياء أم ياسر بمثناة تحت وكسر سين مهملة ويقال بنت ياسر وتكنى أم حميضة (وكانت من المهاجرات) الأول المبايعات. وقيل: من الأنصار. قال الحافظ في تهذيب التهذيب: ذكرها ابن سعد في النساء الغرائب من غير الأنصار. وقال ابن حبان وابن مندة وأبونعيم وابن عبدالبر: كانت
قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكن بالتسبيح، والتهليل، والتقديس، واعقدن بالأنامل، فإنهن مسئولات مستنطقات، ولا تغفلن فتنسين الرحمة)).

(15/391)


من المهاجرات. قلت: قد أخرج أحمد والترمذي وابن سعد من طريق هانيء بن عثمان عن أمه حميضة بنت ياسر عن جدتها يسيرة وكانت من المهاجرات. قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكن بالتسبيح - الحديث. وفي رواية الحاكم وكانت إحدى المهاجرات وهذا يؤيد ما قاله ابن حبان ومن وافقه. (قال لنا) أي معشر النساء (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) زاد في المسند بعده يا نساء المؤمنات! (عليكن) اسم فعل بمعنى الزمن وأمسكن (بالتسبيح) أي بقول سبحان الله (والتهليل) أي قول لا إله إلا الله (والتقديس) أي قول سبحان الملك القدوس أو سبوح قدوس رب الملائكة والروح (واعقدن) بكسر القاف أي أعددن عدد مرات التسبيح وما عطف عليه (بالأنامل) أي بعقدها أو برؤسها يقال عقد الشيء بالأنامل عده. قال الطيبي: حرضهن النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يحصين تلك الكلمات بأناملهن، ليحط عنها بذلك ما اجترحته من الذنوب ويدل على أنهن كن يعرفن عقد الحساب – انتهى. والأنامل جمع أنملة بتثليث الميم والهمزة تسع لغات التي فيها الظفر كذا في القاموس، والظاهر أن يراد بها الأصابع من باب إطلاق البعض وإرادة الكل عكس ما ورد في قوله تعالى: ?يجعلون أصابعهم في أذانهم? [البقرة: 19] لإرادة المبالغة (فإنهن) أي الأنامل كسائر الأعضاء (مسئولات) أي يسألن يوم القيامة عما اكتسبن وبأي شيء استعملن (مستنطقات) بفتح التاء أي متكلمات بخلق النطق فيها فيشهدن لصاحبهن أو عليه بما اكتسبه من خير أو شر قال تعالى: ?يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون? [النور: 24] ?وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم? [فصلت: 22] وفيه حث على استعمال الأعضاء فيما يرضي الرب تعالى وتعريض بالتحفظ عن الفواحش والآثام (ولا تغفلن) بضم الفاء والفتح لحن أي عن الذكر يعني لا تتركن الذكر (فتنسين الرحمة) بفتح التاء بصيغة المعروف من النسيان أي فتتركن الرحمة،

(15/392)


والمراد بنسيان الرحمة نسيان أسبابها أي لا تتركن الذكر فإنكن لو تركتن الذكر لحرمتن ثوابه فكأنكن تركتن الرحمة قال تعالى: ?فاذكروني? أي بالطاعة ?أذكركم? أي بالرحمة. ويجوز أن يكون تنسين بضم المثناة الفوقية بصيغة المجهول من الإنساء، ونصب الرحمة على المفعول الثاني والمعنى لا تغفلن عن الذكر بأن تتركنه فتنسين من الرحمة وتحرمن ثواب الذكر. قال الطيبي: لا تغفلن نهي لأمرين أي لا تغفلن عما ذكرت لكن من اللزوم على الذكر والمحافظة عليه. والعقد بالأصابع توثيقا وقوله "فتنسين" جواب "لو" أي إنكن لو تغفلن عما ذكرت لكن لتركتن سدى عن رحمة الله، وهذا من باب قوله تعالى: ?لا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي? [طه: 81] أولا يكن منكن

(15/393)


الغفلة فيكون من الله ترك الرحمة فعبر بالنسيان عن ترك الرحمة كما في قوله تعالى: ?وكذلك اليوم تنسى? [طه: 126] – انتهى. قال الشوكاني: والحديث يدل على مشروعية عقد التسبيح بالأنامل. وقد أخرج أبوداود والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه عن عبد الله بن عمرو، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح بيده، زاد في رواية لأبي داود وغيره بيمينه. وقد علل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك في حديث يسيرة بأن الأنامل مسئولات مستنطقات، يعني أنهن يشهدن بذلك فكان عقدهن بالتسبيح من هذه الحيثية أولى من السبحة والحصى. قلت: ويدل على جواز عد التسبيح بالنوى والحصى. حديث سعد بن وقاص المتقدم، وحديث صفية قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يدي أربعة آلات نواة أسبح بها – الحديث. أخرجه الترمذي والحاكم وصححه السيوطي. قال الشوكاني: هذان الحديثان يدلان على جواز عد التسبيح بالنوى والحصى، وكذا بالسبحة لعدم الفارق لتقريره صلى الله عليه وسلم للمرأتين على ذلك وعدم إنكاره، والإرشاد إلى ما هو أفضل لا ينافي الجواز. وقد وردت بذلك آثار ثم ذكرها من شاء الوقوف عليها رجع إلى النيل (ج2ص211)، قلت: حديث سعد قد قدمنا أنه ضعيف. وأما حديث صفية فهو أيضا ضعيف ضعفه الترمذي بقوله هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث هاشم بن سعيد الكوفي عن كنانة مولى صفية عن صفية، وليس إسناده بمعروف. وأما الحاكم فقال صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي وتبعه السيوطي واغتر به الشوكاني وهذا منهم عجيب، فإن هاشم بن سعيد هذا أورده الذهبي في الميزان. وقال: قال ابن معين ليس بشي. وقال ابن عدي: مقدار ما يرويه لا يتابع عليه. ولهذا قال الحافظ في التقريب: ضعيف فائدة إعلم أن للعرب طريقة معروفة في عقود الحساب تواطؤا عليها وهي أنواع من الآحاد والعشرات والمئين والألوف. أما الآحاد فللواحد عقد الخنصر إلى أقرب ما يليه من باطن الكف

(15/394)


وللإثنين عقد البنصر معها كذلك، وللثلاثة عقد الوسطى معها كذلك، وللأربعة حل الخنصر، وللخمسة حل البنصر معها دون الوسطى، وللستة عقد البنصر وحل جميع الأنامل، وللسبعة بسط الخنصر إلى أصل الإبهام مما يلي الكف، وللثمانية بسط البنصر فوقها كذلك، وللتسعة بسط الوسطى فوقها كذلك. وأما العشرات فلها الإبهام والسبابة فللعشرة الأولى عقد رأس الإبهام على طرف السبابة، وللعشرين إدخال الإبهام بين السبابة والوسطى, وللثلاثين عقد رأس السبابة على رأس الإبهام عكس العشرة، وللأربعين ترك الإبهام على العقد الأوسط من السبابة، وعطف الإبهام إلى أصلها، وللخمسين عطف الإبهام إلى أصلها وللستين تركيب السبابة على ظهر الإبهام عكس الأربعين، وللسبعين إلقاء رأس الإبهام على العقد الأوسط من السبابة. ورد طرف السبابة إلى الإبهام، وللثمانين رد طرف السبابة إلى أصلها، وبسط الإبهام على جنب السبابة
رواه الترمذي، وأبوداود.
?الفصل الثالث?
2340- (25) عن سعد بن أبي وقاص، قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: علمني كلاما أقوله، قال: قل: ((لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم. فقال: فهؤلاء لربي، فمالي؟ فقال: قل اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني، وعافني)). شك الراوي في "عافني"

(15/395)


من ناحية الإبهام، وللتسعين عطف السبابة إلى أصل الإبهام وضمها بالإبهام. وأما المئين فكالآحاد إلى تسع مائة في اليد اليسرى والألوف كالعشرات في اليسرى كذا في سبل السلام (ج1ص306، 307) وفي تفصيل هذه الطريقة المعروفة عند العرب وتوضيحها رسالة لطيفة في اللغة الأردية اسمها "عقد أنامل" وهي ترجمة ما ذكره صاحب "غياث اللغات" (ص291، 292) بالفارسية (رواه الترمذي وأبوداود) واللفظ للترمذي، وفي رواية أبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهن أن يراعين بالتكبير والتقديس والتهليل، وأن يعقدن بالأنامل فإنهن مسئولات مستنطقات. وأخرج أحمد (ج6ص371) والنسائي في الكبرى وابن سعد والحاكم والطبراني بلفظ الترمذي. وقال الترمذي: هذا حديث إنما نعرفه من حديث هانيء بن عثمان – انتهى. وسكت عنه أبوداود والمنذري. وقال الذهبي صحيح.
2340- قوله: (جاء أعرابي) أي بدوي (علمني كلاما) أي ذكرا (أقوله) أي ألازم وأداوم عليه (الله أكبر كبيرا) منصوب بفعل محذوف، أي كبرت كبيرا أو ذكرت كبيرا، ويجوز أن يكون حالا مؤكدة كقولك زيد أبوك عطوفا (والحمد لله كثيرا) صفة مفعول مطلق أي حمدا كثيرا (العزيز الحكيم) وفي رواية البزار العلي العظيم وهو المشهور على الألسنة (فقال) أي الأعرابي، وفي مسلم قال بدون الفاء وكذا في المسند، وهكذا وقع في الترغيب وجامع الأصول (فهؤلاء) أي الكلمات وفي المسند هؤلاء وهكذا في الترغيب والجامع (لربي) أي موضوعة لذكره (فمالي) أي من الدعاء لنفسي (اللهم اغفر لي) بمحو السيئات (وارحمني) أي بتوفيق الطاعات (واهدني) أي لأحسن الأحوال (وارزقني) أي المال الحلال (وعافني) أي من الابتلاء بما يضر في المال (شك الراوي) هو موسى الجهني الراوي للحديث عن مصعب بن سعد عن أبيه (في عافني) أي
رواه مسلم.

(15/396)


2341- (26) وعن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على شجرة يابسة الورق، فضربها بعصاه، فتناثر الورق، فقال: ((إن الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، تساقط ذنوب العبد كما يتساقط ورق هذه الشجرة)). رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غريب.
في إثباته ونفيه. والراجح إثباته لأن الحديث رواه مسلم عن شيخين، قال حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة نا علي بن مسهر وابن نمير عن موسى الجهني ح، وحدثنا محمد بن عبدالله بن نمير واللفظ له، نا أبي نا موسى الجهني عن مصعب بن سعد عن أبيه قال جاء أعرابي الخ، ثم قال بعد قوله وارزقني. قال موسى: أما عافني فأنا أتوهم وما أدري، ولم يذكر ابن أبي شيبة في حديثه قول موسى – انتهى. ورواه أحمد في مسنده (ج1ص180)عن يحي بن سعيد عن موسى فذكر قوله "وعافني" من غير شك فيه ثم رواه (ج1ص185) عن عبدالله بن نمير ويعلى بن موسى. وقال بعد قوله "وارزقني". قال ابن نمير قال موسى: أما عافني فأنا أتوهم وما أدري (رواه مسلم) وأخرجه أيضا البزار. قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، وروى مسلم عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتاه رجل فقال: يا رسول الله! كيف أقول حين أسأل ربي؟ قال: قل اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني، فإن هؤلاء تجمع لك دنياك وآخرتك.

(15/397)


2341- قوله: (فضربها) أي أغصان الشجرة (فتناثر الورق) أي تساقط (إن الحمد لله وسبحان الله إلخ) قال الطيبي: هذه الكلمات كلها بالنصب على اسم إن وخبرها (تساقط) بضم التاء من باب المفاعلة (ذنوب العبد) أي المتكلم بهذه الكلمات والمفاعلة للمبالغة، وقوله "تساقط ذنوب العبد" كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا وقع في جامع الأصول، وفي الترمذي لتساقط (بزيادة اللام المفتوحة) من ذنوب العبد، وهكذا نقله في الترغيب والكنز (كما يتساقط) بصيغة المضارع المعلوم من باب التفاعل، وهكذا وقع في جامع الأصول، والذي في الترمذي والترغيب والكنز كما تساقط أي بصيغة الماضي المعلوم (ورق هذه الشجرة) يعني إن هذه الكلمات تساقط ذنوب العبد فتتساقط كما يتساقط ورق هذه الشجرة فقوله كما "يتساقط" حال من الذنوب والتقدير تساقط الذنوب مشبها تساقطها بتساقط الورق. قال في اللمعات: لما كان المقصود ههنا بيان حال الكلمات وفضلها وثمة أعني في أوراق الشجرة بيان سقوطها لا إسقاط العصا إياها قال:كما قال: فافهم (رواه الترمذي) من طريق الأعمش عن أنس (وقال هذا حديث غريب) قال ولا نعرف للأعمش سماعا عن أنس إلا أنه قد رآه ونظر إليه – انتهى. قال المنذري في الترغيب: وأخرجه أحمد من غير طريق الأعمش، ورجاله رجال الصحيح، ولفظه
2342- (27) وعن مكحول، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها من كنز الجنة. قال مكحول: فمن قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا منجا من الله إلا إليه، كشف الله عنه سبعين بابا من الضر، أدناها الفقر)). رواه الترمذي. وقال: هذا حديث ليس إسناده بمتصل، ومكحول لم يسمع عن أبي هريرة.

(15/398)


إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ غصنا فنفضه فلم ينتفض ثم نفضه فلم ينتفض ثم نفضه فانتفض، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ينفضن الخطايا كما تنفض الشجرة ورقها. قلت وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد من غير طريق الأعمش مثل رواية أحمد.
2342- قوله: (فإنها) أي هذه الكلمة (من كنز الجنة) أي من ذخائر الجنة أو من محصلات نفائس الجنة. قال النووي: المعنى إن قولها يحصل ثوابا نفسيا يدخر لصاحبه في الجنة (قال مكحول) أي موقوفا عليه (ولا منجا) بالألف يعني بالقصر أي لا مهرب ولا مخلص (من الله) أي من سخطه وعقوبته (إلا إليه) أي بالرجوع إلى رضاه ورحمته (كشف الله) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا في الترغيب وجامع الأصول وتحفة الذاكرين، والذي في الترمذي كشف أي بغير ذكر لفظ الجلالة (سبعين بابا) أي نوعا (من الضر) بضم الضاد وتفتح وهو يحتمل التحديد والتكثير (أدناها) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا في جامع الأصول والذي في الترمذي أدناهن، وهكذا في الترغيب وتحفة الذاكرين (الفقر) أي أحط السبعين وأدنى مراتب الأنواع نوع مضرة الفقر. قال القاري: والمراد الفقر القلبي الذي جاء في الحديث كاد الفقر أن يكون كفرا لأن قائلها إذا تصور معنى هذه الكلمة تقرر عنده وتيقن في قلبه إن الأمر كله بيد الله وإنه لا نفع ولا ضر إلا منه ولا عطاء ولا منع إلا به، فصبر على البلاء وشكر على النعماء وفوض أمره إلى الله تعالى ورضي بالقدر – انتهى. قلت: حديث كاد الفقر أن يكون كفرا، رواه أبونعيم في الحلية والبيهقي في الشعب. قال ابن الديبع الشيباني في تمييز الطيب: من الخبيث (ص144): وفي سنده يزيد الرقاشي وهو ضعيف وله شواهد ضعيفة – انتهى. وقال المناوي في شرح الجامع الصغير: إسناده رواه. وقال صاحب مجمع البحار في تذكرة الموضوعات (ص174) ضعيف. ولكن صح من قول أبي سعيد –

(15/399)


انتهى. قال شيخنا وتقييد الفقر بالقلبي مما لا حاجة إليه كما لا يخفى (رواه الترمذي وقال: هذا) أي صدر الحديث (حديث ليس إسناده بمتصل) وبين عدم الاتصال بقوله (ومكحول) كذا في جميع نسخ المشكاة بذكر الواو قبل مكحول، وليست في الترمذي ولا في الترغيب (لم يسمع عن أبي هريرة) قال ابن حجر: كذا في النسخ يعني من المشكاة، والمشهور من قلت في الترمذي من بدل عن، وهكذا وقع في
2343- (28) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حول ولا قوة إلا بالله دواء من تسعة وتسعين داء أيسرها الهم)).
2344- (29) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أدلك على كلمة من تحت العرش من كنز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله، يقول الله تعالى:
الترغيب. قال المنذري بعد نقل كلام الترمذي: هذا ما لفظه، ورواه النسائي والبزار مطولا ورفعا ولا منجا من الله إلا إليه ورواتهما ثقات محتج بهم. قال وفي رواية للحاكم وصححها، قال يا أبا هريرة ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة. قلت بلى يا رسول الله! قال تقول لا حول ولا قوة إلا بالله ولا ملجأ ولا منجأ من الله إلا إليه ذكره في حديث – انتهى. قلت: رواية الحاكم هذه أخرجها أحمد (ج2ص309) ورواته ثقات.

(15/400)


2343- قوله: (لا حول ولا قوة إلا بالله دواء) أي معنوي (من تسعة وتسعين) لا يعلم حكمة تخصيص هذا العدد إلا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقال الشوكاني: ظاهره إن هذا الذكر شفاء هذا العدد المذكور، ويمكن أن يكون خارجا مخرج المبالغة كما في قوله تعالى: ?ذرعها سبعون ذراعا? [الحاقة: 32] فيكون المراد إنه شفاء من جميع الأمراض والعلل التي أيسرها الهم (داء) من أدواء الباطن كالكبر والعجب والشرك الخفي وغلبة الهوى، أو أعم من ذلك وهذا أظهر. وقال القاري أي من الأدواء الدنيوية والأخروية (أيسرها) أي أقلها وأسهلها (الهم) أي جنس الهم المتعلق بالدين أو الدنيا أو هم المعاش وغم المعاد. قال المناوي: وذلك لأن العبد إذا تبرأ من الأسباب انشرح صدره وانفرج غمه وأتته القوة والغياث والتأييد وبسطت الطبيعة على ما في الباطن من الداء فدفعته.
2344- قوله: (من تحت العرش من كنز الجنة) قال الطيبي: "من تحت العرش" صفة كلمة أي كائنة من تحت العرش مستقرة فيه، ويجوز أن تكون من ابتدائية أي ناشئة من تحت العرش "ومن" في من كنز الجنة بيانية أي بيان لتحت العرش، كأنه يقول التحت الذي هو كنز وإذا جعل العرش سقف الجنة، جاز أن يكون من كنز الجنة بدلا من قوله من تحت العرش – انتهى. والمعنى أنها من الكنوز المعنوية العرشية وذخائر الجنة العالية العلوية لا من الكنوز الفانية الحسية السفلية. وقيل: المعنى أي كلمة أنزلت من كنز الجنة الكائنة تحت العرش، وفي الحديث تقديم وتأخير. ويؤيده رواية أحمد (ج2 ص298) بلفظ: ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة من تحت العرش (يقول الله تعالى) قال الطيبي: هذا جزاء شرط محذوف أي إذا قال العبد هذه الكلمة يقول الله تعالى قال ابن حجر: أي لملائكته معلما لهم بكمال قائلها المتحلي بمعناها. وقال القاري: الظاهر إن قوله يقول الله
أسلم عبدي، واستسلم)). رواهما البيهقي في "الدعوات الكبير"

(15/401)


2345- (30) وعن ابن عمر، أنه قال: ((سبحان الله هي صلاة الخلائق، والحمد لله كلمة الشكر، ولا إله إلا الله كلمة الإخلاص،
استئناف لبيان فضيلة تلك الكلمة وفضل قائلها. قلت: وقع عند الحاكم بلفظ: تقول لا حول ولا قوة إلا بالله فيقول الله عزوجل أسلم عبدي الخ وهذا يؤيده ما قاله الطيبي (أسلم عبدي) أي انقاد لإحكام الألوهية وأخلص (واستسلم) أي بالغ في الانقياد له تعالى. قال الطيبي: أسلم عبدي واستسلم أي فوض أمور الكائنات إلى الله بأسرها وانقاد هو بنفسه لله مخلصا له الدين (رواهما البيهقي) ذكر الأول منهما المنذري في الترغيب والجزري في الحصن ونسباه للطبراني في الأوسط والحاكم، ونسبه السيوطي في الجامع الصغير وعلي المتقي في الكنز لابن أبي الدنيا في كتاب الفرج. قال الحاكم (ج1ص542) هذا حديث صحيح، وبشر بن رافع الحارثي ليس بالمتروك وتعقبه الذهبي فقال قلت: بشرواه. وقال الهيثمي بعد عزوه إلى الطبراني: وفيه بشر بن رافع الحارثي وهو ضعيف. وقد وثق بقية رجاله رجال الصحيح. وقال المنذري بعد نقل تصحيح الحاكم: بل في إسناده بشر بن رافع أبوالاسباط قال، وضعفه أحمد وغيره وقواه ابن معين وغيره. وقال ابن عدي: هو مقارب الحديث لا بأس بأخباره ولم أجد له حديثا منكرا – انتهى. قلت: بشر هذا ضعفه أحمد والنسائي وأبوحاتم وابن عبدالبر وابن حبان. وقال الترمذي يضعف في الحديث. وقال الحاكم أبوأحمد: ليس بالقوي عندهم. وقال يعقوب بن سفيان والبزار: لين الحديث. وقال الدارقطني: منكر الحديث. وقال الحافظ: فقيه ضعيف الحديث – انتهى. ولم أجد أحدا قوى أمره غير ابن معين وابن عدي، وفي الباب عدة أحاديث يقوي بعضها بعضا منها حديث جابر عند الطبراني في الأوسط، ومنها حديث ابن عباس عند ابن عساكر، ومنها حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عند الطبراني في الأوسط وابن عساكر. والحديث الثاني أخرجه أحمد في مواضع من مسنده منها في (ج2ص298) والبزار والحاكم

(15/402)


(ج1ص21) وقال هذا حديث صحيح ولا يحفظ له علة، ووافقه الذهبي. ونقل المنذري في الترغيب كلام الحاكم وأقره. وقال الهيثمي (ج10ص99) بعد عزوه لأحمد والبزار: رجالهما رجال الصحيح غير أبي بلج (يحي بن أبي سليم) الكبير وهو ثقة.
2345- قوله: (وعن ابن عمر أنه بقال) أي موقوفا (سبحان الله هي صلاة الخلائق) أي عبادتها قال تعالى: ?وإن من شيء إلا يسبح بحمده? [الإسراء: 44] وقال ?كل قد علم صلاته وتسبيحه? [النور: 41] قيل والتسبيح إما بالمقال أو بالحال حيث يدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته وعلى تنزهه تعالى مما لا يجوز عليه من الشريك وغيره (والحمد لله كلمة الشكر) أي عمدته ورأسه كما سبق (ولا إله إلا الله كلمة الإخلاص) أي كلمة التوحيد الموجبة لإخلاص
والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض، وإذا قال العبد: لا حول ولا قوة إلا بالله، قال الله تعالى: أسلم واستسلم)). رواه رزين.
قائلها من النار أو كلمة لا تنفع إلا مقرونة بالصدق والإخلاص (والله أكبر تملأ) بالتأنيث باعتبار الكلمة والتذكير باعتبار اللفظ أي يملأ ثوابها (ما بين السماء والأرض) قيل: ويحتمل أن يكون ما بين السماء والأرض كناية عن العالم كله (وإذا قال العبد لا حول ولا قوة لا بالله) أي وتصور مبناه وتحقق بمعناه (قال الله تعالى أسلم) أي إسلاما كاملا (واستسلم) أي انقاد ظاهرا وباطنا (رواه رزين) ذكر قول ابن عمر هذا رزين في جامعه بغير سند، ولا يوجد في شيء من أصوله ولم أقف على من أخرجه فالله أعلم بحال إسناده.
بعون الله وحسن توفيقه تم الجزء السابع من مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح ويليه الجزء الثامن إن شاء الله تعالى، وأوله "باب الاستغفار والتوبة"

(15/403)


بسم الله الرحمن الرحيم
(4) باب الاستغفار والتوبة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( باب الاستغفار ) أي : طلب المغفرة ، وقد سبق بيان معناها عند شرح اسم الله الغفار في حديث الأسماء الحسنى فارجع إليه . وقال الحافظ : الاستغفار استفعال من الغفران ، وأصله الغفر ، وهو إلباس الشيء ما يصونه عما يدنسه وتدنيس كل شيء بحسبه ، والغفران من الله للعبد أن يصونه من العذاب - انتهى . قال القاري : الاستغفار قد يتضمن التوبة وقد لا يتضمن ولذا قال : ( والتوبة ) أو الاستغفار باللسان والتوبة بالجنان ، وهي الرجوع من المعصية إلى الطاعة والمغفرة منه تعالى لعبده ستره لذنبه في الدنيا بأن يطلع عليه أحدا ، وفي الآخرة بأن لا يعاقبه عليه . قال الطيبي : والتوبة في الشرع ترك الذنب لقبحه والندم على ما فرط والعزيمة على ترك المعاودة وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة هذا كلام الراغب . وزاد النووي وقال : إن كان الذنب متعلقا ببني آدم فلها شرط آخر ، وهو رد المظلمة إلى صاحبها أو تحصيل البراءة منه ، وقال ابن القيم في مدارج السالكين (ج1 : ص169) في الكلام على تفسير التوبة المطلقة : وكثير من الناس إنما يفسر التوبة بالعزم على أن لا يعاود الذنب ، وبالإقلاع عنه في الحال ، وبالندم عليه في الماضي . وإن كان في حق آدمي فلابد من أمر رابع وهو التحلل منه ، وهذا الذي ذكروه بعض مسمى التوبة بل شرطها . وإلا فالتوبة في كلام الله ورسوله كما تتضمن ذلك تتضمن العزم على فعل المأمور والتزامه ، فلا يكون بمجرد الإقلاع والعزم والندم تائبا حتى يوجد منه العزم الجازم على فعل المأمور والإتيان به ، هذا حقيقة التوبة ، وهي اسم لمجموع الأمرين لكنها إذا قرنت بفعل المأمور كانت عبارة عما ذكروه ، فإذا أفردت تضمنت الأمرين ، وهي كلفظة التقوى التي عند إفرادها تقتضى فعل ما أمر الله به ، وترك ما نهى الله عنه ، وعند اقترانها بفعل

(16/1)


المأمور تقتضي الانتهاء عن المحظور ، فإن حقيقة التوبة الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يحب ، وترك ما يكره ، فهي رجوع من مكروه إلى محبوب ، فالرجوع إلى المحبوب جزء
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسماها ، والرجوع عن المكروه الجزء الآخر ، ولهذا علق سبحانه الفلاح المطلق على فعل المأمور وترك المحظور بها فقال : ? وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ? ( النور : 31) فكل تائب مفلح ولا يكون مفلحا إلا من فعل ما أمر به وترك ما نهي عنه . وقال تعالى : ? ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ? ( الحجرات : 11) وترك المأمور ظالم كما إن فاعل المحظور ظالم ، وزوال اسم الظلم عنه بالتوبة الجامعة الأمرين ، قال : وإنما سمي التائب تائبا لرجوعه إلى أمر الله من نهيه وإلى طاعته من معصيته كما تقدم فإذا التوبة هي حقيقة دين الإسلام والدين كله داخل في مسمى التوبة ، وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين , وإنما يحب الله من فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه ، فإذا التوبة هي الرجوع مما يكرهه الله ظاهرا وباطنا إلى ما يحبه ظاهرا وباطنا ، ويدخل في مسماها الإسلام والإيمان والإحسان وتتناول جميع المقدمات . قال ابن القيم ( مشيرا إلى الفرق بين الاستغفار والتوبة ) : وأما الاستغفار فهو نوعان مفرد ومقرون بالتوبة فالمفرد كقول نوح عليه السلام لقومه : ? استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ? ( نوح : 10 ، 11) وكقول صالح عليه السلام لقومه : ? لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون ? ( النمل : 46) وكقوله تعالى : ? واستغفروا الله إن الله

(16/2)


غفور رحيم ? ( المزمل : 20) وقوله : ? وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ? ( الأنفال : 33) والمقرون كقوله تعالى : ? وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله ? ( هود : 3) وقول صالح لقومه : ? فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ? ( هود : 52 - 61) وقول شعيب : ? واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود ? ( هود : 90) فالاستغفار المفرد كالتوبة بل هو التوبة بعينها مع تضمنه طلب المغفرة من الله وهو محو الذنب وإزالة أثره ووقاية شره ، لا كما ظنه بعض الناس إنها الستر فإن الله يستر على من يغفر له ، ومن لا يغفر له ، ولكن الستر لازم مسماها أو جزءه ، فدلالتها عليه إما بالتضمن وإما باللزوم ، وحقيقتها وقاية شر الذنب ، ومنه المغفر لما يقي الرأس من الأذى ، والستر لازم لهذا المعنى ، وألا فالعمامة لا تسمى مغفرا ولا القبع ونحوه مع ستره فلابد في لفظ المغفر من الوقاية . وهذا الاستغفار الذي يمنع العذاب في قوله : ? وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ? ( الأنفال : 33) فإن الله لا يعذب مستغفرا . وأما من أصر على الذنب وطلب من الله مغفرته فهذا ليس باستغفار مطلق ، ولهذا لا يمنع العذاب فالاستغفار يتضمن التوبة ، والتوبة تتضمن الاستغفار ، وكل منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق . وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى فالاستغفار طلب وقاية شر ما مضى ، والتوبة والرجوع طلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله فها هنا ذنبان . ذنب قد مضى فالاستغفار طلب وقاية شره ، وذنب يخاف وقوعه فالتوبة العزم على أن لا يفعله والرجوع إلى الله

(16/3)


يتناول النوعين . رجوع إليه ليقيه شر ما مضى ، ورجوع إليه ليقيه شر ما
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يستقبل من شر نفسه وسيئات أعماله ، وأيضا فإن المذنب بمنزلة من ارتكب طريقا تؤديه إلى هلاكه ولا توصله إلى المقصود فهو مأموران يوليها ظهره ويرجع إلى الطريق التي فيها نجاته ، وتوصله إلى مقصودة وفيها فلاحه فها هنا أموال لابد منهما مفارقة شيء . والرجوع إلى غيره فخصت التوبة بالرجوع والاستغفار بالمفارقة ، وعند إفرادهما يتناول الأمرين ، ولهذا والله أعلم جاء الأمر بهما مرتبا بقوله :?واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه ? ( هود : 90) فإنه الرجوع إلى طريق الحق بعد مفارقة الباطل ، وأيضا فالاستغفار من باب إزالة الضرر والتوبة طلب جلب المنفعة ، فالمغفرة أن يقيه شر الذنب ، والتوبة أن يحصل له بعد الوقاية ما يحبه ، وكل منهما يستلزم الآخر عند إفراده والله أعلم . وقيل : في الفرق بينهما إن التوبة لا تكون إلا لنفسه أي لما اجترحته نفسه خاصة من الآثام بخلاف الاستغفار ، فإنه يكون لنفسه ولغيره أو لغيره فقط كما قال تعالى : ? والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ? ( الحشر : 10) وقال تعالى حاكيا عن الملائكة : ? ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا ? ( غافر : 7) وإن التوبة هي الندم على ما فرط في الماضي ، والغرم على الامتناع منه في المستقبل ، والاستغفار طلب الغفران لما صدر منه ولا يجب فيه الغرم في المستقبل هذا . وللتوبة أحكام لا يليق بالعبد جهلها . ذكر ابن القيم نبذا منها في مدارج السالكين شرح منازل السائرين (ج1 :ص150

(16/4)


: 169) فعليك أن تطالعه وأضف إلى ذلك مطالعة كتاب التوبة من الإحياء للغزالي, وقد عقد ابن القيم في المدارج (ج1 : ص172 ، 173) فصلا لإيضاح الفرق بين الذنب والسيئة والتكفير والمغفرة فطالعه أيضا مع ما تعقبه وعلق عليه محشيه وقد ذكر صاحب المنازل أسرارا للتوبة بسط ابن القيم الكلام في شرح السر الأول وتوضيحه أحببنا إيراده لغاية حسنه ولطافته . قال صاحب المنازل : ولطائف أسرار التوبة ثلاثة أشياء أولها : أن ينظر الجناية والقضية فيعرف مراد الله فيها إذ خلاك وإتيانها ، فإن الله عز وجل إنما خلي العبد والذنب لمعنيين أحدهما : أن يعرف عزته في قضائه وبره في ستره وحلمه في إمهال راكبه وكرمه في قبول العذر منه وفضله في مغفرته . الثاني : أن يقيم على عبده حجة عدله فيعاقبه على ذنبه بحجته . قال ابن القيم في شرح هذا الكلام (ج1 : ص111) اعلم أن صاحب البصيرة إذا صدرت منه الخطيئة فله نظر إلى خمسه أمور أحدها : أن ينظر إلى أمر الله ونهيه فيحدث له ذلك الاعتراف بكونها خطيئة والإقرار على نفسه بالذنب . الثاني : أن ينظر إلى الوعد والوعيد فيحدث له ذلك خوفا وخشية تحمله على التوبة . الثالث : أن ينظر إلى تمكين الله له منها وتخليته بينه وبينها أو تقديرها عليه وإنه لو شاء لعصمه منها وحال بينه وبينها ، فيحدث له ذلك أنواعا من المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وحكمته ورحمته ومعرفته وعفوه وحلمه وكرمه ، وتوجب هذه المعرفة عبودية بهذه الأسماء لا تحصل بدون
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/5)


لوازمها البتة ، ويعلم ارتباط الخلق والأمر والجزاء والوعد بأسمائه وصفاته ، وأن ذلك موجب الأسماء والصفات وأثرها في الوجود ، وإن كل اسم وصفة مقتض لأثره وموجبه متعلق به لا بد منه ، وهذا المشهد يطلعه على رياض مونقة من المعارف والإيمان وأسرار القدر والحكمة يضيق عن التعبير عنها نطاق الكلم . فمن بعضها : ما ذكره الشيخ يعني صاحب المنازل أن يعرف العبد عزته في قضائه وهو أنه سبحانه العزيز الذي يقضى بما يشاء وإنه لكمال عزه حكم على العبد وقضى عليه بأن قلب قلبه وصرف إرادته على ما يشاء وحال بين العبد وقلبه . وجعله مريدا شائيا لما شاء منه العزيز الحكيم . وهذا من كمال العزة إذ لا يقدر على ذلك إلا الله ، وغاية المخلوق أن يتصرف في بدنك وظاهرك . وأما جعلك مريدا شائيا لما شاءه منك ، ويريده فلا يقدر عليه إلا ذو العزة الباهرة فإذا عرف العبد عز سيده ولاحظه بقلبه وتمكن شهوده منه كان الاشتغال به عن ذل المعصية أولى به وأنفع له لأنه يصير مع الله لا مع نفسه ومن معرفة عزته في قضائه أن يعرف أنه مدبر مقهور ناصيته بيد غيره لا عصمة له ، إلا بعصمته ولا توفيق له إلا بمعونته ، فهو ذليل حقير في قبضة عزيز حميد ، ومن شهود عزته أيضا في قضائه أن يشهد أن الكمال والحمد والغناء التام والعزة كلها لله ، وإن العبد نفسه أولى بالتقصير والذم والعيب والظلم والحاجة وكلما ازداد شهوده لذله ونقصه وعيبه وفقره ازداد شهوده لعزة الله وكماله وعبده وغناه وكذلك بالعكس ، فنقص الذنب وذلته يطلعه على مشهد العزة ، ومنها إن العبد لا يريد معصية مولاه من حيث هي معصية فإذا شهد جريان الحكم عليه وجعله فاعلا لما هو غير مختار له ولا مريد بإرادته ومشيئته واختياره ، فكأنه مختار غير مختار ، مريد غير مريد ، شاء غير شاء ، فهذا يشهد عزة الله وعظمته وكمال قدرته . ومنها : أن يعرف بره سبحانه في ستره عليه حال ارتكاب المعصية مع كمال رؤيته له ، ولو شاء

(16/6)


لفضحه بين خلقه فحذروه ، وهذا من كمال بره ومن أسمائه البر ، وهذا البر من سيده به نفع كمال غناه عنه ، وكمال فقر العبد إليه ، فيشتغل بمطالعة هذه المنة ، ومشاهدة هذا البر والإحسان والكرم فيذهل عن ذكر الخطيئة فيبقى مع الله سبحانه ، وذلك أنفع له من الاشتغال بجنايته وشهود ذل معصيته ، فإن الاشتغال بالله والغفلة عما سواه هو المطلب الأعلى والمقصد الأسنى ، ولا يوجب هذا نسيان الخطيئة مطلقا بل في هذه الحال . فإذا فقدها فليرجع إلى مطالعة الخطيئة وذكر الجناية ولكل وقت ومقام عبودية تليق به . ومنها : شهود حلم الله سبحانه وتعالى في إمهال راكب الخطيئة ولو شاء لعاجله بالعقوبة ، ولكنه الحليم الذي لا يعجل فيحدث له ذلك معرفته سبحانه باسمه الحليم ومشاهدة صفة الحلم ، والتعبد بهذا الاسم والحكمة والمصلحة الحاصلة من ذلك بتوسط الذنب أحب إلى الله ، وأصلح للعبد وأنفع من فوتها ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع . ومنها : معرفة العبد كرم ربه في قبول العذر منه إذا اعتذر إليه بنحو ما تقدم (ص99) المدارج من الاعتذار لا بالقدر فإنه مخاصمة ومحاجة كما تقدم (ص99) فيقبل عذره بكرمه وجوده فيوجب له
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/7)


ذلك اشتغالا بذكره وشكره ومحبة أخرى لم تكن حاصلة له قبل ذلك ، فإن محبتك لمن شكرك على إحسانك وجازاك به ثم غفر لك إساءتك ولم يؤاخذك بها أضعاف محبتك على شكر الإحسان وحده والواقع شاهد بذلك ، فعبودية التوبة بعد الذنب لون ( وهذا لون ) آخر يعني إن عبودية التوبة بعد الذنب لون ، وهذا الذي ذكره أخيرا من معرفة العبد كرم ربه إلخ لون آخر ومنها : أن يشهد فضله في مغفرته فإن المغفرة فضل من الله ، وإلا فلو وأخذ بالذنب لو أخذ يمحض حقه وكان عادلا محمودا . وإنما عفوه بفضله لا باستحقاقك فيوجب لك ذلك أيضا شكرا له ومحبة وإنابة إليه وفرحا وابتهاجا به ومعرفة له باسمه الغفار ، ومشاهدة لهذه الصفة ، وتعبدا بمقتضاها وذلك أكمل في العبودية والمحبة والمعرفة . ومنها : أن يكمل لعبده مراتب الذل والخضوع والانكسار بين يديه والافتقار إليه ، فإن النفس فيها مضاها الربوبية لو قدرت لقالت كقول فرعون ولكنه قدر فأظهر وغيره عجز فأضمر ، وإنما يخلصها من هذه المضاهاة ذل العبودية وهو أربع مراتب . المرتبة الأولى : مشتركة بين الخلق وهي ذل الحاجة والفقر إلى لله فأهل السماوات والأرض محتاجون إليه فقراء إليه ، وهو وحده الغني عنهم وكل أهل السماوات والأرض يسألونه وهو لا يسأل أحدا . المرتبة الثانية : ذل الطاعة والعبودية ، وهو ذل الاختيار ، وهذا خاص بأهل طاعته وهو سر العبودية . المرتبة الثالثة ذل المحبة ، فإن المحب ذليل بالذات لمحبوبه وعلى قدر محبته له يكون ذله ، فالمحبة أسست على الذلة للمحبوب كما قيل :
أخضع وذل لمن تحب فليس في ( ... حكم الهوى أنف يسأل ويعقد (
وقال آخر :
مساكين أهل الحب حتى قبورهم ( ... عليها تراب الذل بين المقابر (

(16/8)


المرتبة الرابعة : ذل المعصية والجناية ، فإذا اجتمعت هذه المراتب الأربع كان الذل لله والخضوع له أكمل وأتم ، إذ يذل له خوفا وخشية ومحبة وإنابة وإطاعة وفقرا وفاقة ، وحقيقة ذلك هو الفقر الذي يشير إليه القوم ، وهذا المعنى أجل من أن يسمى بالفقر بل هو لب العبودية وسرها وحصوله أنفع شيء للعبد ، وأحب شيء إلى الله فلا بد من تقدير لوازمه من أسباب الضعف والحاجة ، وأسباب العبودية والطاعة ، وأسباب المحبة والإنابة ، وأسباب المعصية والمخالفة إذ وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع ، والغاية من تقدير عدم هذا الملزوم ولازمه مصلحة وجوده خير من مصلحة فوته ومفسدة فوته أكبر من مفسدة وجوده ، والحكمة مبناها على دفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وقد فتح لك الباب ، فإن كنت من أهل المعرفة فادخل وإلا فرد الباب وارجع بسلام . ومنها : إن أسماءه الحسنى تقتضي آثارها اقتضاء الأسباب التامة لمسبباتها
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/9)


فاسم السميع البصير يقتضي مسموعا ومبصرا . واسم الرزاق يقتضي مرزوقا ، واسم الرحيم يقتضي مرحوما ، وكذلك اسم الغفور والعفو والتواب والحليم يقتضي من يغفر له ويتوب عليه ويعفو عنه ويحلم ، ويستحيل تعطيل هذه الأسماء والصفات إذ هي أسماء حسنى وصفات كمال ونعوت جلال وأفعال حكمة ، وإحسان وجود فلا بد من ظهور آثارها في العالم . وقد أشار إلى هذا أعلم الخلق بالله صلوات الله وسلامه عليه حيث يقول : ( لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ، ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم ) . وأنت إذا فرضت الحيوان بحملته معدوما فلمن يرزق الرزاق سبحانه ؟ وإذا فرضت المعصية والخطيئة منتفية من العالم فلمن يغفر وعمن يعفو ؟ وعلى من يتوب ويحلم ؟ وإذا فرضت الفاقات كلها قد سدت ، والعبيد أغنياء معافون فأين السؤال والتضرع والابتهال والإجابة ، وشهود الفضل والمنة والتخصيص بالإنعام والإكرام ؟ فسبحان من تعرف إلى خلقه بجميع أنواع التعرفات ودلهم عليه بأنواع الدلالات وفتح لهم إليه جميع الطرقات ، ثم نصب إليه الصراط المستقيم وعرفهم به ودلهم عليه ? ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم ? ( الأنفال : 24) . ومنها : السر الذي لا تقتحمه العبارة ولا تجسر عليه الإشارة لو لا ينادى عليه منادى الإيمان على رؤوس الأشهاد ، فشهد به قلوب خواص العباد فازدادت به معرفة لربها ومحبة له وطمأنينة وشوقا إليه ولهجا بذكره وشهودا لبره ولطفه وكرمه وإحسانه ومطالعة لسر العبودية وإشرافا على حقيقة الإلهية وهو ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( لله أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها ، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته ، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده ، فأخذ بخطامها

(16/10)


، ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك . أخطأ من شدة الفرح ) هذا لفظ مسلم . وفي الحديث من قواعد العلم إن اللفظ الذي يجري على لسان العبد خطأ من فرح شديد أو غيظ شديد ، ونحوه لا يؤاخذ به ولهذا لم يكن هذا كافرا بقوله أنت عبدي وأنا ربك قال . والقصد إن هذا الفرح له شأن لا ينبغي للعبد إهماله والإعراض عنه ، ولا يطلع عليه إلا من له معرفة خاصة بالله وأسمائه وصفاته وما يليق بعز جلاله ، وقد كان الأولى بناطي الكلام فيه إلى ما هو اللائق بإفهام بنى الزمان وعلومهم ونهاية أقدامهم من المعرفة وضعف عقولهم عن احتماله غير أنا نعلم أن الله عز وجل سيسوق هذه البضاعة إلى تجارها ومن هو عارف بقدرها ، وإن وقعت في الطريق بيد من ليس عارفا بها فرب حامل فقه ليس بفقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، فاعلم أن الله سبحانه وتعالى اختص نوع الإنسان من بين خلقه بأن كرمه وفضله وشرفه وخلقه لنفسه ، وخلق كل شيء له وخصه من معرفته ومحبته وقربه وإكرامه بما لم يعطه غيره ، وسخر له في سماواته وأرضه وما بينهما حتى ملائكته الذين هم أهل قرية استخدمهم وجعلهم حفظة له في
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/11)


منامه ويقظته وظعنه وإقامته ، وأنزل إليه وعليه كتبه ، وأرسله وأرسل إليه ، وخاطبه وكلمه منه إليه ، واتخذ منهم الخليل والكليم والأولياء والخواص والأحبار ، وجعلهم معدن أسراره ومحل حكمته وموضع حبه ، وخلق لهم الجنة والنار ، فالخلق والأمر والثواب والعقاب مداره على النوع الإنساني ، فإنه خلاصة الخلق وهو المقصود بالأمر والنهي ، وعليه الثواب والعقاب ، فللإنسان شأن ليس لسائر المخلوقات ، وقد خلق أباه بيده ونفخ من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء وأظهر فضله على الملائكة ، فمن دونهم من جميع المخلوقات وطرد إبليس عن قربه وأبعده عن بابه إذ لم يسجد له مع الساجدين ، واتخذه عدوا له فالمؤمنون من نوع الإنسان خير البرية على الإطلاق وخيرية الله على العالمين فإنه خلقه ليتم نعمته عليه وليتواتر إحسانه إليه ، وليخصه من كرامته وفضله بما لم تنله أمنيته ولم يخطر على باله ، ولم يشعر به ليسأله من المواهب والعطايا الباطنة والظاهرة العاجلة والآجلة التي لا تنال إلا بمحبته ولا تنال محبته إلا بطاعته وإيثاره على ما سواه ، فاتخذه محبوبا له وأعدله أفضل ما يعده محب غنى قادر جواد لمحبوبه ، إذ أقدم عليه وعهد إليه عهدا يقدم إليه فيه بأوامره ونواهيه وأعلمه في عهده ما يقربه إليه ويزيده محبة له وكرامة عليه ، وما يبعده منه ويسخطه عليه ، ويسقطه من عينه ، وللمحبوب عدو هو أبغض خلق خلقه إليه قد جاهره بالعداوة ، وأمر عباده أن يكون دينهم وطاعتهم وعبادتهم له دون وليهم ومعبودهم الحق ، واستقطع عباده واتخذ منهم حزبا ظاهروه ووالوه على ربهم ، وكانوا أعداء له مع هذا العدو ، يدعون إلى سخطه ويطعنون في ربوبيته وإلهيته ووحدانيته ويسبونه ويكذبونه ويفتنون أولياءه ويؤذونهم بأنواع الأذى ، ويجهدون على إعدامهم من الوجود وإقامة الدالة لهم ومحو كل ما يحبه الله ويرضاه وتبديله بكل ما يسخطه ويكرهه ، فعرفه بهذا العدو وطرائقهم وأعمالهم وما

(16/12)


لهم ، وحذره موالاتهم والدخول في زمرتهم ، والكون معهم ، وأخبره في عهده أنه أجود الأجودين ، وأكرم الأكرمين ، وأرحم الراحمين . وأنه : سبقت رحمته غضبه وحلمه عقوبته وعفوه مؤاخذته ، وإنه قد أفاض على خلقه النعمة وكتب على نفسه الرحمة ، وإنه يحب الإحسان والجود والعطاء والبر ، وإن الفضل كله بيده والخير كله منه ، والجود كله له ، وأحب ما إليه أن يجود على عباده ويوسعهم فضلا ويغمرهم إحسانا وجود ، أو يتم عليهم نعمه ، ويضاعف لديهم مننه ويتعرف ، إليهم بأوصافه وأسماءه ، ويتحبب إليهم بنعمه وآلاءه فهو الجواد لذاته ، وجود كل جواد خلقه الله ويخلقه أبدا أقل من ذرة بالقياس إلى جوده ، فليس الجواد على الإطلاق إلا هو ، وجود كل جواد فمن جوده ومحبته للجود والإعطاء والإحسان والبر والإنعام والأفضال فوق ما يخطر ببال الخلق ، أو يدور في أوهامهم وفرحه بعطائه وجوده وأفضاله أشد من فرح الآخذ بما يعطاه أو يأخذ أحوج ما هو إليه وأعظم ما كان قدرا فإذا اجتمع شدة الحاجة وعظم قدر العطية والنفع بها فما الظن بفرح المعطي ؟ ففرح المعطي سبحانه بعطائه أشد وأعظم من فرح هذا بما
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/13)


يأخذه ، ولله المثل الأعلى إذ هذا شأن الجواد من الخلق فإنه يحصل له من الفرح والسرور والابتهاج واللذة بعطائه ، وجوده فوق ما يحصل لمن يعطيه ، ولكن الآخذ غائب بلذة أخذه عن لذة المعطى وابتهاجه وسروره . هذا مع كمال حاجته إلى ما يعطيه وفقره إليه وعدم وثوقه باستخلاف مثله ، وخوف الحاجة إليه عند ذهابه والتعرض لذل الاستعانة بنظيره ومن هو دونه ، ونفسه قد طبعت على الحرص والشح ، فما الظن بمن تقدس وتنزه عن ذلك كله ؟ ولو أن أهل سماواته وأرضه وأول خلقه وآخرهم وإنسهم وجنهم ورطبهم ويابسهم قاموا في صعيد واحد فسألوه فأعطى كلا ما سأله ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة ، وهو الجواد لذاته كما أنه الحي لذاته العليم لذاته السميع البصير لذاته ، فجوده العالي من لوازم ذاته ، والعفو أحب إليه من الانتقام ، والرحمة أحب إليه من العقوبة ، والفضل أحب إليه من العدل ، والعطاء أحب إليه من المنع ، فإذا تعرض عبده ومحبوبة الذي خلقه لنفسه وأعد له أنواع كرامته وفضله على غيره وجعله محل معرفته وأنزل إليه كتابه ، وأرسل إليه رسوله واعتنى بأمره ، ولم يهمله ولم يتركه سدى ، فتعرض لغضبه وارتكب مساخطه وما يكرهه وأبق منه ، ووالى عدوه وظاهره عليه ، وتحيز إليه وقطع طريق نعمه وإحسانه إليه التي هي أحب شيء إليه ، وفتح طريق العقوبة والغضب والانتقام فقد استدعى من الجود الكريم خلاف ما هو موصوف به من الجود والإحسان والبر ، وتعرض لإغضابه وإسخاطه وانتقامه ، وأن يصير غضبه وسخطه في موضع رضاه ، وانتقامه وعقوبته في موضع كرمه وبره وعطاءه ، فاستدعى بمعصيته من أفعاله ما سواه أحب إليه منه ، وخلاف ما هو من لو لزم ذاته من الجود والإحسان . فبينما هو حبيبه المقرب المخصوص بالكرامة إذا انقلب آبقا شاردا رادا لكرامته ، مائلا عنه إلى عدوه مع شدة حاجته إليه ، وعدم استغناءه عنه طرفة عين ، فبينما ذلك الحبيب مع العدو في طاعته وخدمته ناسيا لسيده ،

(16/14)


منهمكا في موافقة عدوه ، قد استدعى من سيده خلاف ما هو أهله إذ عرضت له فكرة فتذكر بر سيده وعطفه وجوده وكرمه ، وعلم أنه لا بد له منه ، وأن مصيره إليه ، وعرضه عليه ، وإنه لم يقدم عليه بنفسه قدم به عليه ، على أسوأ الأحوال ، ففر إلى سيده من بلد عدوه وجد في الهرب إليه حتى وصل إلى بابه فوضع خده على عتبة بابه وتوسد ثرى أعتابه متذللا متضرعا خاشعا باكيا آسفا ، يتملق سيده ويسترحمه ويستعطفه ويعتذر إليه ، قد ألقى بيده إليه ، واستسلم له وأعطاه قياده ، وألقى إليه زمانه ، فعلم سيده ما في قلبه فعاد مكان الغضب عليه رضا عنه ، ومكان الشدة عليه رحمة به ، وأبدله بالعقوبة عفوا ، وبالمنع عطاء وبالمؤاخذة حلما ، فاستدعى بالتوبة الرجوع من سيده ما هو أهله وما هو موجب أسماءه الحسنى وصفاته العلى ، فكيف يكون فرح سيده به ، وقد عاد إليه حبيبه ووليه طوعا واختيارا ، وراجع ما يحبه سيده منه ويرضاه ، وفتح طريق البر والإحسان والجود التي هي أحب إلى سيده من طريق الغضب والانتقام والعقوبة ؟ وهذا موضع الحكاية المشهورة عن بعض العارفين
( الفصل الأول )
2346- (1) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عله وسلم : والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/15)


أنه حصل له شرود وإباق عن سيده ، فرأى في بعض السكك بابا قد فتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكى وأمه خلفه تطرده ، حتى خرج فأغلقت الباب في وجهه ودخلت فذهب الصبي غير بعيد ، ثم وقف مفكرا فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه ، ولا من يؤويه غير والدته فرجع مكسور القلب حزينا فوجد الباب مرتجا فتوسده ، ووضع خده على عتبة الباب ونام فخرجت أمه ، فلما رأته على تلك الحالة لم تملك أن رمت نفسها عليه والتزمته تقبله وتبكي وتقول : يا ولدى أين تذهب عني ومن يؤويك سواي ؟ ألم أقل لك : لا تخالفني ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة لك والشفقة عليك وإرادتي الخير لك ؟ ثم أخذته ودخلت فتأمل قول الأم : ( لا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة والشفقة ) وتأمل قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها ) وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء ؟ فإذا أغضبه العبد بمعصيته فقد استدعى منه صرف تلك الرحمة عنه فإذا تاب إليه فقد استدعى منه ما هو أهله وأولى به ، فهذه نبذة يسيرة تطلعك على سر فرح الله بتوبة عبده أعظم من فرح هذا الواجد لراحلته في الأرض المهلكة بعد اليأس منها ، ووراء هذا ما تجفوا عنه العبارة وتدق عن إدراكه الأذهان وإياك وطريقة التعطيل والتمثيل ، فإن كلا منهما منزل ذميم ومرتع على علاته وخيم ، ولا يحل لأحدهما أن يجد روائح هذا الأمر ونفسه لأن زكام التعطيل والتمثيل مفسد لحاسة الشم كما هو مفسد لحاسة الذوق ، فلا يذوق طعم الإيمان ولا يجد ريحه . والمحروم كل المحروم من عرض عليه الغنى والخير فلم يقبله ، فلا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العليم ) ثم بسط ابن القيم الكلام في شرح قول صاحب المنازل : (( الثاني أن يقيم على عبده حجة عدله فيعاقبه على ذنبه )) ثم ذكر النظر الرابع من الأنظار الخمسة

(16/16)


التي تحصل عند صدور المعصية من العبد وهو النظر إلى محل الجناية ومصدرها أي النفس الأمارة بالسوء وشرح في ضمنه اللطيفة الثانية من لطائف أسرار التوبة ثم ذكر النظر الخامس وهو نظره إلى الآمر له بالمعصية المزين له فعلها ، الحاض له عليها ، وهو شيطانه الموكل به ، ثم أطال الكلام في شرح اللطيفة الثالثة من أحب الوقف على ذلك رجع إلى المدارج (ج1 : ص119 : 126) .
2346- قوله : ( والله ) فيه : القسم على الشيء تأكيدا له وإن لم يكن عند السامع فيه شك ( إني لأستغفر الله وأتوب إليه ) يحتمل أن يكون المراد يقول هذا اللفظ بعينه ويؤيده ما أخرجه النسائي بسند جيد من طريق
في اليوم أكثر من سبعين مرة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/17)


مجاهد عن ابن عمر أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه في المجلس قبل أن يقوم مائة مرة . ويحتمل أنه يطلب المغفرة ويعزم على التوبة وينشئها . ويؤيده ما سيأتي في آخر الفصل الثاني من حديث ابن عمر قال : إن كنا نعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلس رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور . مائة مرة . أخرجه أحمد ، والترمذي ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة من طريق محمد بن سوقة عن نافع عن ابن عمر ( في اليوم ) الواحد ( أكثر من سبعين مرة ) ، كذا في شعيب عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، عند البخاري ، وفي رواية معمر عن الزهري عن أبي سلمة عند الترمذي ، وابن السني إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة ، وهكذا وقع في حديث أنس عند أبي يعلي ، والبزار ، والطبراني ، فيحتمل أن يريد به المبالغة والتكثير . والعرب تصنع السبع والسبعين والسبعمائة موضع الكثرة ، ويحتمل أن يريد العدد بعينه . وقوله في رواية الكتاب أكثر مبهم ، فيحتمل أن يفسر بحديث ابن عمر المذكور وأنه يبلغ المائة . وقد وقع في رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عند النسائي ، وابن ماجة بلفظ : إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم مائة مرة . وفي حديث الأغر الآتي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة . قال الشوكاني بعد ذكر الروايات الثلاث : وينبغي الأخذ بالأكثر وهو رواية المائة فيقول في كل يوم أستغفر الله وأتوب إليه مائة مرة ، فإن قال اللهم إني أستغفرك فاغفر لي وأتوب إليك فتب على . فقد أخذ بطرفي الطلب ، والله سبحانه وتعالى ? غافر الذنب وقابل التوب ? ( غافر : 3) - انتهى . وقد استشكل وقوع الاستغفار من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو معصوم . والاستغفار يستدعي وقوع المعصية . وأجيب بعدة أجوبة منها : إن المراد باستغفاره - صلى الله عليه وسلم - استغفاره من

(16/18)


الذي وقع في حديث الأغر الآتي وسيأتي تفسيره وتوضيحه . ومنها قول ابن الجوزي : هفوات لطباع البشرية لا يسلم منها أحد ، والأنبياء وإن عصموا من الكبائر فلم يعصموا من الصغائر . كذا قال وهو مفرع على خلاف المختار ، والراجح عصمتهم من الصغائر أيضا . ومنها : قول ابن بطال الأنبياء أشد الناس اجتهادا في العبادة لما أعطاهم الله تعالى من المعرفة فهم دائبون في شكره معترفون له بالتقصير - انتهى . ومحصله جوابه أن الاستغفار من التقصير في أداء الحق الذي يجب لله تعالى . ويحتمل أن يكون لاشتغاله بالأمور المباحة من أكل أو شرب أو جماع أو نوم أو راحة أو لمخاطبة الناس ، والنظر في مصالحهم ومحاربة عدوهم تارة ومداراته أخرى ، وتأليف المؤلفة وغير ذلك مما يحجبه عن الاشتغال بذكر الله والتضرع إليه ، ومشاهدته ومراقبته فيرى ذلك ذنبا بالنسبة إلى المقام العلي وهو الحضور في حظيرة القدس . ومنها إن الاستغفار تشريع
رواه البخاري .
2347- (2) وعن الأغر المزني قال : قال رسول الله صلى الله عله وسلم : إنه ليغان على قلبي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وتعليم لأمته أو من ذنوب أمته فهو كالشفاعة لهم . وقال الغزالي في الإحياء : كان - صلى الله عليه وسلم - دائم الترقي ، فإذا ارتقى إلى حال رأى ما قبلها دونها فاستغفر من الحالة السابقة ، وهذا مفرع على أن العدد المذكور في استغفاره كان مفرقا بحسب تعدد الأحوال وظاهر ألفاظ الحديث يخالف ذلك . ومنها : إن استغفاره كان إظهارا للعبودية وافتقارا لكرم الربوبية . ( رواه البخاري ) في الدعوات وأخرجه أيضا أحمد (ج2 : ص282) ، والطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد (ج10 : ص208) .

(16/19)


2347- قوله : ( وعن الأغر ) بفتح الهمزة والغين المعجمة وتشديد الراء ( المزني ) نسبة إلى قبيلة مزينة مصغرا . قال في التقريب : الأغر بن عبد الله المزني ، ويقال : الجهني . ومنهم من فرق بينهما صحابي . قال البخاري : المزني أصح . وقال في الخلاصة : الأغر بن يسار المزني أو الجهني ، والمزني أصح صحابي من المهاجرين الأولين. وقيل : اسم أبيه عبد الله . له ثلاثة أحاديث خرج له مسلم منها فرد حديث ، وروى عنه ابن عمر ومعاوية بن قرة وأبو بردة . قلت : غاير بين الأغر المزني والجهني ابن منده ، وكذا مال إلى التفرقة بينهما ابن الأثير ، وجزم أبو نعيم وابن عبد البر بأنهما واحد ، وصوبه الحافظ في الإصابة والتهذيب . ( إنه ليغان ) بضم الياء وبالغين المعجمة مبنيا للمفعول من باب ضرب من الغين وهو الغين والغطاء لغة ، والمراد هنا ما يغشى القلب ويغطيه ( على قلبي ) نائب فاعل يغان أي يغشى أو يغطى قلبي . قال الجزري : الغين الغيم ، وغينت السماء تغان إذا أطلق عليها الغيم . وقيل : الغين شجره ملتف أراد ما يغشاه من السهو الذي لا يخلو منه البشر لأن قلبه أبدا كان مشغولا بالله تعالى ، فإن عرض له وقتا ما عارض بشري يشغله من أمور الأمة والملة ومصالحهما عد ذلك ذنبا وتقصيرا فيفزع إلى الاستغفار - انتهى . وقال القاري : يقال : غين عليه كذا أي غطى عليه ، (( وعلى قلبي )) مرفوع على نيابة الفاعل يعني ليغشى على قلبه ما لا يخلوا البشر عنه من سهو والتفات إلى حظوظ النفس من مأكول ومنكوح ونحوهما ، فإنه كحجاب وغيم يطبق على قلبه فيحول بينه وبين الملأ الأعلى حيلولة ما فيستغفر تصفية للقلب وإزاحة للغاشية ، وهو إن لم يكن ذنبا لكنه من حيث أنه بالنسبة إلى سائر أحواله نقص وهبوط إلى حضيض البشرية يشابه الذنب فيناسبه الاستغفار - انتهى . قلت : تحير العلماء في بيان معنى هذا الحديث وتأويله حتى قال السيوطي : هذا من المتشابه الذي لا يعلم معناه ،

(16/20)


وقد وقف الأصمعي إمام اللغة على تفسيره وقال : لو كان عن غير قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لتكلمت عليه وفسرته ، ولكن العرب تزعم أن الغين الغم الرقيق . وقال
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السندي : حقيقته بالنظر إلى قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تدري وإن قدره - صلى الله عليه وسلم - أجل وأعظم مما يخطر في كثير من الأوهام ، فالتفويض في مثله أحسن نعم القدر المقصود بالإفهام مفهوم ، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحصل له حالة داعية إلى الاستغفار فيستغفر كل يوم مائه مرة فكيف غيره والله أعلم . وقال عياض : المراد بالغين الفترات والغفلات عن الذكر الذي كان شأنه الدوام عليه ، فإذا فتر عنه أو غفل لأمر ما عد ذلك ذنبا فاستغفر منه وقيل : هو شيء يعترى القلوب الصافية مم يتحدث به النفس فيهوشها . وقيل : هو السكينة التي تغشى قلبه ، ويكون استغفاره إظهارا للعبودية والافتقار وملازمة الخشوع وشكرا لما أولاه . وقيل : هي حالة خشية وإعظام تغشى القلب ويكون استغفاره شكرها كما سبق . ومن ثم قال المحاسبي : خوف المتقربين الأنبياء والملائكة خوف إجلال وإعظام وإن كانوا آمنين عذاب الله . وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي : لا ينبغي أن يعتقد أن الغين نقص في حال صلوات الله عليه وسلامه ، بل كمال أو تتمة كمال ، وهذا سر دقيق لا ينكشف إلا بمثال ، وهو أن الجفن المسبل على حدقة البصر ، وإن كان صورته صورة نقصان من حيث هو إسبال وتغطية على ما من شأنه . أن يكون باديا مكشوفا ، فإن المقصود من خلق العين إدراك المدركات الحسية ، وذلك لا يتأتى إلا بانبعاث الأشعة الحسية من داخل العين واتصالها بالمرئيات على مذهب قوم ، وبانطباع صور المدركات في الكرة الجليدية على مذهب آخر ، فكيفما قدر لا يتم المقصود إلا بانكشاف

(16/21)


العين عما يمنع من انبعاث الأشعة ، ولكن لما كان الهواء المحيط بالأبدان الحيوانية قلما يخلو من الأغبرة السائرة بحركة الرياح ، فلو كانت الحدقة دائمة الانكشاف لاستضرت بملاقاتها وتراكمها عليها ، فأسبلت أغطية الجفون وقاية لها ومصقلة لتنصقل الحدقة بأسباب الأهداب ، ورفعها لخفة حركة الجفن . فيدوم جلاؤها ويحتد نظرها ، فالجفن وإن كان نقصانا ظاهرا فهو كمال حقيقة ، فهكذا لم تزل بصيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - معترضة ، لأن تصدأ بالأغبرة الثائرة من أنفاس الأغيار ، فلا جرم دعت الحاجة إلى إسبال جفن من الغين على حدقة بصيرته سترا لها ووقاية وصقالا عن تلك الأغبرة المثارة بروية الأغيار وأنفاسها فصح أن الغين وإن كانت صورته نقصا فمعناه كمال وصقال حقيقة . ثم قال أيضا : إن روح النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل في الترقي إلى مقامات القرب مستتبعة للقلب في رقيها إلى مركزها ، وهكذا القلب كان يستتبع نفسه الزكية ولا خفاء إن حركة الروح والقلب أسرع وأتم من نهضة النفس وحركتها ، فكانت خطأ النفس تقصر عن مدى الروح والقلب في العروج والولوج في حرم القرب ولحوقها بهما فاقتضت العواطف الربانية على الضعفاء من الأمة إبطاء حركة القلب بإلقاء الغين عليه لئلا يسرع القلب ويسرح في معارج الروح ومدارجها ، فتنقطع علاقة النفس عنه لقوة الانجذاب فتبقى العباد مهملين محرومين عن الاستنارة بأنوار النبوة والاستضاءة بمشكاة مصباح الشريعة ،
وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة . رواه مسلم .
2348- (3) وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أيها الناس توبوا إلى الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/22)


وحيث كان يرى - صلى الله عليه وسلم - إبطاء القلب بالغين الملقى عليه وقصور النفس عن شأو ترقي الروح إلى الرفيق الأعلى كان يفزع إلى الاستغفار إذ لم تف قواها في سرعة اللحوق لها - انتهى كلام الشيخ السهروردي . وقد ذكر الحافظ محصله في الفتح في شرح حديث أبي هريرة المتقدم . وقال التوربشتي في شرح المصابيح : (( ونحن بالنور المقتبس من مشكاة مشايخ الصوفية نذهب في الوقت عليهم مذهبين )) أحدهما : أن نقول لما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أتم القلوب صفاء وأكثرها ضياء وأعرفها عرفانا ، وكان معنيا مع ذلك بتشريع الملة وتأسيس السنة ميسرا غير معسر لم يكن له بد من النزول إلى الرخص والإلتفات إلى حظوظ النفس ، مع ما كان ممتحنا به من أحكام البشرية ، وكان إذا تعاطى شيئا من ذلك أسرع كدورة ما إلى القلب لكمال رقته وفرط نورانيته ، فإن الشيء كلما كان أرق وأصفى كان ورود التأثيرات عليه أبين وأهدى ، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا أحس بشيء من ذلك عده على النفس ذنبا فاستغفر منه ، ولهذا المعنى كان استغفاره عند خروجه من الخلاء فيقول : غفرانك . والآخر : أن تقول : إن الله تعالى كما اقتناه عن العالمين أراد أن يبقيه لهم لينتفعوا به ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لو ترك ما هو عليه ، وفيه من الحضور والتجليات الإلهية لم يكن لينفرغ لتعريف الجاهد وتعليم الجاهل ، فاقتضت الحكمة الإلهية أن يرد إليهم الفينة بعد الفينة بنوع من الحجية والاستتار ليكمل حظهم عنه فيرى ذلك من سيئات حاله فيستغفر منه والله أعلم - انتهى . ( وإني لأستغفر الله ) جملة أخرى معطوفة ( في اليوم مائة مرة ) قال المناوي : أراد بالمائة التكثير فلا ينافي رواية : سبعين . ( رواه مسلم ) ، وأخرجه أيضا أحمد (ج4 : ص211 : 260) ، والبخاري في تاريخه (ج1 : ق2 ص44) ، وأبو داود في أواخر الصلاة ، كلهم من طريق حماد عن ثابت عن أبي بردة عن الأغر المزني ونسبه في الحصن

(16/23)


والكنز للنسائي أيضا .
2348- قوله : ( وعنه ) أي الأغر المزني ( يا أيها الناس توبوا إلى الله ) فيه تلميح إلى قوله تعالى : ? وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون ? ( النور : 31) فالتوبة واجبة على الناس جميعا . قال النووي : هذا الأمر بالتوبة موافق لقوله تعالى: ? وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون ? وقوله تعالى : ? يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا ? ( التحريم : 8) قلت : وجوب التوبة ظاهر بحديث الأغر هذا ، وبالأحاديث الأخرى وبالآيتين المذكورتين ، وهو واضح بنور البصيرة عند من شرح الله بنور الإيمان صدره ، فإن من عرف أن لا سعادة في دار البقاء إلا في لقاء الله تعالى ، وإن كل محجوب عنه يشقى لا محالة محول بينه وبين ما يشتهي محترق بنار الفراق
فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة . رواه مسلم .
2349- (4) وعن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن الله تبارك وتعالى أنه قال : يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/24)


ونار الجحيم ، وعلم أن لا مبعد عن لقاء الله إلا إتباع الشهوات ولا مقرب من لقاءه إلا الإقبال على الله بدوام ذكره ، وعلم أن الذنوب سبب كونه محجوبا مبعدا عن الله تعالى . فلا يشك في أن الانصراف عن طريق البعد واجب للوصول إلى القرب . وإنما يتم الانصراف بالغلم والندم والعزم ، وهكذا يكون الإيمان الحاصل عن البصيرة ، ومن لم يترشح لهذا المقام فيلاحظ ما ورد في ذلك من الآيات والأحاديث وارجع للبسط إلى كتاب التوبة من الإحياء للغزالي . قال القاري : قوله : (( يا أيها الناس توبوا إلى الله )) الظاهر إن المراد بهم المؤمنون لقوله تعالى : ? وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ? ( النور : 31) وفي الآية والحديث دليل وشاهد على أن كل أحد في مقامه وحاله يحتاج إلى الرجوع لتوقية كماله ، وإن كل أحد مقصر في القيام بحق عبوديته كما قضاه وقدر ، قال تعالى : ? كلا لما يقض ما أمره ? ( عبس : 23) ويدل عليه أيضا قوله : ( فإني أتوب إليه ) أي أرجع رجوعا يليق به إلى شهوده أو سؤاله أو إظهار الافتقار بين يديه ( في اليوم مائة مرة ) فأنتم أولى بأن ترجعوا إليه في ساعة ألف كرة ( رواه مسلم ) وأخرجه أيضا أحمد (ج4 : ص211 ، 260) كلاهما من طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي بردة أنه سمع الأغر المزني يحدث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أيها الناس . إلخ وأخرج النسائي ، وابن أبي شيبة ، والطبراني ، والحكيم الترمذي بنحوه .

(16/25)


2349- قوله : ( فيما يروى ) هكذا في رواية أبي أسماء عن أبي ذر ، ووقع في رواية أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر فيما روى أي بلفظ الماضي ( إنه ) قال القاري : ضبط بفتح الهمزة وكسرها فتأمل في الفرق بينهما . ( قال : يا عبادي ) قال الطيبي : الخطاب لثقلين لتعاقب التقوى والفجور فيهم ، ويحتمل أن يعم الملائكة فيكون ذكرهم مدرجا في الجن لشمول الإجتنان لهم ، وتوجه هذا الخطاب لا يتوقف على صدور الفجور ولا على إمكانه - انتهى . قال شيخنا : والظاهر هو الاحتمال الأول ( إني حرمت ) أي منعت ( الظلم على نفسي ) أي تقدست عنه وتعاليت فهو في حقي كالمحرم في حق الناس ، إذا لا يتصور في حقه ظلم سواء قلنا إن الظلم وضع الشيء في غير محله أو أنه التعدي في ملك الغير أو مجاوزة الحد وهو المحمود في كل فعال من غير فصل ، لأن فعله إما عدل وإما فضل . قال النووي قال العلماء : قوله حرمت الظلم على نفسي . معناه تقدست عنه وتعاليت والظلم مستحيل في حق الله سبحانه وتعالى ، كيف يجاوز سبحانه حدا وليس فوقه من يطيعه وكيف يتصرف في غير
وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/26)


ملك ، والعالم كله ملكه وسلطانه . وأصل التحريم في اللغة المنع فسمى تقديسه عن الظلم تحريما لمشابهته للممنوع في أصل عدم الشيء - انتهى . ( وجعلته بينكم محرما ) أي حكمت بتحريمه فيما بينكم فإذا علمتم ذلك ( فلا تظالموا ) بفتح التاء وشدة الظاء للإدغام وتخفيفه أصله تتظالموا حذفت إحدى التاءين تخفيفا أي لا يظلم بعضكم بعضا ، والمعنى أنه تعالى حرم الظلم عل عباده ونهاهم أن يتظالموا فيما بينهم فحرام على كل عبد أن يظلم غيره ( يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته ) يعني إن الهداية لمن حصلت إنما هي من عند الله لا من عند نفسه ، وكذلك الطعام والكسوة لمن حصل فإنما هو من عند الله لا من عند نفسه ، وهذا يقتضي أن جميع الخلق مفتقرون إلى الله تعالى في جلب مصالحهم ودفع مضارهم في أمور دينهم ودنياهم ، وإن العباد لا يملكون لأنفسهم شيئا من ذلك كله ، وإن من لم يتفضل الله عليه بالهدى والرزق فإنه يحرمهما في الدنيا . قال المازري : ظاهر هذا أنهم خلقوا على الضلال إلا من هداه الله تعالى ، وفي الحديث المشهور كل مولود يولد على الفطرة . قال : فقد يكون المراد بالأول وصفهم بما كانوا عليه قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم أو أنهم تركوا وما في طباعهم من إيثار الشهوات والراحة وإهمال النظر لضلوا ، وهذا الثاني أظهر . وقال المناوي : كلكم ضال أي غافل عن الشرائع قبل إرسال الرسل إلا من هديته أي وقفته للإيمان أي للخروج عن مقتضى طبعه . وقال القاري : هذا لا ينافي قوله عليه الصلاة والسلام كل مولود يولد على الفطرة ، فإن المراد بالفطرة التوحيد ، والمراد بالضلالة جهالة تفصيل أحكام الإيمان وحدود الإسلام . ومنه قوله تعالى : ? ووجدك ضالا فهدى ? ( الضحى : 7) - انتهى . وقال ابن رجب : قد ظن بعضهم أن قوله كلكم ضال إلا من هديته معارض لحديث عياض بن حماد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( يقول الله عز وجل خلقت عبادي

(16/27)


حنفاء )) ، وفي رواية (( مسلمين فاجتالتهم الشاطين )) وليس كذلك فإن الله خلق بني آدم وفطرهم على قبول الإسلام ، والميل إليه دون غيره والتهيأ لذلك والاستعداد له بالقوة لكن لا بد للعبد من تعليم الإسلام بالفعل ، فإنه قبل التعلم جاهل لا يعلم شيئا كما قال تعالى : ? والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا ? ( النحل : 78 ) وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : ? ووجدك ضالا فهدى ? والمراد ? وجدك ? غير عالم مما علمك من الكتاب والحكمة ، كما قال تعالى : ? وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا ? ( الشورى : 52) فالإنسان يولد مفطورا على قبول الحق فإن هداه الله تعالى سبب له من يعلمه الهدى فصار مهديا بالفعل بعد أن كان مهديا بالقوة ، وإن خذله الله قيض له من يعلمه ما يغير فطرته كما قال - صلى الله عليه وسلم - كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه . وأما سؤال المؤمن من الله الهداية . فإن الهداية نوعان : هداية مجملة ، وهي الهداية للإسلام والإيمان وهي حاصلة
فاستهدوني أهدكم . يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم . يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم . يا عبادي إنكم تخطئون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/28)


للمؤمن ، وهداية مفصلة ، وهي هداية إلى معرفة تفاصيل أجزاء الإيمان والإسلام وإعانته على فعل ذلك ، وهذا يحتاج إليه كل مؤمن ليلا ونهارا ، ولهذا أمر الله عباده أن يقرؤوا في كل ركعة من صلاتهم قوله : ? اهدنا الصراط المستقيم ? ( فاستهدوني ) أي ساوني الهدى وأطلبوه مني ( أهدكم ) أوفقكم للهداية ( يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته ) قال العلقمي : وذلك لأن الناس عبيد لا يملكون شيئا وخزائن الرزق بيد الله عز وجل فمن لا يطعمه بفضله بقى جائعا بعد له إذ ليس عليه إطعام أحد . فإن قلت : كيف هذا مع قوله تعالى : ? وما من دآبة في الأرض إلا على الله رزقها ? (هود: 6) قلت : هذا التزام منه تفضلا ، لا أن للدابة حقا بالأصالة . فإن قلت كيف ينسب الإطعام إلى الله تعالى ؟ ونحن نشاهد الأرزاق مرتبة على هذه الأسباب الظاهرة من الحرف والصناعات وأنواع للاكتساب . قلت : هو القدر لتلك الأسباب الظاهرة بقدرته وحكمته الباطنة ، فالجاهل محجوب بالظاهر ، عن الباطن ، والعارف محجوب بالباطن عن الظاهر ، قال والعالم جماده وحيوانه مطيع لله عز وجل طاعة العبد لسيده ، فكما أن السيد يقول لعبده أعط فلانا كذا ، وأهد لفلان كذا، وتصدق على هذا الفقير بكذا ، كذلك الله عز وجل يسخر السحاب فيسقي أرض فلان أو البلد الفلاني ويحرك قلب فلان لإعطاء فلان ، ويوجه فلان إلى فلان بوجه من الوجوه لينال منه نفعا ونحو ذلك - انتهى . وقال القاري : إلا من أطعمته أي من أطعمته وبسطت عليه الرزق وأغنيته فلا يشكل أن الإطعام عام للجميع فكيف يستثني ( فاستطعموني ) أي اطلبوا الطعام وتيسير القوت مني ( أطعمكم ) أي أيسر لكم أسباب تحصيله ( كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني ) أي أطلبوا مني الكسوة ( أكسكم ) بضم السين أي أيسر لكم ستر عوراتكم وأزيل عنكم مساوي كشف سوءاتكم . قال الطيبي : فإن قلت ما معنى الاستثناء في قوله إلا من أطعمته

(16/29)


وكسوته إذ ليس أحد من الناس محروم منهما . قلت : الإطعام والكسوة لما كانا معبرين عن النفع التام والبسط في الرزق وعدمهما عن التقتير والتضييق كما قال الله تعالى : ? الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ? ( الرعد : 26) سهل التقصى عن الجواب ، من هذا أن ليس المراد من إثبات الجوع والعرى في المستثنى منه ، نفي الشبع والكسوة بالكلية ، وليس في المستثنى إثبات الشبع والكسوة مطلقا ، بل المراد بسطهما وتكثيرهما وبوضع الحديث الرابع عشر من الفصل الثاني أنه وضع قوله : (( وكلكم فقراء إلا من أغنيته )) في موضوعه - انتهى . ( يا عبادي أنكم تخطئون ) بضم أوله وكسر ثالثه من أخطأ ، وبفتحهما من خطئ يخطأ خطأ أي أذنب فهو خطئ قال النووي : الرواية المشهورة بضم التاء ، وروى بفتحها وفتح الطاء يقال خطأ يخطأ إذا فعل ما يأثم به فهو خطئ ، ومنه قوله تعالى ? استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين ? ( يوسف : 97) ويقال في الإثم أيضا أخطأ فهما صحيحان
بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم . يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني . يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا . يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/30)


( بالليل والنهار ) أي وخطيئة كل بحسب مقامه ( وأنا أغفر الذنوب جميعا ) أي بالتوبة أو ما عدا الشرك إن شاء وهي كقوله : ? إن الله يغفر الذنوب جميعا ? ( الزمر : 53) ( فاستغفروني ) أي أطلبوا مني المغفرة ( إنكم لن تبلغوا ضري ) بفتح الضاد وضمه ( فتضروني ) حذف . نون الإعراب منه في نصبه بأن المضمرة في جواب النفي وكذا قوله ( فتنفعوني ) يعني أن العباد لا يقدرون أن يوصلوا إلى الله نفعا ولا ضرا ، فإن الله تعالى في نفسه غني حميد لا حاجة له بطاعات العباد ولا يعود نفعها إليه . وإنما هم ينتفعون بها ولا يتضرر بمعاصيهم وإنما هم يتضررون بها قال الله تعالى ? ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا ? ( آل عمران : 176) وقال حاكيا عن موسى وقال موسى : ? إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ? ( إبراهيم : 8) . قال القاري : أي : لا يصح منكم ضري ولا نفعي فإنكم لو اجتمعتم على عبادتي أقصى ما يمكن ما نفعتموني في ملكي ، ولو اجتمعتم على عصياني أقصى ما يمكن لم تضروني بل ? إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ? ( الإسراء : 7) وهذا معنى قوله : ( لو أن أولكم ) أي : من الموجودين ( وآخركم ) ممن سيوجد . وقال ابن المالك : أي : من الأموات والأحياء والمراد جميعكم ( وإنسكم وجنكم ) أي : وملائكتكم تعميم بعد تعميم للتأكيد أو تفصيل وتبيين ( كانوا على أتقى رجل قلب منكم ) أي : لو كنتم على غاية التقوى بأن تكونوا جميعا على تقوى أتقى قلب رجل واحد منكم . وقال القاضي : أي على أتقى أحوال قلب رجل ، أي كان كل واحد منكم على هذه الصفة كذا في المرقاة . وقال الشيخ الدهلوي في ترجمته : (( باشند بر برهيزكار ترين دل يك مرداز شما ، يعني أكر فرض كرده شود دل يك كسى از شماكه متقي ترين دلها

(16/31)


باشد وشماهمه برين صفت باشيد )) ( ما زاد ذلك ) أي : ما ذكر ( في ملكي شيئا ) إما مفعول به أو مصدر ، وهذا راجع إلى لن تبغلوا نفعي فتنفعوني نشرا مشوشا اعتمادا على فهم السامع ( كانوا على أفجر ) أي : فجورا فجرا وأفجر أحوال ( قلب رجل واحد منكم ) وقال الشيخ الدهلوي في ترجمته : (( باشند برب فرماني كنده وكناه كننده ترين دل يك مرداز شما )) ( ما نقص ) بالتخفيف ( ذلك ) أي ما ذكر ( من ملكي شيئا ) قال الطيبي : يجوز أن يكون مفعولا به إن قلنا إن نقص متعد ، ومفعولا مطلقا إن قلنا أنه لازم أي نقص نقصانا قليلا ، والتنكير فيه للتحقير بدليل قوله في الحديث الآتي بدله جناح بعوضة ، وهذا راجع إلى قوله
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/32)


(( لن تبلغوا ضري فتضروني )) والمعنى أن ملكه لا يزيد بطاعة الخلق ولو كانوا كلهم بررة ، أتقياء قلوبهم على أتقى قلب رجل منهم ، ولا بنقص ملكه بمعصية العاصين ، ولو كان الجن والإنس كلهم عصاة فجرة قلوبهم على قلب أفجر رجل منهم فإنه سبحانه الغني بذاته عن من سواه ، وله الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله ، فملكه ملك كامل لا نقص فيه بوجه من الوجوه على أي وجه كان ( قاموا ) أي وقفوا ( في صعيد واحد ) أي في أرض واحدة ومقام واحد قال ابن حجر : الصعيد يطلق على التراب وعلى وجه الأرض وهو المراد هنا ( فسألوني ) أي كلهم أجمعون . قال الطيبي : قيد السؤال بالإجماع في مقام واحد ، لأن تزاحم السؤال وازدحامهم مما يدهش المسئول ويهم ويعسر عليه إنجاح مآربهم وإسعاف مطالبهم ( فأعطيت كل إنسان ) وكذا كل جني ( مسألته ) أي في آن واحد ومكان واحد ( ما نقص ذلك ) أي الإعطاء ( مما عندي ) والمراد بهذا ذكر كمال قدرته تعالى وكمال ملكه ، وأن ملكه وخزائنه لا تنقص بالعطاء ولو أعطى الأولين والآخرين من الجن والإنس جميع ما سألوه في مقام واحد ، وفي ذلك حث الخلق على سؤاله وإنزال حوائجهم به ( إلا كما ينقص ) أي كالنقص أو كالشيء الذي ينقصه ( المخيط ) بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الياء المثناة تحت هو ما يخلط به الثواب كالإبرة ونحوها ( إذا أدخل البحر ) بالنصب على أنه مفعول ثان للإدخال ، وذكر ذلك لتحقيق أن ما عنده لا ينقص البتة كما قال تعالى : ? ما عندكم ينفد وما عند الله باق ? ( النحل : 96) . فإن البحر إذا غمس فيه إبرة ، ثم أخرجت لم ينقص من البحر بذلك شيء قال الطيبي : لما لم يكن ما ينقصه المخيط محسوسا ولا معتدا به عند العقل ، بل كان في حكم العدم كان أقرب المحسوسات وأشبهم بإعطاء حوائج الخلق كافة ، فإنه لا ينقص مما عنده شيئا . وقال النووي قال العلماء : هذا تقريب إلى الأفهام ، ومعناه لا ينقص شيئا أصلا كما

(16/33)


قال في الحديث الآخر : لا يغيضها نفقة . أي لا ينقصها نفقة لأن ما عند الله لا يدخله نقص ، وإنما يدخل النقص المحدود الفاني وعطاء الله تعالى من رحمته وكرمه وهما صفتان قديمتان لا يتطرق إليهما نقص ، فضرب المثل بالمخيط في البحر لأنه غاية ما يضرب في المثل في القلة ، والمقصود التقريب إلى الأفهام بما شاهدوه فإن البحر من أعظم المرئيات عيانا وأكبرها ، والإبرة من أصغر الموجودات مع أنها صقيلة لا يتعلق بها ماء - انتهى . قلت : قد تبين في الحديث الذي أخرجه الترمذي وابن ماجة السبب الذي لأجله لا ينقص ما عند الله بالعطاء بقوله : (( ذلك بأني جواد وأجد ما جد أفعل ما أريد عطائي كلام وعذابي كلام وإنما أمري لشيء إذا أردت أن أقول له كن فيكون )) وهذا مثل قوله تعالى : ? إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ? ( يس : 82) فهو سبحانه إذا أراد شيئا من عطاء أو عذاب أو غير ذلك قال له
يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه . رواه مسلم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/34)


كن فيكون ، فكيف يتصور أن ينقص هذا ، وكذلك إذا أراد أن يخلق شيئا قال له : كن فيكون ( إنما هي ) أي القصة ( أعمالكم أحصيها ) أي أحفظها وأكتبها ( عليكم ) قال القاري : كذا في الأصول المعتمدة يعني من المشكاة بلفظ : عليكم وهو المناسب للمقام . ووقع في أصل ابن حجر لكم . وقال وفي نسخة عليكم . قلت : والذي في صحيح مسلم لكم ، وهكذا وقع في جامع الأصول (ج11 : ص349) وفي شرح الأربعين النووية لابن رجب وفي الجامع الصغير للسيوطي ، والترغيب للمنذري فهو المعتمد . قال القاري : وقال الطيبي : قوله : أعمالكم أي جزاء أعمالكم تفسير للضمير المهم . وقيل : هو راجع إلى ما يفهم من قوله : ( على أتقى قلب رجل ، وعلى أفجر قلب رجل ) وهو الأعمال الصالحة والطالحة يعني أنه سبحانه يحصي أعمال عباده ثم يوفيهم إياها بالجزاء عليها ( ثم أوفيكم إياها ) بتشديد الفاء من التوفية ، وهي إعطاء الحق على التمام أي أعطيكم جزاء أعمالكم يوم القيامة وافيا تاما إن خيرا فخير وإن شر فشر ، وهذا كقوله تعالى : ? فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ? ( الزلزلة : 7 ، 8) وقوله : ? ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ? ( الكهف : 49) وقوله : ? يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ? وقوله : ? يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه ? ( فمن وجد خيرا ) أي : توفيق خير من ربه وعمل خير من نفسه ( فليحمد الله ) أي : على توفيقه إياه للخير لأنه الهادي ( ومن وجد غير ذلك ) أي : شرا ولم يصرح به تحقيرا له وتنفيرا عنه ( فلا يلومن إلا نفسه ) لأنه صدر من نفسه أو لأنه باق على ضلاله الذي أشير إليه بقوله

(16/35)


كلكم ضال قاله القاري . وقال العلقمي : إن الطاعات التي يترتب عليها الثواب والخير بتوفيق الله عز وجل فيجب حمده على التوفيق والمعاصي التي يترتب عليها العقاب والشر ، وإن كانت بقدر الله وخذلانه العبد فهي كسب للعبد فليلم نفسه لتفريطه بالكسب القبيح . وقال ابن رجب : قوله : (( ثم أوفيكم إياها )) الظاهر إن المراد توفيتها يوم القيامة كما قال تعالى : ? وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ? ويحتمل أن المراد يوفي عباده جزاء أعمالهم في الدنيا والآخرة . ثم بسط شرح قوله : (( فمن وجد خيرا )) إلخ . على هذين الاحتمالين من أحب الوقوف عليه رجع إلى شرحه للأربعين النووية ( رواه مسلم ) في البر والصلة من رواية سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر ، وفي آخره قال سعيد بن عبد العزيز : كان أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه ، وأخرجه مسلم أيضا من رواية قتادة عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن أبي ذر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروى عن ربه عز وجل : إني حرمت على نفسي الظلم وعلى عبادي فلا تظالموا . قال مسلم
2350- (5) وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا ثم خرج يسأل ، فأتى راهبا فسأله فقال : أله توبة ؟ قال : لا . فقتله . وجعل يسأل ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/36)


: وساق أي : أبو أسماء الحديث بنحوه ، وحديث أبي إدريس أتم منه - انتهى . قلت رواه أحمد (ج5 : ص160) من طريق قتادة عن أبي قلابة عن أبي أسماء وساقه بلفظه ، وأخرجه أحمد (ج5 : ص154 : 177) ، والترمذي ، وابن ماجة ، والبيهقي من رواية : شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي ذر ويأتي لفظه في الفصل الثاني
2350- قوله : ( كان في بني إسرائيل رجل ) قال الحافظ : لم أقف على اسمه ولا على اسم أحد من الرجال ممن ذكر في القصة ( قتل تسعة وتسعين إنسانا ) زاد الطبراني من حديث أبي معاوية بن أبي سفيان كلهم ظلما ( ثم خرج يسأل ) أي عن التوبة والاستغفار ، وفي رواية هشام عن قتادة عند مسلم فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب ( فأتى راهبا ) الراهب واحد رهبان النصارى ، وهو الخائف والمتعبد المتنزل عن الخلق ، وفيه إشعار بأن ذلك وقع بعد رفع عيسى عليه السلام ، فإن الرهبانية إنما ابتداعها أتباعه كما نص عليه في القرآن ( فسأله فقال ) أي : القاتل ( أله ) أي : لهذا الفعل أو لهذا الفاعل ( توبة ) بعد هذه الجريمة العظيمة ، وقوله : (( أله توبة )) كذا في جميع نسخ المشكاة الحاضرة عندنا . قال القاري : وفي نسخة يعني من المشكاة كما في نسخة المصابيح ألي توبة . قلت : في المصابيح الموجودة عندنا من طبعة بولاق 1294 فقال له : هل لي توبة . وليس في البخاري الهمزة ففي أصل الحافظ له توبة . قال الحافظ : بحذف أداة الاستفهام ، وفيه تجريد أو التفات ، لأن حق السياق أي مقتضى الظاهر أن يقول : ألي توبة . - انتهى . وفي أصل العيني والقسطلاني فقال له : هل من توبة . قال العيني : يعني فقال للراهب : هل من توبة لي . وقال القسطلاني : سقط لأبوي ذر والوقت لفظة من فتوبة رفع ، وفي رواية مسلم أنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة ( قال ) أي : الراهب في جوابه ( لا ) أي : لا توبة له أو لك بعد أن قتلت تسعة وتسعين إنسانا وأفتاه بذلك لغلبة الخشية عليه

(16/37)


، واستبعاده إن تصح توبته بعد قتله لمن ذكر أنه قتله بغير حق ( فقتله ) وكمل به مائة . قال القاري : لعله لكونه أوهمه إنه لا يقبل له توبة منها وإن رضي مستحقوه . وقيل : لأن فتياه اقتضت عنده أن لا نجاة له فيئس من الرحمة ثم تداركه الله فندم على ما صنع فرجع يسأل . وفيه إشارة إلى قلة فطنة الراهب لأنه كان من حقه التحرز ممن اجترأ على القتل حتى صار له عادة بأن لا يواجهه بخلاف مراده ، وأن يستعمل معه المعاريض مداراة عن نفسه هذا لو كان الحكم عنده صريحا في عدم قبول توبة القاتل فضلا عن أن الحكم لم يكن عنده إلا مظنونا ( وجعل ) في البخاري ( فجعل ) ( يسأل ) أي من
فقال له رجل : إيت قرية كذا وكذا ، فأدركه الموت فناء بصدره نحوها ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فأوحى الله إلى هذه أن تقربي وإلى هذه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/38)


الناس ليدلوه على من يأتي إليه فيسأله عن قبول توبته ( فقال له رجل ) عالم بعد أن سأله فقال : إني قتلت مائة إنسان فهل لي من توبة ، فقال : نعم ومن يحول بينك وبين التوبة . ففي رواية هشام : فسأل عن أعلم أهل الأرض ، فدل على رجل عالم فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة ، فقال : نعم ومن يحول بينه وبين التوبة ، ( إئت قرية كذا ) باسمها ( وكذا ) بوصفها أي القرية الفلانية التي أهلها صلحاء وتب إلى الله واعبده معهم فقصد تلك القرية . وفي رواية هشام : انطلق إلى أرض كذا وكذا ، فإن بها أناسا يعبدون الله تعالى فاعبد الله تعالى معهم ، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى إذا نصف الطريق ( أي بلغ نصفها ) أتاه الموت . واسم هذه القرية نصرة وأما القرية المأتي منها فاسمها كفرة كما عند الطبراني بإسناد جيد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص . قال النووي : قوله انطلق إلى أرض كذا وكذا إلخ ، فيه استحباب مفارقة التائب المواضع التي أصاب بها الذنوب والأخدان المساعدين على ذلك ومقاطعتهم ما داموا على حالهم ، وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح والعلماء والمتعبدين الورعين ، ومن يقتدي بهم وينتفع بصحبتهم ويتأكد بذلك توبته ( فأدركه الموت ) أي إماراته وسكراته فالفاء عطف على محذوف أي فقصدها وسار نحوها وقرب من وسط طريقها فأدركه الموت ( فناء ) بنون ومد وبعد الألف همزة أي نهض ومال ( بصدره نحوها ) أي إلى ناحية القرية التي توجه إليها للتوبة والعباد ، أي ثم مات . قال الحافظ : هذا هو المعروف في هذا الحديث وحكى بعضهم فيه فنأى بغير مد قبل الهمزة وبإشباعها بوزن سعى ، وتقول نأى ينأى نأيا أي بعد ، وعلى هذا فالمعنى فبعد بصدره عن الأرض التي خرج منها ووقع في رواية هشام ما يشعر بأن قوله فناء بصدره إدراج فإنه قال في آخر الحديث . قال قتادة : ( راوي الحديث عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد ) قال الحسن : ذكر لنا أنه لما أتاه

(16/39)


الموت نأى بصدره ( فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ) زاد في رواية هشام : فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله . وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيرا قط فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال : قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له . قال النووي : قياس الملائكة ما بين القريتين وحكم الملك الذي جعلوه بينهم محمول على أن الله تعالى أمرهم عند اشتباه أمره عليهم واختلافهم فيه أن يحكموا رجلا ممن يمر بهم فمر الملك في صورة رجل فحكم بذلك ( فأوحى الله إلى هذه ) أي إلى القرية التي توجه إليها وقصدها للتوبة وهي نصرة ( أن تقربي ) أي من الميت بفتح التاء وتشديد الراء وكلمة أن تفسيرية لما في الوحي من معنى القول : ( وإلى هذه ) أي إلى القرية التي خرج منها وهي كفرة ، وقوله : (( إلى هذه )) كذا في جميع نسخ المشكاة . ووقع في البخاري وأوحى إلى هذه أي بزيادة وحى قبل
أن تباعدي ، فقال : قيسوا ما بينهما . فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له . متفق عليه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/40)


إلى هذه ( أن تباعدي ) بفتح التاء أي عن الميت ( فقال ) وفي البخاري وقال : قال القاري : أي الله كما في نسخة يعني من المشكاة ( قيسوا ) الخطاب للملائكة المتخاصمين أي قدروا ( ما بينهما ) أي بين القريتين فقيس ( فوجد ) بضم الواو مبنيا للمفعول أي الميت المتنازع فيه ( إلى هذه ) أي القرية التي توجه إليها وهي نصرة ( أقرب ) بفتح الموحدة ( بشبر ) في رواية هشام : فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ، ( فغفر له ) وفي رواية هشام : فقبضته ملائكة الرحمة . وفي رواية معاذ عن شعبة عند مسلم أيضا : فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها بشبر فجعل من أهلها . قال الحافظ في الحديث : مشروعية التوبة من جميع الكبائر حتى من قتل الأنفس ، ويحمل على أن الله تعالى إذا قبل توبة القاتل تكفل برضا خصمه ، قال الطيبي إذا رضي الله عن عبده أرضى خصومه . ورد مظالمه ، ففي الحديث ترغيب في التوبة ومنع الناس عن اليأس ورجاء عظيم لأصحاب العظائم : وقال عياض في الحديث : إن التوبة تنفع من القتل كما تنفع من سائر الذنوب وهو وإن كان شرعا لمن كان قبلنا ، وفي الاحتجاج به خلاف لكن ليس هذا موضع الخلاف ، لأن موضع الخلاف إذا لم يرد في شرعنا تقريره وموافقته ، وأما إذا ورد فهو شرع لنا بلا خلاف ، ومن الوارد في ذلك قوله تعالى : ? إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ? ( النساء : 48) فكل ما دون الشرك يجوز أن يغفر له ، ومنه حديث عبادة بن الصامت ففيه بعد قوله : ولا تقتلوا النفس وغير ذلك من المنهيات (( فمن أصاب من ذلك شيئا فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه )) متفق عليه . وأما قوله تعالى : ? ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزآؤه جهنم خالدا فيها ? ( النساء : 93) فمعناه أنه يستحق أن يجازى بذلك ، وقد أخبر الله بفضله أنه لا يخلد من مات موحدا فيها فلا يخلد هذا ،

(16/41)


ولكن قد يعفي عنه فلا يدخل النار أصلا ، وقد لا يعفي عنه بل يعذب كسائر العصاة الموحدين ، ثم يخرج معهم إلى الجنة , ولا يلزم من كونه يستحق أن يجازى بعقوبة مخصوصة أن يتحتم ذلك الجزاء والله أعلم . وفيه : إن المفتي قد يجيب بالخطأ وفيه : فضل التحول من الأرض التي يصيب الإنسان فيها المعصية لما يغلب بحكم العادة على مثل ذلك ، إما لتذكره لأفعاله الصادرة قبل ذلك والفتنة بها ، وإما لوجود من كان يعينه على ذلك ويحضه عليه . وفيه : فضل العالم على العابد لأن الذي أفتاه أولا بأن لا توبة له غلبت عليه العبادة فاستعظم وقوع ما وقع من ذلك القاتل من استجراءه على قتل هذا العدد الكثير . وأما الثاني : فغلب عليه العلم فأفتاه بالصواب ودله على طريق النجاة . وفيه : إن للحاكم إذا تعارضت عنده الأحوال وتعذرت البينات أن يستدل بالقرائن على الترجيح . ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في ذكر بني إسرائيل ، ومسلم في التوبة واللفظ للبخاري ، وأخرجه أيضا أحمد (ج3 : ص20 : 72) ، وابن ماجة في الديات ، وابن حبان في صحيحه ، وفي الباب عن عبد الله بن عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان ذكرهما
2351- (6) وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم . رواه مسلم .
2352- (7) وعن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10 : ص211 ، 212) ، والمنذري في الترغيب .

(16/42)


2351- قوله : ( لو لم تذنبوا ) أي أيها المكلفون أو أيها المؤمنون ( لذهب الله بكم ) الباء للتعدية كما في قوله ( ولجاء بقوم ) أي لأذهبكم وأفناكم وأظهر قوما آخرين من جنسكم أو من غيركم ( يذنبون ) أي يمكن وقوع الذنب منهم ويقع بالفعل عن بعضهم ( فيستغفرون الله ) أي فيتوبون أو يطلبون المغفرة مطلقا ( فيغفر لهم ) لاقتضاء صفة الغفار ، والغفور ذلك ، ولذا قال الله تعالى : ? استغفروا ربكم إنه كان غفارا ? ( نوح : 10) ولاستلزام هذه الصفة الإلهية وجود المعصية في الأفراد البشرية ، والمعنى لو كنتم معصومين كالملائكة لذهب بكم ، وجاء بممن يأتي منهم الذنوب لئلا يتعطل صفات الغفران والعفو ، فلا تجرئة فيه على الانهماك في الذنوب . قال التوربشتي :لم يرد هذا الحديث مورد تسلية المنهمكين في الذنوب وتوهين أمرها على النفوس وقلة الاحتفال منهم بمواقعتها على ما يتوهمه أهل الغرة بالله ، فإن الأنبياء صلوات الله عليهم إنما بعثوا ليردعوا الناس عن غشيان الذنوب واسترسال نفوسهم فيها ، بل ورد مورد البيان لعفوا الله عن المذنبين وحسن التجاوز عنهم ، ليعظموا الرغبة في التوبة والاستغفار ، والمعنى المراد من الحديث هو إن الله تعالى كما أحب أن يحسن إلى المحسن أحب أن يتجاوز عن المسيء ، وقد دل على ذلك غير واحد من أسماءه الغفار الحليم التواب العفو ، فلم يكن ليجعل العباد شأنا واحدا كالملائكة مجبولين على التنزه من الذنوب ، بل يخلق فيهم من يكون بطبعه ميالا إلى الهوى مفتتنا ومتلبسا بما يقتضيه ، ثم يكلفه التوقي عنه ويحذره عن مداناته ويعرفه التوبة بعد الابتلاء ، فإن وفى فأجره على الله وإن اخطأ الطريق فالتوبة بين يديه ، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنكم لو كنتم مجبولين على ما جبلت عليه الملائكة لجاء الله بقوم يتأتى منهم الذنب ، فيتجلى عليهم بتلك الصفات على مقتضى الحكمة ، فإن الغفار يستدعي مغفورا كما

(16/43)


أن الرزاق يستدعي مرزوقا - انتهى . وقد تقدم نحو هذا الكلام لابن القيم فتذكر . ( رواه مسلم ) في التوبة ، وأخرجه أيضا أحمد (ج2 : ص309) ، والحاكم (ج4 : ص246) ، وفي الباب عن أبي أيوب عند أحمد ، ومسلم ، والترمذي وعن عبد الله ابن عمرو عند الحاكم (ج2 : ص246) .
2352- قوله : ( إن الله يبسط يده ) قيل : بسط اليد عبارة عن الطلب لأن عادة الناس إذا طلب أحدهم شيئا من أحدهم بسط إليه كفه ، والمعنى يدعو المذنبين إلى التوبة ( بالليل ليتوب مسيء النهار ) أي لا يعاجلهم
ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها . رواه مسلم .
2353- (8) وعن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/44)


بالعقوبة بل يمهلم ليتوبوا ( ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ) وقال النووي : معناه يقبل التوبة من المسيئين نهارا وليلا حتى تطلع الشمس من مغربها ، ولا يختص قبولها بوقت فبسط اليد استعارة في قبول التوبة ، قال المازري : المراد به قبول التوبة ، وإنما ورد لفظ بسط اليد لأن العرب إذا رضي أحدهم الشيء بسط يده لقبوله ، وإذا كرهه قبضها عنه ، فخوطبوا بأمر حسي يفهمونه وهو مجاز ، فإن يد الجارحة مستحيلة في حق الله تعالى - انتهى . وقيل : البسط عبارة عن التوسع في الجود والعطاء والتنزه عن المنع ، وفي الحديث تنبه على سعة رحمته وكثرة تجاوزه . وقال الطيبي : هو تمثيل يدل على أن التوبة مطلوبة عنده محبوبة لديه كأنه يتقاضاها من المسيء ، ( حتى تطلع الشمس من مغربها ) فحينئذ يغلق باب التوبة قال تعالى : ? يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها ? (الأنعام : 185) الآية ، قال ابن الملك : مفهوم هذا الحديث وأشباهه يدل على أن التوبة لا تقبل بعد طلوع الشمس من المغرب إلى يوم القيامة . ( رواه مسلم ) في التوبة ، وأخرجه أيضا أحمد (ج4 : ص395 : 404) ونسبه في الكنز (ج4 : ص128) لابن أبي شيبة ، وأحمد ، ومسلم ، والنسائي ، وأبي الشيخ في العظمة والبيهقي في الأسماء .

(16/45)


2353- قوله : ( إن العبد إذا اعترف ) أي : بذنبه ، قال القاري : أي : أقر بكونه مذنبا وعرف ذنبه ( ثم تاب ) أي من ذنبه إلى الله . قال القاري : أي أتي بأركان التوبة من الندم والخلع والعزم والتدارك ( تاب الله عليه ) أي : قبل توبته لقوله تعالى : ? وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ? ( الشوري : 25) قال الطيبي : وحقيقته إن الله يرجع عليه برحمته - انتهى . والحديث قطعة من حديث طويل من حديث الإفك وقبلها قال : أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا عائشة ؟ إنه قد بلغني عنك كذا وكذا ( هو كناية عما رميت به من الإفك ) ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه . إلخ . قال الداودي : أمرها بالاعتراف ولم يندبها إلى الكتمان للفرق بين أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهن فيجب على أزواجه الاعتراف بما يقع منهن ولا يكتمنه إياه ، فإنه لا يحل لنبي إمساك من يقع منها ذلك بخلاف نساء الناس فإنهن ندبن إلى الستر . وتعقبه عياض بأنه ليس في الحديث ما يدل على ذلك ولا فيه أنه أمرها بالاعتراف ، وإنما أمرها أن تستغفر الله وتتوب إليه أي فيما بينها وبين ربها ، فليس صريحا في الأمر لها بأن تعترف عند الناس بذلك ، قال الحافظ : وسياق جواب عائشة ( بقولها (( والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم
. متفق عليه .
2354- (9) وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه . رواه مسلم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/46)


وصدقتم به ، فلئن قلت لكم : إني بريئة والله يعلم إني بريئة لا تصدقوني بذلك ، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم إني منه بريئة لتصدقني )) . ) يشعر بما قاله الداودي لكن المعترف عنده ليس على إطلاقه فليتأمل ، ويؤيد ما قال عياض : إن في رواية يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن الطبراني قالت ، فقال لي أبي إن كنت صنعت شيئا فاستغفري الله وإلا ، فأخبري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعذرك - انتهى . قلت : ويرجح ما قال عياض إن في رواية للبخاري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا عائشة إن كنت قارفت سوءا وظلمت فتوبي إلى الله ، فإن الله يقبل التوبة عن عباده . ( متفق عليه ) هذا طرف من حديث الإفك الطويل أخرجه البخاري في باب تعديل النساء بعضهن بعضا من الشهادات ، وفي غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع من المغازي ، وفي تفسير سورة النور ، وأخرجه مسلم في التوبة ، وأخرجه أيضا أحمد ، وأخرج ابن جرير الطبري ، والترمذي بنحوه .

(16/47)


2354- قوله : ( من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها ) إلخ هذا هو المراد من قوله : ? يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ? ( الأنعام : 158) الآية ، لكن الآية مختصة بعدم قبول الإيمان ، والحديث يدل على عدم قبول التوبة مطلقا سواء كانت من الكفر أو من المعصية ، وفيه اختلاف بين العلماء فتدبر كذا في اللمعات ، ( تاب الله عليه ) أي : قبل توبته ورضي بها ، قال النووي : هذا أي : طلوع الشمس من المغرب حد لقبول التوبة ، وقد جاء في الحديث الصحيح إن للتوبة بابا مفتوحا فلا تزال مقبولة حتى يغلق ، فإذا طلعت الشمس من مغربها أغلق وامتنعت التوبة على من لم يكن تاب قبل ذلك ، وهو معنى قوله تعالى : ? يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ? (الأنعام : 158) وللتوبة حد آخر ، وهو أن يتوب قبل الغرغرة كما جاء في الحديث الصحيح ، وأما في حالة الغرغرة وهي حالة النزع فلا تقبل توبته ولا غيرها ، لأن المعتبر هو الإيمان بالغيب ولا تنفذ وصيته ولا غيرها . ( رواه مسلم ) في الدعاء ، وأخرجه أيضا أحمد (ج2 : ص275) ، وعبد الرزاق ، وابن جرير في تفسيرهما ، ونقله ابن كثير في التفسير عن الطبري ، ثم قال : لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة وعليه في هذا استدراك فإنه في صحيح مسلم كما ترى فلا ينبغي في هذا أن يوصف بأنه لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة وأغرب مما صنع ابن كثير صنيع الحافظ الهيثمي ، فإنه ذكره في مجمع الزوائد (ج10 : ص98) باللفظ الذي في صحيح مسلم ، ثم قال : رواه الطبراني في الأوسط وفيه الحسن بن أبي جعفر وهو ضعيف .

(16/48)


2355- (10) وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2355- قوله : ( لله ) بلام التأكيد المفتوحة ( أشد فرحا ) قيل : الفرح في مثل هذا كناية عن الرضاء وسرعة القبول وحسن الجزاء لتعذر ظاهره عليه تعالى ( بتوبة عبده ) أي أرضى بتوبة عبده المؤمن وأقبل لها ( حين يتوب إليه من أحدكم ) أي من فرح أحدكم وسروره ورضاه ، قيل : الفرح المتعارف في نعوت بني آدم غير جائز على الله تعالى ، لأنه اهتزاز طرب يجده الشخص في نفسه عند ظفره بغرض يستكمل به نقصانه أو يسد به خلته أو يدفع به عن نفسه ضرارا أو نقصانا ، وإنما كان غير جائز عليه تعالى لأنه الكامل بذاته الغني بوجوده الذي لا يلحقه نقص ولا قصور . وإنما معناه الرضا . والسلف فهموا منه ومن أشباهه الترغيب في الأعمال والأخبار عن فضل الله ، وأثبتوا هذه الصفات لله تعالى ولم يشتغلوا بتفسيرها مع اعتقادهم تنزيهه تعالى عن صفات المخلوقين وأما من اشتغل بالتأويل فله طريقان . أحدهما : أن التشبيه مركب عقلي من غير نظر إلى مفردات التركيب ، بل تؤخذ الزبدة والخلاصة من المجموع وهي غاية الرضا ونهايته . وإنما إبراز ذلك في صورة التشبيه تقرير المعنى الرضا في نفس السامع وتصويرا لمعناه . وثانيهما : تمثيلي وهو أن يتوهم للمشبه الحالات التي للمشبه به وينتزع له منها ما يناسبه حالة حالة بحيث لم يختل منها شيء يعني إنه من باب التمثيل وهو أن يشبه الحال الحاصلة بتنجيز الرضا والإقبال على العبد التائب بحال من كان في المفازة على الصورة المذكورة في الحديث ، ثم يترك المشبه ويذكر المشبه به . قال القرطبي : هذا مثل قصد به بيان سرعة قبول الله توبة عبده التائب وإنه يقبل عليه بمغفرته ويعامله معاملة من يفرح بعمله ، ووجه هذا

(16/49)


المثل إن المعاصي حصل بسبب معصيته في قبضة الشيطان وأسره ، وقد أشرف على الهلاك فإذا لطف الله به ووفقه للتوبة خرج من شوم تلك المعصية وتخلص من أسر الشيطان ومن المهلكة التي أشرف عليها فأقبل الله عليه بمغفرته وبرحمته ، وإلا فالفرح الذي هو من صفات المخلوقين محال على الله تعالى ( كما تقدم بيانه ) لكن هذا الفرح عند ثمرة وفائدة ، وهو الإقبال على الشيء المفروح به وإحلاله المحل الأعلى ، وهذا هو الذي يصح في حقه تعالى فعبر عن ثمرة الفرح بالفرح على طريقة العرب في تسمية الشيء باسم ما جاوره أو كان منه بسبب - انتهى . والحاصل إن إطلاق الفرح في حقه تعالى مجاز عن رضاه وقد يعبر عن الشيء بسبه أو عن ثمرته الحاصلة عنه ، فإن من فرح بشيء جاد لفاعله بما سأل ، وبذل له ما طلب فعبر عن عطاءه تعالى وواسع كرمه بالفرح . وقال الطيبي : المراد كمال الرضا لأن الفرح المتعارف لا يجوز عليه تعالى ، والمتقدمون من أهل الحديث فهموا من أمثال ذلك ما يرغب في الأعمال الصالحة ويكشف عن فضل الله تعالى على عباده مع كونه منزها عن صفات المخلوقين ولم يفتشوا عن معاني هذه الألفاظ ، وهذه الطريقة السليمة . وقلما يزيغ عنه قدم الراسخ . وقال التوربشتي : هذا القول وأمثاله إذا أضيف إلى الله سبحانه ، وقد عرف أنه مما يتعارفه الناس في نعوت بني آدم على
كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/50)


ما تقدم في غير هذا الموضع ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد بيان المعاني الغيبية ولم يطاوعه فيه لفظ موضوع لذلك ، فله أن يأتي فيه بما يتضح دونه المعنى المراد ، ولما أراد أن يبين أن التوبة منهم يقع عند الله بأحسن موقع عبر عنه بالفرح الذي عرفوه من أنفسهم في أسنى الأشياء وأحبها إليهم ، ليهتدوا إلى المعنى المراد منه ذوقا ومالا ، وذلك بعد أن عرفهم أن إطلاق تلك الألفاظ في صفات الله تعالى على ما يتعارفونه في نعوتهم غير جائز ولا يجوز لأحد أن يتعاطى هذا النوع في كلامه ويتسع فيه إلا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه يجوز له ما لا يجوز لغيره لبراءه نطقه عن الهوى ، ولأنه لا يقدم على ذلك إلا بإذن من الله ، وهذه رتبة لا تنبغي إلا له صلى الله عليه وسلم - انتهى . قلت : كل صفة وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي صفة حقيقة لا مجاز ، فهو تعالى يسمع ويبصر ويتكلم بما شاء متى شاء ويرضى ويسخط ويعجب ويفرح بتوبة عبده ، ومعنى كل ذلك معلوم والكيف مجهول ، فنثبت له ذلك كله ولا نكيفه ولا نشبهه بصفات المخلوقين ولا نؤوله ولا نعطله . قال شيخنا : لا حاجه إلى التأويل ومذهب السلف في أمثال هذا الحديث إمرارها على ظواهرها من غير تكييف ولا تشبيه ولا تأويل هذا . وقد تقدم في أول الباب ما ذكره ابن القيم في بيان معنى هذا الحديث فراجعه ( كان راحلته ) قال القاري : وفي نسخة يعني من المشكاة كانت راحلته . قلت : والذي في صحيح مسلم ( كان على راحلته ) ، وهكذا نقله المنذري ، والجزري ، والراحلة البعير الذي يركبه الإنسان ويحمل عليه متاعه ( بأرض فلاة ) بالإضافة وبتنوين أي بمفازة ليس فيها ما يؤكل ويشرب ( فانفلتت ) أي : نفرت وفرت ( وعليها ) أي على ظهر ( طعامه وشرابه ) يعني يكون حزنه على غاية الشدة بذهاب الراحلة وخوف هلاك نفسه من عدم الزاد والماء ( فأيس ) من باب سمع ( منها ) أي : من وجدان

(16/51)


الراحلة بعد طلبها ( قد أيس من راحلته ) أي : من حصولها ووصولها وهي جملة حالية ( فبينما ) كذا في جميع النسخ من المشكاة وفي صحيح مسلم فبينا ( هو كذلك ) أي : في هذا الحال منكسر البال ( إذ هو بها قائمة عنده ) إذ للمفاجأة وقائمة حال من الضمير المجرور ، أي : إذ الرجل حاضر بتلك الراحلة حال كونها قائمة عنده من غير تردد في طلبها ، وعليها زاده طعامه وشرابه ( فأخذ بخطامها ) بكسر المعجمة أي زمامها فرحا بها فرحا لا نهاية له ( ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح ) كرره لبيان عذره وسبب صدوره يعني أراد أن يحمد الله بما أنعم عليه من رد راحلته إليه وقصد أن يقول اللهم أنت ربي وأنا عبدك ، فسبق
. رواه مسلم .
2356- (11) وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن عبدا أذنب ذنبا فقال : رب أذنبت فاغفره . فقال ربه : أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ؟ غفرت لعبدي ثم مكث ما شاء الله ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/52)


لسانه عن نهج الصواب وأخطأ ، وقال اللهم أنت عبدي وأنا ربك من غاية الفرح ، فكان أن فرح هذا الرجل على غاية الشدة فكذلك رضاء الله توبة عبده . قال عياض : فيه إن ما قاله الإنسان من مثل هذا في حال دهشته وذهوله لا يؤاخذ به ، وكذا حكايته عنه على طريق علمي وفائدة شرعية لا على الهزل والمحاكاة والعبث ، ويدل على ذلك حكاية النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ولو كان منكرا ما حكاه والله أعلم . ( رواه مسلم ) في التوبة ، وأخرجه البخاري في أوائل الدعوات مختصرا ، وفي الباب عن البراء بن عازب والنعمان بن بشير عند أحمد ، ومسلم ، والحاكم وعن أبي سعيد عند أحمد ، وابن ماجة ، وعن أبي مسعود عند أحمد ، والشيخين ، وسيأتي في الفصل الثالث ، وعن أبي هريرة عند أحمد ، ومسلم ، والترمذي ، وابن ماجة .

(16/53)


2356- قوله : ( إن عبدا ) أي : من هذه الأمة أو من غيرهم ( أذنب ذنبا ) وفي البخاري إن عبدا أصاب ذنبا . قال الحافظ : كذا تكرر هذا الشك ( أي : روي بالشك ها هنا وفي المواضع الآتية ) في هذا الحديث من هذا الوجه ( أي : من رواية همام بن يحيى عن إسحاق بن عبد الله عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة ) ولم يقع في رواية حماد بن سلمة يعني رواه حماد بن سلمة عن إسحاق عند مسلم بلفظ : عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يحكي عن ربه عز وجل قال : أذنب عبد ذنبا ولم يشك ، وكذا في بقية المواضع ولفظ الكتاب للبخاري إلا أن المصنف اقتصر على أحد اللفظين بالجزم تبعا للبغوي ( فقال ) ظاهره أنه عطف على أذنب . وقال الطيبي : خبر إن إذا كانت اسمها نكرة موصوفة ذكره القاري ( رب ) أي يا رب ( أذنبت ) أي : ذنبا ، وفي البخاري أذنبت ، وربما قال أصبت أي بالشك ( فاغفره ) أي : الذنب وقوله فاغفره كذا لأبي ذر ، وللكشميهني فاغفر لي قاله القسطلاني ( فقال ربه ) أي : للملائكة ( أعلم عبدي ) بهمزة الاستفهام والفعل الماضي وللأصيلى علم بحذف الهمزة . وقال الطيبي : قوله : (( أعلم )) قيل : إما استخبار من الملائكة ، وهو أعلم به للمباهاة ، وإما الاستفهام للتقرير والتعجيب ، وإنما عدل عن الخطاب وهو قوله : (( أعلمت عبدي . إلى الغيبة شكرا لصيغة إلى غيره وإحمادا له على فعله ( إن له ربا يغفر الذنب ) أي إذ شاء لمن شاء ، ( ويأخذ به ) أي يؤاخذ ويعاقب فاعله إذ شاء لمن شاء وفي رواية حماد ويأخذ بالذنب ( غفرت لعبدي ) أي ذنبه ( ثم مكث ) بفتح الكاف وضمها ( ما شاء الله ) أي من الزمان ،

(16/54)


ثم أذنب ذنبا فقال : رب أذنبت ذنبا فاغفره . فقال : أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ؟ غفرت لعبدي ثم مكث ما شاء الله ، ثم أذنب ذنبا فقال : رب أذنبت ذنبا آخر فاغفره لي فقال : أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ؟ غفرت لعبدي . فليفعل ما شاء .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/55)


وسقط هذا من رواية حماد ( ثم أذنب ذنبا ) آخر ، وفي البخاري ثم أصاب ذنبا أو أذنب ذنبا ، وفي رواية حماد ثم عاد فأذنب ( فقال : رب أذنبت ذنبا ) أي : آخر ، وفي البخاري أصبت أو أذنبت آخر ( فاغفره ) لي وللأصيلي فاغفر لي ( فقال ) ربه : ( أعلم عبدي ) وللأصيلي علم بحذف الهمزة ( إن له ربا يغفر الذنب ) تارة ( ويأخذ به ) أي يعاقب فاعله عليه أخرى ( ثم مكث ما شاء الله ) من الزمان ( ثم أذنب ذنبا ) آخر ، وفي البخاري بعده وربما قال : أصاب ذنبا ( قال ) وفي بعض النسخ فقال : ( رب أذنبت ذنبا آخر ) أي : من جنسه أو من غير جنسه ، وفي البخاري : ( رب أصبت أو قال أذنبت آخر ) . قال القسطلاني : كذا بالشك في هذه المواضع المذكورة كلها في هذا الحديث من هذا الوجه ورواه حماد عن إسحاق عند مسلم ولم يشك ( غفرت لعبدي ) وزاد في رواية غير أبي ذر : (( ثلاثا )) قال القسطلاني : أي : غفرت لعبدي الذنوب الثلاثة . وقال القاري في شرح الحصن : قوله : ثلاثا ليس ظرفا لقوله : غفرت كما يتبادر إلى الوهم بل بيان لما وقع من تكرار السؤال والجواب والحديث بين العبد والرب ( فليفعل ) قال القاري : وفي نسخة يعني من المشكاة وهي كما في المصابيح فليعمل : قلت وهكذا وقع في البخاري وكذا نقله المنذري في الترغيب والجزري في الحصن ، وهكذا وقع عند أحمد (ج2 : ص296) ( ما شاء ) أي : من الذنب المعقب بالتوبة الصحيحة ، ففيه أن التوبة الصحيحة لا يضر فيها نقص بالذنب ثانيا بل مضت على صحتها ويتوب من المعصية الثانية . وهكذا قال المنذري : قوله (( فليعمل ما شاء )) معناه إذ كان هذا دأبه يذنب الذنب فيتوب منه ويستغفر فليفعل ما شاء لأنه كلما أذنب كانت توبته واستغفاره كفارة لذنبه فلا يضره . لا أنه يذنب الذنب فيستغفر منه بلسانه من غير إقلاع ثم يعاوده ، فإن هذه توبة الكذابين ويدل له قوله ثم أصاب ذنبا آخر - انتهى . وفي رواية حماد : اعمل ما شئت فقد غفرت لك

(16/56)


. قال النووي : معناه ما دمت تذنب ثم تتوب غفرت لك . وقال الطيبي : أي اعمل ما شئت ما دمت تذنب ثم تتوب فإني أغفر لك . وهذه العبارة تستعمل في مقام السخط كقوله تعالى : ? اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير ? ( فصلت : 40) وليس هذا المعنى مرادا ها هنا ، وفي مقام التلطف والحفاوة بالمخاطب وإظهار العناية والشفقة به كما في هذا الحديث وفي قوله في حديث حاطب بن أبي بلتعة : لعل الله اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفر لكم ، وكما تقول لمن تحبه وهو يؤذيك اصنع ما شئت فلست بتارك ذلك ، وليس المراد من ذلك الحث على الفعل بل إظهار الحفاوة والتلطف -
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/57)


انتهى . قلت : قد أشكل على كثير من الناس معنى قوله : فليعمل ما شاء كما أشكل عليهم معنى قوله المذكور في حديث حاطب ، فإن ظاهره إباحة كل الأعمال لأهل بدر وتخييرهم فيما شاءوا منها ، وذلك ممتنع ، وقد أجيب عن ذلك بوجوه منها ما قال ابن القيم في الفوائد (ص16) : إن هذا خطاب لقوم قد علم الله سبحانه أنهم لا يفارقون دينهم بل يموتون على الإسلام وأنهم قد يقارفون بعض ما يقارفه غيرهم من الذنوب ، ولكن لا يتركهم سبحانه مصرين عليها ، بل يوفقهم لتوبة نصوح واستغفار وحسنات تمحو أثر ذلك ، ويكون تخصيصهم بهذا دون غيرهم ، لأنه قد تحقق ذلك فيهم وإنهم مغفور لهم ، ولا يمنع ذلك كون المغفرة حصلت بأسباب تقوم بهم كما لا يقتضي ذلك أن يعطلوا الفرائض وثوقا بالمغفرة ، فلو كانت قد حصلت بدون الاستمرار على القيام بالأوامر لما احتاجوا بعد ذلك إلى صلاة ولا صيام ولا حج ولا زكاة ولا جهاد وهذا محال ، ومن أوجب الوجبات التوبة بعد الذنب فضمان المغفرة لا يوجب تعطيل أسباب المغفرة ، ونظير هذا قوله في الحديث الآخر : أذنب عبد ذنبا فقال : أي : رب أذنبت ذنبا فاغفره لي فغفره له الحديث . وفيه : (( قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء )) فليس في هذا إطلاق وإذن منه سبحانه له في المحرمات والجرائم . وإنما يدل على أنه يغفر له ما دام كذلك إذا أذنب وتاب ، واختصاص هذا العبد بهذا لأنه قد علم أنه لا يصر على ذنب وإنه كلما أذنب تاب ، حكم يعم كل من كانت حاله حاله لكن ذلك العبد مقطوع له بذلك ، كما قطع به لأهل بدر ، وكذلك كل من بشره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة أو أخبره بأنه مغفور له لم يفهم منه هو ولا غيره من الصحابة إطلاق الذنوب والمعاصي له ومسامحته بترك الواجبات بل كان هؤلاء أشد اجتهادا وحذرا وخوفا بعد البشارة منهم قبلها كالعشرة المشهود لهم بالجنة وقد كان الصديق شديد الحذر والمخافة ، وكذلك عمر فإنهم علموا أن البشارة المطلقة مقيدة

(16/58)


بشروطها والاستمرار عليها إلى الموت ومقيدة بانتفاء موانعها ولم يفهم أحد منهم من ذلك الإطلاق الإذن فيما شاءوا من الأعمال انتهى . قال النووي : في هذا الحديث أن الذنوب لو تكررت مائة مرة بل ألفا أو أكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته أو تاب عن الجميع توبة واحدة صحت توبته . وقال القرطبي في المفهم : هذا الحديث يدل على عظم فائدة الاستغفار وكثرة فضل الله وسعة رحمته وحلمه وكرمه ، لكن هذا الاستغفار هو الذي يثبت معناه في القلب مقارنا للسان لتنحل به عقدة الإصرار ، ويحصل معه الندم وهو ترجمة للتوبة ، ويشهد له حديث خياركم كل مفتن تواب أي الذي يتكرر منه الذنب والتوبة ، فكلما وقع في الذنب عاد إلى التوبة لا من قال أستغفر الله بلسانه وقلبه مصر على تلك المعصية ، فهذا الذي استغفاره يحتاج إلى استغفار ، وفي حديث ابن عباس عند ابن أبي الدنيا مرفوعا : (( التائب من الذنب كمن لا ذنب له )) والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه ، ولكن الراجح إن قوله : والمستهزئ إلى آخره موقوف . قال القرطبي : وفائدة هذا الحديث إن العود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتداءه لأنه
. متفق عليه .
2357- (12) وعن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث أن رجلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/59)


أضاف إلى ملابسة الذنب نقض التوبة لكن العودة إلى التوبة أحسن من ابتدائها ، لأنه إن ضاف إليها ملازمة الطلب من الكريم والإلحاح في سؤاله والاعتراف بأنه لا غافر للذنب سواه . وقال ابن بطال : في هذا الحديث إن المصر على المعصية في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له مغلبا لحسنته التي جاء بها ، وهي اعتقاد أن له ربا خالقا يعذبه يغفر له واستغفاره إياه على ذلك يدل عليه قوله تعالى : ? من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ? ( الأنعام : 160) ولا حسنة أعظم من التوحيد ، فإن قيل : إن استغفار ربه توبة منه ، قلنا ليس الاستغفار أكثر من طلب المغفرة ، وقد يطلها المصر والتائب . ولا دلالة في الحديث على أنه تاب مما سأل الغفران عنه ، لأن حد التوبة الرجوع عن الذنب ، والعزم على أن لا يعود إليه والإقلاع عنه والاستغفار بمجرده لا يفهم منه ذلك ، وقال غيره شروط التوبة ثلاثة : الإقلاع ، والندم ، والعزم على أن لا يعود إليه ، والتعبير بالرجوع عن الذنب لا يفيد معنى الندم بل هو إلى معنى الإقلاع أقرب . قال بعضهم : يكفي في التوبة تحقق الندم على وقوعه منه ، فإنه يستلزم الإقلاع عنه ، والعزم على عدم العود فهما ناشئان عن الندم لا أصلان معه . ومن ثم جاء الحديث الندم توبة وهو حديث حسن من حديث ابن مسعود أخرجه ابن ماجة وصححه الحاكم ، وأخرجه ابن حبان من حديث أنس وصححه . ومن شاء مزيد الكلام في ذلك فليرجع إلى مدارج السالكين (ج1: ص88) وإلى باب التوبة من أوائل كتاب الدعوات من الفتح ، فإنه قد استوفى البحث في ذلك هناك وقال السبكي في الحلبيات : الاستغفار طلب المغفرة إما باللسان أو بالقلب أو بهما فالأول : فيه نفع لأنه خير من السكوت ولأنه يعتاد قول الخير ، والثاني نافع جدا ، والثالث أبلغ منه لكن لا يمحصان الذنب ( أي : قطعا وجزما ) حتى توجد التوبة منه فإن العاصي المصر يطلب المغفرة لا يستلزم ذلك وجود التوبة إلى

(16/60)


أن قال : والذي ذكرته إن معنى الاستغفار غير معنى التوبة هو بحسب وضع اللفظ لكنه غلب عند كثير من الناس إن لفظ استغفر الله معناه التوبة ، فمن كان ذلك معتقده فهو يريد التوبة لا محالة ، ثم قال وذكر بعضهم إن التوبة لا تتم إلا بالاستغفار لقوله تعالى ? وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ? ( هود : 3) والمشهود إنه لا يشترط - انتهى ملخصا من فتح الباري . ( متفق عليه ) . أخرجه البخاري في باب قول الله : يريدون أن يبدلوا كلام الله من كتاب التوحيد ومسلم في التوبة ، وأخرجه أيضا أحمد (ج2 : ص296) ، وابن السني (ص117) ، والحاكم (ج3 ص242) ونسبه في الحصن للنسائي أيضا .
2357- قوله : ( حدث ) أي : حكى لأصحابه ( إن رجلا ) يحتمل أنه من هذه الأمة أو من غيرهم
قال : والله لا يغفر الله لفلان وأن الله تعالى قال : من ذا الذي يتألى علي أني لا أغفر لفلان فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك أو كما قال . رواه مسلم .
2358- (13) وعن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سيد الاستغفار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/61)


( قال : والله لا يغفر الله لفلان ) قاله استكثارا أو استكبارا لذنبه أو تعظيما لنفسه حين جنى عليه كما يصدر عن بعض جهلة الصوفية قاله القاري : ( وأن الله تعالى ) بفتح الهمزة أي وحدث أن الله تعالى وبكسرها أي والحال إن الله تعالى ( قال : من ذا الذي يتألى علي ) بفتح الهمزة وتشديد اللام المفتوحة أي : يتحكم علي ويحلف باسمي من الألية اليمين ، يقال : آلى يؤلى إيلاء وائتلى يأتلى إيتلأ وتألى يتألى أي : حلف والاسم الألية ( إني لا أغفر لفلان ) وهذا استفهام إنكار فلا يجوز لأحد الجزم بالجنة أو النار أو عدم المغفرة إلا لمن ورد فيه النص ( فإني قد غفرت لفلان ) أي رغما لأنفك ( وأحبطت عملك ) قال المظهر : أي : أبطلت قسمك وجعلت حلفك كاذبا ، لما ورد في حديث آخر من يتأل على الله يكذبه ( أي : من حكم وحلف نحو والله ليدخل الله فلانا النار أبطل قسمه وجعل حلفه كاذبا ) فلا متمسك للمعتزلة إن ذا الكبيرة مع عدم الاستحلال يخلد في النار كالكفر يحبط عمله . وقال النووي : في الحديث دلالة لمذهب أهل السنة في غفران الذنوب بلا توبة إذا شاء الله غفرانها ، واحتجت المعتزلة به في إحباط الأعمال بالمعاصي الكبائر . ومذهب أهل السنة إنها لا تحبط إلا بالكفر ، ويتأول حبوط عمل هذا على أنه سقطت حسناته في مقابلة سيئاته ، فسمي إحباطا مجازا ، ويحتمل أنه جرى منه أمر آخر أوجب الكفر ، ويحتمل أن هذا كان في شرع من كان قبلنا وكان هذا حكمهم - انتهى . وقيل : هو محمول على التغليظ . قال في اللمعات : قوله : (( من ذا الذي يتألى علي )) في هذه العبارة تخويف وتهديد شديد وفي صورة الغيبة دون أن يقول : أنت الذي تتألى ، دلالة على التهديد لكل من يتألى من غير خصوصية بالمخاطب ، ثم خاطبه بأنك إذا حلفت علي فأعلم إني قد غفرت له على رغم أنفك وأحبطت عملك جزاء على ما قلت : ( أو كما قال ) شك الراوي أي : قال الرسول أو غيره ما ذكرته ، أو قال : مثل ذلك

(16/62)


. وهو تنبيه على النقل بالمعنى لئلا يتوهم نقل اللفظ أيضا . قال النووي : ينبغي للراوي وقارئ الحديث إذا اشتبه عليه لفظه فقرأها على الشك أن يقول : عقيبه (( أو كما قال )) وكذا يستحب لمن روى بالمعنى أن يقول بعده (( أو كما قال )) أو (( نحو هذا )) كما فعلته الصحابة فمن بعدهم . والله أعلم . وقد روى الدارمي في مسنده في باب من هاب الفتيا مخافة السقط آثارا كثيرة في ذلك فمن شاء فليرجع إليه . ( رواه مسلم ) في البر والصلة والأدب .
2358- قوله : ( سيد الاستغفار ) قال العزيزي : أي : أفضل أنواع صيغ الاستغفار يعني الأكثر ثوابا
أن تقول : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/63)


عند الله . قلت : ترجم البخاري لهذا الحديث بقوله باب أفضل الاستغفار . قال الحافظ : ترجم بالأفضلية ، ووقع الحديث بلفظ السيادة فكأنه أشار إلى أن المراد بالسيادة الأفضلية ، ومعناها الأكثر نفعا لمستعمله يعني إن النفع والثواب للمستغفر به لا للاستغفار نفسه والمراد المستغفر بهذا النوع من الاستغفار أكثر ثوابا من المستغفر بغيره فهو نحو مكة أفضل من المدينة ، أي ثواب العابد فيها أفضل من ثواب العابد في المدينة ، ووجه كون هذا الاستغفار كذلك مما لا يعرف بالعقل ، وإنما هو أمر مفوض إلى الذي قرر الثواب على الأعمال . وقال الطيبي : لما كان هذا الدعاء جامعا لمعاني التوبة كلها . وقد سبق أن التوبة غاية الاعتذار استعير له اسم السيد ، وهو في الأصل الرئيس المقدم الذي يقصد في الحوائج ، ويرجع إليه في الأمور . قال ابن أبي جمرة : جميع هذا الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ ما يحق له أن يسمى بسيد الاستغفار ففيه الإقرار لله وحده بالإلهية ولنفسه بالعبودية ، والاعتراف بأنه الخالق والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه والرجاء بما وعده به والاستعاذة من شر ما جنى به العبد على نفسه وإضافة النعم إلى موجدها وإضافة الذنب إلى نفسه ووفور رغبة في المغفرة ، واعترافه بأنه لا يقدر على ذلك إلا هو فهذا الاستغفار جامع لما يجب على العبد أن يقربه ويعترف ويدعو ويستغفر ( أن تقول ) بالمثناة الفوقية أي أيها المخاطب خطابا عاما أو أيها الراوي . قال القسطلاني : بصيغة المخاطب في الفرع . وقال الحافظ : قوله : أن يقول أي العبد ، وثبت في رواية أحمد (ج4 : ص122) ، والنسائي : إن سيد الاستغفار أن يقول العبد ، وللترمذي من رواية عثمان بن ربيعة عن شداد : ألا أدلك على سيد الاستغفار ، وفي حديث جابر عند النسائي : تعلموا سيد الاستغفار . قلت : رواية الترمذي تؤيد كونه بصيغة المخاطب : ( لا إله إلا أنت خلقتني ) ويروى : لا إله ألا أنت ، أنت خلقتني ) .

(16/64)


قال الحافظ : كذا في نسخة معتمدة بتكرير أنت وسقطت الثانية من معظم الروايات . قيل : قوله : (( خلقتني )) استئناف بيان للتربية ( وأنا عبدك ) أي مخلوقك ومملوكك وهو حال كقوله : ( وأنا على عهدك ووعدك ) أي أنا مقيم على الوفاء بعهد الميثاق وأنا موقن بوعدك يوم الحشر والتلاق أو بوعدك بالثواب للمؤمنين على لسان الرسل ( ما استطعت ) أي قدر استطاعتي ، فما مصدرية ، والمضاف مقدر . وقال الخطابي : يريد أنا على ما عاهدتك عليه وواعدتك من الإيمان بك وإخلاص الطاعة لك ما استطعت من ذلك ، ويحتمل أن يريد أنا مقيم على ما عاهدت إلي ومتمسك به ومتنجز وعدك في المثوبة والأجر عليه ، واشتراط الاستطاعة في ذلك معناه الاعتراف بالعجز والقصور من كنه الواجب في حقه تعالى . أي لا أقدر أن أعبدك حق عبادتك ولكن أجتهد بقدر طاقتي . وقيل : أراد بالعهد ما أخذه الله على عباده حيث أخرجهم أمثال الذر ? وأشهدهم على أنفسهم
أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . قال : ومن قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة . ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/65)


ألست بربكم ? ( الأعراف : 172) فأقروا له بالربوبية وأذعنوا له بالوحدانية ، وبالوعد ما قال على لسان نبيه إن من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ( أبوء لك بنعمتك علي ) بضم الموحدة وسكون الواو بعدها همزة ممدودا أي اعترف بها من قولهم باء بحقه أي أقر به ، وأصله البواء ومعناه اللزوم ومنه بوأه الله منزلا إذا أسكنه فكأنه ألزمه به ( وأبوء بذنبي ) أي : أعترف به . وقيل : معناه احتمله برغمي لا أستطيع صرفه عني من قولهم باء فلان بذنبه إذا احتمله كرها لا يستطيع دفعه عن نفسه . قال القسطلاني : ولأبي ذر عن الكشميهني : وأبوء لك بذنبي ، وفي رواية الترمذي : وأعترف بذنوبي . قال الطيبي : واعترف أولا بأنه أنعم عليه ولم يقيده ليشمل كل النعم ، ثم اعترف بالتقصير وإنه لم يقم بأداء شكرها وعده ذنبا مبالغة في التقصير وهضم النفس – انتهى . قال الحافظ : ويحتمل أن يكون قوله : وأبوء لك بذنبي اعترافا بوقوع الذنب مطلقا ليصح الاستغفار منه لا أنه عد ما قصر فيه من أداء شكر النعم ذنبا ( فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ) يؤخذ منه أن من اعترف بذنبه غفر له ، وقد وقع صريحا في حديث الإفك الطويل ، وفيه كما تقدم قبل أربعة أحاديث (( العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله إليه )) وهذا الاعتراف فيما بينه وبين ربه لا عند الناس ، لأنه يحب الستر والكتمان عن الناس إذا اقترف ذنبا هو يستطيع أن يكتمه ( قال ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ومن قالها ) أي : هذه الكلمات ( من النهار ) أي : في بعض أجزاءه ، وفي رواية النسائي : فإن قالها حين يصبح ، وللترمذي : لا يقولها أحدكم حين يمسي فيأتي عليه قدر قبل أن يصبح أو حين يصبح فيأتي عليه قدر قبل أن يمسى ( موقنا بها ) . أي : مخلصا من قلبه مصدقا بثوابه . وقال القاري : أي : حال كونه معتقدا لجميع مدلولها إجمالا أو تفصيلا ( فمات من يومه قبل أن يمسي ) أي : قبل

(16/66)


الغروب ( فهو من أهل الجنة ) أي : يموت مؤمنا فيدخل الجنة أو مع السابقين أو بغير عذاب أو هو بشارة بحسن الخاتمة ، وفي رواية الترمذي : إلا وجبت له الجنة ، وفي رواية النسائي : دخل الجنة . قال السندي : أي : ابتداء وإلا فكل مؤمن يدخل الجنة بإيمانه ، وهذا فضل من الله تعالى . وقال الكرماني : فإن قيل المؤمن وإن لم يقلها فهو من أهل الجنة . قلت : المراد أنه يدخلها ابتداء من غير دخول النار لأن الغالب أن الموقن بحقيقتها المؤمن بمضمونها لا يعصي الله تعالى أو إن الله يعفو عنه ببركة هذا الاستغفار ، فإن قلت : فما الحكمة في كونه سيد الاستغفار ؟ قلت : هذا وأمثاله من التعبديات والله أعلم بذلك لكن لا شك أن فيه ذكر الله تعالى أكمل الأوصاف وذكر العبد نفسه بأنقص الحالات وهي أقصى غاية التضرع ونهاية الاستكانة لمن لا يستحقها إلا هو
. رواه البخاري .
الفصل الثاني
2359- (14) وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله تعالى يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي ، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/67)


أما الأول فلما فيه من الاعتراف بوجود الصانع وتوحيده الذي هو أصل الصفات العدمية المسماة بصفات الجلال والاعتراف بالصفات السبعة الوجودية المسماة بصفات الإكرام وهي القدرة اللازمة من الخلق الملزومة للإرادة والعلم والحياة . والخامسة الكلام اللازم من الوعد والسمع والبصر واللازمان من المغفرة إذا المغفرة للمسموع والمبصر لا يتصور إلا بعد السماع والإبصار . وأما الثاني فلما فيه أيضا من الاعتراف بالعبودية وبالذنوب في مقابلة النعمة التي تقتضي نقيضها وهو الشكر - انتهى . وقال ابن أبي جمرة : من شروط الاستغفار صحة النية والتوجه والأدب فلو أن أحدا حصل الشروط واستغفر بغير هذا اللفظ الوارد واستغفر آخر بهذا اللفظ الوارد لكن أخل بالشروط هل يستويان ؟ فالجواب إن الذي يظهر أن اللفظ إنما يكون سيد الاستغفار إذا جمع الشروط المذكورة والله أعلم . ( رواه البخاري ) في أوائل الدعوات ، وأخرجه أيضا في الأدب المفرد ، وأخرجه أحمد (ج4 : ص122 : 125) ، والنسائي في الاستعاذة وفي اليوم والليلة ، والترمذي في الدعوات ، والحاكم (ج2 : ص458) وفي الباب عن بريدة عند أحمد ، وأبي داود في الأدب ، والنسائي ، وابن ماجة في الدعاء ، وعن جابر عند النسائي ، وابن السني (ص128) ونسبه في الكنز لعبد بن حميد وابن أبي شيبة أيضا .

(16/68)


2359- قوله : ( إنك ما دعوتني ورجوتني ) ما مصدرية ظرفية ، أي : مادمت تدعوني وترجوني يعني في مدة دعائك ورجائك ( غفرت لك ) ذنوبك ( على ما كان فيك ) أي من المعاصي وإن تكررت وكثرت ( ولا أبالي ) أي بكثرة ذنوبك وخطاياك ولا يتعاظمني ذلك ولا أستكثره يعني لا يعظم على مغفرتك ، وإن كانت ذنوبك كثيرة فذنوب العبد ، وإن كثرت وعظمت فإن عفو الله ومغفرته أعظم منها وأعظم . فهي صغيرة في جنب عفو الله ومغفرته . قال القاري : ولا أبالي أي والحال إني لا أتعظم مغفرتك علي وإن كان ذنبا كبيرا أو كثيرا . قيل : لأن الدعاء مخ العبادة وهو سؤال النفع والصلاح والرجاء يتضمن حسن الظن بالله تعالى ، والله عز وجل يقول : أنا عند ظن عبدي بي . وعند ذلك تتوجه رحمة الله إلى العبد ، وإذا توجهت لا يتعاظمها شيء لأنها وسعت كل شيء . قال الطيبي : في قوله ولا أبالي معنى لا يسأل عما يفعل ( لو بلغت ذنوبك عنان السماء ) بفتح العين المهلة وبنونين
ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم ، إنك لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/69)


خفيفتين أي سحابها واحدها عنانة . وقيل : عنان السماء ما عن ( بتشديد النون ) لك منها أي ظهر لك منها إذا رفعت رأسك إلى السماء ونظرتها وما انتهى إليه البصر منها . وقال الطيبي : العنان السحاب وإضافتها إلى السماء تصوير لارتفاعه وأنه بلغ مبلغ السماء يعني لو تجسمت ذنوبك وملأت الأرض والفضاء بكثرتها وعظمتها حتى ارتفعت إلى السماء ( ثم استغفرتني غفرت لك ) هو نظير قوله تعالى : ? ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ? ( النساء :110) ( لو لقيتني ) كذا في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة ، والذي في الترمذي لو أتيتني وهكذا في المصابيح ، والترغيب ، والحصن ، والجامع الصغير ، والكنز ، ومدارج السالكين ، والظاهر إن ما وقع في نسخ المشكاة خطأ من الناسخ ( بقراب الأرض ) بضم القاف ، ويكسر والضم أشهر . أي بما يقارب ملأها وقيل : أي يملأها وهو أشبه أي هو المراد هنا لأن الكلام في سياق المبالغة ، ويؤيده ما وقع في آخر حديث أبي ذر عند أحمد وقراب الأرض ملأ الأرض ( خطايا ) تمييز أي : بتقدير تجسمها ( ثم لقيتني ) أي مت حال كونك ( لا تشرك بي شيئا ) أي معتقدا توحيدي مصدقا برسولي محمد - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به وهو الإيمان . قال القاري : قوله لا تشرك بي شيئا . الجملة حال من الفاعل أو المفعول على حكاية الحال الماضية لعدم الشرك وقت اللقي ( لأتيتك بقرابها مغفرة ) تمييز أيضا وعبر به للمشاكلة وإلا فمغفرة الله أبلغ وأوسع لا يجوز الاغترار به وإكثار المعاصي ، فالمراد الحث على الاستغفار والتوبة ، وإن الله يقبل توبة التائب ويغفر له وإن كثرت ذنوبه قال الطيبي : ثم هذه للتراخي في الإخبار وإن عدم الشرك مطلوب أولى ، ولذلك قال لقيتني وقيد به وإلا لكان يكفي أن يقال خطايا لا تشرك بي . قال القاري : فائدة القيد أن يكون موته على التوحيد - انتهى . قال ابن رجب

(16/70)


في شرح الأربعين : قد تضمن حديث أنس هذا إن هذه الأسباب الثلاثة يحصل بها المغفرة أحدها : الدعاء مع الرجاء . والثاني : الاستغفار ولو عظمت الذنوب وبلغت الكثرة عنان السماء . والثالث : التوحيد وهو السبب الأعظم فمن فقده فقد المغفرة ، ومن جاء به فقد أتي بأعظم أسباب المغفرة . قال الله تعالى : ? إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ? ( النساء : 116) فمن جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة لكن هذا مع مشيئة الله عز وجل فإن شاء غفر له وإن شاء أخذه بذنوبه ، ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار بل يخرج منها ، ثم يدخل الجنة قال بعضهم : الموحد لا يلقى في النار كما يلقى الكفار ولا يبقى فيها كما يبقى الكفار فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله فيه وقام بشروطه كلها بقلبه ولسانه وجوارحه ، أو بقلبه ولسانه عند الموت أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلها ، ومنعه من دخول النار بالكلية فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أخرجت منه كل ما سوى الله محبة
رواه الترمذي .
2360- (15) ورواه أحمد والدارمي عن أبي ذر ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب .
2361- (16) وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال الله تعالى : من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/71)


وتعظيما وإجلالا ومهابة وخشية ورجاء وتوكلا ، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها ولو كانت مثل زبد البحر ، وربما قلبتها حسنات فإن هذا التوحيد هو الأكسير الأعظم فلو وضع ذرة منه على جبال الذنوب والخطايا لقلبها حسنات - انتهى . وارجع إلى مدارج السالكين (ج1 : ص183 ، 184) فإنه قد أسهب الكلام في إيضاح ذلك بما لا مزيد عليه هذا . وقد بسط ابن رجب الكلام في شرح السببين الأولين وإيراد ما يناسب المقام ويتعلق به عقب ذكر كل واحد منهما فليرجع إليه من شاء ( رواه الترمذي ) في الدعوات من طريق كثير بن فائد عن سعيد بن عبيد الهنائي عن بكر بن عبد الله المزني عن أنس ، وقال حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه - انتهى . قال ابن رجب : وإسناده لا بأس به . وقال الدارقطني : تفرد به كثير بن فائد عن سعيد مرفوعا ، ورواه مسلم بن قتيبة عن سعيد بن عبيد فوقفه عن أنس . قال ابن رجب : روي عنه مرفوعا وموقوفا وتابعه على رفعه أبو سعيد مولى بني هاشم فرواه عن سعيد بن عبيد مرفوعا أيضا ، وقد روي أيضا من حديث ثابت عن أنس مرفوعا ولكن قال أبو حاتم : هو : منكر - انتهى . ونسب الحديث في الكنز للضياء أيضا .

(16/72)


2360- قوله : ( ورواه أحمد ) (ج5 : ص167 : 172) ، ( والدارمي ) في الرقاق (ص375) كلاهما من طريق شهر بن حوشب عن معدي كرب عن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرويه عن ربه فذكرا معنى حديث أنس ، ورواه أحمد (ج5 : ص154) أيضا مختصرا من رواية شهر عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي ذر وفي الباب عن ابن عباس أخرجه الطبراني في معاجيمه الثلاثة . قال الهيثمي : وفيه إبراهيم بن إسحاق الصيني قيس بن الربيع وكلاهما مختلف فيه ، وبقية رجاله رجال الصحيح - انتهى . وعن أبي الدرداء أخرجه الطبراني في الكبير ( وقال الترمذي : هذا ) أي : حديث أنس ( حسن غريب ) قد تقدم أن ابن رجب قال : إسناده لا بأس به وأنه تابع كثير بن فائد على رفعه أبو سعيد مولى بني هاشم فرواه عن سعيد بن عبيد مرفوعا أيضا .
2361 - قوله : ( من علم أني ذو قدرة ) أي : أذعن وتحلى قلبه بأني ذو قدرة ( على مغفرة الذنوب غفرت له ) قال الطيبي : دل هذا الحديث على أن اعتراف العبد بذلك سبب للغفران وهو نظير قوله : أنا عند ظن عبدي بي - انتهى . وظاهر كلامه هذا أنه يغفر له وإن لم يستغفر . وقيل : معنى الحديث من علم أني ذو قدرة على
ولا أبالي ، ما لم يشرك بي شيئا . رواه في شرح السنة .
2362- (17) وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا ومن كل هم فرجا ورزقه من حيث لا يحتسب .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/73)


مغفرة الذنوب أي واستغفرني غفرت له . قلت : وإلى الأول مال الشوكاني كما يدل عليه كلامه في تحفة الذاكرين عند شرح حديث أنس السابق ، حيث قال : بل ورد ما يدل على أن العبد إذا أذنب فعلم أن الله تعالى إن شاء أن يعذبه عذبه وإن شاء أن يغفر له غفر له كان ذلك بمجرده موجبا للمغفرة من الله سبحانه وتعالى تفضلا منه ورحمة ، كما في حديث أنس عند الطبراني في الأوسط . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أذنب ذنبا فعلم أن الله عز وجل إن شاء عذبه وإن شاء غفر له كان حقا على الله أن يغفر له . وفي إسناده جابر بن مرزوق الجدي وهو : ضعيف قال : ومثل هذا غير مستبعد من الفضل الرباني والتطول الرحماني فهو الذي يغفر ولا يبالي ( ولا أبالي ) قال العلقمي : أي بذنوبك لأنه سبحانه وتعالى لا حجر عليه فيما يفعل ولا معقب لحكمه ولا مانع لعطاءه ( ما لم يشرك بي شيئا ) لأن الشرك لا يغفر إلا بالإيمان والتوبة ( رواه ) أي : البغوي : ( في شرح السنة ) أي : بإسناده ونسبه في الجامع الصغير للطبراني في الكبير والحاكم . قلت : أخرجه الحاكم (ج4 : ص262) من طريق حفص بن عمر العدني عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس فذكره . وقال : حديث صحيح الإسناد ، وتعقبه الذهبي فقال العدني : واه .

(16/74)


2362 - قوله : ( من لزم الاستغفار ) أي عند صدور معصية أو داوم عليه فإنه في كل نفس يحتاج إليه ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - : ( طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا ) . وسيأتي في الفصل الثالث واللفظ المذكور لأبي داود ، وابن ماجة ، وابن حبان ، ورواه أحمد ، والنسائي ، وابن السني ، والحاكم بلفظ : من أكثر من الاستغفار . وهذا يؤيد المعنى الثاني ( من كل ضيق ) الضاد ويفتح أي شدة ومحنة . وقيل : أي أمر شديد عسير يضيق به القلب ( مخرجا ) مصدر أو ظرف أي طريقا يخرجه إلى سعة ومنحة بسبب كثرة الاستغفار ولزومه . والجار متعلق به وقدم عليه للاهتمام وكذا ( ومن كل هم ) أي : غم وحزن وقلق ( فرجا ) بفتحتين وهو بالجيم أي خلاصا من فرج الله الغم عنه كفرجه كشفه وأذهبه ، والفرجة مثلثة التفصي والخلوص من الشدة والهم والاسم الفرج محركة ( ورزقه ) أي حلالا طيبا ( من حيث لا يحتسب ) أي من وجه لا يظن ولا يرجو ولا يخطر بباله . قال الجزري : أي من حيث لا يعلم ولا كان في حسابه - انتهى . وفي الحديث إيماء إلى قوله تعالى : ? ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه ? ( الطلاق 2 ، 3) ولما لكان لا يخلو المتقي
رواه أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/75)


وغيره من التقصير كما ورد : كل بني آدم خطاؤن وخير الخطائين التوابون . أشار - صلى الله عليه وسلم - إليه في تعبيره بملازمة الاستغفار إيماء إلى أن العاصي إذا استغفر صار متقيا ، وهذا جزاء المتقي لا محالة . قال الطيبي : من داوم الاستغفار وأقام بحقه كان متقيا وناظرا إلى قوله تعالى : ? فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ? ( نوح 10 : 12) ففيه دليل على أن بالاستغفار يحصل كل شيء ، ويؤيد هذا ما ذكره الثعلبي إن رجلا أتى الحسن البصري رح فشكا إليه الجدوبة فقال له الحسن : استغفر الله ، وأتاه آخر فشكا إليه الفقر ، فقال له : استغفر الله ، وأتاه آخر فقال : ادع الله أن يرزقني ابنا ، فقال : استغفر الله ، وأتاه آخر فشكا إليه جفاف بساتينه ، فقال له : استغفر الله ، فقيل : له أتاك رجال يشكون أبوابا ويسألون أنواعا فأمرتهم كلهم بالاستغفار فقال : ما قلت من ذات نفسي في ذلك شيء إنما اعتبرت فيه قول الله عز وجل حكاية عن نبيه نوح عليه السلام إنه قال لقومه : ? استغفروا ربكم ? الآية ( رواه أحمد ) (ج1 : ص248) ، ( وأبو داود ) في أواخر الصلاة ، ( وابن ماجة ) في فضل الذكر وأخرجه أيضا النسائي ، وابن السنى (ص118 ، 119) ، وابن حبان ، والحاكم (ج1 : ص262) ، والبيهقي كلهم من رواية الحكم بن مصعب عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده عبد الله بن عباس . قال الحاكم : حديث صحيح الإسناد ، ونقل المنذري في الترغيب قول الحاكم وأقره . وقال في تهذيب السنن : في إسناده الحكم بن مصعب ولا يحتج به . وقال في رجال الترغيب : الحكم بن مصعب صويلح الحديث لم يرو عنه غير الوليد بن مسلم في ما علم وذكره ابن حبان في الثقات وفي الضعفاء أيضا . وقال يخطئ -

(16/76)


انتهى . وقال الذهبي في تلخيص المستدرك : قلت : الحكم فيه جهالة - انتهى . وقال الحافظ في التقريب : الحكم بن مصعب المخزمي مجهول ، ووافق الشيخ أحمد شاكر الحاكم حيث قال في شرح المسند (ج4 : ص55) : إسناده صحيح الحكم بن مصعب . قال أبو حاتم : مجهول . وذكره ابن حبان في الثقات ، وقال : يخطئ وذكره أيضا في الضعفاء . وقال : (( لا يجوز الاحتجاج به ولا الرواية عنه إلا على سبيل الاعتبار )) قال الحافظ في التهذيب : (( وهو تناقض صعب )) والذي أراه إنه إن جهله أبو حاتم فقد عرفه غيره وإن تناقض فيه ابن حبان فلا يؤخذ بكلامه فإن البخاري عرفه وترجمه في الكبير (1/2/336) . قال : (( الحكم بن مصعب القرشي : سمع محمد بن علي بن عبد الله بن عباس سمع منه الوليد بن مسلم )) فلم يذكر فيه جرحا فهو ثقة عنده خصوصا وإنه لم يذكره هو ولا النسائي في الضعفاء وأما قول المنذري في مختصر السنن في حق الحكم : أنه لا يحتج به فهو غلو منه شديد - انتهى . قلت : الحكم هذا ليس له عندهم إلا فرد حديث . وهو حديث لزوم الاستغفار ولم يرو عنه إلا الوليد بن مسلم ورجل آخر على ما قاله ابن حبان ولم يصرح أحد بتوثيقه ، وليس هو من الرواة المعروفين المشهورين بالعدالة حتى يستغنى عن التوثيق
2363- (18) وعن أبي بكر الصديق قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة . رواه الترمذي ، وأبو داود .
2364- (19) وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل بني آدم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والتعديل ، ففي كون إسناد هذا الحديث صحيحا نظر عندي ، نعم هو ليس ممن لا يقبل حديث في فضائل الأعمال والأذكار بناء على قول المنذري إنه صويلح الحديث . وذكر البخاري له تأريخه من غير جرح والله أعلم .

(16/77)


2363 - قوله : ( ما أصر من استغفر ) كلمة (( ما )) نافية يعني من عمل معصية ثم ندم على ذلك واستغفر منه خرج عن كونه مصرا على المعصية ، لأن المصر هو الذي لم يستغفر ولم يندم على الذنب . قال في النهاية : أصر على الشر لزمه ودوامه وأكثر ما يستعمل في الشر والذنوب ، أي من اتبع ذنبه بالاستغفار فليس بمصر عليه وإن تكرر منه ( وإن عاد ) أي ولو رجع إلى ذلك الذنب أو غيره ، وهذا لفظ أبي داود ، وابن السني ، وللترمذي ولو فعله ( في اليوم ) أو الليلية ( سبعين مرة ) الظاهر أن المراد به التكثير والتكرير والمبالغة لا التحديد ، وليس المراد بالاستغفار التلفيظ بقوله أستغفر الله ، بل المراد الندامة على فعل المعصية والعزم على عدم العود . قال المناوي في شرح هذا الحديث أي : ما أقام على الذنب من تاب توبة صحيحة ، وإن عاد في اليوم سبعين مرة فإن رحمة الله لا نهاية لها فذنوب العالم كلها متلاشية عند عفوه ، وفي الحديث إيماء إلى قوله تعالى : ? والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون * أولئك جزآؤهم مغفرة من ربهم ? ( آل عمران : 135 ، 136) الآية قال الشوكاني : ولم يصروا . أي : لم يقيموا على قبيح فعلهم ، والمراد بالإصرار هنا العزم على معاودة الذنب وعدم الإقلاع عنه بالتوبة منه وقال ابن القيم : الإصرار عقد القلب على ارتكاب الذنب متى ظفر به فهذا الذي يمنع مغفرته ( رواه الترمذي ) في أحاديث شتى من أبواب الدعوات ، ( وأبو داود ) في أواخر الصلاة ، وأخرجه أيضا ابن السني (ص118) كلهم من رواية أبي نصيرة عن مولى لأبي بكر ، عن أبي بكر ، وذكره الشوكاني في فتح القدير (ج1 : ص350) وزاد نسبته لعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبي

(16/78)


يعلى والبيهقي في الشعب وسكت عليه أبو داود . وقال الترمذي : حديث غريب وليس إسناده بالقوي أي لجهالة مولى أبي بكر ، قال في المبهمات من التقريب : أبو نصيرة عن مولى لأبي بكر يقال : هو أبو رجاء وقال في الكنى : منه أبو رجاء مولى أبي بكر الصديق مجهول .
2364 - قوله : ( كل بني آدم ) كذا في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة ، وهكذا في المصابيح وجامع الأصول (ج3: ص70) والكنز ، والجامع الصغير ، وهكذا وقع عند ابن ماجة ، والدارمي ، والحاكم ، والذي في
خطاء وخير الخطائين التوابون . رواه الترمذي ، وابن ماجة ، والدارمي .
2365- (20) وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/79)


الترمذي : كل ابن آدم ، وهكذا وقع في الترغيب ( خطأ ) بتشديد الطاء والمد والتنوين أي كثير الخطأ ، قال السندي : والمراد بالخطأ المعصية عمدا ومطلقا بناء على أنه الخطأ المقابل للصواب دون العمد . قال القاري : أفرد نظرا إلى لفظ الكل ، وفي رواية خطاؤن نظر إلى معنى الكل . قيل : أراد الكل من حيث هو كل أو كل واحد . وأما الأنبياء صلوات الله عليهم فإما مخصوصون عن ذلك ، وإما أنهم أصحاب صغائر ، والأول أولى ، فإن ما صدر عنهم من باب ترك الأولى أو يقال الزلات المنقولة عن بعضهم محمولة على الخطأ والنسيان من غير أن يكون لهم قصد إلى العصيان - انتهى . وقيل : كل بني آدم خطاء أي غالبهم كثير الخطأ ( وخير الخطائين التوابون ) أي : الرجاعون إلى الله بالتوبة من المعصية إلى الطاعة لقوله تعالى : ? إن الله يحب التوابين ? ( البقرة : 222) أي : دون المصرين ، فإن الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة فكيف على الكبيرة . ( رواه الترمذي ) في أواخر الزهد ، ( وابن ماجة ) في ذكر التوبة من أبواب الزهد ( والدارمي ) في الرقاق ، وأخرجه أيضا الحاكم (ج4 : ص244) كلهم من رواية علي بن مسعدة الباهلي عن قتادة عن أنس . قال الترمذي : حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن مسعدة عن قتادة . وقال الحاكم : صحيح الإسناد . وتعقبه الذهبي فقال علي لين : قلت : علي بن مسعدة . قال المنذري : لين الحديث . وقال البخاري : فيه نظر . وقال ابن عدي : أحاديثه غير محفوظة . وقال ابن حبان لا يحتج بما انفرد به . وقال النسائي : ليس بالقوي . وقال أبو حاتم : لا بأس به . وقال ابن معين : صالح . وقال الحافظ : صدوق له أوهام ، فالظاهر إن الحديث لا ينزل عن درجة الحسن والله أعلم . وزاد نسبة الحديث في الجامع الصغير والكنز لأحمد .

(16/80)


2365- قوله : ( إن المؤمن إذا أذنب ) أي ذنبا . كما في رواية الحاكم ( كانت ) أي الذنب يتأول السيئة ( نكتة ) بالنصب على الخبر ، وروي بالرفع على أن كان تامة فيقدر منه أي حدثت من الذنب نكتة ( سوداء ) والنكتة النقطة السوداء في الأبيض ، أو البيضاء في الأسود والأثر الحاصل من نكت الأرض وشبع الوسخ في المرآة والسيف ونحوهما . ( في قلبه ) أي حصلت في قلبه أثر قليل كالنقطة تشبه الوسخ في صقيل كالمرآة والسيف ونحوهما . وقال القاري : أي كقطرة مداد تقطر في القرطاس ، ويختلف على حسب المعصية وقدرها ، والحمل على الحقيقة أولى من جعله من باب التمثيل والتشبيه ، حيث قيل شبه القلب بثوب في غاية النقاء والبياض والمعصية بشيء في غاية
فإن تاب واستغفر صقل قلبه ، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه فذلكم الران الذي ذكره الله تعالى ? كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ?
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/81)


السواد أصاب ذلك الأبيض ، فبالضرورة . أنه يذهب ذلك الجمال منه . وكذلك الإنسان إذا أصاب المعصية صار كأنه حصل ذلك السواد في ذلك البياض - انتهى . واللفظ المذكور لأحمد ، وابن ماجة ، والحاكم ، ولفظ الترمذي إن العبد إذا أخطأ خطيئته نكتت ( بصيغة المجهول من النكت وهو في الأصل أن تضرب في الأرض بقضيب فيؤثر فيها أي جعلت ) في قلبه نكتة سوداء ( فإن تاب ) أي من الذنب ( واستغفر ) أي : وسأل الله المغفرة ، ووقع في المسند ، وابن ماجة ، والمستدرك (ج2 : ص517) لفظ : نزع بعد تاب . وقيل : استغفر أي أقلع عن ذلك وتركه . ولفظ الترمذي : فإذا هو نزع واستغفر وتاب ، والظاهر أنه وقع سقوط لفظ نزع في المشكاة تبعا للمصابيح والله أعلم ( صقل قلبه ) بالصاد المهملة على بناء المفعول من صقله جلاه من باب نصر أي : محا الله تلك النكتة عن قلبه فينجلي ، ويحتمل أن يكون على بناء الفاعل وضميره راجع إلى التائب وفي رواية الترمذي ، والحاكم ، سقل بالسين قال في القاموس : السقل : الصقل ، وقال فيه صقله جلاه - انتهى . والمعنى نظف وصفى مرآة قلبه ، لأن التوبة بمنزلة المصقلة تمحو وسخ القلب وسواده حقيقيا أو تمثيليا ( وإن زاد ) أي في الذنب بعينه أو بغيره من الذنوب ( زادت ) أي النكتة السوداء أو يظهر لكل ذنب نكتة ( حتى تعلو ) أي تغلب النكت ، وفي المسند يعلو بالمثناة التحتية أي يغلب سواد تلك النكتة ، على ( قلبه ) أي تغطية وتغمرة وتستر سائره ، ويصير كله ظلمة فلا يعي خيرا ولا يبصر رشدا ، ولا يثبت فيه صلاح . وفي رواية الترمذي : (( وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه )) يعني : وإن عاد إلى ما اقترفه أو عاد في الذنب ، والخطيئة زيد في النكتة السوداء نكتة أخرى ، وهكذا حتى تطفئ تلك النكت نور قلبه فتغمى بصيرته ( فذلكم ) قيل الخطاب للصحابة أي فذلكم الأثر المستقبح المستعلى هو ( الران الذي ذكر الله ) أي في كتابه وأدخل اللام على ران وهو فعل ، أما

(16/82)


القصد حكاية اللفظ وإجراءه مجرى الاسم ، وإما لتنزيله منزلة المصدر ، وقوله : (( فذلكم الران )) هكذا في جميع نسخ المشكاة ، وكذا وقع في المصابيح ، والذي في المسند (( ذلك الرين )) وفي الترمذي (( وهو الران )) وفي ابن ماجة ، والحاكم (( فذلك الران )) وهكذا نقله المنذري في الترغيب ، والرين والران سواء كالذيم والذام والعيب والعاب ، وأصل الرين الطبع والتغطية والدنس ، وهو أيضا الصدأ الذي يعلو السيف والمرآة . قال أبو عبيد : (( كل ما غلبك وعلاك فقد ران بك ورانك وران عليك ? كلا بل ران على قلوبهم ? أي : غلب واستولى عليها ? ما كانوا يكسبون ? أي : ما اكتسبوه من الذنوب )) . قال الحافظ ابن كثير : أي ليس الأمر كما زعموا ، ولا كما قالوا : إن هذا القرآن أساطير الأولين ، بل هو كلام الله ووحيه وتنزيله على
رواه أحمد ، والترمذي وابن ماجة ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .
2366- (21) عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/83)


رسوله - صلى الله عليه وسلم - . وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرين الذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب والخطايا ، والرين يعتري قلوب الكافرين ، والغيم للأبرار والغين للمقربين - انتهى . قال شيخنا : أصل الران والرين الغشاوة وهو كالصدى على الشيء الثقيل قال الطيبي : الران والرين سواء كالعاب والعيب ، والآية في الكفار إلا أن المؤمن بارتكاب الذنب يشبههم في اسوداد القلب ويزاد ذلك بازدياد الذنب . قال ابن الملك هذه الآية مذكورة في حق الكفار لكن ذكرها - صلى الله عليه وسلم - تخويفا للمؤمنين كي يحترزوا عن كثرة الذنب كيلا تسود قلوبهم كما أسودت قلوب الكفار ، ولذا قيل المعاصي يريد الكفر كذا في المرقاة . رواه أحمد (ج2 : ص297) ، ( والترمذي ) في تفسير سورة المطففين ، ( وابن ماجة ) في ذكر الذنوب من أبواب الزهد ، وذكره الشوكاني في الفتح القدير (ج5 : ص390) وزاد نسبته لعبد بن حميد ، والنسائي ، وابن جرير (ج2: ص62) ، وابن المنذر ، وابن حاتم ، والحاكم (ج1 : ص5 ، و ج2 : ص517) ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان ، وذكره المنذري في الترغيب في موضعين ونسبه لابن حبان أيضا ( وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ) ، وقال الحاكم (ج2 : ص517) : صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي .

(16/84)


2366- قوله : ( إن الله يقبل توبة العبد ) قال القاري : ظاهره الإطلاق ، وقيده بعض الحنفية بالكافر - انتهى . قال شيخنا : والظاهر المعول عليه هو الأول ( ما لم يغرغر ) بغينين معجمتين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة وبراء مكررة من الغرغرة ، أي ما لم تبلغ روحه حلقومه ، فتكون بمنزلة الشيء الذي يتغرغر به المريض والغرغرة أن يجعل المشروب في الفم ويردد إلى أصل الحلق ولا يبلغ ، ويقال لذلك الشيء الذي يتغرغر به الغرور مثل قولهم لعوق ولدود وسعوط والمقصود ما لم يعاين أحوال الآخرة . قال القاري : يعني ما لم يتيقن بالموت فإن التوبة بعد التيقين بالموت لم يعتد بها لقوله تعالى : ? وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار ? ( النساء : 18) قيل : وأما تفسير ابن عباس حضوره بمعاينة ملك الموت فحكم أغلبي لأن كثيرا من الناس لا يراه وكثيرا يراه قبل الغرغرة - انتهى . وقال التوربشتي : الغرغرة تردد الماء وغيره في الحلق والغرغرة صوت معه بحح ويقال الراعي يغرر بصوته أي : يردده في حلقه ويتغرغر صورته في حلقه أي : يتردد ، ومعناه في الحديث تردد النفس في الحلق عند نزع الروح ، وذلك في أول
رواه الترمذي وابن ماجة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/85)


ما يأخذ في سياق الموت . ويكون معنى قوله : ما لم يغرغر ما لم يحضره الموت . فإنه إذا حضره الموت يغرغر بتردد النفس في الحلق فإذا تحقق بالموت ، وانقطاع المدة أي مدة الحياة فتوبته غير معتد بها قال : وإنا إن أنكرنا صحة التوبة ممن حضره الموت فأيقن بالهلاك وتحقق بفوات إمكان المراجعة ، فإنا لا نقول والحمد لله بسد باب الرحمة عنه وتحريم المغفرة عليه ، بل نخاف منه ونرجو له العفو من الله فإن الله تعالى يقول : ? إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ? ( النساء : 48) انتهى . ملخصا . والحاصل إن التوبة عند المعاينة لا تنفع ، لأنها توبة ضرورة لا اختيار قال الله تعالى : ? إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما * وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ? ( النساء : 17 ، 18) الآية ، والتوبة من قريب عند جمهور المفسرين هي التوبة قبل المعاينة أي قبل وقت حضور الموت . قال عكرمة : قبل الموت . وقال الضحاك : قبل معاينة ملك الموت ، فهذا شأن التائب من قريب . وأما إذا وقع في السياق فقال إني تبت الآن لم تقبل توبته ، وذلك لأنها توبة اضطرار لا اختيار فهي كالتوبة بعد طلوع الشمس من مغربها ويوم القيامة وعند معاينة بأس الله . وقيل : معنى التوبة من قريب إنهم يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار . قال في الإحياء : معناه عن قرب العهد بالخطيئة بأن يندم عليها ويمحو أثرها بحسنة تدفعها قبل أن يتراكم الذنب على القلب فلا يقبل المحو ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : أتبع السيئة الحسنة تمحها . قال في هامش مدارج السالكين : اغتر الناس بظواهر أقوال

(16/86)


المفسرين عكرمة ، والضحاك وغيرهما في تفسير الآية ، وحديث ابن عمر وأمثاله فصاروا يسرفون في التوبة ويصرون على المعاصي ، فترسخ في قلوبهم وتأنس بها أنفسهم وتصير ملكات وعادات يتعذر عليهم أو يتعسر على غير الموفق النادر الإقلاع عنها حتى يجيئهم الأجل الموعود ، وليس معنى الآية إن التوبة المقبولة المرضية التي أوجب الله على نفسه قبولها هي ما كانت عن معاصي يصر المرء عليها إلى ما قبل غرغرة الموت ولو بساعات ودقائق بل المراد القرب من وقت الذنب المانع من الإصرار كما في الآية الأخرى . ولعل مراد عكرمة والضحاك وأمثالهما موافقة معنى الحديث من أن الله يقبل توبة العاصي ما لم يغرغر أي : إنه إن فرض أنه تاب في أي وقت من الأوقات قبل الغرغرة والمعاينة تقبل توبته ، ولا يكون ذلك منافيا للآية ، فإن الإنسان قد يتوب قبل الغرغرة من ذنب عمله من عهد قريب ، ولكن قلما يتوب من الإصرار الذي رسخ في الزمن البعيد ، فإن تاب فقلما يتمكن من إصلاح ما أفسده الإصرار من نفسه ليتصدق عليه قوله تعالى : ? وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ? ( طه : 82) وجملة القول إن المراد أن الإصرار والتسويف خطر ، وإن كانت التوبة تقبل في كل حال اختيار إذ الغالب أن المرء يموت على ما عاش فليحذر المغرورون . ( رواه الترمذي ) في الدعوات ، ( وابن ماجة )
2367- (22) عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان قال : وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم . فقال الرب عز وجل : وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/87)


في ذكر التوبة من أبواب الزهد ، وأخرجه أيضا أحمد (ج2 : ص132 : 153) ، والحاكم (ج4 ص257) ، وأبو نعيم في الحلية (ج5 : ص19) ، وذكره السيوطي في الجامع الصغير والدر المنثور (ج2 : ص131) ، وعلي المتقي في الكنز (ج4 : ص21) وزاد نسبته لابن حبان ، والبيهقي في الشعب ، والحديث حسنه الترمذي . وقال الحاكم : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي . واعلم أنه اختلفت النسخ من سنن ابن ماجة في تسمية الصحابي الذي روى هذا الحديث ، ففي بعضها عبد الله بن عمر كما وقع في المسند والترمذي ، والحاكم ، والحلية ، وابن حبان ، والبيهقي ، وهذا هو الصحيح . ووقع في بعضها عبد الله بن عمرو أي بالواو ، وهي النسخة التي كانت عند البوصيري فظنه لذلك حديثا آخر غير هذا الحديث الذي عن ابن عمر بن الخطاب فاعتبره من الزوائد كما يدل عليه كلامه الذي نقله عنه السندي ، وهذا خطأ من غير شك ، وفي الباب عن أبي ذر عند أحمد (ج5 : ص174) ، والبزار وعن رجل عند أحمد والبغوي كما في الكنز .

(16/88)


2367- قوله : ( إن الشيطان قال : وعزتك يا رب ) أي : وقوتك وقدرتك يعني أقسم بعزتك التي لا ترام ، وفي رواية أخري لأحمد إن إبليس قال لربه : بعزتك وجلالك . قال القاري : وفيه إيماء إلى أنه رئيس الضلال ، ومظهر الجلال كما أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - مظهر العناية والجمال وسيد أهل الهداية والكمال ( لا أبرح ) بفتح الهمزة أي : لا أزال ( أغوي ) بضم الهمزة وكسر الواو أي : أضل ( عبادك ) ، وفي رواية لأحمد : بني آدم . أي : لا أزال أضل بني آدم ، إلا المخلصين منهم ويحتمل العموم ظنا منه إفادة ذلك ( ما دامت أرواحهم في أجسادهم ) أي : مدة حياتهم ( فقال الرب عز وجل : وعزتي وجلالي ) قال القاري : ولعل ذكرهما للمشاكلة وإلا فمقتضي المقابلة أن يقول : ورحمتي وجمالي ( وارتفاع مكاني ) لم أجد هذا اللفظ عند أحمد في مسند أبي سعيد ولا ذكره الجزري في الحصن ، والمنذري في الترغيب وعلي المتقي في الكنز ، نعم هو شرح السنة للبغوي وهي زيادة منكرة ( لا أزال ) ، وفي رواية أحمد : ( لا أبرح ) ، وفي أخري له أيضا : لا أزال في كلا الموضعين ولعل ذلك من تصرف الرواة ( أغفر لهم ما استغفروني ) أي مدة طلبهم المغفرة في حالة الاختيار . وفي الحديث دليل علن أن الاستغفار يدفع ما وقع من الذنوب بإغواء الشيطان وتزيينه وإنها لا تزال المغفرة كائنة ما داموا يستغفرون . قال الطيبي : فإن قلت كيف المطابقة بين هذا الحديث وبين قوله تعالى : ? لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال
رواه أحمد .
2368- (23) وعن صفوان بن عسال قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى جعل بالمغرب بابا عرضه مسيرة سبعين عاما للتوبة لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/89)


فالحق والحق أقول * لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ? ( ص : 82 - 85) فإن الآيات دلت على أن المخلصين هم الناجون فحسب ، والحديث دال على أن غير المخلصين هم أيضا ناجون ، قلت : قيد قوله تعالى : ? ممن اتبعك ? أخرج العاصين المستغفرين منهم لأن المعنى ممن اتبعك واستمر على المتابعة ، ولم يرجع إلى الله ولم يستغفر - انتهى . وقيل : الأظهر في دفع هذا الإشكال إن المراد بالمخلصين الموحدون الذين أخلصهم الله من الشرك ( رواه أحمد ) أي : بهذا اللفظ دون اللفظ دون قوله (( وارتفاع مكاني )) (ج3 : ص29) وإنما رواه بهذه الزيادة البغوي صاحب المصابيح في شرح السنة (1/146/2) وأخرجا الحديث من طريق ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد ، والكلام في ابن لهيعة معروف ، وفي حديث دراج عن أبي الهيثم ضعف . وأخرجه أحمد أيضا بنحوه بدون هذه الزيادة من هذا الطريق (ج3 : ص76) ، وأخرجه في (ج3 : ص29 ، 41) من طريق آخر أي : من طريق الليث عن يزيد بن الهاد عن عمرو عن أبي سعيد وليس فيه أيضا هذه الزيادة ومن هذا الموضع ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10 : ص207) وقال : رواه أحمد ، وأبو يعلي بنحوه . وقال : ( لا أبرح أغوي عبادك ) والطبراني في الأوسط وأحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح ، وكذلك أحد إسنادي أبي يعلي - انتهى . وأراد بهذا الطريق الثاني . وأما الطريق الأول ففيه ابن لهيعة ودراج كما ذكرنا ، وأخرجه الحاكم (ج4 : ص261) من طريق عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم بدون الزيادة المذكورة ، وقال : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي ولا يخفى ما فيه . قال الحافظ في ترجمة دراج : صدوق في حديثه عن أبي الهيثم ضعف وقال الشوكاني بعد نقل تصحيح الحاكم : وفيه نظر فإن في إسناده دراجا .

(16/90)


2368- قوله : ( إن الله تعالى جعل بالمغرب بابا ) أي : حسيا . وقيل : معنويا ( عرضه مسيرة سبعين عاما ) أي : فكيف طوله ، قيل : ذكر السبعين للتكثير والمبالغة لا للتحديد . قال في اللمعات : قيل : المراد به المبالغة في انفتاح باب التوبة وكون الناس في فسحة واسعة منها . وهذا تأويل ، وصريح الإيمان أن يؤمن بها من غير تأويل ، والعلم عند الله . ( للتوبة ) أي مفتوحا لأصحاب التوبة أو علامة لصحة التوبة وقبولها ( لا يغلق ) بصيغة المجهول ( ما لم تطلع الشمس من قبله ) بكسر القاف وفتح الموحدة أي من جانب المغرب . قال ابن الملك : وهذا يحتمل أن يكون حقيقة ، وهو الظاهر ، وفائدة إغلاقه أعلام الملائكة بسد باب التوبة وأن يكون تمثيلا . قال الطيبي :
وذلك قول الله عز وجل ? يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ? . رواه الترمذي ، وابن ماجة .
2369- (24) وعن معاوية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/91)


يعني إن باب التوبة مفتوح على الناس وهم في فسحة وسعة عنها ما لم تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت سد عليهم فلم يقبل منهم إيمان ولا توبة ، لأنهم إذا عاينوا ذلك واضطروا إلى الإيمان والتوبة فلا ينفعهم ذلك كما لا ينفع المحتضر ، ولما كان سد الباب من قبل المغرب جعل فتح الباب من قبله أيضا . وقال التوربشتي : المراد منه والله أعلم إن أمر قبول التوبة هين ، والناس عنه في فسحة وسعة ما لم تطلع الشمس من مغربها ، فإن بابا ينتهي عرضه إلى مسيرة سبعين عاما لا يكاد يتضايق عن الناس إلا أن يغلق وإغلاقه بطلوع الشمس من مغربها ( وذلك ) أي : طلوع الشمس من مغربها المانع من قبول التوبة ( قول الله عز وجل ) أي : معنى قوله : ? يوم يأتي بعض آيات ربك ? أي : بعض علاماته الدالة على الساعة أو بعض علامات يظهرها ربك إذا قربت القيامة وهو طلوع الشمس من مغربها ? لا ينفع نفسا إيمانها ? أي : حينئذ حال كونها ? لم تكن آمنت من قبل ? أي : من قبل إتيان بعض آياته وهو الطلوع المذكور وتتمة الآية ? أو كسبت في إيمانها خيرا ? عطفا على آمنت أي أو لم تكن النفس كسبت في حال إيمانها توبة من قبل ، وبهذا التقرير تظهر المناسبة التامة بين الحديث والآية ، ويكون معاينة طلوع الشمس نظير معاينة حضور الموت في عدم نفع الإيمان والتوبة عند حصول كل منهما . قاله القاري . وقال الطيبي : الوجه أن يحمل على اللف التقديري بأن يقال لا ينفع نفسا إيمانها حينئذ أو كسبها في إيمانها خيرا حينئذ لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا من قبل والإيجاز من حلية التنزيل - انتهى . رواه الترمذي في الدعوات ، وصححه . وابن ماجة في الفتن ، واللفظ للترمذي رواه في حديث . وفيه قال زر : يعني ابن حبيش فما برح يعني صفوان يحدثني حتى حدثني إن الله تعالى جعل بالمغرب بابا . إلخ . قال المنذري : وليس في هذه الرواية

(16/92)


تصريح برفعه كما صرح البيهقي وإسناده صحيح - انتهى ولفظ ابن ماجة عن زر عن صفوان ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن من قبل مغرب الشمس بابا مفتوحا عرضه سبعون سنة فلا يزال ذلك الباب مفتوحا للتوبة حتى تطلع الشمس من نحوه ، فإذا طلعت من نحوه لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا . والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج4 : ص240 ، 241) ، والبخاري في تأريخه (2/2/306) ، والطبراني في الكبير ، وعبد الرزاق ، وابن حبان في صحيحه ، والبيهقي وغيرهم بألفاظ .
2369- قوله : ( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ) فيه دليل على أن الهجرة لم تنقطع ، وحديث ابن
ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها . رواه أحمد وأبو داود والدارمي .
2370- (25) وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين ، أحدهما مجتهد في العبادة والآخر يقول مذنب ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/93)


عباس عند الشيخين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة : لا هجرة بعد فتح مكة . أي : انقطعت بعد فتحها ، وقد اختلفت في الجمع بينهما فقال في اللمعات : المراد بالهجرة ها هنا مهاجرة الذنوب والآثام والأخلاق الذميمة بالخروج عن موطن الطبيعة ومستقر النفس ، والمراد بقوله : (( حتى تنقطع التوبة )) أي : ينتهي حكم الله تعالى وشريعته بقبول التوبة ، وذلك عند طلوع الشمس من مغربها - انتهى . وقال ابن الملك : أراد بالهجرة هنا الانتقال من الكفر إلى الإيمان ، ومن دار الشرك إلى دار الإسلام ، ومن المعصية إلى التوبة . وقال الطيبي : لم يرد بها الهجرة من مكة إلى المدينة لأنها انقطعت ، ولا الهجرة من الذنوب والخطايا كما ورد المهاجر من هجر الذنوب والخطايا ، لأنها عين التوبة ، فليزم التكرار فيجب أن يحمل على الهجرة من مقام لا يتمكن فيه من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإقامة حدود الله فتدبر . وقال الخطابي : كانت الهجرة في أول الإسلام فرضا ثم صارت مندوبة فوجبت على المسلمين عند انتقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة ، وأمروا بالانتقال إلى حضرته ليكونوا معه فيتعاونوا ويتظاهروا إن حزبهم أمر ويتعلموا منه أمر دينهم ، وكان عظم الخوف في ذلك الزمان من أهل مكة ، فلما فتحت مكة وبخعت بالطاعة زال ذلك المعنى ، وارتفع وجوب الهجرة وعاد الأمر فيها إلى الندب والاستحباب ، فالهجرة المنقطعة هي الفرض والباقية هي الندب على أن إسناد حديث ابن عباس متصل صحيح وإسناد حديث معاوية فيه مقال - انتهى مختصرا . ( ولا تنقطع التوبة ) أي : صحتها أو قبولها أو حكم الله وشريعته بقبولها . ( رواه أحمد ) (ج4 : ص99) ، ( وأبو داود ) في أوائل الجهاد ، ( والدارمي ) في السير ، وأخرجه أيضا النسائي . وقد سكت عنه أبو داود ونقل المنذري كلام الخطابي (( في إسناد حديث معاوية مقال )) وأقره ، قلت : في سنده عندهم جميعا أبو

(16/94)


هند البجلي الشامي روى عن معاوية وعنه عبد الرحمن بن أبي عوف الجرشي . قال الحافظ : شامي تابعي أرسل شيئا فذكره العسكرى ( أي : على سبيل الوهم والغلط ) في الصحابة قال عبد الحق في الأحكام : ليس بمشهور . وقال ابن القطان : مجهول . وقال الذهبي في الميزان : لا يعرف ، ولكن احتج به النسائي على قاعدته وقال الحافظ في التقريب . مقبول فالحديث لا يخلو عن ضعيف .
2370- قوله : ( متحابين ) وفي رواية أبي داود : متواخيين أي : متصادقين ومتصافيين . وقيل : أي : متقابلين في القصد والسعي ، فهذا كان قاصدا وساعيا في الخير وهذا كان قاصدا وساعيا في الشر ( أحدهما مجتهد في العبادة ) أي : مبالغ فيها ( والآخر يقول ) أي : الرسول - صلى الله عليه وسلم - ( مذنب ) أي : هو مذنب . قال الطيبي : ويمكن أن
فجعل يقول : أقصر عما أنت فيه ، فيقول : خلني وربي . حتى وجده يوما على ذنب استعظمه ، فقال : أقصر فقال : خلني وربي ، أبعثت علي رقيبا ؟ فقال : والله لا يغفر الله لك أبدا ، ولا يدخلك الجنة ، فبعث الله إليهما ملكا فقبض أرواحهما ، فاجتمعا عنده ، فقال للمذنب : ادخل الجنة برحمتي . وقال للآخر : أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي ؟ فقال : لا يا رب : قال : اذهبوا به إلى النار . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/95)


يقال : إن المعنى والآخر منهمك في الذنب ليطابق قوله مجتهد في العبادة . وقال المظهر : أي يقول الآخر : أنا مذنب أي : معترف بالذنب . وقال القاري والشيخ الدهلوي : وهو الأظهر لسياق الحديث . قلت : ويؤيد القول الأول ما وقع عند أبي داود (( فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة )) ( فجعل يقول ) أي : المجتهد للمذنب ( أقصر ) بفتح همزة أمر من الإقصار أي : كف وأمسك وامتنع . قال في المجع الإقصار : هو : الكف عن الشيء مع القدرة عليه فإن عجز عنه يقول قصرت عنه بلا ألف - انتهى . ولأبي داود فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول : أقصر . ( عما أنت فيه ) أي : من ارتكاب الذنب ( فيقول ) أي : الآخر : ( خلني وربي ) أي : اتركني معه ( حتى وجده ) أي : المجتهد المذنب ( يوما ) أي : وقتا ما ( على ذنب استعظمه ) أي : المجتهد ذلك الذنب ( أبعثت ) بصيغة المجهول بالاستفهام الإنكاري ( علي رقيبا ) أي : أبعثك الله علي حافظا وكأن الرجل كان يستغفر ربه ويعتذر إليه كلما أذنب ، وبهذا يناسب هذا الحديث باب الاستغفار ، وظاهر سياق الحديث أنه أدخل الجنة بمحض فضله ورحمته ، فكان المناسب أن يورده في الباب الذي يليه فإن الأحاديث المذكورة فيه تدل على سعة رحمة الله تعالى كما لا يخفى ( فقال ) أي : المجتهد من إعجابه بأعماله واحتقار صاحبه لارتكاب عظيم ذنبه ( ولا يدخلك الجنة ) وفي بعض نسخ أبي داود أو لا يدخلك الله الجنة وهكذا وقع في الكنز (ج4 : ص142) ( فقبض ) أي : الملك ( أرواحهما ) أي : روحيهما على حد صغت قلوبكما ( فقال للمذنب : ادخل الجنة برحمتي ) أي : جزاء الحسن ظنك بي فقد غفرتك ( وقال للآخر ) في العدول عن التعبير بالمجتهد نكتة لا تخفى ، وهي إن اجتهاده في العبادة ضاع لقلة علمه ومعرفته بصفات ربه وإعجابه بعمله وقسمه وحكمه على الله بأنه لا يغفر للمذنب ، فانقلب الأمر وصار كالآخر . والمذنب بحسن عقيدته وحسن ظنه بربه

(16/96)


واعترافه بالتقصير في معصيته نزل منزلة المجتهد ( أتستطيع ) الهمزة للإنكار أي أتقدر ( أن تحظر ) بضم الظاء المعجمة أي : تمنع وتحرم ( على عبدي رحمتي ) أي : التي وسعت كل شيء في الدنيا وخصت للمؤمنين في العقبى ( فقال : لا يا رب ) اعترف حين لا ينفعه الاعتراف ( اذهبوا به ) الخطاب للملائكة الموكلين بالنار ( إلى النار ) جزاء على اجتراءه علي وحلفه ، وحكمه علي بأن لا أغفر للمذنب ولإعجابه بأعماله واحتقاد
رواه أحمد .
2371- (26) وعن أسماء بنت يزيد ، قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقرأ : ? يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ?
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/97)


صاحبه ولا دلالة في الحديث على كفره ليكون مخلدا في النار . ولفظ أبي داود فقال لهذا المجتهد : أكنت بي عالما ( أي : فحلفت أن لا أغفر له ولا أدخله الجنة ) أو كنت على ما في يدي قادرا ( أي : فمنعتني منه ) وقال للمذنب : اذهب فادخل الجنة برحمتي . وقال للآخر : اذهبوا به إلى النار . ( رواه أحمد ) ، وأخرجه أيضا أبو داود في باب النهي عن البغي من كتاب الأدب من طريق علي بن ثابت الجزري عن عكرمة بن عمار عن ضمضم بن جوس عن أبي هريرة ، وهذا الإسناد صحيح أحسن قد سكت عنه أبو داود علي بن ثابت الجزري ثقة صدوق ، قد ضعفه الأزدي بلا حجة ، وعكرمة بن عمار العجلي صدوق ، وضمضم بن جوس الهفاني اليمامي ثقة . قال الحافظ : روى له أبو داود في إثم القنط ورواه أيضا البغوي في المعالم بإسناده عن ضمضم بن جوس . قال : دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ فقال لي : يا يمامي تعال وما أعرفه فقال : لا تقولن لرجل والله لا يغفر الله لك أبدا ولا يدخلك الجنة . قلت : ومن أنت يرحمك الله . قال أبو هريرة : قال : فقلت : إن هذه الكلمة يقولها أحدنا لبعض أهله إذا غضب أو لزوجته أو لخادمته ، قال : فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن رجلين - الحديث إلى آخره . ثم قال أبو هريرة : والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت بدنياه وآخرته - انتهى .

(16/98)


2371 - قوله : ( وعن أسماء بنت يزيد ) أي : ابن السكن الأنصارية ( يقرأ ) ? يا عبادي ? بفتح الياء وسكونها . قال في فتح البيان : قرئ بإثبات الياء وصلا ووقفا ، وبغير الياء ، أي وقفا وهما سبعيتان ? الذين أسرفوا على أنفسهم ? أي : أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعاصي . وقيل : أي : أفرطو عليها بالكفر أو المعاصي واستكثروا منها . وقيل : أي : أفرطوا عليها وتجاوزوا الحد في فعل كل مذموم ? لا تقنطوا ? بفتح النون من باب سمع وبكسرها من باب ضرب أي : لا تيأسوا ? من رحمة الله ? أي : من مغفرته ? إن الله ? استئناف فيه معنى التعليل ? يغفر الذنوب جميعا ? أي : ذنوب الكفار بالتوبة وذنوب المسلمين بها وبالمشيئة . اعلم أنهم اختلفوا هل هذه الآية مقيدة بالتوبة وإنه لا تغفر إلا ذنوب التائبين أو هي على إطلاقها ؟ فذهب جماعة من المفسرين إلى الأول . قال الحافظ ابن كثير : هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفر وغيرهم إلى التوبة والإنابة وإخبار بأن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها ورجع عنها ، وإن كانت مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر ، ولا يصح حمل هذه على غير توبة لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه . ثم ذكر حديث ابن عباس إن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/99)


وزنوا وأكثروا فأتوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا إن لما عملنا كفارة فنزل ? والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ? ( الفرقان : 68) ونزل ? قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ? ( الزمر : 53) أخرجه البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي . قال ابن كثير : المراد من الآية الأولى قوله تعالى : ? إلا من تاب وآمن وعمل صالحا ? ( الفرقان : 70) الآية ثم ذكر حديث ثوبان الآتي في الفصل الثالث ، وحديث أسماء الذي نحن في شرحه ثم قال : فهذه الأحاديث كلها دالة على أن المراد أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة ولا يقنطن عبد من رحمه الله وإن عظمت ذنوبه وكثرت ، فإن باب الرحمة والتوبة واسع ثم ذكر ابن كثير الآيات والأحاديث الدالة على الحث على التوبة والاستغفار . وقال الجمل (ج3 : ص724) : وهذه الآية عامة في كل كافر يتوب ومؤمن عاص يتوب فتمحو توبته ذنبه ، والمراد منها التنبيه على أنه لا ينبغي للعاصي أن يظن أنه لا مخلص له من العذاب فإن من اعتقد ذلك فهو قانط من رحمة الله تعالى إذ لا أحد من العصاة إلا وإنه متى تاب زال عقابه وصار من أهل المغفرة والرحمة . فمعنى قوله : ? إن الله يغفر الذنوب جميعا ? ( الزمر : 53) أي : بالتوبة إذا تاب وصحت توبته فمحصت ذنوبه ، ومن مات قبل أن يتوب فهو موكول إلى مشيئة الله تعالى فيه ، فإن شاء غفر له وعفى عنه ، وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه ، ثم يدخله الجنة بفضله ورحمته ، فالتوبة واجبة على كل واحد وخوف العقاب قائم فلعل الله يغفر مطلقا ولعله يعذب ثم يغفر بعد ذلك - انتهى . وإليه أي إلى تقييد آية الزمر بالتوبة ، ذهب ابن القيم حيث قال في الجواب الكافي (ص16) ومدارج

(16/100)


السالكين (ج1 : ص394) إن هذه الآية في حق التائبين وقوله : ? إن الله لا يغفر أن يشرك به ? في حق غير التائب . وذهب بعضهم إلى أن الآية على إطلاقها . قال العلامة القنوجي البوفالي في فتح البيان (ج8 : ص166) والحق أن الآية غير مقيدة بالتوبة بل هي على إطلاقها ، وإليه ذهب الشوكاني حيث قال في فتح القدير (ج4 : ص456 ، 457) الألف واللام قد صيرت الجمع الذي دخلت عليه ( وهو قوله : الذنوب ) للجنس الذي يستلزم استغراق أفراده فهو في قوة إن الله يغفر كل ذنب كائنا ما كان ، إلا ما أخرجه النص القرآني وهو الشرك : ? إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ? ( النساء : 48) ثم لم يكتف بما أخبر عباده به من مغفرة كل ذنب بل أكد ذلك بقوله جميعا . قال الشوكاني : والجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى : ? إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ? هو إن كل ذنب كائنا ما كان ما عدا الشرك بالله مغفور لمن شاء الله أن يغفر له ، على أنه يمكن أن يقال أن إخباره لنا بأنه يغفر الذنوب جميعا ، يدل على أنه يشاء غفرانها جميعا ، وذلك يستلزم أنه يشاء المغفرة لكل المذنبين من المسلمين فلم يبق تعارض
ولا يبالي . رواه أحمد ، والترمذي . وقال : هذا حديث حسن غريب .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/101)


بين الآيتين من هذه الحيثية . قال ولو كانت هذه البشارة العظيمة مقيدة بالتوبة لم يكن لها كثير موقع ، فإن التوبة من المشرك يغفر الله له بها ما فعله من الشرك بإجماع المسلمين . وقد قال : ? إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ? فلو كانت التوبة قيدا في المغفرة لم يكن للتنصيص على الشرك فائدة . وقد قال سبحانه وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم . قال الواحدي : المفسرون قالوا : إن هذه الآية في قوم خافوا إن أسلموا أن لا يغفر لهم ما جنوا من الذنوب العظام كالشرك وقتل النفس ومعاداة النبي - صلى الله عليه وسلم - . قلت : ( قائله الشوكاني ذهب أنها في هؤلاء القوم فكان ماذا ؟ فإن الاعتبار بما اشتملت عليه من العموم لا بخصوص السبب كما هو متفق عليه بين أهل العلم قال وأما قوله تعالى بعد ذلك ? وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون ? ( الزمر : 54) فليس فيه ما يدل على تقييد الآية الأولى بالتوبة لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام ، بل غاية ما فيها أنه بشرهم بتلك البشارة العظمى ، ثم دعاهم إلى الخير وخوفهم من الشر على أنه يمكن أن يقال إن هذه الجملة مستأنفة خطابا للكفار الذين لم يسلموا بدليل قوله : ? وأسلموا له ? جاء بها لتحذير الكفار وإنذارهم بعد ترغيب المسلمين بالآية الأولى وتبشيرهم ، وهذا وإن كان بعيدا ولكنه يمكن أن يقال به . والمعنى على ما هو الظاهر إن الله جمع لعباده بين التبشير العظيم والأمر بالإنابة إليه والإخلاص والاستسلام لأمره والخضوع لحكمه وقوله : ? من قبل أن يأتيكم العذاب ? ( الزمر : 54) أي : عذاب الدنيا . يعني بالقتل والأسر والقهر والخوف والجدب لا عذاب الآخرة . قلت : الآية تحتمل القولين لكن سياقها يؤيد ما قاله ابن كثير ومن وافقه . وأما ما ذكره الشوكاني في

(16/102)


تأويل ذلك السياق ففيه تكلف ظاهر . والراجح عندي إن مغفرة ذنوب المسلمين غير مقيدة بالتوبة بل تغفر بها وبالمشيئة ( ولا يبالي ) أي : من أحد فإنه لا يجب على الله . وقيل : أي : لا يبالي بمغفرة الذنوب جميعا لسعة رحمته وعدم مبالاته من أحد وانتهت رواية الترمذي على هذا أو زاد أحمد في روايته إنه هو الغفور الرحيم . والظاهر من هذه الرواية إن قوله ولا يبالي . كان من القرآن ، ولذا قال صاحب المدارك تحت هذه الآية : وفي قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي . وقال القاري : وهو يحتمل أنه كان من الآية فنسخ ، ويحتمل أن يكون زيادة من عنده عليه الصلاة والسلام كالتفسير للآية ( رواه أحمد ) (ج6 : ص454 : 459 ، 460 ، 461) ، ( والترمذي ) في تفسير سورة الزمر ، كلاهما من طريق ثابت البناني عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد ( وقال ) أي : الترمذي ( هذا حديث حسن غريب ) وقال أيضا : لا نعرفه إلا من حديث ثابت عن شهر بن حوشب - انتهى . وشهر هذا صدوق كثير الإرسال والأوهام قاله في التقريب وقال حرب بن إسماعيل عن أحمد ما أحسن حديثه ووثقه وروى عن أسماء أحاديث حسانا كذا في تهذيب التهذيب . والحديث
وفي (( شرح السنة )) (( يقول )) بدل (( يقرأ )) .
2372- (27) وعن ابن عباس ، في قول الله تعالى : ? إلا اللمم ? قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن تغفر اللهم تغفر جما ، وأي عبد لك لا ألما .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/103)


ذكره الشوكاني في فتح القدير (ج4 : ص460) وزاد في نسبته أبا داود ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن الأنباري ، والحاكم ، وابن مردويه ، ونسبه ابن كثير أيضا إلى أبي داود ولم أجده في سننه ولم ينسبه النابلسي إليه في ذخائر المواريث ، بل اقتصر على ذكر الترمذي ( وفي شرح السنة يقول ) أي يا عبادي إلخ ( بدل يقرأ ) أي السابق في رواية أحمد والترمذي وهذا يؤيد القول بأنه حديث .
2372- قوله : في قول الله تعالى : ? إلا اللمم ? أي : في تفسير قوله : ? والذين يجتنبون كبائر الإثم ? ( النجم : 32) الكبائر كل ذنب توعد الله عليه بالنار ، أو ما عين له حدا أو ذم فاعله ذما شديدا ، ولأهل العلم في تحقيق الكبائر كلام طويل ، وكما اختلفوا في تحقيق معناها وماهيتها اختلفوا في عددها . والفواحش جمع فاحشة ، وهي ما فحش من كبائر الذنوب كالزنا ونحوه ، وهو من عطف الخاص على العام . وقيل : هي كل ذنب فيه وعيد أو مختص بالزنا ? إلا اللمم ? بفتحتين أي ما قل وصغر من الذنوب يعني الصغائر منها فإنهم لا يقدرون أن يجتنبوها ، والاستثناء منقطع لأنه ليس من الكبائر والفواحش . وأصل ? اللمم ? في اللغة ما قل وصغر . ومنه ألم بالمكان قل لبثه فيه وألم بالطعام قل أكله منه . قال في الصحاح : ألم الرجل من ? اللمم ? وهو صغائر الذنوب ، ويقال : مقاربة المعصية من غير مواقعة . قال المبرد : أصل اللمم أن تلم بالشيء من غير أن ترتكبه يقال : ألم بكذا إذا قاربه ولم يخالطه . قال الأزهري : العرب تستعمل الإلمام في معنى الدنو والقرب . وقال الزجاج : أصل ? اللمم ? والإلمام ما يعمله الإنسان المرة بعد المرة ولا يتعمق فيه ولا يقيم عليه ، ويقال : ألممت به إذا زرته وانصرفت عنه . وقد اختلفت أقوال أهل العلم في تفسير هذا اللمم المذكور في الآية ، فالجمهور على أنه صغائر الذنوب . وقيل : هو ما كان دون الزنا من

(16/104)


القبلة والغمزة والنظرة . وقيل : الخطرة من الذنوب . وقيل كل ذنب لم يذكر الله فيه حدا ولا عذابا . وقيل : غير ذلك والراجح هو قول الجمهور ( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي : استشهادا بأن المؤمن لا يخلوا من اللمم ( إن تغفره اللهم تغفر جما ) بفتح الجيم وتشديد الميم أي كثيرا ( وأي عبد لك لا ألما ) فعل ماض مفرد والألف للإشباع أي لم يلم بمعصية أي عبد غير معصوم لم يقع منه ذنب أي لم يتلطخ بصغيرة يقال : لم أي : تزل وألم : إذا فعل ? اللمم ? وهو الشيء القليل ، والبيت لامية بن أبي الصلت الذي كان متعبدا في الجاهلية ومتدينا ومؤمنا بالبعث أدرك الإسلام ولم يسلم ، وكان - صلى الله عليه وسلم - يحب شعره لاشتماله على المواعظ والحقائق ، وهذا
رواه الترمذي . وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب .
2373- (28) وعن أبي ذر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى : يا عبادي كلكم ضال إلا من هديت ، فاسئلوني الهدى أهدكم . وكلكم فقراء إلا من أغنيت ، فاسئلوني أرزقكم . وكلكم مذنب إلا من عافيت ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/105)


البيت صار حديثا لنطقه - صلى الله عليه وسلم - بلفظه والمنفي عنه - صلى الله عليه وسلم - في قوله : ? وما علمناه الشعر وما ينبغي له ? ( يس : 69) هو إنشاء الشعر لا إنشاده والتمثل به وهو الصحيح أي من شأنك غفران الذنوب الكبيرة الكثيرة فضلا عن الصغائر ، لأنها لا يخلوا عنها أحد ، وإنها مكفرة بالحسنات . وقال الطيبي : أي : من شأنك اللهم أن تغفر غفرانا كثيرا للذنوب العظيمة . وأما الجرائم الصغيرة فلا تنسب إليك لأنها لا يخلو عنها أحد وإنها مكفرة باجتناب الكبائر وإن ليس للشك بل للتعليل كما تقول للسلطان إن كنت سلطانا فأعط الجزيل . والمعنى لأجل إنك غفار غفر جما - انتهى . ( رواه الترمذي ) في تفسير سورة النجم ، وذكره الشوكاني في فتح القدير وزاد في نسبة سعيد بن منصور ، والبزار ، وابن جرير ، وابن المنذري ، وابن أبي حاتم ، والحاكم (ج2 : ص469) ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ( وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب ) وقال : لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق أي : عن عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار عن ابن عباس ومن هذا الطريق رواه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي .

(16/106)


2373- قوله : ( كلكم ضال إلا من هديت ) أي : كلكم عار من الهداية ليس له هداية من ذاته بل هي من عناية ربه ولطفه وهذا لا ينافي حديث كل مولود يولد على الفطرة بمعنى أنه يولد خاليا عن دواعي الضلالة وفيه أن العبد محتاج إلى الله تعالى في كل شيء وأن أحدا لا يغني أحدا شيئا من دونه فحقه أن يتبتل إليه بشر أشره ( فاسألوني ) وفي بعض النسخ فسلوني ، وهكذا وقع عند أحمد (ج5 : ص177) ، والترمذي ، وابن ماجة ، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول ( الهدى ) أي : اطلبوا الهداية مني لا من غيري ( كلكم فقراء ) كذا في جميع النسخ الحاضرة ، وفي مسند الإمام أحمد ، والترمذي ، وابن ماجة : وكلكم فقير . وهكذا نقله الجزري ( إلا من أغنيت ) وهو أيضا لا يستغني عنه لمحة لاحتياجه إلى الإيجاد والإمداد كل لحظة . قال الله تعالى : ? والله الغني وأنتم الفقراء ? ( محمد : 38) ( فاسألوني ) وفي الترمذي فسلوني ، وهكذا في جامع الأصول والمسند وابن ماجة ( وكلكم مذنب ) أي يتصور منه الذنب ( إلا من عافيت ) أي : من الأنبياء والأولياء أي وعصمت وحفظت ، وهو يدل على أن العافية هي السلامة من الذنوب وهي أكمل أفرادها ، وإنما قال : عافيت تنبيها على أن الذنب مرض ذاتي
فمن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة فاستغفرني غفرت له ولا أبالي . ولو أن أولكم وآخركم ، وحيكم ، وميتكم ، ورطبكم ، ويابسكم اجتمعوا على أتقى قلب عبد من عبادي ما زاد ذلك في ملكي جناح بعوضة ولو أن أولكم ، وآخركم ، وحيكم ، وميتكم ، ورطبكم ، ويابسكم اجتمعوا على أشقى قلب عبد من عبادي ، ما نقص ذلك من ملكي جناح بعوضة ، ولو أن أولكم ، وآخركم ، وحيكم ، وميتكم ، ورطبكم ، ويابسكم اجتمعوا في صعيد واحد ، فسأل كل إنسان منكم ما بلغت أمنيته ، فأعطيت كل سائل منكم ، ما نقص ذلك من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر بالبحر فغمس فيه إبرة ، ثم رفعها ، ذلك بأني جواد

(16/107)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وصحته عصمة الله تعالى وحفظه منه أو كلكم مذنب بالفعل ، وذنب كل بحسب مقامه إلا من عافيته بالمغفرة والرحمة والتوبة ( غفرت له ) أي : جميع ذنوبه ( ولا أبالي ) أي : لا أكترث ( ولو أن أولكم وآخر كم ) يراد به الإحاطة والشمول ( وحيكم وميتكم ) تأكيد لإرادة الاستيعاب كقوله ( ورطبكم ويابسكم ) أي شبابكم وشيوخكم ، أو عالمكم وجاهلكم ، أو مطيعكم وعاصيكم . وقيل : المراد بهما البحر والبر أي أهلهما أو أنه لو صار كل ما في البحر والبر من الشجر والحجر والحيتان وسائر الحيوان آدميا . وقيل : يحتمل أن يراد بهما الإنس والجن بناء على أن خلق الجن من النار ، والإنس من الماء ، ويؤيده ما ورد في الحديث المذكور في الفصل الأول عن أبي ذر : وجنكم وإنسكم . قال الطيبي : هما عبارتان عن الإسيتعاب التام كما في قوله تعالى : ? ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ? ( الأنعام : 59) والإضافة إلى ضمير المخاطبين تقتضي أن يكون الاستيعاب في نوع الإنسان فيكون تأكيدا للشمول بعد تأكيد وتقريرا بعد تقرير - انتهى . ( اجتمعوا على اتقى قلب عبد من عبادي ) وهو نبينا - صلى الله عليه وسلم - ( ما زاد ذلك ) أي : الاجتماع ( جناح بعوضة ) بفتح الجيم أي : قدره ( اجتمعوا على أشقى قلب عبد من عبادي ) وهو إبليس اللعين ( اجتمعوا في صعيد واحد ) أي : أرض واسعة مستوية ( ما بلغت أمنيته ) بضم الهمزة وكسر النون وتشديد الياء أي : مشتهاه ، وجمعها المني والأماني يعني كل حاجة تخطر بباله ( ما نقص ذلك ) أي الإعطاء أو قضاء حوائجهم ( فغمس ) بفتح الميم أي أدخل ( إبرة ) بكسر الهمزة وسكون الموحدة وهي المخيط ( ذلك ) أي عدم نقص ذلك من ملكي ( بأني جواد ) أي كثير الجود . ووقع عند أحمد (ج5 : ص177) ، والترمذي بعد ذلك (( واجد )) وهو الذي يجد ما يطلبه ويريده وهو الواجد المطلق لا يفوته شيء ، وهذا بيان

(16/108)


لسبب ما تقدم ، وذلك لأنه إذا كان عطاءه الكلام فلا يتصور في خزائنه النقصان . وقال في اللمعات : قوله ذلك بأني جواد ماجد
ماجد أفعل ما أريد ، عطائبي كلام ، وعذابي كلام ، إنما أمري لشيء إذا أردت أن أقول له ? كن فيكون ?. رواه أحمد ، والترمذي ، وابن ماجة .
2374- (29) وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قرأ :? هو أهل التقوى وأهل المغفرة ? قال : قال ربكم : أنا أهل أن أتقي فمن اتقاني فأنا أهل أن أغفر له . رواه الترمذي ، وابن ماجة ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إشارة إلى مجموع ما ذكر أو إلى الأخير وعلى الأول الجواد بالنسبة إلى الأخير والماجد إلى ما قبله أو الكل في الكل فافهم ( ماجد ) هو بمعنى المجيد كالعالم بمعنى العليم من المجد وهو سعة الكرام ( إنما أمري لشيء إذا أردت أن أقول له كن فيكون ) بالرفع والنصب أي من غير تأخير عن أمري ، وهذا تفسير لقوله : عطائي كلام وعذابي كلام . قال القاضي : يعني ما أريد إيصاله إلى عبد من عطاء أو عذاب لا أفتقر إلى كد ومزاولة عمل ، بل يكفي لحصوله ووصوله تعلق الإرادة به ، وكن من كان التامة أي أحدث فيحدث ( رواه أحمد ) (ج5 : ص154 : 177) ( والترمذي ) في أواخر الزهد ، ( وابن ماجة ) في باب ذكر التوبة ، وأخرجه أيضا البيهقي كلهم من رواية شهر بن حوشب عبد الرحمن بن غنم عن أبي ذر ، وأخرج أحمد (ج5 : ص160) ، ومسلم ، والحاكم (ج4 : ص241) نحوه بزيادة ونقص ، وتقدم لفظ مسلم في الفصل الأول .

(16/109)


2374- قوله : ( أنه قرأ ) أي قوله تعالى في آخر سورة المدثر ? هو أهل التقوى ? أي : هو التحقيق بأن يتقيه المتقون بترك معاصيه والعمل ? وأهل المغفرة ? أي هو الحقيق بأن يغفر الله للمؤمنين ما فرط منهم من الذنوب ، والحقيق بأن يقبل التوبة التائبين من العصاة فيغفر ذنوبهم قاله الشوكاني : وقال البيضاوي ? هو أهل التقوى ? ( المدثر : 56) حقيق بأن يتقي عقابه ? وأهل المغفرة ? ( المدثر : 56) حقيق بأن يغفر لعباده - سيما المتقين منهم . وقال قتادة : أي : هو أهل أن يخاف منه وهو أهل أن يغفر ذنب من تاب إليه وأناب ( قال ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ( قال ربكم ) أي : معنى تفسيريا ( أنا أهل أن أتقى ) بإضافة أهل وصيغة المجهول من اتقى أي : يخاف ويحذر يعني أنا حقيق وجدير بأن يتقي العباد من جعل شريك بي ومن المعاصي ويخافوا من عذابي . وزاد أحمد وابن ماجة : فلا يجعل معي إلها آخر ، وفي رواية أخرى لابن ماجة أنا أهل أن أتقى فلا يشرك بي غيري ( فمن اتقاني ) أي : خافني . وزاد الترمذي فلم يجعل معي إلها ( فأنا أهل أن أغفر له ) أي : لمن اتقاني ، ولأحمد ، وابن ماجة فمن اتقى أن يجعل معي إلها آخر فأنا أهل أن أغفر له ، وفي رواية لابن ماجة : وأنا أهل لمن اتقى أن يشرك بي أن أغفر له . وهذا مضمون قوله تعالى : ? إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ? ( النساء : 48) ( رواه الترمذي ) في تفسير سورة المدثر ، ( وابن ماجة ) في باب ما يرجى من رحمة الله من أبواب الزهد
والدارمي .
2375- (30) وعن ابن عمر ، قال : إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس يقول : رب اغفر لي ، وتب علي ، إنك أنت التواب الغفور .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/110)


، ( والدارمي ) (ص366) في الرقاق وذكره الشوكاني في فتح القدير وزاد في نسبته أحمد ، والنسائي ، والبزار ، وأبا يعلى ، وابن جريج ، وابن المنذري ، وابن أبي حاتم ، وابن عدي ، وابن مردويه . قلت : وأخرجه أيضا الحاكم (ج2 : ص508) ، والبغوي كلهم من رواية سهيل بن عبد الله القطعي عن ثابت البناني عن أنس . قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، وسهيل ليس بقوي في الحديث ، وقد تفرد سهيل بهذا الحديث عن ثابت - انتهى . قلت : الحديث قد صححه الحاكم ووافقه الذهبي وسهيل المذكور مختلف فيه ، وجروح من جرحه مبهمة . قال أحمد : فيه روى أحاديث منكرة . وقال البخاري : لا يتابع في حديثه يتكلمون فيه . وقال مرة : ليس بالقوي عندهم ، وكذا قال أبو حاتم ، والنسائي : ليس بالقوي . وقال أحمد بن زهير : سئل ابن معين عن سهيل فقال : ضعيف . وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين : صالح . ووثقه العجلي كذا في تهذيب التهذيب . وقال في التقريب : ضعيف . وقد تحصل من هذا كله أن حديثه لا ينزل عن درجة الحسن ، ولحديث هذا شواهد . فقد روى ابن مردويه عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس نحوه .

(16/111)


2375- قوله : ( إن ) مخففة من المثقلة بقرينة المقام ( كنا لنعد ) اللام فارقة ونعد بفتح النون وضم العين وتشديد الدال أي لنحصي ( لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) متعلق بنعد ( في المجلس ) أي : الواحد كما في رواية أبي داود ، والترمذي ، وابن السني ، وزاد الترمذي أيضا (( من قبل أن يقوم )) ( يقول ) بالرفع وينصب بتقدير أن أي : قوله : ( رب اغفر لي ) وكأنه كان يقول ذلك عملا بقوله تعالى ? واستغفره إنه كان توابا ? ( النصر : 3 ) وتمسكا بقوله : ? إن الله يحب التوابين ? ( البقرة : 222) والحديث يدل على أن استغفاره - صلى الله عليه وسلم - كان بلفظ الدعاء وقد رجحوه على قول القائل : استغفر الله لأنه إن كان غافلا ولاهيا في ذلك كذبا بخلاف الدعاء فإنه قد يستجاب إذا صادف الوقت وإن كان مع الغفلة كذا قالوا ، وهذا مبني على أن قوله : أستغفر الله خبر ، ويجوز أن يكون إنشاء وهو الظاهر . وقد ورد في الصحيح قوله : - صلى الله عليه وسلم - أستغفر الله الذي لا إله إلا هو القيوم وأتوب إليه . نعم يرجحه فيمن سواه - صلى الله عليه وسلم - كذا في الملعات ( وتب علي ) أي : ارجع علي بالرحمة أو وفقني للتوبة أو اقبل توبتي ( إنك أنت التواب الغفور ) صيغتا مبالغة وهذا لفظ أحمد والترمذي ، وفي رواية أبي داود ، وابن ماجة ، وابن السني ، الرحيم بدل الغفور ، وهكذا وقع عند النسائي في رواية . وابن حبان
مائة مرة . رواه أحمد ، والترمذي ، وأبو داود ، وابن ماجة .
2376- (31) وعن بلال بن يسار بن زيد مولى النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : حدثني أبي ، عن جدي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/112)


( مائة مرة ) مفعول مطلق لنعد ( رواه أحمد ) (ج2 : ص21 - 67 : 84) ، ( والترمذي ) في الدعوات ، ( وأبو داود ) في أواخر الصلاة ( وابن ماجة ) في باب الاستغفار ، واللفظ لأحمد في (ج2 : ص21) ، وأخرجه أيضا النسائي ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2 : ص78) ، وابن حبان في صحيحه ، وابن السني (ص120 : 144) وصححه الترمذي ، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره .
2376- قوله : ( وعن بلال ) بالباء الموحدة كذا عند الترمذي ، وهكذا ذكره البخاري في التاريخ الكبير (1/2/ 108) ، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (1/1/397) ، والحافظ في تهذيب التهذيب (1/505) ، والتقريب ، والخزرجي في الخلاصة ، والجزري في جامع الأصول (ج5 : ص145) ، والمزي في الأطراف ، وكذا وقع في بعض نسخ سنن أبي داود ، ووقع في أكثرها هلال بن يسار بالهاء . قال المنذري في مختصر السنن : وقع في كتاب أبي داود هلال بن يسار بن زيد بالهاء ، ووقع في كتاب الترمذي وغيره وفي بعض نسخ سنن أبي داود : بلال بن يسار بالباء الموحدة . وقد أشار الناس إلى الخلاف فيه ، وذكره البغوي في معجم الصحابة بالباء . وذكره البخاري في تاريخه الكبير أيضا بالباء - انتهى . وقال الجزري : بلال بن يسار كذا عند الترمذي أي : بالموحدة ، وعند أبي داود هلال بن يسار أي بالهاء ، وقد ظهر من هذا أنه اختلف في أنه بالباء الموحدة أو بالهاء ، وقد ذكر هذا الاختلاف ابن الأثير في أسد الغابة في ترجمة جده زيد بن بولا مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ذكر هذا الحديث من طريق موسى بن إسماعيل حفص بن عمر الشني عن أبيه عمر بن مرة عن بلال بن يسار بن زيد عن أبيه عن جده ومن هذا الطريق أخرجه الترمذي وأبو داود وغيرهما . قال : وقد قال : بعضهم هلال موضع بلال والله أعلم . ( بن يسار ) بالياء التحتانية وسين مهملة ( بن زيد ) بن بولي ( مولى النبي ) بيان لزيد . قال في التقريب : بلال بن يسار بن زيد القرشي مولاهم

(16/113)


بصري مقبول . وقال في تهذيب التهذيب : بلال بن يسار بن زيد القرشي مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثه في أهل البصرة روى عن أبيه عن جده في الاستغفار ، وعنه عمر بن عمر بن مرة الشني روى أبو داود والترمذي له حديث واحدا واستغربه الترمذي . قلت : وذكره ابن حبان في الثقات - انتهى . ( قال ) أي : بلال ( حدثني أبي ) أي : يسار بن زيد أبو بلال . قال في التقريب : مقبول . وقال في تهذيب التهذيب ذكره ابن حبان في الثقات : ( عن جدي ) أي : زيد قال في التقريب : زيد والد يسار مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -
أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ، غفر له ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/114)


صحابي ، له حديث ذكر أبو موسى المدني إن اسم أبيه بولا بموحدة وكان عبدا نوبيا . وقال في الإصابة : زيد بن بولي بالموحدة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو يسار ، له حديث عند أبي داود والترمذي من رواية ولده بلال بن يسار بن زيد ، حدثني أبي عن جدي ، ذكر أبو موسى ( المدني ) إن اسم أبيه بولا بالموحدة ، وقال غيره اسمه زيد يعني لم ينسبه غير أبي موسى . وقال ابن شاهين : كان نوبيا أصابه النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بني ثعلبة فأعتقه - انتهى . وقال ابن الأثير في أسد الغابة : هو في كتاب ابن مندة إلا أنه ينسبه ولا نسبه أبو عمر ( ولا البخاري ولا ابن أبي حاتم ) وإنما نسبه أبو نعيم وتبعه أبو موسى . وأخرج الحديث بعينه عن بلال بن يسار عن أبيه عن جده زيد فهو لا شك فيه - انتهى . وقال الجزري في تصحيح المصابيح : ليس زيد هذا زيد بن حارثة والد أسامة بل هو أبو يسار روى عنه ابنه يسار هذا الحديث وذكره البغوي في معجم الصحابة ، وقال : لا أعلم لزيد مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير هذا الحديث وذكر إن كنيته أبو يسار وإنه سكن المدينة ( إنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا في جميع النسخ الحاضرة ، وهكذا في جامع الأصول ، وفي بعض نسخ أبي داود ، ووقع في الترمذي وأكثر نسخ أبي داود أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ( من قال ) أي مخلصا من قلبه : ( أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ) روي بالنصب على الوصف للفظ الله وبالرفع لكونهما بدلين أو بيانين لقوله هو ، والأول هو الأكثر والأشهر . وقال الطيبي : يجوز في الحي القيوم النصب صفة لله أو مدحا والرفع بدلا من الضمير أو على المدح أو على خبر مبتدأ محذوف ( وأتوب إليه ) قال القاري : ينبغي أن لا يتلفظ بذلك إلا إذا كان صادقا وألا يكون بين يدي الله كاذبا ، ولذا روي إن المستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه - انتهى . وذكر

(16/115)


النووي في كتاب الأذكار عن الربيع بن خيثم أنه قال ، لا يقل أحدكم أستغفر الله وأتوب إليه فيكون ذنبا وكذبا إن لم يفعل ، بل يقول اللهم اغفر لي وتب علي . قال النووي : وهذا الذي قاله من قوله : اللهم اغفر لي وتب علي حسن ، وأما كراهة أستغفر الله ، وتسميته كذبا فلا نوافق عليه لأن معنى أستغفر الله أطلب مغفرته وليس في هذا كذب ، ويكفي في رده حديث من قال أستغفر الله الذي لا إله ألا هو . إلخ ، يعني حديث بلال بن يسار الذي نحن في شرحه قال الحافظ : هذا في لفظ أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم . وأما أتوب إليه فهو الذي عنا الربيع رحمه الله إنه كذب وهو كذلك إذا قاله ولم يفعل التوبة كما قال . وفي الاستدلال للرد عليه بالحديث الذي ذكره نظر لجواز أن يكون المراد منه ما إذا قالها وفعل شروط التوبة ، ويحتمل أن يكون الربيع قصد مجموع اللفظين لا خصوص أستغفر الله فيصح كلامه كله والله أعلم . ثم نقل الحافظ كلام السبكي من الحلبيات وقد
وإن كان قد فر من الزحف . رواه الترمذي ، وأبو داود ، لكنه عند أبي داود : هلال بن يسار ، وقال الترمذي : هذا حديث غريب .
( الفصل الثالث )
2377- (32) عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة ، فيقول : يا رب : أنى لي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/116)


ذكرناه في شرح حديث (2358) فراجعه ( وإن كان قد فر ) أي هرب ( من الزحف ) بفتح الزاي وسكون الحاء أي من الجهاد ولقاء العدو في الحرب يعني وإن ارتكب الكبيرة فإن الفرار من الزحف كبيرة أوعد الله تعالى عليه : ? ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ? ( الأنفال : 16) الآية قال الطيبي : الزحف الجيش الكثير الذي يرى لكثرته كأنه يزحف . قال في النهاية : من زحف الصبي إذا دب على لسته قليلا قليلا . وقال المظهر : هو اجتماع الجيش في وجه العدو . أي فر من حرب الكفار حيث لا يجوز الفرار بأن لا يزيد الكفار على المسلمين مثلي عدد المسلمين ولا نوى التحرف أو التحيز . قال الشوكاني : في الحديث دليل على أن الاستغفار يمحو الذنوب سواء كانت كبائر أو صغائر ، فإن الفرار من الزحف من الكبائر بلا خلاف . وقال أبو نعيم الأصبهاني هذا يدل على أن بعض الكبائر تغفر ببعض العمل الصالح وضابطه الذنوب التي لا توجب على مرتكبها حكما في نفس ولا مال . ووجه الدلالة منه إنه مثل بالفرار من الزحف وهو من الكبائر ، فدل على أن ما كان مثله أو دونه يغفر إذا كان مثل الفرار من الزحف فإنه لا يوجب على مرتكبه حكما في نفس ولا مال كذا في الفتح ( رواه الترمذي ) في الدعوات عن الإمام البخاري عن موسى بن إسماعيل ، ( وأبو داود ) في أواخر الصلاة عن موسى بن إسماعيل ، وأخرجه أيضا البخاري في التاريخ الكبير (1/2/347) ، وأبو نعيم ، وأبو موسى المديني وذكره على المتقي في الكنز (ج1 : ص431) وزاد في نسبته ابن سعد ، والبغوي ، وابن مندة ، والباوردي ، والطبراني ، وسعيد بن منصور ، وابن عساكر . ( وقال الترمذي : هذا حديث غريب ) لا نعرفه إلا من هذا الوجه . قال المنذري في الترغيب بعد نقل كلام الترمذي هذا : (( وإسناده جيد متصل فقد ذكر البخاري في تاريخه الكبير (2/1/108)

(16/117)


إن بلالا سمع من أبيه (2/4/421) وإن يسار سمع من أبيه زيد مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال ورواه الحاكم من حديث ابن مسعود . وقال صحيح على شرطهما إلا أنه قال يقولها ثلاثا - انتهى . قلت : وروا الطبراني موقوفا من قول ابن مسعود . قال الهيثمي : (ج10 : ص210) : ورجاله وثقوا . ونسبه في الكنز لابن أبي شيبة موقوفا على ابن مسعود ومعاذ .
2377- قوله : ( في الجنة ) متعلق بيرفع ( فيقول ) أي : العبد ( أنى لي ) أي كيف حصل أو من أين
هذه ؟ فيقول : باستغفار ولدك لك . رواه أحمد .
2378- (33) وعن عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما الميت في القبر إلا كالغريق المتغوث ، ينتظر دعوة تلحقه من أب ، أو أم ، أو أخ ، أو صديق ، فإذا لحقته كان أحب إليه من الدنيا وما فيها ، وإن الله تعالى ليدخل على أهل القبور من دعاء أهل الأرض أمثال الجبال ، وإن هدية الأحياء إلى الأموات الاستغفار لهم . رواه البيهقي في (( شعب الإيمان )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حصل لي ( هذه ) أي : الدرجة ( فيقول : باستغفار ) أي حصل باستغفار ( ولدك لك ) الولد يطلق على الذكر والأنثى ، المراد به المؤمن وهذا أحد منافع النكاح وأعظمها وأحد الأشياء التي تلحق المؤمن من حسناته وعمله بعد موته كما جاء في الحديث . قال الطيبي : دل الحديث السابق على أن الاستغفار يحط من الذنوب أعظمها ، وهذا يدل على أنه يرفع درجة غير المستغفر إلى ما يبلغها بعمله فما ظنك بالعامل المستغفر ولو لم يكن في النكاح فضيلة غير هذا لكفى به فضلا والله أعلم ( رواه أحمد ) (ج2 : ص509) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10 : ص210) بهذا اللفظ ، ثم قال رواه أحمد والطبراني في الأوسط ورجالهما رجال الصحيح غير عاصم بن بهدلة ، وقد وثق - انتهى . وفي الباب عن أبي سعيد عند الطبراني في الأوسط : قال الهيثمي : وفيه ضعفاء وقد وثقوا .

(16/118)


2378- قوله : ( ما الميت في قبر ) أي : في حال من أحوال الشدة ( إلا كالغريق ) أي المشرف على الغرق ( المتغوث ) أي المستغيث المستعين المستجير الرافع صوته بأقصى ما عنده بالنداء لمن يخلصه المتعلق بكل شيء رجاء لخلاصه ، وفي المثل الغريق يتعلق بكل حشيش ( تلحقه ) أي من وراءه ( من أب ) أي من جهة أب ( أو أم أو أخ أو صديق ) أي محب وهذا تخصيص ببعض من يرجى منه الغوث ويتوقع الدعاء والاستغفار أكثر ممن سواه ، وإلا فالحكم عام كما قال في آخر الحديث ، ولم يذكر الولد في هذا الحديث لكونه معلوما مقررا مذكورا في الأحاديث ( فإذا لحقته ) أي وصلته الدعوة . قال ابن حجر : بأن دعى له بها فإنه تصل إليه بمجرد ذلك إجماعا ( كان ) أي لحوقها إياه ( أحب إليه من الدنيا وما فيها ) أي من مستلذاتها . وقال ابن حجر : أي : لو عاد إليها ( وإن الله ليدخل على أهل القبور من دعاء أهل الأرض ) أي : ممن هو حي فوق الأرض ومن تعليلية أو ابتدائية ( أمثال الجبال ) أي : من الرحمة والغفران لو تجسمت ( رواه البيهقي ) ، وأخرجه أيضا أبو الشيخ في فوائده وذكره الذهبي في ترجمة محمد بن جابر بن أبي عياش الحمصي ، وقال فيه : لا أعرفه وخبره منكر جدا ، ثم قال وروى الفضل بن محمد الباهلي وعبد الله بن محمد بن خالد الرازي عنه ، قال حدثنا ابن المبارك عن يعقوب بن القعقاع
2379- (33م) وعن عبد الله بن بسر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا . رواه ابن ماجة ، وروى النسائي في (( عمل اليوم والليلة )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/119)


عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما الميت في قبره إلا كالغريق ينتظر دعوة تلحقه من أب أو أم أو صديق ، وإن الله ليدخل من الدعاء على أهل القبور كأمثال الجبال ، وإن هدية الأحياء إلى الأموات الاستغفار لهم . زاد الرازي : والصدقة عنهم - انتهى . قال الحافظ في اللسان (ج5 : ص99) بعد ذكره أورده البيهقي في الشعب ، ونقل عن ابن علي الحافظ أنه غريب من حديث ابن المبارك لم يقع عند أهل خراسان ، قال : ولم أكتبه إلا عن هذا الشيخ يعني الفضل بن محمد . قال البيهقي : وتابعه محمد بن خزيمة عن ابن أبي عياش . وابن عياش تفرد به .

(16/120)


2379- قوله : ( وعن عبد الله بن بسر ) بضم الموحدة وسكون المهملة ( طوبى ) فعل من الطيب ، وهي اسم الجنة أو شجرة فيها . وقيل : المراد راحة وطيب عيش . قال القاري : طوبى أي : الحالة الطيبة والعيشة الراضية أو الشجرة المشهورة في الجنة العالية ( لمن وجد في صحيفته ) أي : في الآخرة ( استغفارا كثيرا ) أي : لعظم منافعه قال الطيبي : فإن قيل لم يقل طوبى لمن استغفر كثيرا وما فائدة العدول ؟ قلت : هو كناية عنه فيدل على حصول ذلك جزما وعلى الإخلاص ، لأنه إذا لم يكن مخلصا فيه كان هباء منثورا فلم يجد في صحيفته إلا ما يكون حجة عليه ووبالا له - انتهى . وقوله : (( استغفارا كثيرا )) هكذا وقع في النسخ الحاضرة من المشكاة وسنن ابن ماجة بنصب استغفارا ، وكذا في الحصن ، والكنز ، والجامع الصغير ، وعدة الحصن ، والأذكار للنووي ، وفي الترغيب للمنذري برفع استغفار . قال الشوكاني في تحفة الذاكرين شرح عدة الحصن الحصين : قوله : (( استغفارا كثيرا )) هكذا في نسخ هذا الكتاب أي : العدة بنصب استغفارا على أنه مفعول به وإن الفعل وهو وجد مبني للمعلوم ، وفي غير هذا الكتاب برفع استغفار على أن الفعل مبني للمجهول ، وهذا أقوى وأولى لأن المقصود وجود ذلك في الصحيفة لأي واحد كان من ملك أو بشر لا وجود ذلك لصاحب الصحيفة نفسه ، وإن كان لابد أن يجدها يوم الحساب - انتهى . قلت : ولم أجد (( استغفار )) بالرفع إلا في الترغيب للمنذري . وأما ما عدا ذلك من الكتب التي ذكرناها ، ففي كلها بنصب استغفارا فهو أولى وأقوى بل هو الصحيح ( رواه ابن ماجة ) في باب الاستغفار من سننه . قال المنذري : بإسناد صحيح . وقال البوصيري : إسناده صحيح رجاله ثقات . ( وروى النسائي ) الأولى أن يقول ورواه النسائي ( في عمل يوم وليلة ) قال الطيبي : ترجمة كتاب صنفه في الأعمال اليومية والليلية - انتهى . ورواه أيضا البيهقي كما في الترغيب ، وروى الطبراني في

(16/121)


الأوسط عن الزبير بن العوام مرفوعا : (( من أحب أن تسره صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار )) . قال الهيثمي : رجاله ثقات ، ورواه البيهقي أيضا . قال المنذري : بإسناد لا بأس به ، وعزاه في
2380- (34) وعن عائشة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : اللهم اجعلني من الذين إذا أحسنوا استبشروا ، وإذا أساؤا استغفروا . رواه ابن ماجة ، والبيهقي (( في الدعوات الكبير )) .
2381- (35) وعن الحارث بن سويد ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكنز للضياء أيضا ، وفي الباب أيضا عن عائشة أخرجه أبو نعيم في الحلية ، وعن أبي الدرداء موقوفا أخرجه أحمد في الزهد وعن أنس مرفوعا أخرجه البزار ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10 : ص208) ، والجزري في الحصن وعن معاوية بن جندب أخرجه ابن عساكر ، والديلمي في مسند الفردوس ذكره في الكنز (ج1 : ص424) .

(16/122)


2380- قوله : ( اللهم اجعلني من الذين إذا أحسنوا ) أي العلم والعمل ( استبشروا ) أي فرحوا بالتوفيق قال تعالى : ? قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ? ( يونس : 58) ( وإذا أساؤا ) أي : قصروا في أحدهما ( استغفروا ) كان ظاهر المقابلة أن يقال : وإذا أساؤا حزنوا فعدل عن الداء إلى الدواء إيماء إلى أن مجرد الحزن لا يكون مفيدا ، وإنما يكون مفيدا إذا أبحر إلى الاستغفار المزيل للإصرار كذا في المرقاة . وقال الطيبي : إذا أحسنوا استبشروا أي إذا أتوا بعمل خير قرنوه بالإخلاص فيترتب عليه الجزاء فيستحقوا الجنة ويستبشروا بها ، كما قال : ? وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ? ( فصلت :30) فهو كناية تلويحية ، وقوله : (( وإذا أساؤا استغفروا )) عبارة عن أن لا يبتليهم بالاستدراج ويرى أعمالهم حسنة فيهلكوا كما قال تعالى : ? أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ? ( فاطر : 8) - انتهى . وهذا تعليم للأمة وإرشاد إلى لزوم الاستغفار وإلا فهو - صلى الله عليه وسلم - أرقى وأتقى من كل الأخيار ( رواه ابن ماجة ) في باب الاستغفار من سننه ، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان . قال في الزوائد : وهو : ضعيف . قلت : ضعفه ابن سعد ، وأحمد ، ويحي والجوزجاني ، والنسائي . وقال أبو زرعة : ليس بقوي . وقال الحاكم : ليس بقوي يكتب حديثه ولا يحتج به . وقال ابن خزيمة : لا أحتج به لسوء حفظه . وقال الحاكم : أبو أحمد ليس بالمتين عندهم . وقال الدارقطني : أنا أقف فيه لا يزال عندي فيه لين . وقال يعقوب بن شيبة : ثقة صالح الحديث وإلى اللين ما هو . قال الساجي : كان من أهل الصدق ، ويحتمل لرواية الجلة ( قتادة ، والسفيانين ، والحمادين وشعبة ، وغيرهم ) عنه وقال الترمذي : صدوق إلا أنه ربما رفع الشيء الذي يوقفه غيره . والحديث ذكره السيوطي في الجامع

(16/123)


الصغير وعلي المتقي في الكنز (ج2 : ص113) ورمزا له ابن ماجة ، والبيهقي في الشعب وذكره في الكنز (ج2 ص128) أيضا وزاد في نسبته الخطيب ، وابن عساكر وذكره ابن رجب في شرح الأربعين (ص163) وعزاه لأحمد فقط .
2381- قوله : ( وعن الحارث بن سويد ) بالتصغير التيمي من بني تيم الرباب الكوفي أبو عائشة . قال
قال : حدثنا عبد الله بن مسعود حديثين : أحدهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والآخر عن نفسه قال : إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه ، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا - أي بيده -
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/124)


المؤلف : من كبار التابعين وثقاتهم . وقال الحافظ : ثقة ثبت من كبار التابعين . وقال ابن عيينة : كان الحارث من علية أصحاب ابن مسعود توفى آخر خلافة ابن الزبير وأرخه ابن أبي خيثمة سنة إحدى أو اثنتين وسبعين . ( قال : حدثنا عبد الله بن مسعود حديثين ) نصبه على المفعول الثاني ، وفي رواية لمسلم قال : دخلت على عبد الله أعوده وهو مريض فحدثنا بحديثين ( أحدهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي : يروى عنه ( والآخر عن نفسه ) أي : نفس ابن مسعود يعني مروي من قوله ( قال ) وهو الحديث الموقوف . قال الحافظ : لم يقع التصريح برفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في شيء من نسخ كتب الحديث إلا ما قرأت في شرح مغلطائي ، إنه روي مرفوعا من طريق وهاها أبو أحمد الجرحاني يعني ابن عدي - انتهى . ( أن المؤمن يرى ذنوبه ) قال الطيبي : ذنوبه المفعول الأول والمفعول الثاني محذوف أي كالجبال بدليل قوله في الآخر : كذباب مراى عظيمة ثقيله أو هو قوله : ( كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه ) قال ابن أبي جمرة : السبب في ذلك إن قلب المؤمن منور ، فإذا رأى من نفسه ما يخاف ما ينور به قلبه عظم الأمر عليه ، والحكمة في التمثيل بالجبل إن غيره من المهلكات قد يحصل النسبب إلى النجاة منه بخلاف الجبل إذا سقط على الشخص لا ينجو منه عادة ، وحاصله أن المؤمن يغلب عليه الخوف لقوة ما عنده من الإيمان فلا يأمن العقوبة بسببها ، وهذا شأن المؤمن أنه دائم الخوف والمراقبة يستصغر عمله الصالح ويخشى من صغير عمله السيئ كذا في الفتح . وقال القاري : وهو تشبيه تمثيل شبه حاله بالقياس إلى ذنبه وأنه يرى أنها مهلكة بحاله إذا كان تحت جبل يخافه ، فدل الحديث على أن المؤمن في غاية الخوف والاحتراز من الذنوب ، ولا ينافيه الاعتدال المطلوب بين الخوف والرجاء في المحبوب ، لأن رجاء المؤمن وحسن ظنه بربه في غاية ونهاية - انتهى . ( وإن الفاجر ) أي : العاصي الفاسق

(16/125)


( يرى ذنوبه كذباب ) بضم المعجمة وموحدتين الأولى خفيفة بينهما ألف الطير المعروف ، وفي رواية الإسماعيلي يرى ذنوبه كأنها ذباب ( مر على أنفه ) أراد أن ذنبه سهل عنده فلا يبالي به لاعتقاده عدم حصول ضرر كبير بسببه كما أن ضرر الذباب عنده سهل ( فقال به ) أي : أشار إلى الذباب أو فعل به ( هكذا ) يعني نحاه بيده أو دفعه وذبه وهو من إطلاق القول على الفعل قالوا : وهو أبلغ ( أي : بيده ) تفسير للإشارة أي دفع الذباب بيده . وقوله : (( أي : بيده )) كذا في جميع النسخ الحاضرة وهكذا في جامع الأصول (ج3 : ص65) والذي في البخاري قال أبو شهاب ( راوي الحديث عن الأعمش عن عمارة بن
فذبه عنه ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الله أفرح بتوبة عبد المؤمن من رجل ، نزل في أرض دوية مهلكة ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/126)


عمير عن الحارث بن سويد عن ابن مسعود وهو موصول بهذا السند ) بيده فوق أنفه وهو تفسير منه لقوله فقال به ، وعند أحمد ، والترمذي كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار . قال المحب الطبري : إنما كانت هذه صفة المؤمن لشدة خوفه من الله ومن عقوبته ، لأنه على يقين من الذنب وليس على يقين من المغفرة ، والفاجر قليل المعرفة بالله فلذلك قل خوفه واستهان بالمعصية . وقال ابن أبي جمرة : السبب في ذلك إن قلب الفاجر مظلم فوقوع الذنب خفيف عنده ، ولهذا تجد من يقع في المعصية منهم إذا وعظ يقول هذا سهل قال : والحكمة في تشبيه ذنوب الفاجر بالذباب كون الذباب أخف الطير وأحقره وهو مما يعاين ويدفع بأقل الأشياء ، قال : وفي ذكر الأنف مبالغة في اعتقاده خفة الذباب عنده ، لأن الذباب قلما ينزل على الأنف ، وإنما يقصد غاليا العين قال : وإشارته بيده تأكيد للخفة أيضا لأنه بهذا القدر اليسير يدفع ضرره ( فذبه عنه ) تفسير لما قبله أي : دفع الذباب عن نفسه وبه سمي الذباب ذبابا لأنه كلما ذب آب أي : كلما دفع رجع ، وليست هذه الجملة في البخاري . والظاهر أن المؤلف ذكرها تبعا للجزري في جامع الأصول وقد تم الحديث الموصول على هذا ( ثم قال ) أي : ابن مسعود ( سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) كذا في جميع النسخ الحاضرة ، وهكذا في جامع الأصول والترغيب ولم يقع التصريح برفعه عند البخاري ، نعم وقع بيان ذلك في رواية مسلم مع كونه لم يسق حديث ابن مسعود الموقوف ولفظه من طريق جرير عن الأعمش عن عمارة عن الحارث ، قال : دخلت على ابن مسعود أعوده وهو مريض فحدثنا بحديثين حديثا عن نفسه وحديثا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لله أشد فرحا - الحديث ( لله ) بلام التأكيد المفتوحة ( أفرح بتوبة عبده ) أي : من المعصية إلى الطاعة . قال الطيبي : لما صور حال المذنب بتلك الصورة الفظيعة أشار إلى

(16/127)


أن الملجأ هو التوبة والرجوع إلى الله تعالى انتهى . يعني فحصلت المناسبة بين الحديثين من الموقوف والمرفوع ، وهذا لفظ البخاري ، ولمسلم : لله أشد فرحا بتوبة عبده ( المؤمن ) . هذا من زيادات مسلم وليس عند البخاري ( من رجل ) متعلق بأفرح ( نزل ) هذا من زيادات البخاري وليس مسلم وليس عند مسلم ( في أرض دوية مهلكة ) بفتح الدال وتشديد الواو المكسورة وتشديد الياء المفتوحة بعدها هاء التأنيث نسبة إلى الدو ، بفتح الدال وتشديد الواو ، وهي الأرض الفقر والفلاة الخالية أي البرية والصحراء التي لا نبات بها ، قال ابن الأثير : ألدو الصحراء ، والدوية منسوبة إليها ووقع في رواية داوية ، وهي أيضا بتشديد الياء . وقيل : ذلك لإبدال الواو الأولى ألفا ، وقد يبدل في النسبة على غير قياس نحو طائي في النسبة إلى طي ، ومهلكة بفتح الميم واللام بينهما هاء ساكنة أي موضع الهلاك أو الهلاك
معه راحلته ، عليها طعامه وشرابه ، فوضع رأسه فنام نومة ، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته ، فطلبها حتى إذ اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله ، قال : أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه ، فأنام حتى أموت ، فوضع رأسه على ساعده ليموت ، فاستيقظ ، فإذا راحلته عنده ، عليها زاده وشرابه فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/128)


نفسه . وقال النووي : وهي موضع خوف الهلاك ، ويقال لها : مفازة - انتهى . وتفتح لامها وتكسر وهما بمعنى ، والمراد يهلك سالكها أو من حصل فيها ، ويروى مهلكة بضم الميم وكسر اللام اسم فاعل من الثلاثي المزيد فيه أي : تهلك هي من يحصل بها واللفظ المذكور لمسلم ، ولفظ البخاري : (( نزل منزلا وبه مهلكة )) أي : بالمنزل أي : فيه مهلكة . قال الحافظ : كذا في الروايات التي وقفت عليها من صحيح البخاري بواو مفتوحة ثم موحدة خفيفة مكسورة ثم هاء ضمير ثم ذكر الحافظ لفظ مسلم مع ضبطه وشرحه ( عليها طعامه وشرابه ) زاد الترمذي وما يصلحه ( فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته ) أي : فخرج في طلبها واستمر على ذلك وهذا لفظ البخاري ، ولمسلم : فنام فاستيقظ وقد ذهبت فطلبها . وفي رواية أحمد ، والترمذي : فأضلها فخرج في طلبها ( حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش ) هذا لفظ البخاري . ولمسلم حتى أدركه العطش ، ولأحمد ، والترمذي حتى إذا أدركه الموت ( أو ما شاء الله ) قال الحافظ والعيني والقسطلاني : شك من أبي شهاب ( راوي الحديث عن الأعمش ) وقال الطيبي : إما شك من الراوي والتقدير ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك أو قال ما شاء الله . أو تنويع أي : اشتد الحر والعطش أو ما شاء الله من العذاب والبلاء غير الحر والعطش . قال القاري : والأظهر إن (( أو )) بمعنى الواو ، وهو تعميم بعد تخصيص أي : وما شاء الله بعد ذلك ( قال ) أي : في نفسه وهو جواب إذا ( أرجع ) بفتح الهمزة بلفظ المتكلم وهذا للبخاري وعند مسلم ثم قال : ارجع ( إلى مكاني الذي كنت فيه ) لاحتمال أن تعود الراحلة إليه لا لفها له أولا ( فأنام حتى أموت ) أي : أو حتى ترجع إلى راحلتي . وإنما اقتصر على ما ذكر استبعادا لجانب الحياة ويأسا عن رجوع الراحلة ( فوضع رأسه على ساعة ليموت فاستيقظ ) أي : فنام فاستنبه ( فإذا راحلته عنده ) أي : حاضرة أو واقفة ( فالله أشد فرحا

(16/129)


بتوبة العبد المؤمن من هذا ) أي : من فرح هذا الرجل ( براحلته وزاده ) هذا فذلك القصة أعيدت لتأكيد القضية ، وقوله : الذي كنت فيه فأنام إلى آخر الحديث لفظ مسلم . وللبخاري قال : أرجع إلى مكاني فرجع فنام نومة ، ثم رفع رأسه فإذا رحلته عنده ، وللترمذي قال : أرجع إلى مكاني الذي أضللتها فيه فأموت فيه ، فرجع إلى مكانه فغلبته عينه فاستيقظ فإذا راحلته عند رأسه ، عليها طعامه وشرابه وما يصلحه ، وهكذا وقع عند أحمد . والحديث فيه إشارة إلى قوله : ? إن الله يحب التوابين ? ( البقرة : 222) وإنهم بمكان عظيم عند رب كريم رؤوف رحيم تنبيه : ذكر مسلم من حديث البراء لهذا الحديث المرفوع سببا ، وأوله كيف تقولون في رجل انفلتت
روى مسلم المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فحسب ، وروى البخاري الموقوف على ابن مسعود أيضا .
2382- (36) وعن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يحب العبد المؤمن المفتن التواب .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عنه راحلته بأرض قفر ليس بها طعام ولا شراب وعليها له طعام وشراب فطلبها حتى شق عليه فذكر معناه وأخرجه ابن حبان من حديث أبي هريرة مختصرا ذكروا الفرح عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والرجل يجد ضالته فقال : لله أشد فرحا - الحديث . ذكره الحافظ في الفتح

(16/130)


( روى مسلم المرفوع ) أي : الحديث المرفوع ( إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه أي : مما ذكر أي : مما ذكر من الحديث المروي المركب من الموقوف والمرفوع ( فحسب ) أي : فقط ( وروى البخاري الموقوف على ابن مسعود أيضا ) وهو : إن المؤمن . إلخ . وحاصله أن الحديث المرفوع متفق عليه والموقوف من أفراد البخاري وأخرج أحمد (ج1 : ص383) ، والترمذي في الزهد الموقوف والمرفوع جميعا ، وأخرج النسائي في الكبرى المرفوع فقط ، وروي المرفوع أيضا من حديث البراء عند أحمد ومسلم ، ومن حديث أنس ، وقد تقدم ، ومن حديث النعمان بن بشير عند أحمد ، ومسلم : ومن حديث أبي هريرة عند مسلم وغيره ، ومن حديث أبي سعيد عند أحمد ، وابن ماجة .

(16/131)


2382- قوله : ( إن الله يحب العبد المؤمن المفتن ) بتشديد التاء المفتوحة أي الممتحن بالذنب ( التواب ) أي الكثير التوبة ، ومحبة الله تعالى له إنما هي من جهة التوبة . قال في النهاية : المفتن الممتحن يمتحنه الله بالذنب ثم يتوب ثم يعود إليه ثم يتوب منه . قال المناوي : وهكذا وذلك لأنه محل تنفيذ إرادته وإظهار عظمته وسعة رحمته . وقال ابن القيم : المفتن التواب هو الذي كلما فتن بالذنب تاب منه . وقال القرطي : معناه الذي يتكرر منه الذنب والتوبة فكلما وقع في الذنب عاد إلى التوبة . وقال القاري : المفتن أي : المبتلى كثيرا بالسيئات أو بالغفلات أو بالحجب عن الحضرات لئلا يبتلى بالعجب والغرور الذين هما من أعظم الذنوب وأكثر العيوب - انتهى . والحديث صريح في صحة التوبة مع وقوع العودة وفيه رد على من اشترط لصحة التوبة أن لا يعود إلى ذلك الذنب ، وقال : فإن عاد إليه بأن أن توبته باطلة ، وقد عزى هذا القول للقاضي أبي بكر الباقلاني ويرده أيضا حديث ( رقم 2258) المتقدم في الفصل الأول من هذا الباب قال ابن القيم في مدارج السالكين (ج1 : ص152) ومن أحكام التوبة أنه هل يشترط في صحتها أن لا يعود إلى الذنب أبدا أم ليس ذلك بشرط ؟ فشرط بعض الناس عدم معاودة الذنب ، فقال : متى عاد تبين أن التوبة كانت باطلة غير صحيحة والأكثرون على إن ذلك ليس بشرط . وإنما صحة التوبة تتوقف على الإقلاع عن الذنب والندم عليه والعزم الجازم على ترك معاودته ، فإن كانت في حق آدمي
2383- (37) وعن ثوبان ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما أحب أن لي الدنيا بهذه الآية==

18. مرعاة المفاتيح

فهل يشترط تحلله ؟ فيه تفصيل سنذكره إنشاء الله ، فإذا عاوده مع عزمه حال التوبة على أن لا يعاوده صار كمن ابتدأ المعصية ولم تبطل توبته المتقدمة والمسألة مبنية على أصل وهو أن العبد إذا تاب من الذنب ثم عاوده فهل يعود إليه إثم الذنب الذي قد تاب منه ، ثم عاوده بحيث يستحق العقوبة على الأول والآخر إن مات مصرا ؟ أو إن ذلك قد بطل بالكلية فلا يعود إثمه وإنما يعاقب على هذا الأخير ؟ وفي هذا الأصل قولان ثم ذكرهما مع البسط (ج1 : ص152 : 156) فارجع إليه إن شئت ، والحديث عزاه المؤلف لأحمد وكذا نسبه إليه السيوطي في الجامع الصغير وعلي المتقي في الكنز (ج4 : ص121) وفيه نظر فإنه ليس مما رواه أحمد بل هو من زيادات ابنه عبد الله ومن طريقه رواه أبو نعيم في الحلية (ج3 : ص178 ، 179) قال عبد الله : حدثني عبد الأعلى بن حماد النرسي حدثنا أبو داود بن عبد الرحمن العطار حدثنا أبو عبد الله مسلمة الرازي عن أبي عمرو البجلي عن عبد الملك بن سيفان الثقفي عن أبي جعفر محمد بن علي عن محمد بن الحنيفة عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وهو في المسند في موضوعين بالسند المذكور (ج1 : ص80 ، 103) قال العلامة الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند (ج2 : ص39) : إسناده ضعيف جدا . أبو عبد الله مسلمة الرازي لم أجد له ترجمة ، وذكر في التعجيل عوضا في ترجمة أبي عمرو البجلي وأبو عمرو البجلي قال في التعجيل (ص508) (( يقال اسمه عبيدة روي عنه حرمي بن حفص )) ثم نقل عن ابن حبان قال : (( لا يحل الاحتجاج به )) وعبد الملك بن سفيان الثقفي قال في التعجيل (ص265) (( قال الحسيني مجهول )) والحديث في مجمع الزوائد (ج10 : ص200) وقال الهيثمي : (( رواه عبد الله ، وأبو يعلى وفيه من لم أعرفه )) وعزاه إليهما شيخه العراقي في تخريج الإحياء (ج4 : ص5) وقال : (( سنده ضعيف )) قلت : أبو عمرو البجلي قد جزم الحافظ في الكنى من لسان الميزان (ج6 : ص419)

(16/133)


بأنه هو عبيدة بن عبد الرحمن ويؤيده لأن الذهبي ثم الحافظ أورداه في الأسماء هكذا عبيدة بن عبد الرحمن أبو عمرو الجلي ذكره ابن حبان فقال : روى عن يحيى بن سعيد حدث عنه حرمي بن حفص يروي الموضوعات عن الثقات ، والحديث ذكره الحافظ في الفتح نقلا عن القرطبي بلفظ : خيركم كل مفتن تواب ، ثم عزاه لمسند الفردوس عن علي ولم يحكم عليه بشيء وذكر السيوطي في الجامع الصغير وعلي المتقي في الكنز (ج4 : ص123) بهذا اللفظ وعزاه للبيهقي في الشعب عن علي .
2383- قوله : ( ما أحب إن لي الدنيا ) أي : جميع ما فيها بأن أتصدق بخيراتها أو أتلذذ بلذاتها ( بهذه الآية ) أي : بدلها أي : لو أعدمت هذه الآية وأعطيت بدلها جميع الدنيا ما أحببت ذلك وخصت لكونها أرجى آية في القرآن ، حيث دلت على غفران جميع الذنوب وإلا فغير هذه الآية مثلها في كونه - صلى الله عليه وسلم - لا يرضى بجميع الدنيا
? يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا ? الآية فقال رجل : فمن أشرك ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : إلا ومن أشرك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/134)


بدلها ( ? يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا ? الآية بالحركات الثلاث ، وذكر في المسند الآية بتمامها أي : إلى قوله : ? إنه هو الغفور الرحيم ? ( الزمر : 53) قال الشوكاني : هذه الآية أرجى آية في كتاب الله سبحانه لاشتمالها على أعظم بشارة فإنه أولا أضاف العباد إلى نفسه لقصد تشريفهم ومزيد تبشيرهم ، ثم وصفهم بالإسراف في المعاصي والاستكثار من الذنوب ، ثم عقب ذلك بالنهي عن القنوط من الرحمة لهؤلاء المستكثرين من الذنوب ، فالنهي عن القنوط للمذنبين غير المسرفين من باب الأولى وبفحوى الخطاب . ثم جاء بما لا يبقى بعده شك ولا يتخالج القلب عند سماعه ظن فقال : ? إن الله يغفر الذنوب جميعا ? ( الزمر : 53) فالألف واللام قد صيرت الجمع الذي دخلت عليه للجنس الذي يستلزم استغراق أفراده فهو في قوة إن الله يغفر كل ذنب كائنا ما كان ، إلا ما أخرجه النص القرآني وهو الشرك ? إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ? ثم لم يكتف بما أخبر عباده به من مغفرة كل ذنب بل أكد ذلك بقوله جميعا وما أحسن ما علل سبحانه به هذا الكلام قائلا أنه ? إنه هو الغفور الرحيم ? أي كثير المغفرة والرحمة عظيمهما بليغهما واسعهما - انتهى . وقال الطيبي : هي أرجى آية في القرآن ولذلك اطمأن إليها وحشي قاتل حمزة دون سائر الآيات - انتهى . وقد ذكر البغوي في المعالم إن عطاء بن رباح روى عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى وحشي يدعوه إلى الإسلام فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم إن من قتل أوزنى أو أشرك ? يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ? ( الفرقان : 68 ، 69) وأنا قد فعلت هذا كله فأنزل الله تعالى : ? إلا من تاب وآمن وعمل

(16/135)


عملا صالحا ? ( الفرقان : 70) فقال وحشي هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه فهل غير ذلك فأنزل الله عز وجل ? إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ? ( النساء : 48) فقال : أراني بعد في شبهة فلا أدري يغفر لي أم لا فأنزل الله ? قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ? ( الزمر : 53) قال وحشي : نعم هذا وجاء فأسلم فقال المسلمون : هذا له خاصة أم للمسلمين عامة فقال : بل للمسلمين عامة كذا في المرقاة . وذكر الهيثمي هذا الحديث في مجمع الزوائد (ج10 : ص214 ، 215) وقال : رواه الطبراني وفيه أبين بن سليمان وهو ضعيف - انتهى . ( فقال رجل ) يا رسول الله ( فمن أشرك ) أي : أهو داخل في الآية أم خارج عنها ( فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أي : أدبا مع الله تعالى وانتظارا لأمره ووحيه ( ثم قال ألا ) بالتخفيف ( ومن أشرك ) أي : التوبة ، قال في اللمعات : لولا الواو حملت إلا على الاستثناء فهي حرف تنبيه وغفران الإشراك يكون بالتوبة ، وهذا لا ينافي عموم الآية بأن الله تعالى يغفر الذنوب جميعا - انتهى . وقال الطيبي : أجاب بأنه داخل فيكون منهيا عن القنوط ، والواو في ومن مانعه من حمل إلا على الاستثناء وموجبة لحملها على التنبيه - انتهى . أي :
ثلاث مرت .
2384- (38) وعن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى ليغفر لعبده ما لم يقع الحجاب . قالوا : يا رسول الله ! وما الحجاب ؟ قال : أن تموت النفس وهي مشركة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/136)


والمعنى إن المشرك داخل في هذه الآية ، ومنهي عن القنوط ويغفر ذنبه لكن بالتوبة . قلت : قوله : إلا من أشرك هكذا وقع في جميع نسخ المشكاة الحاضر ؛ وهكذا في تفسير ابن كثير والشوكاني ، ووقع في المسند (ج5 : ص275) ( طبعة الحلي ) (( إلا من أشرك )) أي : بسقوط الواو ، وعلى هذا فيمكن حمل إلا على الاستثناء والمعنى إلا المشرك فلا يغفر ذنبه إلا بالتوبة كما قال : ? إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ? ومعنى قوله تعالى : ? إن الله يغفر الذنوب جميعا ? ( الزمر : 53) إن كل ذنب كائنا ما كان ماعدا الشرك بالله مغفور لمن يشاء الله ، أي يغفر له ( ثلاث مرات ) ظرف لقال والتكرار لتأكيد الحكم . والحديث في المسند (ج5 : ص275) قال أحمد : حدثنا حسن وحجاج قالا : ثنا ابن لهيعة ثنا أبو قبيل قال : سمعت أبا عبد الرحمن المري أنه سمع ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ما أحب . إلخ وهو في مجمع الزوائد (ج10 : ص214) وليس فيه ذكر السؤال والجواب . قال الهيثمي : رواه الطبراني في الأوسط : وإسناده حسن وذكره ابن كثير في تفسيره عن المسند مطولا وقال تفرد الإمام أحمد وزاد الشوكاني في نسبته ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، وعزاه السيوطي في الجامع الصغير لأحمد فقط : قال العزيزي وإسناده صحيح ولا يخفى ما فيه .

(16/137)


2384- قوله : ( إن الله تعالى ) وفي المسند إن الله عز وجل ( ليغفر ) بلام مفتوحة للتأكيد ( لعبده ) أي ما شاء من الذنوب وفي رواية لأحمد إن الله يقبل توبة عبده أو يغفر لعبده وهذا شك من الراوي ( ما لم يقع الحجاب ) أي : بينه وبين رحمة الله ، وقال القاري : أي : الإثنينية قال الله تعالى : ? لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد ? ( النحل : 51) ( وما الحجاب ) هكذا في رواية ووقع في أخرى وما وقوع الحجاب أي : الذي يبعد العبد عن رحمة ربه ومغفرة ذنبه ( قال : أن تموت النفس وهي مشركة ) وفي معنى الشرك كل نوع من أنواع الكفر، والحديث في المسند (ج5 : ص174) وفي سنده عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان العنبسي الدمشقي الزاهد . قال الحافظ : صدوق يخطئي ورمي بالقدر وتغير بآخره وهو في مجمع الزوائد (ج1 : ص198) قال الهيثمي : رواه أحمد ، والبراز ، وفيه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان وقد وثقه جماعة وضعفه آخرون وبقية رجالهما ثقات وأحد إسنادي البراز فيه إبراهيم بن هانئ وهو ضعيف - انتهى . وذكره في الكنز (ج1 : ص66) ورمز له حم ، خ
روى الأحاديث الثلاثة أحمد ، وروى البيهقي الأخير في كتاب (( البعث والنشور )) .
2385- (39) وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من لقى الله لا يعدل به شيئا في الدنيا ثم كان عليه مثل جبال ذنوب غفر الله له . رواه البيهقي في كتاب (( البعث والنشور )) .
2386- (40) وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : التائب من الذنب كمن لا ذنب له .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في التاريخ - صلى الله عليه وسلم - ، حب ، والبغوي في الجعديات : ك ، ص ، عن أبي ذر رضي الله عنه ( روى الأحاديث الثلاثة ) أي : جميعها ( أحمد ) أي : في مسنده وتقدم الكلام في كل منها ( وروى البيهقي الأخير ) أي : الحديث الأخير .

(16/138)


2385- قوله : ( من لقى الله ) أي : من مات ( لا يعدل به شيئا ) أي : لا يوازي ولا يساوي بالله شيئا . قال الطببي : ويجوز أن المعنى لا يتجاوزه إلى شيء ، فشيئا منصوب على نزع الخافض ( في الدنيا ) بيان للواقع إذ لإشراك إنما يكون فيها ، وأما الآخرة فكل الناس فيها مؤمنون وإن لم ينفع الكفار إيمانهم ( ثم كان عليه مثل جبال ) بالنصب على أنه خبر كان واسمه قوله : ( ذنوب غفر الله له ) أي : إياها يعني جميعها إن شاء لقوله تعالى : ? ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ? ( النساء : 48) ( رواه البيهقي إلخ ) وأخرجه ابن مردويه عن أبي الدرداء بلفظ : من مات لا يعدل بالله شيئا ثم كانت عليه من الذنوب مثل الرمال غفر له . ويؤيده حديث النواس بن سمعان : من مات وهو لا يشرك بالله شيئا فقد حلت له مغفرته . أخرجه الطبراني ، وحسن ويؤيده أيضا ما روي في الصحيحين وغيرهما في فضل الإيمان وكلمة الشهادة من يشاء الوقوف عليه رجع إلى الكنز (ج1 : ص73 - 75) .

(16/139)


2386- قوله : ( التائب من الذنب ) أي : توبة صحيحة وإطلاق الذنب يشمل الذنوب كلها ، فيدل الحديث على أن التوبة مقبولة من أي ذنب كان ، وظاهر الحديث يدل على أن التوبة إذا صحت بشرائطها فهي مقبولة ( كمن لا ذنب له ) أي : مثله في عدم تضرره . وقال السندي : ظاهره إن الذنب يرفع من صحائف أعماله ويحتمل أعماله ويحتمل أن المراد التشبيه في عدم العقاب فقط والله أعلم . وقال الطيبي : هذا من قبيل إلحاق الناقص بالكامل مبالغة كما يقال زيد كالأسد إذ لا شك أن المشرك التائب ليس كالنبي المعصوم ، وتعقبه ابن حجر بأن المراد بمن لا ذنب له من هو عرضة له لكنه حفظ منه فخرج الأنبياء والملائكة فليسوا مقصودين بالتشبيه . قال القاري : فالخلاف لفظي . واختلفوا فيمن عمل ذنوبا وتاب منها ومن لم يعملها أصلا أيهما أفضل ؟ قال في اللمعات : والتحقيق إن الحيثية مختلفة . وقال ابن القيم في مدارج السالكين (ج1 : ص163) هل المطيع الذي لم يعص خير من العاصي الذي تاب إلى الله توبة
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/140)


نصوحا أو هذا التائب أفضل منه ؟ اختلف في ذلك ، فطائفة رجحت من لم يعص على من عصى وتاب توبة نصوحا واحتجوا بوجوه ثم ذكرها وبلغها إلى عشرة ، ثم قال : وطائفة رجحت التائب وإن لم تنكر كون الأول أكثر حسنات منه ، واحتجت بوجوه ثم ذكرها إلى أن بلغت أيضا إلى عشرة وجوه تركنا نقلها لئلا يطول الكلام . والمسألة لطيفة شريفة جدا فعليك أن تراجع المدارج لكي تتبين لك بها مسألة أخرى اختلفوا فيها أيضا ، وهي : أن العبد إذا تاب من الذنب فهل يرجع إلى ما كان عليه قبل الذنب من الدرجة التي حطه عنها الذنب أولا يرجع إليها ؟ قال ابن القيم (ج1 ص161) : قالت : طائفة يرجع إلى درجته لأن التوبة تجب الذنب بالكلية وتصيره كأنه لم يكن ، والمقتضي لدرجته ما معه من الإيمان والعمل الصالح فعاد إليها بالتوبة ، قالوا : ولأن التوبة حسنة عظيمة وعمل صالح ، فإذا كان ذنبه قد حطه عن درجته فحسنته بالتوبة قد رقته إليها ، وهذا كمن سقط في بئر وله صاحب شفيق أدلى إليه حبلا تمسك به حتى رقى منه إلى موضعه ، فهكذا التوبة العمل الصالح مثل هذا القرين الصالح والأخ الشفيق . وقالت طائفة : لا يعود إلى درجته وحاله لأنه لم يكن في وقوف ، وإنما كان في صعود فبالذنب صار في نزول وهبوط ، فإذا تاب نقص عليه ذلك القدر الذي كان مستعدا له للترقي ، قالوا : ومثل هذا مثل رجلين سائرين على طريق سيرا واحدا ، ثم عرض لأحدهما ما رده على عقبه أو أوقفه وصاحبه سائر فإذا استقال هدا رجوعه ووقفته وسار بأثر صاحبه لم يلحقه أبدا لأنه كلما سار مرحلة تقدم ذاك أخرى قالوا : والأول يسير بقوة أعماله وإيمانه وكلما ازداد سيرا ازدادت قوته ، وذلك الواقف الذي رجع قد ضعفت قوة سيره وإيمانه بالوقوف والرجوع ، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يحكي هذا الخلاف ، ثم قال : والصحيح إن من التائبين من لا يعود إلى درجته ، ومنهم من يعود إليها ، ومنهم من يعود إلى أعلى منها فيصير خيرا مما كان

(16/141)


قبل الذنب وكان داود بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة ، قال : وهذا بحسب حال التائب بعد توبته وجده وعزمه ، وحذره وتشميره فإن كان ذلك أعظم مما كان له قبل الذنب عاد خيرا مما كان وأعلى درجة وإن كان مثله عاد إلى مثل حاله وإن كان دونه لم يعد إلى درجته وكان منحطا عنها . وهذا الذي ذكره هو فصل النزاع في هذه المسألة ويتبين هذا بمثلين مضروبين أحدهما : رجل مسافر سائر على الطريق بطمأنينة وأمن فهو يعدو مرة ويمشي أخرى ويستريح تارة ، وينام أخرى ، فبينا هو كذلك إذ عرض له في طريق سيره ظل ظليل ، وماء بارد ومقيل ، وروضة مزهرة فدعته نفسه إلى النزول على تلك الأماكن فنزل عليها فوثب عليه منها عدو ، فأخذه وقيده وكتفه ومنعه عن السير فعاين الهلاك وظن أنه منقطع به وإنه رزق الوحوش والسباع ، وأنه قد حيل بينه وبين مقصده الذي يؤمه ، فبينا هو على ذلك تتقاذف به الظنون إذ وقف على رأسه والده الشفيق القادر فحل كتافه وقيوده ، وقال له : اركب الطريق واحذر هذا العدو فإنه على منازل الطريق بالمرصاد . واعلم أنك ما دمت حاذرا له متيقظا لا يقدر عليك ، فإذا
رواه ابن ماجة ، والبيهقي في (( شعب الإيمان )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/142)


غفلت وثب عليك وأنا متقدمك إلى المنزل وفرط لك فاتبعني على الأثر ، فإن كان هذا السائر كيسا فطنا لبيبا حاضر الذهن والعقل ، استقبل سيراه استقبالا آخر أقوى من الأول وأتم ، واشتد حذره وتأهب لهذا العدو وأعد له عدته ، فكان سيره الثاني أقوى من الأول وخيرا منه ، ووصوله إلى المنزل أسرع وإن غفل عن عدوه وعاد إلى مثل حاله الأول من غير زيادة ولا نقصان ، ولا قوة حذر ، واستعداد عاد كما كان وهو معرض لما عرض له أولا وإن أورثه ذلك توانيا في سيره وفتورا وتذكرا لطيب مقيله وحسن ذلك الروض وعذوبة ماءه وتفيؤ ظلاله وسكونا بقلبه إليه لم يعد إلى مثل سيره ونقص عما كان المثل الثاني : عبد في صحة وعافية جسم عرض له مرض أوجب له حمية وشرب دواء وتحفظا من التخليط ونقض بذلك مادة ردية كانت منقصة لكمال قوته وصحته فعاد بعد المرض أقوى مما كان قبله كما قيل :
لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل

(16/143)


أوجب وإن له ذلك المرض ضعفا في القوة وتداركه بمثل ما نقص من قوته عاد إلى مثل ما كان ، وإن تداركه بدون ما نقص من قوته عاد إلى دون ما كان عليه من القوة ، وفي هذين المثلين كفاية لمن تدبرها . وقد ضرب لذلك مثل آخر برجل خرج من بيته يريد الصلاة في الصف الأول لا يلوي على شيء في طريقه ، فعرض له رجل من خلفه جبذ ثوبه وأوقفه قليلا يريد تعويقه عن الصلاة فله معه حالان : أحدهما : أن يشتغل به حتى تفوته الصلاة فهذه حال غير التائب . الثاني : أن يجاد به على نفسه ويتفلت منه لئلا تفوت الصلاة ثم له بعد هذا التفلت ثلاثة أحوال : أحدها : أن يكون سيره جمزا ووثبا ليستدرك ما فاته بتلك الوقفة فربما استدركه وزاد عليه . الثاني : أن يعود إلى سيره . الثالث : أن تورثه تلك الوقفة فتورا وتهاونا فيفوته فضيلة الصف الأول أو فضيلة الجماعة ، وأول الوقت فهكذا حال التائبين السائرين سواء - انتهى كلام ابن القيم . ( رواه ابن ماجة ) في باب ذكر التوبة ( والبيهقي ) والحديث ذكره المنذري في الترغيب ، وقال : رواه ابن ماجة ، والطبراني كلاهما من رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه ولم يسمع منه ، ورواة الطبراني رواة الصحيح ، ورواه ابن أبي الدنيا ، والبيهقي مرفوعا أيضا من حديث ابن عباس وزاد والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه . وقد روي بهذا الزيادة موقوفا ولعله أشبه - انتهى . وقال الهيثمي (ج10 : ص200) بعد ذكر حديث ابن مسعود : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه - انتهى . وقال السخاوي في المقاصد : رواه ابن ماجة ، والطبراني في الكبير ، والبيهقي في الشعب من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه رفعه ، ورجاله ثقات بل حسنه شيخنا ( الحافظ ابن حجر ) يعني لشواهده وإلا فأبوه عبيدة جزم غير واحد بأنه لم يسمع من

(16/144)


وقال : تفرد به النهراني وهو مجهول . وفي (( شرح السنة )) روى عنه موقوفا . قال : الندم توبة ، والتائب كمن لا ذنب له .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أبيه - انتهى . وقال ابن الديبع الشيباني (ص67) بعد ذكر كلام السخاوي هذا : وللحديث شواهد ضعيفة ( وقال ) أي : البيهقي ( تفرد به ) أي بنقل هذا الحديث ( النهراني ) بفتح النون وسكون الهاء ( وهو مجهول ) إما عينه أو حاله وقد تقدم إن رجال الطبراني رجال الصحيح ، وكذا رجال ابن ماجة ثقات ، والعلة فيه إنما هي الانقطاع في إسناده ولم أجد للنهراني هذا في ما عندي من كتب الرجال ترجمة ( وفي شرح السنة روى ) أي : البغوي ويحتمل أن يكون بصيغة المجهول ( عنه ) أي : عن ابن مسعود ( موقوفا ) لكنه في حكم المرفوع ( قال الندم ) أي : على المعصية أي : لكونها معصية وإلا فإذا ندم عليها من جهة أخرى كما إذا ندم على شرب الخمر من جهة صرف المال عليه فليس من التوبة في شيء ( توبة ) معناه إنه معظمها ومستلزم لبقية أجزائها عادة فإن النادم ينقطع من الذنب في الحال عادة ويعزم على عدم العود إليه في الاستقبال ، وبهذا القدر تتم التوبة إلا في الفرائض التي يجب قضاءها فتحتاج التوبة فيها إلى القضاء وإلا في حقوق العباد فتحتاج فيها إلى الاستحلال أي الرد والندم يعني على كل ذلك كما لا يخفى قاله السندي . وقال القاري : (( الندم توبة )) أي : أعظم أركانها الندامة ، إذ يترتب عليها بقية الأركان من القلع والعزم على عدم العود ، وتدارك الحقوق ما أمكن وهو نظير الحج عرفة إلا أنه عكس مبالغة . والمراد الندامة على فعل المعصية من حيث أنها معصية لا غير - انتهى . قلت : اختلفوا في حد التوبة فقال بعضهم : إنها الندم . وقال بعضهم : إنها العزم على أن لا يعود . وقال بعضهم : هي الإقلاع عن الذنب ، ومنهم من يجمع بين الأمور الثلاثة وهي أكملها . قال الحافظ : وقال بعضهم : يكفي في التوبة تحقق

(16/145)


الندم على وقوع الذنب منه فإنه يستلزم الإقلاع عنه والعزم على عدم العود فهما ناشئان عن الندم لا أصلان معه . ومن ثم جاء الحديث الندم توبة ، وهو حديث حسن من حديث ابن مسعود ، وأخرجه ابن ماجة ، وصححه الحاكم ، وأخرجه ابن حبان من حديث أنس وصححه ، وقال أيضا : قد تمسك من فسر التوبة بالندم بما أخرجه أحمد ، وابن ماجة ، وغيرهما من حديث ابن مسعود رفعه الندم توبة ، ولا حجة فيه ، لأن المعنى الحض عليه وإنه الركن الأعظم في التوبة لا أنه توبة نفسها - انتهى . ( والتائب كمن لا ذنب له ) أي : فإذا تاب توبة صحيحة خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، وحديث ابن مسعود هذا رواه أحمد (ج1 : ص276 : 423 : 633) ، والبخاري في تاريخه الكبير (2/1/341 - 343) ، وابن ماجة في باب ذكر التوبة ، والحاكم (ج4 : ص243) مختصرا أي : بدون قوله : التائب كمن لا ذنب له ، وحسنه الحافظ وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، وانظر التهذيب (ج4 : ص384 ، 385) ، وذكر البخاري أسانيد كثيرة للحديث يظهر من بعضها أنه رواه بعضهم موقوفا من قول ابن مسعود ، ولا يضر ذلك لكثرة من رفعه ، ولأن الرفع زيادة من الثقة ،
(5) باب
( الفصل الأول )
2387- (1) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما قضى الله الخلق كتب كتابا فهو عنده
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وله شواهد من حديث أنس أخرجه الحاكم (ج4 : ص243) ، والبزار ، والبيهقي ، وابن حبان ، ومن حديث وائل ابن حجر أخرجه الطبراني ، ومن حديث ابن أبي سعيد عن أبيه أخرجه الطبراني ، وأبو نعيم في الحلية ، ومن حديث أبي هريرة أخرجه الطبراني في الصغير ذكرها في مجمع الزوائد (ج10 : ص199) مع الكلام عليها .

(16/146)


( باب ) بالرفع منونا وبالوقوف مسكنا ولم يذكر العنوان وغالب أحاديثه في رحمة الرحمن الباعثة على التوبة من العصيان والموجبة للرجاء وعدم اليأس من الغفران قاله القاري . وقلت : وقع في بعض النسخ (( باب في سعة رحمة الله )) ولا يخفى مناسبته للأحاديث المذكورة فيه .
2387- قوله : ( لما قضى الله الخلق ) أي : خلق المخلوقات كقوله : ? فقضاهن سبع سماوات ? أي : خلقهن ، وقضى يطلق بمعنى حكم وأتقن وفرغ وأتم وأمضى وأنفذ ، وكل صنعة محكمة متقنة فهي قضاء ، وقال القاري : لما قضى الله الخلق أي : حين قدر الله خلق المخلوقات وحكم بظهور الموجودات ، أو حين خلق الخلق يوم الميثاق أو بدأ خلقهم - انتهى . قلت : وقع في رواية البخاري في باب قول الله تعالى : ? ويحذركم الله نفسه ? ( آل عمران : 28) من كتاب التوحيد لما خلق الله الخلق ، وهكذا وقع في رواية لأحمد ، ومسلم ، وللترمذي إن الله حين خلق الخلق ( كتب كتابا ) وفي رواية لهما ، كتب في كتابه أي : في اللوح المحفوظ بأمره للملائكة أن يكتبوا أو للقلم ، ويؤيده حديث عبادة بن الصامت أول ما خلق الله القلم ( أي بالنسبة إلى ما عدا الماء والعرش ) ثم قال : اكتب . فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة وحديث جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة أو الكتابة كناية عن الإثبات والإبانة والإخبار به . ووقع عند الترمذي ، وابن ماجة كتب بيده على نفسه أي موجبا إياه على نفسه بمقتضى وعده ، وليس الكتب للاستعانة لئلا ينساه تعالى فإنه منزه عن ذلك لا يخفى عنه شيء وإنما ذلك لأجل الملائكة الموكلين بالمكلفين ، فإن قيل : ما وجه تخصيص هذا بالذكر مع أن القلم كتب كل شيء . قلت : لما فيه من الرجاء الكامل وإظهار إن رحمته وسعت كل شيء بخلاف غيره ( فهو ) أي ذلك الكتابة بمعنى المكتوب وقيل عمله أو ذكره ( عنده ) أي : عندية المكانة لا عندية المكان لتنزهه عن سمات

(16/147)


فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي . في رواية : غلبت غضبي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحدثان ( فوق عرشه ) مكنونا عن سائر الخلق مرفوعا عن حيز الإدراك . قال الحافظ : فلا تكون العندية مكانية بل هي إشارة إلى كما كونه مخفيا عن الخلق مرفوعا عن حيز إدراكهم ، وفيه تنبيه نبيه على تعظيم الأمور وجلالة القدر . قال الخطابي : المراد بالكتاب أحد شيئين . أما القضاء الذي قضاه كقوله تعالى : ? كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ? ( المجادلة : 21) أي : قضى ذلك قال : ويكون معنى قوله فوق العرش أي عنده علم ذلك فهو لا ينساه ولا يبدله كقوله تعالى : ? في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ( طه : 52) وأما اللوح المحفوظ الذي فيه ذكر أصناف الخلق وبيان أمورهم وآجالهم وأرزاقهم وأحوالهم ، ويكون معنى فهو عنده فوق العرش أي ذكره وعلمه ، وكل ذلك جائز في التخريج . قيل : العندية المكانية المعروفة مستحيلة في حقه تعالى ، فهي محمولة على ما يليق به أو مفوضة إليه قلت : هي خبر جاء به التوقيف فقلنا به ونفينا عنه التكييف إذ ليس كمثله شيء فالأولى بل المتعين إمراره على ظاهره كما جاء من غير تصرف فيه ( إن رحمتي ) بكسر الهمزة وتفتح . قال الحافظ : بفتح أن على أنها بدل من الكتاب وبكسرها على أنها ابتداء كلام يحكي مضمون الكتاب : قال القاري : ويؤيد الثاني رواية للشيخين إن رحمتي تغلب غضبي . ( سبقت غضبي وفي رواية غلبت غضبي ) الرواية الثانية للبخاري فقط أوردها في بدء الخلق ، ولفظ مسلم تغلب ، وكذا وقع عند البخاري في باب قوله : ? ويحذركم الله نفسه ( آل عمران : 28 ) قال القاري : غلبت غضبي أي غلبت آثار رحمتي على آثار غضبي وهي مفسرة لما قبلها ، والمراد بيان سعة الرحمة وكثرتها وشمولها الخلق حتى كأنها السابق والغالب كما يقال غلب على فلان الكرم إذا كان هو أكثر خصاله وإلا فرحمة الله وغضبه

(16/148)


صفتان راجعتان إلى إرادته الثواب والعقاب ، وصفاته لا توصف بغلبة إحداهما على الأخرى . وإنما هو على سبيل المبالغة للمجاز . وقيل : السبق والغلبة باعتبار التعلق أي تعلق الرحمة غالب سابق على تعلق الغضب ، لأن الرحمة مقتضى ذاته المقدسة . وأما الغضب فإنه متوقف على سابقة عمل من العبد الحادث ، وبهذا التقرير يندفع استشكال من أورد وقوع العذاب قبل الرحمة في بعض المواطن كمن يدخل النار من الموحدين ، ثم يخرج بالشفاعة وغيرها . وقال التوربشتي : في سبق الرحمة بيان إن قسط الخلق منها أكثر من قسطهم من الغضب ، وإنها تنالهم من غير استحقاق ، وإن الغضب لا ينالهم إلا باستحقاق ، ألا ترى إن الرحمة تشمل الإنسان جنينا ورضيعا وفطيما وناشئا من غير أن يصدر منه شيء من الطاعة ولا يلحقه الغضب إلا بعد أن يصدر عنه من الذنوب ما يستحق معه ذلك . وقال الطيبي : أي : لما خلق الخلق حكم حكما جازما ووعد وعدا لازما لا خلف فيه بأن رحمتي سبقت غضبي ، فإن المبالغ في حكمه إذا أراد أحكامه عقد عليه سجلا وحفظه ووجه المناسبة بين قضاء الخلق وسبق الرحمة إنهم مخلوقون للعبادة شكرا للنعم الفائضة عليهم ، ولا يقدر أحد على أداء حق الشكر ، وبعضهم يقصرون فيه فسبقت رحمته في حق الشاكر بأن وفى جزاءه ، وزاد عليه ما لا يدخل تحت الحصر وفي حق المقصر إذا تاب
متفق عليه .
2388- (2) وعنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لله مائة رحمة ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/149)


ورجع بالمغفرة والتجاوز ، ومعنى (( سبقت رحمتي )) تمثيل لكثرتها وغلبتها على الغضب بفرسي رهان تسابقتا فسبقت إحداهما على الأخرى - انتهى . وقال في اللمعات : وذلك لأن آثار رحمة الله وجوده وإنعامه عمت المخلوقات كلها وهي غير متناهية ، بخلاف أثر الغضب فإنه ظاهر في بعض بني آدم بعض الوجوه كما قال تعالى : ? وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ? ( النحل : 18) وقال : ? عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء ? ( الأعراف : 156) وأيضا تهاون العباد وتقصيرهم في أداء شكر نعمائه تعالى أكثر من أن يعد ويحصى ? ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دآبة ? ( النحل : 61) فمن رحمته أن يبقيهم ويرزقهم وينعمهم بالظاهر ولا يؤاخذهم بهذا في الدنيا ، وظهور رحمته في الآخرة قد تكفل ببيانه الحديث الآتي فإذن لا شك في أن رحمته تعالى سابقة وغالبة على غضبه - انتهى . وظاهر الحديث إن الكتابة بعد الخلق ، ووقع في رواية للبخاري في باب ? بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ ? ( البروج : 21 ، 22) بلفظ : إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق ففيه إن الكتابة قبل الخلق ، فقيل : معنى قوله قضى الخلق أي : أراد الخلق . وقيل المراد من الثاني : تعلق الخلق وهو حادث فجاز أن يكون بعده . وأما الأول فالمراد منه نفس الحكم وهو أولى فبالضرورة يكون قبله ( متفق عليه ) رواه البخاري في أول بدء الخلق وفي التوحيد في أربعة مواضع سبق ذكر الموضع الأول والرابع والثاني في باب قوله وكان عرشه على الماء ، والثالث في باب ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ، ورواه مسلم في التوبة ، وأخرجه أحمد مرارا منها (ج2 : ص242 : 258 : 260) ، وأخرجه النسائي في الكبرى ، والترمذي في الدعوات ، وابن ماجة في باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة .

(16/150)


2388 - قوله : ( إن لله مائة رحمة إلخ ) للحديث طرق وألفاظ ، واللفظ المذكور ها هنا لمسلم رواه في التوبة من طريق عطاء عن أبي هريرة ، وله أيضا من رواية العلاء عن أبيه عن أبي هريرة : خلق الله مائة رحمة فوضع واحدة بين خلقه ، وخبأ عنده مائة إلا واحدة ، وللبخاري في الأدب ، وكذا لمسلم في التوبة من رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده . تسعة وتسعين جزأ ، وأنزل في الأرض جزءا واحدا ، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه ، وللبخاري في الرقاق من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة ، فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمه . ولمسلم من حديث سليمان أن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة ، كل رحمة طباق ما بين السماوات والأرض ، فجعل منها في الأرض رحمة فيها تعطف الوالدة على ولدها والوحش
أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام ، فيها يتعاطفون ، وبها يتراحمون ، وبها تعطف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/151)


والطير بعضها على بعض ، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة . قال القرطبي : يجوز أن يكون معنى خلق اخترع أوجد ، ويجوز أن يكون بمعنى قدر ، وقد ورد خلق بمعنى قدر في لغة العرب ، فيكون المعنى إن الله أظهر لذلك يوم أظهر تقدير السماوات والأرض ، وقوله كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض ، المراد بها التعظيم والتكثير . وقد ورد التعظيم بهذا اللفظ في اللغة والشرع كثيرا ، والمراد بالرحمة في قوله : (( إن لله مائة رحمة )) بمقتضى الروايات المذكورة هي التي جعلها في عباده ، وهي مخلوقة ، وأما الرحمة التي هي صفة من صفاته فهي قائمة بذاته تعالى غير مخلوقة . وقال الطيبي : رحمه الله تعالى لا نهاية لها فلم يرد بما ذكره تحديدا بل تصويرا للتفاوت بين قسط أهل الإيمان منها في الآخرة ، وقسط كافة المربوبين في الدنيا - انتهى . وقال في اللمعات : لعل المراد أنواعها الكلية التي تحت كل نوع منها أفراد غير متناهية ، أو المراد ضرب المثل لبيان المقصود ( من قلة ما عند الناس وكثرة ما عند الله ) تقريبا إلى فهم الناس أو هو من قبيل قوله : (( إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة )) في أن الحصر باعتبار هذا الوصف فافهم . وقال القرطبي : مقتضى هذا الحديث إن الله علم أن أنواع النعم التي ينعم بها على خلقه مائة نوع فأنعم عليهم في هذه الدنيا بنوع واحد انتظمت به مصالحهم وحصلت به مرافقهم ، فإذا كان يوم القيامة كمل لعباده المؤمنين ما بقي فبلغت مائة وكلها للمؤمنين ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : ? وكان بالمؤمنين رحيما ? ( الأحزاب : 43 ) فإن رحيما من أبنية المبالغة التي لا شيء فوقها . ويفهم من هذا أن الكفار لا يبقى لهم حظ من الرحمة لا من جنس رحمات الدنيا ولا من غيرها ، إذا كمل كل ما كان في علم الله من الرحمة للمؤمنين ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : ? فسأكتبها للذين يتقون ? ( الأعراف : 156)

(16/152)


الآية قال الحافظ : أما مناسبة خصوص عدد المائة فيحتمل أن تكون مناسبة هذا العدد الخاص لكونه مثل عدد درج الجنة ، والجنة هي محل الرحمة فكان كل رحمة بإزاء درجة ، وقد ثبت أنه لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله تعالى فمن نالته منها رحمة واحدة ، كان أدنى أهل الجنة منزلة ، وأعلاهم منزلة من حصلت له جميع الأنواع من الرحمة ( أنزل منها ) أي من جملة المائة ( رحمة واحدة ) وفي رواية ، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة . قال القاري : الإنزال تمثيل مشير إلى أنها ليست من الأمور الطبيعية ، بل هي من الأمور السماوية مقسومة بحسب قابلية المخلوقات ( بين الجن ) أي بعضهم مع بعض ( والإنس ) كذلك ( والبهائم ) أي مع أولادها ( والهوام ) بتشديد الميم جمع هامة ، وهي كل ذات سم ، وقد يقع على ما يدب من الحيوان وإن لم يقتل كالحشرات كذا في النهاية والله أعلم برحمتها فيما لا توالد فيها ( فبها ) أي بتلك الرحمة الواحدة وبسبب خلقها فيهم ( يتعاطفون ) أي يتمايلون فيما بينهم ( وبها يتراحمون ) أي بعضهم على بعض ( وبها تعطف ) بكسر الطاء
الوحش على ولدها ، وأخر الله تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة . متفق عليه .
2389- (3) وفي رواية لمسلم ، عن سليمان نحوه ، وفي آخره . قال : فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة .
2390- (4) وعنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ، ما طمع بجنته أحد .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/153)


من ضرب أي تشفق وتحن ( الوحش ) بسكون المهملة ( على ولدها ) أي حين صغرها ( وأخر الله ) قال الطيبي : عطف على أنزل منها رحمة وأظهر المستكن بيانا لشدة العناية برحمة الله الأخروية - انتهى . وفي رواية فأمسك عنده ، وفي حديث سلمان وخبأ عنده ( تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده ) أي : المؤمنين ( يوم القيامة ) أي : قبل دخول الجنة وبعدها . وفيه إشارة إلى سعة فضل على عباده المؤمنين وإيماء إلى أنه أرحم الراحمين . وقال ابن أبي جمرة : في الحديث إدخال السرور على المؤمنين ، لأن العادة أن النفس يكمل فرحها بما وهب لها إذا كان معلوما مما يكون موعودا ، وفيه الحث على الإيمان واتساع الرجاء في رحمات الله تعالى المدخرة ( متفق عليه ) واللفظ لمسلم ، وأخرجه أحمد كما في مجمع الزوائد (ج10 : ص214) ، والترمذي في الدعوات ، وابن ماجة في باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة من أبواب الزهد ، والحاكم (ج4 : ص248) .
2389- قوله : ( وفي رواية لمسلم عن سلمان ) الفارسي ( نحوه ) أي : بمعناه وقد ذكرنا لفظها ( وفي آخره فإذا كان يوم القيامة أكملها ) أي : أتم الرحمة الواحدة التي أنزلها في الدنيا ( بهذه الرحمة ) أي التي أخرها حتى يصير المجموع مائة رحمة فرحم بها عباده المؤمنين ، وحديث سلمان أخرجه أحمد أيضا (ج5 : ص439) وفي الباب عن أبي سعيد عند ابن ماجة ، وعن جندب عند أحمد والطبراني ، وعن معاوية بن حيدة عن الطبراني وابن عساكر ، وعن ابن عباس عند الطبراني والبزار ، وعن عبادة بن الصامت عند الطبراني . من شاء الوقوف على ألفاظها رجع إلى مجمع الزوائد والكنز .

(16/154)


2337- قوله : ( وعنه ) قال القاري : وفي نسخة وعن أبي هريرة وهو الأظهر لا يهام مرجع الضمير أن يكون إلى أقرب مذكور وهو سلمان ، وأما على النسخة المشهورة التي هي الأصل فكأنه اعتمد على العنوان ( لو يعلم المؤمن ) قيل : الحكمة في التعبير بالمضارع دون الماضي الإشارة إلى أنه لم يقع له علم ذلك ولا يقع لأنه إذا امتنع في المستقبل كان ممتنعا فيما مضى ( ما عند الله من العقوبة ) بيان لما ( ما طمع ) بكسر الميم من باب سمع أي ما رجا ( بجنته ) وللترمذي في الجنة ( أحد ) أي من المؤمنين فضلا عن الكافرين ، ولا بعد أن يكون أحد
ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ، ما قنط من جنته أحد . متفق عليه .
2391- (5) وعن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/155)


على إطلاقه من إفادة العموم إذ تصور ذلك وحده يوجب اليأس من رحمته ، وفيه بيان كثرة عقوبته لئلا يغتر مؤمن بطاعته أو اعتمادا على رحمته فيقع في الأمن ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ( ما قنط ) من القنوط وهو : اليأس من باب نصر وضرب وسمع ( أحد ) أي من الكافرين . قال الطيبي : الحديث في بيان صفتي القهر والرحمة لله تعالى ، فكما أن صفات الله تعالى غير متناهية لا يبلغ كنه معرفتها أحد كذلك عقوبته ورحمته ، فلو فرض أن المؤمن وقف على كنه صفته القهارية لظهر منها ما يقنط من ذلك الخواطر فلا يطمع بجنته أحد ، وهذا معنى وضع أحد موضع ضمير المؤمن ، ويجوز أن يراد بالمؤمن الجنس على سبيل الاستغراق فالتقدير أحد منهم . ويجوز أن يكون المعنى على وجه آخر وهو إن المؤمن قد اختص بأن يطمع في الجنة ، فإذا انتفى الطمع منه فقد انتفى عن الكل ، وكذلك الكافر مختص بالقنوط ، فإذا انتفى القنوط عنه فقد انتفى عن الكل . وورد الحديث في بيان كثرة رحمته وعقوبته كيلا يغتر مؤمن برحمته فيأمن من عذابه ولا ييأس كافر من رحمته ويترك بابه . وحاصل الحديث إن العبد ينبغي أن يكون بين الرجاء والخوف بمطالعة صفات الجمال تارة وبملاحظة نعوت الجلال أخرى كذا في المرقاة . وقال في اللمعات : سياق الحديث لبيان صفتي اللطف والرحمة والغضب وعدم بلوغ أحد إلى كنههما ، فلو علم المؤمنون الذين هم مظاهر رحمة الله ما عند الله من القهر ما طمع أحد منهم الجنة ، وكذا في الكافرين ، وهذا مقصود آخر لا ينافي سبق رحمته على غضبه بالمعنى الذي سبق - انتهى . ( متفق عليه ) . واللفظ لمسلم أخرجه من رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ، ورواه البخاري ( في باب الرجاء مع الخوف من كتاب الرقاق ) من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ : إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة ، وأرسل في خلقه كله رحمة واحدة فلو يعلم

(16/156)


الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة ، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار قال الحافظ : وروى هذا الحديث العلاء ابن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة فقطعه حديثين أخرجهما مسلم من طريقه فذكر حديث الرحمة بلفظ : خلق الله مائة رحمة فوضع واحدة بين خلقه وخبأ عنده مائة إلا واحدة . وذكر الحديث الآخر بلفظ : لو يعلم المؤمن إلخ . قلت : وهكذا وقع عند الترمذي في الدعوات .
2391- قوله : ( الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله ) بكسر الشين المعجمة وتخفيف الراء المهملة وآخره كاف أحد سيور النعل التي في وجهها . وقيل : وهو السير الذي يدخل فيه إصبع الرجل ويطلق أيضا على
والنار مثل ذلك . رواه البخاري .
2392- (6) وعن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال رجل لم يعمل خيرا قط ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/157)


كل سير وقى به القدم من الأرض . قال الطيبي : ضرب العرب مثلا بالشراك لأن سبب حصول الثواب والعقاب إنما هو بسعي العبد ويجري السعي بالأقدام ، وكل من عمل خيرا استحق الجنة بوعده ، ومن عمل شرا استحق النار بوعيده وما وعد وأوعد منجزان فكأنهما حاصلان ( والنار مثل ذلك ) أي : أقرب إلى أحدكم من شراك نعله . وقال القاري : إشارة إلى المذكور أي : النار مثل الجنة في كونها أقرب من شراك النعل أي : فلا يزهدن في قليل من الخير أن يأتيه فلعه يكون سببا لرحمة الله به ولا في قليل من الشر أن يجتنبه ، فربما يكون فيه سخط الله تعالى ، ثم قيل : هذا لأن سبب دخول الجنة والنار مع الشخص وهو العمل الصالح والسيء وهو أقرب إليه من شراك نعله إذ هو مجاور له والعمل صفة قائمة به . قال ابن بطال : في الحديث إن الطاعة موصلة إلى الجنة وإن المعصية مقربة إلى النار ، وإن الطاعة والمعصية قد تكون في أيسر الأشياء ، فينبغي للمرء أن لا يزهد في قليل من الخير أن يأيته ولا في قليل من الشر أن يجتنبه ، فإنه لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها ولا السيئة التي يسخط عليه بها . وقال ابن الجوزي : معنى الحديث إن تحصيل الجنة سهل بتصحيح القصد وفعل الطاعة والنار كذلك بموافقة الهوى وفعل المعصية ( رواه البخاري ) في الرقاق وهو من أفراده ، وأخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص387 : 413 : 442) .

(16/158)


2393- قوله : ( قال رجل ) أي ممن كان قبلنا ففي حديث أبي سعيد عند البخاري : إن رجلا كان قبلكم رغسه الله مالا ، وفي رواية له : ذكر رجلا فيمن سلف أو فيمن كان قبلكم ، وصرح في حديث حذيفة وأبي مسعود عند الطبراني إنه كان من بني إسرائيل ، ولذلك أورد البخاري حديث أبي سعيد وحذيفة وأبي هريرة في ذكر بني إسرائيل . قيل اسم هذا الرجل جهينة فقد حكى الحافظ في الفتح (ج26 : ص131 : 132) إن أبا عوانة أخرج في صحيحه من حديث حذيفة عن أبي بكر الصديق إن الرجل المذكور في حديث الباب هو آخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولا الجنة . قال الحافظ (ج27 : ص209) وقد وقع في غرائب مالك للدارقطني من طريق عبد الملك بن الحكم وهو واه عن مالك عن نافع عن ابن عمر رفعه إن آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة يقال له جهينة فيقول أهل الجنة عند جهينة الخير اليقين ، وحكى السهيلي أنه جاء إن اسمه هناد ( لم يعمل ) صفة رجل ( خيرا قط ) أي عملا صالحا بعد الإسلام ، ووقع في رواية لمسلم لم يعمل حسنة قط . قال الباجي : ظاهر إن العمل ما تعلق بالجوارح وهو العمل ، وإن جاز أن يطلق على الاعتقاد على سبيل المجاز والاتساع - صلى الله عليه وسلم - عن هذا الرجل إنه لم يعمل شيئا من الحسنات التي تعمل بالجوارح ، وليس فيه إخبار عن اعتقاد الكفر . وإنما يحمل هذا الحديث على أنه اعتقد الإيمان ولكنه لم يأت من شرائعه بشي ء فلما حضره
لأهله . - وفي رواية - أسرف رجل على نفسه ، فلما حضره الموت أوصى بنيه : إذا مات فحرقوه ، ثم أذروا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/159)


الموت خاف تفريطه فأمر أهله أن يحرقوه - انتهى . قلت : وقع في رواية أحمد (ج2 : ص304) كان رجل ممن كان قبلكم لم يعمل خيرا قط إلا التوحيد ، وهكذا وقع استثناء التوحيد في حديث ابن مسعود أيضا عن أحمد (ج1 : ص398) ورواية الباب وإن لم يذكر فيها هذا الاستثناء صريحا لكنها كالصريح في ذكره لإطباق الروايات على ذكر خشيته وخوفه من عذابه وغفرانه تعالى ( لأهله ) متعلق بقال ( وفي رواية أسرف رجل على نفسه ) أي بالغ في فعل المعاصي ، وهذا لفظ مسلم وللبخاري كان رجل يسرف على نفسه ، وفي حديث حذيفة عند البخاري إنه كان يسيء الظن بعمله . وفي حديث أبي سعيد عند الشيخين فإنه لم يبتئر عن الله خيرا فسرها قتادة لم يدخر ، ووقع في آخر حديث حذيفة عند البخاري . قال عقبة بن عمرو . أبو مسعود ) وأنا سمعته ( يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - ) يقول ذلك وكان نباشا ( أي للقبور يسرق أكفان الموتى ) قال الحافظ : قوله : (( وكان نباشا هو من رواية حذيفة وأبي مسعود معا كما يدل عليه رواية ابن حبان . ووقع في رواية للطبراني بلفظ : بينهما حذيفة وأبو مسعود جالسين . فقال أحدهما : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( إن رجلا من بني إسرائيل كان ينبش القبور )) ، فذكره ( فلما حضره الموت ) فيه تسمية الشيء بما قرب منه لأن الذي حضره في تلك الحالة علامات الموت لا الموت نفسه ( أوصى بنيه ) هذا لفظ مسلم ، وللبخاري فلما حضره الموت قال لبنيه ، وفي الحديث أبي سعيد عند البخاري فلما حضر قال لبنيه : أي أب كنت لكم ؟ قالوا : خير أب قال إلخ . ( إذا مات فحرقوه ) بصيغة الأمر من التحريق ، وهذا عند مسلم وللبخاري فأحرقوه أي من الإحراق ، ومقتضى السياق أن يقول إذا مت فحرقوني لكنه على طريق الالتفات . قال الطيبي : قوله : (( إذا مات إلخ )) مقول قال : على الرواية الأولى ومعمول أوصى على الرواية الأخرى فقد تنازعا فيه في عبارة الكتاب - انتهى .

(16/160)


قلت : قوله : وفي رواية إلى قوله : أوصي بنيه جملة معترضة وقوله : إذا مات إلخ إنما هو مقول ، قال في الرواية الأولى : كما يدل عليه سياق الحديث عند البخاري في التوحيد ومسلم في التوبة . وأما سياق الرواية الثانية فعند البخاري في ذكر بني إسرائيل فلما حضره الموت قال لبنيه : إذا أنا مت فاحرقوني إلخ . وعند مسلم فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال : إذا أنا مت فاحرقوني إلخ ( ثم اذروا ) يجوز فيه وصل الهمزة وقطعها من الثلاثي المجرد والمزيد يقال : ذرت الريح التراب وغيره تذروه ذروا وذريا وذرته ، أطارته وسفته وأذهبته وفرقته بهبوبها . قال الحافظ : بهمز قطع وسكون المعجمة من أذرت العين دمعها وأذريت الرجل عن الفرس وبالوصل من ذروت الشيء ومنه تذروه الرياح . وفي رواية ثم اطحنوني ثم ذروني بضم المعجمة وتشديد الراء من الذر أي : فرقوني . وفي حديث حذيفة عند البخاري في
نصفه في البر ونصفه في البحر ، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحد من العالمين ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/161)


الرقاق فذروني . قال الحافظ : بالتخفيف بمعنى الترك وبالتشديد بمعنى التفريق وهو ثلاثي مضاعف تقول ذررت الملح اذره ، ومنه الذريرة نوع من الطيب . قال ابن التين : ويحتمل أن يكون بفتح أوله وكذا قرأناه ورويناه بضمها . وعلى الأول هو من التذرية وعلى الثاني من الذر ( نصفه ) أي نصف رماده ( في البر ونصفه في البحر) وفي حديث حذيفة عند البخاري في أول ذكر بني إسرائيل إذا أنا مت فاجمعوا لي حطبا كثيرا وأوقدوا فيه نارا حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي فامتحشت فخذوها فاطحنوها ثم انظروا يوما راحا ( أي : كثير الريح وشديدة ) فاذروه في اليم الحديث . وفي حديث أبي سعيد عنده أيضا في الرقاق فإذا مت فاحرقوني : حتى إذا صرت فحما فاسحقوني أو قال : فاسهكوني ، ثم إذا كان ريح عاصف فاذروني فيها فأخذ مواثيقهم على ذلك . قال الباجي : وذلك على وجهين أحدهما على وجه الفرار مع اعتقاده أنه غير فائت كما يفر الرجل أمام الأسد مع اعتقاده أنه لا يفوته سبقا ولكنه يفعل نهاية ما يمكنه فعله ، والوجه الثاني أن يفعل هذا خوفا من الباري تعالى وتذللا ورجاء أن يكون هذا سببا إلى رحمته ولعله كان مشروعا في ملته - انتهى . ( فو الله لئن قدر الله عليه ) بتخفيف الدال وتشديدها من القدر بمعنى التضييق أو بمعنى القضاء لا من القدرة والاستطاعة ( ليعذبنه ) بنون التأكيد ( عذابا ) أي : تعذيبا ( لا يعذبه ) أي : ذلك العذاب ( أحدا من العالمين ) من الموحدين وقد استشكل هذا الحديث لأن صنيع الرجل وقوله ظاهر في الشك في قدرة الله على البعث والإحياء والشك في القدر كفر ، وقد قال في آخر الحديث خشيتك وغفر له والكافر لا يخشاه ولا يعفر له واختلف في تأويله . فقيل إن قدر بالتخفيف بمعنى ضيق ومنه قوله تعالى : ? ومن قدر عليه رزقه ? ( الطلاق : 7) بالتخفيف والتشديد وهو أحد الأقوال في قوله تعالى : ? فظن أن لن نقدر عليه ? (

(16/162)


الأنبياء : 87) والمعنى لئن ضيق الله عليه وناقشه في حساب وقيل : المعنى لئن قدر عليه العذاب أي قضى من قدر بالتخفيف والتشديد بمعنى واحد أي لئن قدر عليه أن يعذبه ليعذبنه . ولكن هذا كالذي قبله معنى غير مناسب للسوق أصلا مع أنه وقع في حديث معاوية بن حميدة عند أحمد (ج4 : ص447) (ج5 : ص3 ، 4) ثم اذروني في الريح لعلي أضل الله عز وجل . أي : أغيب عنه وأفوته . يقال : ضل الشيء إذا فات وذهب وهو كقوله تعالى : ? لا يضل ربي ? وهذا يدل على أن قوله : لئن قدر الله عليه على ظاهره وإنه أراد التمنع بالتحريق من قدرة الله ومع ذلك أخبر الصادق بغفرانه فلا بد من وجه يمكن القول بإيمانه . فقيل : مقصود الرجل بهذه الوصية إن فرقوا أجزائي في البر والبحر بحيث لا يكون هناك سبيل إلى جمعها فيحتمل أنه رأى أنه جمعه حينئذ يكون مستحيلا والقدرة لا تتعلق بالمستحيل فلذلك قال : فلئن قدر
فلما مات فعلوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/163)


الله عليه فلا يلزم أنه نفى القدرة أو شك فيها ، فصار بذلك كافرا فكيف يغفر له وذلك أنه ما نفى القدرة على ممكن . وإنما فرض غير المستحيل مستحيلا فيما لم يثبت عنده أنه ممكن من الدين بالضرورة والكفر هو الأول لا الثاني . وقيل : إن الرجل ظن أنه إذا فعل هذا الصنيع ترك فلم ينشر ولم يعذب . وأما تلفظه بقوله : لئن قدر الله وبقوله فلعلي أضل الله فلأنه كان جاهلا بذلك . وقد اختلف في مثله هل يكفر أم لا بخلاف الجاحد للصفة . قال الخطابي : أنه لم ينكر البعث وإنما جهل فظن أنه إذا فعل به ذلك لا يعاد فلا يعذب ، وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنه إنما فعل ذلك من خشية الله . وقيل : كان هذا الرجل موحدا مثبتا للصانع ، وكان في زمن الفترة حين ينفع مجرد التوحيد ولم تبلغه شرائط الإيمان ولا تكليف قبل ورود الشرع على المذهب الصحيح لقوله تعالى : ? وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ? ( الإسراء : 15) وقيل : إنما وصى بذلك تحقيرا لنفسه وعقوبة لها بعصيانها وإسرافها رجاء أن يرحمه الله فيغفر له وهذا يؤيد أن قوله : لئن قدر بمعنى ضيق , وقيل : لقى من هول المطلع ما أدهشه وسلب عقله فلم يتمكن من تمهيد القول وتخميره فبادر بسقط من القول ، وأخرج كلامه مخرجا لم يعتقد حقيقته . قال التوربشتي : وهذا أسلم الوجوه . وقال الطيبي : وهو كلام صدر عن غلبة حيرة ودهشة من غير تدبر في كلامه كالغافل والناسي فلا يؤاخذ فيما قال . قال القاري : هذا هو الظاهر من الحديث كما سيأتي حيث قال تعالى : لم فعلت قال : من خشيتك يا رب وأنت أعلم . وقيل : ذلك لا يؤاخذ عليه وقال السندي : يحتمل أن شدة الخوف طيرت عقله فما التفت إلى ما يقول وما يفعل وأنه هل ينفعه أم لا ، كما هو المشاهد في الواقع في مهلكة فإنه قد يتمسك بأدنى شيء لاحتمال أنه لعله ينفعه إذ هو فيما قال : وفعل في حكم المجنون - انتهى . وجعل الحافظ هذا القول أظهر الأقوال حيث قال ،

(16/164)


وأظهر الأقوال أنه قال ذلك في حال دهشته وغلبة الخوف عليه حتى ذهب بعقله لما يقول ولم يقله قاصدا لحقيقة معناه بل في حالة كان فيها كالغافل والذاهل والناسي الذي لا يؤاخذ بما يصدر منه ، قال : وأبعد الأقوال قول من قال : إنه كان في شرعهم جواز المغفرة للكافر - انتهى . وقال ابن أبي جمرة : كان الرجل مؤمنا لأنه قد أيقن بالحساب ، وإن السيئات يعاقب عليها ، وأما ما أوصى به فلعله كان جائزا في شرعهم لتصحيح التوبة ، فقد ثبت في شرع بني إسرائيل قتلهم أنفسهم . وقيل : ظن هذا الرجل أن الله تعالى إن وجده على حاله وهيئه يعذبه شديدا وإذا وجده محترقا مطحونا مفرقا فلعله يرحمه ويشفق عليه ، لتحمله تلك المشاق والشدائد كما هو دأب الموالي الكرماء ، فإنهم إذا وجد أحدهم عبده المسيء في مرض أو شدة رحمه وعطف عليه ورضي عنه ، وإن كان قبل ذلك ساخطا عليه وغضبان والله أعلم ( فلما مات ) أي : الرجل الموصي ( فعلوا )
ما أمرهم ، فأمر الله البحر ، فجمع ما فيه ، وأمر البر فجمع ما فيه ، ثم قال له : لم فعلت هذا ؟ قال : من خشيتك يا رب ! وأنت أعلم ، فغفر له .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/165)


أي : أهله أو بنوه ( ما أمرهم ) به من التحريق وغيره وقوله : فلما مات إلخ لمسلم فقط ( فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه ) أي : من أجزاء الرجل ، وفي رواية أخرى للبخاري فأمر الله تعالى الأرض فقال : اجمعي ما فيك منه ففعلت فإذا هو قائم ، وفي حديث أبي سعيد عنده أيضا فقال الله كن فإذا رجل قائم . قال الحافظ : وفي حديث سلمان الفارسي عند أبي عوانة في صحيحه فقال الله له : كن فكان كأسرع من طرفة العين ، وهذا جميعه كما قال ابن عقيل : أخبار عما سيقع له يوم القيامة ، وليس كما قال بعضهم أنه خاطب روحه فإن ذلك لا يناسب قوله : فجمعه الله ، لأن التحريق والتفريق إنما وقع على الجسد وهو الذي يجمع ويعاد عند البعث . ( ثم قال ) الله عز وجل ( له ) أي : للرجل ( لم فعلت هذا ) أي : ما ذكر من الوصية ، وفي رواية ما حملك على ما صنعت ( قال : من خشيتك يا رب ) وفي حديث حذيفة عند البخاري ما حملني إلا مخافتك ( وأنت أعلم ) أي : إنما فعلته من خشيتك . قال ابن عبد البر : وذلك دليل على إيمانه ، إذ الخشية لا تكون إلا لمؤمن بل لعالم . قال تعالى : ? إنما يخشى الله من عباده العلماء ? ( فاطر : 28) ويستحيل أن يخافه من لا يؤمن به . وقد روى الحديث بلفظ : قال رجل لم يعمل خيرا قط إلا التوحيد ، وهذه اللفظة ترفع الإشكال في إيمانه والأصول تعضدها ? إن الله لا يغفر أن يشرك به ? ( النساء : 48) قلت : الخشية من لوازم الإيمان ولما كان فعله هذا من أجل خشية الله تعالى وخوفه فلا بد من القول بإيمانه ، وعلى هذا فالحديث ظاهر بل هو كالصريح في استثناء التوحيد كما تقدم فلا إشكال فيه . ( فغفر له ) وفي حديث أبي سعيد عند البخاري في الرقاق فما تلافاه إن رحمه أي تداركه (( وما )) موصولة أي : الذي تلافاه هو الرحمة ، أو نافية وصيغة الاستثناء محذوفة ، وفي ذكر بني إسرائيل بلفظ : فتلقاه رحمة . قال

(16/166)


الحافظ : قالت المعتزلة : غفر له لأنه تاب عند موته وندم على فعله . وقالت المرجئة : غفر له بأصل توحيده الذي لا تضر معه معصية ، وتعقب الأول بأنه لم يرد أنه رد المظلمة فالمغفرة حينئذ بفضل الله لا بالتوبة ، لأنها لا تتم إلا بأخذ المظلوم حقه من الظلم ، وقد ثبت أنه كان نباشا . وتعقب الثاني بأنه وقع في حديث أبي بكر الصديق المشار إليه أولا أنه عذب فعلى هذا فتحمل الرحمة والمغفرة على إرادة ترك الخلود في النار ، وبهذا يرد على الطائفتين معا على : المرجئة في أصل دخول النار ، وعلى المعتزلة في دعوى الخلود فيها ، وفيه أيضا رد على من زعم من المعتزلة إنه بذلك الكلام تاب فوجب على الله قبول توبته - انتهى . وقيل : إن مغفرته إنما هي لكمال خوفه وخشيته من الله عز وجل ، لأن الخشية من المقامات السنية ولما كانت على أقصى مراتبها وإن حصلت عند حضور علامات الموت صارت سببا لمحو جميع سيئاته ووسيلة إلى مغفرة جميع ذنوبه ? إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون
متفق عليه .
2393- (7) وعن عمر بن الخطاب ، قال : قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسعى ، إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته ، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/167)


ذلك لمن يشاء ? وقد تقدم أن الخوف من الله من لوازم الإيمان . ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في ذكر بني إسرائيل ، وفي باب يريدون أن يبدلوا كلام الله من كتاب التوحيد ، ومسلم في التوبة ، وأخرجه أيضا أحمد (ج2 : ص269 : 304) ، ومالك ، والنسائي في أو أخر الجنائز ، وابن ماجة في ذكر التوبة ، وفي الباب عن أبي سعيد عند أحمد ، والشيخين وغيرهم ، وعن حذيفة عند البخاري والنسائي وغيرهما ، وعن ابن مسعود عند أحمد ، وأبي يعلي ، وعن معاوية ابن حيدة عند أحمد ، والطبراني وعن سلمان الفارسي عند أبي عوانة ، والطبراني .

(16/168)


2393- قوله : ( قدم ) بكسر الدال ( على النبي - صلى الله عليه وسلم - سبي ) أي : أسرى من الغلمان والجواري ، وسبيته سبيا إذا حملته من بلد إلى بلد ، وقوله : (( قدم )) على صيغة المعلوم فعل ماض و (( سبي )) بالرفع فاعله ، وفي رواية الكشميهني قدم بسبي على صيغة المجهول ، وبالباء الموحدة في سبي وكان هذا من السبي هوازن ( فإذا امرأة من السبي ) لم يعرف الحافظ اسمها ( قد تحلب ) بفتح الحاء وتشديد اللام على وزن تفعل ( ثديها ) بالإفراد والرفع فاعله أي سأل لبن ثديها على حذف المضاف لكثرته لعدم ولدها معها . وقال الحافظ : أي تهيأ لأن يحلب ( تسعى ) بفتح الفوقية وسكون السين وفتح العين المهملتين من السعي وهو المشي بسرعة أي : تعدو المرأة في طلب ولدها . ووقع في بعض نسخ صحيح البخاري بقاف مكسورة من السقي بالسين المهملة والقاف . قال الحافظ : بفتح المثناة وبقاف مكسورة ، وللكشميهني بسقي بموحدة مكسورة بدل الفوقية وفتح المهملة وسكون القاف وتنوين التحتية ، وللباقين تسعى بفتح العين المهملة من السعي أي : تمشي بسرعة تطلب ولدها الذي فقدته ، وفي رواية تبتغي من الابتغاء وهو الطلب . قال عياض : وهو وهم ، والصواب ما في رواية البخاري تسعى بالسين من السعي . وتعقبه النووي بأن كلا من الروايتين صواب لا وهم فيه فهي ساعية وطالبة مبتغية لابنها . وقال القرطبي : لإخفاء بحسن رواية تسعى ووضوحها ولكن لرواية تبتغي وجها وهو تطلب ولدها وحذف المفعول للعلم به فلا يغلط الراوي مع هذا التوجيه ( إذا وجدت ) قال الحافظ : قوله : إذا كذا أي : بالألف للجميع ولمسلم ( صبيا في السبي ) أي : في جملة صبيان السبي ( أخذته فالصقتة ببطنها ) قال الحافظ : حذف منه شيء بينته رواية الإسماعيلي ولفظه : إذا وجدت صبيا أخذته فأرضعته فوجدت صبيا فأخذته فألزمته بطنها . وعرف من سياقه إنها كانت فقدت صبيها وتضررت بإجتماع اللبن

(16/169)


أترون هذه طارحة ولدها في النار ؟ فقلنا : لا ، وهي تقدر على أن لا تطرحه . فقال : لله أرحم بعباده من هذه بولدها . متفق عليه .
2394- (8) وعن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لن ينجي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في ثديها فكانت إذا وجدت صبيا أرضعته ليخف عنها ، فلما وجدت صبيها بعينه أخذته فالتزمته والصقته ببطنها من فرحها بوجدانه وغاية مجتهاله . ( أترون ) بضم الفوقية أي تظنون ( هذه ) أي : المرأة ( طارحة ) أي : ملقية ( فقلنا ) كذا في جميع النسخ ، والذي في الصحيحين قلنا أي : بدون الفاء ( لا ) أي : لا نظن إنها طارحة . وقال القسطلاني : أي لا تطرحه . ( وهي تقدر على أن لا تطرحه ) أي : لا تطرحه طائعة أبدا . وقال القاري : الواو للحال ، وفائدة هذا الحال إنها إن اضطرت ، يمكن طرحها والله منزه عن الاضطرار ، فلا يطرح عبده في النار البتة ، ( لله ) بفتح أوله لام تأكيد ، وصرح بالقسم في رواية الإسماعيلي فقال : والله لله أرحم إلى آخره ، ( بعباده ) أي المؤمنين أو مطلقا ( من هذه ) المرأة ( بولدها ) هذا . قال الحافظ : كأن المراد بالعباد هنا من مات على الإسلام ، ويؤيده ما أخرجه أحمد ، والحاكم ( والبزار ورجالهم رجال الصحيح ) من حديث أنس قال : مر النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفر من الصحابة وصبي على الطريق ، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أو يوطأ فأقبلت تسعى ، وتقول : ابني ابني وسعت فأخذته ، فقال القوم يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار ، فقال : ولا الله بطارح حبيبه في النار ، فالتعبير بحبيبه يخرج الكافر ، وكذا من شاء إدخاله ممن لم يتب من مرتكبي الكبائر . وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة : لفظ العباد عام ، ومعناه خاص بالمؤمنين وهو كقوله تعالى : ? ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ? ( الأعراف : 156) فهي عامة من

(16/170)


جهة الصلاحية ، وخاصة بمن كتبت له . ثم ذكر ابن أبي جمرة احتمال تعميمه حتى في الحيوانات ورجحه العيني حيث قال ، والظاهر إنها على العموم لمن سبق له . منها نصيب من أي العباد كان حتى الحيوانات على ما ورد في حديث أبي هريرة وأنزل في الأرض جزءا واحدا ، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق - انتهى . قال ابن أبي جمرة : وفيه إشارة إلى أنه ينبغي للمرء أن يجعل تعلقه في جميع أموره بالله وحده وإن كل من فرض إن فيه رحمة ما يقصد لأجلها فالله سبحانه وتعالى أرحم منه فليقصد العاقل لحاجته من هو أشد له رحمة . قال : وفي الحديث ضرب المثل بما يدرك بالحواس لما لا يدرك بها لتحصيل معرفة الشيء على وجهه وإن كان الذي ضرب له المثل لا يحاط بحقيقته ، لأن رحمة الله لا تدرك بالعقل ، ومع ذلك فضربها النبي - صلى الله عليه وسلم - للسامعين بحال المرأة المذكورة ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في باب رحمة الولد من كتاب الأدب ، ومسلم في التوبة .
2394- قوله : ( لن ينجي ) أي : من النار (( ولن )) لمجرد النفي . وقيل : لتوكيده ، وينجي بفتح النون وكسر الجيم
أحدا منكم عمله ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/171)


المشددة من التنجية ، أو بسكون النون وتخفيف الجيم المكسورة من الانجاء ، ومعناه لن يخلص النجاة من الشيء التخلص منه ( أحدا ) بالنصب على المفعولية ( منكم عمله ) بالرفع على الفاعلية ، وفي رواية أبي داود الطيالسي ما منكم من أحد ينجيه عمله . وفي رواية للشيخين : لن يدخل أحدا عمله الجنة . وفي رواية لمسلم : ليس أحد منكم ينجيه عمله . وفي أخرى له : لن ينجو أحد منكم بعمله واستشكل هذا الحديث ونحوه بقوله تعالى : ? وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ? ( الزخرف : 72) وأجيب بأنه تحمل الآية على أن الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال ، فإن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال . ويحمل الحديث على أصل دخول الجنة والخلود فيها فإن قلت : إن قوله تعالى : ? سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ? ( النحل : 32) صريح بأن دخول الجنة أيضا بالأعمال أجيب : بأنه بلفظ مجمل بينه الحديث والتقدير ادخلوا منازل الجنة وقصورها بما كنتم تعملون ، فليس المراد بذلك أصل الدخول ، ويجوز أن يكون الحديث مفسرا للآية والتقدير أدخلوها بما كنتم تعملون مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم ، لأن اقتسام منازل الجنة برحمته ، وكذا أصل دخول الجنة هو برحمته حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك ولا يخلو شيء من مجازاته لعباده من رحمته وفضله ، وقد تفضل عليهم ابتداء بإيجادهم ثم برزقهم ثم بتعليمهم ، هذا محصل ما قاله ابن بطال في الجمع بين الآيتين وحديث الباب . وقال عياض : طريق الجمع أن الحديث فسر ما أجمل في الآية فذكر نحوا من كلام ابن بطال الأخير ، وإن من رحمة الله توفيقه للعمل وهدايته للطاعة وكل ذلك لم يستحقه العامل بعمله ، وإنما هو بفضل الله ورحمته . وقال ابن الجوزي : يتحصل عن ذلك أربعة أجوبة . الأول : أن التوفيق للعمل من رحمة الله ولولا رحمة الله السابقة ما حصل الإيمان ولا الطاعة

(16/172)


التي يحصل بها النجاة . الثاني : إن منافع العبد لسيده فعمله مستحق لمولاه فمهما أنعم عليه من الجزاء فهو من فضله . الثالث : جاء في بعض الأحاديث إن نفس دخول الجنة برحمة الله واقتسام الدرجات بالأعمال . والرابع : إن أعمال الطاعات كانت في زمن يسير ، والثواب لا ينفد ، فالإنعام الذي لا ينفد في جزاء ما ينفد بالفضل بمقابلة الأعمال . وقال الكرماني : الباء في قوله : ? بما كنتم تعملون ? ليست للسببية بل للإلصاق أو المصاحبة أي أورثتموها ملابسة أو مصاحبة أو للمقابلة نحو أعطيت الشاة بالدرهم ، وبهذا الأخير جزم الشيخ جمال الدين بن هشام في المغني فسبق إليه فقال : (ج1 : ص97) ترد الباء للمقابلة وهي الداخلة على الأعواض نحو اشتريته بألف وكافأت إحسانه بضعف . وقولهم هذا بذاك منه ? ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ? ( النحل : 32) وإنما لم نقدرها باء السببية كما قالت : المعتزلة ( فإنهم يقولون العمل الصالح سبب موجب للجنة ) وكما قال الجميع ( أي : جميع أهل السنة ) في لن يدخل أحدكم الجنة بعمله لأن المعطي
قالوا : ولا أنت يا رسول الله !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/173)


بعوض قد يعطي مجانا بخلاف المسبب فلا يوجد بدون السبب قال : وقد تبين أنه لا تعارض بين الحديث والآية لاختلاف محملي الباءين جمعا بين الأدلة ، قلت : سبقه إلى ذلك ابن القيم ، كما قال الحافظ ، وقد حكى كلامه عن كتاب مفتاح دار السعادة قال الحافظ : ويظهر لي في الجمع بين الآية والحديث وجه آخر ، وهو أن يحمل الحديث على أن العمل من حيث هو عمل لا يستفيد به العامل دخول الجنة ما لم يكن مقبولا ، وإذا كان كذلك فأمر القبول إلى الله تعالى ، وإنما يحصل برحمة الله لمن يقبل منه ، وعلى هذا فمعنى قوله : ? ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ? أي : تعملونه من العمل المقبول ، ولا يضر بعد هذا أن تكون الباء للمصاحبة أو للالصاق أو المقابلة ولا يلزم من ذلك أن تكون سبيية وحاصل هذا الجواب ، إن المنفي في الحديث دخولها بالعمل المجرد عن القبول والمثبت في الآية ، دخولها بالعمل المتقبل ، والقبول إنما يحصل من الله تفضلا . وقال النووي : معنى الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال ، والجميع بينها وبين الحديث ، أن التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها وقبولها ، إنما هو برحمة الله وفضله فيصح أنه لم يدخل الجنة بمجرد العمل ، وهو مراد الحديث ، ويصح أنه دخل بالأعمال أي : بسببها وهي من رحمة الله تعالى . ورد الكرماني الأخير بأنه خلاف صريح الحديث . وقال التوربشتي : ليس المراد من هذا الحديث نفي العمل وتوهين أمره ، بل توقف العباد ، على أن العمل ، إنما يتم بفضل الله وبرحمته ، لئلا يتكلوا على أعمالهم اغترارا بها ، فإن الإنسان ذو السهو والنسيان عرضة للآفات ودرية للغفلات ، قلما يخلص له من شائبة رياء أو شهوة خفية أو فساد نية أو قصد غير صالح ، ثم إن سلم له العمل عن ذلك ولا يسلم إلا برحمة من الله فإن أرجى عمل من أعماله لا يفي بشكر أدنى نعمة من نعم ربه فأنى له أن يستظهر بعمل لم يهتد إليه أيضا إلا برحمة من الله وفضل .

(16/174)


وقال الطيبي : أي النجاة من العذاب والفوز بالثواب بفضل الله ورحمته والعمل غير مؤثر فيهما على سبيل الإيجاب ، بل غايته أنه يعد العامل لأن يتفضل عليه ويقرب الرحمة إليه ، ولذا قال فسددوا إلخ . والخطاب للصحابة والمراد معشر بني آدم . قال الماذري : مذهب أهل السنة إن إثابة الله تعالى من أطاعة بفضل منه ، وكذلك انتقامه ممن عصاه بعدل منه ولا يثبت واحد منهما إلا بالسمع ، وله تعالى أن يعذب الطائع وينعم العاصي ، لأن العالم كله ملكه والدنيا والآخرة في سلطاته يفعل فيهما ما يشاء ، فلو عذب المطيعين وأدخلهم النار كان عدلا منه ، وإذا أكرمهم ونعمهم وأدخلهم الجنة فهو فضل منه ، ولو نعم الكافرين وأدخلهم الجنة كان له ذلك ، ولكنه أخبر وخبره صدق لا خلف فيه أنه لا يفعل ذلك بل يغفر للمؤمنين ويدخلهم الجنة برحمته ، ويعذب الكافرين ويخلدهم في النار عدلا منه . وهذا الحديث يقوي مقالتهم ويرد على المعتزلة حيث يثبتون الأعواض بالعقل ويوجبون ثواب الأعمال . ويوجبون الأصلح ، ولهم في ذلك خبط كثير وتفضيل طويل ( قالوا ) وفي رواية لمسلم : فقيل : وفي أخرى له قال : رجل . قال الحافظ : لم أقف على تعيين القائل ( ولا أنت يا رسول الله )
قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمته ، فسددوا ، وقاربوا ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/175)


أي : لا ينجيك عملك مع عظم قدره ، قال الطيبي : الظاهر ولا إياك أي : للعطف على أحدا فعدل إلى الجملة الاسمية أي من الفعلية المقدرة مبالغة . أي : ولا أنت ممن ينجيه عمله استبعادا عن هذه النسبة إليه . قلت : وقع في رواية لمسلم قال رجل : ولا إياك يا رسول الله . قال الكرماني : إذا كان كل الناس لا يدخلون الجنة إلا أن يتغمدهم الله برحمته فوجه تخصيص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذكر أنه إذا كان مقطوعا له بأنه يدخل الجنة ثم لا يدخلها إلا برحمة الله فغيره يكون في ذلك بطريق الأولى . وقال الرافعي : لما كان أجر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطاعة أعظم ، وعمله في العبادة أقوم قيل : ولا أنت أي لا ينجيك عملك مع عظم قدره فقال : لا إلا برحمة الله . ( قال ولا أنا ) مطابق ولا أنت . أي : ولا أنا ممن ينجيه عمله . وفي رواية مسلم المشار إليها قال : ولا إياي إلا أن يتغمدني الله . أي : يسترني . وفي رواية لمسلم : إلا أن يتداركني ( منه برحمة ) وفي رواية لهما : بفضل ورحمته ، وللمستملي بفضل رحمته بإضافة بفضل للاحقها . وفي رواية لمسلم : برحمته وفضل . وفي أخرى له : بمغفرة ورحمته . قال أبو عبيدة : المراد بالتغمد الستر وما أظنه إلا مأخوذا من غمد السيف ، لأنك إذا غمدت السيف فقد ألبسته الغمد وسترته به ، كأنه جعل رحمة له غمدا وستره بها وغشاه ، قال القاري : والاستثناء منقطع ، أي إلا أن يلبسني لباس رحمته فأدخل الجنة برحمته ، والتغمد الستر أي يسترني برحمته ويحفظني كما يحفظ السيف بالغمد ، بكسر الغين وهو الغلاف ، ويجعل رحمته محيطة بي إحاطة الغلاف للسيف . وقال الشيخ الدهلوي : معنى الاستثناء أي : لا ينجيني عملي إلا أن يرحمني الله ، فحينئذ ينجيني عملي ويصير سببا في نجاتي ، وبدونه لا يصير سببا ، لأن العمل ليس علة حقيقية موجبة للنجاة . وقال الطيبي : الاستثناء منقطع . قال القسطلاني : ويحتمل أن يكون متصلا

(16/176)


من قبيل قوله تعالى : ? لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ? ( الدخان : 56) ولما أشعر هذا الكلام بإلغاء العمل ، من حيث إيجابه النجاة ، وهو لا ينافي سببيته ومدخليته ، فيها باعتبار أنه يعد العامل لأن يتفضل عليه ، ويقرب إلى الرحمة من جهة حكمه تعالى ، بذلك ووضعه إياه ، كذلك أشار إلى إثباته بقوله ( فسددوا ) بالسين المهملة المفتوحة وكسر الدال المهملة الأولى المشددة . أي اقصدوا السداد من الأمر وهو الصواب من قولهم سدد السهم إذا تحرى الهدف . وقيل : هو القصد من القول والعمل واختيار الصواب منهما ، وهو ما بين الإفراط والتفريط ، يعني قوموا العمل واطلبوا الصواب واقصدوا في العمل بلا إفراط وتفريط فلا تغلوا ولا تقصروا ، وفي رواية لمسلم ولكن سددوا . قال الحافظ : ومعنى هذا الاستدراك أنه قد يفهم من النفي المذكور نفي فائدة العمل فكأنه قيل بل له فائدة ، وهو أن العمل علامة على وجود الرحمة ، التي تدخل العامل الجنة ، فاعملوا واقصدوا بعملكم الصواب ، وهو اتباع السنة من الإخلاص ، وغيره ليقبل عملكم ، فينزل عليكم الرحمة ، ( وقاربوا ) أي اطلبوا المقاربة وهي
واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا . متفق عليه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القصد في الأمر الذي لا غلو فيه ولا تقصير . وقيل : المعنى إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل ، فاعملوا بما يقرب منه ، يعني اعملوا بالسداد ، فإن عجزتم عنه فقاربوا أي اقربوا منه . وقال الحافظ : أي لا تفرطوا فتجهدوا أنفسكم في العبادة ، لئلا يفضي بكم ذلك إلى الملال فتركوا العمل ، فتفرطوا

(16/177)


( واغدوا ) بالغين المعجمة الساكنة والدال المهملة من الغدو ، وهو السير من أول النهار ، ( وروحوا ) بضم الراء وسكون الواو من الرواح وهو السير من أول النصف الثاني من النهار . وقال الجزري : الغدو الخروج بكرة ، والرواح العود عشيا ، والمراد اعملوا أطراف النهار ، وقتا وقتا ( وشيء من الدلجة ) بضم أوله وفتحه وإسكان اللام ويجوز فتحها ، وبعد اللام جيم سير الليل ، والمراد العمل في الليل ، وقال وشيء من الدلجة لعسر سير جميع الليل ، ففيه إشارة إلى تقليله وإلى الحث على الرفق في العبادة ، وشيء مرفوع على الابتداء وخبره مقدر . أي اعملوا . أي فيه ، أو مطلوب عملكم فيه . وقيل : التقدير ولكن شيء من الدلجة ، وقيل : إنه مجرور لعطفه على مقدر ، أي اعملوا بالغدو والروحة وشيء من الدلجة ، أو المعنى استعينوا بشيء من الدلجة وفي بعض نسخ البخاري وشيئا بالنصب ، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول . قال الحافظ : وشيئا منصوب بفعل محذوف ، أي : افعلوا ( والقصد القصد ) بالنصب على الإغراء ، أي الزموا الطريق الوسط المعتدل ، قال الجزري : القصد العدل في الفعل والقول ، والوسط بين الطرفين والتكرير للتأكيد ( تبلغوا ) المنزل الذي هو مقصدكم ، وهو مجزوم على جواب الأمر ، وقد شبه المتعبدين بالمسافرين ، لأن العابد كالمسافر إلى محل إقامته وهو الجنة ، وكأنه قال لا تستوعبوا الأوقات كلها بالسير بل اغتنموا أوقات نشاطكم وهو أول النهار وآخره وبعض الليل وارحموا أنفسكم فيما بينهما لئلا ينقطع بكم ، قال الله تعالى : ? وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ? ( هود : 114) وقد تقدم بأبسط من هذا في شرح حديث أبي هريرة رقم (1256) ، قال الطيبي : بين أولا أن العمل لا ينجي إجابا لئلا يتكلوا عليه ، وحث آخرا على العمل لئلا يفرطوا بناء على أن وجوده وعدمه سواء ، بل العمل أدنى إلى النجاة ، فكأنه معد وإن لم يوجب . وقال

(16/178)


الرافعي : في الحديث إن العامل لا ينبغي أن يتكل على عمله في طلب النجاة ونيل الدرجات ، لأنه إنما عمل بتوفيق الله وإنما ترك المعصية بعصمة الله فكل ذلك بفضله ورحمته ( متفق عليه ) واللفظ للبخاري بل السياق المذكور بطوله من إفراده ، أخرجه في الرقاق ، وأخرجه مسلم في التوبة مختصرا من طرق متعددة ، وأخرجه البخاري أيضا مختصرا في أواخر المرضى مقرونا بقوله : (( ولا يتمنى أحدكم الموت إلخ )) . وأخرجه أيضا أحمد مختصر (ج3 : ص235 : 256: 264 : 362) ، وأبو داود الطيالسي ، وأبو نعيم ، وفي الباب عن عائشة عند الشيخين ، وعن جابر عند مسلم ، وعن جماعة من الصحابة غير هؤلاء كما في الكنز (ج4 : ص150) .
2395- (9) وعن جابر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يدخل أحدا منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار ، ولا أنا إلا برحمة الله . رواه مسلم .
2396- (10) وعن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أسلم العبد فحسن إسلامه ، يكفر الله عنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2395- قوله : ( لا يدخل ) بضم أوله ( عمله ) بالرفع فاعله ( ولا يجيره ) أي : لا يخلصه ولا ينجيه أجار فلانا أغاثه وأعانه ونصره ، وأجاره من العذاب أي أنقذه وأبعده ( ولا أنا ) أي : إياي ( إلا برحمة الله ) أي : إلا عملا مقرونا برحمته ، فالاستثناء متصل فدخول الجنة بمحض الفضل ودرجاتها على حسب أعمال أصحابها بمقتضى العدل ( رواه مسلم ) في التوبة من طريق أبي الزبير عن جابر ، وأخرجه أحمد (ج3 : ص337) من طريق أبي سفيان عن جابر بلفظ : قاربوا وسددوا فإنه ليس أحدكم ينجيه عمله . قالوا : ولا إياك يا رسول الله قال : ولا إياي ، إلا أن يتغمدني الله برحمته . وأخرجه أيضا بنحوه (ج3 : ص362 : 394) .

(16/179)


2396- قوله : ( إذا أسلم العبد ) هذا الحكم يشترك فيه الرجال والنساء وذكره بلفظ المذكور تغليبا ( فحسن إسلامه ) عطف على أسلم وهو بضم السين المخففة أي صار إسلامه حسنا بمواطاة الظاهر الباطن ، ويمكن تشديد السين ليوافق رواية أحسن أحدكم إسلامه أي جعله حسنا بالمواطاة المذكورة ، قال العيني : معنى حسن الإسلام الدخول فيه بالظاهر والباطن جميعا ، يقال في عرف الشرع حسن إسلام فلان إذا دخل فيه حقيقة ، يعني صار إسلامه حسنا باعتقاده وإخلاصه ودخوله فيه بالباطن ، والظاهر بأن لا يكون منافقا ، قال القاري : وليس معناه استقام على الإسلام وأدى حقه وأخلص في عمله لإيهامه إن مجرد الإسلام الصحيح لا يكفر ( يكفر الله عنه ) من التكفير وهو التغطية وهو في المعاصي كالإحباط في الطاعات ، ويكفر بضم الراء جواب إذا ، قيل : ويجوز جزمه فتكسر الراء حينئذ لالتقاء الساكنين ، لأن الأصل في الساكن إذا حرك حرك بالكسر ، ويرد بأن جزم جواب إذا ، إنما يجوز في الضرورة ، قال ابن هشام في مغنيه (ج1 : ص85) : ولا تعمل إذا الجزم إلا في الضرورة كقوله :
استغن ما أغناك ربك بالغنى ( ... وإذا تصبك خصاصة فتجمل (
وقال الرضى : لما كان حدث (( إذا )) الواقع فيه مقطوعا به في أصل الوضع لم يرسخ فيه معنى أن الدال على الفرض بل صار عارضا على شرف الزوال ، فلهذا لم تجزم إلا في الشعر مع إرادة معنى الشرط وكونه بمعنى متى ، فقول الحافظ في الفتح : إن إذا لا تجزم أي في النثر ، وذهل العيني عن كون محل جزمها ، إنما هو في
كل سيئة كان زلفها ، وكان بعد القصاص : الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/180)


الشعر خاصة لا في النثر ، فتعقب الحافظ كعادته وإلا فذلك أمر ضروري لم يخل عنه أصغر كتاب في علم النحو . قال ابن آجروم : وإذا في الشعر خاصة ولكن شغفه بالرد والتعقب على الحافظ أوقعه في ذلك ، واستعمل الجواب مضارعا وإن كان الشرط بلفظ الماضي لكنه بمعنى المستقبل . وفي رواية البزار كفر الله فواخى بينهما ( كل سيئة ) بنصب كل على المفعولية أي من الصغائر والكبائر ( كان زلفها ) جملة فعلية في محل الجر ، لأنها صفة سيئة (( وزلفها )) بتخفيف اللام المفتوحة وتشديدها ، ولأبي ذر أزلفها بزيادة همزة مفتوحة وهما بمعنى واحد كما قاله الخطابي وغيره أي أسلفها وقدمها على الإسلام ، وفي المحكم أزلف الشيء قربه وزلفه مخففا ومثقلا قدمه ، وفي الجامع الزلفة تكون في الخير والشر ، وقال في المشارق : زلف بالتخفيف أي : جمع وكسب وهذا يشمل الأمرين . وأما القربة فلا تكون إلا في الخير فعلى هذا تترجح رواية غير أبي ذر أي : بدون الهمزة لكن الذي قاله الخطابي يساعد رواية أبي ذر أي بزيادة الهمزة المفتوحة فافهم ( وكان بعد ) بضم الدال بعد حسن الإسلام أو بعد تكفير السيئات به ، وقوله : بعد كذا في جميع النسخ من المشكاة والمصابيح ، والذي في الصحيح وكان بعد ذلك ، وهكذا في الجامع الصغير ، وكذا وقع عند النسائي ( القصاص ) بالرفع اسم كان على أنها ناقصة أو فاعل على أنها تامة ، وعبر بالماضي ، وإن كان السياق يقتضي المضارع لتحقق الوقوع فكأنه واقع وذلك كما في قوله تعالى : ? ونادى أصحاب الجنة ? ( الأعراف : 44) أي : وكان بعد ذلك المجازاة في الدنيا أو في الآخرة على الأعمال التي يفعلها بعد إسلامه . قال العيني : المراد بالقصاص ها هنا مقابلة الشيء بالشيء أي : كل شيء يعمله يعطي في مقابله شيء إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا . وقال السندي : أي : المماثلة الشرعية وضعها الله تعالى فضلا منه ولطفا لا العقلية ( الحسنة ) بالرفع مبتدأ خبره

(16/181)


( بعشر أمثالها ) أي : تكتب أو تثبت بعشر أمثالها والجملة استنا فيها بيان وتفسير للقصاص ، واللام في ( الحسنة ) للاستغراق يدل على هذا قوله : كل حسنة في حديث أبي هريرة رقم (44) المتقدم في كتاب الإيمان ( إلى سبع مائة ضعف ) متعلق بمقدر أي : منتهية إلى ذلك فهو حال والضعف المثل ( إلى أضعاف كثيرة ) أي : ممتدة إلى أمثال كثيرة فضلا من الله ونعمة ( والسيئة ) مبتدأ خبره ( بمثلها ) أي : من غير زيادة عدلا ورحمة كما قال : فلا يجزى إلا مثلها . والجملة معطوفة على الجملة قبلها ( إلا أن يتجاوز الله عنها ) أي : عن السيئة بقبول التوبة أو بالعفو وإن لم يتب ، وفي فوائد سمويه إلا أن يغفر الله وهو الغفور ، وفيه دليل لأهل السنة أن العبد تحت المشيئة إن شاء الله تعالى تجاوز عنه وإن شاء
رواه البخاري .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/182)


أخذه ورد على القاطع لأهل الكبائر بالنار كالمعتزلة ، ثم قوله : إلى أضعاف كثيرة ، هكذا وقع في جميع النسخ من المشكاة ، وهو من زيادة المصنف أو الناسخ وهي خطأ وغلط بلا شك ، لأنها ليست في صحيح البخاري ولم تقع أيضا في سنن النسائي وليست أيضا في الجامع الصغير والمصابيح والكنز (ج1 : ص60) ويدل أيضا على كونها غلطا أنه استدل بعضهم بهذا الحديث كما ذكر شراح البخاري نقلا عن الماوردي على أن التضعيف لا يتجاوز سبعمائة بل ينتهي إلى سبعمائة ثم رد كلهم على هذا البعض بحديث ابن عباس الآتي المصرح بالتضعيف إلى أكثر من سبعمائة ولو كانت هذه الزيادة في حديث أبي سعيد أيضا لم يكن للاستدلال به على هذا القول وجه ولما احتاج من رد عليه إلى الاحتجاج على خلافه بحديث ابن عباس ( رواه البخاري ) هذا الحديث لم يسنده البخاري في موضع من صحيحه بل ذكره معلقا في باب حسن إسلام المرء من كتاب الإيمان ، فقال قال مالك : أخبرني زيد بن أسلم إن عطاء بن يسار أخبره أن أبا سعيد الخدري أخبره أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إذا أسلم العبد إلخ . والبخاري لم يدرك زمن مالك فيكون تعليقا ولكنه بلفظ جازم فهو صحيح ولا قدح فيه لأنه موصول من جهات أخر صحيحة ، ولم يذكره لشهوته وكيف وقد عرف من شرطه وعادته أنه لا يجزم إلا بتثبت وثبوت ، وليس كل معلق يقدح فيه ، فهذا وإن كان معلقا لكنه في حكم المتصل الموصول في كونه صحيحا وقد وصله أبو ذر الهروي في روايته ، فقال أخبرنا النضروي وهو العباس بن الفضل حدثنا الحسين بن إدريس حدثنا هشام بن خالد حدثنا الوليد بن مسلم عن مالك عن زيد بن أسلم . وكذا وصله النسائي في ( كتاب الإيمان ) ، والحسن بن سفيان في مسنده ، والبزار والبيهقي في الشعب والإسماعيلي ، ولفظه من طريق عبد الله بن نافع عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا

(16/183)


أسلم العبد كتب الله له كل حسنة قدمها ومحى عنه كل سيئة زلفها ، ثم قيل له : ائتنف العمل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ، والسيئة بمثلها ، إلا أن يغفر الله . وأخرجه الدارقطني في غرائب مالك من تسع طرق ولفظه من طريق طلحة بن يحيى عن مالك ما من عبد يسلم فيحسن إسلامه إلا كتب الله له كل حسنة زلفها ومحى عنه كل خطيئة زلفها بالتخفيف فيهما ، وللنسائي نحوه لكن قال أزلفها فقد ثبت في جميع الروايات ما سقط من رواية البخاري ، وهو كتابة الحسنات المتقدمة قبل الإسلام وقوله : (( كتب الله )) أي : أمر أن يكتب . وللدارقطني من طريق ابن شعيب عن مالك يقول الله لملائكته اكتبوا . قيل : وإنما اختصره البخاري وأسقط ما رواه غيره عمدا لأنه مشكل على القواعد والأصول . فقال المازري ثم القاضي عياض وغيرهما : الكافر لا يصح منه التقرب فلا يثاب على العمل الصالح الصادر في شركه ، لأن من شرط المتقرب كونه عارفا بمن يتقرب إليه والكافر ليس كذلك ورده النووي فقال الصواب الذي عليه المحققون ، بل نقل بعضهم فيه الإجماع أن الكافر إذا فعل
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/184)


أفعالا جميلة على جهة التقرب إلى الله تعالى كصدقة وصلة رحم وإعتاق ونحوها ثم أسلم ومات على الإسلام إن ثواب ذلك يكتب له . ودليله حديث أبي سعيد الخدري عند النسائي والدارقطني وغيرهما ، وحديث حكيم بن حزام في الصحيحين أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية هل لي فيها من شيء ؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أسلمت على ما أسلفت من خير . قال الحافظ : وقد جزم بما جزم به النووي إبراهيم الحربي وابن بطال وغيرهما من القدماء والقرطبي وابن المنير من المتأخرين . وأما دعوى أنه مخالف للقواعد فغير مسلمة لأنه قد يعتد ببعض أفعال الكافر في الدنيا ككفارة الظهار ، فإنه لا يلزم إعادتها إذا أسلم وتجزئه . قال ابن المنير : المخالف للقواعد دعوى أنه يكتب له ذلك في حال كفره ، وأما أن الله يضيف إلى حسناته في الإسلام ثواب ما كان صدر منه مما كان يظنه خيرا ، فلا مانع منه ، كما لو تفضل عليه ابتداء من غير عمل ، وكما يتفضل العاجز بثواب ما كان يعمل وهو قادر ، فإذا جاز أن يكتب له ثواب ما لم يعمل البتة ، جاز أن يكتب له ثواب ما عمله غير موفي الشروط . وقال بن بطال بعد ذكره : حديث أبي سعيد ولله أن يتفضل على عباده بما شاء ، ولا اعتراض لأحد عليه ، واستدل غيره بقوله - صلى الله عليه وسلم - لما سألته عائشة عن ابن جدعان وما كان يصنعه من الخير هل ينفعه ؟ فقال : إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ، فدل على أنه لو قالها بعد أن أسلم نفعه ما عمله في الكفر . قلت : وأول من لم يقل بهذا حديث حكيم بن حزام من وجوه . منها إن معنى قوله : أسلمت على ما أسلفت من خير إنك بفعلك ذلك اكتسبت طباعا جميلة تنتفع بتلك الطباع في الإسلام بأن تكون تلك العادة معونة لك على فعل الطاعات ، لما حصل لك من التدرب على فعلها ، فلا تحتاج إلى مجاهدة جديدة ، فتثاب بفضل الله عما تقدم بواسطة انتفاعك

(16/185)


بذلك بعد إسلامك . ومنها إنك اكتسبت بذلك ثناء جميلا فهو باق عليك في الإسلام ومنها أنه لا يبعد أن يزاد في حسناته التي يفعلها في الإسلام ، ويكثر أجره لما تقدم له من الأفعال الحميدة . وقد جاء أن الكافر إذا كان يفعل خيرا فإنه يخفف عنه به فلا يبعد أن يزاد به في أجوره . ومنها إنه ببركة ما سبق لك من فعل الخير هديت للإسلام لأن المبادي عنوان الغايات . ومنها إنك بتلك الأفعال رزقت الرزق الواسع . قال بن الجوزي : قيل إن النبي عر ورى عن جوابه فإنه سأل هل لي فيها من أجر فقال أسلمت على ما سلف من خير والعتق فعل الخير وكأنه أراد أنك فعلت الخير والخير يمدح فاعله ويجازي عليه في الدنيا ، فقد روى مسلم من حديث أنس مرفوعا إن الكافر يثاب في الدنيا بالرزق على ما يفعله من حسنة ، ولا يخفى عليك إن كل ما تأولوا به حديث حكيم بن حزام تكلف مخالف لظاهره فالقول الراجح المعول عليه هو ما ذهب إليه النووي ومن وافقه والله أعلم .
2397- (11) وعن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله كتب الحسنات والسيئات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/186)


2397- قوله ( وعن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) هكذا عند أحمد (ج 1 : ص361) وفي الصحيحين عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . ولأحمد (ج1 : ص310) عن ابن عباس يرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال الحافظ : لم أر في شيء من الطرق التصريح بسماع ابن عباس له من النبي - صلى الله عليه وسلم - - انتهى . ووقع في الصحيحين والمسند بعد هذا (( فيما يروي عن ربه عز وجل )) أي الحديث من الأحاديث الإلهية ، ثم هو محتمل أن يكون مما تلقاه - صلى الله عليه وسلم - عن ربه بلا واسطة ، ويحتمل أن يكون مما تلقاه بواسطة الملك . قال الحافظ : وهو الراجح وقال الكرماني : هذا لبيان أنه من الأحاديث القدسية أو لبيان ما فيه من الإسناد الصريح إلى الله تعالى ، حيث قال إن الله كتب . ويحتمل أن يكون لبيان الواقع ، وليس فيه إن غيره ليس كذلك ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي بل فيه إن غيره كذلك ، إذ قال فيما يرويه أي في جملة ما يرويه أنه عز وجل إلخ ( إن الله كتب الحسنات والسيئات ) في البخاري فيما يروي عن ربه عز وجل قال : قال إن الله كتب إلخ قال الحافط : قوله (( إن الله كتب إلخ )) يحتمل أن يكون هذا من قول الله تعالى فيكون التقدير ( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) قال الله : إن الله كتب ، ويحتمل أن يكون من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - يحكيه عن فعل الله تعالى أي والتقدير . قال ابن عباس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله كتب ، ووقع عند أحمد (ج1 : ص279) بلفظ عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما روى عن ربه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن ربكم تبارك وتعالى رحيم من هم بحسنة . وللبخاري في التوحيد عن أبي هريرة بلفظ : عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يقول الله عز وجل إذا أراد عبدي أن يعمل . وأخرجه مسلم

(16/187)


بنجوه . وفي رواية له عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال : الله عز وجل إذا هم عبدي . وقوله (( كتب إلخ )) أي أثبتهما في الأزل في علمه على وفق الواقع أو كتب بمعنى أمر الملائكة بكتبهما في اللوح المحفوظ أو كتب الحسنات أي قضاها وقدرها وجعلها حسنة وكذلك السيئة قدرها وجعلها سيئة أو أمر الحفظ بكتابتهما ليوازنهما أو صحفهما يوم القيامة . وفي الصحيحين والمسند (ج1 : ص361) بعد هذا (( ثم بين ذلك )) أي ثم فصل الله ذلك الذي أجمله في قوله كتب الحسنات والسيئات بقوله (( فمن هم )) ففاعل بين هو الله تعالى والمجمل قوله كتب الحسنات والسيئات وقوله فمن هم بيان ذلك وشرحه بفاء الفصيحة ، أو المعنى ثم بين الله للكتبة من الملائكة ذلك التقدير حتى عرفوه واستغنوا به عن استفسار في كل وقت كيف يكتبونه لكونه أمرا مفروغا عنه ، أو المراد بين ذلك وفصله في التنزيل ، ويؤيد هذا أنه وقع في الترغيب (ج1 : ص25) للمنذري بلفظ (( ثم بين ذلك في الكتاب )) وقيل : فاعل بين هو النبي - صلى الله عليه وسلم - أي ثم فصل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الإجمال بما
فمن هم بحسنة فلم يعملها ، كتبها الله له عنده حسنة كاملة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/188)


بعده ، فيكون من كلام الراوي ، وإليه يشير صنيع البغوي والمصنف حيث تركه البغوي في المصابيح وتبعه المصنف في المشكاة ، قيل وذكر اسم الإشارة باعتبار المذكور ( فمن هم ) قال الطيبي : الفاء للتفصيل لأن قوله كتب الحسنات مجمل لم يعرف منه كيفية الكتابة والهم ترجيح قصد الفعل ، فقول هممت بكذا أي قصدته بهمتي وهو فوق مجرد خطور الشيء بالقلب ، وقوله : (( من هم )) كذا وقع في رواية من حديث أبي هريرة عند مسلم ، وللبخاري في التوحيد إذا أراد . وأخرجها مسلم بلفظ إذا هم . فهما بمعنى واحد ( بحسنة ) أي من قصد بها وصمم على فعلها يعني عقد عزمه عليها فقد ورد ما يدل على أن مطلق الهم والإرادة لا يكفي ، فعند أحمد (ج4 : ص345) وصححه ابن حبان ، والحاكم من حديث خريم بن فاتك رفعه من هم بحسنة ، فعلم الله إنه قد أشعر بها قلبه وحرص عليها ، وقد تمسك به ابن حبان فقال بعد إيراد حديث الباب في صحيحه : المراد بالهم هنا العزم ، ثم قال ويحتمل أن الله يكتب الحسنة بمجرد الهم بها وإن لم يعزم عليها زيادة في الفضل ( فلم يعملها ) بفتح الميم أي فلم يعمل الحسنة التي هم بها والمراد نفي عمل الجوارح ( كتبها الله ) أي قدرها وقضاها أو أمر الملائكة الحفظة بكتابتها بدليل حديث أبي هريرة عند البخاري في التوحيد بلفظ : إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها . وأخرجه مسلم بنحوه . وفيه دليل على أن الملك يطلع على ما في قلب الآدمي إما بإطلاع الله إياه أو بأن يخلق له علما يدرك به ذلك ، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي الدنيا عن أبي عمران الجوني ، قال ينادى الملك : اكتب لفلان كذا وكذا ، فيقول يا رب إنه لم يعمله . فيقول : إنه نواه . وقيل بل يجد الملك للهم بالسيئة رائحة خبيثة ، وبالحسنة رائحة طيبة . وأخرج ذلك الطبري عن أبي معشر المدني وجاء مثله عن سفيان بن عيينة ، ورأيت في شرح مغلطائي أنه ورد مرفوعا قاله الحافظ ( له ) أي للذي هم بها

(16/189)


( عنده ) أي عند الله ، وفيه إشارة إلى الشرف ( حسنة ) مفعول ثان باعتبار تضمين معنى التصيير أو حال موطئة ، وذلك لأن العمل بالنية ، ونية المؤمن خير من عمله فإنه يثاب على النية بدون العمل ولا يثاب على العمل بدون النية ، لكن لا يضاعف ثواب الحسنة بالنية المجردة كذا في المرقاة . وقال الطوفي : إنما كتبت الحسنة بمجرد الإرادة . لأن إرادة الخير سبب إلى العمل وإرادة الخير خير ، لأن إرادة الخير من عمل القلب . واستشكل بأن عمل القلب إذا اعتبر في حصول الحسنة فكيف لم يعتبر في حصول السيئة ؟ وأجيب بأن ترك عمل السيئة التي وقع الهم بها يكفرها لأنه قد نسخ قصده السيئة وخالف هواه ( كاملة ) أي لا نقص فيها وإن نشأت عن مجرد الهم . ففيه إشارة إلى رفع توهم نقصها لكونها نشأت عن الهم المجرد ، وإشارة إلى دفع كونها ليست كحسنة الفعل لكن الفعل يزيد بالمضاعفة وأقلها عشر . قال النووي : أشار بقوله عنده إلى مزيد الاعتناء به وبقوله كاملة إلى تعظيم الحسنة وتأكيد أمرها ، فالمراد بالكمال عظم القدر لا التضعيف إلى العشرة كما زعم بعضهم أن التعبير بكاملة يدل على أنها تضاعف إلى العشرة ، لأن ذلك هو الكمال لأنه يلزم منه مساواة من نوي الخير بمن فعله
فإن هم بها فعملها ، كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة . ومن هم بسيئة فلم يعملها ، كتبها الله له عند حسنة كاملة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/190)


والتضعيف مختص بالعامل . قال تعالى : ? من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ? ( الأنعام : 160) والمجيء بها بالجوارح . وأما الناوي فإنما ورد أنه يكتب له حسنة ، ومعناه يكتب له مثل ثواب الحسنة ، والتضعيف قدر زائد على أصل الحسنة . قال الحافظ : ظاهر الحديث حصول الحسنة بمجرد الترك سواء كان ذلك لمانع أو لا ، ويتجه أن يقال يتفاوت عظم الحسنة بحسب المانع ، فإن كان خارجيا مع بقاء قصد الذي هم بفعل الحسنة فهي عظيمة القدر ، ولاسيما إن قارنها ندم على تفويتها واستمرت النية على فيها عند القدرة ، وإن كان الترك من الذي هم من قبل نفسه فهي دون ذلك إلا أن قارنها قصد الإعراض عنها جملة . والرغبة عن فعلها ، ولاسيما إن وقع العمل في عكسها كأن يريد أن يتصدق بدرهم مثلا فصرفه بعينه في معصية ، فالذي يظهر في الأخير أن لا يكتب له حسنة أصلا وأما ما قبله فعلى الاحتمال - انتهى . ( فان هم بها ) أي بالحسنة ( فعملها ) بكسر الميم يعنى جمع بين النية والعمل ( كتبها الله له عنده ) اعتناء به وتشريفا له ( عشر حسنات ) قال تعالى : ? من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ? ( الأنعام : 160) وهذا أقل ما وعد به من الأضعاف وقوله فإن هم بها فعملها كتبها الله عشر حسنات يؤخذ منه رفع توهم إن حسنة الإرادة تضاف إلى عشرة التضعيف ، فتكون الجملة إحدى عشرة ، فإن هذا خلاف ظاهر هذا الحديث . ( إلى سبع مائة ضعف ) بكسر الضاد أي مثل ( إلى أضعاف كثيرة ) بحسب الزيادة في الإخلاص وصدق العزم وحضور القلب وتعدي النفع كالصدقة الجارية والعلم النافع والسنة الحسنة وشرف العمل ونحو ذلك ( ومن هم بسيئة فلم يعملها ) أي مراقبة لله وخوفا منه مع القدرة عليها لما في حديث أبي هريرة عند البخاري في التوحيد ، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة . ولمسلم وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من جرأي . بفتح الجيم وتشديد الراء وبعد الألف

(16/191)


ياء المتكلم ، وهي بمعنى من أجلي ( كتبها الله له عنده حسنة كاملة ) قد تقدم أن المراد بالكمال عظم القدر لا التضعيف إلى العشرة ، وظاهر إطلاق هذا الحديث كتابة الحسنة بمجرد الترك ، لكنه محمول على ما قيد به في حديث أبي هريرة فهو مخصوص لمن هم بسيئة فتركها لوجه الله تعالى . قال الحافظ : ويحتمل أن تكون حسنة من ترك بغير استحضار ما قيد به دون حسنة الآخر ، لما تقدم أن ترك المعصية كف عن الشر والكف عن الشر خير ، ويحتمل أيضا أن يكتب لمن هم بالمعصية ثم تركها حسنة مجردة ، فإن تركها من مخافة ربه سبحانه كتبت حسنة مضاعفة . وقال الخطابي : محل كتابة الحسنة على الترك ، أن يكون التارك قد قدر على الفعل ثم تركه ، لأن الإنسان لا يسمى تاركا إلا مع القدرة ، ويدخل فيه من حال بينه وبين حرصه على الفعل مانع كان يمشي إلى امرأة ليزني بها مثلا ، فيجد الباب
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/192)


مغلقا ويتعسر فتحه ومثله من تمكن من الزنا مثلا فلم ينتشر أو طرقه ما يخاف من أذاه عاجلا - انتهى . اعلم أنهم اختلفوا فيمن هم بمعصية أو عزم عليها بقلبه وصمم على فعلها هل يأثم في عزمه وتصميمه أم لا ؟ قال المازري : ذهب ابن الباقلاني يعني ومن تبعه إلى أن من عزم على المعصية بقلبه ووطن عليها نفسه أنه يأثم ، وحمل الأحاديث الواردة في العفو عمن هم بسيئة ولم يعملها على الخاطر الذي يمر بالقلب ولا يستقر . قال المارزي : وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين ونقل ذلك عن الشافعي ، ويؤيده قوله في حديث أبي هريرة في ما أخرجه مسلم من طريق همام عنه بلفظ : فأنا أغفر له ما لم يعملها ، فإن الظاهر إن المراد بالعمل هنا عمل الجارحة بالمعصية المهموم به وتعقبه عياض بأن عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء المحدثين على ما قال ابن الباقلاني لاتفاقهم على المؤاخذة بأعمال القلوب ، لكنهم قالوا إن العزم على السيئة يكتب سيئة مجردة لا السيئة التي هم أن يعملها لكونه لم يعملها وقطعه عنها قاطع غير خوف الله تعالى والإنابة كمن يأمر بتحصيل معصية ، ثم لا يفعلها بعد حصولها فإنه يأثم بالأمر المذكور لا بالمعصية . قال الحافظ : ومما يدل على ذلك حديث : إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار . قيل : هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه كان حريصا على قتل صاحبه . والذي يظهر أنه من هذا الجنس وهو أنه يعاقب على عزمه بمقدار ما يستحقه ولا يعاقب عقاب من باشر القتل حشاء وهنا قسم آخر وهو من فعل المعصية ولم يتب منها ، ثم هم أن يعود إليها فإنه يعاقب على الإصرار كما جزم به بن المبارك وغيره في تفسير قوله تعالى : ? ولم يصروا على ما فعلوا ? . ويؤيده أن الإصرار معصية اتفاقا فمن عزم على المعصية وصمم عليها كتبت عليه سيئة فإذا عملها كتبت عليه معصية ثانية . قال عياض : فإن تركها خشية لله تعالى كتبت حسنة كما في

(16/193)


الحديث ، إنما تركها من جرأي فصار تركه لخوف الله تعالى ومجاهدته نفسه الأمارة بالسوء في ذلك وعصيانه هواه حسنة . فأما الهم الذي لا يكتب فهي الخواطر التي لا توطن النفس عليها ولا يصحبها عقد ولا نية ولا عزم . قال النووي : وهذا ظاهر حسن لا مزيد عليه ، وقد تظاهرت نصوص الشريعة بالمؤاخذة على عزم القلب المستقر كقوله تعالى : ? إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة ? ( النور : 19) الآية وقوله : ? اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ? ( الحجرات : 12) وغير ذلك قال الحافظ : وأجيب عن القول الأول بأن المؤاخذة على أعمال القلوب المستقلة بالمعصية ، لا تستلزم المؤاخذة على عمل القلب بقصد معصية الجارحة إذا لم يعمل المقصود للفرق بين ما هو بالقصد وما هو بالوسيلة . وقسم بعضهم ما يقع في النفس أقساما يظهر منه . الجواب عن الثاني أضعفها أن يخطر له ثم يذهب في الحال وهذا من الوسوسة وهو معفو عنها وهو دون التردد ، وفوقه أن يتردد فيه فيهم به ثم ينفر عنه فيتركه ثم يهم به ثم يترك كذلك ولا يستمر
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/194)


على قصده ، وهذا هو التردد فيعفى عنه أيضا ، وفوقه أن يميل إليه ولا ينفر عنه لكن لا يصمم على فعله وهذا هو الهم فيعفى عنه أيضا ، وفوقه أن يميل إليه ولا ينفر منه بل يصمم على فعله فهذا هو العزم ، وهو منتهى الهم ( وخمس بعضهم القسمة كما سبق في شرح حديث رقم 63) ثم العزم على القسمين . القسم الأول : أن يكون من أعمال القلوب صرفا كالشك في الواحدانية أو النبوة أو البعث فهذا كفر ويعاقب عليه جزما ودونه المعصية التي لا تصل إلى الكفر كمن يحب ما يبغض الله ويبغض ما يحبه الله ويحب للمسلم الأذى بغير موجب لذلك ، فهذا يأثم ويلتحق به الكبر والعجب والبغي والمكر والحسد ، وفي بعض هذا خلاف فعن الحسن البصري إن سوء الظن بالمسلم حسده معفو عنه ، وحملوه على ما يقع في النفس مما لا يقدر على دفعه لكن من يقع له ذلك مأمور بمجاهدته النفس على تركه . والقسم الثاني : أن يكون من أعمال الجوارح كالزنا والسرقة فهو الذي وقع فيه النزاع . فذهبت طائفة إلى عدم المؤاخذة بذلك أصلا ، ونقل عن نص الشافعي ، ويؤيده ما وقع في حديث خريم بن فاتك المنبه عليه قبل فإنه حيث ذكر الهم بالحسنة . قال : علم الله أنه أشعرها قلبه وحرص عليها وحيث ذكر الهم بالسيئة لم يقيد بشيء بل قال : فيه ومن هم بسيئة لم تكتب عليه ، والمقام مقام الفضل فلا يليق التحجير فيه . وذهب كثير من العلماء إلى المؤاخذة بالعزم المصمم ، وسأل ابن المبارك سفيان الثوري أيؤاخذ العبد بما يهم به قال : إذا جزم بذلك . واستدل كثير منهم بقوله : ? ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ? ( البقرة : 225) وحملوا حديث أبي هريرة الصحيح المرفوع إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم على الخطرات كما تقدم . ثم افترق هؤلاء فقالت طائفة يعاقب عليه صاحبه في الدنيا خاصة بنحو الهم والغم ، وقالت طائفة بل يعاقب عليه يوم القيامة لكن بالعتاب لا بالعذاب ، وهذا قول

(16/195)


ابن جريج والربيع بن أنس وطائفة ونسب ذلك إلى ابن عباس أيضا ، واستدلوا بحديث النجوى المروي في باب ستر المؤمن على نفسه من كتاب الأدب واستثنى جماعة ممن ذهب إلى عدم مؤاخذة من وقع منه الهم بالمعصية ، ما يقع في الحرام المكي ولو لم يصمم لقوله تعالى : ? ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ? ( الحج : 25) لأن الحرم يجب اعتقاد تعظيمه فمن هم بالمعصية فيه خالف الواجب بانتهاك حرمته وانتهاك حرمة الحرم بالمعصية يستلزم انتهاك حرمة الله لأن تعظيم الحرم من تعظيم الله فصارت المعصية في الحرم أشد من المعصية في غيره وإن اشترك الجميع في ترك تعظيم الله تعالى ، نعم من هم بالمعصية قاصدا الاستخفاف بالحرم عصى ، ومن هم بمعصية الله قاصدا الاستخفاف بالله كفر ، وإنما المعفو عنه الهم بالمعصية مع الذهول عن قصد الاستخفاف . وأجاب من لم يقل بالمؤاخذة بالعزم عن
فإن هو هم بها فعملها ، كتبها الله له سيئة واحدة . متفق عليه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/196)


حديث الملتقيين بسيفيهما بأنه يتعلق بفعل خارجي أي يتعلق بالملتقيين عزم كل منهما على قتل صاحبه واقترن بعزمه فعل بعض ما عزم عليه وهو شهر السلاح وإشارته به إلى الآخرة ، فهذا الفعل يؤاخذ به سواء حصل القتل أم لا ، ولا يلزم من قوله فالقاتل والمقتول في النار أن يكونا في درجة واحدة من العذاب بالاتفاق - انتهى كلام الحافظ . باختصار يسير ( فإن هو ) أي الشأن أو مريد العمل ( هم بها ) أي بالسيئة ( فعملها ) أي جمع بين القصد والعمل ( كتبها الله له سيئة واحدة ) في حديث أبي هريرة عند الشيخين فاكتبوها له بمثلها . ولمسلم من حديث أبي ذر : فجزاءه بمثلها أو اغفر له . وله في آخر حديث ابن عباس : أو محاها بالفضل أو بالتوبة أو بالاستغفار أو بعمل الحسنة التي تكفر السيئة . والأول أشبه بظاهر حديث أبي ذر ويستفاد من التأكيد بقوله واحدة إن السيئة لا تضاعف كما تضاعف الحسنة ، وهو على وفق قوله تعالى : ? فلا يجزى إلا مثلها ? ( غافر : 40) قال ابن عبد السلام في أماليه : فائدة التأكيد دفع توهم من يظن أنه إذا عمل السيئة كتبت عليه سيئة العمل ، وأضيفت إليها سيئة الهم وليس كذلك ، إنما يكتب عليه سيئة واحدة . وقد استثنى بعضهم وقوع المعصية في الحرم المكي والجمهور على التعميم في الأزمنة والأمكنة ، ولكن قد تتفاوت بالعظم ولا يرد على ذلك قوله تعالى : ? من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين ? ( الأحزاب : 30) لأن ذلك ورد تعظيما لحق النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لأن وقوع ذلك من نساءه يقتضي أمرا زائدا على الفاحشة وهو أذى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وزاد مسلم بعد قوله أو محاها الله (( ولا يهلك على الله إلا هالك )) أي لا يهلك مع سعة هذه الرحمة إلا من حقت عليه الكلمة ، أي من أصر على التجرؤ على السيئة عزما وقولا وفعلا ، وأعرض عن الحسنات هما وقولا وفعلا . قال ابن

(16/197)


بطال : في هذا الحديث بيان فضل الله العظيم على هذه الأمة ، لأنه لولا ذلك كاد لا يدخل أحد الجنة لأن عمل العباد للسيئات أكثر من عملهم الحسنات . ويؤيد ما دل عليه هذا الحديث من الإثابة على الهم بالحسنة وعدم المؤاخذة على الهم بالسيئة قوله تعالى :? لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ? ( البقرة : 286) إذ ذكر في السوء الافتعال الذي يدل على المعالجة والتكلف فيه بخلاف الحسنة وفيه : أن الله تعالى بفضله وكرمه جعل العدل في السيئة ، والفضل في الحسنة فضاعف الحسنة ولم يضاعف السيئة ، بل أضاف فيها إلى العدل الفصل ، فأدارها بين العقوبة والعفو بقوله كتبت له واحدة أو يمحوها وبقوله فجزاءه بمثلها أو أغفر . ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في باب من هم بحسنة أو سيئة من كتاب الرقاق ، ومسلم في الإيمان ، وأخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص227 - 279 - 310 - 361) والنسائي في الكبرى ، وفي الباب عن أبي هريرة عند الشيخين وغيرهما ، وعن أبي ذر عند مسلم وعن أنس عند أبي يعلى .
( الفصل الثاني )
2398- (12) عن عقبة بن عامر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات ، كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته ، ثم عمل حسنة فانكفت حلقة ثم عمل أخرى فانفكت أخرى حتى تخرج إلى الأرض .رواه في (( شرح السنة )) .
2399- (13) وعن أبي الدرداء . أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم : يقص على المنبر وهو يقول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/198)


2398- قوله : ( إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات ) أي صفته ( كمثل رجل ) قيد به لمناسبته بالدرع ( كانت عليه درع ) بكسر الدال المهملة ، وهي قميص من زر والحديد يلبس وقاية من سلاح العدو مؤنث ، وقد يذكر بخلاف درع المرأة أي قميصها فإنه مذكر ( قد خنقته ) أي عصرت حلقه ولبته لضيقها ( ثم عمل حسنة ) أي أي حسنة كانت والتنوين للتنكير ( فانفكت ) أي انحلت ( حلقة ) بسكون اللام أي من حلق تلك الدرع ( ثم عمل ) أخرى أي حسنة أخرى ( فانفكت أخرى ) أي حلقة من الحلق وهكذا تنفك واحدة بواحدة بعد أخرى ( حتى تخرج إلى الأرض ) أي حتى تسقط تلك الدرع . قال الطيبي : أي حتى تنحل وتنفك بالكلية ويخرج صاحبها من ضيقها فقوله : تخرج إلى الأرض كناية عن سقوطها - انتهى . والمقصود من الحديث أن عمل السيئات يضيق صدر عاملها ، ويحيره في أمره ويعسره عليه فلا تيسر له أموره ويسود قلبه ويضيق عليه رزقه ويبغضه إلى الناس ، وإذا عمل الحسنات تذهب حسناته سيئاته كما قال الله عز وجل :? إن الحسنات يذهبن السيئات ? ( هود : 114) فإذا زالت سيئاته انشرح صدره وتوسع رزقه وطاب قلبه وتيسر له أموره وصار محبوبا في قلوب الناس فالحديث تمثيل وبيان لقوله تعالى : ? إن الحسنات يذهبن السيئات ? ( رواه ) أي البغوي ( في شرح السنة ) أي بإسناده ، وأخرجه أيضا أحمد (ج4 : ص145) من رواية عبد الله بن المبارك . قال أنا ابن لهيعة قال حدثني يزيد بن أبي حبيب قال : حدثا أبو الخير ، أنه سمع عقبة بن عامر وابن لهيعة فيه كلام معروف ، لكن رواية ابن المبارك عنه حسن . قال عبد الغني بن سعيد الأزدي ، إذا روى العبادلة عن ابن لهيعة فهو صحيح ابن المبارك وابن وهب والمقري ، وذكر الساجي وغيره مثله كذا في التهذيب (ج5 : ص 378) وقال في التقريب : إنه صدوق خلط بعد احتراق كتبه ، ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما ، وله في مسلم

(16/199)


بعض شيء مقرون والحديث ذكره المنذري في الترغيب (ج4 ص 25) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج10 : ص 201 ، 202) وقالا : رواه أحمد والطبراني وأحد أسنادي الطبراني رجاله رجال الصحيح .
2399- قوله ( يقص ) أي يحدث الناس ويعظهم ويذكرهم ( ويقول ) أي والحال أنه يقول ويحتمل أن
? ولمن خاف مقام ربه جنتان ? قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ يا رسول الله ! فقال الثانية : ? ولمن خاف مقام ربه جنتان ?
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/200)


يكون للعطف على يقص ( ولمن خاف ) أي لكل فرد من أفراد الخائفين أو لمجموعهم يعني الكلام على سبيل التوزيع فإحدى الجنتين للخائف الإنسي ، والأخرى للخاف الجني ، فكل خائف ليس له إلا جنة واحدة والأول هو المعتمد ( مقام ربه ) مقامه سبحانه هو الموقف الذي يقف فيه العباد للحساب أو قيام الخائف عند ربه للحساب يعني ولمن خاف من القيام بحضرة ربه يوم القيامة ، قال تعالى : ? يوم يقوم الناس لرب العالمين ? ( المطففين : 6 ) وقيل : المعنى خاف مقام ربه عليه وهو إشرافه على أحواله وإطلاعه على أفعاله وأقواله من قام عليه إذ راقبه ، كما في قوله : ? أفمن هو قآئم على كل نفس بما كسبت ? ، ومحصل ذلك احتمالات ثلاث في تفسير المقام . أولها : إنه اسم مكان . والثاني : أنه مصدر تحته احتمالان إما بمعنى قيام الخلائق بين يدي الله أو بمعنى قيام الله على الخلائق ، وأضاف إلى الرب تفخيما وتهويلا . وقيل : أي لمن خاف ربه مقام مقحم للمبالغة ، كقوله : أنفيت عنه مقام الذئب . قال مجاهد والنخعي : هو الرجل الذي يهم بالمعصية فيذكر الله فيدعها من خوفه ، وفيه إشارة إلى سبب استحقاق الجنتين في نفس الأمر ، وهو أنه ليس مجرد الخوف بل الخوف الناشئ عنه ترك المعاصي . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في هذه الآية قال : وعد الله المؤمنين الذين خافوا مقامه فأدوا فرائضه الجنة ، وأخرج ابن جرير عنه أيضا يقول خاف ثم أتقى والخائف من ركب طاعة الله وترك معصيته . ( جنتان ) أي جنتان ذواتا أفنان إلى آخر صفاتهما المذكورة في القرآن المبينة أنهما أعلى من الجنتين المذكورتين بعدهما من الجنان ومن ثمة قال : ? ومن دونهما جنتان ? أي في المرتبة والنعيم والشرف ، واختلف في الجنتين أولا ، فقيل : جنة لفعل الطاعة وأخرى لترك المعصية . وقيل : جنة للعقيدة وأخرى للعمل . وقيد جنة بالعمل ، وجنة بالتفضيل . وقيل : غير ذلك ،

(16/201)


والأظهر أن يقال : جنتان من ذهب آنيتهما وقصورهما وحليهما وما فيهما ومن دونهما جنتان أي من فضة كذلك وإليه ذهب ابن كثير حيث قال الصحيح إن هذه الآية عامة كما قاله ابن عباس وغيره بقول الله تعالى : ? وأما من خاف مقام ربه ? ( النازعات : 40) بين يدي الله عز وجل يوم القيامة ? ونهى النفس عن الهوى ? ( النازعات 40 ) ولم يطغ ولا آثر الحياة الدنيا ، وعلم أن الآخرة خير وأبقى ، فأدى فرائض الله واجتنب محارمه فله يوم القيامة عند ربه جنتان ، كما روى البخاري ( بسنده ) عن أبي موسى الأشعري مرفوعا : جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما - الحديث . وقال في فتح القدير (ج5 : ص141) أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : ? ولمن خاف مقام ربه جنتان ? ( الرحمن : 46) وفي قوله : ? ومن دونهما جنتان ? ( الرحمن : 62) قال : جنتان من ذهب للمقربين ، وجنتان من ورق لأصحاب اليمين . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد وابن المنذر ، والحاكم
فقلت الثانية : وإن زنى وإن سرق ؟ يا رسول الله ! فقال الثالثة : ? ولمن خاف مقام ربه جنتان ? فقلت الثالثة : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ! قال : وإن رغم أنف أبي الدرداء . رواه أحمد .
2400- (14) وعن عامر الرام ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/202)


وصححه ابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي موسى في الآية . قال : جنتان من ذهب للسابقين ، وجنتان من فضة للتابعين . ( قلت : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ) إن وصلية . أي ولو زنى وسرق الخائف له جنتان . قال ابن حجر : إن سبق منه قبل هذا الخوف نحو الزنا والسرقة ويصح على بعد وإن فعلهما مع هذا الخوف ، ووجه بعده اجتماع هذا الخوف وفعل ذينك وأمثالها - انتهى . وقيل : المعنى من خاف الله في معصيته فتركها يعطيه الله بستانين في الجنة وإن زنا وإن سرق في وقت وتاب لم يبطل زناه وسرقته ثواب خوفه من الله تعالى في معصية أخرى غير تلك الزنية والسرقة . ( فقال الثانية ) أي في المرة الثانية زيادة في التأكيد ( وإن رغم أنف أبي الدرداء ) بكسر الغين المعجمة أي لصق بالرغام وهو التراب ذلا وهوانا . قال القارئ : ظاهر الحديث إن من على عمومه ، والمراد بالخائف المؤمن فكيف يكون نظير حديث رواه الشيخان عن أبي ذر مرفوعا ما من عبد قال : لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة . قلت : وإن زنى وإن سرق . قال : وإن زنى وإن سرق ، ثم قال في الثالثة أو الرابعة : على رغم أنف أبي ذر - الحديث . كما سبق في كتاب الإيمان - انتهى . قلت : ونحوه ما رواه أحمد (ج6 : ص442) عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له دخل الجنة . قال : قلت : وإن زنى وإن سرق ، قال : وإن زنى وإن سرق . ثم قال في الثالثة : على رغم أنف أبي الدرداء . قال : فخرجت لأنادي بها في الناس ، قال : فلقيني عمر فقال : ارجع فإن الناس إن علموا بهذه اتكلوا عليها ، فرجعت فأخبرته - صلى الله عليه وسلم - فقال : صدق عمر . ( رواه أحمد ) لم أجده في مسنده في مسند أبي الدرداء . ويمكن أن يكون ذكره في غير مظنته ، والحديث ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره ولم يعز لأحمد بل عزاه لابن جرير ، والنسائي ، وقال وقد روي موقوفا على أبي

(16/203)


الدرداء وروي عنه أنه قال : إن من خاف مقام ربه لم يزن ولم يسرق . نعم عزا الحديث الهيثمي في مجمع الزوائد (ج7 : ص118) لأحمد والطبراني ، وقال : ورجال أحمد رجال الصحيح وذكره الشوكاني في فتح القدير (ج5 : ص140) وعزاه لابن أبي شيبة ، وابن منيع ، وأحمد ، والحاكم والنسائي ، والبزار ، وأبي يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والطبراني .
2400- قوله ( وعن عامر الرام ) أي الرامي ، فحذف الياء تخفيفا كما في المتعال ، وهو أخو الخضر بضم الخاء وسكون الضاد المعجمتين المحاربي من ولد مالك بن مطرف بن خلف بن محارب صحابي له حديث واحد . قال في التهذيب : عامر الرام . وقيل : الرامي أخو الخضر بن محارب عداده في الصحابة ، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال : بينا نحن عنده ، يعني عند النبي صلى الله عليه وسلم ، إذا أقبل رجل عليه كساء في يده شيء قد التفت عليه ، فقال : يا رسول الله ! مررت بغيضة شجر ، فسمعت فيها أصوات فراخ طائر ، فأخذتهن فوضعتهن في كسائي فجاءت أمهن فاستدارت على رأسي فكشفت لها عنهن ، فوقعت عليهن فلففتهن بكسائي ، فهن أولاء معي قال : ضعهن فوضعتهن وأبت أمهن إلا لزومهن . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتعجبون لرحم أم الأفراخ فراخها ، فوا لذي بعثني بالحق : لله أرحم بعباده من أم الأفراخ بفراخها إرجع بهن حتى تضعهن من حيث أخذتهن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
: إن المؤمن إذا ابتلى ثم عافاه الله كان كفارة لذنوبه - الحديث . قاله محمد بن إسحاق عن رجل من أهل الشام يقال له : أبو منظور عن عمه عن عامر به ، وقال في الإصابة : كان عامر راميا حسن الرمي فلذلك قيل له الرامي وكان شاعرا وفيه يقول الشماخ :
فحلأها عن ذي الاراكة عامر ( ... أخو الخضر يرمي حيث تردى الهواجر (

(16/204)


وكان يقال لولد مالك الخضر لأنه كان شديد الأدمة ، وقال في أسد الغابة : قيل لمالك وأولاده الخضر . لأنه كان آدم وكان عامر أرمى العرب ( يعني عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ) تفسير من الرواي عن الرامي قاله القاري . والظاهر إن هذا التفسير من البغوي ، إذ وقع كذلك في المصابيح ( كساء ) بكسر الكاف ( قد التف عليه ) أي لف الرجل كساءه على ذلك الشيء ( فقال ) أي الرجل ( مررت بغيضة شجر ) الغيضة بفتح الغين الأجمة ومجتمع الشجر وبالفارسية بيشه وجنكل . والأجمة الشجرة الكثيرة الملتف ، وبالفارسية نيستان وأنبوه درختان . والشجر اسم الجنس يقع على القليل والكثير وأضاف الغيضة إليه لمزيد البيان ( فسمعت فيها ) أي في الغيضة ( أصوات فراخ طائر ) بكسر الفاء جمع فرخ هو ولد الطائر ( فأخذتهن ) أي الفراخ ( فاستدارت ) أي دارت ( فكشفت لها ) أي لأم الفراخ ( عنهن ) أي عن الفراخ يعني رفعت الكساء ونحيته عن وجه الفراخ لأجل أمهن حتى رأتهن ( فوقعت ) أي سقطت أم الفراخ ( فلففتهن ) أي جميعهن ( فهن ) أي هن وأمهن ( أولاء ) اسم إشارة ( معي ) أي تحت كسائي . ( فقال ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي بعض النسخ قال : أي بدون الفاء كما في أبي داود ( فوضعتهن ) أي وكشفت عنهن وعن أمهن ( وأبت أمهن ) أي امتنعت ( إلا لزومهن ) أي عدم مفارقتهن استثناء مفرغ لما في أبت من معنى النفي ، أي ما فارقتهن بعد كشف الكساء بل ثبتت معهن من غاية رحمتها بهن ( أتعجبون لرحم أم الأفراخ ) أي لشفقتها ورحمتها ، والرحم بالضم وبضمتين مصدر كالرحمة وهو التعطف والشفقة ( فراخها ) منصوب على المفعولية ( ارجع بهن حتى تضعهن من حيث أخذتهن )
وأمهن معهن فرجع بهن . رواه أبو داود .
( الفصل الثالث )
2401- (15) عن عبد الله بن عمر ، قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته ، فمر بقوم ، فقال : من القوم ؟ قالوا : نحن المسلمون وامرأة تحصب بقدرها ،

(16/205)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من بمعنى في نحو قوله تعالى : ? إذا نودي للصلاة من يوم ? ( الجمعة : 9) وقيل : إنها زائدة على مذهب الأخفش ( وأمهن معهن ) جملة حالية ( فرجع ) أي الرجل ( بهن ) أي بالفراخ من مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى موضعهن فوضعهن فيه مع أمهن لألفتهن بمكانهن ( رواه أبو داود ) في أول الجنائز ، وأخرجه أيضا أحمد كما في الإصابة كلاهما من طريق محمد بن إسحاق عن أبي منظور عن عمه عن عامر الرامي . قال : إنا لببلادنا إذ رفعت لنا رايات وألوية ، فقلت : ما هذا ؟ قالوا : هذا لواء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيته وهو تحت شجرة قد بسط له كساء وهو جالس عليه ، وقد اجتمع له أصحابه فذكر الحديث في ثواب الأسقام ، ثم قال : فبينا نحن عنده إذا قبل رجل عليه كساء وفي يده شيء إلخ ، ورواه أيضا ابن أبي شيبة ، وابن أبي خيثمة ، وابن السكن . وقد سكت عليه أبو داود ثم المنذري وفي سنده كما ترى أبو منظور عن عمه وهما مجهولان أبو منظور الشامي ، قال في التقريب والخلاصة أنه مجهول . وقال البخاري : أبو منظور لا يعرف إلا بهذا ، وعم أبي منظور لم أقف على حاله ولم أر له ترجمة في كتب الرجال الموجودة عندي . وقال في التقريب في ترجمة عامر : صحابي ، له حديث يروى بإسناد مجهول . وقال ابن السكن : روي عنه حديث واحد فيه نظر . وقال المنذري في الترغيب : بعد عزوه لأبي داود في إسناده راو لم يسم .

(16/206)


2401- قوله ( فقال من : القوم قالوا نحن المسلمون ) كأنهم توهموا أو خافوا إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظنهم غير مسلمين . قال ابن حجر تبعا للطيبي : كان من الظاهر أن يقال في الجواب : نحن مضريون أو قرشيون أو طائيون فعدلوا عن الظاهر ، وعرفوا الخبر حصرا أي نحن قوم لا نتجاوز الإسلام توهما إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظن أنهم غير مسلمين - انتهى . قال القاري : وهذا تكلف وقال قوله : من القوم أي أنتم أوهم من الأعداء الكافرين أو الأحباء المسلمين . ( وامرأة ) أي والحال إن امرأة معهم ( تحصب ) بالحاء والصاد المهملتين كتضرب كذا وقع في بعض نسخ المشكاة من طبعات الهند ، وهكذا وقع في سنن ابن ماجة ( بقدرها ) بكسر القاف أي ترمي الحصب والحطب تحت قدرها ، وفي بعض طبعات الهند تحضب بالحاء المهملة والضاد
ومعها ابن لها فإذا ارتفع وهج تنحت به فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : أنت رسول الله ؟ قال : نعم . قالت : بأبي أنت وأمي ، أليس الله أرحم الراحمين قال : بلى قالت : أليس الله أرحم بعبادة من الأم بولدها ؟ قال : بلى . قالت : إن الأم لا تلقي ولدها في النار فأكب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي ثم رفع رأسه إليها فقال : إن الله لا يعذب من عباده إلا المارد المتمرد الذي يتمرد على الله وأبى أن يقوا : لا إله إلا الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/207)


المعجمة المكسورة ، وهكذا في نسخة القاري وفي نسخة التي على حاشية المرقاة من حضب النار إذا ألقى فيها الحطب . قال القاري : تحضب أي توقد وقوله : (( بقدرها )) كذا في جميع نسخ المشكاة الموجودة عندنا ، والذي في ابن ماجه تنورها . قال السندي : تحصب تنورها أي ترمي فيه ما يوقد النار به فيه ( ومعها ابن لها ) أي صغير ( فإذا ارتفع وهج ) بالفتح حر النار وفي ابن ماجة فإذا ارتفع وهج التنور ( تنحت به ) أي تبعدت الأم بالولد عن النار ( أنت رسول الله ) استفهام بحذف أداته ولا ينافي إسلامها قبل ذلك لعلمها به إجمالا وإن لم تعلم ذاته بعينها ( قالت إن الأم لا تلقي ولدها في النار ) أي فكيف أرحم الراحمين يلقي بعض العبيد فيها وإن كانوا كفرة ( فأكب ) أي طأطأ رأسه ( عن الله لا يعذب ) أي عذابا مخلدا ( من عباده ) أي من جميع عباده فالإضافة للاستغراق بدليل الاستثناء . وقال السندي : قوله : لا يعذب أي على الدوام . والظاهر أنه لا يدخل النار إلا هؤلاء إذا الكلام في إدخال النار في الخلود والدوام . والله أعلم . وبالجملة فالمعصية تعظم وتزيد قبحا وشناعة بقدر حقارة العاصي وعظمة المعصي بها وكثرة إحسانه إلى المعاصي فيعظم جزاءها بذلك فبالنظر إلى حالة العبد العاصي وإنه خلق من أي شيء وأي شيء مقداره ، وإلى عظمة خالق السماوات والأرض الذي قامت السماوات بأمره ، وإلى كثرة نعمه وإحسانه تعظم أدنى المعاصي حتى تجاوز الجبال والبحار وتصير حقيقة بأن يجعل جزاءها الخلود في النار لولا رحمة الكريم العفو الغفور الرحيم فكيف هذه المعصية المتضمنة لتشبيهه بالأحجار التي هي أرذل الخلق فتعالى سبحانه عن ذلك علوا كبيرا . وحقائق هذه الأمور لا يعلمها إلا علام الغيوب ، ثم ظاهر الحديث يقتضي أن جاحد النبوة قد أبى عن كلمة التوحيد على وجهها ، وهو المراد ها هنا - انتهى كلام السندي . ( إلا المارد ) أي شيطان الإنس والجن المتعري عن الخيرات من مرد كنصر

(16/208)


وكرم عتا وعصى . وجاوز حد أمثاله ، أو بلغ الغاية التي يخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصنف ( المتمرد ) مبالغة له ( الذي يتمرد على الله ) أي يتجرأ على مخالفته ويعتو عليه ( وأبى ) عطف على يتمرد عطف تفسير أي امتنع ( أن يقول لا إله إلا الله ) فيكون بمنزلة ولد يقول لست أمي وأمي غيرك ويعصيها ويتصورها بصورة كلب أو خنزير فلا شك أنها حينئذ تتبرأ عنه وتعذبه إن قدرت عليه ، وحاصل الجواب إن الكافر خرج من العبودية
رواه ابن ماجة .
2402- (16) وعن ثوبان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن العبد ليلتمس مرضاة الله ، فلا يزال بذلك ، فيقول الله عز وجل لجبريل : إن فلانا عبدي يلتمس أن يرضيني ، ألا وإن رحمتي عليه . فيقول جبريل : رحمة الله على فلان ، ويقولها حملة العرش ، ويقولها من حولهم ، حتى يقولها أهل السماوات السبع ، ثم تهبط له إلى الأرض . رواه أحمد .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/209)


وأن يسمى عبد الله فلهذا يعذب ? وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ? ( رواه ابن ماجة ) في باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة ، وفي سنده إسماعيل بن يحيى الشيباني ويقال له : الشعيري متهم بالكذب . وقال العقيلي : لا يتابع على حديثه وحكى عن يزيد بن هارون أنه قال : كان إسماعيل الشعيري كذابا . وقال ابن حبان : لا تحل الرواية عنه روى له ابن ماجة في الزهد حديثا واحدا عن ابن عمر في قصة المرأة التي تحصب تنورها ، وهو الذي أشار إليه العقيلي كذا في تهذيب التهذيب (ج1 : ص336) وقال في الزهد : إسناد حديث ابن عمر ضعيف لضعف إسماعيل بن يحيى متفق على تضعيفه - انتهى . قال السندي أصل الحديث ليس من الزوائد ولعله يشير إلى حديث أبي هريرة عند البخاري بلفظ : كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى ، قيل : ومن أبى ؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى . ويشهد له ما روى أحمد (ج5 : ص285) برجال ثقات من حديث أبي أمامة بلفظ : كلكم في الجنة إلا من شرد على الله شراد البعير على أهله . ورواه أيضا الطبراني في الأوسط بإسناد حسن كما في مجمع الزوائد .

(16/210)


2402- قوله ( إن العبد ) أي الصالح ( ليلتمس ) أي يطلب ( مرضاة الله ) أي رضاه بأصناف الطاعات ( فلا يزال بذلك ) أي ملتبسا أي بذلك الالتماس ( إن فلانا ) كناية عن اسمه ووصفه ( عبدي ) أي المؤمن إضافة تشريف ( يلتمس أن يرضيني ) أي لأن أرحمه ( ألا ) للتنبيه ( وإن رحمتي ) أي الكاملة ( عليه ) أي واقعة عليه ونازلة إليه ( رحمة الله على فلان ) خبر أو دعاء وهو الأظهر . ( ويقولها ) أي هذه الجملة ( ويقولها من حولهم ) أي جميعا ( ثم يهبط ) على بناء المفاعل ، ويحتمل أن يكون على بناء المفعول أي تنزل الرحمة ( له ) أي لأجله ( إلى الأرض ) أي إلى أهل الأرض . قال القاري : يعني محبة الله إياه ثم يوضع له القبول فيها . قال الطيبي . هذا الحديث وحديث المحبة متقاربان - انتهى . ويريد بحديث المحبة ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا . إن الله تعالى إذا أحب عبدا دعا جبريل ، فقال : إني أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض - الحديث . ( رواه أحمد ) (ج5 : ص279) .
2403- (17) وعن أسامة بن زيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل : ? فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ? قال : كلهم في الجنة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الهيثمي (ج10 : ص202) ورجاله رجال الصحيح غير ميمون بن عجلان وهو ثقة - انتهى .

(16/211)


2403- قوله ( في قول الله عز وجل فمنهم ظالم لنفسه ) الفاء تفصيل لقوله ? ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ( فاطر : 32) والمفعول الأول ، (( لأورثنا )) الموصول ، والمفعول الثاني الكتاب وإنما قدم المفعول الثاني لقصد التشريف والتعظيم للكتاب ، والمعنى ثم أورثنا أي أعطينا الذين اصطفيناهم من عبادنا الكتاب ، وهو القرآن (( ومن )) للبيان أو للتبعيض ، والمراد بعبادنا أمة الإجابة أو أمة الدعوة وبالموصول آله وأصحابه ومن بعدهم من أمته ، والمعنى قضينا وقدرنا وحكمنا بتوريث القرآن منك الذين اخترناهم من أمتك أو عبر بالماضي عن المضارع لتحققه ، ثم قسم سبحانه هؤلاء الذين أورثهم كتابه واصطفاهم من عباده إلى ثلاثة أقسام فقال : ? فمنهم ظالم لنفسه ? ( فاطر : 32 ) أي بالتقصير في العمل به ( ومنهم مقتصد ) يعمل به في أغلب أحواله وأوقاته ( ومنهم سابق بالخيرات ) يضم إلى العمل به التعليم والإرشاد إلى العمل . وقيل : الظالم لنفسه هو المفرط في فعل بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرمات ، والمقتصد هو المؤدي للواجبات التارك للمحرمات ، وقد يترك بعض المستحبات ، ويفعل بعض المكروهات ، والسابق بالخيرات هو : الفاعل للواجبات والمستحبات التارك للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات . وقيل : الظالم هو المرجأ لأمر الله والمقتصد هو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا . قال النسفي : وهذا التأويل يوافق التنزيل فإنه تعالى قال : ? والسابقون الأولون من المهاجرين ? ( التوبة : 100) الآية وقال بعده : ? وآخرون اعترفوا بذنوبهم ? ( التوبة : 102) الآية وقال بعده : ? وآخرون مرجون لأمر الله ? ( التوبة : 106) - انتهى . وقيل : الظلم للنفس يصدق على الظلم للنفس بمجرد إحرامها للحظ وتفويت ما هو خير لها فتارك الاستكثار من الطاعات قد ظلم نفسه

(16/212)


باعتبار ما فوتها من الثواب ، وإن كان قائما بما أوجب الله عليه وتاركا لما نهاه الله عنه ، ومعنى المقتصد هو من يتوسط في أمر الدين ولا يميل إلى جانب الإفراط ولا إلى جانب التفريط . وأما السابق : فهو الذي سبق غيره في أمور الدين وهو خير الثلاثة وفي تفسير هؤلاء الثلاثة أقوال أخرى كثيرة ذكرها الثعلبي وغيره . ( قال ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ( كلهم في الجنة ) إيذان بأن قوله : ? جنات عدن يدخلونها ? ( النحل : 31) مبتدأ أو خبر ، والضمير للثلاثة ، والحديث ذكره الحافظ ابن كثير من رواية الطبراني بلفظ : قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كلهم من هذه الأمة . وذكره الشوكاني في فتح القدير (ج4 : ص341) وعزاه للطبراني وابن مردويه ، والبيهقي بلفظ : كلهم من هذه الأمة وكلهم في الجنة . قال ابن كثير : قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : في قوله تعالى : ? ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ? قال هم
رواه البيهقي في (( كتاب البعث والنشور ))
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/213)


أمة محمد ورثهم الله تعالى كل كتاب أنزله فظالمهم يغفر له ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا ، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب . وكذا روي عن غير واحد من السلف : إن الظالم لنفسه من هذه الأمة من المصطفين على ما فيه عوج وتقصير . وقال آخرون : بل الظالم لنفسه ليس من هذه الأمة ولا من المصطفين الوارثين للكتاب ، والصحيح إن الظالم لنفسه من هذه الأمة . وهذا اختيار ابن جرير كما هو ظاهر الآية وكما جاءت به الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طريق يشد بعضها بعضا فذكرها ، منها حديث أسامة بن زيد الذي نحن في شرحه ، ومنها حديث أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في هذه الآية ? ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ? قال : هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة ، وكلهم في الجنة أخرجه أحمد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم . وفي أسانيد كلهم من لم يسم . قال ابن كثير : ومعنى قوله (( بمنزلة واحدة )) أي في أنهم من هذه الأمة وأنهم من أهل الجنة ، وإن كان بينهم فرق في المنازل في الجنة . ومنها حديث أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول قال الله تعالى : ? ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ? فأما الذين سبقوا فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب . وأما الذين اقتصدوا فأولئك الذين يحاسبون حسابا يسيرا ، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك الذين يحسبون في طول المحشر ثم هم الذين تلافاهم الله برحمته فهم الذين يقولون ? الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور ? ( فاطر : 34) إلى

(16/214)


آخر الآية . أخرجه أحمد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث . وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا ، ويجب المصير إليها ويدفع بها قول من حمل الظالم لنفسه على الكافر ، وفي الباب آثار عن عمر ، وعثمان ، وعلي ، وعائشة ، وابن مسعود وغيرهم . ذكرها الحافظ ابن كثير والشوكاني في تفسيرهما وكلها تؤيد ما ذهب إليه الجمهور في تفسير الآية إن الطبقات الثلاث هم الذين اصطفى من عباده وهم أهل الإيمان من هذه الأمة وكلهم ناج يدخل الجنة . ( رواه البيهقي في كتاب البعث والنشور ) وأخرجه أيضا الطبراني ، وابن مردويه .
(6) باب ما يقول عند الصباح والمساء والمنام
( الفصل الأول )
2404- (1) عن عبد الله ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قال : أمسينا وأمسى الملك لله ، والحمد لله ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/215)


( باب ما يقول عند الصباح والمساء) قال الراغب : الصبح والصباح أول النهار وهو وقت ما احمر الأفق بحاجب الشمس ، قال : ? أليس الصبح بقريب ? (11 : 81) ? فساء صباح المنذرين ? (37 : 177) وقال في القاموس : الصبح الفجر أو أول النهار وهو الصبيحة والصباح ، والإصباح والمصبح . كمكرم ، والمساء والإمساء ضد الصباح والإصباح . قلت : الظاهر المتبادر من بعض الأحاديث الواردة في الباب أن المساء أول الليل ، ويمكن حمل كلام صاحب القاموس عليه كما لا يخفى ، وقال في هامش (( تحفة الذاكرين )) الصباح من طلوع الفجر أي إلى طلوع الشمس ، والمساء من غروب الشمس كما يدل له ما أخرجه عبد الرزاق ، والفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، وصححه عن أبي رزين . قال : جاء نافع بن الأزرق إلى ابن عباس فقال هل تجد الصلوات الخمس في القرآن قال : نعم . فقرأ ? فسبحان الله حين تمسون ? قال : صلاة المغرب والعشاء ? وحين تصبحون ? (30 : 17) قال : صلاة الصبح ? وعشيا ? صلاة العصر ? وحين تظهرون ? (30 : 18) صلاة الظهر . فهذا تفسير الصحابي اللغوي للصباح والمساء ومثله عن مجاهد ،.فالمساء لا يكون إلا من بعد غروب الشمس ، فأذكاره من ذلك الوقت نحو أمسينا وأمسى الملك لله . الخ - انتهى . قلت : فمن قال إن المساء يدخل وقته بالزوال ، والصباح يدخل وقته بانتصاف الليل ، وإنه تدخل أوراد الصباح من نصف الليل الأخير والمساء من الزوال فقد أبعد جدا ، قال النووي في الأذكار تحت باب ما يقال عند الصباح وعند المساء : اعلم أن هذا الباب واسع جدا ليس في الكتاب باب أوسع منه وأنا أذكر إن شاء الله تعالى فيه جملا من مختصراته فمن وفق للعمل بكلها فهي نعمة وفضل من الله تعالى عليه وطوبى له من عجز عن جميعها فليقتصر من مختصراتها على ما شاء ولو كان ذكرا واحدا ، ثم ذكر النووي

(16/216)


آيات من القرآن العزيز ورد فيها الأمر بالذكر أو التسبيح أو الدعاء في العشي والإبكار والإشراق والغدو والآصال وقبل طلوع الشمس وقبل غروبها أو ورد فيها مدح القائمين بذلك ، ثم سرد جملا من الأحاديث أورد المصنف أكثرها في المشكاة ( والمنام ) أي زمان النوم ، أو هو مصدر ميمي أي عند إرادة النوم ، والظاهر أن المراد به نوم الليل فلا يشمل القيلولة .
2404- قوله ( أمسينا وأمسى الملك لله ) أي دخلنا في المساء ودخل الملك فيه كائنا لله ومختصا به ، أو الجملة حالية بتقدير (( قد )) أو بدونه أي أمسينا وقد صار بمعنى كان ودام الملك لله ( والحمد لله ) قال الطيبي : عطف على (( أمسينا وأمسى الملك )) أي صرنا نحن وجميع الحمد لله - انتهى . قال القاري : أي عرفنا فيه أن الملك لله وأن الحمد لله
ولا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، اللهم إني أسألك من خير هذه الليلة وخير ما فيها ، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها ، اللهم إني أعوذ بك من الكسل ، والهرم ، وسوء الكبر ، وفتنة الدنيا ، وعذاب القبر ، وإذا أصبح قال ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/217)


لا لغيره ، ويمكن أن يكون جملة (( الحمد الله )) مستقلة والتقدير (( والحمد لله على ذلك )) وقيل : ويجوز أن يكون قوله (( والحمد لله )) معطوفا على قوله (( الملك لله )) فيكون هذا أيضا اسما لأصبح ( ولا إله إلا الله ) كذا في جميع نسخ المشكاة بزيادة الواو وهكذا وقع في المصابيح وجامع الأصول وكذا وقع عند ابن السني ، قال الطيبي : عطف على (( الحمد لله )) على تأويل وأمسى الفردانية والوحدانية مختصين بالله - انتهى . والذي في صحيح مسلم (( لا إله إلا الله )) أي بدون الواو وهكذا وقع عند الترمذي وأبي داود وكذا نقله النووي في الأذكار وابن الجزري في الحصن ، والظاهر أن ما وقع في المشكاة تبعا للمصابيح وجامع الأصول خطأ والصواب بحذف الواو ( وحده ) حال مؤكدة . أي منفردا بالألوهية ( اللهم إني أسألك ) أي مصيرا وافرا وحظا وافيا ( من خير هذه الليلة ) أي ذاتها وعينها ( وخير ما فيها ) قال الطيبي : أي من خير ما ينشأ ( يقع ويحدث ) فيها وخير ما يسكن فيها ، قال تعالى : ? وله ما سكن في الليل ? (6 : 13) وقال ابن حجر : أي مما أردت وقوعه فيها لخواص خلقك من الكمالات الظاهرة والباطنة وخير ما يقع فيها من العبادات التي أمرنا بها فيها ، أو المراد خير الموجودات التي قارن وجودها تلك الليلة وخير كل موجود الآن . وقيل : الأظهر أن يراد بخيرها ما يعمل فيها بنفسه وبخير ما فيها ما يقع ويحدث فيها من الكوائن والحوادث ( وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها ) وفي رواية لمسلم (( رب أسألك خير ما في الليلة وخير ما بعدها ( أي من الليالي أو مطلقا ) وأعوذ بك من شر هذه الليلة وشر ما بعدها )) ( اللهم إني أعوذ بك من الكسل ) بفتحتين أي التثاقل في الطاعة مع الاستطاعة . قال الطيبي : الكسل التثاقل عما لا ينبغي التثاقل عنه ، ويكون ذلك لعدم انبعاث النفس للخير مع ظهور الاستطاعة . ( والهرم ) بفتحتين ، أي كبر السن المؤدي إلى تساقط بعض

(16/218)


القوى وضعفها وهو الرد إلى أرذل العمر لأنه يفوت فيه المقصود بالحياة من العلم والعمل ، ولذا قال تعالى : ? لكي لا يعلم بعد علم شيئا ? (16 : 70) ( وسوء الكبر ) بكسر الكاف وفتح الباء بمعنى الهرم والخرف ، وروي بإسكان الباء بمعنى البطر أي الطغيان عند النعمة والتعاظم على الناس . والأول أصح رواية ودراية وتعضده رواية النسائي (( وسوء العمر )) والمراد بسوء الكبر ما يورثه كبر السن من ذهاب العقل ، واختلاط الرأي والتخبط فيه ، والقصور عن القيام بالطاعة وغير ذلك مما يسوء الحال . وقال في اللمعات : في الفقرات كلها ترق من الأدنى إلى الأعلى استعاذ أولا من الكسل أي من التثاقل في الطاعة مع الاستطاعة ، ثم من الهرم الذي فيه سقوط بعض الاستطاعة فيفوت به بعض وظائف العبادات ، ثم من سوء الكبر الذي يصير فيه كالحلس الملقى على الأرض لا يصدر منه شيء من الخيرات ( وفتنة الدنيا ) أي الافتتان بها ومحبتها أو الابتلاء بفتنة فيها ( وعذاب القبر ) أي من نفس عذابه أو مما يوجبه ( وإذا أصبح ) أي دخل - صلى الله عليه وسلم - في الصباح ( قال ذلك ) أي
أيضا : أصبحنا وأصبح الملك لله . وفي رواية : رب إني أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر . رواه مسلم .
2405- (2) وعن حذيفة ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده ، ثم يقول : اللهم باسمك أموت وأحيى . وإذا استيقظ قال : الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/219)


ما يقول في المساء ( أيضا ) أي لكن يقول بدل (( أمسينا وأمسى الملك لله )) ( أصبحنا وأصبح الملك لله ) ويبدل اليوم بالليلة فيقول : اللهم إني أسالك من خير هذا اليوم ، ويذكر الضمائر بعده ( وفي رواية ) أي لمسلم وغيره يقول بعد قوله : (( سوء الكبر )) ( رب إني أعوذ بك ) كذا في جميع النسخ الموجودة عندنا والذي في صحيح مسلم (( رب أعوذ بك )) أي بسقوط (( إني )) وكذا وقع عند الترمذي وأبي داود وهكذا في المصابيح وجامع الأصول والحصن ( من عذاب في النار وعذاب في القبر ) التنكير فيهما للتقليل لا للتفخيم كما وهم ابن حجر . وفي الحديث إظهار العبودية والافتقار إلى تصرفات الربوبية ، وإن الأمر كله خيره وشره بيد الله ، وأن العبد ليس له من الأمر شيء ، وفيه تعليم للأمة ليتعلموا آداب الدعوة ( رواه مسلم ) وكذا الترمذي في الدعوات ، وأبو داود في الأدب ، وابن السني (ص13) ، والنسائي ، وابن أبي شيبة كما في الحصن ، ورواه أحمد (ج1 : ص440) مختصرا جدا . وفي الباب عن أنس أخرجه البخاري في الأدب المفرد ، والترمذي ، وأبو داود ، وابن السني ، والبغوي في شرح السنة (ج5 : ص132) .

(16/220)


2405- قوله ( إذا أخذ مضجعه ) بفتح الجيم أي أتى فراشه ومرقده ( من الليل ) أي في بعض أجزاء الليل فالمضجع كمقعد موضع الضجع ، وفي رواية للبخاري : (( إذا أوى إلى فراشه )) أي دخل فيه ، وقال الطيبي : قوله : (( من الليل )) صلة لأخذ على طريق الاستعارة كأنه قيل إذا أخذ حظه من الليل أي أراد أن ينام ، لأن لكل أحد حظا منه وهو السكون والنوم والراحة فكأنه يأخذ منه نصيبه وحظه بالسكون والنوم قال تعالى : ? جعل لكم الليل لتسكنوا فيه ? (10 : 67) والمضجع مصدر - انتهى ( وضع يده ) أي كفه اليمنى ( تحت خده ) وعند أحمد (ج5 : ص387) (( وضع يده اليمنى تحت خده اليمنى )) ( اللهم باسمك ) بوصل الهمزة ، أي بذكر اسمك جادا لا بكف اللسان عن ذكرك ولا بقلب غافل ( أموت ) قدم الموت لأن النوم أخوه وهذا وقت النوم ( وأحيي ) بفتح الهمزة أي أنام واستيقظ يعني بذكر اسمك أحيى ما حييت وعليه أموت . ويسقط بهذا سؤال من يقول بالله الحياة والموت لا باسمه ، ويحتمل أن يكون لفظ الاسم هنا زائدا كما في قول الشاعر :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
( الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا ) ولأحمد في الرواية المذكورة (( أحياني بعد ما أماتني )) قيل : هذا ليس إحياء ولا إماتة
وإليه النشور . رواه البخاري .
2406- (3) ومسلم عن البراء .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/221)


بل إيقاظ وإنامة ، وأجيب بأن الموت عبارة عن انقطاع تعلق الروح بالبدن ، وذلك قد يكون ظاهرا فقط وهو النوم ولهذا يقال (( النوم أخو الموت )) أو ظاهرا وباطنا وهو الموت المتعارف فإطلاق الموت على النوم يكون مجازا لاشتراكهما في انقطاع تعلق الروح بالبدن ، وقيل سمي النوم بالموت لأن الصفات السمع من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام كما تزول بالموت بتة تبقى بالنوم بحيث لم تكن . فالنوم يعطل هذه الصفات بحيث نستطيع أن نقول إنها بطلت كلها سوى الحياة حتى يستيقظ ، والحياة وإن كانت باقية للنوم لكن النائم لا يدر بها ففي حقه لا يبعد أن يقال : زالت عنه تلك الصفات السبع كلها فيدخل في سلك الموتى . وقال أبو إسحاق الزجاج : النفس التي تفارق الإنسان عند النوم هي التي للتمييز ، والتي تفارقه عند الموت هي التي للحياة ، وهي التي تزول معها التنفس ، وسمي النوم موتا لأنه يزول معه العقل والحركة تمثيلا وتشبيها لا تحقيقا . وقال الخطابي : هذا مجاز لأن الحياة غير زائلة عند النوم لكن جعل السكون عن الحركات وزوال القدرة عند النوم بمنزلة الموت فقال : (( بعد ما أماتنا )) أي رد علينا القوة والحركة بعدما أن أزالهما منا بعد النوم ( وإليه النشور ) أي البعث يوم القيامة والإحياء بعد الإماتة . يقال : نشر الله الموتى فنشروا أي أحياهم فحيوا . قاله الحافظ . وقال في النهاية : نشر الميت نشورا ، إذا عاش بعد الموت ، وأنشره الله أي أحياه . قيل : ما سبب الشكر على الانتباه من النوم ، وأجاب الطيبي مبينا لحكمة إطلاق الموت على النوم بأن انتفاع الإنسان بالحياة إنما هو بتحري رضا الله عنه وتوخي طاعته والاجتناب عن سخطه وعقابه فمن نام زال عنه هذا الانتفاع بالكلية ولم يأخذ نصيب حياته وكان كالميت فكان قوله : (( الحمد لله )) شكرا لنيل هذه النعمة وزوال ذلك المانع وقال الطيبي : وهذا التأويل موافق للحديث الآخر الذي فيه (( وإن

(16/222)


أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين )) وينتظم معه قوله (( وإليه النشور )) أي وإليه المرجع في نيل الثواب بما يكتسب في الحياة . قيل الذكر في بدء نومه والحمد بعد يقظته مشعر بأنه ينبغي أن يكون السالك عند نومه ذاكرا الله تعالى متهيئا للموت لأنه خاتمة أمره وعمله ، وعند تنبهه حامدا لله وشاكرا على فضله ، ويتذكر باليقظة بعد النوم البعث بعد الموت ، وأن يعلم أن مرجع الخلق كله إلى مولاه . ( رواه البخاري ) في الدعوات والتوحيد أي عن حذيفة ، وكذا رواه عنه أحمد (ج5 : ص385 ، 387 ، 397 ، 399 ، 407) ، والترمذي في الدعوات ، وأبو داود في الأدب ، وابن ماجة في الدعاء ، والنسائي ، وابن السنى (ص225) ، وابن أبي شيبة ، والبخاري في الأدب المفرد ، والدارمي في الاستيذان ، والبغوي في شرح السنة (ج5 : ص 98 ، 99) .
2406- قوله ( ومسلم عن البراء ) قال القاري : فالحديث متفق عليه ، والخلاف في الصحابي . قلت : ليس هذا الحديث متفقا عليه في عرف المحدثين إذا شرطوا فيه اتحاد الصحابي . والحديث رواه أحمد أيضا عن البراء (ج4 : ص294 ، 302) .
2407- (4) وعن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره ، فإنه لا يدري ما خلفه عليه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/223)


2407- قوله ( إذا أوى ) بقصر الهمزة أي نزل ( إلى فراشه ) بكسر الفاء أي أتى إليه لينام عليه . وفي رواية البخاري في التوحيد (( إذا جاء أحدكم إلى فراشه )) ولابن ماجة (( إذا أراد أحدكم أن يضطجع على فراشه )) وللترمذي : (( إذا قام أحدكم عن فراشه ثم رجع إليه )) ولأحمد (ج2 : ص283) (( إذا قام أحدكم من الليل ثم رجع إلى فراشه )) ( فلينفض ) بضم الفاء من باب نصر من النفض بالنون والفاء والضاد المعجمة وهو تحريك الشيء ليسقط ويزول ما عليه من غبار ونحوه ومعناه بالفارسية بيفشاند ( فراشه ) قبل أن يدخل إليه ( بداخلة إزاره ) ولابن ماجة (( فلينزع داخلة إزاره ثم لينقض بها فراشه )) . وللبخاري في الأدب المفرد (( فليحل )) وله أيضا ولمسلم : (( فليأخذ )) قال الحافظ : قوله (( بداخلة إزاره )) كذا للأكثر ، وفي رواية أبي زيد المروزي (( بداخل )) بلا هاء . وداخلة الإزار حاشيته التي تلي الجسد وتماسه ، وقيل هي طرفه مطلقا ، وفي القاموس : طرفه الذي يلي الجسد ويلي الجانب الأيمن . قال القرطبي : حكمة هذا النفض قد ذكرت في الحديث ، وأما اختصاص النفض بداخلة الإزار فلم يظهر لنا ، ويقع لي أن في ذلك خاصية طبية تمنع من قرب بعض الحيوانات كما أمر بذلك العائن ، ويؤيده ما وقع في بعض طرقه (( فلينفض بها ثلاثا )) فخذا بها حذو الرقى في التكرير – انتهى . وأشار الداودي إلى أن الحكمة في ذلك أن الإزار يستر بالثياب فيتوارى بما يناله من الوسخ فلو نال ذلك بكمه صار غير لدن الثوب ، والله يحب إذا عمل العبد عملا أن يحسنه . وقال صاحب النهاية (ج2 : ص17) : داخلة الإزار طرفه وحاشيته من داخل ، وإنما أمر بداخلته دون خارجته لأن المؤتزر يأخذ إزاره بيمينه وشماله فيلزق ما بشماله على جسده وهي داخلة إزاره ( يعني أن المؤتزر إذا ائتزر يأخذ أحد طرفي إزاره بيمينه والآخر بشماله فيرد ما أمسكه بشماله عل جسده ) ثم يضع ما بيمينه فوق داخلته فمتى عاجله أمر

(16/224)


وخشى سقوط إزاره أمسكه بشماله ودفع عن نفسه بيمينه ، فإذا صار إلى فراشه فحل إزاره فإنما يحل بيمينه خارجة الإزار وتبقى الداخلة معلقة وبها يقع النفض لأنها غير مشغولة باليد - انتهى . وأشار الكرماني إلى أن الحكمة فيه أن يكون يده حين النقض مستورة لئلا يكون هناك شيء فيحصل في يده ما يكره . قال الحافظ : وهي حكمة النفض بطرف الثوب دون اليد لا خصوص الداخلة . وقال القاري : قيد النفض بإزاره لأن الغالب في العرب أنه لم يكن لهم ثوب غير ما هو عليهم من إزار ورداء ، وقيد بداخل الإزار ليبقى الخارج نظيفا ، ولأن هذا أيسر ولكشف العورة أقل وأستر . وإنما قال : هذا لأن رسم العرب ترك الفراش في موضعه ليلا ونهارا ولذا علله وقال : ( فإنه ) أي الشأن أو المريد للنوم ( لا يدري ما خلفه ) بالفتحات والتخفيف ( عليه ) أي جاء عقبه على الفراش ، قال البغوي : يريد لعل هامة دبت فصارت فيه بعده . ولمسلم وكذا للبخاري في الأدب المفرد (( وليسم الله فإنه لا يعلم ما خلفه بعده على فراشه )) أي ما صار بعده خلفا وبدلا عنه إذا غاب ، خلف فلان فلانا إذا قام مقامه ، والمراد ما يكون قد دب على فراشه بعد
ثم يقول : باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه ، إن أمسكت نفسي فأرحمها ، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين . وفي رواية : ثم ليضطجع على شقه الأيمن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/225)


مفارقته . قال الطيبي : معناه لا يدري ما وقع في فراشه بعد ما خرج منه من تراب أو قذاة أو هوام . وقال النووي : معناه أنه يستحب أن ينفض فراشه قبل أن يدخل فيه لئلا يكون قد دخل فيه حية أو عقرب أو غيرهما من المؤذيات وهو لا يشعر ولينفض ويده مستورة بطرف إزاره لئلا يحصل في يده مكروه إن كان شيء هناك ( ثم يقول ) أي بعد النفض ووضع الجنب كما يدل عليه الرواية الآتية (( ثم ليضطجع ثم ليقل )) ( باسمك ربي وضعت جنبي ) أي مستعينا باسمك يا ربي . وفي الأدب المفرد : (( وليقل سبحانك ربي بك وضعت جنبي )) . ولمسلم : (( وليقل سبحانك اللهم ربي بك وضعت جنبي )) ( وبك أرفعه ) أي باسمك أو بحولك وقوتك أرفعه حين أرفعه فلا أستغني عنك بحال ( إن أمسكت نفسي ) . وفي رواية : (( احتبست نفسي )) أي قبضت روحي في النوم توفيتها ( فارحمها ) أي بالمغفرة والتجاوز عنها ( وإن أرسلتها ) بأن رددت الحياة إلى وأيقظتني من النوم ( فاحفظها ) أي من المعصية والمخالفة ( بما تحفظ به ) أي من التوفيق والعصمة والأمانة ( عبادك الصالحين ) أي القائمين بحقوق الله وعباده . والباء في (( بما تحفظ )) مثلها في (( كتبت بالقلم )) وما موصولة مبهمة ، وبيانها ما دل عليه صلتها لأن الله تعالى إنما يحفظ عباده الصالحين من المعاصي ومن أن لا يتهاونوا في طاعته وعبادته بتوفيقه ولطفه ورعايته ، والحديث موافق لقوله تعالى : ? الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى ? (39 : 42) جمع النفسين في حكم التوفي ثم فرق بين جهتي التوفي بالحكم بالإمساك وهو قبض الروح ، وبالإرسال وهو رد الحياة ، أي الله يتوفى الأنفس التي تقبض والتي لا تقبض فيمسك الأولى ويرسل الأخرى . وزاد في رواية الترمذي في آخر هذا الحديث شيئا لم أره عند غيره وهو قوله : (( وإذا

(16/226)


استيقظ فليقل الحمد الله الذي عافاني في جسدي ورد علي روحي ( أي روحي المميزة برد تميزها الزائل عنها بنومها ) وأذن لي بذكره )) وهو يشير إلى ما ذكره الكرماني أن الإمساك كناية عن الموت فالرحمة أو المغفرة تناسبه والإرسال كناية عن استمرار البقاء والحفظ يناسبه . وقد تقدم قول الزجاج في الكلام على حديث حذيفة وكذلك كلام الطيبي . قال ابن بطال : في هذا الحديث أدب عظيم وقد ذكر حكمته في الخبر وهو خشية أن يأوي إلى فراشه بعض الهوام الضارة فتؤذيه . وقال القرطبي يؤخذ من هذا الحديث أنه ينبغي لمن أراد المنام أن يمسح فراشه لاحتمال أن يكون فيه شيء يخفى من رطوبة أو غيرها . وقال ابن العربي : هذا من الحذر ومن النظر في أسباب دفع سوء القدر ، أو هو من الحديث الآخر (( اعقلها وتوكل )) . قلت : الظاهر هو الأول ففيه حث على الحزم والاحتراس من مظان الضر والأذى وقد ورد فيما يقال عند النوم أحاديث أخرى ذكر أكثرها في هذا الباب ( وفي رواية ) لمسلم وغيره : ( ثم ليضطجع على شقه الأيمن ) فيه ندب اليمين في النوم لأنه أسرع إلا الانتباه لعدم استقرار القلب حينئذ لأنه معلق بالجانب الأيسر فيعلق فلا يستغرق في النوم بخلاف النوم على الأيسر فإن القلب ليستقر
ثم ليقل : باسمك . متفق عليه . وفي رواية : فلينفضه بصنفة ثوبه ثلاث مرات ، وإن أمسكت نفسي فاغفر لها .
2408- (5) وعن البراء بن عازب ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نام على شقه الأيمن ثم قال : اللهم أسلمت نفسي إليك ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/227)


فتكون الاستراحة له بطأ للانتباه ، ثم هذا إنما هو بالنسبة إلينا دونه - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا ينام قلبه فلا فرق في حقه عليه الصلاة والسلام بين النوم على شقه الأيمن والأيسر ، وإنما كان يؤثر الأيمن لأنه كان يحب التيامن في شأنه كله ولتعليم أمته ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الدعوات وفي التوحيد ، ومسلم في الدعاء ، وأخرجه أيضا أحمد (ج2 : ص246 ، 283 ، 295) والبخاري في الأدب المفرد في موضعين ، والترمذي في الدعوات ، وأبو داود في الأدب ، والنسائي في عمل اليوم والليلة ، وابن ماجة في الدعاء ، والدارمي في الاستيذان (ص360) ، والدارقطني في غرائب مالك ، وابن السني (ص226) ، والطبراني في الدعاء ، وابن أبي شيبة ، والبغوي في شرح السنة (ج5 : ص99 ، 100) . ( وفي رواية ) للبخاري في التوحيد وكذا للترمذي والطبراني ( فلينفضه ) قيل : لأن البيوت إذ ذاك كانت مظلمة لم يكن فيها المصابيح فأمر بالنفض من قبل التلبس به حتى لا يؤذيه ما دخله من المؤذيات ( بصنفة ثوبه ) وللترمذي : (( بصنفة إزاره )) بباء الجر بعدها صاد مهملة مفتوحة فنون مكسورة ففاء فهاء تأنيث . أي بطرف ثوبه . وقال الطيبي : أي بحاشية إزاره التي تلي الجسد . فكأنه أراد الجمع بين الروايتين وإلا ففي النهاية : صنفة الإزار بكسر النون طرفه مما يلي طرته . وفي القاموس صنفة الثوب كفرحة ، وصنفه وصنفته بكسرهما حاشيته أي جانب كان أو جانبه الذي لا هدب له أو الذي فيه الهدب - انتهى . ( ثلاث مرات ) حذرا من وجود مؤذية وهو لا يشعر وقيد بالثلاثة مبالغة في النظافة ( فاغفر لها ) أي بدل قوله (( فارحمها )) وهذا اللفظ للبخاري ، ومسلم ، والدارمي ، وأحمد (ج2 : ص283 ، 295) .

(16/228)


2408- قوله ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أوى إلى فراشه ) إلخ . هكذا وقع في رواية العلاء بن المسيب عن أبيه عن البراء من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهي عند البخاري في باب النوم على الشق الأيمن من كتاب الدعوات ، وكذا رواه في الأدب المفرد ، وهكذا وقع في رواية للنسائي في عمل اليوم والليلة ، والبغوي في شرح السنة . ووقع في رواية سعد بن عبيدة وأبي إسحاق عن البراء من قوله وتعليمه كما سيأتي وهي عند الشيخين وأصحاب السنن وغيرهم فيستفاد مشروعية هذا الذكر من قوله - صلى الله عليه وسلم - ومن فعله ( نام على شقه ) بكسر المعجمة وتشديد القاف أي جانبه ( الأيمن ) لأنه كان يحب التيامن في شأنه كله ( ثم قال : اللهم ) وفي رواية للنسائي (( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أوى إلى فراشه توسد يمنيه ( أي جعل يده اليمني تحت رأسه من التوسد وهو اتخاذ النائم تحت رأسه وسادة وهي المخدة ) ثم قال بسم الله )) ( أسلمت ) أي سلمت . وقيل : أي أخلصت ( نفسي ) أي : ذاتي ( إليك ) أي مائلة إلى حكمك ، وقيل أسلمت نفسي إليك أي استسلمت وانقدت . والمعنى جعلت ذاتي منقادة لك طائعة لحكمك إذ لا قدرة لي على تدبيرها ، ولا على جلب ما ينفعها إليها ، ولا دفع ما يضرها عنها فأمرها مفوض إليك
ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك ، رغبة ورهبة إليك .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/229)


تفعل بها ما تريد واستسلمت لما تفعل فلا اعتراض عليك فيه ( ووجهت وجهي ) أي : وجهتي وتوجهي وقصد قلبي ( إليك ) وقيل : الوجه هنا بمعنى الذات والشخص كالنفس ، وفيه نظر لأن الجمع بينهما يدل على تغايرهما فالمراد بالنفس الذات وبالوجه القصد ( وفوضت أمري إليك ) من التفويض وهو تسليم الأمر إلى الله تعالى أي : رددت أمري إليك والمعنى توكلت عليك في أمري كله لتكفيني همه وتتولى صلاحه ( وألجأت ) أي : أسندت ( ظهري إليك ) أي : اعتمدت في أموري ( ومنها القيام لصلاة التهجد ولصلاة الفجر ) عليك لتعينني على ما ينفعني لأن من استند إلى شيء تقوى به واستعان به تشبيها للاستناد المعنوي بالاستناد الحسي بجامع الراحة في كل وخصه بالظهر لأن العادة جرت أن الإنسان يعتمد بظهره إلى ما يستند إليه . وقال الطيبي : في هذا النظم عجائب وغرائب لا يعرفها إلا النقاد من أهل البيان فقوله : (( أسلمت نفسي )) إشارة إلى أن جوارحه منقادة لله تعالى في أوامره ونواهيه ، وقوله : (( وجهت وجهي )) إلى أن ذاته وحقيقته مخلصة له تعالى بريئة من النفاق . وقوله : (( فوضت أمري إليك )) إلى أن أموره الخارجة والداخلة مفوضة إليه لا مدبر لها غيره . وقوله : (( ألجأت ظهري إليك )) بعد قوله : (( فوضت أمري )) إشارة إلى أنه بعد تفويض أموره التي هو مفتقر إليها وبها معاشه وعليها مدار أمره يلتجئ إليه مما يضره ويؤذيه من الأسباب الداخلة والخارجة ( رغبة ورهبة ) علة لكل من المذكورات أي : طمعا في رفدك وثوابك وخوفا من غضبك ومن عذابك . وقال الطيبي : منصوبان على العلة بطريق اللف والنشر أي : فوضت أموري إليك رغبة أي : طمعا في ثوابك وألجأت ظهري من المكاره والشدائد إليك رهبة منك أي : محافة من عذابك . وقيل : مفعول لهما لألجأت . وقال القاري : الأظهر أن نصبهما على الحالية أي : راغبا وراهبا أو الظرفية أي : في حال الطمع والخوف يتنازع فيهما الأفعال المتقدمة كلها . (

(16/230)


إليك ) متعلق برغبة ومتعلق الرهبة محذوف أي : منك ، يدل عليه أنه وقع في الرواية الآتية عند أحمد (ج4 : ص296) ، والنسائي (( رهبة منك ورغبة إليك )) ، وقيل : (( إليك )) متعلق برغبة ورهبة وإن تعدى الثاني بمن لكنه أجرى مجرى رغب تغليبا يعني أعطى للرهبة حكم الرغبة ، والعرب تفعل ذلك كثيرا كقوله :
ورأيت بعلك في الوغى ( ... متقلدا سيفا ورمحا (
والرمح لا يتقلد . ونحوه :
علفتها تبنا وماء باردا
والماء لا يعلف . وقال الجزري في النهاية ، وجامع الأصول : قد عطف الرهبة على الرغبة ثم أعمل لفظ الرغبة وحدها ولو أعمل الكلمتين معا لقال : (( رغبة إليك ورهبة منك )) ولكن هذا سائغ في العربية أن يجمع بين الكلمتين في النظم ويحمل إحداهما على الأخرى في اللفظ ، كقول الشاعر :
إذا ما الغانيات برزن يوما ( ... وزججن الحواجب والعيونا (
لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك . آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قالهن ثم مات تحت ليلته مات على الفطرة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/231)


والعيون لا تزجج وإنما تكحل - انتهى بتوضيح . وكذلك قال البغوي ، وابن الجوزي ، والطيبي : ( لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ) أي : لا مهرب ولا ملاذ ولا مخلص من عقوبتك إلا إلى رحمتك . قال الحافظ : أصل ملجأ بالهمزة ومنجأ بغير همزة ولكن لما جمعا جاز أن يهمزا للازدواج وأن يترك الهمز فيهما وأن يهمز المهموز ويترك الآخر فهذه ثلاثة أوجه ويجوز التنوين مع القصر فتصير خمسة . قال العيني : إعرابهما مثل إعراب (( عصا )) وفي هذا التركيب خمسة أوجه لأنه مثل لا حول ولا قوة إلا بالله أي : فتجري فيه الأوجه الخمسة المشهورة وهي فتح الأول والثاني ، وفتح الأول ونصب الثاني ، وفتح الأول ورفع الثاني ، ورفع الأول وفتح الثاني ، ورفع الأول والثاني . قال العيني : والفرق بين نصبه وفتحه بالتنوين وعدمه ، وعند التنوين تسقط الألف ، ثم إنهما إن كانا مصدرين يتنازعان في (( منك )) وإن كانا مكانين فلا ، إذ اسم المكان لا يعمل ، وتقديره : لا ملجأ منك إلى أحد إلا إليك ولا منجأ إلا إليك ( آمنت بكتابك ) أي : صدقت أنه كتابك ، وهو يحتمل أن يريد به القرآن ويحتمل أن يريد اسم الجنس فيشمل كل كتاب سماوي أنزل ( الذي أنزلت ) أي : أنزلته ( ونبيك الذي أرسلت ) وقع في رواية : (( أرسلته وأنزلته )) في الأول بزيادة الضمير المنصوب فيهما ( من قالهن ) أي : الكلمات المذكورة ( ثم مات تحت ليلته ) قال الطيبي : معنى (( تحت ليلته )) أنه لم يتجاوز عنه إلى النهار لأن الليل يسلخ منه النهار فهو تحته يعني أنه يقع ذلك قبل أن ينسلخ النهار من الليل وهو تحته ، قال : أو يكون بمعنى مات تحت نازلة تنزل عليه في ليلته ، وكذا معنى (( من )) في الرواية الأخرى أي : من أجل ما يحدث في ليلته ، وقال ابن حجر : سبب التعبير بالتحت أن الله جعل الليل لباسا فالناس مغمورون ومستورون تحته كالمستور تحت ثيابه ولباسه ( مات على الفطرة ) أي : على الدين القويم ملة إبراهيم عليه السلام

(16/232)


فإن إبراهيم عليه السلام أسلم واستسلم ، قال الله تعالى عنه : ? جاء ربه بقلب سليم ? (37 : 84) وقال عنه : ? أسلمت لرب العالمين ? (2 : 131) وقال : ? فلما أسلما ? (37 : 103) وقال ابن بطال وجماعة : المراد بالفطرة هنا دين الإسلام وهو بمعنى الحديث الآخر : (( من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة )) . قال القرطبي في المفهم : كذا قال الشيوخ وفيه نظر لأنه إذا كان قائل هذه الكلمات المقتضية للمعاني التي ذكرت من التوحيد والتسليم والرضا إلى أن يموت كمن يقول : لا إله إلا الله ممن لم يخطر له شيء من هذه الأمور فأين فائدة هذه الكلمات العظيمة وتلك المقامات الشريفة ويمكن أن يكون الجواب أن كلا منهما وإن مات على الفطرة فبين الفطرتين ما بين الحالتين ففطرة الأول فطرة المقربين وفطرة الثاني فطرة أصحاب اليمين . قلت : وقع في حديث رافع بن خديج عند الترمذي وقد حسنه (( فإن مات من ليلته دخل الجنة )) . ووقع في رواية حصين بن عبد الرحمن عن سعد بن عبيدة عند أحمد بدل قوله : (( مات على الفطرة )) (( بنى له بيت في الجنة )) قال الحافظ : وهذا يؤيد ما ذكره القرطبي ، وقال الشيخ أكمل الدين الحنفي في شرحه لمشارق الأنوار فإن قلت :
وفي رواية قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل : يا فلان إذا أويت إلى فراشك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل : اللهم أسلمت نفسي إليك ... إلى قوله : أرسلت . وقال : فإن مت من ليلتك مت على الفطرة ، وإن أصبحت أصبت خيرا . متفق عليه .
2409- (6) وعن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوى إلى فراشه قال : الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/233)


إذا مات الإنسان على إسلامه ولم يكن ذكر من هذه الكلمات شيئا فقد مات على الفطرة لا محالة فما فائدة ذكر هذه الكلمات ؟ أجيب بتنويع الفطرة ففطرة القائلين فطرة المقربين الصاحين ، وفطرة الآخرين فطرة عامة المؤمنين ، ورد بأنه يلزم أن يكون للقائلين فطرتان : فطرة المؤمنين وفطرة المقربين ، وأجيب بأنه لا يلزم ذلك بل إن مات القائلون فهم على فطرة المقربين ، وغيرهم لهم فطرة غيرهم - انتهى . ( وفي رواية ) للشيخين وغيرهما ( قال ) ، أي البراء ( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل ) هو البراء راوي الحديث ففي رواية للبخاري (( قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا أتيت مضجعك )) . وفي رواية للترمذي عن البراء (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : ألا أعلمك كلمات تقولها إذا أويت إلى فراشك )) ، ( إذا أويت إلى فراشك ) أي انضممت إليه ودخلت فيه للنوم كما قال في الرواية الأخرى (( إذا أخذت مضجعك )) أي أتيت مكان نومك وأردت أن تضطجع ( فتوضأ ) أمر ندب ( وضوءك للصلاة ) أي كوضوئك للصلاة فهو منصوب بنزع الخافض . قال الترمذي : لا نعلم في شيء من الروايات ذكر الوضوء عند النوم إلا في هذا الحديث . وفي رواية لأبي داود : (( إذا أويت إلى فراشك وأنت طاهر فتوسد يمينك )) الحديث . ( ثم اضطجع ) أصله اضتجع لأنه من باب الافتعال فقلبت التاء طاء ( وقال ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون من جملة كلام البراء عطف على (( قال رسول الله )) ( فإن مت ) بضم الميم وكسرها ( من ليلتك ) أي في ليلتك ( وإن أصبحت أصبت خيرا ) أي خيرا كثيرا . أو خيرا في الدارين . قال النووي : في هذا الحديث ثلاث سنن مهمة مستحبة ليست بواجبة . إحداها : الوضوء عند إرادة النوم ، فإن كان متوضأ كفاه ذلك الوضوء لأن المقصود النوم على طهارة مخافة أن يموت في ليلته وليكون أصدق لرؤياه وأبعد من تلعب الشيطان به في منامه وترويعه إياه . والثانية

(16/234)


النوم على الشق الأيمن لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحب التيامن ، ولأنه أسرع إلى الانتباه ، الثالثة ذكر الله تعالى ليكون خاتمة عمله - انتهى . ( متفق عليه ) فيه نظر فإن الرواية الأولى للبخاري وحده كما تقدم والرواية الثانية رواها البخاري في آخر الوضوء وفي الدعوات وفي التوحيد في باب قوله ? أنزله بعلمه والملآئكة يشهدون ? ورواها مسلم في الدعاء ، وكذا الترمذي ، وابن ماجة ، ورواها أبو داود في الأدب ، والنسائي في : عمل اليوم والليلة ، وأخرجها أيضا أحمد : (ج4 : ص290 ، 292 ، 296 ، 302) ، والدارمي في : الاستيذان ، وابن السني (ص225) ، والبغوي في شرح السنة : (ج5 : ص103 ، 104) .
2409- قوله ( وكفانا ) أي كفى مهماتنا وقضى حاجتنا ودفع عنا شر ما يؤذينا فهو تعميم بعد تخصيص
وآوانا فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي . رواه مسلم .
2410- (7) وعن علي : أن فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/235)


( وآوانا ) بالمد ويجوز القصر أي جعل لنا مأوى نأوى أي نضم إليه ونسكن فيه . قال الجزري : أي ردنا إلى مأوى لنا ولم يجعلنا منتشرين كالبهائم ( في الصحاري ) والمأوى المنزل ، وفي حديث البيعة أنه قال للأنصار (( أبايعكم على أن تأوونى وتنصروني )) أي تضموني إليكم وتحوطوني بينكم ، يقال : أوى وآوى بمعنى واحد أي ضم ، والمقصود منهما لازم ومتعد ومنه قوله (( لا قطع في ثمر حتى يأويه الجرين )) أي يضمه البيدر ويجمعه ، ومنه لا يأوي الضالة إلا ضال ، كل هذا من أوى يأوى . يقال : أويت إلى المنزل وأويت غيري وآويته . وأنكر بعضهم المقصود المتعدي . وقال الأزهري : هي لغة فصيحة - انتهى . وقال النووي : إذا أوى إلى فراشه وأويت مقصور ، وأما آوانا فممدود وهذا هو الصحيح الفصيح المشهور ، وحكى القصر فيهما وحكى بالمد فيهما - انتهى ( فكم ممن لا كافي له ) بفتح الياء ( ولا مؤوي ) بضم ميم وسكون همزة ويبدل ، وبكسر واو اسم فاعل من الإيواء وله مقدر . أي فكم من شخص لا يكفيهم الله شر الأشرار بل تركهم وشرهم حتى غلب عليهم أعداءهم ولا يهيئ لهم مأوى بل تركهم يهيمون في البوادي ويتأذون بالحر والبرد . قال الطيبي : ذلك قليل نادر فلا يناسب (( كم )) المقتضى للكثرة على أنه افتتح بقوله (( أطعمنا وسقانا )) ويمكن أن ينزل هذا على معنى قوله تعالى : ? ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم ? (47 : 11) فالمعنى إنا نحمد الله عل أن عرفنا نعمه ووفقنا لأداء شكره فكم من منعم عليه لا يعرفون ذلك ولا يشكرون . وكذلك الله مولى الخلق كلهم بمعنى أنه ربهم ومالكهم لكنه ناصر للمؤمنين ومحب لهم فالفاء في (( فكم )) للتعليل . قيل وإنما حمد الله على الطعام والسقي وكفاية المهمات في وقت الاضطجاع لأن النوم فرع الشبع والري وفراغ الخاطر عن المهمات والأمن من الشرور . ( رواه مسلم ) في الدعاء ، وأخرجه أيضا أحمد ،

(16/236)


والترمذي في الدعوات ، وأبو داود في الأدب ، والنسائي ، والبخاري في الأدب المفرد ، وابن السني (ص226) ، والبغوي في شرح السنة (ج5 : ص105) .
2410- قوله ( وعن علي ) ، أي ابن أبي طالب ( أن فاطمة ) الزهراء بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - ( أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - ) ، أي بيته ( تشكو إليه ) قال القاري : إما مفعول له بحذف (( أن )) تخفيفا أي أتت إليه إرادة أن تشكو أو حال مقدرة من فاعل أتت ، أي مقدرة الشكوى ( ما تلقى ) ، أي من الكلفة والمشقة أو من (( المجل )) ففي الترمذي ، وزوائد عبد الله بن أحمد في مسند أبيه (ج1 : ص124) شكت فاطمة مجل يديها من الطحن . وهو بفتح الميم وسكون الجيم بعدها لام . قال الطبري : المراد به غلظ اليد ، وكل من عمل عملا بكفه فغلظ جلدها . قيل : مجلت كفه . وقال الجزري : مجلت يده تمجل مجلا ومجلت تمجل مجلا إذا ثخن جلدها وتعجز وظهر منها ما يشبه البثر من العمل بالأشياء الصلبة الخشنة ( في يدها من الرحى ) زاد في رواية (( مما
وبلغها أنه جاءه رقيق فلم تصادفه فذكرت ذلك لعائشة فلما جاء أخبرته عائشة قال : فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/237)


تطحن )) ، أي من أجل إدارة الرحى بالقصر لطحن الشعير للخبز وهو سبب آخر من أسباب الشكوى وبقي أسباب أخرى ورد ذكرها عند أبي داود ، وعبد الله بن أحمد في زوائده في مسند أبيه (ج1 : ص154) ، من طريق أبي الورد عن علي بن أعبد عن علي قال : كانت فاطمة زوجتي فجرت بالرحى حتى أثر الرحى بيدها ، واستقت بالقربة حتى أثرت القربة بنحرها وقمت ، ( أي كنست ) البيت حتى اغبرت ثيابها وأوقدت تحت القدر حتى دنست ( وفي رواية (( دكنت )) ) ثيابها فأصابها من ذلك ضرر ( وبلغها ) حال من ضمير (( أتت )) ، أي وقد بلغ فاطمة ( أنه ) ، أي الشأن ( جاءه ) ، أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ( رقيق ) من السبي والرقيق المملوك وقد يطلق على الجماعة . وقال الجزري : الرقيق اسم للعبيد والإماء فعيل بمعنى مفعول . أي إنه في الرق الملكة ( فلم تصادفه ) بالفاء ، أي لم تجد فاطمة النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيته حتى تلتمس منه خادما ، فإن قلت : في رواية أبي الورد عن ابن أعبد عن علي عند أبي داود ، (( فوجدت عنده حداثا - بضم المهملة وتشديد الدال وبعد الألف مثلثة - أي جماعة يتحدثون ، فاستحيت فرجعت )) . قلت : يحمل على أن المراد أنها لم تجده في المنزل بل في مكان آخر كالمسجد وعنده من يتحدث معه ( فذكرت ذلك ) ، أي الذي تشكوه ( لعائشة فلما جاء ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ( أخبرته عائشة ) ، أي بمجيء فاطمة إليها في طلب الخادم ، وفي رواية للبخاري (( فذكرت ذلك عائشة له )) قال الحافظ : وفي رواية مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلي ( عن علي ) عند جعفر الفريابي في الذكر ، والدارقطني في العلل ، وأصله في مسلم : (( حتى أتت منزل النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم توافقه فذكرت ذلك له أم سلمة بعد أن رجعت فاطمة )) ويجمع بأن فاطمة التمسته في بيتي أمي المؤمنين ، وقد وردت القصة من حديث أم سلمة نفسها أخرجها الطبري في تهذيبه من طريق شهر بن حوشب عنها قالت :

(16/238)


جاءت فاطمة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشكو إليه الخدمة . فذكرت الحديث مختصرا . وفي رواية السائب ( عن علي عند أحمد (ج1 : ص107) وابن سعد ) : فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما جاء بك يا بنية ؟ قالت : جئت لأسلم عليك واستحيت أن تسأله ورجعت . فقلت : ما فعلت ؟ قالت : استحييت أن أسأله ، فأتيناه جميعا . قال الحافظ : وهذا مخالف لما في الصحيح ويمكن الجمع بأن تكون لم تذكر حاجتها أولا على ما في هذه الرواية ثم ذكرتها ثانيا لعائشة لما لم تجده ، ثم جاءت هي وعلي على ما في رواية السائب فذكر بعض الرواة ما لم يذكر بعض وقد اختصره بعضهم . ففي رواية مجاهد الماضية في النفقات عند البخاري : أن فاطمة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأله خادما فقال ألا أخبرك ما هو خير لك منه ؟ . وفي رواية هبيرة بن يريم عن علي عند أحمد (ج1 : ص147) قال : قلت لفاطمة : لو أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألتيه خادما فقد أجهدك الطحن والعمل . قالت : فانطلق معي . قال فانطلقت معها فسألناه فقال : ألا أدلكما - الحديث . ووقع عند مسلم من حديث أبي هريرة أن فاطمة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأله خادما وشكت العمل فقال : ما ألفيته عندنا ( قال ) أي علي ( فجاءنا وقد أخذنا ) الواو فيه للحال ( مضاجعنا ) جمع مضجع وهو المرقد أي جاءنا النبي - صلى الله عليه وسلم - حال كوننا مضطجعين ،
فذهبنا نقوم فقال : على مكانكما . فجاء فقعد بيني وبينها حتى وجدت برد قدميه على بطني فقال : ألا أدلكما على خير مما سألتما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/239)


زاد في رواية السائب (( فأتيناه جميعا فقلت : بأبي يا رسول الله والله لقد سنوت )) أي : استقيت من البير فكنت مكان السانية . وهي الناقة التي تسقى عليها الأرض . حتى اشتكيت صدري . وقالت فاطمة : لقد طحنت حتى مجلت يداي ، وقد جاءك الله بسبي وسعة فأخدمنا فقال : والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم ، ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم . ووقع في رواية عبيدة بن عمرو عن علي عند ابن حبان من الزيادة (( فأتانا وعلينا قطيفة إذا لبسناها طولا خرجت منها جنوبنا ، وإذا لبسناها عرضا خرجت منها رؤوسنا وأقدامنا )) وفي رواية السائب (( فرجعا فأتاهما النبي - صلى الله عليه وسلم - وق دخلا في قطيفة لهما إذا غطيا رؤوسهما ، تكشف أقدامها ، وإذا غطيا أقدامهما تكشف رؤوسهما )) ( فذهبنا نقوم ) أي شرعنا وقصدنا لأن نقوم له ( على مكانكما ) أي لا تفارقا عن مكانكما والزماه . وقيل أي اثبتا واستمرا على ما أنتما عليه من الاضطجاع ( فجاء فقعد بيني وبينها ) . وفي رواية عند أحمد : (ج1 : ص145) والنسائي : ( أتانا النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة حتى وضع قدمه يني وبين فاطمة ) ( حتى وجدت برد قدمه ) بالإفراد وفي بعض النسخ بالتثنية وهكذا وقع عند البخاري في المناقب والنفقات والدعوات . أي بالتثنية ، وكذا وقع عند مسلم . قال القسطلاني : ولأبي ذر (( قدمه )) أي بالإفراد ( على بطني ) . وفي رواية : (( قال على مكانكما حتى وجدت برد قدميه على صدري )) قال العيني : كلمة (( حتى )) غاية لمقدر تقديره فدخل هو في مضجعنا . ولظهوره ترك - انتهى . وقيل : أي : فأدخل قدميه بيننا من البرد حتى وجدت إلخ . وزاد في رواية الطبري (( فسخنتهما )) . وفي لفظ : وكانت ليلة باردة وقد دخلت هي وعلي في اللحاف فأرادا أن يلبسا الثياب وكان ذلك ليلا . قال الحافظ : وفي رواية علي بن أعبد (( فجلس عند رؤوسهما وإنها أدخلت رأسها في اللفاع يعني :

(16/240)


اللحاف حياء من أبيها )) ويحمل على أنه فعل ذلك أولا فلما تأنست به دخل معهما في الفراش مبالغة في التأنيس ، وفيه غاية التلطف على ابنته وصهره وإذا جاءت الألفة رفعة الكلفة . وزاد في رواية علي بن أعبد (( فقال : ما كان حاجتك أمس . فسكتت مرتين فقلت : أنا والله أحدثك يا رسول الله فذكرته له )) . ويجمع بين الروايتين بأنها أولا استحيت فتكلم علي عنها فأنشطت للكلام فأكملت القصة ، واتفق غالب الرواة على أنه - صلى الله عليه وسلم - جاء إليهما وفي مرسل علي بن الحسين عند جعفر الفريابي في الذكر (( أن فاطمة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأله خادما وبيدها أثر الطحن من قطب الرحى فقال : إذا أويت إلى فراشك )) . فيحتمل أن تكون قصة أخرى فقد أخرج أبو داود من طريق أم الحكم أو ضباعة بنت الزبير أي ابن عبد المطلب قالت : أصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبيا فذهبت أنا وأختي فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نشكوا إليه ما نحن فيه وسألناه أن يأمر لنا بشيء من السبي فقال : سبقكن يتامى بدر . فذكر قصة التسبيح أثر كل صلاة ولم يذكر قصة التسبيح عند النوم فلعله علم فاطمة في كل مرة أحد الذكرين . كذا في الفتح فقال : ( ألا ) . بالتخفيف وفتح الهمزة : ( أدلكما على خير مما سألتما ) وفي رواية : (( مما سألتماني )) أي طلبتما من الرقيق ، وفي رواية السائب : (( ألا أخبركما بخير مما سألتماني ؟ فقالا : بلى .
إذا أخذتما مضجعكما فسبحا ثلاثا وثلاثين واحمدا ثلاثا وثلاثين وكبرا أربعا وثلاثين فهو خير لكما من خادم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/241)


فقال : كلمات علمنيهن جبريل )) ( إذا أخذتما مضجعكما ) زاد في رواية لمسلم (( من الليل )) ، وزاد في رواية السائب عند أحمد (ج1 : ص107) ، (( تسبحان دبر كل صلاة عشرا ، وتحمدان عشرا ، وتكبران عشرا )) وهذه الزيادة ثابتة في رواية عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص عند أصحاب السنن الأربعة في حديث أوله : (( خصلتان لا يحصيهما عبد إلا دخل الجنة )) وصححه الترمذي ، وابن حبان وفيه ذكر ما يقال عند النوم أيضا ( فسبحا ) بكسر الموحدة ( واحمدا ) بفتح الميم ( وكبرا ) وبكسر الموحدة ( أربعا وثلاثين ) كذا وقعي في رواية القطان عن شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن علي عند البخاري في النفقات بالجزم بأربع في التكبير وتقديم التسبيح . وهكذا وقع في روايات أخرى ، ومثله لسليمان بن حرب عن شعبة عند البخاري أيضا لكن قدم التكبير وأخر التسبيح ، وزاد في رواية هبيرة عن علي في آخر الحديث (( فتلك مائة باللسان وألف في الميزان )) قال الجزري في شرحه للمصابيح : في بعض الروايات الصحيحة التكبير أولا وكان شيخنا الحافظ ابن كثير يرجحه ويقول : تقديم التسبيح يكون عقب الصلاة وتقديم التكبير عند النوم ، أقول : الأظهر أنه يقدم تارة ويؤخر أخرى عملا بالروايتين وهو أولى وأحرى من ترجيح الصحيح على الأصح مع أن الظاهر أن المراد تحصيل هذا العدد وبأيهن بدأ لا يضر كما ورد في سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر . (( لا يضرك بأيهن بدأت )) . وفي تخصيص الزيادة بالتكبير إيماء إلى المبالغة في إثبات العظمة والكبرياء فإنه يستلزم الصفات التنزيهية والثبوتية المستفادة من التسبيح والحمد . والله أعلم . كذا في المرقاة . قلت : وفي رواية : (( التكبير ثلاث وثلاثون )) وفي رواية : (( التسبيح أربع وثلاثون )) . وفي رواية : (( التحميد أربع وثلاثون )) واتفاق أكثر الرواة على أن الأربع للتكبير أرجح . قال ابن بطال : هذا

(16/242)


نوع من الذكر عند النوم ويمكن أن يكون - صلى الله عليه وسلم - كان يقول جميع ذلك عند النوم وأشار لأمته بالاكتفاء ببعضها إعلاما منه أن معناه الحض والندب لا الوجوب . وقال عياض : جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذكار عند النوم مختلفة بحسب الأحوال والأشخاص والأوقات وفي كل فضل ( فهو ) أي : التسبيح وما بعده إذا قلتماه في الوقت المذكور ، وقيل : أي : ما ذكر من الذكر ( خير ) أي : أفضل ( لكما ) أي : خاصة ، وكذا لمن قاله وعمل به ( من خادم ) الخادم واحد الخدم يقع على الذكر والأنثى قال العيني : وجه الخيرية إما أن يراد به أن يتعلق بالآخرة والخادم بالدنيا والآخرة خير وأبقى . وإما أن يراد بالنسبة إلى ما طلبته بأن يحصل لها بسبب هذه الأذكار قوة تقدر على الخدمة أكثر مما يقدر الخادم عليه . وفي الحديث حمل الإنسان أهله على ما يحمل على نفسه من إيثار الآخرة على الدنيا إذا كانت لهم قدرة على ذلك . وفيه بيان إظهار غاية التعطف والشفقة على البنت والصهر ونهاية الاتحاد برفع الحشمة والحجاب حيث لم يزعجهما عن مكانهما فتركهما على حالة اضطجاعهما وبالغ حتى أدخل رجله بينهما ومكث بينهما حتى علمهما ما هو الأولى بحالهما من الذكر عوضا عما طلباه من الخادم فهو من باب تلقي المخاطب بغير ما يطلب إيذانا بأن الأهم من المطلوب هو التزود للمعاد والصبر على
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/243)


مشاق الدنيا والتجافي عن دار الغرور . وفيه أن الزوج لا يلزمه إخدام زوجته إذا كانت لا تخدم في بيت أبيها وكانت تقدر على الخدمة من طبخ وخبز وملء ماء وكنس بيت . ولما سألت فاطمة الخادم لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليا أن يخدمها . قال الطبري : يؤخذ منه أن كل من كانت لها طاقة من النساء على خدمة بيتها في خبز أو طحن أو غير ذلك أن ذلك لا يلزم الزوج إذا كان معروفا أن مثلها يلي ذلك بنفسه ولو كانت كفاية ذلك إلى علي لأمره به كما أمره أن يسوق إليها صداقها قبل الدخول مع أن سوق الصداق ليس بواجب إذا رضيت المرأة أن تؤخره فكيف يأمره بما ليس بواجب عليه ويترك أن يأمره بالواجب . وحكى ابن حبيب عن أصبغ وابن الماجشون عن مالك أن خدمة البيت تلزم المرأة ولو كانت الزوجة ذات قدر وشرف إذا كان الزوج معسرا . قال : ولذلك ألزم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاطمة بالخدمة الباطنة وعليا بالخدمة الظاهرة . وحكى ابن بطال أن بعض الشيوخ قال : لا نعلم في شيء من الآثار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى على فاطمة بالخدمة الباطنة وإنما جرى الأمر بينهم على ما تعارفوه من حسن العشرة وجميل الأخلاق وأما أن تجبر المرأة على شيء من الخدمة فلا أصل له بل الإجماع منعقد على أن على الزوج مؤنة الزوجة كلها . ونقل الطحاوي الإجماع على أن الزوج ليس له إخراج خادم المرأة من بيته فدل على أنه يلزمه نفقة الخادم على حسب الحاجة إليه . وقال الشافعي والكوفيون : يفرض لها ولخادمها النفقة إذا كانت ممن تخدم . وقال مالك والليث ومحمد بن حسن : يفرض لها ولخادمها إذا كانت خطيرة . وشذ أهل الظاهر فقالوا : ليس على الزوج أن يخدمها ولو كانت بنت الخليفة ، وحجة الجماعة قوله تعالى : ? وعاشروهن بالمعروف ? (4 : 19) وإذا احتاجت إلى من يخدمها فامتنع لم يعاشرها بالمعروف كذا في الفتح . وفيه أن للإمام أن يقسم الخمس حيث رأى لأن السبي لا

(16/244)


يكون إلا من الخمس . وأما الأربعة أخماس فهو حق الغانمين ، وهو قول مالك وجماعة . وذهب الشافعي جماعة إلى أن لآل البيت سهما من الخمس . قال إسماعيل القاضي : هذا الحديث يدل على أن للإمام أن يقسم الخمس حيث يرى . لأن الأربعة الأخماس استحقاق الغانمين ، والذي يختص بالإمام هو الخمس ، وقد منع النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته وأعز الناس عليه من أقربيه وصرفه إلى غيرهم . وقال نحوه الطبري : لو كان سهم ذوي القربى قسما مفروضا لأخدم ابنته ولم يكن ليدع شيئا اختاره الله ولها وامتن به على ذوي القربى . وكذا قال الطحاوي وزاد : وإن أبا بكر وعمر أخذا بذلك وقسما جميع الخمس ولم يجعلا لذوي القربى منه حقا مخصوصا به بل بحسب ما يرى الإمام وكذلك فعل علي . قال الحافظ : في الاستدلال بحديث علي هذا نظر لأنه يحتمل أن يكون ذلك من الفيء وأما خمس الخمس من الغنيمة فقد روى أبو داود من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي ، قال : قلت : يا رسول الله إن رأيت أن توليني حقنا من هذا الخمس - الحديث . وله من وجه آخر عنه (( ولاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس الخمس فوضعته مواضعه حياته - الحديث . فيحتمل أن تكون قصة فاطمة وقعت قبل فرض الخمس . والله أعلم . وهو بعيد لأن قوله تعالى : ? واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ? ( 8 : 41) .
متفق عليه .
2411- (8) وعن أبي هريرة قال : جاءت فاطمة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأله خادما فقال : ألا أدلك على ما هو خير من خادم ؟ تسبحين الله ثلاثا وثلاثين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/245)


الآية نزلت في غزوة بدر وقد مضى قريبا أن الصحابة أخرجوا الخمس من أول غنيمة غنموها من المشركين فيحتمل أن حصة خمس الخمس وهو حق ذوي القربى من الفيء المذكور لم يبلغ قدر الرأس الذي طلبته فاطمة فكان حقها من ذلك يسيرا جدا يلزم منه أن لو أعطاها الرأس أثر في حق بقية المستحقين ممن ذكر . وقال المهلب : في هذا الحديث أن للإمام أن يؤثر بعض مستحقي الخمس على بعض ويعطي الأوكد فالأوكد ويستفاد من الحديث حمل الإنسان أهله على ما يحمل عليه نفسه من التقلل والزهد في الدنيا والقنوع بما أعد الله لأولياءه الصابرين في الآخرة . قلت ( قائله الحافظ ) : وهذا كله بناء على ما يقتضيه ظاهر الترجمة ( أي : ترجمة البخاري بلفظ باب الدليل على أن الخمس لنوائب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمساكين وإيثار النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل الصفة والأرامل حين سألته فاطمة وشكت إليه الطحن والرحى أن يخدمها من السبي فوكلها إلى الله ) وأما مع الاحتمال الذي ذكرته أخيرا فلا يمكن أن يؤخذ من ذكر الإيثار عدم وقوع الاشتراك في الشيء ، ففي ترك القسمة وإعطاء أحد المستحقين دون الآخر إيثار الآخذ على الممنوع فلا يلزم منه نفي الاستحقاق ، كذا تكلم الحافظ في الفتح تحت الترجمة المذكورة من الخمس فتأمله . وقال في الدعوات بعد ذكر كلام القاضي إسماعيل : ثم وجدت في تهذيب الطبري من وجه آخر ما لعله يعكر على ذلك . فساق من طريق أبي أمامة الباهلي عن علي (( قال : أهدي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقيق أهداهم له بعض ملوك الأعاجم ، فقلت لفاطمة : ائت أباك فاستخدميه )) فلو صح هذا لأزال الإشكال من أصله لأنه حينئذ لا يكون للغانمين فيه شيء ، وإنما هو من مال المصالح يصرفه الإمام حيث يراه - انتهى . وإن شئت الوقوف على اختلاف العلماء في كيفية تقسيم خمس الغنيمة فارجع إلى فتح القدير للشوكاني (ج2 : ص295 ، 296) ( متفق عليه ) . أخرجه البخاري في الخمس

(16/246)


ومناقب علي والنفقات والدعوات ، ومسلم في الدعاء واللفظ المذكور للبخاري في النفقات ، وأخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص80 ، 81 ، 97 ، 107 ، 137 ، 145 ، 147) مختصرا ومطولا وكذا ابنه عبد الله في زوائده (ج1 : ص124 ، 154) ، وأخرجه أيضا الحميدي في مسنده (ج1 : ص24) ، والترمذي في الدعوات ، وأبو داود في الخراج وفي الأدب ، والنسائي في الكبرى ، وابن حبان في صحيحه ، وابن السنى (ص235) ، وابن سعد ، والدارمي في الاستيذان ، والبغوي في شرح السنة (ج5 : ص108) .
2411- قوله : ( تسأله خادما ) أي : رقيقا ولم تصادفه فلما علم بها جاءها ، وفي صحيح مسلم بعد هذا (( وشكت العمل فقال : ما ألفيتيه عندنا )) قال الحافظ : هو بالفاء ، أي : ما وجدته ويحمل على أن المراد ما وجدته عندنا فاضلا عن حاجتنا إليه لما ذكر من إنفاق أثمان السبي على أهل الصفة ( تسبحين الله ) إلخ . بصيغة المضارع ، وذكر الجلالة في
وتحمدين الله ثلاثا وثلاثين وتكبرين الله أربعا وثلاثين عند كل صلاة وعند منامك . رواه مسلم .
( الفصل الثاني )
2412- (9) عن أبي هريرة قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أصبح قال : اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك المصير . وإذا أمسى فليقل : اللهم بك أمسينا وبك أصبحنا وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/247)


المواضع الثلاثة وليس في مسلم ذكر الجلالة ( أربعا وثلاثين ) تكملة للمائة ( عند كل صلاة ) أي : بعد كل مفروضة كما ورد في الأحاديث وقوله : (( عند كل صلاة )) هكذا وقع في جميع نسخ المشكاة الحاضرة وكذا في المصابيح ، وشرح السنة . وليس هو في صحيح ومسلم . ولم يذكره الجزري في جامع الأصول . ( وعند منامك ) ، وفي مسلم : حين تأخذ مضجعك . ولعل تخصيصها بالخطاب في هذا الحديث لأنها الباعث الأصلي في طلب الخادم أو هذا الحديث نقل بالمعنى أو بالاختصار وهذا هو الراجح . وفي الحديث أن من واظب على هذا الذكر عند النوم يصبه إعياء لأن فاطمة شكت التعب من العمل فأحالها - صلى الله عليه وسلم - على ذلك . كذا أفاده ابن تيمية ، قال الحافظ : وفيه نظر ولا يتعين رفع التعب بل يحتمل أن يكون من واظب عليه لا يتضرر بكثرة العمل ولا يشق عليه ولو حصل له التعب . والله أعلم ( رواه مسلم ) في الدعاء ولم أجد من أخرجه سواه .

(16/248)


2412- قوله : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أصبح ) أي : دخل في الصباح وهذا لفظ أحمد ، وأبي داود ، والبخاري في الأدب المفرد . وللترمذي : (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم أصحابه يقول : إذا أصبح أحدكم فليقل )) . ولابن ماجة ، وابن السنى (( قال : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أصبحتم فقولوا )) . فقد اجتمع في الحديث القول والفعل ( اللهم بك أصبحنا ) الباء متعلق بمحذوف وهو خبر (( أصبحنا )) ولا بد من تقدير مضاف أي : أصبحنا متلبسين بحفظك ، أو مغمورين بنعمتك ، أو مشتغلين بذكرك ، أو مستعينين باسمك ، أو مشمولين بتوفيقك ، أو متحركين بحولك وقوتك ومتقلبين بإرادتك وقدرتك . وتقديم (( بك )) على أصبحنا وما بعده يفيد الاختصاص ( وبك أمسينا ) هذا مبني على أن المراد المساء السابق أو اللاحق وصيغة الماضي للتفاؤل ( وبك نحيى وبك نموت ) أي : أنت تحيينا وأنت تميتنا يعني يستمر حالنا على هذا في جميع الأوقات وسائر الأحوال ( وإليك ) لا إلى غيرك ( المصير ) أي : المرجع بعد البعث ( وإذا أمسى ) عطف على (( إذا أصبح )) ( اللهم بك أمسينا وبك أصبحنا ) بتقديم (( أمسينا )) ( وإليك النشور ) أي : البعث بعد الموت . قال الجزري : يقال : نشر الميت ينشر نشورا إذا عاش بعد الموت وأنشره الله أحياه . وقال المجد : النشر إحياء الميت كالنشور والإنشار والحياة نشره فنشر . وأفادت رواية الكتاب أن لفظ (( المصير )) في الصباح ولفظ (( النشور )) في المساء وهكذا وقع في نسخ الترمذي الموجودة عندنا وكذا ذكر الشوكاني في تحفة
رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة .
2413- (10) وعنه قال : قال أبو بكر قلت : يا رسول الله مرني بشيء أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت قال : قل اللهم عالم الغيب والشهادة فاطر السموات والأرض رب كل شيء

(16/249)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الذاكرين ويظهر من تصحيح المصابيح وجامع الأصول (ج5 : ص62) أن في الترمذي (( المصير )) في الموضعين ، وهكذا رواه البغوي في شرح السنة (ج5 : ص112) أي : بلفظ : (( المصير )) في الموضعين قال : ويروى (( وإليك النشور )) وجاء في أبي داود فيهما النشور . وفي أبي عوانة ، والأدب المفرد : (( النشور )) في الصباح و (( المصير )) في المساء عكس ما في نسخ الترمذي ، ورواه ابن ماجة بذكر المصير في المساء ولم يذكر لفظ النشور مطلقا ، ومؤدي النشور والمصير واحد وهو الرجوع إلى الله بعد الموت فلا تخالف بين الروايات ولا اعتراض على البغوي والمصنف في إيرادهما الرواية المذكورة ( رواه الترمذي ) في الدعوات وحسنه ( وأبو داود ) في الأدب وسكت عنه . وذكر المنذري تحسين الترمذي وأقره ( وابن ماجة ) في الدعاء ، وأخرجه أيضا أحمد بإسناد رجله رجال الصحيح ، والنسائي في الكبرى ، والبخاري في الأدب المفرد ، وأبو عوانة ، وابن حبان في صحيحيهما ، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص13) ، والبغوي في شرح السنة وقال : هذا حديث حسن وذكره النووي في الأذكار وصححه .

(16/250)


2413- قوله ( وعنه قال ) الظاهر أن الحديث من رواية أبي هريرة مباشرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه شهد سؤال أبي بكر ( قال أبو بكر : قلت يا رسول الله ) كذا في بعض النسخ ووقع في بعضها (( قال أبو بكر : يا رسول الله )) ، أي بدون لفظ (( قلت )) وهكذا وقع عند جميع المخرجين وكذا ذكره البغوي في المصابيح ، والنووي في الأذكار ، والجزري في جامع الأصول ، والشوكاني في تحفة الذاكرين وهو الصواب . ( وإذا أمسيت ) زاد في رواية أحمد (ج1 : ص10) (( إذا أخذت مضجعي )) ( اللهم عالم الغيب والشهادة ) ، أي ما غاب من العباد وظهر لهم ، ونصبه على أنه صفة المنادي أو على النداء فإن قوله : اللهم بمعنى يا الله . وكذا ما بعده من الأوصاف وهو قوله : ( فاطر السموات والأرض ) أي مخترعهما وموجدهما ومبدعهما على غير مثال سبق . وقوله : (( اللهم عالم الغيب )) إلخ . وهكذا وقع بتقديم العالم على الفاطر عند أحمد (ج1 : ص11 ، و ج2 : ص298) ، والترمذي ، والبخاري في الأدب المفرد، وأفعال العباد ، وابن حبان ، وفي بعض الطرق ابن السني . ووقع عند أحمد (ج1 : ص15) ، وأبي داود ، والدارمي ، والحاكم وفي بعض الروايات لابن السني بتقديم الفاطر على العالم ، ووقع عند أحمد (ج1 : ص10) بالشك أنه قال : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة . أو قال : اللهم عالم الغيب والشهادة فاطر السموات والأرض . والجزم مقدم على الشك . ورواية تقديم الفاطر أرجح لموافقتها لحديث عبد الله بن عمرو عند أحمد (ج2 : ص197) ، والترمذي ، والبخاري في الأدب المفرد ، ولكونها موافقة للتنزيل . والله أعلم . ( رب كل شيء ) بالنصب أيضا ، أي

(16/251)


ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك . رواه الترمذي ، وأبو داود ، والدارمي .
2414- (11) وعن أبان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصلح كل شيء ومربيه . ( ومليكه ) ، أي وملك كل شيء أو مالكه وقاهرة ، فعيل بمعنى الفاعل للمبالغة كالقدير بمعنى القادر ( أعوذ بك من شر نفسي ) ، أي من ظهور السيئات الباطنية التي جبلت النفس عليها ، وقيل : أي من شر هواها المخالف للهدي قال تعالى : ? ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ? (28 : 50) . أما إذا وافق الهوى الهدى فهو كزبد وعسل . وقيل : الاستعاذة منها لكونها أسرع إجابة إلى داعي الشر من الهوى والشيطان . وحاصله مزيد الاعتناء بتطهير النفس فقدم إشارة لكمال الصديق أن يفعله ليكون وسيلة إلى كل كمال يترقى إليه بعد ، إذ الترقي يتفاوت بحسب تفاوت مراتب ذلك التطهير ( ومن شر الشيطان ) ، أي وسوسته وإغواءه وإضلاله ، ثم يحتمل أن يكون المراد جنس الشياطين أو رئيسهم وهو إبليس ( وشركه ) روي على وجهين أظهرهما وأشهرهما بكسر الشين مع إسكان الراء أي : ما يدعو إليه الشيطان ويوسوس به من الإشراك بالله . والثاني : بفتح الشين والراء . أي : جبائله ومصائده ( جمع مصيدة وهي ما يصاد بها من كل شيء ) التي يفتتن الناس بها ، وإحداها شركة بفتح الشين والراء وآخرها هاء . والإضافة على الأول إضافة المصدر إلى الفاعل وعلى الثاني محصنة ، والعطف على التقديرين للتخصيص بعد التعميم للاهتمام به ( قله ) أي : قل هذا القول ( وإذا أخذت مضجعك ) بفتح الميم والجيم بينهما ضاد ساكنة أي : إذا أردت النوم ( رواه الترمذي ) في الدعوات ، وصححه ( وأبو داود ) في الأدب ، وسكت عليه . ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره

(16/252)


( الدارمي ) في الاستيذان ، وأخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص10 ، 11 ، و ج2 : ص298) ، والنسائي في الكبرى ، والبخاري في الأدب المفرد ، وأفعال العباد ، وابن حبان في صحيحه ، والحاكم (ج1 : ص513) ، وصححه وأقره الذهبي ، وابن أبي شيبة ، وابن السنى (ص16 ، 230 ، 231) ، وأبو داود الطيالسي ، والخطيب في تاريخ بغداد (ج11 : ص166 ، 167) ، وفي الباب عن عبد الله بن عمرو عند أحمد (ج2 : ص172 ، 197) ، والترمذي في الدعوات ، والبخاري في الأدب المفرد من طريق أبي راشد الحبراني قال : أتيت عبد الله بن عمرو ابن العاص فقلت له : حدثنا بما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فألقى بين يدي صحيفة . فقال : هذا ما كتب لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنظرت فيها فإذا فيها (( أن أبا بكر الصديق قال : يا رسول الله علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت ، فقال له رسول الله : يا أبا بكر قل : اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة لا إله إلا أنت ، رب كل شيء ومليكه أعوذ بك من شري نفسي ومن شر الشيطان وشركه ، وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلي مسلم )) .
2414- قوله : ( وعن أبان ) بفتح الهمزة وتخفيف الموحدة يصرف لأنه على وزن فعال ، ويمنع لأنه يجعل على
بن عثمان قال سمعت أبي يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات فيضره شيء . فكان أبان قد أصابه طرف فالج فجعل الرجل ينظر إليه فقال له أبان ما تنظر إلي ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/253)


وزن أفعل ، والأشهر الصرف ( ابن عثمان ) أي : ابن عفان الأموي المدني ثقة من كبار التابعين قال عمرو بن شعيب : ما رأيت أعلم بحديث ولا أفقه منه . وعده يحيى القطان في فقهاء المدينة . وكان به صمم ووضح وأصابه الفالج قبل أن يموت بسنة ، مات سنة (105) حكى البخاري في التاريخ عن مالك أنه كان قد علم أشياء من قضاء أبيه ، وأنكر أحمد سماعه من أبيه ، وفي هذا الحديث تصريح بسماعه منه ، وكذا حديثه في صحيح مسلم مصرح بالسماع ( قال ) أي أبان ( سمعت أبي ) أي عثمان : ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة ) أي بعد طلوع الفجر وبعد غروب الشمس ، وفي رواية أحمد (ج1 : ص67) : قال في أول يومه أو في أول ليلته ( بسم الله ) قيل الباء متعلقة الاستعاذة المقدرة أي : أعوذ باسم الله ، وقيل متعلقة هو أصبحنا وأمسينا حسبما يقتضيه المقام أو متعلقة أستعين أو أتحفظ أي : أستعين أو أتحفظ من كل مؤذ باسم الله . المعنى أذكر اسمه على وجه التعظيم والتبرك ( الذي لا يضر مع اسمه ) أي : مع ذكره باعتقاد حسن ونية خالصة ( شيء ) كائن ( في الأرض ولا في السماء ) أي : من البلاء النازل منها ( وهو السميع ) أي : بأقوالنا ( العليم ) أي : بأحوالنا ( ثلاث مرات ) ظرف (( يقول )) ( فيضره شيء ) بالنصب جواب (( ما من عبد )) . قال الطيبي : وبالرفع عطفا على يقول : على أن الفاء هنا كهي في قوله : (( لا يموت لمؤمن ثلاثة من الولد فتمسه النار )) أي : لا يجتمع هذا القول مع المضرة كما لا يجتمع مس النار مع موت ثلاثة من الولد بشرطه . ورواه أحمد (ج1 : ص63 ، 67) ، والبخاري في الأدب المفرد بلفظ : (( من قال صباح كل يوم ومساء كل ليلة ثلاثا ثلاثا بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ، لم يضره شيء في ذلك اليوم أو في تلك الليلة )) . وفي الحديث دليل على أن هذه الكلمات تدفع عن قائلها كل ضر كائنا ما كان وأنه لا يصاب بشيء

(16/254)


في ليله ولا نهاره إذا قالها في أول الليل والنهار ( فكان ) كذا في جميع النسخ الحاضرة ، وفي الترمذي ، وابن ماجة (( وكان )) ( أبان ) بالوجهين ( طرف فالج ) كذا للترمذي ، وفي ابن ماجة : طرف من الفالج أي : نوع منه وهو بكسر اللام داء يحدث في أحد شقي البدن فيبطل إحساسه وحركته . قال في القاموس : الفالج ( بكسر اللام على وزن فاعل ) استرخاء لأحد شقي البدن لانصباب خلط بلغمي تنسد منه مسالك الروح ( فجعل الرجل ) الذي سمع منه الحديث ( ينظر إليه ) أي : إلى أبان تعجبا وإنكارا بأنك كنت تقول هذه الكلمات في كل صباح ومساء فكيف أصابك الفالج إن كان الحديث صحيحا ؟ ( ما تنظر إلى ) أي : ما سبب نظرك إلي ؟ قال الطيبي : (( ما )) هي استفهامية وصلتها محذوفة و (( تنظر
أما إن الحديث كما حدثتك ولكني لم أقله يومئذ ليمضي الله علي قدره . رواه الترمذي ، وابن ماجة ، وأبو داود . وفي روايته : (( لم تصبه فجاءة بلاء حتى يصبح ومن قالها حين يصبح لم تصبه فجاءة بلاء حتى يمسي )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/255)


إلي )) حال ، أي : ما لك تنظر إلي ؟ ( أما ) للتنبيه وقيل : بمعنى حقا ( ولكني لم أقله ) أي : ما قدر الله لي أن أقوله ( يومئذ ليمضي ) من الإمضاء ( علي ) بتشديد الياء ( قدره ) بفتح الدال أي : مقدره . قال الطيبي : قوله : (( ليمضي الله )) علة لعدم القول وليس بغرض له كما في قعدت عن الحرب جبنا ، وقيل : اللام فيه للعاقبة . كما في قوله : لدوا للموت وابنوا للخراب ، ذكره القاري . وفي رواية أبي داود (( فجعل الرجل الذي سمع منه الحديث ينظر إليه ، فقال : ما لك تنظر إلي ؟ فو الله ما كذبت على عثمان ولا كذب عثمان على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن اليوم الذي أصابني فيه ما أصابني فيه غضبت فنسيت أن أقولها )) . ( رواه الترمذي ، وابن ماجة ) في الدعاء . وقال الترمذي : حديث حسن غريب صحيح ( وأبو داود ) في الأدب ، وسكت عنه هو والمنذري ، وأخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص63 ، 67) ، وابنه عبد الله في زوائده (ج1 : ص73) ، والبخاري في الأدب المفرد ، والنسائي في الكبرى ، وابن حبان ، والحاكم (ج1 : ص514) وصححه ووافقه الذهبي ، وابن أبي شيبة ، وابن السني (ص16) ، والبغوي في شرح السنة (ج5 : ص113) ( وفي روايته ) أي : رواية أبي داود ( لم تصبه فجاءة بلاء ) بالإضافة بيانية ، وهو بضم الفاء ممدودا مصدر بمعنى المفعول أو بمعنى ما فاجأك . يقال : فجأه الأمر يفجأه ، وفجئه يفجأه فجأ ، وفجأة وفجأءة ، وفاجأه مفاجأة ، وافتجأ افتجاء هجم عليه أو طرقه بغتة من غير أن يشعر به . قال القاري : وفي نسخة بفتح الفاء وسكون الجيم في مختصر النهاية فجأه الأمر وفجئه فجاءة بالضم والمد وفجأ بالفتح وسكون الجيم من غير مد وفاجأه مفاجأة إذا جاءه بغتة من غير تقدم سبب - انتهى . وفيه إشارة إلى أن المراد بالفجأءة ما يفجأ به ، والمصدر بمعنى المفعول وهو أعم من أن يكون بالمد وغيره ( حتى يصبح ، ومن قالها ) أي : تلك الكلمات ( حين يصبح لم تصبه فجاءة بلاء حتى

(16/256)


يمسي ) وعند ابن حبان وعبد الله بن أحمد في زوائده في مسند أبيه (ج1 : ص73) (( لم تفجأه فاجئة بلاء حتى الليل ، ومن قالها حين يمسي لم تفجأه فاجئة بلاء حتى يصبح إن شاء الله )) يعني من قال ذلك في الصباح يحفظه الله من كل ضرر مفاجئ حتى يغيب الشمس ، ومن قالها في المساء يحفظه الله كذلك حتى يطلع الفجر ، وفي شرح السنة (( لم تفجأه فاجئة حتى يمسي ... وحتى يصبح )) . قال القاري : وفي الغايتين أعني حتى يصبح و حتى يمسي إيماء إلى أن ابتداء الحفظ من الفجاءة والمضرة عقب قول القائل في أي : جزأ من أجزاء الليل أو النهار بل وفي سائر أثناءهما .
2415- (12) وعن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا أمسى : أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير رب أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها ، وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها رب أعوذ بك من الكسل ومن سوء الكبر أو الكفر . وفي رواية : (( من سوء الكبر والكبر )) ، رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر . وإذا أصبح قال ذلك أيضا : أصبحنا وأصبح الملك لله . رواه أبو داود ، والترمذي . وفي روايته لم يذكر : (( من سوء الكفر )) .
2416- (13) وعن بعض بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلمها فيقول : قولي حين تصبحين سبحان الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/257)


2415- قوله : ( وعن عبد الله ) أي : ابن مسعود ( كان يقول إذا أمسى أمسينا ) إلى قوله : ( وهو على كل شيء قدير ) سبق الكلام عليه إعرابا . ومعنى ( رب ) أي : يا ربي ( وخير ما بعدها ) أي : من الليالي أو مطلقا ( من الكسل ) أي : في صالح العمل ، وهو بفتحتين عدم انبعاث النفس للخير وقلة الرغبة مع إمكانه يقال : كسل كسمع يكسل فتر وتثاقل وتوانى عما لا ينبغي أن يتوانى عنه ( ومن سوء الكبر ) . قال النووي : قال القاضي : روينا الكبر بإسكان الباء وفتحها . فالإسكان بمعنى التعاظم على الناس والفتح بمعنى الهرم والخرف والرد إلى أرذل العمر كما في الحديث الآخر . قال القاضي : وهذا أظهر وأشهر مما قبله . قال : وبالفتح ذكره الهروي ، وبالوجهين ذكره الخطابي وصوب الفتح وتعضده رواية النسائي : (( وسوء العمر )) انتهى . ( أو الكفر ) شك من الراوي وفي جامع الأصول : (( والكفر )) أي : بالواو بدل أو ، أي : من سوء الكفر أي : من شر ما فيه الكفر أو الكفران . وقال القاري : أي : من شر الكفر وإثمه وشؤمه ، أو المراد بالكفر الكفران ( وفي رواية ) أي : لأبي داود ( من سوء الكبر ) بفتح الباء أي : كبر السن ( والكبر ) بسكونها أي التكبر عن الحق ( رب أعوذ بك من عذاب في النار ) أي : عذاب كائن في النار ( وإذا أصبح قال ذلك ) أي : ما يقول في المساء من الذكر المذكور ( أيضا ) أي إلا أنه يقول : ( أصبحنا وأصبح الملك لله ) بدل (( أمسينا وأمسى الملك لله )) ويبدل اليوم بالليلة فيقول : رب أسألك خير ما في هذا اليوم ، ويذكر الضمائر بعده ( رواه أبو داود ) في الأدب ، ( والترمذي ) في الدعوات ، وأخرجه أيضا مسلم وقد تقدم في الفصل الأول من هذا الباب والنسائي ، وابن أبي شيبة ، وابن السنى (ص13) ( وفي روايته ) أي : الترمذي ( لم يذكر ) بصيغة المجهول وروي معلوما ( من سوء الكفر ) وكذا لم يذكر في رواية لأبي داود وليس هو عند مسلم أيضا فالمحفوظ هو من سوء

(16/258)


الكبر .
2416- قوله : ( وعن بعض بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - ) قال الحافظ في التقريب لم أقف على اسمها وكلهن صحابيات . أي : فلا يضر جهالة اسمها ( فيقول ) الفاء تفسيرية ( سبحان الله ) هو علم للتسبيح منصوب على المصدرية تقديره سبحت الله سبحانا
وبحمده ولا قوة إلا بالله ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن . اعلم أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما فإنه من قالها حين يصبح حفظ حتى يمسي ومن قالها حين يمسي حفظ حتى يصبح . رواه أبو داود .
2417- (14) وعن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من قال حين يصبح فسبحان الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/259)


ولا يستعمل غالبا إلا مضافا ، ومعنى التسبيح تنزيه الله عما لا يليق به من كل نقص وعيب ( وبحمده ) قيل الواو للحال والتقدير : أسبح الله متلبسا بحمدي له من أجل توفيقه . وقيل : عاطفة . والتقدير : أسبح الله وأقوم أو أبتدئ بحمده ، ويمكن أن تكون زائدة والمعنى أسبحه مقرونا بحمده ( لا قوة ) وفي عمل اليوم والليلة لابن السني : ولا حول ولا قوة ( إلا بالله ) أي : إلا بإقداره تعالى ( ما شاء الله ) أي : وجوده ( كان ) أي : وجد في وقت أراده ( وما لم يشأ لم يكن ) أي : لم يوجد أي : سواء يشاء العبد أو لم يشأ . وهذا معنى قوله تعالى : ? وما تشاؤون إلا أن يشاء ? (76 : 30) ( أعلم ) بصيغة المتكلم أي : أعتقد ( أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ) أي : له القدرة الكاملة والعلم الشامل . قال الطيبي : هذان الوصفان أعني : القدرة الشاملة ، والعلم الكامل ، هما عمدة أصول الدين وبهما يتم إثبات الحشر والنشر ورد الملاحدة في إنكارهم البعث وحشر الأجساد لأن الله تعالى إذا علم الحزئيات والكليات على الإحاطة علم الأجزاء المتفرقة المتلاشية في أقطار الأرض فإذا قدر على جمعها أحياها فلذلك خصهما بالذكر في هذا المقام ( فإنه ) أي : الشأن وهو تعليل لقولي ( حفظ ) بصيغة المجهول أي : من البلايا والخطايا ( رواه أبو داود ) في الأدب ، وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى ، وابن السني (ص16) كلهم من رواية عبد الحميد مولى بني هاشم عن أمه وكانت تخدم بعض بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - حدثتها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلمها إلخ . وقد سكت عنه أبو داود . وقال المنذري في مختصر السنن : في إسناده امرأة مجهولة وهي أم عبد الحميد . وقال الحافظ في الكنى من النساء من التقريب : أم عبد الحميد الهاشمية مولاهم مقبولة من الثالثة . أي : من الطبقة الوسطى من التابعين ، ثم

(16/260)


قال في المبهمات من النسوة على ترتيب من روى عنهن رجالا ثم نساء : عبد الحميد بن أبي هاشم عن أمه كانت تخدم بعض بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لم أقف على اسمها وكأنها صحابية - انتهى . وحكى في هامش شرح السنة (ج5 : ص115) عن الحافظ بعد نقل كلام المنذري المذكور أنه قال ( أي : الحافظ ) لكن يغلب على الظن أنها . أي : أم عبد الحميد صحابية ، فإن بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - متن في حياته إلا فاطمة فعاشت بعده ستة أشهر أو أقل وقد وصفت بأنها كانت تخدم التي روت عنها ، لكنها لم تسمها . فإن كانت غير فاطمة قوي الاحتمال ، وإلا احتمل أنها جاءت بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - . والعلم عند الله - انتهى .
2417- قوله : ( من قال حين يصبح ) أي : يدخل في الصباح ? فسبحان الله ? أي : نزهوه عما لا يليق بعظمته تعالى
حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون ? إلى قوله ? وكذلك تخرجون ? أدرك ما فاته في يومه ذلك ، ومن قالهن حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته . رواه أبو داود .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/261)


أو أريد به الصلاة على ما روي عن ابن عباس ، والمعنى فصلوا له ? حين تمسون ? من الإمساء أي : تدخلون في المساء وهو وقت المغرب والعشاء بناء على ما قدمناه من أن المساء أول الليل أي من غروب الشمس ? وحين تصبحون ? من الإصباح أي : تدخلون في الصباح وهو وقت الفجر . يعني صلوا لله صلاة المساء . أي : المغرب والعشاء وصلاة الصبح ? وله الحمد في السماوات والأرض ? جملة اعتراضية حالية ومعناها يحمده أهلهما ? وعشيا ? بفتح العين عطف على (( حين )) أي : وحين العشي وهو ما بين زوال الشمس إلى غروبها والمشهور أنه آخر النهار فالمراد به وقت العصر أي : صلوا لله عشيا . أي : صلاة العصر ? وحين تظهرون ? أي : تدخلون في الظهيرة وهي وقت الظهر . قال نافع بن الأزرق لابن عباس : هل تجد الصلوات الخمس في القرآن ؟ قال : نعم . وقرأ هاتين الآيتين ، وقال : جمعت الآية الصلوات الخمس ومواقيتها . واختار الطيبي عموم معنى التسبيح الذي هو مطلق التنزيه فإنه المعنى الحقيقي الأولى من المعنى المجاز من إطلاق الجزء وإرادة الكل مع أن العبرة لعموم اللفظ لا بخصوص السبب فإن فائدة الأعم أتم . قاله القاري ( إلى قوله ) أي : تعالى : ? وكذلك تخرجون ? بصيغة المجهول من الإخراج ، وهذا اقتصار من الرواي وهو من سورة الروم وتمامه : ? يخرج الحي من الميت ? كالطائر من البيضة ، والحيوان من النطفة ، والنبات من الحبة ، والمؤمن من الكافر ، والذاكر من الغافل ، والعالم من الجاهل ، والصالح من الطالح ? ويخرج الميت من الحي ? على عكس ما ذكر ? ويحيي الأرض ? أي : بالإنبات ? بعد موتها ? أي : يبسها ? وكذلك ? أي : مثل ذلك الإحياء ? تخرجون ? (30 : 18 ، 19) أي : من قبوركم إحياء للحساب والعذاب والنعيم ، والمراد أن الإبداء والإعادة متساويتان في قدرة من هو قادر

(16/262)


على إخراج الميت وعكسه ( أدرك ما فاته ) أي : من الخير . أي حصل له ثواب ما فاته من ورد وخير ( ومن قالهن ) أي : تلك الكلمات أو الآيات ( رواه أبو داود ) في الأدب ، وأخرجه أيضا الطبراني ، وابن السني (ص20 ، 28) كلهم من حديث سعيد بن بشير النجارى عن محمد بن عبد الرحمن ابن البيلماني عن أبيه عن ابن عباس ، وقد سكت عنه أبو داود . قال النووي في الأذكار : لم يضعفه أبو داود وقد ضعفه البخاري في تاريخه الكبير ، وفي كتاب الضعفاء . وقال المنذري : في إسناده محمد بن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه وكلاهما لا يحتج به - انتهى . قلت : إسناد الحديث ضعيف جدا . سعيد بن بشير قال الحافظ في التقريب فيه : إنه مجهول ، وقال في تهذيبه : روى له أبو داود حديثا واحدا يعني حديث الباب وذكره البخاري في الضعفاء . وقال : لا يصح حديثه ، وسعيد شبه المجهول . وقال العقيلي : مجهول ومحمد بن عبد الرحمن البيلماني قال فيه في التقريب : ضعيف واتهمه ابن عدي ، وابن حبان ، وقال في تهذيبه : قال ابن معين :
2418- (15) وعن أبي عياش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من قال إذا أصبح لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كان له عدل رقبة من ولد إسمعيل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/263)


ليس بشيء . وقال البخاري ، وأبو حاتم ، والنسائي ، والساجي : منكر الحديث . وقال البخاري في تاريخه الكبير (1 ، 1 ، 163) : كان الحميدي يتكلم فيه لضعفه ، وقال ابن حبان حدث عن أبيه بنسخة شبيها بمأتى حديث كلها موضوعة لا يجوز الاحتجاج به ولا ذكره إلا على وجه التعجب . وقال ابن عدي : كل ما يرويه به ابن البيلماني فالبلاء فيه منه - انتهى . وأبوه عبد الرحمن البيلماني قال : عنه في التقريب : ضعيف . وقال في تهذيبه ذكره ابن حبان في الثقات . وقال : لا يحب أن يعتبر بشيء من حديثه إذا كان من رواية ابنه محمد لأن ابنه يضع على أبيه العجائب . وقال الدارقطني : ضعيف لا تقوم به الحجة . وقال الأزدي : منكر الحديث يروي عن ابن عمر بواطيل . وقال صالح جزرة : حديثه منكر ولا يعرف أنه سمع من أحد من الصحابة إلا من سرق . قلت : فعلى هذا يكون حديثه هذا مرسلا .

(16/264)


2418- قوله : ( وعن أبي عياش ) بتشديد التحتانية وآخره معجمة . وقيل : ابن أبي عياش ، وقيل : ابن عائش . قال الحافظ في التقريب : والصواب الأول . وقال في تهذيبه : أبو عياش الزرقي . وقيل : ابن أبي عياش . وقيل : ابن عائش . وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (( من قال إذا أصبح لا إله إلا الله )) الحديث . قاله سهيل بن أبي صالح عن أبيه عنه ، أخرج حديثه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة . قلت : قد وقع في بعض طرقه أي : عند النسائي ، وابن ماجة عن أبي عياش الزرقي . فقيل : هو أبو عياش الزرقي الأنصاري الصحابي الراوي لحديث صلاة الخوف بعسفان وقد اختلف في اسمه فقيل : هو زيد بن الصامت ، وقيل ابن النعمان ، وقيل : اسمه عبيد بن معاوية ، وقيل : عبد الرحمن بن معاوية بن الصامت شهد أحدا وما بعدها ومات بعد الأربعين في خلافة معاوية . قال الحافظ في الإصابة : وعلى ذلك درى أبو أحمد الحاكم والذي يظهر أنه غيره . قلت : وقد جزم بالأول المصنف في الإكمال وإليه يظهر ميل الإمام أحمد حيث ذكر هذا الحديث في مسند أبي عياش الزرقي الراوي لحديث صلاة الخوف بعسفان . وقال الحافظ في تهذيبه : فإن كان ( أي : الذي وقع في رواية النسائي ، وابن ماجة ) محفوظا فهو الذي قبله وقد نص أبو أحمد للحاكم أن هذا الحديث من رواية أبي عياش الزرقي ، ووقع في الكنى لأبي بشر الدولابي : أبو عياش الزرقي روى عنه زيد بن أسلم حديث (( من قال إذا أصبح )) ( من قال ) شرطية ( إذا أصبح ) ظرفية ( له الملك وله الحمد ) أي : على وجه الاختصاص حقيقة وإن وجدا في الجملة لغيره صورة زاد بعده في رواية ابن السني (( يحيي ويميت وهو حي لا يموت )) ( كان ) جواب الشرط ( له ) أي : لمن قال : ذلك المقال ( عدل رقبة ) أي : مثل إعتاقها وهو بفتح العين وكسرها روايتان بمعنى المثل ، وقيل : بالفتح المثل من غير الجنس وبالكسر من الجنس وعلى هذا فالفتح ها هنا أظهر وقيل : بالعكس ( من ولد

(16/265)


إسماعيل ) صفة (( رقبة )) وهو بفتح الواو واللام وبضم فسكون
وكتب له عشر حسنات وحط عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وكان في حرز من الشيطان حتى يمسي وإن قالها إذا أمسى كان له مثل ذلك حتى يصبح . فرأى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم فقال : يا رسول الله إن أبا عياش يحدث عنك بكذا وكذا قال : صدق أبو عياش . رواه أبو داود وابن ماجة .
2419- (16) وعن الحارث بن مسلم التميمي عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/266)


أي : أولاده والتخصيص لأنهم أشرف من سبي ( وكتب ) أي : أثبت مع هذا ( وحط ) أي : وضع ومحى ( ورفع له عشر درجات ) أي : من درجات الجنان ( وكان في حرز ) بكسر المهملة أي : حفظ وصون ( كان له مثل ذلك ) أي : ما ذكر من الجزاء ( فرأى رجل ) وفي نسخة القاري (( قال حماد بن سلمة فرأى رجل )) وقد ذكر أبو داود هذه الزيادة بقوله : (( قال في حديث حماد )) وهو راوي هذا الحديث عن سهيل بن أبي صالح وهو حماد بن سلمة بفتح اللام ابن دينار البصري أبو سلمة ، ثقة عابد أثبت الناس في ثابت وتغير حفظه بآخره مات سنة (167) قال المصنف : هو من أعلام البصريين وأئمتهم كثير الحديث واسع الرواية مشهور بالسنة والعبادة ، مات سنة سبع وستين ومائة . وأطال الحافظ في ترجمته في تهذيب التهذيب فراجعه إن شئت ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرى النائم ) أي : في المنام ، وفي رواية ابن السني (( فكأن رجلا اتهمه فقال : أكثر أبو عياش على نفسه فنام الرجل فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام )) ( فقال ) أي : الرجل في المنام ( يحدث عنك بكذا وكذا ) ، ولأحمد ، وابن ماجة (( يروي عنك كذا وكذا )) ( قال ) - صلى الله عليه وسلم - ( صدق أبو عياش ) وفي ابن السني ( قال الرجل فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي ثم قال : صدق أبو عياش ، صدق أبو عياش ، صدق أبو عياش )) وقوله : (( فرأى الرجل )) إلخ ، ذكر استظهارا وتأييدا للرواية وطمأنينة للقلب لا استدلالا على صحتها وثبوتها للإجماع على أن الرؤيا لا تثبت بها الأحكام ولا الحديث لأن النائم لا يضبط فربما نقل خلاف ما سمع أو كلامه يحتاج إلى تأويل وتعبير ويقع الخلاف في التفسير ولأنها إن وافقت ما استقر في الشرع فالعبرة به وإلا فلا عبرة بها لأنها إذا خالفته لم يجز نسخه بها ( رواه أبو داود ) في الأدب ، ( وابن ماجة ) في الدعاء ، وأخرجه أيضا أحمد (ج4 : ص60) ، والنسائي في عمل اليوم

(16/267)


والليلة ، وابن أبي شيبة ، وابن السني (ص22 ، 23) .
2419- قوله : ( وعن الحارث بن مسلم التميمي ) تابعي قاله البخاري ، وأبو زرعة ، وأبو حاتم وغير واحد ، قال البغوي سكن الشام ( عن أبيه ) أي : مسلم بن الحارث التميمي صحابي صرح بكونه صحابيا البخاري ، وأبو حاتم ، وأبو زرعة وغيرهم . وقال في التقريب : مسلم بن الحارث ، ويقال : الحارث بن مسلم التميمي صحابي قليل الحديث . قلت : قوله : (( عن الحارث بن
أنه أسر إليه فقال : إذا انصرفت من صلاة المغرب فقل قبل أن تكلم أحدا : اللهم أجرني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/268)


مسلم عن أبيه )) كذا عند أبي داود ، ووقع عند النسائي ، وابن حبان (( عن مسلم بن الحارث بن مسلم عن أبيه )) والصواب ما وقع في أبي داود . قال الخزرجي في الخلاصة (ص69) : الحارث بن مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا عند النسائي ، والصواب ما عند أبي داود (( عن الحارث بن مسلم عن أبيه )) أي : عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال أبو حاتم ، وأبو زرعة الرازي : الحارث بن مسلم تابعي - انتهى . ونحوه قال المنذري في الترغيب (ج1 : ص140) وقال أبو زرعة الرازي كما في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/2/88) : الصحيح الحارث بن مسلم بن الحارث عن أبيه . قال الحافظ في تهذيب التهذيب : مسلم بن الحارث ورمز عليه لأبي داود ، ويقال : الحارث بن مسلم التميمي روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء عند الانصراف من صلاة المغرب . روى حديثه عبد الرحمن بن حسان الفلسطيني اختلف عليه فيه ....... قلت ( قائله الحافظ ) : وصحح البخاري ، وأبو حاتم ، وأبو زرعة الرازيان ، والترمذي ، وابن قانع وغير واحد أن مسلم بن الحارث هو : صحابي روى هذا الحديث . وأخرج ابن حبان الحديث في صحيحه من مسند الحارث بن مسلم ، والذي يرجح ما قاله البخاري أن صدقة ابن خالد ومحمد بن شعيب بن شابور رويا عن عبد الرحمن بن حسان الذي مدار الحديث عليه فقالا : عن الحارث بن مسلم بن الحارث عن أبيه ، ورواه وليد بن مسلم فاختلف عليه . فقال داود بن رشيد ، وهشام بن عمار ، وعمرو بن عثمان الحمصي ، وعلي بن سهل الرملي ، ومؤمل بن الفضل الحراني عنه عن عبد الرحمن عن مسلم بن الحارث بن مسلم عن أبيه . وقال محمد بن مصفى وعبد الوهاب بن نجدة ، ومحمد بن الصلت عن الوليد بقول صدقة بن خالد ، ومحصل ذلك الاختلاف في الصحابي هل هو الحارث بن مسلم أو مسلم بن الحارث وفي التابعي كذلك ولم أجد في التابعين توثيقا إلا ما اقتضاه صنيع ابن حبان حيث أخرج الحديث في صحيحه ، وقد جزم

(16/269)


الدارقطني بأنه مجهول ، والحديث الذي رواه أصله تفرد به ما رأيته إلا من روايته ، وتصحيح مثل هذا في غاية البعد لكن ابن حبان على عادته في توثيق من لم يرو عنه واحد إذا لم يكن فيما رواه ما ينكر - انتهى . وقال في الإصابة : وصحح البخاري ، والترمذي وغير واحد : أن اسم الصحابي مسلم واسم التابعي ولده الحارث ، والاختلاف فيه على الوليد بن مسلم فقال جماعة : عنه عن عبد الرحمن بن حسان عن الحارث بن مسلم عن أبيه . وقال هشام بن عمار وغيره عنه عن عبد الرحمن عن مسلم بن الحارث . والراجح الأول لأن محمد بن شعيب بن شابور رواه عن عبد الرحمن كذلك . وكذا قال : صدقة بن خالد عن عبد الرحمن في حديث آخر ، وأخرجه البخاري في التاريخ (4/1/253) عن الحكم بن موسى عن صدقة ولفظه عن الحارث بن مسلم التميمي عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب له كتابا بالوصاة إلى من يعرفه من ولاة الأمر ، قال الدارقطني : مات في خلافة عثمان – انتهى . ( أنه أسر ) من الإسرار ( إليه ) إلى مسلم بن الحارث ، والمعنى تكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - معه سرا وخفية . قال الطيبي : في الإسرار ترغيبه فيه حتى يتلقاه ويتمكن في قلبه تمكن السر المكنون لا الضنة . أي : البخل به من غيره ( إذا انصرفت ) أي : فرغت ( اللهم أجرني
من النار سبع مرات فإنك إذا قلت ذلك ثم مت في ليلتك كتب لك جوار منها ، وإذا صليت الصبح فقل كذلك فإنك إذا مت في يومك كتب لك جوار منها . رواه أبو داود .
2420- (17) وعن ابن عمر قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/270)


من النار ) ، أي خلصني منها ، أمر من الإجارة من باب الأفعال من الجور . معناه : أمني وأعذني وأنقذني وخلصني من النار ، أجاره الله من العذاب أنقذه ( سبع مرات ) ظرف لقل ، أي كرر ذلك سبع مرات ( فإنك إذا قلت ذلك ) ، أي الدعاء المذكور سبعا ، ( ثم مت ) بضم الميم وكسرها ، ( كتب لك جوار ) ، أي أمان وخلاص ، بكسر الجيم وإهمال الراء كذا وقع في أكثر نسخ المشكاة ، وهكذا في التاريخ الكبير للبخاري ، وجامع الأصول والأذكار ، والجامع الصغير ، والترغيب ووقع في بعض نسخ المشكاة ، (( جواز )) بفتح الجيم وإعجام الزاي ، وهكذا وقع في موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان (583) وكذا وقع في بعض نسخ أبي داود ، قال القاري : أي خلاص ، والجواز في الأصل البراءة التي تكون مع الرجل في الطريق حتى لا يمنعه أحد من المرور ، وحينئذ فلا يدفعه إلا تحلة القسم - انتهى . ( وإذا صليت الصبح ) ، أي وانصرفت ( فقل ) ، أي هذا الذكر سبعا ( كذلك ) ، أي قبل أن تكلم أحدا . قال المناوي : في فيض القدير (ج1 : ص393) تنبيه قال ابن حجر : يؤخذ من مجموع الأدلة أن الصلاة إما أن تكون مما يتطوع بعدها أو لا ؟ فالأول اختلف فيه هل يتشاغل قبل التطوع بالذكر المأثور كالمذكور في هذا الخير ثم يتطوع أو عكسه ؟ ذهب الجمهور إلى الأول ، والحنفية إلى الثاني ، ويترجح تقديم الذكر المأثور لتقييده في الأخبار الصحيحة بدبر الصلاة ، وزعم بعض الحنابلة أن المراد بدبرها ما قبل السلام ورد بعدة أخبار ، وأما التي لا يتطوع بعدها فيتشاغل الإمام ومن معه بالذكر المأثور ولا يتعين له مكان ، بل إن شاؤا انصرفوا أو مكثوا وذكروا ، وعلى الثاني إن كان للإمام عادة أن يعظهم فليقبل عليهم جميعا وإن كان لا يزيد على الذكر المأثور فهل يقبل عليهم أو ينفتل فيجعل يمينه من قبل المأمومين ويساره من قبل القبلة ويدعو ؟ الثاني هو ما عليه أكثر الشافعية - انتهى . ( رواه أبو داود ) ، أي في الأدب ،

(16/271)


وأخرجه أيضا أحمد ( ) ، والبخاري في تاريخه (1/4/253) ، والنسائي في الكبرى ، وابن حبان في صحيحه ، والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري وقد عرفت ما في سنده من الكلام .
2420- قوله ( لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدع ) ، أي يترك ( هؤلاء الكلمات ) ، وعند أحمد ، وابن ماجة (( هؤلاء الدعوات )) ( حين يمسي وحين يصبح ) ، الظاهر أن كان ناقصة وجملة يدع خبر لها ، أي لم يكن تاركا لهن في هذين الوقتين بل
اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي . يعني الخسف . رواه أبو داود .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/272)


يداوم عليها فيهما ( اللهم إني أسالك العافية ) ، أي السلامة من الآفات الدينية والشدائد الدنيوية . وقيل : السلامة من الأسقام والبلايا . وقيل : عدم الابتلاء بها والصبر عليها والرضا بقضائها ، وهي مصدر أو اسم من عافى . قال في القاموس : والعافية دفاع الله عن العبد وعافاه الله تعالى من المكروه عفاء ومعافاة وعافية : وهب له العافية من العلل والبلاء كأعفاه ( اللهم إني أسالك العفو ) ، أي محو الذنوب والتجاوز عنها ، ( والعافية ) ، أي السلامة من العيوب ( في ديني ودنياي ) ، أي في أمورهما ( اللهم استر ) بضم التاء الفوقية ( عوراتي ) ، أي عيوبي وهي بسكون الواو وجمع عورة وهي سوءة الإنسان وكل ما يستحيي منه إذا ظهر ويسوء صاحبه أن يرى ذلك منه ( وآمن روعاتي ) بفتح الراء وسكون الواو جمع روعة وهي الفزعة ، وآمن أمر من الإيمان بمعنى إزالة الخوف وإعطاء الأمن ، ومنه قوله تعالى ? وآمنهم من خوف ? (106 : 4) وحاصل المعنى : اجعل خوفي أمنا وأبدله به ، وقال السندي معنى (( آمن روعاتي )) ، أي ادفع عني خوفا يقلقني ويزعجني وكأن التقدير وآمني من روعاتي على قياس ? وآمنهم من خوف ? ( اللهم احفظني ) ، أي ادفع البلاء عني ، ( من بين يدي ) ، أي أمامي ( ومن خلفي ) إلخ ، يعني من الجهات الست لأن كل بلية تصل الإنسان إنما تصله من إحداهن ، وبالغ في جهة السفل لرداءة الآفة منها ( وأعوذ بعظمتك أن أن أغتال ) بصيغة المجهول من المتكلم ، أي أؤخذ بغتة وأهلك غفلة ( من تحتي ) ، أي أهلك بالخسف ، والأصل في الاغتيال أن يؤتي المرأ من حيث لا يشعر وأن يدهى بمكروه لم يرتقبه . قال في القاموس : غاله أهلكه كاغتاله وأخذه من حيث لم يدر ( يعني الخسف ) ، أي يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاغتيال من الجهة التحتانية الخسف . في القاموس : خسف الله بفلان الأرض غيبه فيها ، وهذا تفسير من راوي الحديث وكيع بن الجراح كما في أبي داود

(16/273)


، وابن ماجة أو جبير كما في ابن السني ، قال الطيبي : استوعب الجهات الست كلها لأن ما يلحق الإنسان من نكبة وفتنة فإنما يجيء به ويصل إليه من إحدى هذه الجهات وبالغ في جهة السفل حيث قال : (( وأعوذ بك أن أغتال من تحتي )) لرداء آفتها - انتهى . ولا يخفى حسن موقع قوله : بعظمتك . وقوله : يعني الخسف كذا في جميع النسخ وهكذا وقع عند الحاكم . وفي المسند قال : يعني الخسف ، وفي أبي داود ، وابن ماجة ، وابن حبان (( قال وكيع ( راوي الحديث ) يعني الخسف )) ، وفي ابن السني قال جبير : ( أي ابن أبي سليمان بن جبير بن مطعم رواي الحديث عن ابن عمر ) : وهو الخسف . قال عبادة ( شيخ وكيع وتلميذ جبير ) : لا أدري هو قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قول جبير يعني هل فسره من قبل نفسه أورواه ؟ قال الحافظ : وكأن وكيعا لم يحفظ هذا التفسير فقال من نفسه - انتهى . ( رواه أبو داود ) في الأدب وأخرجه أيضا أحمد (ج2 : ص26) ، والنسائي في الكبرى مطولا وفي
2421- (18) عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال حين يصبح اللهم أصبحنا نشهدك ونشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك إلا غفر الله له ما أصابه في يومه ذلك من ذنب وإن قالها حين يمسي غفر الله له ما أصاب تلك الليلة من ذنب . رواه الترمذي وأبوداود وقال الترمذي : هذا حديث غريب .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/274)


الصغرى مختصرا ، وابن ماجة في الدعاء ، والبخاري في الأدب المفرد في موضعين ، وابن حبان في صحيحه ، والحاكم (ج1 : ص517) ، وابن أبي شيبة ، وابن السني (ص14) ، وقد سكت عنه أبو داود والمنذري . وقال الحاكم : حديث صحيح الإسناد ، ووافقه الذهبي ، وقال النووي : رويناه بالأسانيد الصحيحة .
2421- قوله ( نشهدك ) من الإشهاد ، أي نجعلك شاهدا على إقرارنا بوحدانيتك في الألوهية والربوبية وهو إقرار للشهادة وتأكيد لها وتجديد لها في كل صباح ومساء وعرض من أنفسهم أنهم ليسوا عنها غافلين ، وقوله : (( أصبحنا ونشهد )) بصيغة الجمع للترمذي ، وفي أبي داود (( اللهم إني أصبحت وأشهدك حملة عرشك )) ، ( وملائكتك ) بالنصب عطف على ما قبله تعميما بعد تخصيص ( وجميع خلقك ) ، أي مخلوقاتك تعميم آخر ( أنك ) ، بفتح الهمزة ، أي على شهادتنا واعترافنا بأنك ( أنت الله هذا لفظ أبي داود ، وفي الترمذي بأنك الله ( إلا غفر الله له ) ، قال القاري : استثناء مفرغ مما هو جواب محذوف للشرط المذكور ، أي الذي قال فيه ذلك الذكر تقديره : ما قال قائل هذا الدعاء إلا غفر له ، أو يقدر نفي ، أي من قال ذلك لم يحصل له شيء من الأحوال إلا هذه الحالة العظيمة من المغفرة الجسيمة فعلى هذا (( من )) في (( من قال )) بمعنى ما النافية ، ويمكن أن تكون (( إلا )) زائدة - انتهى . قال الشيخ : كون إلا ههنا زائدة هو الظاهر وقد صرح صاحب القاموس بأنها قد تكون زائدة ( ما أصابه في يومه ذلك من ذنب ) زيادة (( من ذنب )) لأبي داود فقط ( وإن قالها ) أي هذه الكلمات ( حين يمسي غفر الله له ما أصابه في تلك الليلة من ذنب ) ، أي أي ذنب كان واستثنى الكبائر ، وكذا ما يتعلق بحقوق العباد والإطلاق للترغيب مع أن الله يغفر ما دون الشرك لمن يشاء . ( رواه الترمذي ) في الدعوات ، ( وأبو داود ) في الأدب واللفظ للترمذي ، وأخرجه أيضا النسائي في عمل اليوم والليلة ، والطبراني في الأوسط كلهم

(16/275)


من رواية بقية بن الوليد عن مسلم بن زياد الشامي عن أنس . وبقية مدلس ورواه عندهم بالعنعنة ، نعم صرح بالتحديث عند ابن السني (ص25) ، في رواية المتن الآتي . واعلم أن حديث أنس هذا ليس في رواية اللؤلؤي ، ولذلك لم يذكره المنذري في مختصر السنن ، قال الحافظ المزي في الأطراف (ج1 : ص406) : وحديث أبي داود في رواية أبي بكر بن داسة عنه ولم يذكره أبو القاسم انتهى . وروى أبو داود ، وابن السني (ص234) من طريق مكحول عن أنس مرفوعا (( من قال حين يصبح أو يمسي : اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وأن محمدا عبدك
2422- (19) وعن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من عبد مسلم يقول إذا أمسى وإذا أصبح ثلاثا : رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا إلا كان حقا على الله أن يرضيه يوم القيامة . رواه أحمد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ورسولك أعتق الله ربعه من النار ، فمن قالها مرتين أعتق الله نصفه ، ومن قالها ثلاثا أعتق الله ثلاثة أرباعه ، فإن قالها أربعا أعتقه الله من النار )) ، وقد سكت عنه أبو داود . قال النووي : روينا في سنن أبي داود بإسناد جيد لم يضعفه . وقال المنذري في مختصر السنن : في إسناده عبد الرحمن بن عبد الحميد أبو رجاء المهري مولاهم المصري المكفوف . قال ابن يونس : كان يحدث حفظا وكان أعمى وأحاديثه مضطربة - انتهى . وقال في حاشية شرح السنة (ج5 : ص111) : قد حسن هذا الحديث الحافظ ابن حجر في أمالي الأذكار كما نقله عنه ابن علان في الفتوحات الربانية (ج3 : ص105 ، 106) .

(16/276)


2422- قوله ( ما من عبد مسلم يقول إذا أمسى وإذا أصبح ثلاثا ) لفظ أحمد من رواية أبي سلام ممطور الحبشي التابعي عن رجل خدم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (( ما من عبد مسلم يقول حين يصبح وحين يمسي ثلاث مرات )) إلخ ، ولفظ الترمذي من رواية أبي سلمة عن ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قال حين يمسي رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، كان حقا على الله أن يرضيه . ( رضيت بالله ) ، أي بقضائه . وقال القاري : هو يشمل الرضا بالأحكام الشرعية والقضايا الكونية ( وبالإسلام ) ، أي بأحكامه ( دينا ) فيه التبرؤ عن جميع ما سوى الإسلام من الأديان ( وبمحمد ) ، أي بمتابعته ( نبيا ) ، وفي حديث أبي سلام عن خادم النبي - صلى الله عليه وسلم - (( وبمحمد رسولا )) ، قال النووي في الأذكار بعد ذكر الروايتين : فيستحب أن يجمع الإنسان بينهما فيقول نبيا رسولا ولو اقتصر على أحدهما كان عاملا بالحديث . قيل : ويصح أن يقول (( نبيا ورسولا )) بواو العطف لأن المراد إثبات الوصفين له - صلى الله عليه وسلم - عملا بقضية الخبرين ، والمنصوبات تمييزات ، ويمكن أن تكون حالات مؤكدات ( إلا كان حقا على الله ) ، أي يمضي وعده ، وقيل : أي واجبا على الله وجوب تفضل وتكرم ورحمة وهو الذي أوجب ذلك على نفسه حيث قال ? كتب ربكم على نفسه الرحمة ? (6 : 54) والمعنى أن الله عز وجل يحقق لهذا العبد ما وعده وهو إعطاءه من واسع فضله ، وقوله حقا خبر كان ( أن يرضيه ) من الإرضاء ، أي يعطيه ثوابا جزيلا حتى يرضى . وهو اسم كان والجملة خبر ما والاستثناء مفرغ ( يوم القيامة ) ، هذا عند أحمد فقط ( رواه أحمد ) لم أجد الحديث عند أحمد في مسند ثوبان ، نعم رواه أحمد (ج4 : ص337 ، وج5 : ص367) ، من رواية أبي عقيل عن سابق بن ناجية عن أبي سلام قال : مر رجل في مسجد حمص فقالوا : هذا خدم

(16/277)


النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال : فقمت إليه فقلت : حدثني حديثا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتداوله بينك وبينه الرجال . قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ما من عبد إلخ . وهكذا رواه أبو داود في الأدب ، والنسائي في الكبرى ، وابن ماجة في الدعاء والحاكم ، (ج1 : ص518) وابن أبي شيبة
والترمذي .
2423- (20) عن حذيفة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن ينام وضع يده تحت رأسه ثم قال : اللهم قني عذابك يوم تجمع أو تبعث عبادك . رواه الترمذي .
2424- (21) ورواه أحمد عن البراء .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والطبراني ، وابن السني (ص24) ، وابن سعد والروياني ، والبغوي وغيرهم ، وقد سكت عنه أبو داود ، والمنذري وجود النووي سنده وقال الهيثمي (ج10 : ص116) : رجال أحمد والطبراني ثقات . وقال البوصيري : إسناده صحيح رجاله ثقات . وقال الحاكم : حديث صحيح الإسناد ، ووافقه الذهبي . قيل : والخادم المبهم عند هؤلاء المخرجين هو ثوبان . والله أعلم . ( والترمذي ) في الدعوات من طريق سعيد بن المرزبان البقال عن أبي سلمة عن ثوبان . وسعيد بن المرزبان ضعيف مدلس باتفاق الحفاظ ، وقد قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب . والظاهر أنه حسنه لشواهده . منها حديث أبي سلام عن خادم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد تقدم أن سنده جيد ، ومنها حديث أبي سعيد عند ابن حبان والحاكم وصححه ووافقه الذهبي ، ومنها حديث المنيذر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخرجه الطبراني وابن مندة كما في مجمع الزوائد (ج10 : ص116) ، وفي الإصابة (ج4 : ص192) ، وفي إسناده رشدين وهو ضعيف وقع بعض نسخ المشكاة بعد الترمذي ، (( وأبو داود )) وهو خطأ من الناسخ .

(16/278)


2423- قوله ( وضع يده ) ، أي اليمنى كما في رواية أحمد ( تحت رأسه ) ، وفي رواية (( تحت خده )) وهو محمول على اختلاف الأوقات فكان تارة كذا ، وتارة كذا . أو على أن بعض اليد تحت خده وبعضها تحت رأسه فعبر عن بعض ما تبين له أو يكون ذلك لقرب كل واحد منهما من الآخر ( اللهم قني ) بكسر القاف أمر من وقي يقي ، أي احفظني ( يوم تجمع أو تبعث عبادك ) ، أي يوم القيامة وأو للشك من الراوي يشك هل قال : تجمع أو تبعث . وقد ورد في حديث ابن مسعود عند أحمد تجمع بغير شك وسيأتي في حديث حفصة (( تبعث )) بغير شك ، فأي اللفظين قال جاز له ذلك . ولما كان النوم في حكم الموت والاستيقاظ كالبعث دعا بهذا الدعاء متذكرا لتلك الحالة ويستحب أن يقول ذلك ثلاث مرات كما سيأتي في حديث حفصة ( رواه الترمذي ) في الدعوات ، أي عن حذيفة وقال : حديث حسن صحيح . قلت : وصححه أيضا الحافظ وحديث حذيفة هذا رواه أيضا الحميدي في مسنده (ج1 : ص210 ، 211) ، وأحمد (ج5 ص382) ونسبه الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص88) للترمذي والبزار .
2424- قوله ( ورواه أحمد عن البراء ) (ج4 : ص281 ، 290 ، 298 ، 300 ، 301 ، 303) ، وأخرجه أيضا الترمذي في السنن وفي الشمائل والبغوي في شرح السنة ، (ج5 : ص97) ، والنسائي في اليوم والليلة ، وابن حبان في صحيحه وسنده
2425- (22) وعن حفصة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يرقد وضع يده اليمنى تحت خده ثم يقول : اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك . ثلاث مرات . رواه أبو داود .

(16/279)


2426- (23) وعن علي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند مضجعه : اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم وكلماتك التامات من شر ما أنت آخذ بناصيته اللهم أنت تكشف المغرم والمأثم اللهم لا يهزم جندك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيح كما قال الحافظ : وصنيع المصنف يدل على أن حديث حذيفة ليس عند أحمد ، وحديث البراء لم يروه الترمذي والأمر ليس كذلك كما عرفت .
2425- قوله ( وعن حفصة ) أم المؤمنين رضي الله عنها ( كان إذا أراد أن يرقد ) ، أي ينام ( قني عذابك يوم تبعث عبادك ) فيه أنه ينبغي للعاقل أن يجعل النوم وسيلة لذكر الموت والبعث الذي بعده ( ثلاث مرات ) ، في بعض النسخ مرار ( رواه أبو داود ) في الأدب وسكت عنه هو والمنذري وقال : وأخرجه النسائي أيضا مختصرا في وضع الكف خاصة . قلت : وأخرجه أيضا أحمد (ج6 : ص287 ، 288) ، وابن السني (ص231 ، 232) مختصرا ومطولا وعزاه في الحصن للبزار ، وابن أبي شيبة أيضا ، وفي الباب عن ابن مسعود أخرجه أحمد (ج1 : ص395 ، 401 ، 415 ، 444) ، وابن ماجة ، ورجال إسناده ثقات إلا أنه منقطع أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه شيئا .

(16/280)


2426- قوله ( كان يقول عند مضجعه ) اسم مكان أي عند اضطجاعه في مضجعه أو اسم زمان أو مصدر ( إني أعوذ بوجهك ) ، أي بذاتك والوجه يعبر به عن الذات كما في قوله تعالى : ? كل شيء هالك إلا وجهه ? (28 : 88) ( وكلماتك التامات ) وفي بعض النسخ من سنن أبي داود (( التامة )) ، أي بالإفراد ، أي الكاملات في إفادة ما ينبغي وهي أسماءه وصفاته أو آياته القرآنية ( من شر ما أنت آخذ بناصيته ) ، أي هو في قبضتك وتصرفك كقوله تعالى : ? ما من دآبة إلا هو آخذ بناصيتها ? (11 : 56) ، وهي عبارة عن القدرة أي من شر جميع الأشياء لأنه على كل شيء قدير . ( أنت تكشف ) ، أي تزيل وتدفع ( المغرم ) مصدر وضع موضع الاسم والمراد مغرم الذنوب والمعاصي ، وقيل المغرم كالغرم الدين . والمراد به ما استدين فيما يكرهه الله أو فيما يجوز ثم يعجز عن أداءه ، فأما دين احتاج إليه وهو قادر على أداءه فلا يستعاذ منه ذكره الجزري في النهاية ، وقال التوربشتي : الغرم والمغرم ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر بغير جناية منه وكذلك ما يلزمه أداءه ، ومنه الغرامة والغريم الذي عليه الدين والأصل فيه الغرام وهو الشر الدائم والعذاب والمراد من المغرم ما يلزم به الإنسان من غرامة أو يصاب به في ماله من خسارة وما يلزمه كالدين وما يلحق به من المظالم ( والمأثم ) ، أي ما يأثم به الإنسان أو هو الإثم نفسه وضعا للمصدر موضع الاسم ( لا يهزم ) بصيغة المجهول ، أي لا يغلب ولو في عاقبة الأمر
ولا يخلف وعدك ولا ينفع ذا الجد منك الجد سبحانك وبحمدك . رواه أبو داود .

(16/281)


2427- (24) وعن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قال حين يأوي إلى فراشه أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاث مرات غفر الله له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر أو عدد رمل عالج
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( ولا يخلف وعدك ) ، بصيغة المجهول من الإخلاف ورفع وعدك ، وفي بعض النسخ بلفظ المخاطب المعلوم فوعدك منصوب ، ( ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) ، الجد بفتح الجيم وفسر بالغني وعليه الأكثرون ، أي لا ينفع ذا الغني غناه منك ، أي بدل طاعتك وإنما ينفعه العمل الصالح ، وقيل : الجد هو البخت والحظ والعظمة ، أي لا ينفعه ولا ينجيه حظه بالمال والولد والعظمة إنما ينفعه وينجيه منك فضلك ورحمتك . قال الجزري الجد البخت ، وقيل : الغني ، أي لا ينفع المبخوت والمسعود حظه وغناه اللذان هما منك ، إنما ينفعه العمل والطاعة والإخلاص - انتهى . وقيل منك معناه عندك . وقيل الجد أبو الأب والأم ، أي لا ينفع أحدا مجرد نسبه ، وقيل الجد بكسر الجيم بمعنى الجد والاجتهاد في الدنيا ، والمعنى أن صاحب الجد على حيازة الدنيا الحريص عليها لا ينفعه ذلك وإنما ينفعه عمل الآخرة ( سبحانك وبحمدك ) ، أي أجمع بين تننزيهك وتحميدك ( رواه أبو داود ) في الأدب وأخرجه أيضا النسائي ، وابن أبي شيبة وسكت عنه أبو داود وصححه النووي .

(16/282)


2427- قوله ( أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ) ، يجوز فيهما النصب صفة لله بعد صفة أو مدحا بعد مدح ، والرفع بدلا من الضمير أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ( وأتوب إليه ) ، أي أطلب المغفرة وأريد التوبة فكأنه قال : اللهم اغفر لي ووفقني للتوبة ( ثلاث مرات ) ظرف قال ( غفر الله له ذنوبه ) ، أي المتعلقة بحق الله أو الذنوب مطلقا إن قصد بذلك التوبة وعدم العود وعجز عن إرضاء أصحاب الحقوق فلا يبعد أن الله تعالى يقبل توبته ويرضي خصومه من عنده وفضل الله واسع ( وإن كانت ) ، أي ولو كانت ذنوبه في الكثرة ( مثل زبد البحر ) ، الزبد محركة ما يعلو الماء وغيره من الرغوة ( أو ) للتنويع ( عدد رمل عالج ) بفتح اللام وكسرها . قال في مرآة الزمان : عالج موضع بالشام رمله كثير ، وقال الطيبي : موضع بالبادية فيه رمل كثير ، وفي النهاية : العالج ما تراكم من الرمل ودخل بعضه على بعض وجمعه عوالج . فعلى هذا لا يضاف الرمل إلى عالج لأنه صفة له ، أي رمل يتراكم ، وفي التحرير عالج موضع مخصوص فيضاف ، قال ميرك : الرواية بالإضافة فعلى قول صاحب النهاية وجهه أن يقال : إنه من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة أو الإضافة بيانية وعدد منصوب عطفا على مثل ويجوز جره عطفا على الزبد وكذا قوله أو عدد ورق الشجر أو عدد أيام الدنيا . كذا في المرقاة . قلت : لفظ الترمذي (( وإن كانت عدد ورق الشجر وإن كانت عدد رمل عالج وإن كانت عدد أيام الدنيا ، وهذا يعين أن العدد في لفظ المشكاة منصوب عطفا على مثل ، والمصنف تبع البغوي في نقل لفظ الحديث ، وفي
أو عدد ورق الشجر أو عدد أيام الدنيا . رواه الترمذي وقال : هذا حديث غريب .

(16/283)


2428- (25) وعن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من مسلم يأخذ مضجعه بقرأة سورة من كتاب الله إلا وكل الله به ملكا فلا يقربه شيء يؤذيه حتى يهب متى هب . رواه الترمذي .
2429- (26) وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خلتان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث فضيلة عظيمة ومنقبة جليلة في مغفرة ذنوب القائل بهذا الذكر ثلاث مرات وإن كانت بالغة إلى هذا الحد الذي لا يحيط به عدد وفضل الله واسع وعطاؤه جم ( رواه الترمذي ) في الدعاء من طريق عبيد الله بن الوليد الوصافي عن عطية عن أبي سعيد ، وعبيد الله بن الوليد هذا ضعيف متروك وعطية بن سعد العوفي قال في التقريب عنه : صدوق يخطئ كثيرا وكان شيعيا مدلسا ( وقال هذا حديث غريب ) وفي نسخ الترمذي الموجودة عندنا (( هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث عبيد الله بن الوليد الوصافي )) وهكذا نقل المنذري في الترغيب وقال بعد ذكره : عبيد الله هذا واه ولكن تابعه عليه عصام بن قدامة وهو ثقة خرجه البخاري في تاريخه من طريقه بنحوه وعطية هذا هو العوفي ، قال أحمد وغيره ضعيف الحديث . وقال أبو حاتم : ضعيف يكتب حديثه ووثقه ابن معين وغيره ، وحسن له الترمذي غير ما حديث وأخرج حديثه ابن خزيمة في صحيحه ، وقال في القلب من عطية شيء .

(16/284)


2428- قوله ( ما من مسلم يأخذ مضجعه بقراءة سورة ) ، أي مفتتحا بقراءة سورة وقيل : أي متلبسا بقراءتها ، وقوله (( بقراءة )) كذا في كثير من نسخ المشكاة ، وهكذا وقع في المصابيح ووقع في بعض نسخ المشكاة (( يقرأ )) بلفظ المضارع وهكذا وقع في الترمذي وذكره في جامع الأصول بلفظ (( فيقرأ )) ، أي بزيادة الفاء على صيغة المضارع . وهكذا وقع عند أحمد ، وابن السني ( من كتاب الله ) ، أي القرآن المجيد ( إلا وكل الله به ملكا ) ، أي أمره بأن يحرسه من المضار وهو استثناء مفرغ ( فلا يقربه ) بفتح الراء ( شيء يؤذيه ) ، وفي رواية أحمد (( إلا بعث الله عز وجل إليه ملكا يحفظه من كل شيء يؤذيه )) ولابن السني ، (( إلا وكل الله عز وجل به ملكا لا يدع شيئا يقربه ويؤذيه )) ( حتى يهب ) بضم الهاء وتشديد الباء من باب نصر ( متى هب ) ، أي يستيقظ متى استيقظ بعد طول الزمان أو قربه من النوم ( رواه الترمذي ) في الدعوات وأخرجه أيضا أحمد (ج4 : ص125) ، وابن السني (ص238) كلهم من رواية أبي العلاء بن الشخير عن رجل من بني حنظلة عن شداد بن أوس ، قال الترمذي : هذا حديث غريب . وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10 : ص120) ، وقال : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح وحسنه السيوطي كما قال الشوكاني : في تحفة الذاكرين (ص87) ورد عليهما بأن في إسناده مجهولا وهو الحنظلي وأيضا قد ضعف النووي في الأذكار إسناده .
2429- قوله ( خلتان ) بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام ، أي خصلتان كما صرح بذلك في بعض روايات

(16/285)


لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة ألا وهما يسير ومن يعمل بهما قليل يسبح الله في دبر كل صلاة عشرا ويحمده عشرا ويكبره عشرا قال : فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدها بيده . قال : فتلك خمسون ومائة باللسان وألف وخمسمائة في الميزان وإذا أخذ مضجعه يسبحه ويكبره ويحمده مائة فتلك مائة باللسان وألف في الميزان فأيكم يعمل في اليوم والليلة ألفين وخمسمائة سيئة ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/286)


الحديث ( لا يحصيهما رجل مسلم ) ، أي لا يحافظ عليهما كما في رواية أحمد (ج2 : ص206) ، والحميدي (ج1 : ص265) ، وأبي داود ، يعني لا يواظب عليهما . قيل : والأظهر أنه ليس المراد إجراء هذه الألفاظ على اللسان فقط بل التذكر والتيقظ في فهم معانيها وإن لم يحرم من البركة من يذكرها وقلبه لاه عنها ( إلا دخل الجنة ) ، أي مع الناجين . وقيل : أي مع السابقين وإلا فإنه يدخل الجنة كل مؤمن إن شاء الله تعالى وإن كان بعد أمد والاستثناء مفرغ وفيه بشارة عظيمة بحسن الخاتمة للمواظب على هذه الأذكار ( ألا ) بالتخفيف حرف تنبيه ( وهما ) ، أي الخصلتان وهما الوصفان كل واحد منهما ( يسير ) ، أي سهل خفيف لعدم صعوبة العمل بهما على من يسره الله ( ومن يعمل بهما ) ، أي على وصف المداومة ( قليل ) عددهم ، أي نادر لعزة التوفيق وجملة التنبيه معترضة لتأكيد التحضيض على الإتيان بهما والترغيب في المداومة عليهما ، والظاهر أن الواو في (( وهما للحال والعامل فيه معنى التنبيه . قاله القاري . ( يسبح الله ) بأن يقول سبحان الله ، وهو بيان لإحدى الخلتين والضمير للرجل المسلم ( في دبر ) بضمتين ، أي عقب ( كل صلاة ) ، أي مكتوبة كما في رواية أحمد (ج2 : ص162) ( عشرا ) ، أي من المرات ( ويحمده ) بأن يقول الحمد لله ( ويكبره ) بأن يقول الله أكبر ( قال ) ، أي ابن عمرو ( يعقدها ) ، أي العشرات ( بيده ) ، أي بأصابعها أو بأناملها أو بعقدها . والمراد يضبط الأذكار المذكورة وبحفظ عددها أو يعقد لأجلها بيده . ( قال ) : أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ( فتلك ) ، أي العشرات الثلاث دبر كل صلاة من الصلوات الخمس ( خمسون ومائة ) ، أي في يوم وليلة حاصلة من ضرب ثلاثين في خمسة ، أي مائة وخمسون حسنة ( باللسان ) ، أي بمقتضى نطقه في العدد ( وألف وخمسمائة في الميزان ) ، لأن كل حسنة بعشر أمثالها على أقل مراتب المضاعفة الموعودة في الكتاب والسنة ( وإذا أخذ مضجعه )

(16/287)


، في الترمذي (( وإذا أخذت مضجعك تسبحه وتكبره وتحمده )) وهذا بيان للخلة الثانية ( يسبحه ويكبره ويحمده مائة ) ، أي مائة مرة يعني يسبح الله ثلاثا وثلاثين ، ويكبره أربعا وثلاثين ، ويحمده ، ثلاثا وثلاثين ، فيكون عدد المجموع مائة يدل على ذلك رواية النسائي ، وابن السني . (( وإذا أوى أحدكم إلى فراشه أو مضجعه يسبح ثلاثا وثلاثين ، ويحمد ثلاثا وثلاثين ، وكبر أربعا وثلاثين )) ، ولأبي داود (( ويكبر أربعا وثلاثين إذا أخذ مضجعه ويحمد ثلاثا وثلاثين ، ويسبح ثلاثا وثلاثين )) . ( فتلك ) ، أي المائة من أنواع الذكر ( مائة ) ، أي مائة حسنة ( وألف ) ، أي ألف حسنة على جهة المضاعفة ( فأيكم يعمل في اليوم والليلة ألفين وخمس مائة سيئة ) كذا عند أحمد ، والنسائي ، وابن ماجة ، والبخاري في
قالوا : وكيف لا نحصيها ؟ قال : يأتي أحدكم الشيطان وهو في صلاته فيقول اذكر كذا اذكر كذا حتى ينفتل فلعله لا يفعل ويأتيه في مضجعه فلا يزال ينومه حتى ينام . رواه الترمذي وأبو داود
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/288)


الأدب المفرد وفي الترمذي ، (( ألفي وخمسائة سيئة )) وفي مسند الحميدي (( ألفي سيئة وخمسمائة سيئة )) قال القاري : الفاء جواب شرط محذوف وفي الاستفهام نوع إنكار يعني إذا حافظ على الخصلتين وحصل ألفان وخمسمائة حسنة في يوم وليلة فيعفي عنه بعدد كل حسنة سيئة كما قال تعالى : ? إن الحسنات يذهبن السيئات ? (11 : 114) فأيكم يأتي بأكثر من هذا من السيئات في يومه وليلته حتى لا يصير معفوا عنه فما لكم لا تأتون بهما ولا تحصونهما ؟ انتهى . وقال السندي : في حاشية النسائي : قوله : ((فأيكم يعمل )) إلخ ، أي لتساوي هذه الحسنات ولا يبقى منها شيء ، أي بل السيئات في العادة أقل من هذا العدد فتغلب عليها هذه الحسنات الحاصلة بهذا الذكر المبارك ، وقال في حاشية ابن ماجة : أي إنها تدفع هذا العدد من السيئات وإن لم تكن له سيئات بهذا العدد ترفع له بها درجات وقلما يعمل الإنسان في اليوم والليلة هذا القدر من السيئات فصاحب هذا الورد مع حصول مغفرة السيئات لابد أن يحرز بهذا الورد فضيلة هذه الدرجات ( قالوا وكيف لا نحصيها ) ، أي المذكورات ، وفي رواية أحمد (( قالوا : كيف من يعمل بهما قليل )) ؟ والمعنى أنهم قالوا مستفهمين استفهام تعجب إذا كان هذا الثوب الجزيل لمن يعمل هذا العمل القليل فكيف يقل العاملون به ؟ قال الطيبي : أي كيف لا نحصي المذكورات في الخلتين ، وأي شيء يصرفنا فهو استبعاد لإهمالهم في الإحصاء فرد استبعادهم بأن الشيطان يوسوس له في الصلاة حتى يغفل عن الذكر عقيبها وينومه عند الاضطجاع كذلك . وهذا معنى قوله ( قال ) : أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ( يأتي أحدكم ) مفعول مقدم ( فيقول ) ، أي يوسوس له ويلقي في خاطره ( اذكر كذا اذكر كذا ) ، من الأشغال الدنيوية والأحوال النفسية الشهوية أو ما لا تعلق له بالصلاة ولو من الأمور الأخروية ( حتى ينفتل ) ، أي ينصرف عن الصلاة ( فلعله ) ، أي فعسى ( أن لا يفعل )

(16/289)


، أي الإحصاء ، قيل : الفاء في (( فلعله )) جزاء شرط محذوف يعني أن الشيطان إذا كان يفعل كذا فعسى الرجل أن لا يفعل ، وإدخال إن في خبره دليل على أن لعل ههنا بمعنى عسى ، وفيه إيماء إلى أنه إذا كان يغلبه الشيطان عن الحضور المطلوب المؤكد في صلاته ، فكيف لا يغلبه ولا يمنعه عن الأذكار المعدودة من السنن في حال انصرافه عن طاعته ، وفي راوية أحمد (ج2 : ص206) (( فيذكر حاجة كذا فيقوم ولا يقولها )) ، والمعنى أنه ينصرف عن الصلاة وهو مشغول بالحاجة التي ذكره بها الشيطان فلا يقول الذكر المطلوب إما نسيانا أو عمدا لاشتغاله بغيره ، وهكذا يفعل معه عند النوم حتى ينام بدون ذكر ( ويأتيه ) ، أي الشيطان أحدكم ( فلا يزال ينومه ) بتشديد الواو ، أي يلقي عليه النوم ( حتى ينام ) ، أي بدون الذكر ، وفي رواية أحمد (( فينومه فلا يقولها )) وفي أخرى له أيضا ولأبي داود (( فينومه قبل أن يقولها )) ( رواه الترمذي ) في الدعوات من طريق إسماعيل بن علية عن عطاء ابن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو ( وأبو داود ) في الأدب من
والنسائي . وفي رواية أبي داود قال : خصلتان أو خلتان لا يحافظ عليهما عبد مسلم وكذا في روايته بعد قوله (( وألف وخمسمائة في الميزان )) . قال : ويكبر أربعا وثلاثين إذا أخذ مضجعه ويحمد ثلاثا وثلاثين ويسبح ثلاثا وثلاثين . وفي أكثر نسخ المصابيح (( عن عبد الله بن عمر )) .
2430- (27) وعن عبد الله بن غنام قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من قال حين يصبح اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/290)


رواية شعبة عن عطاء ، ( والنسائي ) في الصلاة من طريق حماد بن زيد عن عطاء واللفظ للترمذي ، وأخرجه أيضا أحمد (ج2 : ص160 ، 161) من طريق جرير عن عطاء ، و (ج2 : ص205) من طريق شعبة ، وابن ماجة في الصلاة من طريق ابن علية ومحمد بن فضيل وأبي يحيى التيمي ، وابن الأجلح عن عطاء والحميدي في مسنده (ج1 : ص265) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2 : ص621) من طريق سفيان عن عطاء ، وابن حبان من طريق حماد بن زيد عنه ، وابن السني (ص236) من طريق حماد بن سلمة عن عطاء . قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح وسكت عنه أبو داود ، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره . وقال النووي في الأذكار : إسناد صحيح إلا أن فيه عطاء بن السائب وفيه اختلاف بسبب اختلاطه . قلت : قال المنذري قال أحمد فيه : ثقة ثقة صالح من سمع منه قديما ، أي قبل الاختلاط والتغير كان صحيحا ومن سمع منه حديثا لم يكن بشيء . وقال النسائي : ثقة في حديثه القديم لكنه تغير ، ورواية الثوري وحماد بن زيد عنه جيدة وصحح حديثه الترمذي ، وابن خزيم ، وابن حبان ، والحاكم وغيرهم - انتهى . قلت : سمع سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد من عطاء قبل الاختلاط كما في تهذيب التهذيب ويكفي في صحة الحديث من هؤلاء التسعة الذين رووه عن عطاء ، شعبة ، والثوري ، وحماد بن زيد الذين سمعوا من عطاء قديما . ( وفي رواية أبي داود قال خصلتان أو خلتان ) . أي على الشك وكذا وقع بالشك في رواية أحمد (ج2 ص206) ( لا يحافظ عليهما عبد مسلم ) ، أي بدل لا يحصيهما رجل مسلم ، ( وكذا في روايته ) ، أي رواية أبي داود ( وفي أكثر نسخ المصابيح عن عبد الله بن عمر ) ، أي بدون الواو وهو خطأ من غير شك فإن الحديث من مسند عبد الله بن عمرو بن العاص عند جميع المخرجين .

(16/291)


2430- قوله ( عند عبد الله بن غنام ) بفتح الغين المعجمة وتشديد النون وبعد الألف ميم . ابن أوس بن عمرو بن مالك بن عامر بن بياضة الأنصاري البياضي صحابي له حديث في سنن أبي داود والنسائي في القول عند الصباح يرويه عنه عبد الله بن عنبسة ، ويأتي بقية الكلام عليه عند تخريج الحديث ، ( ما أصبح بي ) ، أي حصل لي في الصباح . قاله القاري . وقيل : أي ما أصبح متصلا بي ، ( من نعمة ) ، أي دنيوية أو أخروية ( أو بأحد من خلقك ) أو للتنويع والمراد التعميم ، وهذا ليس في رواية أبي داود نعم هو عن النسائي كما يظهر من تحفة الذاكرين وكذا هو في حديث ابن عباس عند ابن حبان
فمنك وحدك لا شريك لك ، فلك الحمد ولك الشكر . فقد أدى شكر يومه . ومن قال مثل ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته . رواه أبو داود .
2431- وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا أوى إلى فراشه :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/292)


وابن السني ( فمنك ) ، أي فحاصل منك ( وحدك ) حال من الضمير المتصل في قوله (( فمنك )) ، أي فهو حاصل منك منفردا ( ومن قال مثل ذلك حين يمسي ) لكن يقول أمسى بدل أصبح ( فقد أدى شكر ليلته ) ، هذا يدل على أن الشكر هو الاعتراف بالمنعم الحقيق ورؤية كل النعم دقيقها وجليلها منه ، وكماله أن يقوم بحق النعم ويصرفها في مرضاة المنعم . قال الشوكاني : وفي الحديث فضيلة عظمية ومنقبة كريمة حيث تكون تأدية واجب الشكر بهذه الألفاظ اليسيرة القليلة وأن قائلها صباحا قد أدى شكر يومه وقائلها مساء قد أدى شكر ليلته مع أن الله تعالى يقول : ? وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها ? ( 14 : 34) وإذا كانت النعم لا يمكن إحصاءها فكيف يقدر العبد على شكرها فلله الحمد ولله الشكر على هذه الفائدة الجليلة المأخوذة من معدن العلم ومنبعه - انتهى . ( رواه أبو داود ) في الأدب ، وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى ، والبغوي في شرح السنة (ج5 : ص115) كلهم من طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن الرأي عن عبد الله بن عنبسة عن عبد الله بن غنام البياضي ، وقد سكت عنه أبو داود ، وقال النووي : روينا في سنن أبي داود بإسناد جيد لم يضعفه عن عبد الله بن غنام فذكره . وقال الشوكاني : وجود النسائي إسناده ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه ، وابن السني (ص15) من طريق ربيعة الرأي عن عبد الله بن عنبسة عن ابن عباس ، وهذا تصحيف من بعض الرواة ، والصحيح ابن غنام ، قال الحافظ : في تهذيب التهذيب (ج5 : ص354) ، عبد الله بن عنبسة عن عبد الله بن عباس ، وقيل : ابن غنام البياضي وهو الصحيح حديث (( من قال حين يصبح : اللهم ما أصبح بي من نعمة )) ، وعنه ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومحمد بن سعيد الطائفي ، روى له أبو داود ، والنسائي هذا الحديث الواحد ، ووقع في رواية النسائي على الوجهين ورجح الطبراني وغيره ابن غنام ، قلت ( قائله الحافظ ) : وقال أبو زرعة : لا أعرفه إلا في

(16/293)


حديث واحد ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه فقال ابن عباس ، وأما أبو نعيم فجزم في معرفة الصحابة بأن من قال ابن عباس فقد صحف ، وكذا قال ابن عساكر أنه خطأ - انتهى .
2431- قوله ( أنه كان يقول إذا أوى ) بقصر الهمزة ومدها وجهان ومعناه الاضطجاع للنوم ( إلى فراشه ) ، هذا لفظ أحمد ، والبخاري في الأدب المفرد ، وأبي داود وابن ماجة في رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة ، ولمسلم ، وابن السني عن سهيل قال : كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمين ، ثم يقول : اللهم رب السموات إلخ ، وكان يروي ذلك عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وللترمذي ، ومسلم أيضا من طريق سهيل عن أبيه عن أبي هريرة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا إذا أخذ أحدنا مضجعه أن يقول : اللهم رب السموات ، إلخ ،
اللهم رب السموات ورب الأرض ورب كل شيء فالق الحب والنوى منزل التوراة والإنجيل والقرآن أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/294)


ورواه أيضا ابن ماجة من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : أتت فاطمة النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأله خادما فقال لها : ما عندي أعطيك . فرجعت فأتاها بعد ذلك . فقال : الذي سألت أحب إليك أو ما هو خير منه فقال لها علي : قولي لا بل ما هو خير منه . فقالت . فقال : قولي اللهم رب السموات إلخ وهذه الرواية عند مسلم ، والترمذي أيضا لكن لم يسق مسلم لفظها ( اللهم رب السموات ) ، زاد في رواية لمسلم ، والترمذي ، وابن ماجة ، وأحمد لفظه (( السبع )) ( ورب الأرض ) ، وللترمذي (( ورب الأرضين )) ، أي خالقهما ومربي أهلهما وزاد في رواية لمسلم ، وابن ماجة ، والترمذي ، وابن السني (( ورب العرش العظيم )) يجر العظيم صفة للعرش والنصب نعتا للرب ( ورب كل شيء ) تعميم بعد تخصيص ، وفي مسلم ، والترمذي (( ربنا ورب كل شيء ( فالق الحب ) الفلق الشق ( والنوى ) جمع النواة وهي عجم التمر وفي معناه عجم غيره والتخصيص لفضلها أو لكثرة وجودها في ديار العرب ، أي يامن يشق حب الطعام ونوى التمر ونحوهما بإخراج الزرع والنخيل منهما ( منزل التوراة ) من الإنزال وقيل : من التنزيل ( والإنجيل والقرآن ) زاد في رواية الأعمش عند ابن ماجة ، (( العظيم )) ولمسلم ، وابن السني الفرقان بدل القرآن لأنه فرق بين الحق والباطل ولعل ترك الزبور لأنه مندرج في التوراة أو لأنه ليس فيه أحكام إنما هو مواعظ . قال الطيبي : فإن قلت : ما وجه النظم بين هذه القرائن ؟ قلت : وجهه أنه - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر أنه تعالى رب السموات والأرض ، أي مالكهما ومدبر أهلهما عقبه بقوله ? فالق الحب والنوى ? لينتظم معنى الخالقية والمالكية لأن قوله تعالى : ? يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ? تفسير لفالق الحب والنوى ، ومعناه يخرج الحيوان النامي من النطفة والحب من النوى ? ويخرج الميت من الحي ? ، أي

(16/295)


يخرج هذه الأشياء من الحيوان والنامي ، ثم عقب ذلك بقوله (( منزل التوراة )) ليؤذن بأنه لم يكن إخراج الأشياء من كتم العدم إلى فضاء الوجود إلا ليعلم ويعبد ولا يحصل ذلك إلا بكتاب ينزله ورسول يبعثه . كأنه قيل يا مالك ، يا مدبر ، يا هادي أعوذ بك - انتهى كلام الطيبي ( أعوذ ) ، أي أعتصم وألوذ ، ووقع في بعض النسخ (( وأعوذ )) بواو العطف وهو خطأ من الناسخ ( من شر كل ذي شر ) كذا لأحمد وأبي داود ، والترمذي ، والبخاري في الأدب المفرد ، وفي رواية مسلم والترمذي ، وابن السني (( من شر كل شيء )) ( أنت آخذ بناصيته ) ، أي من شر كل شيء من المخلوقات لأنها كلها في سلطانه وهو آخذ بنواصيها ، وفي رواية لمسلم ، وابن ماجة (( من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها )) ، أي أعوذ بك من شر كل دابة مؤذية ( أنت الأول ) ، وفي مسلم (( اللهم أنت الأول )) ، أي القديم الذي لا ابتداء له ( فليس قبلك شيء ) قيل هذا تقرير للمعنى السابق وذلك أن قوله (( أنت الأول )) مفيد للحصر قرينة الخير باللام فكأنه قيل : أنت مختص بالأولية فليس قبلك شيء ( وأنت الآخر ) ، أي الباقي بعد فناء خلقك لا انتهاء
فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء . اقض عني الدين وأغنني من الفقر . رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة ، ورواه مسلم مع اختلاف يسير .
2432- (29) وعن أبي الأزهر الأنماري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه من الليل قال :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/296)


لك ولا انقضاء لوجودك . وقال الجزري : أي الباقي بعد فناء خلقه كله ناطقة وصامتة ( فليس بعدك شيء ) لعدم البعدية ( وأنت الظاهر ) أي فلا ظهور لشيء ولا وجود له إلا من آثار ظهورك ووجودك ( فليس فوقك ) أي فوق ظهورك ( شيء ) يعني ليس شيء أظهر منك لدلالة الآيات الباهرة عليك . وقيل الظاهر هو الذي ظهر فوق كل شيء وعلا عليه . وليس فوقك شيء أي لا يقهرك شيء . أي : ليس فوقك غالب ( وأنت الباطن ) يعني الذي حجب أبصار الخلائق وأوهامهم عن إدراكه فلا يدركه بصر ولا يحيط به وهم ( فليس دونك شيء ) أي لا يحجبك شيء عن إدراك مخلوقاتك يعني مع كونه يحتجب عن أبصار الخلائق فليس دونه ما يحجبه عن إدراكه شيئا من خلقه ، وقيل أنت الباطن أي بعظمة جلالك وكمال كبرياءك حتى لا يقدر أحد على إدراك ذاتك مع كمال ظهورك ، وقوله : فليس دونك شيء أي وراءك شيء يكون أبطن منك ، وقيل : الباطن هو العالم بما بطن . يقال : بطنت الأمر إذا عرفت باطنه ( اقض عني الدين واغنني من الفقر ) . وفي رواية مسلم ، والحاكم : اقض عنا الدين وأغننا من الفقر . قال النووي : يحتمل أن المراد بالدين هنا حقوق الله تعالى وحقوق العباد كلها من جميع الأنواع ، وأما معنى الظاهر من أسماء الله فقيل : هو من الظهور بمعنى القهر والغلبة وكمال القدرة ومنه ظهر فلان على فلان ، وقيل : الظاهر بالدلائل القطعية والباطن المحتجب عن خلقه ، وقيل : العالم بالخفيات ، وأما تسميته تعالى بالآخر فقال الإمام أبو بكر الباقلاني : معناه الباقي بصفاته من العلم والقدرة وغيرهما التي كان عليها في الأزل يكون كذلك بعد موت الخلائق وذهاب علومهم وقدرهم وحواسهم وتفرق أجسامهم - انتهى . ( رواه أبو داود ) في الأدب واللفظ له ، ( والترمذي ، وابن ماجة ) في الدعوات ، وأخرجه أيضا أحمد (ج ) ، والنسائي في الكبرى ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2 : ص619) ، وابن السنى (ص227) ، وابن أبي شيبة ، وأبو عوانة في

(16/297)


الدعوات ، وابن حبان ، والحاكم (ج1 : ص546) وقال : حديث صحيح الإسناد ، ووافقه الذهبي ، وسكت عنه أبو داود ، والمنذري . وقال الترمذي : حديث حسن صحيح . ( ورواه مسلم ) في الدعاء ( مع اختلاف يسير ) وقد ذكرنا مواضع الاختلاف .
2432- قوله : ( وعن أبي الأزهر ) ويقال : أبو زهير مصغرا ( الأنمارى ) بفتح الهمزة وسكون النون ويقال : النميري بالتصغير صحابي سكن الشام لا يعرف اسمه ، وقيل : يحيى بن نفير روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القول : إذا أخذ مضجعه . وعنه خالد بن معدان وغيره ( كان إذا أخذ مضجعه ) بفتح الميم والجيم أي موضع ضجوعه يعني استقر فيه لينام
بسم الله وضعت جنبي اللهم اغفر لي ذنبي وأخسئ شيطاني وفك رهاني واجعلني في الندي الأعلى . رواه أبو داود .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/298)


( بسم الله وضعت جنبي لله ) كذا في جميع النسخ من المشكاة وهكذا نقله في جامع الأصول وقع في المصابيح بدون (( لله )) وكذا في الأذكار ، والحصن ، والجامع الصغير . وهكذا وقع في سنن أبي داود . قال القاري : فوضعت متعلق الجار ويحتمل على الأول أيضا أن يتعلق بقوله : وضعت أي : باسم الله وضعت جنبي حال كون وضعه لله أي للتقوى على عبادته ( اللهم اغفر لي ذنبي ) المراد به ذنبه اللائق بذاته الشريفة أو وقع تعليما لأمته ( واخسأ شيطاني ) أي : اجعله خاسئا أي : مطرودا وهو بوصل الهمزة وفتح السين من خسأت الكلب أي : طردته وزجرته مستهينا به فانزجر وخسأ الكلب بنفسه فهو يتعدى ولا يتعدى ومنه قوله تعالى : ? قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون ? (23 : 108) والمعنى اجعله مطرودا عني كالكلب المهين . قال الطيبي : أضافه إلى نفسه لأنه أراد به قرينه من الجن أو أراد الذي يقصد إغواءه ويبغي غوايته أي من شياطين الإنس والجن ( وفك ) بضم الفاء وتشديد الكاف المفتوحة ويجوز ضمها وكسرها ( رهاني ) بكسر الراء كسهام أي خلص نفسي ورقبتي عن كل حق علي . وأصل الفك الفصل بين الشيئين وتخليص بعضهما من بعض . والرهان الرهن وجمعه ومصدر راهنه وهو ما يوضع وثيقة للدين يعني المال المحبوس عند المرتهن والمراد هنا نفس الإنسان لأنها مرهونة بعملها لقوله تعالى : ? كل نفس بما كسبت رهينة ? (74 : 38) وقوله : ? كل امرئ بما كسب رهين ? (52 : 21) ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : نفس المؤمن مرتهنة بدينه . أي محبوسة عن مقامها الكريم حتى يقضى عنه دينه . وفك الرهن تخليصه من يد المرتهن يعني خلص نفسي عن حقوق الخلق ومن عقاب ما اقترفت من الأعمال التي لا ترتضيها بالعفو عنها ، وزاد في المستدرك وعمل اليوم والليلة لابن السني (( وثقل ميزاني )) أي بالأعمال الصالحة ( واجعلني في الندي الأعلى ) الندي : بفتح النون وكسر

(16/299)


الدال وتشديد الياء هو النادي ، قال الجزري : الندي النادي وهو المجلس يجتمع فيه القوم ، فإذا تفرقوا عنه فليس بناد ولا ندي ، والمراد بالندي الأعلى مجتمع الملائكة المقربين ولهذا وصفه بالعلو . وقال الخطابي : الندي القوم المجتمعون في مجلس ، ومثله النادي وجمعه أندية ، قال : ويريد بالندي الأعلى الملأ الأعلى من الملائكة - انتهى . وقيل : الندي أصله المجلس ، ويقال للقوم أيضا تقول : ندوت القوم أي جمعتهم ، والمعنى اجعلني من القوم المجتمعين . ويريد بالأعلى الملأ الأعلى . وهم الملائكة أو من أهل الندي إذا أريد به المجلس ، وهذا دعاء يجمع خير الدنيا والآخرة فتتأكد المواظبة عليه كلما أريد النوم وهو من أجل الأدعية المشروعة عنده على كثرتها ( رواه أبو داود ) في الأدب قال الحافظ في الإصابة في ترجمة أبي الأزهر الأنماري : بسند جيد . وقال النووي في الأذكار : بالإسناد الحسن ، ورمز السيوطي في الجامع الصغير لصحته وسكت عنه أبو داود ، وأخرجه أيضا الحاكم (ج1 : ص540 ، 549) ، وابن السنى (ص228) بلفظ (( كان إذا أخذ مضجعه قال : اللهم اغفر لي )) . إلخ ، وقال الحاكم : حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي .
2433- (30) وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أخذ مضجعه من الليل قال : الحمد لله الذي كفاني وآواني وأطعمني وسقاني والذي من علي فأفضل والذي أعطاني فأجزل الحمد لله على كل حال اللهم رب كل شيء ومليكه وإله كل شيء أعوذ بك من النار . رواه أبو داود .

(16/300)


2334- (31) وعن بريدة قال : شكا خالد بن الوليد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ما أنام الليل من الأرق فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا أويت إلى فراشك فقل : اللهم رب السموات السبع وما أظلت ورب الأرضين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2433- قوله : ( الحمد لله الذي كفاني ) أي دفع عني شر كل موذ من خلقه وكفى مهماتي وقضى حاجاتي أو أغناني عن الخلق ( وآواني ) بالمد أي جعل لي مسكنا يقيني الحر والبرد وأحرز فيه متاعي ( والذي من ) أي أنعم من المن العطاء لا من المنة ( علي فأفضل ) بالفاء وفي رواية أحمد بالواو أي زاد في المن أو أكثر ( والذي أعطاني فأجزل ) أي : فأعظم العطاء أو أكثر من النعمة . قال الطيبي : الفاء فيه لترتبها في التفاوت من بعض الوجوه كقولك خذ الأفضل فالأكمل واعمل الأحسن فالأجمل فالإعطاء حسن وكونه جزيلا أحسن وهكذا المن ، وقدم المن لأنه غير مسبوق بعمل العبد بخلاف الإعطاء فإنه قد يكون بإزاء عمل من العبد ومسبوقا به كذا قال ، وفيه بحث ( الحمد لله على كل حال ) وفي رواية ابن السني (( اللهم فلك الحمد على كل حال )) ( اللهم رب كل شيء ) أي : مربيه ومصلحه ( ومليكه ) وفي رواية أحمد (( وملك كل شيء )) ، ولابن حبان (( ومالك كل شيء )) ( وإله كل شيء ) زاد في رواية أحمد ، وابن حبان (( ولك كل شيء )) ( أعوذ من النار ) أي مما يقرب إليها من علم أو عمل أو حال يوجب العذاب ( رواه أبو داود ) في الأدب ، قال النووي : بالإسناد الصحيح . قلت : سكت عنه أبو داود ، والمنذري ، وأخرجه أيضا أحمد (ج2 : ص118) ، والنسائي في الكبرى ، وابن حبان ، وأبو عوانة في صحيحهما ، وابن السني (ص230) ، والبغوي في شرح السنة (ج5 :ص106) ، وأخرجه الحاكم من حديث أنس (ج1 : ص545 ، 546)

(16/301)


وصححه وأقره الذهبي .
2434- قوله : ( وعن بريدة ) بن الحصيب الأسلمي الصحابي ( شكا خالد بن الوليد ) المخزومي ( إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ) في القاموس : شكا أمره إلى الله شكوى ، وينون وشكاية بالكسر وشكيت لغة في شكوت - انتهى . فعلى اللغة الأولى التي هي الفصحى يكتب شكا بالألف وعلى الثانية بالياء بناء على القاعدة المقررة في علم الخط ( فقال : يا رسول الله ما أنام الليل من الأرق ) هذا بيان لقوله : شكا ، والأرق بفتحتين السهر في الليل لامتناع النوم لعلة من وسواس أو حزن أو غير ذلك . فمن ابتدائية للتعليل أي لأجل السهر ( إذا أويت ) بالقصر ( وما أظلت ) بتشديد اللام من الإظلال أي : وما أوقعت ظلها
وما أقلت ورب الشياطين وما أضلت كن لي جارا من شر خلقك كلهم جميعا أن يفرط علي أحد منهم أو أن يبغي عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك لا إله إلا أنت . رواه الترمذي وقال : هذا حديث ليس إسناده بالقوي والحكم بن ظهير الراوي قد ترك حديثه بعض أهل الحديث .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/302)


عليه ، قال الجزري : أظلت السماء الأرض أي : ارتفعت عليها فهي لها كالمظلة ( وما أقلت ) بتشديد اللام من الإقلال ، أي حملت ورفعت من المخلوقات . قال الجزري : أقلت الأرض ما عليها أي : حملته ( وما أضلت ) من الإضلال وهو الحمل على الضلال ضد الهدى . أي : وما صيرته بإغوائها ضالا . قال القاري : أي : وما أضلت الشياطين من الإنس والجن فما هنا بمعنى من ، وفيما قبل غلب فيها غير العاقل ، ويمكن أن ما هنا للمشاكلة يعني ليطابق ما قبله من تغليب غير ذوي العقول لكثرته على العقلاء ( كن لي جارا ) من استجرت فلانا فأجارني ، ومنه قوله تعالى : ? وهو يجير ولا يجار عليه ? (23 : 88) أي : كن لي معينا ومانعا ومجيرا وحافظا في القاموس الجار المجير والمستجير والحليف والناصر ( من شر خلقك كلهم جميعا ) حال فهو تأكيد معنوي بعد تأكيد لفظي ، وفي حديث خالد بن الوليد عند الطبراني (( من شر خلقك أجمعين )) ( أن يفرط ) بفتح الياء التحتية وضم الراء وهو العدوان ومجاوزة الحد ، يقال : فرط عليه أي : عدا عليه ومنه قوله تعالى : ? أن يفرط علينا ? (20 : 45) ( على أحد منهم ) أي : من يفرط على أحد من خلقك على أنه بدل اشتمال من شر خلقك أو لئلا يفرط أو كراهة أن يفرط . قال في المفاتيح : أي : يقصدني بالأذى مسرعا ( أو أن يبغي ) بكسر الغين أي : يظلم على أحد ، وفي حديث خالد (( أو أن يطغى )) من الطغيان وأو للتنويع وهو على منوال قوله تعالى حكاية عن موسى وهارون : ? إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى ? (20 : 45) ( عز جارك ) أي : غلب مستجيرك وصار عزيزا ( وجل ) أي : عظم ( ثناءك ) يحتمل إضافته إلى الفاعل والمفعول ويحتمل أن يكون المثني غيره أو ذاته فيكون كقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( أنت كما أثنيت على نفسك )) وفي حديث خالد بن الوليد (( تبارك اسمك )) ( رواه الترمذي ) في الدعوات . قال النووي

(16/303)


: بإسناد ضعيف ، وقال المنذري : بإسناد فيه ضعف ، وأخرجه الطبراني في الأوسط من حديث خالد بن الوليد أنه أصابه أرق فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن نمت ، قل : اللهم رب السماوات السبع إلخ . قال المنذري : إسناده جيد ، وقال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح إلا أن عبد الرحمن بن سابط لم يسمع من خالد بن الوليد ، ورواه أي : الطبراني في الكبير بسند ضعيف بنحوه ( والحكم ) بفتحتين وفي بعض النسخ (( الحكيم )) بالياء وهو خطأ والصواب الحكم ( بن ظهير ) بالمعجمة مصغرا ( الراوي ) بتخفيف الياء ( قد ترك حديثه بعض أهل الحديث ) قال الحافظ في التقريب : الحكم بن ظهير الفزاري أبو محمد وكنية أبيه أبو ليلى ، ويقال أبو خالد متروك رمي بالرفض واتهمه ابن معين - انتهى . وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته : قال أبو زرعة : إنه واهي الحديث متروك الحديث ، وقال أبو حاتم : متروك
( الفصل الثالث )
2435- (32) عن أبي مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا أصبح أحدكم فليقل أصبحنا وأصبح الملك لله رب العالمين اللهم إني أسألك خير هذا اليوم فتحه ونصره ونوره وبركته وهداه وأعوذ بك من شر ما فيه وشر ما بعده ثم إذا أمسى فليقل مثل ذلك . رواه أبو داود .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/304)


الحديث ، وقال البخاري : متروك الحديث تركوه ، وقال النسائي : متروك ، روى له الترمذي حديثا واحدا في القول عند الأرق ، وقال قد تركه بعض أهل الحديث ، وقال صالح جزرة : كان يضع الحديث ، وفي الكامل لابن عدي : قال يحيى كذاب . وقال ابن حبان : كان يشتم الصحابة ويروي عن الثقات الأشياء الموضوعات وهو الذي روى عن عاصم عن ذر عن عبد الله (( إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه )) .
2435- قوله : ( عن أبي مالك ) الأشعري ( اللهم إني أسألك خير هذا اليوم فتحه ) أي الظفر على المقصود ( ونصره ) أي النصرة على العدو ) ( ونوره ) بتوفيق العلم والعمل ( وبركته ) بتيسير الرزق الحلال الطيب ( وهداه ) أي : الثبات على متابعة الهدى ومخالفة الهوى . وقال الطيبي : قوله : فتحه وما بعده بيان لقوله : (( خير هذا اليوم )) والفتح هو الظفر بالتسلط صلحا أو قهرا ، والنصر الإعانة والإظهار على العدو وهذا أصل معناهما ويمكن التعميم فيهما يعني فيفيد التأكيد ( وأعوذ بك من شر ما فيه ) أي : في هذا اليوم ( ومن شر ما بعده ) كذا في أكثر النسخ من المشكاة ووقع في بعض النسخ (( وشر ما بعده )) أي : بدون (( من )) وهكذا في أبي داود ، وكذا نقله الجزري في الحصن ، وجامع الأصول ، والنووي في الأذكار واكتفى به عن سؤال خير ما بعده إشعارا بأن درء المفاسد أهم من جلب المنافع ( ثم إذا أمسى فليقل مثل ذلك ) بأن يقول : أمسينا وأمسى الملك وخير هذه الليلة ويؤنث الضمائر ( رواه أبو داود ) في الأدب . قال النووي : بإسناد لم يضعفه قلت : سكت عنه أبو داود ، وقال المنذري : في سنده محمد بن إسماعيل بن عياش وأبوه وكلاهما فيه مقال - انتهى . قلت : قال الحافظ في التقريب : محمد بن إسماعيل بن عياش الحمصي عابوا عليه أنه حدث عن أبيه بغير سماع . وقال في تهذيب التهذيب : قال أبو حاتم لم يسمع من أبيه شيئا حملوه على أن يحدث فحدث ، وقال الآجري : سئل أبو داود عنه فقال : لم

(16/305)


يكن بذاك قد رأيته ودخلت حمص غير مرة وهو حي وسألت عمرو بن عثمان عنه فذمه ، قلت ( قائله الحافظ ) : وقد أخرج أبو داود عن محمد بن عوف عنه عن أبيه عدة أحاديث لكن يروونها بأن محمد بن عوف رآها في أصل إسماعيل - انتهى . وأما أبوه إسماعيل بن عياش فهو صدوق في روايته عن أهل بلده مخلط في غيرهم كما في التقريب وتهذيب التهذيب . وهذا الحديث رواه إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة الحمصي فلا بأس بروايته .
2436- (33) وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال : قلت لأبي : يا أبت أسمعك تقول كل غداة اللهم عافني في بدني اللهم عافني في سمعي اللهم عافني في بصري لا إله إلا أنت تكررها ثلاثا حين تصبح وثلاثا حين تمسي فقال : يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بهن فأنا أحب أن أستن بسنته . رواه أبو داود .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/306)


2436- قوله : ( وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة ) بالتاء واسمه نفيع بن الحارث . قال المؤلف : عبد الرحمن بن أبي بكرة هو عبد الرحمن بن أبي بكرة الأنصاري البصري الثقفي ولد بالبصرة سنة أربع عشرة حيث نزلها المسلمون وهو أول مولود ولد للمسلمين بها ، تابعي كثير الحديث سمع أباه وعليا ، وروى عنه جماعة - انتهى . وقال الحافظ فيه : ثقة من كبار التابعين ( قال ) أي : عبد الرحمن : ( يا أبت ) بكسر التاء وفتحها ( أسمعك ) أي أسمع منك أو أسمع كلامك حال كونك ( تقول : كل غداة ) أي : صباح أو كل يوم . قال القاري : وهو الأظهر لما سيأتي . وقال الشيخ الدهلوي في اللمعات : لعل المراد بالغداة هنا اليوم فيصح تفصيله بقوله : تكررها ثلاثا حين تصيح وثلاثا حين تمسي ، أو يقدر بعد قوله : كل غداة (( وكل عشية )) ويكون قوله : (( حين تصبح وتمسي )) تعيينا للوقت لأن الغداة والعشي أوسع من الصبح والمساء لأنهما اسمان لما قبل الزوال وبعده ( اللهم عافني في بدني ) أي : من الآلام والأسقام ، والمفاعلة لقصد والعافية دفاع الله عن العبد السيئة والمكروه ، وعافاه الله معافاة وعافية : وهب له العافية من العلل والبلايا ( اللهم عافني في سمعي ، اللهم عافني في بصري ) خص السمع والبصر بالذكر بعد ذكر البدن مع أنه مشتمل عليهما لشرفهما فإن السمع يدرك ويعي الآيات المنزلة على الرسل ، والعين هي التي تدرك وتجلو آيات الله المنبثة في الآفاق فهما جامعان لدرك الآيات النقلية والأدلة العقلية والنقلية وإليه ينظر قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا )) ( تكررها ) وفي أبي داود ، ومسند أحمد ، والأدب المفرد ، (( تعيدها )) وكذا نقله النووي في الأذكار ، والشوكاني في تحفة الذاكرين يعني تكرر هذه الجمل أو هذه الدعوات بدل من (( تقول )) أو حال ( فقال : يا بني ) بفتح الياء والتصغير ، وفي أبي داود (( فقال إني )) وهكذا في الأذكار ووقع في

(16/307)


المسند ، وابن السني ، والأدب المفرد (( قال : نعم يا بني إني )) ( يدعو بهن ) أي : كذلك ( فأنا أحب أن أستن ) أي : أقتدي ( بسنته ) وأتتبع سيرته ( رواه أبو داود ) في الأدب وسكت عنه ، وأخرجه أيضا أحمد (ج5 : ص42) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2 : ص159) ، والنسائي في الكبرى ، وابن السني (ص24 ، 25) كلهم من طريق جعفر بن ميمون عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه ، قال المزي : قال النسائي : جعفر بن ميمون ليس بالقوي ، وقال المنذري بعد نقل كلام النسائي : وقال : فيه يحيى بن معين : ليس بذاك ، وقال مرة : ليس بثقة ، وقال مرة : بصري صالح الحديث . وقال الإمام أحمد ليس بقوي في الحديث ، وقال أبو حاتم الرازي : صالح - انتهى . وقال الحافظ فيه : صدوق يخطئ .
2437- (34) وعن عبد الله بن أبي أوفى قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أصبح قال : أصبحنا وأصبح الملك لله ، والحمد لله ، والكبرياء والعظمة لله ، والخلق والأمر والليل والنهار وما سكن فيهما لله ، اللهم اجعل أول هذا النهار صلاحا وأوسطه نجاحا وآخره فلاحا يا أرحم الراحمين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/308)


2437- قوله : ( الكبرياء ) أي : العظمة والتجبر ( والعظمة ) بفتح العين والظاء قال في القاموس : العظم بكسر العين حرف عظم كصغر عظما وعظامة فهو عظيم وعظم الرجل تكبر ، والعظمة محركة الكبر والنخوة والزهو ، وأما عظمة الله فلا توصف بهذا ، ومتى وصف عبد بالعظمة فهو ذم - انتهى . والعظيم من أسماءه تعالى هو الذي جاوز قدره كل قدر وجل عن حدود العقول حتى لا تتصور الإحاطة بكهنة وحقيقته ، والعظيم في صفات الأجسام كبر الطول والعمق والله تعالى جل عن ذلك ( والخلق ) أي : الإيجاد أو هو بمعنى المخلوق ( والأمر ) واحد الأوامر والمراد به الجنس أو واحد الأمور والمراد به التصرف والحكم ، وقال الشوكاني في تفسير قوله تعالى : ? ألا له الخلق والأمر ? (7 : 54) الخلق المخلوق والأمر كلامه وهو كن في قوله تعالى ? إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ? أو المراد بالأمر ما يأمر به على التفصيل أو التصرف في مخلوقاته ( وما سكن فيه2ا ) أي وتحرك فهو من باب الاكتفاء نحو ? سرابيل تقيكم الحر ? (16 : 81) أي والبرد ، أو سكن بمعنى ثبت ( لله ) أي وحده لا شريك له وفيه رمز إلى قوله تعالى : ? وله ما سكن في الليل والنهار ? (6 : 13) وفي رواية ابن أبي شيبة : وما يضحى فيهما لله وحده . وهو بفتح الياء التحتية وإسكان الضاد المعجمة ، وفتح الحاء المهملة ، أي يبرز ويظهر ، ( اللهم اجعل أول هذا النهار صلاحا ) أي في ديننا ودنيانا ، ( وأوسطه نجاحا ) أي فوزا بالمطالب المناسبة لصلاح الدارين ( وآخره فلاحا ) . أي ظفرا بما يوجب حسن الخاتمة وعلو المرتبة في درجات الجنة ، والظاهر أن المراد من الأول والآخر والأوسط استيعاب الأوقات والساعات في صرفها إلى العبادات والطاعات لحصول حسن الحالات ، والمعاملات في الدنيا ووصول أعلى الدرجات في الأخرى . قاله القاري . وقال الطيبي

(16/309)


: صلاحا في ديننا بأن يصدر منا ما ننخرط به في زمرة الصالحين من عبادك ، ثم اشغلنا بقضاء مآربنا في دنيانا ، لما هو صلاح في ديننا فانجحنا ، واجعل خاتمة أمرنا بالفوز ، بما هو سبب لدخول الجنة ، فنندرج في سلك من قيل في حقهم : ? أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ? (2 : 5) - انتهى . ولذا قالوا أجمع كلمة في الشريعة كلمة الفلاح . قال القاري : ولذا قال تعالى ? قد أفلح المؤمنون ? إلى آخر الآيات ، ثم قال : ? أولئك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس ? (23 : 10: 11) ( يا أرحم الراحمين ) قال القاري : ختم بهذا لأنه سبب لسرعة إجابة الدعاء ، كما جاء في حديث . وروى الحاكم في مستدركه وصححه من حديث أبي أمامة مرفوعا (( إن لله ملكا موكلا بمن يقول يا أرحم الراحمين ، فمن قالها ثلاثا قال له الملك : إن أرحم الراحمين قد أقبل عليك فسل )) والظاهر أن قيد الثلاث لأن الغالب أن من قالها ثلاثا حضر قلبه ورحمه
ذكره النووي في كتابه الأذكار برواية ابن السني .
3438- (35) وعبد الرحمن بن أبزى قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا أصبح : أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص وعلى دين نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى ملة أبينا إبراهيم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/310)


ربه . قلت : حديث أبي أمامة هذا سكت عليه الحاكم (ج1 : ص544) وقال الذهبي : فضال بن جبير ( الراوي عن أبي أمامة ) ليس بشيء ، ( ذكره النووي ) بحذف الألف وإثباته ، ( برواية ابن السني ) ، وذكره الجزري في الحصين ، برواية ابن أبي شيبة والهيثمي في مجمع الزوائد ، (ج10 : ص114 ، 115) برواية الطبراني مع اختلاف يسير وفيه : (( وأوسطه فلاحا وآخرة نجاحا أسألك خير الدنيا والآخرة )) قلت : أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص14) والطبراني في معجمه ، وابن أبي شيبة في مصنفه من طريق فائد أبي الورقاء وهو متروك اتهموه . فالحديث ضعيف جدا . وانظر : تفصيل الكلام في أبي الورقاء في تهذيب التهذيب (ج8 : ص255 ، 256) .

(16/311)


2438- قوله ( أصبحنا على فطرة الإسلام ) بكسر الفاء أي دينه الحق . وقال القاري : أي خلقته قيل الفطرة الخلقة من الفطر ، كالخلقة في أنها اسم للحالة كالجلسة ، ثم إنها جعلت اسما للخلقة القابلة لدين الحق على الخصوص ومنه قوله تعالى : ? فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها ? (30 : 30) وحديث كل مولود يولد على الفطرة ( وكلمة الإخلاص ) في المسند (( وعلى كلمة الإخلاص )) أي التوحيد الخالص وهي كلمة لا إله إلا الله ، وإنما سميت كلمة التوحيد كلمة الإخلاص لأنها لا تكون سببا للخلاص إلا إذا كانت مقرونة بالإخلاص فالإضافة لأدنى ملابسة فإنها كلمة يحصل بها الإخلاص ( وعلى دين نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ) وهو أخص مما قبله لأن ملل الأنبياء كلهم تسمى إسلاما على الأشهر لقوله تعالى : ? إن الدين عند الله الإسلام ? (3 : 19) ولقول إبراهيم ? أسلمت لرب العالمين ? (2 : 131) ولوصية يعقوب لبنيه ? فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ? (2 : 132) والظاهر أنه قاله تعليما لغيره . قال النووي في الأذكار : كذا في كتاب ابن السني (( دين نبينا محمد )) وهو غير ممتنع ، ولعله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك جهرا ليسمعه غيره فيتعلمه . والله أعلم . قال القاري : لا وجه لقوله (( لعل )) فإن الرواية متفرعة على السماع وهو لا يتحقق إلا بالجهر ، وقيل الأظهر أنه - صلى الله عليه وسلم - أيضا مأمور بالإيمان بنفسه كما ورد جوابه للمؤذن عند الشهادتين بقوله (( وأنا أنا )) قال ابن عبد السلام في أماليه : و (( على )) في مثل هذا تدل على الاستقرار والتمكن من ذلك المعنى لأن المجسم إذا علا شيئا تمكن منه واستقر عليه ومنه ، ? أولئك على هدى من ربهم ? (2 : 5) ( وعلى ملة أبينا إبراهيم ) الخليل - صلى الله عليه وسلم - ، وهو أبو العرب

(16/312)


لأنهم من ولد إسماعيل ونسله ففيه تغلب ، أو الأنبياء بمنزلة الآباء ولذا قال تعالى : ? النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ? (33 : 6) وفي قراءة شاذة وهو أب لهم ، فأبو النبي يكون أبا أمته ، وإنما احتيج لهذا التخصيص ، لقوله تعالى : ? أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ? (16 : 123) أي في أصول
حنيفا وما كان من المشركين . رواه أحمد والدارمي .
(7) باب الدعوات في الأوقات
( الفصل الأول )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/313)


الدين أو في بعض الفروع ، كالختان وبقية العشرة من السنن المشهورة ، ( حنيفا ) حال من إبراهيم وهو المائل إلى دين الحق ، المستقيم ضد الملحد المائل ، إلى دين الباطل ، وإن كان الحنف والإلحاد في أصل اللغة بمعنى مطلق الميل لكن خصا في الشرع بما ذكرنا . وقال ميرك : الحنيف المسلم المستقيم ، وغلب هذا الوصف على إبراهيم الخليل . قال الأزهري : الحنيفية في الإسلام الميل إليه والإقامة على عقده ، والحنيف الصحيح الميل إلى الإسلام والثابت عليه . وقال ابن سيده في محكمه : الحنيف المسلم الذي يتحنف عن الأديان أي يميل إلى الحق . قال وقيل هو المخلص . وقوله : (( حنيفا )) كذا وقع مقتصرا عليه في جميع النسخ من المشكاة وهكذا عند أحمد في بعض الروايات ووقع في رواية عنده بعد هذا زيادة (( مسلما )) ، وهكذا وقع عند غيره من المخرجين وكذا نقله في الأذكار وجامع الأصول (ج5 : ص69) والحصن والجامع الصغير ، والمعنى منقادا كاملا بحيث لا يلتفت إلى غيره تعالى ( وما كان من المشركين ) فيه رد على كفار العرب في قولهم : نحن على دين أبينا إبراهيم وتعريض باليهود والنصارى ، ثم هو مع ما قبله من الأحوال المتداخلة أتى بها تقريرا وصيانة للمعنى المراد تحقيقا عما يتوهم من أنه يجوز أن يكون حنيفا حالا منتقلة فرد ذلك التوهم بأنه لم يزل موحدا ومثبتا لأنها حال مؤكدة كذا في المرقاة ( رواه أحمد ) (ج3 : ص406 ، 407) ، ( والدارمي ) في الاستيذان ، وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى ، والطبراني ، وابن السني (ص12) ، لكن عند أحمد والطبراني في الصباح والمساء جميعا ، وعند النسائي ، والدارمي ، وابن السني في الصبح فقط ، والحديث صححه النووي في الأذكار ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10 : ص116) : رجالهما أي رجال أحمد والطبراني رجال الصحيح , وقال صاحب السلاح بعد عزوه إلى النسائي : رجال إسناده رجال الصحيح . ( باب الدعوات ) المتفرقة ( في الأوقات

(16/314)


) أي المختلفة مما قدر لها الشارع ، والوقت هو الزمان المضروب للفعل ، كوقت الصلاة ووقت الزكاة ووقت الحج ، وقد وردت دعوات في أحوال مخصوصة مختلفة كحال الغضب ، وحال الصف ، عند قتال الكفار ، ونحو ذلك من الأحوال ، كما وردت في أوقات مخصوصة بينها الشارع . ولما كان الدعاء في حال مخصوص مستلزما للدعاء في زمان مخصوص أدخل المصنف ذلك في الأوقات وقد أفرد بعضهم ذكر الأحوال لأن المعتبر فيها هو الحال لا الوقت فافهم . واعلم أن كل ما ورد من الشارع في زمن أو حال مخصوص يسن لكل أحد أن يأتي به لذلك ولو مرة للإتباع ما يربو على غيره ، ومن ثم قالوا : صلاة النافلة في البيت أفضل منها في المسجد الحرام وإن قلنا بالأصح أن المضاعفة تختص به – انتهى باختصار يسير .
2439- (1) عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/315)


2439- قوله ( لو أن أحدكم ) . قال القاري : وفي نسخة صحيحة يعني من المشكاة (( أحدهم )) قلت : وهكذا وقع عند البخاري في الدعوات ، وكذا لمسلم ، ووقع عند البخاري في التوحيد في بعض النسخ ، (( أحدكم )) وفي أخرى (( أحدهم )) وهكذا اختلفت نسخ المصابيح في ذلك ، (( ولو )) هذه يجوز أن تكون للتمني على حد ، ? فلو أن لنا كرة ? (26 : 102) والمعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - تمنى لهم ذلك الخير يفعلونه لتحصل لهم السعادة ، وحينئذ فيجئ فيه الخلاف المشهور هل يحتاج إلى جواب أم لا ؟ وبالثاني قال ابن الصائغ وابن هشام . ويجوز أن تكون شرطية والجواب محذوف ، والتقدير : لنال خيرا كثيرا أو لكان حسنا ، أو لسلم من الشيطان أو نحو ذلك ، ويؤيده سياق الحديث كما لا يخفى ، ( إذا أراد أن يأتي أهله ) أي يجامع امرأته أو جاريته ، فالإتيان كناية عن الجماع ، وهذه الرواية تدل على أن القول يكون قبل الشروع فهي مفسرة لغيرها من الروايات ، التي فيها (( يقول حين يأتي أهله )) أو (( يقول حين يجامع أهله )) فإن هذا ظاهر في أن القول يكون مع الفعل فهو محمول على المجاز كقوله تعالى : ? فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله ? (16 : 98) أي إذا أردت القراءة ، ويجوز كون إذا ظرفا لقال ، وقال خبر لأن وكونها شرطية وجزاءها قال والجملة خبر أن . وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود موقوفا كما في الحصن والفتح إنه إذا أنزل قال : اللهم لا تجعل للشيطان فيما رزقتني نصيبا . قال القاري : ولعله يقولها في قلبه أو عند انفصاله لكراهة ذكر الله ، في حال الجماع بالإجماع ( قال بسم الله ) إلخ ، أفاد الكرماني أنه رأى في نسخة قرئت على الفربري قيل لأبي عبد الله يعني البخاري من لا يحسن العربية يقولها بالفارسية ؟ قال : نعم ، ( اللهم ) أي يا الله ( جنبنا ) بتشديد النون من جنب الشيء يجنبه تجنيبا إذا أبعده منه ( الشيطان ) أي بعده عنا وهو

(16/316)


مفعول ثان ( وجنب الشيطان ما رزقتنا ) أي حينئذ من الولد ، وصيغة الماضي للتفاؤل وتحقيق الرجاء ، وهو في محل النصب ، على أنه مفعول ثان . وأطلق (( ما )) على من يعقل لأنها بمعنى شيء كقوله تعالى : ? والله أعلم بما وضعت ? (3 : 36) وقال العيني كلمة ما موصولة والعائد محذوف تقديره الذي رزقتناه ، وقول من قال من الشارحين ما ها هنا بمعنى شيء ليس بشيء ( فإنه ) علة للجزاء المحذوف أي الشأن ( إن يقدر ) بالبناء للمفعول ( بينهما ) ، أي بين الأحد والأهل ( ولد ) ذكر أو أنثى ( في ذلك ) أي الوقت أو الإتيان ، والمراد إن كان قدر لأن التقدير أزلى لكن عبر بصيغة المضارعة بالنسبة للتعلق ، قاله الحافظ : ( لم يضره ) بفتح الراء وضمها ، ويقال الضم أفصح أي لم يضر ذلك الولد ( شيطان ) أي من الشياطين قيل نكره بعد تعريفه أولا لأنه أراد في الأول الجنس وفي الآخر إفراده على سبيل الاستغراق والعموم ، ويجوز أن يراد بالأول إبليس وبالثاني أعم ،
أبدا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/317)


أو بالثاني سائر أعوانه . كذا في المرقاة . قلت : وقع في رواية أحمد (ج1 : ص217) (( لم يضر ذلك الولد الشيطان أبدا )) وفي أخرى له (ج1 : ص287) ولمسلم ، وابن ماجة (( لم يسلط عليه الشيطان أو لم يضره )) وهكذا وقع معرفا في بعض الروايات عند البخاري وغيره . قال الحافظ : واللام للعهد المذكور في لفظ الدعاء ، وفي مرسل الحسن عند عبد الرزاق إذا أتى الرجل أهله فليقل بسم الله اللهم بارك لنا فيما رزقتنا ، ولا تجعل للشيطان نصيبا فيما رزقتنا فكان يرجى ، إن حملت أن يكون ولدا صالحا ( أبدا ) . قال القاري : فيه إيماء إلى حسن خاتمة الولد ببركة ذكر الله في ابتداء وجود نطفته في الرحم . فالضر مختص بالكفر . وقال السندي : لم يحمل أحد حديث الباب على العموم الضرر لعموم ضرر الوسوسة للكل ، وقد جاء كل مولود يمسه الشيطان ، إلا مريم وابنها ، فقيل لا يضره بالإغواء والإضلال بالكفر ، وقيل بالكبائر ، وقيل : بالصرف عن التوبة إذا عصى ، قيل إنه يأمن مما يصيب الصبيان من جهة الجان ، وقيل لا يكون للشيطان عليه سلطان ، فيكون من المحفوظين ، قال تعالى : ? إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ? (15 : 42) انتهى . وقال الحافظ : اختلف في الضرر المنفي بعد الاتفاق على ما نقل عياض ، على عدم الحمل على العموم في أنواع الضرر ، وإن كان ظاهرا في الحمل على عموم الأحوال من صيغة الماضي مع التأبيد ، وكان سبب ذلك ما ثبت في الصحيح ، أن كل بني آدم يطعن الشيطان في بطنه حين يولد ، إلا من استثنى . فإن هذا الطعن نوع ضرر ، في الجملة مع أن ذلك سبب صراخه ثم اختلفوا ، فقيل : المعنى لم يسلط عليه من أجل بركة التسمية ، ( بحيث لا يكون له عمل صالح ) ، بل يكون من جملة العباد الذين قيل فيهم ، ? إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ? (15 : 42) ويؤيد مرسل الحسن المذكور : وقيل المراد لم يطعنه في بطنه وهو بعيد ، لمنابذته ظاهر الحديث

(16/318)


المتقدم ، وليس تخصيصه بأولى من تخصيصه هذا ، وقيل المراد لم يصرعه ، وقيل لم يضره في بدنه - انتهى . يعني أن الشيطان لا يتخبطه ولا يداخله بما يضر عقله أو بدنه ، قال العيني : وهو الأقرب ، وقال ابن دقيق العيد : يحتمل أن لا يضره في دينه أيضا ، ولكن يبعده انتفاء العصمة ، وتعقب بأن اختصاص من خص بالعصمة بطريق الوجوب ، لا بطريق الجواز فلا مانع أن يوجد من لا يصدر منه معصية عمدا ، وإن لم يكن ذلك واجبا له ، وقال الداودي معنى لم يضره أي لم يفتنه عن دينه إلى الكفر ، وليس المراد عصمته منه عن المعصية ، وقيل لم يضره بمشاركة أبيه في جماع أمه ، كما جاء عن مجاهد أن الذي يجامع ولا يسمي يلتف الشيطان على إحليله ، فيجامع معه . قال الحافظ : ولعل هذا أقرب الأجوبة . ويتأيد الحمل على الأول بأن الكثير ممن يعرف هذا الفضل العظيم يذهل عنه إرادة المواقعة ، والقليل الذي قد يستحضره ويفعله لا يقع معه الحمل ، فإذا كان ذلك نادرا لم يبعد ، وفي الحديث من الفوائد أيضا استحباب التسمية والدعاء والمحافظة على ذلك ، حتى في حالة الملاذ كالوقاع ، وفيه الاعتصام بذكر الله ودعاءه من الشيطان والتبرك باسمه والاستعاذة به من جميع الأسواء ، وفيه الاستشعار بأنه الميسر لذلك العمل والمعين عليه ، وفيه إشارة إلى أن الشيطان
متفق عليه .
2440- (2) وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند الكرب لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/319)


ملازم لابن آدم لا ينطرد عنه إلا إذا ذكر الله ، ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الطهارة ، وفي صفة إبليس ، وفي النكاح ، وفي الدعوات ، وفي التوحيد ، ومسلم في النكاح ، وكذا الترمذي ، وأبو داود ، والنسائي في عشرة النساء من الكبرى ، وفي عمل اليوم والليلة ، وابن ماجة وأحمد (ج1 : ص212 ، 217 ، 244 ، 284 ، 287) ، وابن السني (ص195) ، والبغوي في شرح السنة (ج5 : ص119) .
2440- قوله ( كان يقول عند الكرب ) أي عند حلول الكرب وهو بفتح الكاف وسكون الراء بعدها موحدة ، أي الغم الذي يأخذ النفس كذا في الصحاح . وقيل : الكرب أشد الغم . وقال الحافظ : هو ما يدهم المرأ مما يأخذ بنفسه فيغمه ويحزنه ، وفي رواية للبخاري : كان يدعوا عند الكرب . وفي رواية لمسلم : كان يدعوا بهن ويقولهن عند الكرب . وفي أخرى له : كان إذا حز به أمر أي نزل به أمر مهم . قال الحافظ : هو بفتح المهملة والزاي وبالموحدة ، أي هجم عليه أو غلبه ، وفي حديث علي عند النسائي وصححه الحاكم (( لقنني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء الكلمات وأمرني إن نزل بي كرب أو شدة أن أقولها )) ( لا إله إلا الله العظيم ) ، الذي لا يعظم عليه شيء ، وقيل أي البالغ أقصى مراتب العظمة التي لا يتصورها عقل ولا تحيط بكنهها بصيرة فلا يعظم عليه شيء ( الحليم ) هو الذي يؤخر العقوبة مع القدرة ، وقيل هو الذي لا يستفزه غضب ، ولا يحمله غيظ على استعجال العقوبة والمسارعة إلى الانتقام ، ( لا إله إلا الله رب العرش العظيم ) بالجر على أنه نعت للعرش عند الجمهور ، ونقل ابن التين عن الداودي أنه رواه برفع العظيم على أنه نعت للرب ، وكذا برفع الكريم في قوله : (( رب العرش الكريم )) وبه قرأ ابن محيصن في آخر التوبة ، وفي آية المؤمنين نعتا للرب ، والذي ثبت في رواية الجمهور بالجر فيهما ، على أنه نعت للعرش ووصف العرش بالكريم ، أي الحسن من جهة الكيفية ، ووصفه بالعظيم من جهة الكمية ، فهو

(16/320)


ممدوح ذاتا وصفة وخص بذكره لأنه أعظم الأجسام ، فيدخل تحته الجميع ، وقيل وصفه بالكرم ، لأن الرحمة تنزل منه أو لنسبة إلى أكرم الأكرمين ، وبالعظيم لأنه أعظم خلق الله ، مطافا لأهل السماء وقبلة للدعاء . قال الطيبي : صدر هذا الثناء بذكر الرب ليناسب كشف الكرب لأنه مقتضى التربية ، وفيه التهليل المشتمل على التوحيد ، وهو أصل التنزيهات الجلالية والعظمة التي تدل على تمام القدرة والحلم الذي يدل على العلم إذ الجاهل لا يتصور منه حلم ولا كرم . وهما أصل الأوصاف الإكرامية . وقال القسطلاني أخذا عن ابن القيم : قد صدر هذا الثناء بذكر الرب ليناسب كشف الكرب لأنه مقتضى التربية ووصف الرب تعالى بالعظمة والحلم وهما صفتان مستلزمتان لكمال القدرة والرحمة والإحسان والتجاوز ووصفه بكمال والربوبية
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/321)


للعالم العلوي والسفلي والعرش الذي هو سقف ، المخلوقات وأعظمها والربوبية التامة تستلزم توحيده ، وإنه الذي لا تنبغي العبادة والحب والخوف والرجاء والإجلال والطاعة إلا له ، وعظمته المطلقة تستلزم إثبات كل كمال له ، وسلب كل نقص وتمثيل عنه ، وحلمه يستلزم كمال رحمته وإحسانه إلى خلقه ، فعلم القلب ومعرفته بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيده ، فيحصل له من الابتهاج واللذة والسرور ما يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم ، وأنت تجد المريض إذا ورد عليه ما يسره ويفرحه ويقوي نفسه ، كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسي ، فحصول هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى ، فإذا قابلت بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف ، التي تضمنها دعاء الكرب المذكور في هذا الحديث ، وجدته في غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق ، وخروج القلب منه إلى سعة البهجة والسرور ، وهذه الأمور إنما يصدق بها من أشرقت فيه أنوارها وباشر قلبه حقائقها - انتهى . قال النووي : هذا حديث جليل ينبغي الاعتناء به والإكثار عنه عند الكرب ، والأمور العظيمة . قال الطبري : كان السلف يدعون به ويسمونه دعاء الكرب . قلت : حكى الحافظ عن ابن بطال أنه سعى بأبي بكر بن على عند السلطان بأصبهان ، وكان عليه مدار الفتيا هناك فرأى أبو بكر الرازي في المنام ، النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه قال له : قل لأبي بكر بن علي يدعو بدعاء الكرب ، الذي في صحيح البخاري حتى يفرج الله عنه . قال الرازي : فأصبحت فأخبرته فدعا به ، فلم يكن إلا قليلا حتى أخرج . وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب (( الفرج بعد الشدة )) أنه كتب الوليد بن عبد الملك إلى عثمان بن حيان : انظر الحسن بن الحسن فاجلده مائة جلده ، وأوقفه للناس قال : فبعث إليه فجيء به فقام إليه علي الحسين فقال : يا ابن عم تكلم بكلام الفرج يفرج الله عنك ، فقالها فرفع إليه عثمان رأسه فقال : أرى وجه رجل كذب عليه خلوا سبيله ، فسأكتب إلى أمير المؤمنين بعذره

(16/322)


فأطلق . وأخرج النسائي ، والطبري ، من طريق الحسن بن الحسن بن علي قال : لما زوج عبد الله بن جعفر ابنته قال : لها إن نزل بك أمر فاستقبليه بأن تقولي : لا إله الله الحليم الكريم ، سبحان الله رب العرش العظيم ، الحمد لله رب العالمين . قال الحسن : فأرسل إلى الحجاج فقلتهن ، فقال : والله لقد أرسلت إليك وأنا أريد أن أقتلك : فلأنت اليوم أحب إلي من كذا وكذا ، وفي لفظ (( فسل حاجتك )) . قال الطبري : معنى قول ابن عباس ( في بعض الروايات ) (( يدعو )) ، وإنما هو تهليل وتعظيم أي ليس فيه دعاء ، يحتمل أمرين . أحدهما : أن المراد تقديم ذلك قبيل الدعاء ، فيستفتح بهذا الذكر الدعاء ثم يدعو بما شاء ، كما ورد في مسند أبي عوانة ، في آخر الحديث ثم يدعو بعد ذلك . وعند عبد بن حميد : كان إذا حز به أمر قال : فذكر الذكر المأثور وزاد ، (( ثم دعا )) وفي الأدب المفرد (ج2 : ص161) من طريق آخر زاد في آخره (( اللهم اصرف عنى شره )) ، قال الطبري : ويؤيد هذا ما روى الأعمش عن إبراهيم قال : كان يقال إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء استجيب ، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على الرجاء ، ثانيهما : ما أجاب به ابن عيينة عن الحديث الذي فيه ((كان أكثر ما يدعو به النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له )) ، الحديث . فقال سفيان : هو ذكر وليس فيه دعاء ولكن قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين . قال : وقال أمية بن الصلت في مدح عبد الله بن جدعان :
متفق عليه .

(16/323)


2441- (3) وعن سليمان بن صرد قال : استب رجلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن عنده جلوس وأحدهما يسب صاحبه مغضبا قد احمر وجهه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد (( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم )) فقالوا للرجل :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ( ... حباءك إن شيمتك الحباء (
إذا أثنى عليك المرأ يوما ( ... كفاه من تعرضك الثناء (
قال سفيان : فهذا مخلوق حين نسب إلى الكرم ، اكتفى بالثناء عن السؤال فكيف بالخالق - انتهى . وحاصل هذا الجواب أن الدعاء قد يكون صريحا ، وقد يكون تعريضا ، فإن الثناء على الكريم يتضمن الدعاء ، والسؤال تعريضا بألطف إيماء كمدح السائل والشاعر . قال الحافظ : ويؤيد الاحتمال الثاني حديث سعد بن أبي وقاص في دعوة ذي النون ، إذ دعا وهو في بطن الحوت (( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين )) الحديث . وقد تقدم في الفصل الثاني من كتاب أسماء الله تعالى : (ج3 : ص440) قلت : ويؤيد الاحتمال الأول رواية أبي عوانه والأدب المفرد ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الدعوات ، وفي التوحيد ، ومسلم في الدعاء ، وأخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص229 ، 255 ، 260 ، 269 ، 281 ، 284) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2 ص157 ، 161) ، وابن ماجة في الدعاء ، وأبو عوانة في صحيحه .

(16/324)


2441- قوله ( عن سليمان بن صرد ) بضم الصاد وفتح الراء بعدها دال مهملات ، ( استب رجلان ) افتعال من السب أي تشاتما يعني شتم أحدهما الآخر ، ولم يعرف الحافظ أسماء الرجلين ، ( عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أي بمحضر منه ، ( وأحدهما يسب صاحبه ) ، أي سبا شديدا ( مغضبا ) ، بفتح الضاد حال من فاعل يسب ( قد احمر وجهه ) زاد في رواية : وانتفخت أوداجه . أي من شدة غضبه ، ففي رواية للبخاري (( فغضب أحدهما فاشتد غضبه حتى انتفخ وجهه وتغير )) ، وفي حديث معاذ بن جبل عند أحمد وأصحاب السنن ، حتى إنه ليخيل إلى أن أنفه ليتمزع من الغضب ، ( إني لأعلم كلمة ) ، أي بالمعنى اللغوي الشامل للجملة المفيدة ، ( لو قالها لذهب ) أي زال ( عنه ما يجد ) ، أي ما يجده من الغضب ببركتها ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) بدل من كلمة . وفي البخاري (( لو قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم )) أي ذهب عنه ما يجد ، كما في رواية أخرى له وفي حديث معاذ : إني لأعلم كلمة لو يقولها هذا الغضبان لذهب عنه الغضب . (( اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم )) ، والحديث مقتبس من قوله تعالى : ? وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ? (7 : 200) قال الطيبي : أي ولا تنفع الاستعاذة من أمتك إلا المتقين ، بدليل قوله تعالى : ? إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا ? أي ما أمرهم به تعالى ونهاهم عنه ? فإذا هم مبصرون ? (7 : 201) لطريق السداد ودفعوا ما وسوس به إليهم ( فقالوا للرجل ) في
ألا تسمع ما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إني لست بمجنون . متفق عليه .
2442- (4) وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا سمعتم صياح الديكة

(16/325)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رواية مسلم (( فقام إلى الرجل ممن سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - )) ، فدلت هذه الرواية على أن الذي خاطبه من الصحابة واحد وهو معاذ بن جبل ، كما بينته رواية معاذ بن جبل عند أبي داود ولفظه ، (( قال فجعل معاذ يأمره فأبى ومحك ، ( أي لج في الخصومة ) وجعل يزداد غضبا )) ، ( لا تسمع ) وفي بعض النسخ ألا تسمع ، كما في البخاري ( ما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ) ، أي فتمتثل وتقول ذلك ، ( قال إني لست بمجنون ) ، وفي رواية (( أترى بي بأسا أمجنون أنا اذهب )) قال الحافظ : هو خطاب من الرجل للرجل الذي أمره بالتعوذ ، أي امض في شغلك ، واخلق بهذا المأمور أن يكون كافرا أو منافقا ، أو كان غلب عليه الغضب حتى أخرجه عن الاعتدال بحيث زجر الناصح الذي دله على ما يزيل عنه ما كان به من وهج الغضب بهذا الجواب السييء . وقيل : إنه كان من جفاة الأعراب ، وظن أنه لا يستعيذ من الشيطان إلا من به جنون ، ولم يعلم أن الغضب من شر الشيطان ومسه ، ولهذا يخرج به عن صورته ، ويزين إفساد ماله كتقطيع ثوبه وكسر آنيته ، أو الإقدام على من أغضبه ، ونحو ذلك مما يتعاطاه من يخرج عن الاعتدال ، وقد أخرج أحمد ، وأبو داود ، من حديث عطية السعدي : أن الغضب من الشيطان - الحديث . أي هو المحرك له الباعث عليه بإلقاء الوسوسة في قلب الآدمي ليغريه . وقال النووي : قول هذا الرجل الذي اشتد غضبه (( هل تري بي من جنون )) ، كلام من لم يفقه في دين الله تعالى ، ولم يتهذب بأنوار الشريعة ، وتوهم أن الاستعاذة مختصة بالجنون ، ولم يعلم أن الغضب من نزعات الشيطان ، ولهذا يخرج الإنسان عن اعتدال حاله ، ويتكلم بالباطل ويفعل المذموم وينوي الحقد والبغض ، وغير ذلك من القبائح المترتبة على الغضب ، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للذي قال له أوصني : (( لا تغضب )) فردد مرارا ، فقال : لا تغضب . فلم يزده في

(16/326)


الوصية على لا تغضب ، مع تكراره الطلب . وهذا دليل ظاهر في عظم مفسدة الغضب ، وما ينشأ منه ويحتمل أن هذا القائل كان من المنافقين ، أو من جفاة الأعراب - انتهى . قلت : الظاهر أن قوله هذا أيضا نشأ من شدة غضبه ، وغلبة غيظه حتى أخرجه عن الاعتدال بحيث قال للناصح ما قال . قال الشوكاني : في الحديث دليل على أن الغضب متسبب عن عمل الشيطان ، ولهذا كانت الاستعاذة مذهبة للغضب ، فمن غضب في غير حق ولا موعظة ، صدق فليعلم أن الشيطان هو الذي يتلاعب به وأنه مسه طائف منه . وفي هذا ما يزجر عن الغضب لكل من يود أن لا يكون في يد الشيطان يصرفه كيف يشاء - انتهى . ومن أحب الوقوف على حقيقة الغضب والأسباب المهيجة له وعلاج الغضب بعد هيجانه ، رجع إلى الإحياء للغزالي مع شرحه للزبيدي ، ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في صفة إبليس وفي الأدب ، ومسلم في الأدب واللفظ للبخاري في باب الحذر من الغضب ، وأخرجه أيضا أحمد (ج6 : ص394) ، وأبو داود في الأدب ، والنسائي في عمل اليوم والليلة ، والبغوي في شرح السنة (ج5 : ص124) .
2442- قوله ( إذا سمعتم صياح ) ، بكسر الصاد ( الديكة ) بكسر الدال المهملة وفتح التحتانية جمع ديك ، كفيلة
فسلوا الله من فضله فإنها رأت ملكا ، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنه رأى شيطانا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/327)


جمع فيل وهو ذكر الدجاج ، وليس المراد حقيقة الجمع لأن سماع واحد كاف ، وللديك خصيصة ليست لغيره من معرفة الوقت الليلي ، فإنه يقسط أصواته فيها تقسيطا ، لا يكاد يتفاوت ويوالي صياحه قبل الفجر وبعده ، لا يكاد يخطئ سواء طال الليل أم قصر ، وزاد في رواية أحمد (ج2 : ص308) ، والبخاري في الأدب المفرد ، وابن السني (( في الليل )) ( فسلوا الله ) ، بنقل الهمزة ، وروي بإثباته ، أي فاطلبوا ( من فضله ) ، أي زيادة إنعامه عليكم ، ( فإنها رأت ملكا ) ، بفتح اللام نكرة إفادة للتعميم ، قال عياض : كأن السبب فيه رجاء تأمين الملائكة على دعاءه ، واستغفارهم له وشهادتهم له بالإخلاص . ويؤخذ منه استحباب الدعاء عند حضور الصالحين تبركا بهم ، وصحح ابن حبان ، وأخرجه أبو داود ، وأحمد من حديث زيد بن خالد رفعه (( لا تسبوا الديك فإنه يدعو إلى الصلاة )) وفي رواية (( يوقظ للصلاة )) ، وعند البزار من هذا الوجه سبب قوله - صلى الله عليه وسلم - : ذلك أن ديكا صرخ فلعنه رجل فقال ذلك . قال الحليمي : يؤخذ منه أن كل من استفيد منه الخير لا ينبغي أن يسب ، ولا أن يستهان به بل يكرم ويحسن إليه ، قال وليس معنى قوله : (( يدعو إلى الصلاة )) أن يقول حقيقة صلوا أو حانت الصلاة ، بل معناه أن العادة جرت بأنه يصرخ عند طلوع الفجر فطرة فطره الله عليها ، ( وإذا سمعتم نهيق الحمار ) ، أي صوته المنكر . وزاد البخاري في الأدب المفرد ، وابن السني في عمل اليوم والليلة (( من الليل )) ، وكذا وقع في حديث جابر عند أحمد ، وأبي داود وغيره كما سيأتي في باب تغطية الأواني ، وزاد فيه أيضا (( نباح الكلاب )) ، قيل : أطلق الأمر بالتعوذ عند نهيق الحمر ، في حديث الباب فاقتضى أنه لا فرق في طلبه بين الليل والنهار ، وخصه في رواية أخرى بالليل . فإما أن يحمل المطلق على المقيد ، أو يقال : خص الليل لأن انتشار الشياطين فيه أكثر ، فيكون نهيق الحمير فيه أكثر ، فلو وقع

(16/328)


نهارا كان ذلك . وقال الشوكاني : في قوله في الحديث الآخر (( من الليل )) يقيد المطلق فتكون الاستعاذة إذا سمع ( النهيق ) ، والنباح ليلا لا نهارا ( فتعوذوا بالله من الشيطان ) كذا في بعض النسخ من المشكاة ، وهكذا وقع في الصحيحين ، والمسند ، والترمذي ، وبعض نسخ أبي داود ، وزاد في بعض نسخ المشكاة (( الرجيم )) ، وهكذا وقع في المصابيح ، وبعض نسخ أبي داود ، قال الحفني : أي اعتصموا بالله منه بأن يقول أحدكم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، أو نحو ذلك من صيغ التعوذ . وقال المناوي : فتعوذا أي ندبا بأي صيغة كانت ، والأولى (( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم )) ( فإنه ) أي الحمار ( رأى شيطانا ) في الصحيحين والمصابيح ((فإنها رأت شيطانا )) على تأويل الدابة ورعاية المقابلة ، ووقع في المسند ، والترمذي ، وشرح السنة كما في المشكاة ، يعني وحضور الشيطان مظنة الوسوسة والطغيان ومعصية الرحمن فناسب التعوذ لدفع ذلك ، قال عياض : وفائدة الأمر بالتعوذ لما يخشى من شر الشيطان وشر وسوسته ، فيلجأ إلى الله في رفع ذلك . وقال الطيبي : لعل السر فيه أن الديك أقرب الحيوانات صوتا إلى الذاكرين الله ، لأنها تحفظ غالبا أوقات الصلاة وأنكر الأصوات صوت الحمير فهو أقربها صوتا إلى من هو أبعد من
متفق عليه .
2443- (5) وابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا ثم قال ? سبحان الذي سخر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/329)


رحمة الله . وفيه دلالة على أن الله تعالى : خلق للديكة إدراكا تدرك به النفوس القدسية ، كما خلق للحمير والكلاب إدراكا تدرك به النفوس الشريرة الخبيثة ، ونزول الرحمة عند حضور الصلحاء ، ونزول الغضب عند حضور أهل المعاصي . فائدة قال الداودي : ينبغي أن يتعلم من الديك خمسة أشياء : حسن الصوت ، والقيام بالسحر ، والسخاء ، والغيرة ، وكثيرة النكاح . تنبيه قيل : قوله : (( فإنها رأت ملكا )) و (( إنه رأى شيطانا )) ليس المعنى أنها لا تصوت إلا إذا رأت ملكا أو شيطانا ، فإن صياح الديكة وكذلك نهيق الحمار ، كثيرا ما يكون لعوارض وأسباب غير رؤية الملك والشيطان ، بل المعنى أن صوتهما قد يكون لذلك أيضا ، فلا يتعين أي الأصوات لذلك ، وأيها لغيره فيستحب الدعوة والتعوذ عند كل تصويت منهما ، ليقع البعض منهما موقعهما ، وإن لم يقع الكل مقام الرؤية ، مع أن زيادة الدعاء والتعوذ مطلوبة ، وإن لم يكن في محل إجابة ، وكذلك حضور شيطان ، ووجوده لا يتوقف التعوذ عليه لأن الإنسان أحوج ما يكون إليهما ، فكان تعميم فكان تعميم الأمر بالدعاء والتعوذ عند كل صياح ديك ونهيق حمار كتعميم أمر العبادة في ليالي القدر تحريا لمظان القبول - انتهى . وفيه أنه روى الطبراني وأبو موسى الأصبهاني في ترغيبه من حديث أبي رافع رفعه (( لا ينهق الحمار ، ( ولابن السني (( لن ينهق الحمار )) ) حتى يرى شيطانا أو يتمثل له شيطان ، فإذا كان كذلك فاذكروا الله وصلوا علي )) ، وهذا يخالف ما أول به هذا القائل حديث الباب فتأمل ( متفق عليه ) . أخرجه البخاري في أواخر بدء الخلق ، ومسلم في الدعاء ، وأخرجه أيضا أحمد (ج2 : ص207) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2 : ص237) ، والترمذي في الدعوات ، وأبو داود في الأدب ، والنسائي في التفسير وفي عمل اليوم والليلة ، وابن السني فيه (ص102) ، والبغوي في شرح السنة (ج5 : ص126) .

(16/330)


2443- قوله ( كان إذا استوى على بعيره ) ، أي استقر على ظهر مركوبه ( خارجا ) ، أي من البلد منتهيا ( إلى السفر ) ، كذا في جميع النسخ ، أي معرفا باللام وهكذا وقع في المصابيح ، وشرح السنة ، وكذا نقله الشوكاني في تحفة الذاكرين ، والذي في صحيح مسلم خارجا إلى سفر ، وهكذا وقع في المسند (ج2 : ص151) وأبي داود ، وكذا نقله في جامع الأصول وفي الأذكار . وللترمذي ، والدارمي (( كان إذا سافر فركب راحلته )) ( كبر ثلاثا ) لعل الحكمة أن المقام مقام علو ، وفيه نوع عظمة فاستحضر عظمة خالقه ، ويؤيده أن المسافر إذا صعد عاليا كبر وإذا نزل سبح ، ويمكن أن يكون التكبير للتعجب من التسخير . ( ثم قال ) أي قرأ . أي قال : بنية القراءة امتثالا لقوله تعالى : ? وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون * لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا ? ? سبحان الذي سخر ? أي ذلل
لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ?
اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو لنا بعده اللهم أنت الصاحب في السفر ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/331)


( لنا هذا ) أي المركوب فانقاد لأضعفنا ? وما كنا له مقرنين ? ، أي مطيقين ومقتدرين عليه من أقرن له إذا أطاقه وقوي عليه ، أي ما كنا نطيق قهره واستعماله ، لولا تسخير الله تعالى إياه لنا : ? وإنا إلى ربنا لمنقلبون ? (43 : 14) ، أي لصائرون إليه بعد مماتنا وإليه سيرنا الأكبر واللام للتأكيد ، وهذا من باب التنبيه بسير الدنيا على سير الآخرة ، كما نبه بالزاد الدنيوي على الزاد الأخروي في قوله تعالى : ? وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ? (2 : 197) وباللباس الدنيوي على الأخروي في قوله تعالى ? وريشا ولباس التقوى ذلك خير ? (7 : 26) قال البيضاوي : اتصال قوله : ? وإنا إلى ربنا لمنقلبون ? بما قبله لأن الركوب للنقل والنقلة العظمى هو الانقلاب إلى الله تعالى ، فينبغي للراكب أن لا يغفل عنه ، ويستعد للقاء الله ، يعني من شكر هذه النعمة أن يذكر عاقبة أمره ، ويعلم أن استواءه على مركب الحياة كاستواءه ، على ظهر ما سخر له ما لم يكن في المبدأ مطيقا له ولا يجد في المنتهى بدا من النزول عنه . كذا في اللمعات . وهذا الدعاء يسن عند ركوب أي دابة كانت لسفر أو غيره . فقول الراوي (( خارجا إلى السفر )) حكاية للحال ودلالة على ضبط المقال ، ( اللهم ) وفي رواية أحمد (ج2 : ص145) ، والترمذي (( ثم يقول : اللهم )) ( البر ) أي الطاعة ( والتقوى ) ، أي عن المعصية أو المراد من البر الإحسان إلى الناس ، أو من الله إلينا ومن التقوى امتثال الأوامر واجتناب النواهي ، ( ومن العمل ) أي جنسه ( ما ترضى ) ، أي به عنا ( اللهم هون ) أمر من التهوين أي يسر ( علينا سفرنا ) ، مفعول لهون ( هذا ) ، وفي رواية الترمذي (( اللهم هون علينا المسير )) ، ( واطو ) أمر من طوى يطوي طيا ( لنا بعده ) كذا في جميع النسخ ، وهكذا في المصابيح ، وشرح السنة ، والمسند (ج2 : ص145) ،

(16/332)


وسنن أبي داود ، والدارمي ، والذي في صحيح مسلم (( واطو عنا بعده )) ، وهكذا في المسند (ج2 : ص151) ، وجامع الأصول ، والحصن . وللترمذي (( واطو عنا بعد الأرض )) أي قرب لنا بعد هذا السفر . قيل : هو عبارة عن تسير السير بإعطاء القوة له ولمركوبه . وقال ابن حجر : اطو لنا بعده حقيقة إذ ورد (( أن لله ملائكة يطوون الأرض للمسافر كما تطوى القراطيس )) ، أو المراد خفف مشاقه . قلت : لا مانع من حمله على الحقيقة ففيه إشارة إلى طي المكان والزمان ، والمعنى ارفع عنا مشقة السفر بتقريب المسافة البعيدة لنا حسا . ( اللهم أنت الصاحب في السفر ) ، أي الحافظ والمعين . والصاحب في الأصل الملازم وأراد بذلك مصاحبة الله إياه بالعناية والحفظ ، وذلك أن الإنسان أكثر ما يبغي الصحبة في السفر ، يبتغيها للاستيناس بذلك والاستظهار به والدفاع لما ينو به من النوائب فنبه بهذا القول على حسن الاعتماد عليه وكمال الاكتفاء عن صاحب سواه . قال البغوي : قوله (( أنت الصاحب في السفر )) أي الحافظ يقال صحبك الله ، أي حفظك ، وقوله سبحانه وتعالى : ? ولا هم منا يصحبون ? (21 : 43) أي لا يجارون ، ومن صحبه الله
والخليفة في الأهل ، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل وإذا رجع قالهن وزاد فيهن آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون . رواه مسلم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/333)


لم يضره شيء ( والخليفة في الأهل ) ، الخليفة من ينوب عن المستخلف ، فيما يستخلفه فيه يعني الذي يقوم مقام أحد في إصلاح أمره ، والمعنى أنت الذي أرجوه وأعتمد عليه في غيبتي عن أهلي ، أن يلم شعثهم ويثقف أودهم ويداوي سقمهم ويحفظ عليهم دينهم وأمانتهم ، ( اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر ) ، بفتح الواو وإسكان العين المهملة وبالثاء المثلثلة وبالمد ، أي شدته ومشقته وتعبه وأصله من الوعث وهو الرمل والمشي فيه يشتد على صاحبه ويشق ويقال رمل أوعث ورملة وعثاء أي لما يشتد فيه السير للينه ثم قيل للشدة والمشقة وعثاء على التمثيل . وقال التوربشتي : وعثاء السفر مشقته أخذ من الوعث وهو مكان السهل الكثير الدهس الذي يتعب الماشي فيه ويشق عليه ( وكآبة المنظر ) ، قال الجزري : المنظر هو ما ينظر إليه من أهله وماله وحاله ، والكآبة بفتح الكاف وبالمد وهي تغير النفس بالانكسار من شدة الهم والحزن يقال كئب كآبة واكتئب فهو مكتئب وكئيب - انتهى . وقال الشوكاني : الكآبة بالمد التغير والانكسار من مشقة السفر وما يحصل على المسافر من الاهتمام بأموره - انتهى . والمنظر بفتح الظاء المعجمة مصدر ميمي أي من تغير الوجه بنحو مرض والنفس بالانكسار مما يعرض لها فيما يحبه مما يورث الهم والحزن وقيل : المراد منه الاستعاذة من كل منظر يعقب الكآبة عند النظر إليه ( سوء المنقلب ) بفتح اللام مصدر ميمي أي سوء الرجوع ( في المال والأهل ) أي من سوء الانقلاب إلى أهله وماله وذلك بأن يرجع منقوصا مهموما بما يسوءه وقيل أي من أن يعود إلى وطنه فيرى في أهله وماله ما يسوءه مثل أن يصيب ماله آفة أو يجد أهله مرضى أو فقد بعضهم ، وقيل أي من أن يطمع ظالم أو فاجر في المال والأهل ( وإذا رجع ) ، أي النبي - صلى الله عليه وسلم - من سفره إلى أهله ( قالهن ) ، أي الكلمات أو الجمل المذكورة وهي اللهم إنا نسألك ( وزاد فيهن ) ، أي في جملتهن بأن قال بعدهن ( آئبون ) ،

(16/334)


بهمزة ممدودة بعدها همزة مكسورة اسم فاعل من آب يئوب إذا رجع ، ومن تكلم به بالياء بعد الهمزة الممدودة فقد أخطأ كذا قيل : أي نحن راجعون من السفر بالسلامة إلى الوطن ( تائبون ) أي من المعصية إلى الطاعة ( عابدون لربنا حامدون ) ، قال الطيبي : لربنا يجوز أن يتعلق بقوله عابدون لأن عمل اسم الفاعل ضعيف فيقوى به أو بحامدون ليفيد التخصيص ، أي نحمد ربنا لا نحمد غيره وهذا أولى لأنه كالخاتمة للدعاء - انتهى . وفي الحديث استحباب هذا الذكر عند ابتداء الأسفار كلها ، وقد جاءت فيه أذكار كثيرة ( رواه مسلم ) في المناسك ، وأخرجه أيضا أحمد (ج2 : ص145 ، 151) والترمذي في الدعوات ، وأبو داود في الجهاد ، والنسائي ، والدارمي ، والبغوي في شرح السنة (ج5 : ص140) ، وفي رواية أحمد (ج2 : ص145) ، والدارمي ، والترمذي بعد قوله (( في الأهل )) (( اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا )) ، وكان يقول إذا رجع إلى أهله ، (( آئبون إن شاء الله تائبون عابدون لربنا حامدون )) . وفي رواية أبي داود نحوه بزيادة ونقصان يسير وفي آخره ، (( وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وجيوشه إذا علوا الثنايا كبروا وإذا هبطوا سبحوا فوضعت الصلاة على ذلك )) .
2444- (6) وعن عبد الله بن سرجس قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر يتعوذ من وعثاء السفر وكآبة المنقلب والحور بعد الكور ، ودعوة المظلوم ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/335)


2444- قوله : ( وعن عبد الله بن سرجس ) بفتح السين وكسر الجيم على وزن نرجس مصروفا ، ( إذا سافر يتعوذ ) ، أي بالله ( وكآبة المنقلب ) بفتح الكاف وهمزة ممدودة أو ساكنة كرأفة ورآفة . في القاموس : الكأب والكأبة والكآبة : الغم وسوء الحال والانكسار من حزن والمنقلب بفتح اللام مصدر بمعنى الانقلاب أو اسم مكان والإضافة ظرفية . قال الخطابي : معناه أن ينقلب إلى أهله كئيبا حزينا لعدم قضاء حاجته أو إصابة آفة له أو يجدهم مرضى أو مات منهم بعضهم . وقال الجزري : المعنى أنه يرجع من سفره بأمر يحزنه إما إصابة في سفره وإما قدم عليه مثل أن يعود غير مقضي الحاجة أو أصابت ماله آفة أو يقدم على أهله فيجدهم مرضى أو قد فقد بعضهم ( والحور بعد الكور ) بفتح فسكون فيهما والحاء مهملة ، أي من الانتقاص بعد الزيادة والاستكمال يعني من نقصان الحال والمال بعد زيادتهما وتمامهما ، أي من أن ينقلب حالنا من السراء إلى الضراء ومن الصحة إلى المرض ، وقيل : من فساد الأمور بعد صلاحها ، وقيل : من التفرق بعد الاجتماع ، وأصل الحور نقض العمامة بعد لفها ، وأصل الكور من تكوير العمامة وهو لفها وجمعها ، وقيل الحور الرجوع عن الجماعة بعد أن كان فيهم . وروى مسلم في صحيحه : (( من الحور بعد الكون )) بالنون مصدر كان يكون كونا من كان التامة دون الناقصة يعني من النقصان والتغير بعد الثبات والاستقرار . وقيل : معناه الرجوع عن الحالة المستحسنة بعد أن كان عليها وفي ، كلامهم حار بعد ما كان يريد كان على حالة جميلة فحار عن ذلك أي : رجع . قال الله تعالى : ? إنه ظن أن لن يحور * بلى ? (84 : 14 ، 15 ) أي : لن يرجع . قال النووي في شرح مسلم : هكذا هو في معظم النسخ من صحيح مسلم (( بعد الكون )) بالنون بل لا يكاد يوجد في بلادنا إلا بالنون وكذا ضبطه الحفاظ المتقنون في صحيح مسلم . وقال في الأذكار : رواية النون أكثر وهي التي في أكثر أصول صحيح

(16/336)


مسلم بل هي المشهورة فيها . قال الترمذي بعد ذكر الروايتين : وكلاهما له وجه . قال : يقال : إنما هو الرجوع من الإيمان إلى الكفر أو من الطاعة إلى المعصية ، إنما يعني الرجوع من شيء إلى شيء من الشر . قال النووي بعد ذكر كلام الترمذي هذا وكذا قال غيره من العلماء معناه بالراء والنون جميعا الرجوع من الاستقامة أو الزيادة إلى النقص . قالوا ورواية مأخوذة من تكوير العمامة وهو لفها وجمعها ، ورواية النون مأخوذة من الكون مصدر كان يكون كونا إذا وجد واستقر أي أعوذ بك من النقص بعد الوجود والثبات . قال المازري في رواية الراء : قيل أيضا : أن معناه أعوذ بك من الرجوع عن الجماعة بعد أن كنا فيها ، يقال : كار عمامته إذا لفها ، وحارها إذا نقضها . وقيل : نعوذ بك من أن تفسد أمورنا بعد صلاحها كفساد العمامة بعد استقامتها على الرأس ، وعلى رواية النون قال أبو عبيد سئل عاصم عن معناه فقال : ألم تسمع قولهم حار بعد ما كان أي إنه كان على حالة جميلة فرجع عنها - انتهى ( ودعوة المظلوم ) أي أعوذ بك من الظلم
وسوء المنظر في الأهل والمال . رواه مسلم .
2445- (7) وعن خولة بنت حكيم قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من نزل منزلا فقال : أعوذ بكلمات الله التامات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/337)


فإنه يترتب عليه دعاء المظلوم ، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب . ففيه التحذير من الظلم ومن التعرض لأسبابه . قال الطيبي : فإن قلت : دعوة المظلوم يحترز عنها سواء كانت في الحضر أو السفر . قلت : كذلك الحور بعد الكور لكن السفر مظنة البلايا والمصائب والمشقة فيه أكثر فخصت به ، أو لأن دعوة المظلوم المسافر الذي لا يلقى الإعانة والإغاثة أقرب إلى الإجابة لاجتماع الكربة والغربة وعدم الإعانة والإغاثة ( وسوء المنظر ) بفتح الظاء المعجمة ( في الأهل والمال ) وهو كل ما يسوء النظر إليه وسماعه فيهما . قال الباجي : يريد الاستعاذة من أن يكون في أهله وماله ما يسوء النظر إليه . يقال : منظر حسن ومنظر قبيح . وقال القاري : أي من أن يطمع ظالم أو فاجر في المال والأهل . وقال السندي : المراد بسوء المنظر كل منظر يعقب النظر إليه سوءا . ( رواه مسلم ) في المناسك وأخرجه أيضا أحمد (ج5 : ص82 ، 83) والترمذي في الدعوات ، والنسائي في الاستعاذة ، وفي السير من الكبرى ، وفي اليوم والليلة ، وابن ماجة في الدعاء ، وابن السني (ص157) والبغوي (ج5 : ص136) .

(16/338)


2445- قوله : ( وعن خولة ) بفتح المعجمة وسكون الواو ( بنت حكيم ) بن أمية السلمية يقال : كنيتها أم شريك ويقال لها أيضا : خويلة بالتصغير صحابية شهيرة . يقال : إنها كانت من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت قبل تحت عثمان ابن مظعون . قال ابن عبد البر : وكانت صالحة فاضلة روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعنها سعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير وغيرهما . قال الخزرجي : لها خمسة عشر حديثا انفرد لها مسلم بحديث . يعني الذي نحن بصدد شرحه . قال القاري : وليس لها في الكتب ( أي صحيح مسلم ، وجامع الترمذي ، والسنن الكبرى للنسائي ، وسنن ابن ماجة ، والموطأ ) سوى هذا الحديث الواحد ( من نزل منزلا ) في سفر أو حضر ولا وجه لتقييده بالسفر مع التنكير . قال الزرقاني : منزلا أي مظنة للهوام والحشرات ونحوهما مما يؤذي ولو في غير سفر ( فقال ) في صحيح مسلم : (( ثم قال )) وهكذا في جامع الأصول والأذكار وكذا وقع عند الترمذي وأحمد في رواية وفي أخرى له (( فقال )) وفي رواية لمسلم (( إذا نزل أحدكم منزلا فليقل )) وفي الموطأ وشرح السنة (( من نزل منزلا فليقل )) وهو أمر ندب يدل عليه رواية الكتاب ، ورواية أحمد بلفظ (( لو أن أحدكم إذا نزل منزلا قال : أعوذ )) الحديث . ( أعوذ ) أي أعتصم ( بكلمات الله ) قال الهروي وغيره : الكلمات هي القرآن وقيل أسماءه وصفاته لأن كل واحد منها تامة لا نقص فيها لأنها قديمة والنقصان إنما يكون في المحدثات . وقيل هي جميع ما أنزله على أنبياءه لأن الجمع المضاف إلى المعارف يعم أي يقتضي العموم ( التامات ) أي الكاملات التي
من شر ما خلق . لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك . رواه مسلم .
2446- (8) وعن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

(16/339)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا يدخل فيها نقص ولا عيب ، وقيل : هي النافعات الكافيات الشافيات من كل ما يتعوذ منه . يعني أنها تنفع المقولة له وتحفظه من الآفات وتكفيه . قال الجزري : وصف كلمات بالتمام إذ لا يجوز أن يكون شيء من كلامه ناقصا ولا فيه عيب كما يكون في كلام الآدميين . وقيل : معنى التمام ههنا : أن ينتفع بها المتعوذ وتحفظه من الآفات - انتهى . وقال الباجي : وصفها بالتمام على الإطلاق يحتمل أن يريد به أنه لا يدخلها نقص وإن كان كلمات غيره يدخلها النقص ، ويحتمل أن يريد بذلك الفاضلة ، يقال : فلان تام وكامل أي فاضل ، ويحتمل أن يريد به الثابت حكمها ، قال تعالى : ? وتمت كلمت ربك الحسنى ? (7 : 137) انتهى . قال الخطابي : كان الإمام أحمد يستدل به على أن كلام الله غير مخلوق لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يستعيذ بمخلوق ( من شر ما خلق ) عبر بما للتعميم ( لم يضره ) بفتح الراء وضمها ( شيء ) أي من المخلوقات . قال المناوي : الشيء عند أهل السنة الموجود ويدخل فيه الموجودات كلها ( حتى يرتحل ) أي ينتقل ( من منزله ذلك ) قال الباجي : يريد أن تعوذه يتناول مدة مقامه فيه . قال الزرقاني : وشرط نفع ذلك الحضور والنية وهي استحضار أنه - صلى الله عليه وسلم - أرشده إلى التحصن به وأنه الصادق المصدوق ، فلو قاله أحد واتفق أنه ضره شيء فلأنه لم يقله بنية وقوة يقين وليس ذلك خاصا بمنازل السفر بل عام في كل موضع جلس فيه أو نام . وقال المناوي : والظاهر حصول ذلك لكل داع بقلب حاضر وتوجه تام فلا يختص بمجاب الدعوة . قال القاري : في الحديث رد على ما كان يفعله أهل الجاهلية من كونهم ، إذا نزلوا منزلا قالوا : نعوذ بسيد هذا الوادي ويعنون به كبير الجن ومنه قوله تعالى في سورة الجن : ? وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ? (72 :

(16/340)


6) ( رواه مسلم ) في الدعاء ، وأخرجه أيضا البخاري في خلق أفعال العباد ، وأحمد (ج6 : ص377 ، 409) ، والترمذي في الدعوات ، والنسائي في الكبرى ، ومالك في كتاب الجامع من الموطأ ، وابن ماجة في الطب ، وابن السني (ص168) والدارمي (ص359) ، والبغوي (ج5 : ص145) ، وابن أبي شيبة ، والطبراني ، وزاد البخاري ، والبغوي في آخره (( إن شاء الله )) وفي الباب عن عبد الرحمن بن عائش أخرجه أبو نعيم في المعرفة ، وفي اليوم والليلة كما في الإصابة (ج2 : ص406) ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10 : ص133) وقال : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح .
2446- قوله ( جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) وفي خلق أفعال العباد والموطأ ، وشرح السنة عن أبي صالح عن أبي هريرة (( أن رجلا من أسلم قال : ما نمت هذه الليلة فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أي شيء ؟ فقال : لدغتني عقرب )) الحديث . وهكذا وقع في رواية لأحمد ، وهذا ظاهر في أن اللديغ رجل من أسلم ، وروى أبو داود عن أبي صالح عن رجل من أسلم قال : كنت جالسا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء رجل من أصحابه فقال يا رسول الله : لدغت الليلة فلم أنم
فقال : يا رسول الله ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة . قال : أما لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك . رواه مسلم .
2447- (9) وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كان في سفر وأسحر يقول : سمع سامع بحمد الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/341)


الحديث . وأخرجه النسائي كذلك ، وهذا يدل على أن اللديغ رجل آخر غير الأسلمي ، ويحتمل أنهما قصتان وقعت القصة مرة للرجل الأسلمي وأخرى لغيره . والله تعالى أعلم . ( فقال يا رسول الله ما لقيت ) ما استفهامية للتعجب أي أي شيء لقيت ، أي لقيت أمرا عظيما ووجعا شديدا . أو موصولة والخبر محذوف ، أي الذي لقيته لا أقدر وصفه لعظم شدته ( من عقرب لدغتني البارحة ) ، أي الليلة الماضية ( قال ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أما ) بفتح الهمزة وخفة الميم ( لو قلت ) شرطية ( من شر ما خلق ) ، أي من شر خلقه وهو ما يفعله المكلفون من إثم ومضارة بعض لبعض من نحو ظلم وبغي وقتل وضرب وشتم وغيرهم من نحو لدغ ونهش وعض ، وزاد ابن السني (( ثلاثا )) ، أي لو قلت هذا التعوذ ثلاث مرات ( لم تضرك ) أي العقرب بأن يحال بينك وبين كمال تأثيرها بحسب كمال المتعوذ وقوته وضعفه لأن الأدوية الإلهية تمنع من الداء بعد حصوله وتمنع من وقوعه وإن وقع لم يضره . قال القرطبي : جربت ذلك فوجدته صدقا تركت ليلة فلدغتني عقرب فتفكرت فإذا أنا نسيت هذا التعوذ . ( رواه مسلم ) في الدعاء ، وأخرجه أيضا أحمد ، ومالك في كتاب الجامع من الموطأ ، وأبو داود في الطب ، والنسائي في الكبرى ، وابن ماجة في الطب ، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص227) ، والبغوي (ج5 : ص146) وزاد في آخره (( إن شاء الله )) وروى أحمد (ج2 : ص191) ، والترمذي ، والحاكم (ج4 : ص416) ، وابن حبان عن سهيل عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واللفظ لأحمد قال : من قال إذا أمسى ثلاث مرات (( أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق )) لم يضره حمة تلك الليلة . قال ( سهيل ) : فكان أهلنا قد تعلموها فكانوا يقولونها فلدغت جارية منهم فلم تجد لها وجعا . ورواه الطبراني بلفظ : من قال إذا أمسى (( أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق )) لم يضره شيء . وزاد أحمد في آخر حديث

(16/342)


سهيل عن أبيه عن رجل من أسلم قال سهيل فكان أبي ( أي أبو صالح ) إذا لدغ أحد منا يقول : قالها ؟ فإن قالوا نعم قال : كأنه يرى أنها لا تضره .
2447- قوله ( كان إذا كان في سفر وأسحر ) ، أي دخل في وقت السحر بفتحتين وهو قبيل الصبح ، وقال الزمخشري هو السدس الأخير من الليل ( سمع سامع بحمد الله ) روى سمع بفتح الميم وتشديدها من التسميع بمعنى الإسماع للغير كذا ضبطه القاضي عياض وصاحب المطالع وأشار إلى أنه رواية أكثر رواة مسلم . قالا : ومعناه بلغ سامع قولي هذا لغيره وقال مثله تنبيها على الذكر في السحر والدعاء في ذلك ، وروي بكسر الميم وتخفيفها من السمع وكذا ضبطه الخطابي وآخرون . قال الخطابي : معناه شهد شاهد وهو أمر بلفظ الخبر يريد به الإشهاد على ما يقوله وحقيقته ليسمع السامع
وحسن بلائه علينا ربنا صاحبنا وأفضل علينا عائذا بالله من النار . رواه مسلم .
2448- (10) وعن ابن عمر قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/343)


وليشهد الشاهد حمدنا لله تعالى وحسن بلائه ، أي إنعامه علينا فإنا نعترف بذلك ونشهده عليه ، وقال في اللمعات بعد ذكر الروايتين : وعلى الوجهين هو خبر بمعنى الأمر فالمعنى على الأول ليبلغ سامع قولي هذا إلى غيره ليسعى إلى الحمد والذكر والدعاء في هذا الوقت . وعلى الثاني ليسمع كل من يأتي منه السماع وليشهد على حمدنا لله تعالى . وقال التوربشتي : الحمل على الخبر أولى وأقوى لظاهر اللفظ ، والمعنى أن من كان له سمع فقد سمع بحمدنا وحسن بلائه ، أي حسن إنعامه وأفضاله علينا وأن كلا الأمرين أي حمدنا لله تعالى على نعمه وإنعامه علينا قد اشتهر واستفاض حتى لا يكاد يخفى على ذي سمع ( وحسن بلائه علينا ) ، أي حسن إنعامه وأفضاله علينا . قال الجزري في جامع الأصول : حسن البلاء النعمة والبلاء الاختبار والامتحان فالاختبار بالخير ليتبين الشكر وبالشر ليظهر الصبر . وقال التوربشتي : أراد بالبلاء النعمة والله سبحانه يبلو عباده تارة بالمضار ليصبروا وطورا بالمسار ليشكروا ? ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ? (21 : 35) فالمحنة والمنحة جميعا بلاء لمواقع الاختبار وكلاهما نعمة باعتبار حصول الأجر والمنحة أعظم البلائين لا سيما لذوي النفوس الكاملة لأنها الموجبة للقيام بحقوق الشكر والقيام بها أتم وأصعب وأعلى وأفضل من القيام بحقوق الصبر ( ربنا صاحبنا ) بسكون الموحدة صيغة الأمر من المصاحبة ، أي كن لنا صاحبا بالإعانة والإغاثة والكلاءة والحفظ . قال النووي: أي احفظنا وحطنا واكلأنا ومن صحبه الله لم يضره شيء ( وأفضل علينا ) أمر من الإفضال ، أي أحسن إلينا وتفضل علينا بإدامة النعمة والتوفيق للقيام بحقوقها ( عائذا بالله من النار ) اسم فاعل أقيم مقام المصدر كقولهم قم قائما ، أي قياما فالنصب على المصدر يعني نعوذ بالله عياذا ، أو حال من فاعل يقول فيكون من كلام الراوي . ويجوز أن يكون من كلام

(16/344)


الرسول فيكون حالا من فاعل فعل مقدر هو أقول بصيغة المتكلم والتقدير : أقول ذلك عائذا بالله من النار . وإليه مال النووي حيث قال : منصوب على الحال ، أي أقول هذا في حال استعاذتي واستجارتي بالله من النار . ( رواه مسلم ) في الدعاء ، وأخرجه أيضا أبو داود في الأدب ، والنسائي ، وابن السني (ص164) ، والحاكم (ج1 : ص446) ، وأبو عوانة ، وزاد أبو داود والحاكم بعد قوله بحمده (( ونعمته )) وزاد أيضا الحاكم وأبو عوانة (( يقول ذلك ثلاث مرات ويرفع صوته )) كذا في الحصن .
2448- قوله ( إذا قفل ) بقاف ثم فاء أي رجع وزنه ومعناه ، ومنه تسمى القافلة ، في النهاية : قفل أي عاد من سفره وقد يقال للسفر قفول في الذهاب والمجئي وأكثر ما يستعمل في الرجوع ( من غزو أو حج أو عمرة ) كأنه قصد استيعاب أنواع سفره - صلى الله عليه وسلم - ببيان أنه لا يخرج عن هذه الثلاثة وإلا فظاهره اختصاص ذلك بهذه الأمور الثلاث وليس الحكم كذلك عند الجمهور بل يشرع قول ذلك في كل سفر إذا كان سفر طاعة كصلة الرحم وطلب العلم لما يشمل الجميع من اسم الطاعة . وقيل : يتعدى أيضا إلى المباح لأن المسافر فيه لا ثواب له فلا يمتنع عليه فعل ما يحصل له الثواب
يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ثم يقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير آئبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/345)


وقيل : يشرع في سفر المعصية أيضا لأن مرتكبها أحوج إلى تحصيل الثواب من غيرع ، وهذا التعليل متعقب لأن الذي يخصه بسفر الطاعة لا يمنع من سافر في مباح ولا في معصية من الإكثار من ذكر الله وإنما النزاع في خصوص هذا الذكر في هذا الوقت المخصوص فذهب قوم إلى الاختصاص لكونها عبادات مخصوصة شرع لها ذكر مخصوص فتختص به كالذكر المأثور عقب الأذان وعقب الصلاة وإنما اقتصر الصحابي على الثلاث لانحصار سفر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها ( يكبر ) أي يقول الله أكبر ( على كل شرف ) بفتح المعجمة والراء بعدها فاء وهو المكان العالي ، قال الجزري : الشرف ما ارتفع من الأرض . ووقع في رواية مسلم بلفظ (( إذا أوفى ( أي ارتفع وعلا وأشرف واطلع ) على ثنية ( بمثلثة ثم نون ثم تحتانية مشددة هي العقبة في الجبل وقيل المرتفع من الأرض كالنشر والرابية وقيل هو طريق بين جبلين ) أو فدفد )) ( بفتح الفاء بعدها دال مهملة ثم فاء ثم دال والأشهر تفسيره بالمكان المرتفع ، وقيل هو الأرض المستوية ، وقيل الفلاة الخالية من شجر وغيره ، وقيل غليظ الأودية ذات الحصى ، وقيل الجلد من الأرض في ارتفاع وجمعه فدافد ) قال الطيبي وجه التكبير على الأماكن العالية وهو استحباب الذكر عند تجدد الأحوال والتقلبات وكان - صلى الله عليه وسلم - يراعي ذلك في الزمان والمكان لأن اختلاف أحوال العبد في الصباح والمساء والصعود والهبوط وما أشبه ذلك مما ينبغي أن لا ينسى ربه عند ذلك فإنه هو المتصرف في الأشياء بقدرته المدبر لها قبل صنعه - انتهى . وقال الزين العراقي : مناسبة التكبير على المرتفع أن الاستعلاء محبوب للنفس وفيه ظهور وغلبة فينبغي للمتلبس به أن يذكر عنده أن الله أكبر من كل شيء ويشكر له ذلك ويستمطر منه المزيد ( ثم يقول : لا إله إلا الله ) إلخ . قال الحافظ : يحتمل أنه كان يأتي بهذا الذكر عقب التكبير وهو على المكان المرتفع ويحتمل أن التكبير يختص بالمكان المرتفع

(16/346)


وما بعده إن كان متسعا أكمل الذكر المذكور فيه وإلا فإذا هبط سبح كما في حديث جابر ( الآتي في أواخر الفصل الثالث من هذا الباب ) ويحتمل أن يكمل الذكر مطلقا عقب التكبير ثم يأتي بالتسبيح إذا هبط . قال القرطبي : وفي تعقيب التكبير بالتهليل إشارة إلى أنه المنفرد بإيجاد جميع الموجودات وأنه المعبود في جميع الأماكن ( آئبون ) بالرفع خبر مبتدأ محذوف أي نحن آئبون أي راجعون وليس المراد الإخبار بمحض الرجوع فإنه تحصيل الحاصل بل الرجوع في حالة مخصوصة وهي تلبسهم بالعبادة المخصوصة والاتصاف بالأوصاوف المذكورة ( تائبون ) أي إلى ربنا من التوبة وهي الرجوع عما هو مذموم إلى ما هو محمود شرعا وفيه إشارة إلى التقصير في العبادة قاله - صلى الله عليه وسلم - على سبيل التواضع أو تعليما لأمته أو المراد أمته وقد تستعمل التوبة لإرادة الاستمرار على الطاعة فيكون المراد أن لا يقع منهم ذنب ( عابدون ساجدون لربنا حامدون ) كلها رفع بتقدير نحن والجار والمجرور
صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده . متفق عليه .
2449- (11) وعن عبد الله بن أبي أوفى قال : دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب على المشركين فقال :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/347)


متعلق بحامدون أو وبساجدون أو بهما أو بالصفات الخمسة على طريق التنازع ( صدق الله وعده ، أي فيما وعد به من إظهار دينه في قوله : ? وعدكم الله مغانم كثيرة ? (48 : 20) وقوله : ? وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ? (24 : 55) الآية : وهذا في سفر الغزو ومناسبته لسفر الحج والعمرة قوله تعالى : ? لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ? (48 : 27) ( ونصر عبده ) يريد نفسه الكريمة ( وهزم الأحزاب وحده ) ، أي من غير فعل أحد من الآدميين ، واختلف في المراد بالأحزاب هنا فقيل هم كفار قريش ومن وافقهم من العرب واليهود الذين تحزبوا ، أي تجمعوا في غزوة الخندق ونزلت في شأنهم سورة الأحزاب ، وقيل: المراد أعم من ذلك ، أي أحزاب الكفار في جميع الأيام والمواطن . قال النووي : والمشهور الأول ، وقيل : فيه نظر لأنه يتوقف على أن هذا الذكر إنما شرع من بعد الخندق ، وأجيب : بأن غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - التي خرج فيها بنفسه محصورة والمطابق منها لذلك غزوة الخندق والأصل في الأحزاب أنه جمع حزب وهو القطعة المجتمعة من الناس ، فاللام إما جنسية ، أي كل من تحزب من الكفار وإما عهدية والمراد من تقدم وهو الأقرب قاله الحافظ . وقال القاري : قوله : وهزم الأحزاب أي القبائل المجتمعة من الكفار لحرب النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا اثني عشر ألفا توجهوا من مكة إلى المدينة واجتمعوا حولها سوى من انضم إليهم من اليهود ومضى عليهم قريب من شهر لم يقع بينهم حرب إلا الترامي بالنبل والحجارة زعما منهم أن المؤمنين لم يطيقوا مقابلتهم فلا بد أنهم يهربون فأرسل الله عليهم ريحا في ليلة شاتية سفت التراب على وجوههم وأطفأت نيرانهم وقلعت أوتادهم وأكفأت قدورهم وأرسل الله ألفا من الملائكة فكبرت في ذوائب عسكرهم فهاصت الخيل وقذف في

(16/348)


قلوبهم الرعب فانهزموا ونزل قوله تعالى : ? يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ? (33 : 9) قال الزرقاني : وفي الحديث جواز السجع في الدعاء والكلام بلا تكلف وإنما ينهى عن التكلف لأنه يشغل عن الإخلاص ويقدح في النية ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في أواخر أبواب العمرة من كتاب الحج وفي الجهاد وفي المغازي وفي الدعوات ومسلم في الحج ، وأخرجه أيضا أحمد (ج2 : ص6 ، 11 ، 16 ، 22 ، 39 ، 64 ، 106) ، ومالك في جامع الحج من الموطأ ، وأبو داود في الجهاد ، والنسائي في السير ، وفي اليوم والليلة ، وابن السني (ص165 ، 166 ، 169) ، ونسبه الجزري في جامع الأصول ، وابن الجزري في الحصن ، والسيوطي في الجامع الصغير للترمذي أيضا ، ولم يذكر المنذري في مختصر السنن والنابلسي في ذخائر المواريث ، والعيني في العمدة الترمذي في من خرج هذا الحديث .
2449- قوله ( دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب ) ، أي في غزوة الخندق ( فقال ) ، تفسير لقوله دعا أو ودعا بمعنى
اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اللهم اهزم الأحزاب اللهم اهزمهم وزلزلهم . متفق عليه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/349)


أراد الدعاء ( اللهم ) ، أي يا الله يا ( منزل الكتاب ) من الإنزال . وقيل : من التنزيل والمراد بالكتاب القرآن . وقيل : الجنس فيشمل سائر الكتب المنزلة على الأنبياء ( سريع الحساب ) يعني يا سريع الحساب . قال الكرماني : إما أن يراد به أنه سريع حسابه بمجئي وقته ، وإما أنه سريع في الحساب أي مسرع حساب الخلق يوم القيامة . قال السندي : قوله : (( منزل الكتاب سريع الحساب )) لكونهما للفصل بين الحق والباطل يقتضيان دفع أهل الباطل وهدم بنيانهم ، فينبغي التوسل بهما لذلك - انتهى . ووقع في رواية للشيخين (( منزل الكتاب مجري السحاب هازم الأحزاب )) قيل أشار بهذا الدعاء إلى وجوه النصر عليهم فبالكتاب إلى القرآن الموعود فيه بالنصر على الكفار قال تعالى : ? قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ? (9 : 14) فيكون المراد شدة الطلب للنصر كنصره هذا الكتاب بخذلان من يكفر به ويجحده وبمجري السحاب إلى القدرة الظاهرة في تسخير السحاب تنبيها على سرعة إجراء ما يقدره فإنه قدر جريان السحاب على أسرع حال وكأنه يسأل بذلك سرعة النصر والظفر . وبهازم الأحزاب إلى تجريد التوكل واعتقاد أن الله هو المنفرد بالفعل من غير حول منا ولا قوة . قال القسطلاني : أو المراد التوسل إليه بنعمة فأشار بالأولى إلى نعمة الدين بإنزال الكتاب وبالثانية إلى نعمة الدنيا وحياة النفوس بإجراء السحاب الذي جعله سببا في نزول الغيث والأرزاق ، وبالثالثة إلى أنه حصل بها حفظ النعمتين فكأنه قال : اللهم كما أنعمت بعظيم نعمتك الأخروية والدنيوية وحفظهما فأبقهما وقد وقع هذا السجع اتفاقا من غير قصد - انتهى . وقال الحافظ : وفيه أي في الدعاء التنبيه على عظم هذه النعم الثلاث فإن بإنزال الكتاب حصلت النعمة الأخروية وهي الإسلام وبإجراء السحاب حصلت النعمة الدنيوية وهي الرزق وبهزيمة الأحزاب حصل حفظ النعمتين وكأنه قال :

(16/350)


اللهم كما أنعمت بعظيم النعمتين الأخروية والدنيوية وحفظهما فأبقهما ( اللهم اهزم الأحزاب ) ، أي اكسرهم وبدد شملهم فهزمهم الله تعالى بأن أرسل عليهم ريحا وجنودا لم تروها كما في سورة الأحزاب ( اللهم اهزمهم ) تأكيد وتعميم ( وزلزلهم ) قال النووي ، أي أزعجهم وحركهم بالشدائد قال أهل اللغة الزلزال والزلزلة الشدائد التي تحرك الناس . وقال الحافظ : المراد الدعاء عليهم إذا انهزموا أن لا يستقر لهم قرار ، وقال الداودي أراد أن تطيش عقولهم وترعد أقدامهم عند اللقاء فلا يثبتوا . قال القسطلاني : إنما خص الدعاء عليهم بالهزيمة والزلزلة دون أن يدعو عليهم بالهلاك لأن الهزيمة فيها سلامة نفوسهم وقد يكون ذلك رجاء أن يتوبوا من الشرك ويدخلوا في الإسلام ، والإهلاك الماحق لهم مفوت لهذا المقصد الصحيح . وفي رواية الإسماعيلي في هذا الحديث من وجه آخر زيادة في هذا الدعاء وهي أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا أيضا فقال : اللهم أنت ربنا وربهم ونحن عبيدك وهم عبيدك نواصينا ونواصيهم بيدك فاهزمهم وانصرنا عليهم . ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الجهاد ، والمغازي ، والدعوات ، والتوحيد ، ومسلم في الجهاد ، وأخرجه أيضا أحمد (ج4 : ص353 ، 354 ، 381) ، والترمذي ، وأبو داود في الجهاد ، والنسائي في السير ، وفي عمل اليوم والليلة ، وابن ماجه في الجهاد ، والحميدي في مسنده (ج2 : ص314) والبغوي في شرح السنة (ج5 : ص152) .
2450- (12) وعن عبد الله بن بسر قال : نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي فقربنا إليه طعاما ووطبة فأكل منها ثم أتي بتمر فكان يأكله ويلقي النوى بين إصبعيه ويجمع السبابة والوسطى . وفي رواية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/351)


2450- قوله ( وعن عبد الله بن بسر ) بضم الموحدة وإسكان الباء ( نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) ، أي ضيفا ( على أبي ) ، أي والدي ( فقربنا إليه طعاما ووطبة ) بواو مفتوحة وطاء ساكنة فموحدة في جميع نسخ المشكاة . قال النضر : الوطبة الحيس يجمع بين التمر والأقط والسمن . قلت : روي هذا اللفظ في صحيح مسلم على وجوه شتى . واختلف في أنه أيها أصح . قال القاضي عياض : في المشارق في حرف الواو : وطيئة بفتح الواو وكسر الطاء بعدها همزة ممدودة ( كسفينة ) هو التمر يخرج نواه ويعجن باللبن . وقال ابن دريد : هي عصيدة التمر . وقال ابن قتتيبة : هي الغرارة يكون فيها القديد والكعك وغيره . قيل : الوطيئة على وزن وثيقة هي الصحيح وهي طعام كالحيس سمي به لأنه يوطأ باليد أي يمرس وقيل هو سقاء اللبن ورد بأنه لا يؤكل منها بل يشرب إلا أن يقال بأنه غلب الأكل على الشرب وبأن قوله ثم أتي بشراب ينافيه إلا أن يراد به الماء . وروي وطئة بفتح الواو وكسر الطاء بعدها همزة غير ممدودة قال النووي : ونقل القاضي عياض عن رواية بعضهم في صحيح مسلم وطئة بفتح الواو وكسر الطاء بعدها همزة وادعى أنه الصواب وهكذا ادعاه آخرون . والوطئة بالهمزة عند أهل اللغة طعام يتخذ من التمر كالحيس . وروى السمرقندي رطبة بضم الراء وفتح الطاء بعدها موحدة واحدة الرطب وكذا ذكر الحميدي . وقال هكذا جاء فيما رأينا من نسخ مسلم رطبة بالراء وهو تصحيف من الراوي وإنما هو بالواو ، وهذا الذي ادعاه على نسخ مسلم هو فيما رآه وإلا فأكثرها بالواو وكما قال النووي والجزري . وقال النووي : قوله : وطبة بالواو وإسكان الطاء وبعدها باء موحدة وهكذا رواه النضر بن شميل هذا الحديث عن شعبة والنضر إمام من أئمة اللغة وفسره النضر بأنه الحيس يجمع التمر البرني والأقط المدقوق والسمن . وكذا ضبطه أبو مسعود الدمشقي وأبو بكر البرقاني وآخرون وهكذا هو عندنا في معظم النسخ ثم ذكر النووي

(16/352)


رواية الرطبة ووهنها قيل وعلى الروايات يحمل الطعام على الخبز ( فأكل منها ) أي من الوطبة . قال القاري : وكان الظاهر أن يقال منهما أو منه بتأويل المذكور فهو من قبيل ? والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ? (9 : 34) في رجع الضمير إلى أقرب ما ذكر وترك الآخر للوضوح فهو من باب الاكتفاء ( ثم أتي بتمر ) أي جئي به ( ويلقي ) بضم أوله ( النوى ) جنس النواة ( بين إصبعيه ) بتثليث الهمزة والموحدة ففيه تسع لغات والأشهر كسر الهمزة وفتح الموحدة ( ويجمع السبابة ) أي المسبحة ( والوسطى ) قال النووي : قوله (( ويلقي النوى بين إصبعيه )) ، أي يجعله بينهما لقلته ولم يلقه في إناء التمر لئلا يختلط بالتمر . وقيل كان يجمعه على ظهر الإصبعين ثم يرمي به . قلت : ويؤيد الثاني ما وقع في رواية أحمد (ج4 : ص188) ، وابن السني (ص152) (( فكان يأكل التمر ويضع النوى على ظهر إصبعيه ، ثم يرمي به )) ويؤيده أيضا الروية الآتية ( وفي رواية ) هذه الرواية ليست في
فجعل يلقى النوى على ظهر إصبعيه السبابة والوسطى ، ثم أتي بشراب فشربه . فقال أبي : وأخذ بلجام دابته : ادع الله لنا . فقال : اللهم بارك لهم في ما رزقتهم واغفر لهم وارحمهم . رواه مسلم .
( الفصل الثاني )
2451- (13) عن طلحة بن عبيد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى الهلال قال : اللهم أهله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/353)


صحيح مسلم بل هي في سنن أبي داود ( فجعل يلقي النوى على ظهر إصبعيه السبابة والوسطى ) ، بالجر بدل أو بيان ويجوز الرفع والنصب وفي رواية لأحمد وكذا الترمذي (( فكان يأكله ويلقي النوى بإصبعيه يجمع السبابة والوسطى )) قال السيوطي : لم يلق النوى في إناء التمر لأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يجعل الآكل النوى على الطبق . رواه البيهقي وعلله الترمذي بأنه قد يخالطه الريق ورطوبة الفم فإذا خالطه ما في الطبق عافته النفس . كذا في فتح الودود ( ثم أتي ) بصيغة المجهول ( بشراب ) ، أي بماء أو ما يقوم مقامه ، وفي جميع الروايات بعد ذلك (( ثم ناوله الذي عن يمينه )) وفيه أن الشراب ونحوه يدار على اليمين ( وأخذ ) ، أي وقد أخذ ، جملة حالية معترضة بين القول والمقول وأخذ منه أن يسن أخذ ركاب الأكابر ولجامه والضيف تواضعا واستمالة ( ادع الله لنا ) إلخ ، فيه أنه ينبغي للمضيف أن يسأل الدعاء من الضيف ، وفيه استحباب طلب الدعاء من الفاضل ودعاء الضيف بتوسعة الرزق والمغفرة والرحمة ، وقد جمع - صلى الله عليه وسلم - في هذا الدعاء خيرات الدنيا والآخرة قاله النووي . ( واغفر لهم ) ، أي ذنوبهم ( وارحمهم ) بالتفضل عليهم بالواوين فيهما في جميع نسخ المشكاة ، وهكذا وقع عند أحمد ، والترمذي ، وأبي داود . قال الجزري : والذي رويناه في جميع أصول مسلم (( فاغفر لهم )) بالفاء وكذلك (( فارحمهم )) في أكثرها ( رواه مسلم ) في الأشربة ، وأخرجه أيضا أحمد (ج4 : ص187 ، 188 ، 189 ، 190) ، والترمذي في الدعوات ، وأبو داود في الأشربة ، والنسائي في اليوم والليلة ، وابن أبي شيبة ، وابن السني في اليوم والليلة (ص152) .

(16/354)


2451- قوله ( عن طلحة بن عبيد ) التيمي المدني أحد العشرة المبشرة ( كان إذا رأى الهلال ) الهلال يكون أول ليلة والثانية والثالثة ، ثم هو قمر . وقال في القاموس : الهلال غرة القمر أو لليلتين أو إلى ثلاث أو إلى سبع وليلتين من آخر الشهر ست وعشرين وسبع وعشرين وفي غير ذلك قمر - انتهى . والمشهور أنه من أول الشهر إلى ثلاث واقتصر عليه في المهذب ، وإنما قيل : له هلال لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه من الإهلال الذي هو رفع الصوت ( اللهم أهله ) بفتح الهمزة وكسر الهاء وتشديد اللام مفتوحة دعاء بصيغة الأمر من الإهلال . قال الجزري : أهل الهلال وأهل واستهل إذا رؤى وأبصر ، وأهله الله أطلعه ، وأهللته إذا أبصرته . وأصل الإهلال رفع الصوت كأنهم إذا رأوا الهلال رفعوا أصواتهم بالتكبير ومنه الإهلال في الإحرام وهو رفع الصوت بالتلبية . قال الطيبي : أهله يروى مدغما
علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام ربي وربك الله . رواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن غريب .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/355)


ومفكوكا أي أطلعه ( علينا ) مقترنا ( بالأمن ) كذا في جميع نسخ المشكاة ، وكذا في المصابيح ، والمستدرك (ج4 : ص285) ، وهكذا وقع في بعض نسخ الترمذي ، والدارمي ، وابن السني ، ووقع في بعض نسخ هذه الكتب الثلاثة باليمن بالياء مضمومة وهكذا وقع في المسند ، وهو البركة . قال الحكيم الترمذي : اليمن : السعادة ، والإيمان : الطمأنينة بالله . كأنه يسأل دوامهما والسلامة والإسلام : أن يدوم الإسلام ويسلم له شهره فإن لله تعالى في كل شهر حكمة وقضاء وشأنا في الملكوت - انتهى . ( والإيمان ) ، أي بدوامه وكماله ( والسلامة ) ، أي عن كل مضرة وسوء ، ( والإسلام ) ، أي دوامه . قال القاضي : الإهلال في الأصل رفع الصوت ثم نقل إلى رؤية الهلال لأن الناس يرفعون أصواتهم إذا رأوه بالإخبار عنه ولذلك سمي الهلال هلالا نقل منه إلى طلوعه لأنه سبب لرؤيته ومنه إلى إطلاعه ، وهو في الحديث بهذا المعنى ، أي أطلعه علينا وأرنا إياه مقترنا بالأمن والإيمان : أي باطنا ، والسلامة والإسلام ، أي ظاهرا ونبه بذكر الأمن والسلامة على دفع كل مضرة وبالإيمان والإسلام على جلب كل منفعة على أبلغ وجه وأوجز عبارة . ( ربي وربك الله ) خطاب للهلال على طريق الإلتفات ولما توسل به لطلب الأمن والإيمان دل على عظم شأن الهلال فقال ملتفتا إليه ربي وربك الله تنزيها للخالق أن يشارك في تدبير ما خلق وردا للأقاويل الداحضة في الآثار العلوية . وفي الحديث تنبيه على أن الدعاء مستحب عند ظهور الآيات وتقلب أحوال النيرات ، وعلى أن التوجه فيه إلى الرب لا إلى المربوب ، والإلتفات في ذلك إلى صنع الصانع لا إلى المصنوع ، ذكره التوربشتي . وقال الشوكاني : في الحديث مشروعية الدعاء عند رؤية الهلال بما اشتمل عليه هذا الحديث . ( رواه الترمذي ) في الدعوات ، وأخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص163) والدارمي في أول الصوم ، والحاكم في الأدب (ج4: ص285) ، والبخاري في التاريخ الكبير (2

(16/356)


، 1 ، 109) في ترجمة بلال بن يحيى بن طلحة ، وابن السني (ص207) ، والبغوي (ج5 : ص128) ، ونسبه في الحصن لابن حبان أيضا ، قال الشوكاني : وزاد ابن حبان بعد قوله والإسلام (( والتوفيق لما تحب وترضى )) ، والحديث رواه كلهم من طريق سليمان بن سفيان المدني عن بلال بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله عن أبيه عن جده طلحة بن عبيد الله ( وقال : هذا حديث حسن غريب ) ، وقال الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند (ج2 : ص365) : إسناده حسن ورمز لحسنه السيوطي في الجامع الصغير ، وسكت عنه الحاكم والذهبي . قلت : سليمان بن سفيان ضعفه ابن معين ، وأبو حاتم ، والنسائي وغيرهم ، وفي التهذيب (ج4 : ص194) عن الترمذي في العلل المفردة عن البخاري (( منكر الحديث )) ، وفيه أيضا أن ابن حبان ذكره في الثقات ، وقال (( كان يخطئ )) وهذا أعدل ما فيه . قال ورواه البخاري في الكبير في ترجمة بلال ولم يذكر له علة ولذلك رجحنا تحسينه إلا أن البخاري لم يذكر سليمان بن سفيان في الضعفاء - انتهى . وقال المناوي في فيض القدير (ج5 : ص136) بعد نقل تحسين الترمذي : وهو مستند
2452 ، 2453- (14 ، 15) وعن عمر بن الخطاب وأبي هريرة قالا : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من رأى مبتلى فقال : الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا إلا لم يصبه ذلك البلاء كائنا من كان .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/357)


المصنف يعني السيوطي في رمزه لحسنه ونوزع بأن الحديث عد من منكرات سليمان وقد ضعفه ابن المدني وأبو حاتم والدارقطني . وقال ابن معين : ليس بثقة . وذكره ابن حبان في الثقات وقال : كان يخطئ . وقال الحافظ ابن حجر : صححه الحاكم وغلط في ذلك فإن فيه سليمان بن سيفان ضعوه وإنما حسنه الترمذي لشواهده - انتهى . قلت : لم يحكم الحاكم في المستدرك (ج4 : ص285) على هذا الحديث بشيء بل سكت عنه هو والذهبي ، وأما شواهده - انتهى . فمنها ما رواه الدارمي وابن حبان والطبراني عن ابن عمر مثل حديث طلحة وزاد (( والتوفيق لما تحب وترضى )) وفي سنده عندهم عثمان بن إبراهيم الحاطبي . قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10 : ص139) فيه ضعف وبقية رجاله ثقات . ومنها ما رواه ابن السني (ص208) عن حدير أبي فوزة السلمي بلفظ (( كان إذا رأى الهلال قال : اللهم أدخله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والسكينة والعافية والرزق الحسن )) وحدير هذا مختلف في صحبته ذكره جماعة . ومنهم الذهبي في تجريده (ج1 : ص133) في الصحابة وذكره ابن حبان في التابعين .

(16/358)


2452 ، 2453 - قوله ( ما من رجل رأى مبتلى ) أي في أمر بدني : كبرص وجذام ، وقصر فاحش أو طول مفرط ، أو عمى أو عرج ، أو اعوجاج يد ونحوها . أو ديني : بنحو فسق وظلم ، وبدعة وكفر وغيرها ( الحمد الله الذي عافاني ) ، أي نجاني وسلمني ( مما ابتلاك به ) فإن العافية أو سمع من البلية لأنها مظنة الجزع والفتنة وحينئذ تكون محنة أي محنة والمؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف كما ورد ،.قال العلماء : إن كان مبتلى بالفسوق يقوله جهرا ويسمعه لينزجر عنها ، وإن كان مريضا أو ناقص الخلقة يقوله سرا لئلا يتألم قلبه بذلك . ولا يلزم من لفظ الخطاب الجهر والإسماع ، والطيبي حمله على القسم الأول بقرينة الخطاب حيث قال هذا إذا كان مبتلى بالمعاصي والفسوق ، وأما إذا كان مريضا أو ناقص الخلقة لا يحسن الخطاب . قال القاري : الصواب أنه يأتي به لورود الحديث بذلك وإنما يعدل عن رفع الصوت إلى إخفاءه في غير الفاسق بل في حقه أيضا إذا كان يترتب عليه مفسدة ولذا قال الترمذي بعد إيراد الحديث المرفوع : وقد روى عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال : إذا رأى صاحب بلاء يتعوذ يقول ذلك في نفسه ولا يسمع صاحب البلاء - انتهى . ويسمع صاحب البلاء الديني إذا أراد زجره يرجو انزجاره ( وفضلني على كثير ممن خلق ) ، أي صيرني أفضل منهم أي أكثر خيرا أو أحسن حالا . وقال القاري : أي في الدين والدنيا والقلب والقالب (تفضيلا ) مصدر مؤكد لما قبله ( كائنا ما كان ) الظاهر أنه حال من الفاعل يدل على ذلك آخر حديث عمر كما سيأتي ، أي حال كون ذلك البلاء أي شيء كان ، وقال الطيبي : حال من الفاعل أو الهاء في
رواه الترمذي .
2454- (16) ورواه ابن ماجة عن ابن عمر ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب . وعمرو بن دينار الراوي ليس بالقوي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/359)


لم يصبه وهذا الوجه . وذهب المظهر إلى أنه من المفعول . وقال : أي في حال ثباته وبقائه ما كان أي ما دام باقيا في الدنيا كذا في المرقاة . ( رواه الترمذي ) في الدعوات عن عمر وأبي هريرة . قلت : روى الترمذي أولا من حديث عمرو بن دينار مولى آل الزبير عن سالم بن عبد الله بن عمر عن ابن عمر عن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من رأى صاحب بلاء فقال : (( الحمد لله الذي عافاني مم ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا )) إلا عوفي من ذلك البلاء كائنا ما كان ما عاش . وقد ضعف الترمذي إسناد هذا الحديث حيث قال : هذا حديث غريب وعمرو بن دينار قهرمان آل الزبير ليس بالقوي في الحديث وقد تفرد بأحاديث عن سالم بن عبد الله بن عمر ثم روى الترمذي من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من رأى مبتلى فقال : (( الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا )) لم يصبه ذلك البلاء . قال الترمذي بعد إخراجه : حديث حسن غريب من هذا الوجه . قال ميرك : روى الترمذي من حديث أبي هريرة وحسن إسناده ، ومن حديث عمر بن الخطاب بمعناه وضعفه - انتهى . فإطلاق المصنف ليس على بابه ، وتصرفه في سياق المتن ليس مما يستحسن ، والظاهر أنه تبع في سوق المتن البغوي صاحب المصابيح وزاد أبا هريرة في ذكر مخرج الحديث ولم يلتفت إلى تغاير سنديهما ولا إلى تحسين الترمذي لحديث أبي هريرة ، وحديث عمر أخرجه أيضا البغوي في شرح السنة (ج5 : ص130) وأخرج البيهقي كما في الجامع الصغير ، والبزار ، والطبراني في الصغير والأوسط ، كما في الترغيب (ج4 : ص84) ، ومجمع الزوائد (ج10 : ص138) من حديث أبي هريرة وحده . وقال فيه : فإذا قال ذلك شكر تلك النعمة . قال المنذري والهيثمي : إسناده حسن ، وأخرج ابن السني (ص101) من حديث عمر وحده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من

(16/360)


رجل يفجأه صاحب بلاء فيقول الحمد لله إلخ . وفيه أيضا عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير .
2454- قوله ( ورواه ابن ماجة ) في آخر الدعاء ( عن ابن عمر ) بلا واو بلفظ (( من فجئه ( بكسر الجيم وفتحها أي لقيه فجاءة ) صاحب بلاء فقال : الحمد لله )) الحديث . وفي سنده أيضا عمرو بن دينار وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط بلفظ حديث أبي هريرة ، قال الهيثمي (ج10 : ص138) : وفيه زكريا بن يحيى بن أيوب الضرير ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات ( وقال الترمذي هذا ) ، أي حديث عمر بن الخطاب ( غريب ) ، أي ضعيف ، وأما حديث أبي هريرة فقد حسنه الترمذي كما تقدم ( وعمرو بن دينار الراوي ) ، أي لحديث عمر عن سالم بن عبد الله بن عمر عن ابن عمر عن عمر ( ليس بالقوي ) في الحديث وضعفه أيضا ابن معين وعمر بن علي وأبو حاتم وأبو زرعة ، والنسائي ، والدارقطني ، وأبو داود وغيرهم .
2455- (17) وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من دخل السوق فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة ورفع له ألف ألف درجة وبنى له بيتا في الجنة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقالوا : روى عن سالم بن عبد الله بن عمر أحاديث منكرة ، وقال البخاري : فيه نظر . فحديث عمر عند الترمذي وابن السني ضعيف وكذا حديث ابن عمر عند ابن ماجه لكن يؤيدهما حديث أبي هريرة وهو حديث حسن الإسناد .

(16/361)


2455- قوله ( من دخل السوق ) قال الطيبي : خصه بالذكر لأنه مكان الغفلة عن ذكر الله والاشتغال بالتجارة فهو موضع سلطنة الشيطان ومجمع جنوده ، فالذاكر هناك يحارب الشيطان ويهزم جنوده فهو خليق بما ذكر من الثواب انتهى . ( فقال ) أي سرا أو جهرا . قيل : والأفضل الجهر به لأن فيه تذكيرا للغافلين حتى يقولوا مثل قوله ففيه القول والنفع المتعدي ولكنه إذا أمن الرياء والسمعة ( بيده الخير ) وكذا الشر لقوله تعالى : ? قل كل من عند الله ? (4 : 78) فهو من باب الاكتفاء أو من طريق الأدب فإن الشر لا ينسب إليه ( وهو على كل شيء ) ، أي مشيء ( قدير ) تام القدرة . قال الطيبي : فمن ذكر الله فيه دخل في زمرة من قال تعالى في حقهم : ? رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ? (24 : 37) ( كتب الله له ) ، أي أثبت له أو أمر بالكتابة لأجله ( ألف ألف حسنة ) إلخ . كناية عن كثرة الثواب قالوا وذلك من جهة أنه يدفع عنهم ظلمة الغفلة وما هم فيه من الزور والأيمان الكاذبة كما يشاهد في الأسواق ولما كان في ذلك غلظة وشدة وفيهم كثرة كان الأجر أيضا كثيرا . كذا قال في اللمعات وهو محصل كلام الطيبي في شرح المشكاة ( ومحا عنه ) ، أي بالمغفرة أو أمر بالمحو عن صحيفته ( ألف ألف سيئة ) ، أي إن كانت وإلا تزاد في الحسنة بقدر ذلك ( وبنى له بيتا في الجنة ) ، أي أمر ببنائه وهذه الجملة وقعت في رواية أخرى للترمذي مكان قوله (( ورفع له ألف ألف درجة )) ورواه بهذا اللفظ أحمد (ج1 : ص47) ، وابن ماجة في التجارات ، وابن السني (ص63) ، والبغوي (ج5 ص132) ، وابن أبي الدنيا والحاكم (ج1 : ص538) كلهم من رواية عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن جده وقد تقدم الكلام في عمرو بن دينار ورواه أيضا الحاكم (ج1 : ص539) من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا أيضا ، وقال : هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين .

(16/362)


قال المنذري في الترغيب : كذا قال الحاكم ، وفي إسناده مسروق ابن المرزبان يأتي الكلام عليه - انتهى . قلت قد ذكر في آخر كتابه مسروق بن المرزبان هذا . وقال : قال أبو حاتم : ليس بالقوي ووثقه غيره - انتهى . قلت : ذكره ابن حبان في الثقات وقال صالح بن محمد : صدوق . وقال الذهبي في الميزان : صدوق معروف ، ثم ذكر كلام أبي حاتم . وقال في تلخيص المستدرك : مسروق بن المرزبان ليس
رواه الترمذي وابن ماجة وقال الترمذي : هذا حديث غريب . وفي شرح السنة : (( من قال في سوق جامع يباع فيه )) بدل (( من دخل السوق )) .
2456- (18) وعن معاذ بن جبل قال سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يدعو يقول : اللهم إني أسألك تمام النعمة . فقال : أي شيء تمام النعمة ؟ قال : دعوة أرجو بها خيرا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/363)


بحجة . قال الحاكم : تابع مسروقا عمران بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر ثم ساقه من رواية يحيى بن سليم عنه ، قال الذهبي : وقال البخاري : عمران منكر الحديث . ( رواه الترمذي ) في الدعوات من طريق أزهر بن سنان عن محمد بن واسع عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن جده وانتهى هذا الطريق إلى قوله (( ورفع له ألف ألف درجة )) . قال الترمذي : هذا حديث غريب . وقد رواه عمرو بن دينار عن سالم بن عبد الله هذا الحديث نحوه ثم ساقه من رواية أحمد ابن عبدة عن حماد بن زيد والمعتمر بن سليمان عن عمرو بن دينار وفيه : (( وبنى له بيتا في الجنة )) مكان (( ورفع له ألف ألف درجة )) ( وابن ماجة ) ، وكذا أحمد ، وابن السني ، والحاكم ، والبغوي ، والترمذي ، كلهم من رواية عمرو بن دينار عن سالم بن عبد الله بزيادة ((بنى له بيتا في الجنة )) مكان (( ورفع له ألف ألف درجة )) وللحديث عدة طرق ذكرها الحاكم في المستدرك (ج1 : ص538 ، 539) ( وقال الترمذي هذا ) أي حديث عمر من طريق أزهر بن سنان عن محمد بن واسع عن سالم بن عبد الله ( غريب ) . وقال المنذري في الترغيب بعد ذكر سياق أزهر بن سنان وكلام الترمذي هذا ما نصه : إسناده متصل حسن ورواته ثقات أثبات ، وفي أزهر بن سنان خلاف . قال ابن عدي : أرجو أنه لا بأس به . قلت : قد ذكره أيضا في آخر كتابه . وقال قال ابن معين : ليس بشيء ، وقال ابن عدي : ليست أحاديثه بالمنكرة جدا أرجو أنه لا بأس به - انتهى . قال الشوكاني في تحفة الذاكرين : والحديث أقل أحواله أن يكون حسنا وإن كان في ذكر العدد على هذه الصفة نكارة - انتهى . ولا يخفى ما في سياق المصنف للحديث ولكلام الترمذي من الخلل والخرازة . هذا وقد بسط الكلام في طرق هذا الحديث ابن القيم في تهذيب السنن (ج7 : ص336) فارجع إليه ( وفي شرح السنة ) ، أي لصاحب المصابيح (ج5 : ص132) ( من قال سوق جامع بباع فيه بدل (( من دخل السوق )) ) قال البغوي :

(16/364)


وهذه الرواية تقتضي طلب ذلك وهو الأقرب لأن حكمة ترتب هذا الثواب العظيم على هذا الذكر اليسير أنه ذاكر لله تعالى في الغافلين فهو بمنزلة المجاهد مع الغازين - انتهى . وفي المستدرك للحاكم (( قال محمد بن واسع : فأتيت قتيبة بن مسلم فقلت له أتيتك بهدية فحدثته بالحديث فكان يركب في موكبه حتى يأتي باب السوق فيقولها ثم ينصرف )) .
2456- قوله ( يقول ) بدل أو حال ( فقال ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - سؤال امتحان ( دعوة ) ، أي مستجابة ذكره الطيبي أو هو دعوة أو مسألة دعوة ( أرجو بها خيرا ) قال القاري : أي مالا كثيرا . وقوله : خيرا كذا في جميع النسخ من المشكاة
فقال : إن من تمام النعمة دخول الجنة والفوز من النار . وسمع رجلا يقول : يا ذا الجلال والإكرام فقال : قد استجيب لك فسل . وسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا وهو يقول : اللهم إني أسألك الصبر . فقال : سألت الله البلاء فاسأله العافية . رواه الترمذي .
2457- (19) وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جلس مجلسا فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم : سبحانك اللهم وبحمدك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/365)


ووقع الترمذي (( أرجو بها الخير )) وهكذا في المسند . قال الطيبي : وجه مطابقة الجواب السؤال هو أن جواب الرجل من باب الكناية أي أسأله دعوة مستجابة فيحصل مطلوبي منها ، ولما صرح بقوله خيرا فكان غرضه المال الكثير كما في قوله تعالى : ? إن ترك خيرا ? (2 : 180) فرده - صلى الله عليه وسلم - بقوله : (( إن من تمام النعمة )) إلخ . وأشار إلى قوله تعالى : ? فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ? (3 : 185) انتهى . قال القاري : والأظهر أن الرجل حمل النعمة على النعم الدنيوية الزائلة الفانية وتمامها على مدعاة في دعائه فرده - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ودله على أن لا نعمة إلا النعمة الباقية الأخروية - انتهى . وقال الشيخ الدهلوي في اللمعات : قوله (( أرجو بها خيرا )) ، أي هذه دعوة أرجو بها خيرا ، وأعلم مجملا أن عند الله نعمة تامة فأسألها ولا أعرف حقيقة تمام النعمة فعلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقيقة تمام النعمة هذا ما يخيل بالبال في معنى الحديث وهو المتبادر وإن لم يذكره الطيبي . ( فقال إن ) ، وفي الترمذي (( قال فإن )) ( من تمام النعمة دخول الجنة ) ، أي ابتداء ( والفوز ) ، أي الخلاص والنجاة ( من النار ) ، أي ولو انتهاء ( وسمع ) ، أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ( يا ذا الجلال والإكرام ) ، أي يا ذا العظمة والكبرياء والإكرام لأولياءه ( قد استجيب لك ) ، أي وقع لك استحقاق الإجابة أو قصد به التفاؤل والمبالغة على أن الاستجابة بمعنى الإجابة ( فسل ) ، أي ما تريد ، وفيه دليل على أن استفتاح الدعاء بقول الداعي يا ذا الجلال والإكرام يكون سببا في الإجابة وفضل الله واسع ( فقال ) ، في الترمذي قال : ( سألت الله البلاء ) ، أي لأنه يترتب عليه ( فاسأله العافية ) ، أي فإنها أوسع وكل أحد لا يقدر أن يصبر على البلاء ومحل هذا إنما هو قبل وقوع البلاء وأما بعده فلا منع من

(16/366)


سؤال الصبر بل مستحب لقوله تعالى : ? ربنا أفرغ علينا صبرا ? (2 : 250 ، 7 : 126) ( رواه الترمذي ) في الدعوات وقال هذا حديث حسن ، وأخرجه أيضا أحمد (ج5 : ص231 ، 235) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2 : ص187) .
2457- قوله ( فكثر ) بضم الثاء ( لغطه ) بفتحتين ، قال في القاموس : اللغط الصوت والجلبة أو أصوات مبهمة لا يفهم معناها - انتهى . والمراد ههنا كلام لا طائل تحته وما لا يعني . وقال القاري : أي تكلم بما فيه إثم لقوله : (( غفر له )) . وقال الطيبي (( اللغط )) بالتحريك الصوت والمراد به الهزء من القول وما لا طائل تحته فكأنه مجرد الصوت العري عن المعنى ( فقال قبل أن يقوم ) في الترمذي بعده (( من مجلسه ذلك )) ( سبحانك اللهم وبحمدك ) لعله مقتبس من
أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك . رواه الترمذي والبيهقي في الدعوات الكبير .
2458- (20) عن علي أنه أتي بدابة ليركبها فلما وضع رجله في الركاب قال بسم الله فلما استوى على ظهرها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/367)


قوله تعالى : ? وسبح بحمد ربك حين تقوم ? (52 : 48) قال عطاء : من كل مجلس تجلسه . واللهم معترض لأنه قوله : (( وبحمدك )) متصل بقوله : (( سبحانك )) إما بالعطف ، أي أسبح وأحمد أو بالحال ، أي أسبح حامدا لك ( إلا غفر له ) ، أي ما جلس شخص مجلسا فكثر لغطه فيه فقال ذلك قبل أن يقوم إلا غفر له . وفي المستدرك للحاكم (( ما جلس قوم مجلسا كثر لغطهم فيه فقال قائل قبل أن يقوم سبحانك اللهم )) إلخ ( ما كان ) ، أي من اللغط ( رواه الترمذي) في الدعوات من جامعه ( والبيهقي في الدعوات الكبير ) ، وأخرجه أيضا أحمد (ج : ص ) ، وأبو داود في الأدب ، والنسائي في الكبرى ، وابن حبان في صحيحه ، كما في الموارد (ص588) ، والحاكم (ج1 : ص536 ، 537) ، وابن السني (ص144) ، والبغوي في شرح السنة (ج5 : ص134) ، وقال الترمذي حديث حسن صحيح غريب وسكت عنه أبو داود والمنذري ، وقال الحاكم بعد روايته من طريق موسى بن عقبة عن سهيل عن أبيه : هذا الإسناد صحيح على شرط مسلم إلا أن البخاري قد علله بحديث وهيب عن موسى بن عقبة عن سهيل عن أبيه عن كعب الأحبار من قوله ووافقه الذهبي . وذكر الحاكم في علوم الحديث (ص113) هذا الحديث مثالا للجنس الأول من أجناس العلل وهو أن يكون السند ظاهره الصحة وفيه من لا يعرف بين أهل الحديث بالسماع عمن روى عنه . قال الحاكم بعد ذكر هذا الحديث : هذا الحديث من تأمله لم يشك أنه من شرط الصحيح وله علة فاحشة ، ثم نقل عن البخاري أنه قال : هذا حديث مليح ولا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث إلا أنه معلول حدثنا به موسى بن إسماعيل قال حدثنا وهيب قال ثنا سهيل عن عون بن عبد الله قوله : قال محمد بن إسماعيل هذا أولى فإنه لا يذكر لموسى بن عقبة سماع من سهيل - انتهى . وقد روى في الباب عن أبي برزة ، وعائشة ، وجبير بن مطعم ، ورافع بن خديج ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، والسائب بن يزيد ، وعبد الله

(16/368)


ابن مسعود ، وأم سلمة ، وأنس . ذكر أحاديثهم الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10:ص141 ، 142) ، والمنذري في الترغيب (ج4 : ص174 ، 175) ، والشوكاني في تحفة الذاكرين (ص180 ، 181) وقد أفرد الحافظ ابن كثير لأحاديث الباب جزءا بذكر طرقها وعللها وما يتعلق بها .
2458- قوله ( أتي ) بصيغة المجهول ، أي جيء ( فلما وضع رجله ) أي أراد وضع رجله ( في الركاب ) بكسر الراء هو ما يعلق في السرج فيجعل الراكب فيه رجله والذي يكون من الجلد يسمى غرزا ( فلما استوى على ظهرها ) أي استقر
قال الحمد لله . ثم قال ? سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ? . ثم قال : الحمد لله ثلاثا والله أكبر ثلاثا سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . ثم ضحك فقيل : من أي شيء ضحكت يا أمير المؤمنين ؟ قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت ثم ضحك فقلت : من أي شيء ضحكت يا رسول الله ؟ قال : إن ربك ليعجب من عبده إذا قال : رب اغفر لي ذنوبي . يقول : يعلم إنه لا يغفر الذنوب غيري . رواه أحمد والترمذي وأبو داود .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/369)


على ظهرها ( قال الحمد لله ) ، أي على نعمة الركوب وغيرها ( ثم قال ) ، أي قرأ ? سبحان الذي سخر لنا هذا ? ، أي ذلله ? وما كنا له مقرنين ? ، أي مطيقين من أقرن للأمر إذا أطاقه وقوي عليه ، أي ما كنا نطيق قهره واستعماله لولا تسخير الله تعالى إياه لنا ? وإنا إلى ربنا لمنقلبون ? ، أي لصائرون إليه بعد مماتنا وإليه سيرنا الأكبر ( ثم قال : الحمد لله ثلاثا ، والله أكبر ثلاثا ) كذا في جميع نسخ المشكاة وهكذا في المصابيح وشرح السنة ، والمستدرك ، ووقع في الترمذي بغير واو العطف وكذا في صحيح ابن حبان . ورواه أبو داود بلفظ (( ثم قال : الحمد لله ثلاث مرات ، ثم قال : الله أكبر ثلاث مرات ، ثم قال سبحانك )) إلخ ، وزاد في رواية أحمد ، وابن السني ، والحاكم ، (( لا إله إلا أنت مرة )) ( ثم ضحك ) ، أي علي ( صنع كما صنعت ) ، أي كصنعي المذكور . وفي رواية أحمد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل مثل ما فعلت وقال مثل ما قلت ( ثم ضحك ) ، أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( إن ربك ليعجب ) بفتح الجيم ( من عبده إذا قال : رب اغفر لي ذنوني ) قال الطيبي : أي يرتضي هذا القول ويستحسنه استحسان المتعجب - انتهى . وقال الجزري في النهاية في معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( عجب ربك من قوم يساقون إلى الجنة في السلاسل )) : أي عظم ذلك عنده وكبر لديه ، أعلم الله أنه إنما يتعجب الآدمي من الشيء إذا عظم موقعه عنده وخفي عليه سببه فأخبرهم بما يعرفون ليعلموا موقع هذه الأشياء عنده . وقيل : معنى عجب ربك ، أي رضي وأثاب فسماه عجبا مجازا وليس بعجب في الحقيقة . والأول الوجه وإطلاق التعجب على الله مجاز لأنه لا يخفى على الله أسباب الأشياء والتعجب بما خفي سببه ولم يعلم - انتهى . فتأمل ( يقول ) ، أي الله ( يعلم ) أي العبد كذا في بعض نسخ المشكاة بجمع يقول ويعلم وفي بعضها يعلم ، أي بحذف

(16/370)


يقول وهكذا وقع في سنن أبي داود والمسند (ج1 : ص128) ، وشرح السنة ، وفي رواية أخرى لأحمد (ج1 : ص97) يقول : علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري . وفي الترمذي (( إن ربك ليعجب من عبده إذا قال : رب اغفرلي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب غيرك )) ( رواه أحمد ) (ج1 : ص97 ، 115 ، 128) ( والترمذي ) في الدعوات ، ( وأبو داود ) في الجهاد ، وأخرجه أيضا النسائي ، وابن حبان في صحيحه ، وابن السني (ص158 ، 159) ، والحاكم (ج2 : ص98) والبغوي (ج5
2459- (21) وعن ابن عمر قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ودع رجلا أخذ بيده فلا يدعها حتى يكون الرجل هو يدع يد النبي صلى الله عليه وسلم ويقول : استودع الله دينك وأمانتك وآخر عملك . وفي رواية : وخواتيم عملك . رواه الترمذي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ص139) . وقال الترمذي حديث حسن صحيح وسكت عليه أبو داود ونقل المنذري كلام الترمذي وأقره وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، ونسبه السيوطي في الدر المنثور (ج6 : ص14) أيضا للطيالسي ، وعبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات .

(16/371)


2459- قوله ( إذا ودع رجلا ) أي مسافرا ( أخذ بيده فلا يدعها ) ، أي فلا يترك يد ذلك الرجل من غاية التواضع ونهاية إظهار المحبة والرحمة ( حتى يكون الرجل هو ) الذي ( يدع يد النبي - صلى الله عليه وسلم - ) باختياره ( ويقول ) للمودع ( استودع الله دينك ) ، أي استحفظ واطلب منه حفظ دينك ( وأمانتك ) ، أي حفظ أمانتك فيما تزاوله من الأخذ والإعطاء ومعاشرة الناس في السفر إذ قد يقع منك هناك خيانة . وقيل : أريد بالأمانة الأهل والأولاد الذين خلفهم - قال الخطابي : الأمانة ها هنا : أهله ومن يخلفه منهم وماله الذي يودعه ويستحفظه أمينة ووكيله ومن في معناهما ، وجرى ذكر الدين مع الودائع لأن السفر موضع خوف وخطر وقد يصيبه فيه المشقة والتعب فيكون سببا لإهمال بعض الأمور المتعلقة بالدين فدعا له بالمعونة والتوفيق فيهما - انتهى . وقال في فتح الودود : قوله (( أمانتك )) ، أي ما وضع عندك من الأمانات من الله أو من أحد من خلقه أو ما وضعت عند أحد أو ما يتعلق بك من الأمانات - انتهى . وقيل المراد بالأمانة التكاليف كلها كما فسر بها قوله تعالى ? إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ? (33 : 72) الآية ( وآخر عملك ) ، أي في سفرك أو مطلقا كذا قيل . قال القاري : والأظهر أن المراد به حسن الخاتمة لأن المدار عليها في أمر الآخرة وأن التقصير فيما قبلها مجبور بحسنها ويؤيده قوله : (( وخواتيم عملك )) في الرواية الأخرى وهو جمع خاتم ، أي ما يختم به عملك ، أي أخيره . والجمع لإفادة عموم أعماله . قال الطيبي : قوله : (( استودع الله )) هو طلب حفظ الوديعة وفيه نوع مشاكلة للتوديع وجعل دينه وأمانته من الودائع لأن السفر يصيب الإنسان فيه المشقة والخوف فيكون ذلك سببا لإهمال بعض أمور الدين فدعا له

(16/372)


النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمعونة والتوفيق . ولا يخلو الرجل في سفره ذلك من الاشتغال بما يحتاج فيه إلى الأخذ والإعطاء والمعاشرة مع الناس فدعا له بحفظ الأمانة والاجتناب عن الخيانة ، ثم إذا انقلب إلى أهله يكون مأمون العاقبة عما يسوءه في الدين والدينا ( وفي رواية ) عند الثلاثة الترمذي ، وأبي داود ، وابن ماجة ، وكذا عند أحمد ، والنسائي في الكبرى ، وابن حبان ، والحاكم . ( وخواتيم عملك ) دعا له بذلك لأن الأعمال بخواتيمها كما تدل عليه الأحاديث ( رواه الترمذي ) في الدعوات
وأبو داود وابن ماجة . وفي روايتهما لم يذكر (( وآخر عملك )) .
2460- (22) وعن عبد الله الخطمي قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يستودع الجيش قال : أستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم . رواه أبو داود .
2461- (23) وعن أنس قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يا رسول الله إني أريد سفرا فزودني فقال : زودك الله التقوى . قال : زدني .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/373)


( وأبو داود وابن ماجة ) في الجهاد . واللفظ للترمذي رواه هكذا مطولا وفيه (( آخر عملك )) وكذا رواه بهذا اللفظ ولكن معلقا البغوي في شرح السنة (ج5 : ص143) ثم قال : ورواه سالم عن ابن عمر وقال : (( وخواتيم عملك )) وقال الترمذي : حديث غريب . ثم رواه مختصرا بلفظ (( أن ابن عمر كان يقول للرجل إذا أراد سفرا : أن ادن مني أودعك كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يودعنا فيقول : استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك )) . قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وبهذا اللفظ المرفوع رواه أبو دواد وسكت عليه هو والمنذري ، وابن ماجة ، وكذا أحمد (ج2 : ص7 ، 25 ، 38 ، 136) والنسائي ، وابن حبان ، والحاكم (ج1 : ص442 ، و ج2 : ص97) وصححه ، ووافقه الذهبي ، والبخاري في الكبير ، والضياء في المختارة ( وفي روايتهما ) أي أبي داود ، وابن ماجة وكذا في رواية من ذكرنا ممن خرج هذا الحديث سوى الترمذي ( لم يذكر ) بصيغة المجهول ( وآخر عملك ) ، أي بل ذكر (( وخواتيم عملك )) وللحديث شواهد ذكرها ابن علان في الفتوحات الربانية (ج5 : ص118) .

(16/374)


2460- قوله ( وعن عبد الله الخطمي ) بفتح الخاء المعجمة وسكون المهلة هو أبو موسى عبد الله بن يزيد بن زيد بن حصين بن عمرو بن الحارث بن خطمة الأوسي الأنصاري صحابي صغير شهد الحديبية وهو صغير كذا في التهذيب . وقال الخررجي : شهدها وهو ابن سبع عشرة سنة وشهد الجمل وصفين مع علي ، ولي الكوفة لأبن الزبير ، وكان الشعبي كاتبه ( إذا أراد أن يستودع الجيش ) ، أي العسكر المتوجه إلى العدو ، ولابن السني (( كان إذا شيع جيشا فبلغ ثنية الوداع قال : استودع الله )) إلخ ( وخواتيم أعمالكم ) فيه مقابلة الجمع بالجمع ( رواه أبو داود ) في الجهاد وسكت عليه ، وقال النووي في الأذكار : حديث صحيح ، وفي الرياض : رواه أبو داود بإسناد صحيح ، وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة ، وابن السني (ص161) والحاكم (ج2 : ص98) وسكت عليه هو والذهبي .
2461- قوله ( فزودني ) أمر من التزويد وهو إعطاء الزاد والزاد طعام يتخذ للسفر يعني ادع لي دعاء يكون بركته معي في سفري كالزاد . وقال الطيبي : ويحتمل أن يكون المراد الزاد المتعارف فالجواب على طريقة أسلوب الحكيم ( زودك الله التقوى ) ، أي الاستغناء عن المخلوق أو امتثال الأوامر واجتناب النواهي ( قال زدني ) بكسر المعجمة وسكون
قال : وغفر ذنبك . قال : زدني بأبي أنت وأمي . قال : ويسر لك الخير حيثما كنت . رواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن غريب .
2462- (24) عن أبي هريرة قال : إن رجلا قال : يا رسول الله إني أريد أن أسافر فأوصني . قال : عليك بتقوى الله والتكبير على كل شرف . فلما ولى الرجل قال : اللهم اطو له البعد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/375)


المهملة أي من الزاد أو من الدعاء ( قال : وغفر ذنبك ) فيه إشارة إلى صحة التقوى وترتب أثره عليه والتجاوز عما يقع فيه من التقصيرات ( بأبي أنت وأمي ) ، أي أفديك بهما ، وأجعلهما فداءك فضلا عن غيرهما ( ويسر لك الخير ) أي : سهل لك خير الدارين أو أراد المال الكثير ( حيثما كنت ) أي : في أي مكان حللت ومن لازمه أي : زمان نزلت . وفي رواية الدارمي ، وابن السنى : (( ووجهك للخير حيثما توجهت )) قال الطيبي : يحتمل أن الرجل طلب الزاد المتعارف فأجابه عليه الصلاة والسلام بما أجابه على طريقة أسلوب الحكيم . أي : زادك أن تتقي محارمه وتجتنب معاصيه ، ومن ثم لما طلب الزيادة قال : وغفر ذنبك ، فإن الزيادة من جنس المزيد عليه ، وربما زعم الرجل أن يتقي الله وفي الحقيقة لا يكون تقوى تترتب عليه المغفرة فأشار بقوله : وغفر ذنبك أن يكون ذلك الاتقاء بحيث يترتب عليه المغفرة ثم ترقى منه إلى قوله : (( ويسر لك الخير )) فإن التعريف في الخير للجنس فيتناول خير الدنيا والآخرة - انتهى . وفيه دليل على مشروعية الدعاء للمسافر بهذه الدعوات . وقال المناوي : يندب لكل من ودع مسافرا أن يقوله له ويحصل أصل السنة بقوله : (( زودك الله التقوى )) والأكمل الإتيان بما ذكر كله ( رواه الترمذي ) في الدعوات ، وأخرجه أيضا النسائي كما في تحفة الذاكرين ، والدارمي في الاستيذان ، والحاكم (ج2 : ص97) ، وابن السنى (ص160) ، وأخرج نحوه البغووي في شرح السنة (ج5 : ص142) ، والبزار في مسنده ، والطبراني في الكبير من حديث قتادة , قال الهيثمي (ج10 : ص131) : ورجالهما يعني البزار والطبراني ثقات ( وقال هذا حديث حسن غريب ) وسكت عليه الحاكم ، والذهبي .

(16/376)


2462- قوله : ( عليك ) اسم فعل بمعنى خذ يقال عليك زيدا وعليك بزيد ، أي خذه ، والمعنى الزم التقوى وداوم عليها بجميع أنواعها فإنها الوصية التي وصى الله بها عباده كما قال الله تعالى : ? ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله ? (4 : 131) ( بتقوى الله ) ، أي بمخافته والحذر من عصيانه ( والتكبير ) ، أي بقول : الله أكبر ( على كل شرف ) بفتح الشين المعجمة والراء ، أي مكان عال ، ومناسبة التكبير عند الصعود إلى المكان المرتفع أن الاستعلاء والارتفاع محبوب للنفوس لما فيه من استشعار الكبرياء فشرع لمن تلبس به أن يذكر كبرياء الله تعالى وأنه أكبر من كل شيء فيكبره ليشكر له ذلك فيزيده من فضله . قاله الحافظ . ( فلما ولى الرجل ) في الترمذي (( فلما أن ولى الرجل )) أي : أدبر ، وأن زائدة وفي شرح السنة ، والمستدرك (( فلما مضى )) ( قال ) أي : دعا له بظهر الغيب فإنه أقرب إلى الإجابة ( اللهم اطو له البعد ) بهمزة
وهون عليه السفر . رواه الترمذي .
2463- (25) وعن ابن عمر قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر فأقبل الليل قال : يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك وشر ما خلق فيك وشر ما يدب عليك وأعوذ بالله من أسد وأسود
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/377)


وصل وكسر واو أمر من الطي أي قرب له البعد بطي الأرض . قال الجزري : أي : قربه له وسهل له السير حتى لا يطول . قال القاري : والمعنى ارفع عنه مشقة السفر بقريب المسافة البعيدة له حسا أو معنى ( وهون عليه السفر ) أي : أموره ومتاعبه وهو تعميم بعد تخصيص ( رواه الترمذي ) في الدعوات وقال حديث حسن ، وأخرجه النسائي في اليوم والليلة ، وابن ماجة في الجهاد ، وابن حبان في صحيحه ، والحاكم (ج1 : ص445 ، 446 ، وج2 : ص98) وصححه وأقره الذهبي ، وابن السنى (ص160) ، والبغوي (ج5 : ص143) .

(16/378)


2463- قوله : ( إذا سافر فأقبل الليل ) وفي رواية أحمد ، والحاكم (( إذا غزا أو سافر فأدركه الليل )) ( يا أرض ) خاطب الأرض ونادها على الاتساع وإرادة الاختصاص . وذكره الطيبي ( ربي وربك الله ) يعني إذا كان خالقي وخالقك هو الله فهو المستحق أن يلتجأ إليه ويتعوذ به من شر المؤذيات ( أعوذ بالله من شرك ) أي : من شر ما حصل من ذاتك من الخسف والزلزلة والسقوط عن الطريق والتحير في الفيافي . ذكره الطيبي . ( وشر ما فيك ) أي : من الضرر بأن يخرج منك ماء فيهلك أحدا أو نبات فيصيب أحدا ضرر من أكله أو يجرح أعضاء أحد بشوكه ، وقال الطيبي : أي : شر ما استقر فيك من الصفات والأحوال الخاصة بطبائعك أي : العادية كالحرارة والبرادة وغيرهما ( وشر ما خلق فيك ) أي : من الحيوانات الساكنة في باطن الأرض ، وقال القاري : أي : من الهوام وغيرها من الفلذات ، وقال الطيبي : أي : من أجناس الأرض وحشراتها وما يعيش في ثقب الأرض وأجوافها ( وشر ما يدب ) بكسر الدال وتشديد الموحدة أي : يمشي ويتحرك ( عليك ) أي : على ظهرك يعني من شر الحيوانات الساكنة على ظاهر الأرض ( وأعوذ بالله ) كذا في المشكاة ، والمصابيح ، وشرح السنة وهكذا نقل في الحصن ، ووقع في سنن أبي دواد (( أعوذ بالله )) بدون الواو وكذا في رواية أحمد (ج2 : ص132) ، والحاكم (ج2 : ص100) وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول ( من أسد وأسود ) قال الطيبي : حكي في أسود هنا وجهان : الصرف وعدمه . وقال التوربشتي : أسود هنا منصرف لأنه اسم جنس وليس بصفة إذ ليس فيه شيء من الوصفية كما هو معتبر في الصفات الغالبة عليها الاسمية في منع الصرف ولذا يجمع على أساود والمسموع من أفواه المشائخ والمضبوط في أكثر النسخ بالفتح غير منصرف ، وعن بعضهم الوجه أن لا ينصرف لأن وصيفته أصلية وإن غلب عليه الاسمية ، وهو الحية العظيمة الكبيرة التي فيها سواد وهي أخبث الحيات وذكر من شأنها

(16/379)


ومن الحية والعقرب ومن شر ساكن البلد ومن والد وما ولد . رواه أبو داود .
2464- (26) وعن أنس قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا غزا قال : اللهم أنت عضدي ونصيري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنها تعارض الركب وتتبع الصوت إلى أن تظفر بصاحبه ولهذا خصصها بالذكر وجعلها جنسا آخر برأسها ثم عطف عليها الحية . قال الشيخ الدهلوي : فيكون ذكر أسد وأسود من باب التخصيص بعد التعميم وذكر ما يغلب منه الأذى والضرر ( ومن الحية ) كل حية غير الأسود التي تقدم ذكرها أو يكون في الحديث ذكر العام بعد الخاص ، ووقع في بعض نسخ سنن أبي داود (( من الحية )) أي : بدون الواو العاطفة ، فعلى هذا من بيانية على تغليب الأسود ، ويؤيد رواية الواو ما وقع عند أحمد ، والحاكم بلفظ : (( من شر كل أسد وأسود وحية وعقرب )) ( والعقرب ) وفي معناهما سائر الهوام السميات ( ومن شر ساكن البلد قيل : المراد بساكن البلد الإنس ، سماهم بذلك لأنهم يسكنون البلاد غالبا ، أو لأنهم بنوا البلدان واستوطنوها ، وقيل : هم الجن الذين هم سكان الأرض ، والعرب تسمي الأرض المستوية التي يأوي إليها الحيوان البلد وإن لم تكن مسكونة ولا ذات أبنية أي : وإن لم يكن فيها بناء ومنازل . قال الله تعالى : ? والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه ? (7 : 58) ولو حمل على كليهما لكان وجها ، ووقع في بعض النسخ ساكني البلد بصيغة الجمع مضافا ، وكذا اختلف فيه نسخ أبي داود ( ومن والد ) ولأحمد ، والحاكم (( ومن شر والد )) أي : آدم أو إبليس ( وما ولد ) أي : ذريتهما . وقيل : هما عامان لجميع ما يوجد بالتوالد من الحيوانات أصولها وفروعها ، قال في اللمعات : والحمل على العموم أولى ليعم الكل ( رواه أبو داود ) في الجهاد من طريق بقية بن الوليد حدثني صفوان حدثني

(16/380)


شريح بن عبيد عن الزبير بن الوليد عن عبد الله بن عمر . وأخرجه أيضا أحمد (ج2 : ص132) ، والبغوي (ج5 : ص147) ، والنسائي ، والحاكم (ج1 : ص447) ، و (ج2 : ص100) وصححه ووافقه الذهبي وحسنه الحافظ كما في حاشية الأذكار وسكت عنه أبو داود . وقال المنذري : (( وأخرجه النسائي وفي إسناده بقية بن الوليد وفيه مقال )) وهو تعليل من المنذري غير سديد ، أولا لأن المقال في بقية بن الوليد أنه يدلس وهو صرح عند أبي داود ، والبغوي بالتحديث فانتفت تهمة التدليس ، وثانيا لم ينفرد بقية بروايته عن صفوان حتى يكون ذلك علة له فقد رواه عند أحمد ، والحاكم أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج عن صفوان أيضا ورواه أحمد مرة أخرى بهذا الاسناد من حديث عبد الله بن عمر أثناء مسند أنس .
2464- قوله : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا غزا ) أي خرج للغزو ( اللهم أنت عضدي ) بفتح المهملة وضم معجمة أي معتمدي في جميع الأمور سيما في الحرب فلا أعتمد على غيرك أو أنت قوتي أتقوى وأعتضد بك كما يتقوى الشخص بعضده . قال القاضي : العضد ما يعتمد عليه ويثق به المرأ في الحرب وغيره من الأمور ، وقال الطيبي : العضد كناية عما يعتمد عليه ويثق المرأ به في الخير وغيره من القوة ، أو أنت ناصري ومعيني ، ففي القاموس العضد بالفتح وبالضم وبالكسر وككتف و ندس وعنق ما بين المرفق إلى الكتف والعضد الناصر والمعين وهم عضدي وأعضادي ( ونصيري ) أي : ناصري ومعيني
بك أحول وبك أصول وبك أقاتل . رواه الترمذي ، وأبو داود .
2465- (27) وعن أبي موسى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خاف قوما قال : اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم . رواه أحمد ، وأبو داود .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/381)


فهو عطف تفسير على التفسير الثاني لعضدي ( بك أحول ) بحاء مهملة من الحول وهو الحيلة . قال الزمخشري : من حال يحول حيلة بمعنى احتال أي : بك أحتال لدفع مكر الأعداء وكيدهم . وقيل : معناه أتحرك وأتحول من حال إلى حال أو أحول من المعصية إلى الطاعة . والحول الحركة ، يقال : حال الشخص إذا تحرك . وقيل : معناه المنع والدفع من قولك حال بين الشيئين إذا منع أحدهما عن الأخر ، فمعناه لا أمنع ولا أدفع إلا بك . وقيل : الحول الفرق بين الشيئين أي : بقوتك ونصرتك إياي أفرق بين الحق والباطل . وقيل : الحول التردد أي : بك أتردد ، ويروى (( وبك أحاول )) أي : أطالب ( وبك أصول ) بصاد مهملة أي : أحمل على العدو حتى أغلبه وأستأصله ومنه الصولة بمعنى الحملة والحمل والصائل بمعنى الحامل ( وبك ) أي : بحولك وقوتك وعونك ونصرتك ( أقاتل ) أي : أعدائك حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم . وفي الحديث دليل على أنه يشرع له أن يدعو عند غزوه بهذا الدعاء ومثله ( رواه الترمذي ) في الدعوات ، ( وأبو داود ) في الجهاد وأخرجه أيضا أحمد ، والنسائي في اليوم والليلة ، وابن حبان في صحيحه ، والضياء في المختارة ، وأبو عوانة ، وابن أبي شيبة وذكره البغوي (ج5 : ص153) معلقا وقد حسنه الترمذي وسكت عنه أبو داود . ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره .

(16/382)


2465- قوله : ( كان إذا خاف قوما ) أي : شر قوم ( قال ) في دعائه ( اللهم إنا نجعلك في نحورهم ) بضمتين جمع النحر وهو الصدر أي : في إزاء صدورهم لتدفع عنا صدورهم وتحول بيننا وبينهم ، تقول : جعلت فلان في نحر العدو إذا جعلته قبالته وحذاءه ليقاتل عنك ويحول بينك وبينه ، وخص النحر بالذكر لأنه أسرع وأقوى في الدفع والتمكن من المدفوع والعدو إنما يستقبل بنحره عند المناهضة للقتال أو للتفاؤل بنحرهم أي : قتلهم ( ونعوذ بك من شرورهم ) والمعنى نسألك أن تصد صدورهم وتدفع شرورهم وتكفي أمورهم وتحول بيننا وبينهم ، وقيل : المعنى نسألك أن تتولانا في الجهة التي يريدون أن يأتونا منها ، وقيل : نجعلك في إزاء أعدائنا حتى تدفعهم عنا فإنه لا حول ولا قوة لنا بل القوة والقدرة لك وفي الحديث دليل على مشروعية الدعاء عند الخوف من قوم بهذا الدعاء ( رواه أحمد ) (ج4 : ص414 ، 415) ، ( وأبو داود ) في الصلاة ، وأخرجه النسائي في اليوم والليلة ، والحاكم (ج2 : ص142) ، وابن حبان في صحيحه ، وابن السنى (ص108) ، وأبو عوانة ، وسكت عنه أبو داود ، والمنذري ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي وقال النووي في الأذكار : والرياض ، والعراقي : سنده صحيح .
2466- (28) وعن أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج من بيته قال : بسم الله توكلت على الله اللهم إنا نعوذ بك من أن نزل أو نضل أو نظلم أو نظلم أو نجهل أو يجهل علينا . رواه أحمد ، والترمذي ، والنسائي . وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/383)


2466- قوله : ( قال بسم الله ) أي : خرجت مستعينا بذكر اسم الله ( توكلت على الله ) أي : اعتمدت عليه في جميع أموري ( اللهم إنا نعوذ بك من أن نزل ) أي : من أن نقع في ذنب ومعصية من الزلل يقال : زلت رجله إذا زلفت والزلة الزبقة وهي هنا كناية عن وقوع الذنب من غير قصد . وقال القاري : نزل أي : عن الحق وهو بفتح النون وكسر الضاد من الضلالة وهو ضد الرشاد والهداية أي : نضل عن الحق ، وقال القاري : أي : عن الهدى ( أو نظلم ) بفتح النون وكسر اللام على بناء المعلوم أي : أنفسنا أو أحدا ( أو نظلم ) بضم النون وفتح اللام على بناء المجهول أي : من أحد والأفعال الثلاثة من باب ضرب ( أو نجهل ) بفتح النون على بناء المعروف أي : أمور الدين أو حقوق الله أو حقوق الناس أو في المعاشرة أو في المخالطة مع الأصحاب أو أن نفعل بالناس فعل الجهال من الإيذاء وإيصال الضرر إليهم ( أو يجهل علينا ) بضم الياء على صيغة المجهول أي : يفعل الناس بنا أفعال الجهال من إيصال الضرر إلينا . قال الطيبي : الزلة السيئة بلا قصد ، استعاذ من أن يصدر عنه ذنب بغير قصد أو قصد ، ومن أن يظلم الناس في المعاملات أو يؤذيهم في المخالطات . أو يجهل أي : يفعل بالناس فعل الجهال من الإيذاء ، قال : ومن خرج من منزله لا بد أن يعاشر الناس ويزاول الأمور فيخاف أن يعدل عن الصراط المستقيم فإما أن يكون في أمر الدين فلا يخلو من أن يضل أو يضل وإما أن يكون في أمر الدنيا فإما بسبب جريان المعاملة معهم بأن يظلم أو يظلم وإما بسبب الاختلاط والمصاحبة فإما أن يجهل أو يجهل عليه فاستعيذ من هذه الأحوال كلها بلفظ سلس وجسر ومتن رشيق وروعي المطابقة المعنوية والمشاكلة اللفظية كقول الشاعر :
ألا لا يجهلن أحد علينا ( ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا (

(16/384)


والقصد من ذلك تعليم الأمة وإلا فهو - صلى الله عليه وسلم - معصوم من الظلم والجهل ( رواه أحمد ، والترمذي ) في الدعوات ، ( والنسائي ) في الاستعاذة واللفظ لأحمد (ج4 : ص306) ، والترمذي وبهذا اللفظ ، رواه ابن السني (ص61) ، ولفظ النسائي (( كان إذا خرج من بيته قال : بسم الله رب أعوذ بك من أن أزل ، أو أضل ، أو أظلم أو أظلم ، أو أجهل أو يجهل علي )) وهكذا رواه الحاكم (ج1 : ص519) ونحوه رواه أحمد (ج4 : ص318 ، 332) ، ولابن ماجة كان إذا خرج من منزله قال : اللهم إني أعوذ بك أن أضل ، أو أزل ، أو أظلم أو أظلم ، أو أجهل أو يجهل علي . ( وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ) وقال البغوي : حديث صحيح ونقل النووي ، والمنذري كلام الترمذي وأقراه وقال الحاكم : حديث صحيح على شرط الشيخين
وفي رواية أبي داود ، وابن ماجة : (( قالت أم سلمة : ما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بيتي قط إلا رفع طرفه إلى السماء فقال : اللهم أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي )) .
2467- (29) وعن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا خرج الرجل من بيته فقال : بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله . يقال له حينئذ هديت وكفيت ووقيت فيتنحى له الشيطان ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/385)


ووافقه الذهبي ( وفي رواية أبي داود ، وابن ماجة ) أي : في الحديث السابق ، وأخرجه أبو داود في الأدب ، وابن ماجة في الدعاء . واللفظ الآتي لأبي داود . وأما ابن ماجة فقد تقدم سياقه ولا موافقة بين روايتهما إلا في لفظ التوحيد ففي إطلاق المصنف نظر لا يخفى ( ما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بيتي ) لا ينافي هذا رواية من بيته لأن بيت أم سلمة رواية هذا الحديث هو بيته - صلى الله عليه وسلم - لكونها من أمهات المؤمنين . وظاهر الحديث يدل على المواظبة والمداومة والمعنى أبدا ( قط إلا رفع طرفه ) بفتح فسكون أي : بصره ( أن أضل ) بصيغة المتكلم المعلوم من الضلالة أو بصيغة المتكلم المعلوم من الإضلال ( أو أضل ) بصيغة المتكلم المجهول من الإضلال أو المعلوم إذا كان الأول من الضلالة ووقع في سنن أبي داود بعد هذا (( أو أزل أو أزل )) وهكذا نقل في جامع الأصول وسقط ذلك من نسخ المشكاة والمصابيح والظاهر أن المصنف تبع في ذلك البغوي وغفل عن هذا السقوط . قال السندي بعد نقل هذه الرواية : الأول فيهما مبني على الفاعل والثاني للمفعول وهو المناسب بقوله بعده : أو أظلم أو أظلم ، أو أجهل أو يجهل علي . فإن الأول فيهما مبني للفاعل والثاني للمفعول ويقدر في : أجهل على أحد ليوازن قوله في الثاني علي ( أو أظلم ) على بناء المعلوم أي أحدا ( أو أظلم ) على بناء المجهول أي يظلمني أحد ( أو أجهل ) على بناء المعلوم ومعناه سبق ( أو يجهل علي ) على بناء المجهول . والحديث سكت عنه أبو داود ، والمنذري . وقال النووي ، والبغوي : حديث صحيح .

(16/386)


2467- قوله : ( إذا خرج الرجل ) المراد به الجنس ( يقال له حينئذ ) أي : يناديه ملك يا عبد الله ، ولابن حبان (( فيقال له : حسبك )) ( هديت ) بصيغة المجهول أي : طريق المجهول أي : طريق الحق ( وكفيت ) بضم الكاف وكسر الفاء على بناء المجهول أي : مهماتك ( ووقيت ) بضم الواو وكسر القاف من الوقاية أي : حفظت من شر أعدائك . وأشار الطيبي إلى أن في الكلام لفا ونشرا مرتبا حيث قال : هدي بواسطة التبرك باسم الله وكفي مهماته بواسطة التوكل ووقي بواسطة قول لا حول ولا قوة إلا بالله . وهو معنى حسن أي إذا استعان العبد بالله وباسمه المبارك هداه الله وأرشده وأعانه في الأمور الدينية والدنيوية وإذا توكل على الله كفاه الله تعالى فيكون حسبه ? ومن يتوكل على الله فهو حسبه ? (65 : 3) ومن قال : لا حول ولا قوة إلا بالله وقاه الله من شر الشيطان فلا يسلط عليه ( فيتنحى له الشيطان ) أي : يبتعد عنه إبليس أو شيطانه الموكل عليه
ويقول شيطان آخر كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي ؟ . رواه أبو داود ، وروى الترمذي إلى قوله : (( له الشيطان )) .
2468- (30) وعن أبي مالك الأشعري قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ولج الرجل بيته فليقل : اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج بسم الله ولجنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/387)


فيتنحى له الطريق . قاله القاري . وقيل : يتنحى لأجل القائل عن طريق إضلاله متحسرا ( ويقول ) أي : للمتنحي ( شيطان آخر ) أي : مسليا له ، ولابن السني (( فيلاقيه شيطان آخر فيقول له )) ( كيف لك برجل ) أي : إضلال رجل ( قد هدي وكفي ووقي ) أي من الشياطين أجمعين ببركة هذه الكلمات فإنك لا تقدر عليه . قال الطيبي : هذه تسلية ، أي كيف يتيسر لك الإغواء متلبسا برجل إلخ . أي أنت معذور في ترك إغوائه والتنحي عنه فقوله لك متعلق بـ (( يتيسر )) وبرجل حال - انتهى . فإن قلت : بم علم الشيطان أنه هدي وكفي ووقي ؟ قلت : قال ابن حجر : علم من الأمر العام أن كل من دعا بهذا الدعاء المرغب من حضرته - صلى الله عليه وسلم - استجيب له . ( رواه أبو داود ) في الأدب ، أي بتمامه وكذا رواه النسائي ، وابن حبان ، وابن السني (ص62) ( وروى الترمذي ) في الدعوات ( إلى قوله له ) في الترمذي عنه ( الشيطان ) والحديث سكت عنه أبو داود ، وقال المنذري : وأخرجه الترمذي والنسائي . وقال الترمذي : حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه - انتهى . قلت : وفي نسخ الترمذي الموجودة عندنا (( حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه )) ويؤيد الأول أنه وقع في الأذكار لفظ (( حسن غريب )) فقط .

(16/388)


2468- قوله ( إذا ولج الرجل ) ، أي دخل أو أراد أن يدخل وهو من باب ضرب ( بيته ) قيد واقعي للغلبة ( خير المولج ) بفتح الميم وكسر اللام كالموعد ويفتح ( وخير المخرج ) بفتح الميم والراء المهملة بينهما خاء معجمة . قال الطيبي : على ما في الخلاصة المولج بكسر اللام ومن الرواة من فتحها والمراد المصدر أي الولوج والخروج أو الموضع أي خير الموضع الذي يولج فيه ويخرج منه . قال ميرك : المولج بفتح الميم وإسكان الواو وكسر اللام لأن ما كان فاءه واو ساقطة في المستقبل ( نحو بعد ويهب ويلد ويزن ) فالمفعل منه مكسور العين في الاسم والمصدر جميعا ( أي ولا يفتح مفتوحا كان يفعل منه أو مكسورا بعد أن تكون الواو منه ذاهبة إلا أحرفا جاءت نوادر ) ومن فتح ها هنا فإما أنه سها أو قصد مزاوجته للمخرج وإرادة المصدر بهما أتم ( وأولى ) من إرادة الزمان والمكان لأن المراد الخير الذي يأتي من قبل الولوج والخروج - انتهى . وضبط السيوطي في مرقاة الصعود بضم الميم فيهما وفيه إيماء إلى قوله تعالى تعليما له : ? وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق ? (17 : 80) وهو يشمل كل دخول وخروج وإن نزل القرآن في فتح مكة لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ( بسم الله ولجنا ) ، أي دخلنا ، ووقع في سنن أبي داود بعد هذا
وعلى الله ربنا توكلنا ثم ليسلم على أهله . رواه أبو داود .
2469- (31) وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفأ الإنسان إذا تزوج
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/389)


(( وبسم الله خرجنا )) ، وهكذا وقع في الحصن وجامع الأصول والأذكار والمصابيح والظاهر أن السقوط في المشكاة من الناسخ ( وعلى الله ربنا ) بالجر بدل أو بيان أي وعلى ربنا الذي ربانا بنعمه ومنها نعمة الإيجاد والإمداد وكأن هذه حكمة الإتيان به بعد الاسم الجامع ( توكلنا ) ، أي اعتمدنا ، وقيل : أي فوضنا أمورنا كلها ورضينا بتصرفه كيفما شاء ( ثم ليسلم على أهله ) ، أي على أهل بيته ، أي على سبيل الاستحباب المتأكد ( رواه أبو داود ) في الأدب وسكت عليه قال النووي في الأذكار بعد ذكر الحديث لم يضعفه أبو داود ، أي فهو عنده حسن أو صحيح . وقال المنذري : في إسناده محمد بن إسماعيل بن عياش رواه عن أبيه وهو وأبوه فيهما مقال - انتهى . قلت : قال الحافظ : عابوا على محمد بن إسماعيل أنه حدث عن أبيه بغير سماع ، وقد أخرج أبو داود عن محمد بن عوف عنه عن أبيه عدة أحاديث ، منها حديث أبي مالك هذا لكن يروونها بأن محمد بن عوف رآها في أصل إسماعيل ، أي كتابه وقد وقع ذلك مصرحا في إسناد هذا الحديث وأما أبوه إسماعيل الحمصي فقال الحافظ : هو صدوق في روايته عن أهل بلده مخلط في غيرهم . قلت وروي هذا الحديث عن ضمضم بن زرعة الحمصي فالحديث لا ينزل عن درجة الحسن .

(16/390)


2469- قوله ( كان إذا رفأ الإنسان ) بفتح الراء وتشديد الفاء بعدها همزة وقد تقلب ألفا أي أراد الدعاء للمتزوج من الترفئة بهمز بمعنى التهنئة وإذا شرطية وقوله ( إذا تزوج ) ظرفيه محضة ، وقوله (( قال بارك الله )) جزاء الشرط ، أي إذا هنأه ودعا له حين تزوجه قال بارك الله إلخ . بدل قولهم في تهنئة المتزوج والدعاء له (( بالرفاء والبنين )) وكانت كلمة تقولها أهل الجاهلية فورد النهي عنها كما روى بقي بن مخلد من طريق غالب عن الحسن عن رجل من بني تميم قال : كنا نقول في الجاهلية (( بالرفاء والبنين )) فلما جاء الإسلام علمنا نبينا قال : قولوا (( بارك الله لكم وبارك فيكم وبارك عليكم )) وأخرجه النسائي والطبراني ، وابن السني من طريق أخرى عن الحسن عن عقيل بن أبي طالب أنه قدم البصرة فتزوج امرأة فقالوا له (( بالرفاء والبنين )) فقال : لا تقولوا هكذا وقولوا كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( اللهم بارك لهم وبارك عليهم )) ورجاله ثقات إلا أن الحسن لم يسمع من عقيل فيما يقال . قاله الحافظ في الفتح . قال الزمخشري : معنى الحديث أنه كان يضع الدعاء له بالبركة موضع الترفئة المنهي عنها . والترفئة في الأصل أن يقول للمتزوج : (( بالرفاء والبنين )) والرفاء بكسر الراء والمد الالتئام والاجتماع والتوافق من (( رفأت الثوب )) إذا أصلحته ولأمت خرقه وضممت بعضه إلى بعض ، أو السكون والطمأنينة من رفوت الرجل إذا سكنته من الرعب والروع وعلى هذا يكون همزتها غير أصلية والباء متعلقة بمحذوف دل عليه المعنى ، أي عرست ، ثم استعير للدعاء للمتزوج وإن لم يكن بهذا اللفظ . قال الحافظ : دل حديث أبي هريرة على أن اللفظ كان مشهورا عندهم غالبا حتى سمي كل دعاء للمتزوج ترفية واختلف في علة النهي عن ذلك فقيل لأنه لا حمد فيه ولا

(16/391)


قال : بارك الله لك وبارك عليكما وجمع بينكما في خير . رواه أحمد ، والترمذي ، وأبو داود ، وابن ماجة .
2470- (32) وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا تزوج أحدكم امرأة أو اشترى خادما فليقل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثناء ولا ذكر الله . وقيل : لما فيه من الإشارة إلى بغض البنات لتخصيص البنين بالذكر وقيل غير ذلك . ( بارك الله لك ) قال القاري : أي بالخصوص أي كثر لك الخير في هذا الأمر المحتاج إلى الإمداد ، والبركة النماء والزيادة والسعادة ( وبارك عليكما ) بنزول الخير والرحمة والرزق والبركة في الذرية ( وجمع بينكما في خير ) ، أي في طاعة وصحة وعافية وسلامة وملاءمة وحسن معاشرة وتكثير ذرية صالحة . قيل : قال أولا بارك الله لك لأنه المدعو له أصالة ، أي بارك لك في هذا الأمر ثم ترقى منه ودعا لهما وعداه بعلى بمعنى بارك عليه بالذراري والنسل لأنه المطلوب من التزوج وأخر حسن المعاشرة والمرافقة والاستمتاع تنبيها على أن المطلوب الأول هو النسل وهذا تابع ، وكذا في المرقاة . قلت : قوله (( وبارك عليكما ))كذا وقع في جميع النسخ من المشكاة ، والذي في الترمذي وأبي داود ، (( وبارك عليك )) وهكذا وقع عند ابن حبان ، وابن السني ، والحاكم ، وكذا ذكر في المصابيح والأذكار ، والمنتقى ، وجامع الأصول الصغير ، والحصن ، وتحفة الذكرين ، وفي ابن ماجة (( بارك الله لكم وبارك عليكم وجمع بينكما في خير )) . قال السندي : البركة لكونها نافعة تتعدى باللام ولكونها نازلة من السماء تتعدي بعلى فجاءت في الحديث بالوجهين للتأكيد والتفنن والدعاء محل للتأكيد - انتهى . وروى الشيخان عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الرحمن بن عوف حين أخبره أنه تزوج (( بارك الله لك )) وروي في

(16/392)


الصحيح أيضا أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لجابر حين أخبره أنه تزوج (( بارك الله لك )) والأحاديث في ذلك معروفة وهي تدل على أن الدعاء للمتزوج بالبركة هو المشروع ولا شك أنها لفظة جامعة يدخل فيها كل مقصود من ولد وغيره ( رواه أحمد ) (ج : ص ) ( والترمذي ، وأبو داود ، وابن ماجة ) في النكاح وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى ، وابن حبان ، والحاكم (ج2 : ص183) وابن السني (ص194) . قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وسكت عنه أبو داود ، ونقل المندري كلام الترمذي وأقره . وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم . وأقره الذهبي . وقال النووي في الأذكار : وقد عزاه للأربعة : أسانيده صحيحة .
2470- قوله ( إذا تزوج أحدكم امرأة أو اشترى خادما ) ، أي جارية كما في رواية الحاكم وكأنه ترك حال العبد مقايسة ، وقيل هو على إطلاقه فيكون تأنيث الضمير فيما سيأتي باعتبار النفس أو النسمة ، وزاد في رواية ابن ماجة ، وابن السني ، والحاكم : (( أو دابة )) ( فليقل ) وفي رواية الثلاثة المذكورين : (( فليأخذ بناصيتها )) وهي الشعر الكائن في مقدم الرأس كما في الصحاح والظاهر أن المراد هنا مقدم الرأس سواء كان فيه شعر أم لا . قال القاري : ويمكن أن يراد بها
اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه وأعوذ بك من شرها ومن شر ما جبلتها عليه . وإذا اشترى بعيرا فليأخذ بذروة سنامه وليقل مثل ذلك . وفي رواية : في المرأة والخادم : (( ثم ليأخذ بناصيتها وليدع بالبركة )) . رواه أبو داود ، وابن ماجة .
2471- (33) وعن أبي بكرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعوات المكروب : اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/393)


مطلق الرأس ، ثم ليقل ( اللهم إني أسالك خيرها ) كذا في رواية أبي داود والحاكم ، وابن السني أي خير ذاتها ولابن ماجة ، وأبي يعلى من خيرها وهو الملائم لما سيأتي من مقابله في قوله : من شرها لكن يفيد التبعيض والمطلوب كل خيرها ( وخير ما جبلتها ) ، أي خلقتها وطبعتها ( عليه ) ، أي من الأخلاق البهية والصفات الحميدة ، قيل : الأول عام والثاني خاص . وقال الشوكاني : أي ما خلقتها عليه وطبعتها عليه وحببته إليها ( وشر ما جبلتها عليه ) من الأفعال المردية والأوصاف القبيحة والأخلاق الذميمة ( وإذا اشترى بعير فليأخذ بذروة سنامه ) بكسر الذال المعجمة ، أي بأعلاه ، وقيل : إنه يجوز في الذال المحركات الثلاث ، وذروة الشيء أعلاه والسنام بفتح السين ما ارتفع من ظهر الجمل ( وليقل مثل ذلك ) ، أي مثل ما ذكر من الدعاء ( وفي رواية في المرأة والخادم ) وكذلك في الدابة كما تقدم ( ثم ليأخذ بناصيتها وليدع بالبركة ) ، أي بالدعاء المذكور السابق . قال أبو داود بعد قوله (( بذروة سنامه )) : زاد أبو سعيد يعني سعيد بن عبد الله أحد شيخيه في رواية هذا الحديث (( ثم ليأخذ بناصيتها وليدع بالبركة في المرأة والخادم )) . وفي الحديث مشروعية هذا الدعاء عند التزوج واشتراء الخادم والدابة ( رواه أبو داود ، وابن ماجة ) في النكاح لكن الشرطية الثانية لأبي داود فقط . والحديث رواه أيضا بتمامه النسائي في الكبرى ، والحاكم (ج2 : ص185) ، وابن السني (ص193) ، وأبو يعلى ، والبيهقي (ج7 : ص148) والبخاري في أفعال العباد (ص27) وسكت عنه أبو داود . وصححه الحاكم . ووافقه الذهبي وصححه أيضا النووي في الأذكار وجود الحافظ العراقي إسناده في تخريج أحاديث الإحياء ، وفي الباب عن زيد بن أسلم مرسلا مرفوعا أخرجه مالك في الموطأ .

(16/394)


2471- قوله ( وعن أبي بكرة ) بفتح الباء وسكون الكاف آخره تاء ( دعوات المكروب ) أي الواقع في الكرب يعني المغموم المحزون ، والكرب ما يدهم المرأ مما يأخذ بنفسه وبغمه ويحزنه ، أي الدعوات النافعة له المزيلة لكربه وسماه دعوات لاشتماله على معان جمة ، قال في اللمعات جمعها لاشتمال المذكور على معان جمة ودعوات متعددة ، لأن قوله : (( رحمتك أرجو )) بمعنى ارحمني ، ففيه دعوات مع أن قوله : (( وأصلح لي شأن كله )) يشتمل على ما لا يعد ولا يحصى - انتهى . وفي رواية الطبراني ، وابن السني كلمات المكروب ولابن حبان دعوة المكروب بلفظ الإفراد ( اللهم رحمتك أرجو ) التقديم للحصر ، أي لا أرجو إلا رحمتك ( فلا تكلني ) بفتح التاء وكسر الكاف من باب ضرب ، أي لا تتركني ولا
إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت . رواه أبو داود .
2472- (34) وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رجل : هموم لزمتني وديون يا رسول الله قال أفلا أعلمك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/395)


تفوضني ، وأصله جعل الغير وكيلا لإنجاح أموره ( إلى نفسي ) فإنها أعدى لي من جميع أعدائي وإنها عاجزة لا تقدر على قضاء حوائجي ( طرفة عين ) بفتح الطاء وسكون الراء أي مقدار إطباق أحد الجفنين على الآخر يعني لا تفوض أمري إلى نفسي لحظة قليلة قدر ما يتحرك البصر . قال الطيبي : الفاء في فلا تكلني مرتب على قوله : رحمتك أرجو . فقدم المفعول ليفيد الاختصاص والرحمة عامة فيلزم تفويض الأمور كلها إلى الله كأنه قيل فإذا فوضت أمري إليك فلا تكلني إلا نفسي لأني لا أدري ما صلاح أمري وما فساده وربما زاولت أمرا واعتقدت أن فيه صلاح أمري فانقلب فسادا وبالعكس ، ولما فرغ عن خاصة نفسه وأراد أن ينفي تفويض أمره إلى الغير ويثبته لله قال ( وأصلح لي شأني ) أي أمري ( كله ) أي جميعه تأكيد لإفادة العموم . وقال الشوكاني : الشأن يطلق على الأمر والحال والخطب وجمعه شئون ، والمراد هنا إصلاح حاله وما يحتاج إليه من أمره في حياته وبعد موته ( لا إله إلا أنت ) قال القاري : هذه فذلكة المقصود لأنها تفيد وحدة المعبود . وقال المناوي : ختمه بهذه الكلمة الحضورية الشهودية إشارة إلى أن الدعاء إنما ينفع المكروب ويزيل كربه إذا كان مع حضور وشهود ومن شهد بالتوحيد والجلال مع جمع الهمة وحضور البال فهو حري بزوال الكرب في الدنيا والرحمة ورفع الدرجات في العقبى ( رواه أبو داود ) في الأدب في حديث طويل تقدم أوله في الفصل الثالث من باب الدعاء في الصباح والمساء وأخرجه أيضا أحمد (ج5: ص42) والنسائي في الكبرى والبخاري في الأدب المفرد وابن حبان في صحيحه وابن السني (ص111) وابن أبي شيبة ، والطبراني إلا أنه انتهت روايته إلى قوله كله وسكت عنه أبو داود . وقال الهيثمي (ج10 : ص137) : رواه الطبراني وإسناده حسن . قلت : في سنده عندهم جعفر بن ميمون وتقدم الكلام فيه في شرح حديث أبي بكرة السابق .

(16/396)


2472- قوله ( هموم ) جمع الهم ( وديون ) عطف على هموم أي وديون لزمتني . قال الطيبي . هموم لزمتني مبتدأ وخبر كما في قولهم (( شر أهر ذا ناب )) أي همومه عظيمة لا يقادر قدرها وديون جمة نهضتني وأثقلتني – انتهى . قلت : الظاهر أن قوله : (( هموم )) إلخ . خبر مبتدأ محذوف يدل عليه أول الحديث وهو أن أبا سعيد قال دخل رسول الله ذات يوم في المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له : أبو أمامة فقال : يا أبا أمامة مالي أراك جالسا في المسجد في غير وقت الصلاة ، قال : هموم لزمتني وديون أي سبب جلوسي في المسجد في غير وقت الصلاة هموم وديون لزمتني فالتجأت إلى ربي في بيته فلزمتني صفة لهموم لا خبر له ( أفلا أعلمك ) عطف على محذوف أي ألا أرشدك فلا أعلمك ولا الثانية
كلاما إذا قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك ؟ قال : قلت : بلى . قال : قل إذا أصبحت وإذا أمسيت : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من البخل والجبن ، وأعوذ بك من غلبة الدين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/397)


مزيدة للتأكيد وقيل أصله فألا أعلمك ثم قدمت الهمزة لأن لها صدر الكلام وهو أظهر لبعده عن التكلف بل التعسف فإنه لا يبقى للفاء فائدة . كذا في المرقاة ( كلاما ) أي دعاء ( قال ) أي الرجل المذكور وهو أبو أمامة ( قلت بلى ) هذا صريح في أن الحديث من رواية الرجل أي أبي أمامة وكذا قوله : (( قال : ففعلت ذلك فأذهب الله همي ، وقضى عني ديني )) وظاهر سياقه في أوله كما تقدم أنه من حديث أبي سعيد . قال الطيبي : الظاهر أن يقال : قال : قال بلى أي بدل قوله : (( قال : قلت بلى )) لأن أبا سعيد لم يرو عن ذلك الرجل بل شاهد الحال كما دل عليه أول الكلام اللهم إلا أن يأول ويقال تقديره قال أبو سعيد قال لي رجل قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هموم لزمتني ( قل إذا أصبحت وإذا أمسيت ) أي دخلت في الصباح والمساء ( اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ) بضم الحاء وإسكان الزاي وبفتحهما ضد السرور ، وقيل : الهم والحزن بمعنى واحد ، وقيل : الهم ما يتصور من المكروه الحالي والحزن لما في الماضي ، وقيل : الهم فيما يتوقع أي في الخوف من أمر في المستقبل والحزن فيما قد وقع وفات . أي بفوات أمر حصل في الماضي كموت ولد ، أو الهم هو الحزن الذي يذيب الجسم ، يقال : همني الأمر بمعنى أذابني وسمى به ما يعتري الإنسان من شدائد الغم لأنه يذيبه فهو أشد وأبلغ من الحزن الذي أصله الخشونة ، وقال ميرك : الهم الكرب الذي ينشأ عند ذكر ما يتوقع حصوله مما يتأذى به والغم ما يحدث للقلب بسبب ما حصل والحزن ما يحصل لفقد ما يشق على المرأ فقده ( وأعوذ بك من العجز ) بفتح العين وسكون الجيم وهو ضد القدرة ، وأصله التأخر عن الشيء مأخوذ من العجز وهو مؤخر الشيء وللزومه الضعف والقصور عن الإتيان بالشيء استعمل في مقابلة القدرة واشتهر فيها ، والمراد هنا فقد القدرة على أداء الطاعة والعبادة ودفع الفساد وتحمل المصيبة والمحنة ( والكسل ) بفتحتين وهو التثاقل عن الشيء

(16/398)


مع وجود القدرة والداعية إليه ، وقيل : التواني عن الطاعة والتثاقل عن الأمر المحمود وعدم انبعاث النفس في الخير وقلة الرغبة فيه مع وجود القدرة عليه ( وأعوذ بك من البخل والجبن ) كذا في جميع النسخ من المشكاة وهكذا وقع في جامع الأصول والذي في سنن أبي داود (( من الجبن والبخل )) وهكذا في المصابيح والجامع الصغير والحصن ، والجبن بضم الجيم وسكون الموحدة وبضمها . ضد الشجاعة وهو الخوف عند القتال ومنه عدم الجرأة عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقيل : هو ضعف القلب الناشئ عنه عدم الإقدام على المخاوف ، والبخل بضم الباء وكجبل ونجم وعنق ضد الكرم ( وأعوذ بك من غلبة الدين ) أي استيلائه وكثرته وهي أن يفدحه الدين ويثقله وفي معناه ضلع الدين كما في رواية أي ثقله الذي يميل صاحبه عن الاستواء والضلع بالتحريك الاعوجاج والمراد به ها هنا ثقل الدين وذلك حيث لا يجد من عليه الدين وفاءه ولا يسامح الدائن مع المطالبة الشديدة
وقهر الرجال . قال : ففعلت ذلك فأذهب الله همي وقضى عني ديني . رواه أبو داود .
2473- (35) وعن علي أنه جاءه مكاتب فقال : إني عجزت عن كتابتي فأعني . قال : ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو كان عليك مثل جبل كبير دينا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/399)


( قهر الرجال ) ، أي غلبتهم كما في رواية وهو شدة تسلطهم بغير حق تغلبا وجدلا ، وقيل : الإضافة إلى الفاعل أو المفعول فكأنه إشارة إلى التعوذ من أن يكون مظلوما أو ظالما وفيه إيماء إلى العوذ من الجاه المفرط والذل المهين ، وقيل غير ذلك . ويأتي مزيد الكلام في معاني القرائن المذكورة في شرح حديث أنس ثاني أحاديث باب الاستعاذة ( قال ) : أي الرجل وهو أبو أمامة ( ففعلت ذلك ) ، أي ما ذكر من الدعاء عند الصباح والمساء ( فأذهب الله ) ببركة هذا الدعاء ( همي ) ، أي وحزني ( رواه أبو داود في آخر الصلاة وسكت عنه . وقال المنذري : في إسناده غسان بن عوف وهو بصري وقد ضعف - انتهى . وفي تهذيب الحافظ قال الآجري : سألت أبا داود عن غسان بن عوف الذي يحدث عنه الجريري بحديث الدعاء يعني حديث أبي سعيد هذا فقال شيخ بصري ، وهذا حديث غريب ، قلت ( قائله الحافظ ) : ضعفه الساجي والأزدي ، وقال العقيلي : لا يتابع على كثير من حديثه - انتهى . وقال في التقريب عنه : لين الحديث .

(16/400)


2473- قوله : ( جاءه مكاتب ) ، أي لغيره ، والمكاتب بفتح التاء عبد علق سيده عتقه على إعطاءه كذا من المال ( إني عجزت عن كتابتي ) بكسر الكاف ، أي عند بدلها وهو المال الذي كاتب به العبد سيده يعني بلغ وقت أداء مال الكتابة وليس لي مال ، واختلف في تعريف الكتابة فقيل : هي تعليق عتق بصفة على معاوضة مخصوصة . وقال ابن قدامة : الكتابة إعتاق السيد عبده على مال في ذمته يؤدي مؤجلا ، وقيل : هي عتق على مال مؤجل من العبد موقوف على أدائه ، وقيل : هي تحرير المملوك يدا ( أي : تصرفا في البيع والشراء ونحوهما ) ورقبة مالا ( أي : عند أداء البدل ) ( فأعني ) أي : بالمال أو بالدعاء بسعة المال ( قال : ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) قال الطيبي : طلب المكاتب المال فعلمه الدعاء إما لأنه لم يكن عنده من المال ليعينه فرده أحسن رد عملا بقوله تعالى : ? قول معروف ومغفرة خير من صدقة ? (2 : 263) أو أرشده إشارة إلى أن الأولى والأصلح له أن يستعين بالله لأدائها ولا يتكل على الغير وينصر هذا الوجه قوله : (( وأغنني بفضلك عمن سواك )) ( لو كان عليك مثل جبل كبير دينا ) بفتح الدال والنصب على التمييز . قال الطيبي : قوله : (( دينا )) يحتمل أن يكون تمييزا عن اسم كان الذي هو (( مثل )) لما فيه من الإبهام ، و (( عليك )) خبره مقدما عليه ، وأن يكون (( دينا )) خبر كان و (( عليك )) حالا من المستتر في الخبر والعامل هو الفعل المقدر في الخبر ومن جوز إعمال كان في الحال فظاهر على مذهبه - انتهى . وقوله (( مثل جبل كبير )) كذا في نسخ المشكاة تبعا للمصابيح ، والذي في جامع الترمذي (( مثل جبل صير (( بكسر الصاد المهملة بعدها ياء تحتية ساكنة ثم راء وهو جبل ببلاد طئ ، وهكذا وقع في زيادات المسند لعبد الله

(16/401)


أداه الله عنك . قل : اللهم اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضلك عمن سواك . رواه الترمذي ، والبيهقي في الدعوات الكبير ، وسنذكر حديث جابر : (( إذا سمعتم نباح الكلاب )) في باب (( تغطية الأواني )) إن شاء الله تعالى .
( الفصل الثالث )
2474- (36) وعن عائشة قالت : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جلس مجلسا أو صلى تكلم بكلمات فسألته عن الكلمات فقال : إن تكلم بخير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/402)


ابن أحمد ووقع في جامع الأصول (( صبير )) بفتح الصاد وكسر الباء الموحدة وسكون التحتية وكذا في رواية الحاكم (ج1 : ص538) قال الجزري في جامع الأصول (ج5 : ص222) : صبير جبل باليمن ، وقال بعضهم الذي جاء في حديث علي مثل جبل صير بإسقاط الباء الموحدة وهو جبل بطئي وجبل على الساحل بين عمان وسيراف . قال : فأما صبير فإنما جاء في حديث معاذ - انتهى . ( أداه الله عنك ) ، أي أعانك على أدائه إلى مستحقه وأنقذك من مذلته ( قل ) في الترمذي (( قال : قل )) ( اللهم اكفني ) بهمزة وصل وكسر الفاء من كفي كفاية تثبت الهمزة في الابتداء مكسورة وتسقط في الدرج ( بحلالك عن حرامك ) ، أي متجاوزا ومستغنيا عنه يعني قني واحفظني بالحلال عن الوقوع في الحرام ( وأغنني ) بهمزة قطع من الإغناء ( بفضلك عمن سواك ) من الخلق فمن قاله بصدق نية وجد أثر الإجابة ( رواه الترمذي ) في الدعوات ( والبيهقي في الدعوات الكبير ) وأخرجه أيضا عبد الله بن أحمد في زيادات المسند (ج1 : ص153) والحاكم (ج1 : ص538) قال الترمذي : حديث حسن غريب ، وقال الحاكم صحيح وأقره الذهبي . قلت : في سنده عندهم عبد الرحمن بن إسحاق القرشي الواسطي أبو شيبة الكوفي وهو ضعيف ، ففي تحسين الترمذي وتصحيح الحاكم والذهبي نظر . قال الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند (ج2 : ص332) : إسناده ضعيف لضعف عبد الرحمن بن إسحاق .

(16/403)


قوله ( وسنذكر حديث جابر : إذا سمعتم نباح الكلاب ) بضم النون بعدها موحدة ، أي صياحها ، وتمامه على ما في المصابيح (( ونهيق الحمار بالليل فتعوذوا بالله من الشيطان فإنهن ، أي الكلاب والحمير يرين ما لا ترون )) ( في باب تغطية الأواني ) لأنه أنسب لذلك الباب من هذا الباب بالنسبة إلى تتمته على ما ذكرها المصنف هناك وهي (( وأقلوا الخروج إذا هدأت الأرجل فإن الله عز وجل يبث من خلقه في ليلته ما يشاء ، وأجيفوا الأبواب واذكروا اسم الله عليه فإن الشيطان لا يفتح بابا إذا أجيف وذكر اسم الله عليه وغطوا الجرار وأكفئوا الآنية وأوكوا القرب )) .
2474- قوله ( كان إذا جلس مجلسا أو صلى ) ، أي صلاة ( تكلم بكلمات ) ، أي عند انصرافه منها أو عند قيامه عنه ( فسألته عن الكلمات ) ، أي عن فائدتها ( إن تكلم بخير ) بصيغة المجهول فنائبه الجار وفي نسخة على بناء المعلوم ، أي إن
كان طابعا عليهن إلى يوم القيامة وإن تكلم بشر كان كفارة له : سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك . رواه النسائي .
2475- (37) وعن قتادة بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/404)


تكلم متكلم بخير ، أي طاعة قبل تلك الكلمات المسئول عنها ثم ذكر تلك الكلمات عقبه ( كان ) ، أي الذكر الآتي وهو تلك الكلمات وقيل ، أي تلك الكلمات وتذكير الضمير باعتبار الكلام ( طابعا ) ، بفتح الموحدة وتكسر أي خاتما ( عليهن ) ، أي على كلمات الخير ، وقال السندي : أي على تلك الكلمات التي هي خير ، إذ الغالب أن الخير يكون كلمات متعددة فلذلك جمع الضمير وفيه ترغيب إلى تكثير الخير وتقليل الشر حيث اختير في جانبه الإفراد وإشارة إلى أن جميع الخيرات تثبت بهذا الذكر إذا كان هذا الذكر عقبها ولا تختص هذه الفائدة بالخير المتصل بهذا الذكر فقط . والمراد أنه يكون مثبتا لذلك الخير رافعا إلى درجة القبول آمنا له عن حضيض الرد - انتهى . ( وإن تكلم ) بالوجهين ( بشر ) ، أي بإثم ( كان كفارة له ) ، أي لما تكلم به من الشر ، أي مغفرة للذنب الحاصل فيستحب للإنسان ختم المجلس به ، أي مجلس كان ( سبحانك اللهم ) إلخ ، تفسير لقوله : بكلمات ، أي تكلم بكلمات سبحانك اللهم إلخ . فسألته عن فائدتها ، وفي الكلام تقديم وتأخير وضمير كان في الموضعين راجع إلى قوله : سبحانك في المعنى كما لا يخفى . وقال الطيبي : قوله عن الكلمات التعريف للعهد والمعهود قوله كلمات وهو يحتمل وجهين إما أن لا يضمر شيء فيكون الكلمات الجملتين الشرطيتين واسم كان فيهما مبهم تفسيره قوله سبحانك اللهم ، وإما أن يقدر فما فائدة الكلمات ؟ فعلى هذا الكلمات هي قوله سبحانك اللهم والمضمر في كان راجع إليه ففي الكلام تقديم وتأخير وهذا الوجه أحسن بحسب المعنى وإن كان اللفظ يساعد الأول ، كذا في المرقاة . وقال في اللمعات : لا شك أن الكلمات هي سبحانك اللهم إلخ ، فالسؤال يكون عنها والجواب بها ، لكنه - صلى الله عليه وسلم - بين قبلها فضيلتها بقوله (( إن تكلم )) بصيغة المجهول الماضي أي وقع التكلم ، أو بفتحات أي تكلم متكلم أو رجل (( بخير )) في المجلس ، والضمير في (( كان

(16/405)


)) راجع إلى قوله (( سبحانك اللهم )) إلخ لكونه فاعلا أو مسندا إلى ظاهره فهو اسم (( كان )) و (( طابعا )) بفتح الباء بمعنى الخاتم خبر مقدم والضمير في (( عليهن )) راجع إلى الكلمات المفهومة من تكلم رعاية للمعنى ، وفي قوله (( كان كفارة له )) إلى الشر لرعاية اللفظ فافهم . هذا ما سنح لي في توجيه الكلام انتهى . ( رواه النسائي ) في الصلاة وإسناده صحيح أو حسن . وذكره المنذري في باب الترغيب في كلمات يكفرن لغط المجلس بلفظ المشكاة وصدره بلفظة (( عن )) فلا أقل من أن يكون عنده حسنا أو قريبا من الحسن . وقال : رواه ابن أبي الدنيا والنسائي واللفظ لهما والحاكم والبيهقي وفي الباب عن جبير بن مطعم ، ورافع بن خديج ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وأبي برزة الأسلمي ذكرها المنذري في الباب المذكور ، والحاكم (ج1 : ص536 ، 537) .
2475- قوله ( وعن قتادة ) هو قتادة بن دعامة السدوسي التابعي الجليل ( بلغه ) في سنن أبي داود (( أنه بلغه ))
هلال خير ورشد هلال خير ورشد هلال خير ورشد آمنت بالذي خلقك ثلاث مرات . ثم يقول : الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا . رواه أبو داود .
2476- (38) وعن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من كثر همه فليقل : اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/406)


والحديث مرسل ( هلال خير ورشد ) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هذا أو هو هلال خير تفاؤلا فيكون ما بعده التفاتا أو خبر معناه دعاء ، وقيل الظاهر أنه منصوب بمقدر ، أي اللهم اجعله لنا أو أهله علينا هلال خير ، أي بركة ، ورشد بضم الراء وسكون الشين ويجوز فتحهما أي هداية إلى القيام بعبادة الله تعالى فإنه ميقات الحج والصوم وغيرهما . قال الله تعالى : ? يسألونك عن الأهلة ? (2 : 189) الآية ( هلال خير ورشد ، هلال خير ورشد ) قال القاري : كرره ثلاثا لأنه خبر بمعنى الدعاء ويصح بقاؤه على الخبرية تفاؤلا بأن يكون الشهر عليه كذلك ( آمنت بالذي خلقك ) فيه رد على من عبد القمر ( ثلاث مرات ) ظرف لقال ، وقيل أي يكرر ذلك ثلاثا ( الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا ) ، أي بجمادى الأخرى مثلا أي بالخير والسلامة ( وجاء بشهر كذا ) ، أي بجمادي الآخر ، مثلا أي بالخير والسلامة ( وجاء بشهر كذا ) أي برجب مثلا ، أي أبقى وفسح في العمر وكلاهما نعمة ، أو المراد ثناءه تعالى على هذه القدرة الكاملة وإيجاد الحالة العجيبة . قال الطيبي : إما أن يراد بالحمد الثناء على قدرته بأن مثل هذا الإذهاب العجيب وهذا المجيء الغريب لا يقدر عليه إلا الله أو يراد به الشكر على ما أولى العباد بسبب الانتقال من النعم الدينية والدنيوية ما لا يحصى وينصر هذا التأويل قوله (( هلال خير )) ( رواه أبو داود ) في الأدب ورجاله ثقات لكنه مرسل ، ورواه أيضا البغوي في شرح السنة (ج5 : ص129) عن قتادة قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى الهلال كبر ثلاثا وهلل ثلاثا ثم قال : هلال خير ورشد . ثلاثا . ثم قال : آمنت إلخ . قال البغوي : هذا حديث منقطع . قال في مرقاة الصعود : وصله ابن السني والطبراني في الدعاء من طريق محمد بن عبيد الله الفزاري عن قتادة عن أنس وزاد الطبراني بعد قوله خلقك (( فعدلك وجعلك آية للعالمين )) انتهى . قلت : روى

(16/407)


ابن السني (ص207) حديث أنس من طريق عمر بن أبي سلمة عن زهير بن محمد عن يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن حرملة عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا نظر إلى الهلال قال : اللهم اجعله هلال يمن ورشد ، وآمنت بالذي خلقك فعدلك فتبارك الله أحسن الخالقين . وروي أيضا من طريق الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى الهلال قال : هلال خير ورشد ثلاث مرات ، آمنت بالذي خلقك ثلاث مرات . ثم يقول : الحمد لله الذي جاء بالشهر وذهب بالشهر .
2476- قوله ( من كثر ) بضم الثاء المثلثة ( همه فليقل اللهم ) وفي رواية أحمد (ج1 : ص193) (( ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال اللهم )) ( إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ) بفتح الهمزة والميم المخففة ، أي ابن جاريتك وهو
وفي قبضتك ، ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في مكنون الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/408)


اعتراف بالعبودية ( وفي قبضتك ) بفتح القاف المرة من القبض ، أي في تصرفك وتحت قضائك وقدرك ولا حركة لي ولا سكون إلا بأقدارك وهو إقرار بالربوبية ولم يقع هذا اللفظ فيما رأيت إلا لابن السني ( ناصيتي بيدك ) ، أي لا حول ولا قوة إلا بك ، كناية عن كمال قدرته وإشارة إلى إحاطته على وقف إرادته وهو مقتبس من قوله تعالى : ? ما من دآبة إلا هو آخذ بناصيتها ? (11 : 56) ( ماض ) ، أي ثابت ونافذ ( في ) بتشديد الياء ، أي في حقي ( حكمك ) قال القاري في شرح الحصن : إيماء إلى أنه لا مانع لفعله ولا راد لحكمه أو المعنى سابق في شأن حكمك الأزلي ولا تبديل ولا تحويل لأمرك . وقال في المرقاة : حكمك ، أي الأمري أو الكوني كإهلاك وإحياء ومنع وعطاء ( عدل في قضاءك ) ، أي ما قدرته علي لأنك تصرفت في ملكك على وفق حكمتك ( أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ) ، أي ذاتك وهو مجمل وما بعده تفصيل له على سبيل التنويع الخاص أعني قوله ( أو أنزلته في كتابك ) ، أي في جنس الكتب المنزلة ( أو علمته أحدا من خلقك ) ، أي من خلاصتهم وهم الأنبياء والرسل وهذا ساقط من بعض نسخ المشكاة ، وليس أيضا في جامع الأصول والصحيح وجوده ، ويشهد له رواية أحمد ، وابن حبان ، والحاكم وابن السني ( أو استأثر به ) ، أي اخترته وتفردت به ( في مكنون الغيب ) ، أي مستوره ، وفي رواية أحمد ، وابن حبان ، والحاكم ، وابن السني ، (( في علم الغيب )) ( عندك ) ، أي فلم تلهمه أحدا ولم تنزله في كتاب . قال الجزري : الاستئثار بالشيء التخصص به والإنفراد أي انفردت بعلمه عندك لا يعلمه إلا أنت ، وفيه دليل على أن لله سبحانه وتعالى أسماء غير التسعة والتسعين الاسم المتقدم ذكرها ، وفيه التوسل بأسماء الله تعالى التي سما بها نفسه ما علم العباد منها وما لم يعلموا ، ومنها ما استأثر به في علم الغيب عنده فلم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا وهذه الوسيلة

(16/409)


أعظم الوسائل وأحبها إلى الله وأقربها تحصيلا للمطلوب ( أن تجعل القرآن ) مفعول أسألك ( ربيع قلبي ) شبه القرآن بزمان الربيع في ظهور آثار رحمه الله وحياة القلب وارتياحه به . قال الشوكاني : أي أسألك أن تجعل القرآن كالربيع الذي يرتع فيه الحيوان ، وكذلك القرآن ربيع القلوب ، أي يجعل قلبه مرتاحا إلى القرآن مائلا إليه راغبا في تلاوته وتدبره ، وقيل أي منتزهه ومكان رعيه وانتفاعه بأنواره وأشجاره وثماره المشبه بها أنواع العلوم والمعارف وأصناف الحكم والأحكام واللطائف . قال الطيبي : هذا هو المطلوب والسابق وسائل إليه ، فأظهر أولا غاية ذلته وصغاره ونهاية عجزه وافتقاره ، وثانيا بين عظمة شأنه وجلالة اسمه سبحانه بحيث لم يبق فيه بقية ، وألطف في المطلوب حيث جعل المطلوب وسيلة إلى إزالة الهم المطلوب أولا ، وجعل القرآن ربيع القلب وهو عبارة عن الفرح ،
وجلاء همي وغمي . ما قالها عبد قط إلا أذهب الله غمه وأبدله به فرجا . رواه رزين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/410)


لأن الإنسان يرتاح قلبه في الربيع من الأزمان ويميل إليه في كل مكان ، وأقول كما أن الربيع سبب ظهور آثار رحمة الله تعالى وإحياء الأرض بعد موتها ، كذلك القرآن سبب ظهور تأثير لطف الله من الإيمان والمعارف وزوال ظلمات الكفر والجهل والهم ، كذا في المرقاة . وزاد في رواية أحمد (( نور صدري )) وكذا في حديث أبي موسى الأشعري عند الطبراني ، وابن السني ، أي يشرق في قلبي نوره فأميز به الحق من غيره . ووقع في رواية ابن حبان ، وابن السني من حديث ابن مسعود (( نور بصري )) قال الشوكاني : سأله أن يجعل القرآن منور البصيرة ، والنور مادة الحياة وبه يتم معاش العباد . وقال القاري في شرح الحصن قوله (( ونور بصري )) ، أي تلوته إذا تلوته عينا كما أنه ربيع قلبي إذا تلوته غيبا ( وجلاء همي وغمي ) بكسر الجيم ، أي إزالتهما وكشفهما من جلوت السيف جلاء بالكسر أي صقلته ، وفي رواية أحمد ، وابن حبان ، والحاكم ، وابن السني : (( وجلاء حزني وذهاب همي )) سأله أن يجعل القرآن شفاء همه وغمه ليكون بمنزلة الدواء الذي يستأصل الداء ويعيد البدن إلى صحته واعتداله وأن يجعله لحزنه كالجلاء الذي يجلو الطبوع والأصدية ( ما قالها ) ، أي الكلمات المذكور ( عبد قط إلا أذهب الله غمه وأبدله به فرجا ) بفتحتين وبالجيم وهو كشف الغم وفي بعض النسخ فرحا بالحاء المهملة وهكذا في جامع الأصول ، وفي رواية الأربعة المذكورين (( إلا أذهب الله همه وأبدل مكان حزنه فرحا ، قالوا : يا رسول الله ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات قال أجل ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن )) وفي الحديث الحث على تعلم هذا الدعاء والعمل به وقت الحزن والهم والغم وأن من فعل ذلك أذهب الله عنه ما يجد وأبدله مكان الهم والغم فرحا ، هذا وقد بسط ابن القيم في شرح هذا الحديث وبيان ما يدل عليه الدعاء المذكور فيه من الفوائد والقواعد في شفاء العليل (ص274 - 278) فليرجع إليه من شاء ( رواه رزين )

(16/411)


ذكره رزين في تجريده ولا يوجد في أصوله ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10 : ص136) وقال رواه أحمد (ج1 : ص391 ، 452) وأبو يعلى ، والبزار ، والطبراني . ورجال أحمد وأبي يعلي رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني وقد وثقه ابن حبان - انتهى . قلت : وأخرجه أيضا الحاكم (ج1 : ص509) ، وابن السني (ص110) ، وابن حبان كما في موارد الظمآن (ص589) ، وابن أبي شيبة كما في الحصن رواه كلهم غير ابن السني من رواية أبي سلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن عبد الله ورواه ابن السني من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن القاسم بن عبد الرحمن عن عبد الله بن مسعود . قال الحاكم : حديث صحيح على شرط مسلم إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه فإنه مختلف في سماعه من أبيه . وتعقبه الذهبي فقال : أبو سلمة لا يدري من هو ولا رواية له في الكتب الستة - انتهى . وقال الشيخ أحمد شاكر في شرحه للمسند : إسناده صحيح ثم نقل تخريجه عن الهيثمي وكلامه المتقدم ثم ذكر تصحيح الحاكم وتعقب الذهبي عليه . ثم قال : أبو سلمة الجهني ترجمه الحافظ في التعجيل (ص490 ، 491) ونقل عن الحسيني أنه قال (( مجهول )) وكلام الذهبي أنه لا يدري من هو ، ثم قال : وقد ذكره ابن حبان في الثقات وأخرج حديثه في صحيحه وقرأت بخط الحافظ ابن عبد الهادي (( يحتمل أن يكون خالد بن
2477- (39) عن جابر قال : كنا إذا صعدنا كبرنا وإذا نزلنا سبحنا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/412)


سلمة )) قلت : وهو بعيد لأن خالدا مخزومي وهذا جهني - انتهى . وترجمه أيضا في لسان الميزان (6 ، 387) بنحو هذا ثم قال : والحق أنه مجهول الحال وابن حبان يذكر أمثاله في الثقات ويحتج به في الصحيح إذا كان ما رواه ليس بمنكر - انتهى . وتعقبه الشيخ أحمد شاكر فقال : وهذه دعوى من الحافظ فكلهم يحتجون في توثيق الراوي بذكر ابن حبان إياه في الثقات إذا لم يكن مجروحا بشيء ثابت . وفضلا عن هذا فإن البخاري ترجمه في الكنى برقم (341) فلم يذكر فيه جرحا وهذا مع ذاك يرفعان جهالة حاله ويكفيان في الحكم بتوثيقه وأما ظن ابن عبد الهادي أنه خالد بن سلمة فإنه بعيد كما قال الحافظ وأقرب منه عندي أن يكون موسى بن عبد الله أو ابن عبد الرحمن الجهني ويكنى أبا سلمة فإنه من هذه الطبقة وقد سبق توثيقه . قلت : وفي تعقبه على الحافظ عندي نظر فتأمل . ثم قال الشيخ أحمد شاكر وهنا بهامش ك ( أي النسخة الكتانية المغربية للمسند ) (( قال الحافظ المنذري بعد الإتيان بحديث ابن مسعود هذا وذكر تخريجه وذكر كلام الحاكم (( لم يسلم ، أي الحديث من الإرسال )) أقول : هذا ادعاء من الحافظ المنذري فإنه سلم منه لما رجحنا في (3690) أن عبد الرحمن سمع من أبيه )) - انتهى . وقال هناك (ج5 : ص255) في سماع عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه كلام والراجح عندي أنه سمع منه ، وهو الذي رجحه البخاري في التاريخ الصغير (40) فإنه روى عن ابن خثيم المكي قصة بإسناده قال فيها عبد الرحمن (( وأنا مع أبي )) ثم قال البخاري قال شعبة : لم يسمع عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود من أبيه ، وحديث ابن خثيم أولى عندي - انتهى .

(16/413)


2477- قوله : ( كنا ) أي : في سفرنا ( إذا صعدنا ) بكسر العين أي : طلعنا مكانا عاليا وعلونا موضعا مرتفعا مثل جبل وتل ( كبرنا ) أي : قلنا الله أكبر إظهارا لكبريائه تعالى وعلو مكانه وارتفاع شأنه ( وإذا نزلنا ) أي : هبطنا منزلا واطئا وموضعا منخفضا نحو الوادي وفي رواية (( تصوبنا )) بدل (( نزلنا )) والتصوب النزول والانحدار وقد ورد بلفظ هبطنا عند النسائي ( سبحنا ) أي : قلنا : سبحان الله . ومناسبة التكبير عند الصعود إلى المكان المرتفع أن الاستعلاء والارتفاع محبوب للنفوس لما فيه من استشعار الكبرياء فشرع لمن تلبس به أن يذكر كبرياء الله تعالى وأنه أكبر من كل شيء ليشكر له ذلك فيزيده من فضله ، ومناسبة التسبيح عند الهبوط لكون المكان المنخفض محل ضيق ، فيشرع فيه التسبيح لأنه من أسباب الفرج كما وقع في قصة يونس عليه السلام حين سبح في الظلمات فنجى من الغم . قال المهلب : تكبيره - صلى الله عليه وسلم - عند الارتفاع والإشراف على المواضع العالية استشعار لكبرياء الله عز وجل عند ما يقع عليه العين من عظيم خلقه أنه أكبر من كل شيء وأما تسبيحه في بطون الأودية فهو مستنبط من قصة يونس عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى : ? فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ? (37 : 143 ، 144) فنجاه الله تعالى بتسبيحه في بطن الحوت من الظلمات فامتثل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا التسبيح في بطون الأودية لينجيه الله منها ومن أن يدركه العدو ، وقيل : مناسبة التسبيح في الأماكن المنخفضة من
رواه البخاري .
2478- (40) عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كربه أمر يقول : يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث . رواه الترمذي . وقال : هذا حديث غريب وليس بمحفوظ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/414)


جهة أن التسبيح هو التنزيه فناسب تنزيه الله عن صفات الانخفاض كما ناسب تكبيره عند الأماكن المرتفعة ( رواه البخاري ) في الجهاد ، وأخرجه النسائي في اليوم والليلة ، والبغوي في شرح السنة (ج5 : ص148) ، وروى أبو داود نحوه عن عبد الله بن عمر .
2478- قوله : ( كان إذا كربه أمر ) أي : أصابه كرب وشدة وقيل : أي : أشق عليه أمر وأهمه شأنه ، وفي رواية ابن السني (( إذا حز به أمر )) وفي حديث ابن مسعود عند الحاكم إذا نزل به هم أو غم ( يقول ) في الترمذي (( قال )) وفي جامع الأصول (( يقول )) كما في المشكاة ( يا حي ) أي : الدائم البقاء ( يا قيوم ) أي : المبالغ في القيام بتدبير خلقه ( برحمتك أستغيث ) أي : أطلب الإغاثة وأسأل الاستعانة يقال : أغاثه الله أعانه ونصره وأغاثه الله برحمته كشف شدته . قال ابن القيم في الطب النبوي (ص159) : في تأثير قوله : (( يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث )) في دفع هذا الداء ( أي الكرب والهم والغم )) مناسبة بديعة فإن صفة الحياة متضمنة لجميع صفات الكمال مستلزمة لها وصفة القيومية متضمنة لجميع صفات الأفعال ، ولهذا كان اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى هو اسم الحي القيوم والحياة التامة تضاد جميع الأسقام والآلام ، ولهذا لما كملت حياة أهل الجنة لم يلحقهم هم ولا غم ولا حزن ولا شيء من الآفات ونقصان الحياة يضر بالأفعال وينافي القيومية فكمال القيومية لكمال الحياة فالحي المطلق التام الحياة لا يفوته صفة الكمال البتة والقيوم لا يتعذر عليه فعل ممكن البتة . فالتوسل بصفة الحياة والقيومية له تأثير في إزالة ما يضاد الحياة ويضر بالأفعال والمقصود أن لاسم الحي القيوم تأثيرا خاصا في إجابة الدعوات وكشف الكربات ( رواه الترمذي ) في الدعوات وقال : هذا حديث غريب - انتهى . وأخرجه أيضا ابن السني (ص109) كلاهما من طريق أبي بدر شجاع بن الوليد عن الرحيل بن معاوية عن يزيد بن أبان الرقاشي

(16/415)


عن أنس . والرقاشي قال في التقريب : إنه زاهد ضعيف . وقال الساجي : كان يهم ولا يحفظ ويحمل حديثه لصدقه وصلاحه والظاهر أنه ضعف لأنه غفل عن حفظ الحديث شغلا بالعبادة ( هذا حديث غريب وليس بمحفوظ ) قد وهم المصنف ها هنا فإن كلام الترمذي هذا إنما هو في حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام )) . رواه من طريق مؤمل عن حماد بن سلمة عن حميد عن أنس به ، ثم قال : هذا حديث غريب وليس بمحفوظ ، وإنما يروى هذا عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن البصري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا أصح ، والمؤمل غلط فيه . فقال : عن حميد عن أنس ولا يتابع فيه - انتهى . وقد تعقب الحافظ كلام الترمذي هذا في النكت الظراف على الأطراف (ج1 : ص182) فارجع إليه ، وفي الباب عن ابن مسعود أخرجه الحاكم (ج1 : ص509) .
3
2479- (41) وعن أبي سعيد الخدري قال : قلنا يوم الخندق يا رسول الله هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر ؟ قال : نعم اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا . قال : فضرب الله وجوه أعدائه بالريح ، هزم الله بالريح . رواه أحمد .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/416)


2479- قوله : ( قال : قلنا يوم الخندق ) أي : يوم الأحزاب في المدينة ، وسبب حفر الخندق أنه لما بلغه - صلى الله عليه وسلم - أن أهل مكة تحزبوا لحربه وجمعوا من مشركي العرب وأهل الكتاب ما لا طاقة له بهم فاستشار أصحابه فأشار سلمان الفارسي بحفره كما هو عرف بلادهم إذا قصدهم العدو الذي لا طاقة لهم بهم حول المدينة ليمنعهم دخولها بغتة ويستأمن به المسلمون على نسائهم وأولادهم فحفره هو وأصحابه بضعة عشر يوما ورأوا فيها من الشدة والجوع والمعجزات ما هو مسطور في محله وكان ذلك في شوال سنة خمس من الهجرة وقيل غير ذلك ، وقد بسط أهل السير في هذه الوقعة ما هو معروف فلا نطيل بذكرها ( فقد بلغت القلوب الحناجر ) ، أي فزعا ورعبا ، فإن الرئة تنتفخ من شدة الروع فيرتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة وهي منتهى الحلقوم . قال الشوكاني في فتح القدير : الحناجر جمع حنجرة وهي جوف الحلقوم ، أي ارتفعت القلوب عن أماكنها ووصلت من الفزع والخوف إلى الحناجر فلو لا أنه ضاق الحلقوم عنها وهو الذي نهايته الحنجرة لخرجت كذا قال قتادة . وقيل هو على طريق المبالغة المعهودة في كلام العرب وإن لم ترتفع القلوب إلى ذلك المكان ولا خرجت عن مواضعها ولكنه مثل في اضطرابها وجبنها يعني هو على سبيل التمثيل عبر به عن شده الخوف والاضطراب . قال الفراء : والمعنى أنهم جبنوا وجزع أكثرهم وسبيل الجبان إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته فإذا انتفخت الرئة ارتفع القلب إلى الحنجرة ولهذا يقال للجبان انتفخ سحره ( قال نعم ) ، أي قولوا ( اللهم استر عوراتنا ) جمع عورة وهي كل ما يستحي منه ويسوء صاحبه أن يرى منه ( وآمن روعاتنا ) جمع روعة وهي المرة من الروع بمعنى الفزع والخوف ( فضرب الله ) ، أي بعد ما قال لهم . وقالوا دفع الله وصرف عن مقاتلة المسلمين ومقابلتهم ( وجوه أعدائه بالريح ) بأن جعلها مسلطة عليهم حتى كفأت قدورهم وألقت خيامهم ووقعوا في برد شديد وظلمة عظيمة

(16/417)


( هزم الله ) وفي بعض النسخ من المشكاة (( وهزم الله )) بالواو العاطفة ، والمعنى على الأول هزمهم فيكون استئنافا لضرب أو بدلا منه ( بالريح ) قال الطيبي : الظاهر أن يقال (( فانهزموا بها )) فوضع المظهر موضع المضمر ليدل به على أن الريح كانت سببا لإنزال الرجز ، وأقحم لفظ الله ليدل به على قوة ذلك السبب - انتهى . قلت : والذي في مسند أحمد فهزمهم الله عز وجل بالريح وهذا ظاهر لا يحتاج إلى ما تكلفه الطيبي ( رواه أحمد ) (ج3 : ص3) ورواته ثقات ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10 : ص136) وقال : رواه أحمد والبزار وإسناد البزار متصل ورجاله ثقات ، وكذلك رجال أحمد إلا أن في نسختي من المسند عن ربيح بن أبي سعيد عن أبيه وهو في البزار عن أبيه عن جده . قلت : وهو كذلك في نسخة
2480- (42) وعن بريدة قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل السوق قال : بسم الله اللهم إني أسألك خير هذه السوق ، وخير ما فيها ، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها . اللهم إني أعوذ بك أن أصيب فيها صفقة خاسرة . رواه البيهقي في الدعوات الكبير .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسند التي بين أيدينا كنسخة الحافظ الهيثمي ، وربيح مصغرا ابن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري المدني يروي عن أبيه عن جده ، يقال : اسمه سعيد وربيح لقب . مقبول ، قاله الحافظ في التقريب .

(16/418)


2480- قوله ( إذا دخل السوق ) ، أي أراد دخولها وقيل أي وصل إلى مكانها وفي رواية ابن السني والطبراني (( إذا خرج إلى السوق )) ( قال ) ، أي عند الأخذ فيه ( اللهم إني أسألك خير هذه السوق ) السوق يذكر ويؤنث على ما في الصحاح وقيل أنثها لأن تأنيثها أفصح من تذكيرها ولذا يقال في تصغيرها سويقة والمراد خير ذاتها أو مكانها ( وخير ما فيها ) ، أي ما ينتفع به من الأمور الدنيوية ويستعان به على القيام بوظائف العبودية وللوسائل حكم المقاصد ، قال القاري في الحرز : قوله (( وخير ما فيها )) ، أي مما ينتفع به في الأمور الدنيوية التي يستعان بها على الأحكام الأخروية وقال في المرقاة أي من الأمور التي معينة على الدين أو أسألك خير هذه السوق بتيسير رزق حلال وعمل رابح وبركة في الوقوف بها وخير ما فيها من الناس والعقود والأمتعة ( وأعوذ بك من شرها ) ، أي في ذاتها أو مكانها لكونه مكان إبليس كما ورد ( وشر ما فيها ) ، أي مما يشغل عن ذكر الرب سبحانه أو مخالفته بنحو غش وخيانة وارتكاب ربا وعقد فاسد وأمثال ذلك وقيل من شرها ، أي من شر ما استقر من الأوصاف والأحوال الخاصة بها وشر ما فيها ، أي من شر ما خلق ووقع فيها وسبق إليها ( اللهم إني أعوذ بك أن أصيب ) ، أي أدرك ( فيها صفقة ) ، أي بيعة ومنه ألهاهم الصفق بالأسواق ، أي التبايع قاله الجزري . ويقال : صفق يده على يده صفقا وصفقة ضرب يده على يده وذلك عند وجوب البيع ( خاسرة ) ، أي عقد فيه خسارة دنيوية أو دينية ، قال الطيبي : الصفقة المرة من التصفيق وهي اسم للعقد فإن المتبايعين يضع أحدهما يده في يد الآخر ووصف الصفقة بالخاسرة من الإسناد المجازي لأن صاحبها خاسر بالحقيقة - انتهى . فهي كقوله تعالى : ? عيشة راضية ? ويمكن أن يكون التقدير فيهما ذات خسارة وذات رضا أو فاعلة مصدر بمعنى مفعول . قال المناوي : إنما سأل خير السوق واستعاذ من شرها لاستيلاء الغفلة على قلوب أهلها

(16/419)


فأتى بهذه الكلمات ليخرج من حال الغفلة فيندب لمن دخل السوق أن يحافظ على قوله ذلك فإذا نطق الداخل بهذه الكلمات كان فيه تحرزا عما يكون من أهل الغفلة فيها ( رواه البيهقي في الدعوات الكبير ) ، ورواه الحاكم (ج1 : ص539) ، وابن السني (ص63) ، والطبراني أيضا ولفظهم (( أصيب فيها يمينا فاجرة أو صفقة خاسرة )) ، وأو للتنويع والفاجرة بمعنى الكاذبة أي حلفا كاذبا وذكرهما تخصيص بعد تعميم لكونها أهم ووقوعها أغلب والحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10 : ص129) وقال : رواه الطبراني
(8) باب الاستعاذة
( الفصل الأول )
2481- (1) عن أبي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تعوذوا بالله من جهد البلاء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/420)


وفيه محمد بن أبان الجعفي وهو ضعيف . قلت : وهو في سند ابن السني أيضا رواه عن علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه ، وقال الحاكم (ج1 : ص539) في باب دعاء دخول السوق بعد رواية حديث عمر وابنه عبد الله بن عمر (( وفي الباب عن جابر وأبي هريرة وبريدة الأسلمي وأنس وأقربها بشرائط هذا الكتاب حديث بريدة بغير هذا اللفظ )) ثم روى حديث بريدة من طريق محمد بن عيسى المدايني ثنا شعيب بن حرب حدثنا جار لنا يكنى أبا عمرو عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال الحافظ العراقي فيه أبو عمرو جار لشعيب بن حرب ولعله حفص بن سليمان الأسدي مختلف فيه ، وقال غيره فيه أبو عمرو جار لشعيب بن حرب ولا يعرف ، والمدايني متروك وبه رد الذهبي في التخليص تقوية الحاكم له ، وفي الميزان (ج3 : ص112) محمد بن عمر ، عن علقمة بن مرثد ، له حديث واحد ، وهو منكر ذكره البخاري في الضعفاء ومتن حديثه عن ابن بريده عن أبيه (( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل السوق قال : بسم الله )) قال البخاري : لا يتابع عليه - انتهى . قلت : ترجم له البخاري في التاريخ الكبير (1 ، 1 ، 179) لكن فيه محمد أبو عمر ، قال شعيب بن حرب هو جار لنا سمع علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل السوق قال بسم الله . قال محمد : هذا لا يتابع عليه .
( باب الاستعاذة ) أي أنواع الدعوات التي وقع فيها الاستعاذة من العوذ وهو الالتجاء واللوذ . قال في القاموس : العوذ الالتجاء كالعياذ والمعاذ والتعوذ والاستعاذة .

(16/421)


2481- قوله ( تعوذوا بالله ) أمر ندب وهذا لفظ البخاري في كتاب القدر ورواه في الدعوات بلفظ (( كان يتعوذ )) فيكون حديثا فعليا وهكذا وقع عند مسلم والنسائي ، ولأحمد (( كان يستعيذ )) وكذا في رواية للنسائي قال الحافظ : قوله (( كان يتعوذ )) كذا هو في رواية الأكثرين ، ورواه مسدد عن سفيان بلفظ الأمر (( تعوذوا )) وسيأتي في كتاب القدر ، وكذا وقع في رواية الحسن بن علي الواسطي عن سفيان عن الإسماعيلي وأبي نعيم . وفيه مشروعية الاستعاذة ولا يعارض ذلك كون ما سبق في القدر لا يرد لاحتمال أن تكون هذه الاستعاذة والدعاء مما قضى الله به فقد يقضي على المرء مثلا بالبلاء ويقضى أنه إن دعا كشف وفرج عنه البلاء فالقضاء محتمل للدافع والمدفوع ، وفائدة الاستعاذة والدعاء إظهار العبد فاقته لربه وتضرعه إليه ( من جهد البلاء ) بفتح الموحدة ممدود ، والجهد بفتح الجيم وتضم الفتح أشهر وأفصح ، أي شدة البلاء قال في النهاية : جهد البلاء ، أي الحالة الشاقة وقيل المراد به الحالة التي يمتحن بها للإنسان وتشق
ودرك الشقاء وسوء القضاء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/422)


عليه بحيث يتمنى فيها الموت ويختاره عليها أي لو خير بين الموت وبين تلك الحالة لأحب أن يموت تحرزا عن تلك الحالة ، وقيل جهد البلاء كل ما أصاب المرء من شدة المشقة وما لا طاقة له بحمله ولا قدرة له على دفعه ، وقيل المراد به قلة المال وكثرة العيال كذا جاء عن ابن عمر والصواب والحق أنه أعم وأن ذلك فرد من أفراد جهد البلاء ، استعاذ - صلى الله عليه وسلم - من جهد البلاء لأن ذلك مع ما فيه من المشقة على صاحبه قد يحصل به التفريط في بعض أمور الدين وقد يضيق صدره بحمله فلا يصبر فيكون ذلك سببا في الإثم ( ودرك الشقاء ) بفتح الدال والراء المهملتين ويجوز إسكان الراء وهو الإدراك واللحوق والوصول إلى الشيء يقال : أدركته إدراكا ودركا ، قال الطيبي : ومنه الحديث (( لو قال : إن شاء الله لم يحنث وكان دركا لحاجته )) وقيل الدرك بفتح الراء اسم وبالإسكان المصدر ، والشقاء بفتح الشين وبالقاف والمد الشدة والعسر وهو ضد السعادة ، وقال الحافظ : الشقاء هو الهلاك ويطلق على السبب المؤدي إلى الهلاك ، قيل المراد بدرك الشقاء سؤء الخاتمة . وقال الشوكاني : درك الشقاء شدة المشقة في أمور الدنيا وضيقها عليه وحصول الضرر البالغ في بدنه أو أهله أو ماله وقد يكون باعتبار الأمور الأخروية وذلك بما يحصل من التبعة والعقوبة بسبب ما اكتسبه من الوزر واقترفه من الإثم استعاذ - صلى الله عليه وسلم - من ذلك لأنه النهاية في البلاء والغاية في المحنة وقد لا يصبر من امتحنه الله به فيجمع بين التعب عاجلا والعقوبة آجلا - انتهى . وقيل هو واحد دركات جهنم ودرجاتها ومنازلها ومعناه من موضع أهل الشقاوة وهي جهنم أو من موضع يحصل لكم فيه شقاوة أو هو مصدر إما مضاف إلى المفعول أو إلى الفاعل أي من درككم الشقاء أو من درك الشقاء إياكم ( وسوء القضاء ) هو ما يسوء الإنسان ويحزنه من الأقضية المقدرة عليه وذلك أعم من أن يكون في دينه أو في دنياه أو في نفسه أو

(16/423)


أهله أو في ماله . قال ابن بطال : سوء القضاء عام في النفس والمال والأهل والولد والخاتمة والمعاد قال : والمراد بالقضاء هنا المقضي لأن حكم الله من حيث هو حكمه كله حسن لا سوء فيه . قالوا في تعريف القضاء والقدر : القضاء هو الحكم بالكليات على سبيل الإجمال في الأزل ، والقدر هو الحكم بوقوع الجزئيات لتلك الكليات على سبيل التفصيل في الإنزال . قال الله تعالى : ? وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ? (15 : 21) قال الشوكاني : وفي الاستعاذة منه - صلى الله عليه وسلم - من سوء القضاء ما يدل على أنه لا يخالف الرضاء بالقضاء فإن الاستعاذة من سوء القضاء هي من قضاء الله سبحانه وتعالى وقدره ولهذا شرعها لعباده . ومن هذا ما ورد في قنوت الوتر بلفظ (( وقني شر ما قضيت )) قال : والقضاء ( أي المقضي به ) باعتبار العباد ينقسم إلى قسمين خير وشر وقد شرع لهم الدعاء بالوقاية من شره والاستعاذة منه ولا ينافي هذا ما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - في بيان الإيمان لمن سأله عنه بقوله : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خير وشره . فإنه لا مانع من أن يكون الإنسان مؤمنا بما قضاه الله من خير وشر مستعيذا بالله من شر القضاء عملا بمجموع الأدلة فحديث الإيمان بالقضاء دل على أن القضاء منقسم إلى ما هو خير وإلى ما هو شر فتؤمن به ولما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - الاستعاذة من سوء القضاء وأمرنا أيضا بالاستعاذة منه فنستعيذ منه
وشماتة الأعداء .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/424)


فإيماننا واستعاذتنا كلاهما تحت أمر الشارع عليه الصلاة والسلام انتهى بتغير يسير . وقال السندي : المقضي حيث القضاء أزلي فأي فائدة في الاستعاذة منه ؟ والظاهر أن المراد صرف المعلق منه فإنه قد يكون معلقا ، والتحقيق أن الدعاء مطلوب لكونه عبادة وطاعة ولا حاجة لنا في ذلك إلى أن نعرف الفائدة المترتبة عليه سوى ما ذكرنا ( وشماتة الأعداء ) بفتح الشين المعجمة وهي فرح الأعداء بما يقع من يعادونه من المكروه ويحل به من المحنة . قال في الصحاح : الشماتة الفرح ببلية العدو ويقال يشمت به بالكسر شماتة ، وفي القاموس شمت كفرح شمتا وشماتة فرح ببلية العدو وفي النهاية شماتة الأعداء فرح العدو ببلية تنزل بمن يعاديه . قيل : أي تعوذوا من فرح أعداء الدين والدنيا المتعلقة بالدين وأما إذا كان رجل مثلا له من الدنيا ما يسرف فيه ويبطر ويفسق ويظلم فيشمت بزوالها الأعداء فلا استعاذة منه . وقال القاري : أي قولوا نعوذ بك من أن تصيبنا مصيبة في ديننا أو دنيانا بحيث بفرح أعدائنا وبهذا علم أن الكلمات الأربعة جامعة مانعة لصنوف البلاء وأن بينها عموما وخصوصا من وجهه كما في كلام البلغاء والفصحاء ، وقيل : الخصلة الأخيرة ، أي شماتة الأعداء تدخل في عموم كل واحدة من الثلاثة ثم كل واحدة من الثلاثة مستقلة فإن كل أمر يكره يلاحظ فيه جهة المبدأ وهو سوء القضاء وجهة المعاد وهو درك الشقاء لأن شقاء الآخرة هو الشقاء الحقيقي وجهة المعاش وهو جهد البلاء ، وأما شماتة الأعداد فتقع لكل من وقع له كل من الخصال الثلاثة . قلت : والحديث رواه مسلم بلفظ (( كان يتعوذ من سوء القضاء ومن درك الشقاء ومن شماتة الأعداء ومن جهد البلاء )) قال الكرماني : هذه الكلمة جامعة لأن المكروه إما أن يلاحظ من جهة المبدأ وهو سوء القضاء ، أو من جهة المعاد وهو درك الشقاء ، أو من جهة المعاش وهو إما من جهة غيره وهو شماتة الأعداء ، أو من جهة نفسه وهو جهد البلاء ، نعوذ

(16/425)


بالله منه - انتهى . قال السندي : وأنت خبير بأنه لا مقابلة على ما ذكره بين سوء القضاء وغيره بل غيره كالتفصيل لجزئياته فالمقابلة ينبغي أن تعتبر باعتبار أن مجموع الثلاثة الأخيرة بمنزلة القدر فكأنه قال من سوء القضاء والقدر لكن أقيم أهم أقسام سوء القدر مقامه ، يعني أستعيذ بسوء القضاء ثم أتبع بأهم أقسام سوء القدر ، فلا مقابلة بين سوء القضاء وغيره ، بل غيره كالتفصيل لجزئياته ، بقي أن المقضي من حيث القضاء أزلي فأي فائدة في الاستعاذة منه ؟ والظاهر أن المراد صرف المعلق منه فإنه قد يكون معلقا والتحقيق أن الدعاء مطلوب لكونه عبادة وطاعة ولا حاجة لنا في ذلك إلى أن نعرف الفائدة المترتبة عليه سوى ما ذكرنا - انتهى . قال الشوكاني : استعاذ - صلى الله عليه وسلم - من شماتة الأعداء وأمر بالاستعاذة منها لعظم موقعها وشدة تأثيرها في الأنفس البشرية ونفور طباع العباد عنها وقد يتسبب عن ذلك تعاظم العداوة المفضية إلى استحلال ما حرمه الله سبحانه وتعالى . وقال ابن بطال : شماتة الأعداء ما ينكأ القلب ويبلغ من النفس أشد مبلغ وإنما تعوذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك تعليما لأمته ، فإن الله تعالى آمنه من جميع ذلك . قال الحافظ : ولا يتعين ذلك بل يحتمل أن يكون استعاذ بربه من وقوع ذلك بأمته ويؤيده رواية مسدد المذكورة بصيغة الأمر ، وفي الحديث دلالة على أن الكلام المسجوع
متفق عليه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/426)


لا يكره إذا صدر عن غير قصد إليه ولا تكلف بل هو من السجع المحمود وهو ما جاء بانسجام وإتقان والمذموم من السجع ما يأتي بتكلف واستكراه . ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الدعوات ، وفي القدر ، ومسلم في الدعاء . واللفظ للبخاري في القدر ، وأخرجه أيضا أحمد (ج2 : ص246) والنسائي في الاستعاذة ، والحميدي في مسنده (ج2 : ص429) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج1 : ص529 ، و ج2 : ص123) ، والبغوي (ج5 : ص160) كلهم من طريق سفيان بن عيينة عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة ، زاد البخاري في روايته في الدعوات (( قال سفيان الحديث ثلاث ، زدت أنا واحدة لا أدري أيتهن هي )) أي الحديث المرفوع المروي يشتمل على ثلاث جمل من الجمل الأربع والرابعة زادها سفيان من عند نفسه ثم خفي عليه تعيينها ، وفي رواية للنسائي (( قال سفيان هو ثلاثة فذكرت أربعة لأني لا أحفظ الواحد الذي ليس فيه )) ووقع عند الحميدي عن سفيان (( الحديث ثلاث من هذه الأربع )) . قال الحافظ : وأخرجه أبو عوانة والإسماعيلي وأبو نعيم من طريق الحميدي ولم يفصل ذلك بعض الرواة عن سفيان كما سيأتي واستشكل جواز زيادة سفيان الجملة المذكورة في الحديث مع أنه لا يجوز الإدراج في الحديث . قال الكرماني : كيف جاز له أن يخلط كلامه بكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحيث لا يفرق بينهما ثم أجاب بأنه ما خلط بل اشتبهت عليه تلك الثلاث بعينها وعرف أنها كانت ثلاثة من هذه الأربعة فذكر الأربعة تحقيقا لرواية تلك الثلاثة قطعا إذ لا تخرج منها ، وروى البخاري في القدر الحديث المذكور وذكر فيه الأربعة مسندا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا تردد ولا شك ولا قول بزيادة وفي بعض الروايات (( قال سفيان أشك أني زدت واحدة )) - انتهى . وقال الحافظ : سيأتي في القدر ، أي عند البخاري عن مسدد ، وأخرجه مسلم عن أبي خيثمة وعمرو الناقد ، والنسائي عن قتيبة ، والإسماعيلي من رواية العباس بن

(16/427)


الوليد ، وأبو عوانة من رواية عبد الجبار بن العلاء ، وأبو نعيم من طريق سفيان بن وكيع كلهم عن سفيان بالخصال الأربعة بغير تمييز إلا أن مسلما قال عن عمرو الناقد ، قال سفيان : أشك أني زدت واحدة منها . وأخرجه الجوزقي من طريق عبد الله بن هاشم عن سفيان فاقتصر على ثلاثة ، ثم قال قال سفيان (( وشماتة الأعداء )) ، وأخرجه الإسماعيلي من طريق ابن أبي عمر عن سفيان وبين أن الخصلة المزيدة هي شماتة الأعداء ، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق شجاع بن مخلد عن سفيان مقتصرا على الثلاثة دونها وعرف من ذلك تعيين الخصلة المزيدة . وأجاب الحافظ عن هذا الاختلاف بأن سفيان كان إذا حدث ميزها ثم طال الأمر فطرأ عليه النسيان وطرفه السهو عن تعيينها فحفظ بعض من سمع تعيينها منه قبل أن يطرأ عليه النسيان ويطرقه السهو ثم كان بعد أن خفي عليه تعيينها يذكر كونها مزيدة مع إبهامها ثم بعد ذلك إما أن يحمل الحال حيث لم يقع تمييزها لا تعيينا ولا إبهاما أن يكون ذهل عن ذلك أو عين أو ميز فذهل عنه بعض من سمع ويترجح كون الخصلة المذكورة ، أي شماتة الأعداء هي المزيدة بأنها تدخل في عموم كل واحدة من الثلاثة - انتهى . قلت : وجنح بعضهم إلى ترجيح رواية مسدد ومن وافقه لأنها فيها زيادة ثقة ، وزيادة الثقة مقبولة وإليه يشير صنيع البغوي والمؤلف إذ اقتصرا
2482- (2) وعن أنس قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/428)


على إيراد الحديث القولي الذي ورد فيه الخصال الأربعة بغير تمييز وفصل ولم ينبها على رواية الشك والتردد والزيادة ولا يخفى ما في ذلك . نعم الأحوط لنا أن نذكر عند الدعاء بهذه الاستعاذة الجمل الأربع ونستعيذ من الخصال الأربعة جميعا .
2482- قوله ( اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل ) الحزن بفتحتين وبضم فسكون مثل رشد ورشد ، قيل الفرق بينه وبين الهم أن الحزن إنما يكون في أمر قد وقع والهم إنما هو في ما يتوقع وكثير من الناس لا يفرقون بينهما ويجعلونه من باب التكرير والتأكيد وكثيرا ما يجيء مثل هذا التأكيد بالعطف مراعاة لتغاير اللفظ والعجز بسكون الجيم قال النووي : هو عدم القدرة على الخير ، وقيل : هو ترك ما يجب فعله والتسويف به وأما الكسل وهو بفتحتين فهو عدم انبعاث النفس للخير وقلة الرغبة فيه مع إمكانه ، وقيل العجز سلب القوة وتخلف التوفيق إذ صفة العبد العجز وإنما يقوى بقوة يحدثها الله فيه فكأنه استعاذ به أن يكله إلى أوصافه فإن كل من رد إليها فقد خذل والكسل التثاقل والتراخي مما ينبغي مع القدرة والاستطاعة والقوة ، فالعاجز معذور والكسلان لا ، ومع ذلك هو حالة ردية ولو مع عذر فلذا تعوذ منه والجبن ضد الشجاعة التي فيها فضيلة قوة الغضب وانقيادها للعقل وقيل هو الخور عن تعاطي الحرب خوفا على المهجة وإمساك النفس والضن بها عن إتيان واجب الحق والبخل ضد الكرم ، وفي كلام العرب منع الإحسان أو منع السائل المحتاج عما يفضل عن الحاجة ، وفي الشرع منع ما وجب ، قيل : الجبن والبخل قد يكونان غريزة وقد يعرض كل منها لمن ليس هو غريزة له ، وذلك بحسب قوة الدواعي والموانع ، ومن قوي إيمانه لم يكد يظهر منه أثر بخل أو جبن في سبيل الله وإن كان سجية له اللهم إلا أن يغفل عن استحضار مقتضى إيمانه فإنه حينئذ يظهر منه أثرهما فالاستعاذة من الجبن والبخل لئلا يظهر من أثرهما ما قد يخل بطاعة الله عز

(16/429)


وجل ولا يكون ذلك إلا بقوة الإيمان واليقين لا بتبديل الغريزة ، إلا أن فيه خرقا للعادة ، والمقصود لا يتوقف عليه ، كذا في شرح الأدب المفرد . قال النووي : إنما استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجبن والبخل لما فيها من التقصير عن أداء الواجبات والقيام بحقوق الله تعالى وإزالة المنكر والإغلاظ على العصاة ، ولأنه بشجاعة النفس وقوتها المعتدلة تتم العبادات ويقوم بنصر المظلوم والجهاد وبالسلامة من البخل يقوم بحقوق المال وينبعث للإنفاق والجود والمكارم الأخلاق ويمتنع من طمع النفس فيما ليس له ( وضلع الدين ) بفتح المعجمة واللام ، قال الحافظ : أصل الضلع الاعوجاج يقال : ضلع بفتح اللام يضلع أي مال ، والمراد به هنا ثقل الدين وشدته وذلك حيث لا يجد من عليه الدين وفاء ولا سيما مع المطالبة . وقال بعض السلف : ما دخل هم الدين قلبا إلا أذهب من العقل ما لا يعود إليه ( وغلبة الرجال ) أي شدة تسلطهم كاستيلاء العوام والرعاع ( سفلة الناس ) هرجا ومرجا . وقال ابن القيم : كل اثنتين منها قرينتان ، فالهم والحزن
متفق عليه .
2483- (3) عن عائشة قالت : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم والمغرم والمأثم اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار وفتنة النار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/430)


قرينتان إذ المكروه الوارد على القلب إن كان من مستقبل يتوقعه أحدث الهم أو من ماض أحدث الحزن ، والعجز والكسل قرينتان فإن تخلف العبد عن أسباب الخير إن كان لعدم قدرته فالعجز ، أو لعدم إرادته فالكسل ، والجبن والبخل قرينتان فإن عدم النفع إن كان ببدنه فالجبن أو بماله فالبخل ، وضلع الدين وقهر الرجال قرينتان فإن استيلاء الغير عليه إن كان بحق فضلع الدين أو بباطل فقهر الرجال . قال الكرماني : هذا الدعاء من جوامع الكلم لأن أنواع الرذائل ثلاثة : نفسانية ، وبدنية ، وخارجية . فالأولى بحسب القوى التي للإنسان وهي ثلاثة : العقلية ، والغضبية ، والشهوانية . فالهم والحزن يتعلق بالعقلية ، والجبن بالغضبية ، والبخل بالشهوانية . والعجز والكسل بالبدنية . والثاني يكون عند سلامة الأعضاء وتمام الآلات والقوى ، والأول عند نقصان عضو ونحوه ، والضلع والغلبة بالخارجية فالأولى مالي . والثاني جاهي . والدعاء مشتمل على جميع ذلك ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الدعوات هكذا مختصرا وفي جملة حديث طويل أيضا من رواية عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب عن أنس ، وأخرجه مسلم في الدعاء مختصرا باختلاف يسير من طريق آخر ، وكذا البخاري في الجهاد ، وأخرجه أيضا أحمد ، والترمذي في الدعوات ، وأبو داود في أواخر الصلاة ، والنسائي في الاستعاذة والبغوي (ج5 : ص155) .

(16/431)


2483- قوله ( والهرم ) بفتحتين ، والمراد به إلى أرذل العمر كما جاء في رواية وهو صيرورة الرجل خرف من كبر السن وسبب الاستعاذة من ذلك ما فيه من الخرف واختلال العقل والحواس والضبط والفهم وتشويه بعض المنظر والعجز عن كثير من الطاعات والتساهل في بعضها . قال الشوكاني : الهرم هو البلوغ في العمر إلى سن تضعف فيه الحواس والقوى ويضطرب فيه الفهم والعقل وهو أرذل العمر ، وأما مجرد طول العمر مع سلامة الحواس وصحة الإدراك فذلك مما ينبغي الدعاء به لأن بقاء المؤمن متمتعا بحواسه قائما بما يجب عليه متجنبا لما لا يحل فيه حصول الثواب وزيادة الخير ( والمغرم ) مصدر وضع موضع الاسم وقد تقدم تفسيره في باب الدعاء في التشهد . قال النووي : أما استعاذته - صلى الله عليه وسلم - من المغرم وهو الدين فقد فسره - صلى الله عليه وسلم - أن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف ، ولأنه قد يمطل المدين صاحب الدين ، ولأنه قد يشتغل به قلبه ، وربما مات قبل وفائه فبقيت ذمته مرتهنة به ( والمأثم ) مصدر وضع موضع الاسم وقد قدم بيانه وتفسيره أيضا ( اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار ) ، أي بعد فتنتها . قال القاري : أي من أن أكون من أهل النار وهم الكفار فإنهم هم المعذبون . وأما الموحدون فإنهم مؤدبون ومهذبون بالنار لا معذبون بها ( وفتنة النار ) ، أي فتنة تؤدي إلى عذاب النار لئلا يتكرر . ويحتمل أن يراد بفتنة النار سؤال الخزنة على سبيل التوبيخ وإليه الإشارة
وفتنة القبر وعذاب القبر ، ومن شر فتنة الغنى وشر فتنة الفقر .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/432)


بقوله تعالى : ? كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير ? (67 : 8) وأصل الفتنة الامتحان والاختبار واستعملت في الشرع في اختبار كشف ما يكره ويقال فتنت الذهب إذا اختبرته بالنار لتنظر جودته ، وفي الغفلة عن المطلوب كقوله : ? إنما أموالكم وأولادكم فتنة ? (64 : 15) وتستعمل في الإكراه على الرجوع من الدين كقوله تعالى : ? إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ? (85 : 10) قال الحافظ : واستعملت أيضا في الضلال والإثم والكفر والعذاب والفضيحة ويعرف المراد حيث ما ورد بالسياق والقرائن ( وفتنة القبر ) ، أي التحير في جواب الملكين . قال الشوكاني : هي ما ورد أن الشيطان يوسوس للميت في قبره ويحاول إغوائه وخذلانه عند سؤال الملكين له ( وعذاب القبر ) هو ما يترتب بعد فتنته على المجرمين ، فالأول كالمقدمة للثاني وعلامة عليه ( ومن شر فتنة الغنى ) هي البطر والأشر والطغيان وتحصيل المال من الحرام وصرفه في العصيان والتفاخر بالمال والجاه والشح بما يجب إخراجه من واجبات المال ومندوباته ( وشر فتنة الفقر ) كالتسخط وقلة الصبر والوقوع في الحرام أو شبهته للحاجة . وقال القاري : هي الحسد على الأغنياء والطمع في أموالهم والتذلل بما يدنس العرض ويثلم الدين وعدم الرضاء بما قسم الله له وغير ذلك مما لا تحمد عاقبته . وقيل الفتنة هنا الامتحان والبلاء ، أي ومن بلاء الغنى وبلاء الفقر ، أي ومن الغنى والفقر الذي يكون بلاء ومشقة من أن يحصل منا شر إذا امتحنا الله إيانا بالغناء وبالفقر بأن لا نؤدي حقوق الأموال ونتكبر بسبب الغناء وبأن لا نصبر على الفقر . وقال الطيبي : إن فسرت الفتنة بالمحنة والمصيبة فشرها أن لا يصبر الرجل على لأوائها ويجزع منها ، وإن فسرت بالامتحان والاختبار فشرها أن لا يحمد في السراء ولا يصبر في الضراء . قال بعض المحققين : قيد فيهما

(16/433)


بالشر لأن كلا منهما فيه خير باعتبار وشر باعتبار فالتقييد بالاستعاذة منه بالشر يخرج ما فيه من الخير سواء قل أو كثر . قلت : جاء في هذه الرواية لفظ الشر في الفقرتين وذكر في رواية للبخاري في الفقرة الأولى دون الثانية . قال الكرماني في الكواكب : فإن قلت : لم زاد لفظ الشر في الغنى ولم يذكره في الفقر ونحوه وأجاب بأنه تصريح بما فيه من الشر وأن مضرته أكثر من مضرة غيره أو تغليظا على الأغنياء حتى لا يغتروا بغناهم ولا يغفلوا عن مفاسده أو إيماء إلى أن صورته لا يكون فيها خير بخلاف صورة الفقر فإنها قد تكون خيرا - انتهى . وتعقبه الحافظ في الفتح بأن هذا كله غفلة عن الواقع فإن الذي ظهر لي أن لفظة شر في الأصل ثابتة في الموضعين وإنما اختصره بعض الرواة فسيأتي بعد قليل في باب الاستعاذة من أرذل العمر في هذه الرواية من طريق آخر بلفظ (( وشر فتنة الغنى وشر فتنة الفقر )) ويأتي بعد أبواب أيضا من طريق أخرى بإسقاط شر في الموضعين والتقييد في الغنى والفقر بالشر لا بد منه لأن كلا منهما فيه خير باعتبار فالتقييد بالاستعاذة منه بالشر يخرج ما فيه من الخير سواء قل أم كثر - انتهى . وتعقبه العيني فقال : هذا غفلة منه حيث يدعي اختصار بعض الرواة بغير دليل على ذلك ، قال وأما قوله وسيأتي بعد بلفظ (( شر فتنة الغنى وشر فتنة الفقر )) فلا يساعده فيما قاله لأن للكرماني أن يقول يحتمل أن يكون لفظ شر
ومن شر فتنة المسيح الدجال . اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد ونق قلبي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب . متفق عليه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/434)


في فتنة الفقر مدرجا من بعض الرواة على أنه لم ينف مجيء لفظ شر في غير الغنى ، ولا يلزمه هذا لأنه في بيان هذا الموضع الذي وقع هنا خاصة - انتهى . قال الحافظ في انتقاض الاعتراض : حكاية هذا الكلام ، أي الذي قاله العيني تغني العارف عن التشاغل بالرد عليه - انتهى . قال الغزالي : فتنة الغنى الحرص على جمع المال والحب على أن يكسبه من غير حله ويمنعه من واجبات إنفاقه وحقوقه وفتنة الفقر يراد به الفقر الذي لا يصحبه صبر ولا ورع حتى يتورط صاحبه بسببه فيما لا يليق بأهل الدين والمروءة ولا يبالي بسبب فاقته على أي حرام وثب ولا في أي حالة تورط . وقيل : المراد فقر النفس الذي لا يرده ملك الدنيا بحذافيرها وليس فيه ما يدل على تفضيل الفقر على الغنى ولا عكسه ( ومن شر فتنة المسيح الدجال ) تقدم شرحه في باب الدعاء في التشهد ( اللهم اغسل خطاياي ) أي أزلها عني ( بماء الثلج والبرد ) بفتحتين حب الغمام أي بأنواع الألطاف والرحمة كأن كل نوع من الماء بمنزلة نوع من الرحمة والتطهير وحكمة العدول عن الماء الحار إلى الثلج والبرد مع أن الحار في العادة أبلغ في إزالة الوسخ الإشارة إلى أن الثلج والبرد ماءان طاهران لم تمسهما الأيدي ولم يمتهنهما الاستعمال فكان ذكرهما آكد في هذا المقام ، أشار إلى هذا الخطابي . وقد سبق كلامه في شرح حديث أبي هريرة في أول باب ما يقرأ بعد التكبير . وقال الكرماني : وله توجيه آخر وهو أنه جعل الخطايا بمنزلة النار لكونها تؤدي إليها فعبر عن إطفاء حرارتها بالغسل تأكدا في إطفاءها وبالغ فيه باستعمال المياه الباردة غاية البرودة ( ونق ) بفتح النون وتشديد القاف من التنقية ( قلبي ) الذي هو بمنزلة ملك الأعضاء واستقامتها باستقامته . وقوله (( نق قلبي )) هكذا في جميع نسخ المشكاة والمصابيح ، وشرح السنة ، والذي في الصحيحين (( ونق قلبي من الخطايا )) والعجب أنه لم يتنبه لذلك المؤلف ، والمراد الخطايا الباطنية وهي

(16/435)


الأخلاق الذميمة والشمائل الردية ( كما ينقي ) بصيغة المجهول الغائب ، وفي رواية (( نقيت )) بصيغة المعلوم المخاطب ( الثوب الأبيض من الدنس ) بفتحتين ، أي الدرن والوسخ وفيه إيماء إلى أن القلب بمقتضى أصل الفطرة سليم ونظيف وأبيض ، وإنما يتسود بارتكاب الذنوب والتخلق بالعيوب ( وباعد ) ، أي بعد وعبر بالمفاعلة للمبالغة ( بيني وبين خطاياي ) كرر بين هنا دون ما بعده لأن العطف على الضمير المجرور يعاد فيه الخافض ( كما باعدت ) ما مصدرية والكاف للتشبيه ، أي كتبعيدك ( بين المشرق والمغرب ) تقدم بيان موقع التشبيه والمراد من المباعدة في شرح حديث أبي هريرة في باب ما يقرأ بعد التكبير ، واستعاذته - صلى الله عليه وسلم - من الأشياء المذكورة في هذا الحديث وغيره لتكمل صفاته في كل أحواله أو تعليما لأمته ، أو المراد إظهار الافتقار والعبودية نظرا إلى استغنائه وكبريائه تعالى . ( متفق عليه ) أخرجاه في الدعوات وأخرجه أيضا الترمذي ، وابن ماجه في الدعاء ، والنسائي في الاستعاذة ، والبغوي (ج5 : ص157 ، 158) غير أنه قدم بعضهم وأخر بعض الألفاظ ، وأخرجه أبو داود مختصرا في أواخر الصلاة ، والحاكم مطولا (ج1 : ص541) .
2484- (4) عن زيد بن أرقم قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم وعذاب القبر اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/436)


2484- قوله : ( والجبن والبخل ) قيل : من خاف فأحجم عن أن يطلب الأمور العظيمة المرضية في الشرع مثل أن يجتهد في تحصيل العلم حتى يبلغه الله تعالى درجة الإرشاد والفتوى فهو جبان إلا أن يكون له عذر من قلة الفهم وسوء الحفظ واشتغاله بتحصيل القوت وغير ذلك ومن منع العلم إذا طلب الناس منه ما يحتاجون إليه في دينهم فهو بخيل ( وعذاب القبر ) من الضيق والظلمة والوحشة وضرب المقمعة ولدغ العقرب والحية وأمثالهما أو مما يوجب عذابه من النميمة وعدم التطهير ونحوهما ( اللهم آت ) أمر من الإيتاء ، أي : أعط ( نفسي تقواها ) ، أي : صيانتها عن المحظورات وقيل : أي : ارزقها الاحتراز عما يضرها ويهلكها في الآخرة . قال الطيبي : ينبغي أن تفسر التقوى بما يقابل الفجور في قوله تعالى : ? فألهمها فجورها وتقواها ? (91 : 8) وهي الاحتراز عن متابعة الهوى وارتكاب الفجور والفواحش لأن الحديث كالتفسير والبيان للآية فدل قوله : (( آت )) على أن الإلهام في الآية هو خلق الداعية الباعثة على الاجتناب عن المذكورات وقوله ( وزكها ) ، أي : وطهرها من الذنوب ونقها من العيوب واجعلها زاكية كاملة في الإيمان ( أنت خير من زكاها ) دل على أن إسناد التزكية إلى من في الآية هو نسبة الكسب إلى العبد لا خلق الفعل له كما زعمت المعتزلة لأن الخيرية تقتضي المشاركة بين كسب العبد وخلق القدرة فيه يعني قوله : (( من زكاها )) إيماء إلى قوله تعالى : ? قد أفلح من زكاها ? وإشارة إلى أن ضمير الفاعل في زكاها راجع إلى من ليستقيم (( أنت خير من زكاها )) وأما إذا كان راجعا إلى الله تعالى فيتعين فإنه المزكي لا غير على ما هو في الحقيقة كذلك وأن الإسناد إلى غيره مجازي . وقال النووي : معنى (( زكها )) طهرها ، ولفظة خير ليست للتفضيل بل معناه لا مزكي لها إلا أنت كما قال : ( أنت وليها ) أي : المتصرف فيها ومصلحها ومزينها ، وقيل : ناصرها ، وهذا راجع

(16/437)


إلى قوله : (( آت نفسي تقواها )) كأنه يقول : انصرها على فعل ما يكون سببا لرضاك عنها لأنك ناصرها ( ومولاها ) أي : ناصرها وعاصمها . وقيل : عطف تفسيري ، وقيل : هذا راجع إلى قوله : (( زكها )) يعني طهرها بتأديبك إياها كما يؤدب المولى عبده . وقال الطيبي : أنت وليها ومولاها . استئناف على بيان الموجب وأن إيتاء التقوى وتحصيل التزكية فيها إنما كان لأنه هو متولي أمورها ومالكها فالتزكية إن حملت على تطهير النفس عن الأفعال والأقوال والأخلاق الذميمة كانت بالنسبة إلى التقوى مظاهر ما كان مكمنا في الباطن وإن حملت على الإنماء والإعلان والإعلاء بالتقوى كانت تحلية بعد التخلية لأن المتقي شرعا من اجتنب النواهي وأتى بالأوامر ( اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ) يعني من علم لا أعمل به ولا أعلمه الناس ولا يصل بركته إلى قلبي ولا يبدل أفعالي وأقوالي وأخلاقي المذمومة إلى المرضية ولا يهذبها .
ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها . رواه مسلم .
2485- (5) وعن عبد الله بن عمر قال : كان من دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/438)


ويحتمل أن يكون مراده من علم ليس مما يحتاج إليه في الدين وليس في تعلمه إذن في الشرع ( ومن قلب لا يخشع ) أي : لا يخاف الله أو لا يخشع لذكر الله ولا لاستماع كلامه وهو القلب القاسي الذي هو أبعد القلوب من حضرة علام الغيوب . وقال القاري : أي : لا يسكن ولا يطمئن بذكر الله ( ومن نفس لا تشبع ) بفتح الموحدة أي : بما آتاها الله ولا تقنع بما رزقها الله ولا تفتر عن جمع المال لما فيها من شدة الحرص أو الأشر والبطر أو من نفس تأكل كثيرا لأن كثرة الأكل جالبة لكثرة الأبخرة الموجبة للنوم والكسل وكثرة الوساوس والخطرات النفسانية المؤدية إلى مضار الدنيا والآخرة . قال ابن الملك أي : حريصة على جمع المال وتحصيل المناصب ، وقيل على حقيقته فهو إما لشدة حرصه على الدنيا لا يقدر أن يأكل قدر ما يشبع جوعته ، وإما الاستيلاء الجوع البقري عليه وهو جوع الأعضاء مع شبع المعدة عكس الشهوة الكلبية ( ومن دعوة لا يستجاب لها ) لكونها معصية أو ما لا يرضاه الحق أو المراد التعوذ من عدم استجابة الدعاء مطلقا . قال الطيبي : الضمير في (( لها )) عاد إلى الدعوة واللام زائدة . قال الشوكاني : استعاذ - صلى الله عليه وسلم - من علم لا ينفع لأنه يكون وبالا على صاحبه وحجة عليه ، واستعاذ أيضا من القلب الذي لا يخشع لأنه يكون حينئذ قاسيا لا تؤثر فيه موعظة ولا نصيحة ولا يرغب في ترغيب ولا يرهب من ترهيب . واستعاذ من النفس التي لا تشبع لأنها تكون متكالبة على الحطام متجرئة على المال الحرام غير قانعة بما يكفيها من الرزق فلا تزال في تعب الدنيا وعقوبة في الآخرة ، واستعاذ من الدعوة التي لا يستجاب لها لأن الرب سبحانه هو المعطي المانع الباسط القابض الضار النافع فإذا توجه العبد إليه في دعاءه ولم يستجب دعوته فقد خاب الداعي وخسر لأنه طرد من الباب الذي لا يستجلب الخير إلا منه ولا يستدفع الضر إلا به ، اللهم إنا نعوذ بك مما استعاذ بك رسول الله -

(16/439)


صلى الله عليه وسلم - . ( رواه مسلم ) في الدعوات ، وأخرجه أيضا أحمد (ج4 : ص371) ، والبغوي (ج5 : ص158 ، 159) ، وأخرجه الترمذي في الدعوات ، والنسائي في الاستعاذة مختصرا ونسبه الشوكاني في تحفة الذاكرين لعبد بن حميد أيضا .
2485- قوله : ( وعن عبد الله بن عمر ) بلا واو ( اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك ) أي : ذهاب نعمك الدينية والدنيوية النافعة في الأمور الأخروية من غير بدل قال في فيض القدير : مفرد في معنى الجمع يعم النعم الظاهرة والباطنة ، والنعمة كل ملاءم تحمد عاقبته ، ومن ثم قالوا : لا نعمة لله على كافر بل ملاذه استدراج والاستعاذة من زوال النعم تتضمن الحفظ عن الوقوع في المعاصي لأنها تزيلها ألا ترى إلى قوله :
وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك . رواه مسلم .
2486- (6) عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : اللهم إني أعوذ بك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذا كنت في نعمة فارعها ( ... فإن المعاصي تزيل النعم (

(16/440)


وقال الشوكاني : استعاذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زوال نعمته لأن ذلك لا يكون إلا عند عدم شكرها وعدم مراعاة ما تستحقه النعم وتقتضيه من تأدية ما يجب على صاحبها من الشكر والمواساة وإخراج ما يجب إخراجه ( وتحول عافيتك ) بضم الواو المشددة أي : تبدلها بالبلاء . قال القاري : أي : انتقالها من السمع والبصر وسائر الأعضاء . فإن قلت ما الفرق بين الزوال والتحول ؟ قلت : الزوال يقال في شيء كان ثابتا لشيء ثم فارقه والتحول تغير الشيء وانفصاله عن غيره . أي : إبدال الشيء بالشيء ، فمعنى النعمة ذهابها من غير بدل وتحول العافية إبدال الصحة بالمرض والغنى بالفقر فكأنه سأل دوام العافية وهي السلامة من الآلام والأسقام وقال الطيبي : أي : تبدل ما رزقتني من العافية إلى البلاء والداهية ، والحديث رواه أبو داود أيضا إلا أن في بعض نسخ السنن (( وتحويل عافيتك )) من باب التفعيل فيكون من باب إضافة المصدر إلى مفعوله ، واستعاذ من ذلك لأن من اختصه الله سبحانه بعافيته فاز بخير الدارين فإن تحولت عنه فقد أصيب بشر الدارين فإن العافية يكون بها صلاح من أمور الدنيا والآخرة ( وفجاءة نقمتك ) بضم الفاء وفتح الجيم ممدودة بمعنى البغتة مشتقة من فاجأه مفاجأة إذا جاءه بغتة من غير أن يعلم بذلك ، ويروى فجأة بفتح الفاء وإسكان الجيم من غير مد ، والنقمة بكسر النون وسكون القاف ، وفي رواية بفتح فكسر ككلمة العقوبة ، وقال القاري : هي المكافأة بالعقوبة والانتقام بالغضب والعذاب ، وخص فجاءة النقمة بالذكر لأنها أشد من أن تصيب تدريجا كما ذكره المظهر واستعاذ - صلى الله عليه وسلم - من ذلك من حيث لا يكون له علم به ولا تكون له فرصة ومهلة للتوبة لأنه انتقم الله من العبد فقد أحل به من البلاء ما لا يقدر على دفعه ولا يستدفع بسائر المخلوقين وإن اجتمعوا جميعا كما ورد في الحديث الصحيح القدسي أن العباد لو اجتمعوا جميعا على أن ينفعوا أحدا لم

(16/441)


يقدروا على نفعه ، أو اجتمعوا جميعا على أن يضروا أحدا لم يقدروا على ضره ( وجميع سخطك ) بالتحريك ، أي ما يؤدي إليه يعني سائر الأسباب الموجبة لذلك ، وإذا انتفت أسبابها حصلت أضدادها وهو إجمال بعد تفصيل وتعميم بعد تخصيص ، أو المراد جميع آثار غضبك ، واستعاذ - صلى الله عليه وسلم - من جميع سخطه لأنه سبحانه إذا سخط على العبد فقد هلك وخاب وخسر ، ولو كان السخط في أدنى شيء وبأيسر سبب . ( رواه مسلم ) في الدعاء ، وكذا البخاري في الأدب المفرد (ج2 : ص126) ، وأبو داود في أواخر الصلاة ، والحاكم (ج1 : ص513) ونسبه في الحصن للنسائي أيضا ولعله في الكبرى .
2486- قوله : ( اللهم إني أعوذ بك ) قال الطيبي : استعاذ مما عصم منه ليلتزم خوف الله تعالى وإعظامه والافتقار إليه وليقتدى به وليبين صفة الدعاء ، وقال الشوكاني : هذا تعليم منه - صلى الله عليه وسلم - لأمته ليقتدوا به وإلا فجميع أعماله سابقها
من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل . رواه مسلم .
2487- (7) وعن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت ، اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني أنت الحي الذي لا يموت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/442)


ولاحقها كلها خير لا شر فيها ( من شر ما عملت ) بتقديم الميم على اللام فيه وفيما يأتي أي : فعلت . قال الطيبي : أي : من شر عمل يحتاج فيه إلى العفو والغفران يعني المراد من استعاذته من شر ما عمل طلب العفو والغفران منه عما عمل ( ومن شر ما لم أعمل ) استعاذ من شر أن يعمل في مستقبل الزمان ما لا يرضاه الله بأن يحفظه منه فإنه لا يأمن من مكر الله إلا القوم الخاسرون ، أو من شر أن يصير معجبا بنفسه في ترك القبائح فإنه يجب أن يرى ذلك من فضل ربه أو المراد شر عمل غيره قال تعالى : ? واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خآصة ? (8 : 25) ويحتمل أنه استعاذ من أن يكون ممن يجب أن يحمد بما لم يفعل - انتهى . وقيل : المراد ما ينسب إليه افتراء ولم يعمله . وقال السندي : قوله : من شر ما عملت ، إلخ . أي من شر ما فعلت من السيئات وما تركت من الحسنات أو من شر كل شيء مما تعلق به كسبي أولا والله تعالى أعلم - انتهى ( رواه مسلم ) في الدعاء ، وأخرجه أيضا أبو داود في أواخر الصلاة ، والنسائي في الاستعاذة ، وابن ماجة في الدعاء .

(16/443)


2487- قوله : ( اللهم لك ) أي : لا لغيرك ( أسلمت ) أي : انقدت ( وبك آمنت ) أي : صدقت يعني انقدت لأمرك ونهيك وصدقت بك وبما أنزلت وأرسلت ( وعليك توكلت ) أي : إليك فوضت أموري كلها أو عليك لا غيرك اعتمدت في تفويض أموري ( وإليك أنبت ) أي : رجعت مقبلا بقلبي عليك أو أقبلت بهمتي وطاعتي عليك وأعرضت عما سواك ( وبك ) أي : بقوتك ونصرك وإعانتك إياي ( خاصمت ) أي : حاربت أعداءك وقاتلتهم ، أو بما آتيتني من البراهين والحجج خاصمت من خاصمني من الكفار ( اللهم إني أعوذ بعزتك ) أي : بغلبتك فإن العزة لله جميعا . وقيل : أي : بقوة سلطانك ( أن تضلني ) بضم التاء من الإضلال وهو متعلق بأعوذ أي : من أن تضلني وكلمة التوحيد معترضة لتأكيد العزة يعني أن تهلكني بعدم التوفيق للرشاد والهداية والسداد . قال في الصحاح : ضل الشيء يضل ضلالا ، ضاع وهلك ، والضلال والضلالة ضد الرشاد ، وأضله وأهلكه . وقال القاري : أي : أعوذ بك من أن تضلني بعد إذ هديتني ووفقتني لانقياد الظاهر والباطن في حكمك وقضاءك وللإنابة إلى جنابك والمخاصمة مع أعدائك والالتجاء في كل حال إلى عزتك ونصرتك وفيه إيماء إلى قوله تعالى : ? ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ? (3 : 8) ( أنت الحي الذي لا يموت ) بلفظ الغيبة وعند أحمد تموت بالخطاب أي : الحي الحياة الحقيقية التي لا يجامعها الموت بحال وهذا
والجن والإنس يموتون . متفق عليه .
( الفصل الثاني )
2488- (8) عن أبي هريرة قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : اللهم إني أعوذ بك من الأربع : من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعاء لا يسمع .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/444)


لفظ مسلم ، وللبخاري : أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت الذي لا يموت . واستغنى عن ذكر عائد الموصول في هذه الرواية في قوله : (( بعزتك الذي لا إله إلا أنت )) لأن نفس المخاطب هو المرجوع إليه وبه يحصل الارتباط وكذلك المتكلم نحو :
أنا الذي سمتني أمي حيدره
لأن نسق الكلام سمته أمه ( والجن والإنس يموتون ) خصا بالذكر لأنهما المكلفان المقصودان بالتبليغ فكأنهما الأصل . قال الحافظ : استدل به على أن الملائكة لا تموت ولا حجة فيه لأنه مفهوم لقب ولا اعتبار له وعلى تقديره فيعارضه ما هو أقوى منه وهو عموم قوله : ? كل شيء هالك إلا وجهه ? (28 : 88) مع أنه لا مانع من دخول الملائكة في مسمى الجن لجامع ما بينهم من الاستتار عن عيون الإنس . ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في التوحيد مختصرا ، ومسلم في الدعاء واللفظ له ، وأخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص 302) ، والنسائي في النعوت من سننه الكبرى .

(16/445)


2488- قوله : ( اللهم إني أعوذ بك من الأربع ) اللام للعهد الذهني بينه بقوله : من علم أهو إجمال تفصيله قوله : ( من علم لا ينفع ) لا لي ولا لغيري لا في الدنيا بالعمل به ولا في الآخرة بالثواب عليه وهو علم لا يكون لله تعالى ولم يقترن به التقوى ( ومن قلب لا يخشع ) عند ذكر الله تعالى ( ومن نفس لا تشبع ) أي : حريصة على الدنيا لا تشبع منها أو من كثرة الأكل وأما الحرص على العلم والخير فمحمود ومطلوب قال تعالى : ? وقل رب زدني علما ? (20 : 114) ( ومن دعاء لا يسمع ) بصيغة المجهول أي : لا يستجاب . يقال : اسمع دعائي أي : أجب لأن الغرض من السماع هو الإجابة والقبول . قال البغوي : (( من دعاء لا يسمع )) يعني لا يجاب ، ومنه قول المصلي : سمع الله لمن حمده . استجاب الله دعاء من حمده . قال الطيبي : اعلم أن في كل من القرائن الأربع ما يشعر بأن وجوده مبني على غايته وأن الغرض منه تلك الغاية وذلك أن تحصيل العلوم إنما هو للانتفاع بها فإذا لم ينتفع به لم يخلص منه كفافا بل يكون وبالا ولذلك ، وأن القلب إنما خلق لأن يتخشع لبارئه وينشرح لذلك الصدر ويقذف النور فيه فإذا لم يكن كذلك كان قاسيا فيجب أن يستعاذ منه قال تعالى : ? فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله ? (39 : 22) وأن النفس إنما يعتد بها إذا تجافت عن دار
رواه أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجة .
2489- (9) ورواه الترمذي عن عبد الله بن عمر ، والنسائي عنهما .
2490- (10) وعن عمر قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من خمس : من الجبن والبخل وسوء العمر وفتنة الصدر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/446)


الغرور وأنابت إلى دار الخلود وهي إذا كانت منهومة لا تشبع حريصة على الدنيا كانت أعدى عدو المرء فأولى الشيء الذي يستعاذ منه هي أي النفس ، وعدم استجابة الدعاء دليل على أن الداعي لم ينتفع بعلمه وعمله ولم يخشع قلبه ولم تشبع نفسه - انتهى . وفي استعاذته - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأمور إظهار للعبودية وإعظام للرب تبارك وتعالى وأن العبد ينبغي له ملازمة الخوف ودوام الافتقار إلى جنابه تعالى وفيه حث للأمة على ذلك وتعليم لهم وإلا فهو - صلى الله عليه وسلم - معصوم من هذه الأمور ، وفيه أن الممنوع من السجع ما يكون عن قصد إليه وتكلف في تحصيله ، وأما ما اتفق حصوله بسبب قوة السليقة وفصاحة اللسان فبمعزل عن ذلك ( رواه أحمد ) (ج2 : ص340 ، 365) ، ( وأبو داود ) في الاستعاذة من أواخر الصلاة ، ( وابن ماجة ) في الدعاء وقد سكت عنه أبو داود ، والمنذري ، والحاكم ، وصححه الذهبي .
2489- قوله : ( رواه الترمذي ) في الدعوات ( عن عبد الله بن عمرو ) بالواو ابن العاص ، قال الترمذي : وهذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه . ونقل المنذري كلام الترمذي هذا وأقره وأخرجه أيضا أحمد (ج2 : ص167 ، 198) ، وأبو نعيم في الحلية (ج5 : ص93) ، والحاكم (ج1 : ص534) وسكت عنه هو والذهبي ( والنسائي عنهما ) أي عن أبي هريرة وابن عمرو ، وكذا أحمد ، والحاكم كما سبق ، وفي الباب عن أنس عند أحمد ، وابن حبان ، والبغوي (ج5 : ص159) وعن ابن عباس وجرير عند الطبراني ، وابن مسعود عند الحاكم .

(16/447)


2490- قوله : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من خمس ) هذا لا ينافي الزيادة ( وسوء العمر ) بضم الميم وسكونها ، أي : أرذله وهو البلوغ إلى حد في الهرم يعود معه كالطفل في سخف العقل وقلة الفهم وضعف القوة ، وقال في اللمعات : يحتمل أن يراد به سوء الكبر وأن يكون سوء المعيشة وضيقها وفسادها وقيل المراد به عمر غير مرضي لا يعمل فيه عمل صالح يعني مضيه فيما لا ينفعه في العقبى بل يسوءه ( وفتنة الصدر ) بفتح الصاد وسكون الدال المهملتين ، قال الجزري : يعني ما يوسوس به الشيطان في قلبه كما في حديث من وساوس الصدر - انتهى . وقيل : هي قساوة القلب وحب الدنيا وأمثال ذلك ، وقيل : موته وفساده ، وقيل هي ما ينطوي عليه من غل وحسد وخلق سيئ وعقيدة باطلة ، وقيل هي ضيقه المانع من قبول الحق وتحمل البلاء وقال الطيبي : هي الضيق المشار إليه بقوله تعالى : ? ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ? (6 : 126) فهي الإنابة إلى دار الغرور والتجافي عن دار الخلود وفسرها وكيع في رواية
وعذاب القبر . رواه أبو داود ، والنسائي .
2491- (11) وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحمد بأن يموت الرجل في فتنة لم يتب منها . والظاهر العموم ( وعذاب القبر ) ، أي البرزخ . ( رواه أبو دواد والنسائي ) في الاستعاذة إلا أن النسائي لم يذكر (( سوء العمر )) وأخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص22 ، 54) ، وابن ماجة في الدعاء ، وابن حبان كما في موارد الظمآن (ص605) ، والحاكم (ج1 : ص530) وقد سكت عنه أبو داود والمنذري (ج2 : ص158) ، وصححه الحاكم على شرط الشيخين وأقره الذهبي .

(16/448)


2491- قوله ( اللهم إني أعوذ بك من الفقر ) ، الفقر الاحتياج والطلب وأراد به ها هنا فقر القلب وكل قلب يطلب شيئا ويحتاج إلى شيء ويحرص على شيء فهو فقير وإن كان صاحبه كثير المال يعني من قلب حريص على جمع المال وهذا مثل قوله (( ونفس لا تشبع )) قاله المظهر . وقال التوربشتي : الفقر المستعاذ منه إنما هو فقر النفس وجشعها الذي يفضي بصاحبه إلى كفران نعمة الله ونسيان ذكره ويدعوه إلى سد الخلة بما يتدنس به عرضه وينثلم به دينه وقال الطيبي : أصل الفقر كسر فقار الظهر ، والفقر يستعمل على أربعة أوجه : الأول وجود الحاجة الضروية وذلك عام للإنسان ما دام في الدنيا بل عام في الموجودات كلها وعليه قوله تعالى : ? يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ? (35 : 15) الثاني : عدم المقتنيات وهو المذكور في قوله تعالى : ? للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ? (2 : 273) و ? إنما الصدقات للفقراء ? (9 :60) الثالث : فقر النفس وهو المقابل لقوله (( الغنى غنى النفس )) والمعنى بقولهم : (( من عدم القناعة لم يفده المال غنى )) الرابع : الفقر إلى الله المشار إليه بقولهم : (( اللهم اغنني بالافتقار إليك ولا تفقرني بالاستغناء عنك )) وإياه عني تعالى بقوله : ? رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ? (28 : 24) أقول : والمستعاذ منه في الحديث هو القسم الثاني يعني عدم المقتنيات وقلة المال وإنما استعاذ منه عند عدم الصبر وهو فتنة وقلة الرضاء به أو استعاذ من القسم الثالث أي : من الفقر الذي هو فقر النفس وهو الشره الذي يقابل غنى النفس الذي هو قناعتها لا قلة المال والفرق بين القول الأول والرابع أن الفقر الأول عام اضطراري والرابع خاص اختياري أو شهود ذلك الاضطرار ودوام حضور ذلك الافتقار ( والقلة ) بكسر القاف ، قال المظهر : أراد به قلة المال بحيث لا يكون له كفاف من

(16/449)


القوت فيعجز عن وظائف العبادات من أجل الجزع وجوع العيال ، وقيل : المراد قلة الصبر وقلة الأنصار أو قلة العدد أو العدد أو الكل . وقال التوربشتي : المراد منها القلة في أبواب البر وخصال الخير لأنه عليه الصلاة والسلام كان يؤثر الإقلال في الدنيا ويكره الاستكثار من الأعراض الفانية وفي صحيح ابن حبان الفاقة بدل القلة وهي شدة الفقر والحاجة إلى الخلق ( والذلة ) أي : من أن أكون ذليلا في
وأعوذ بك من أن أظلم أو أظلم . رواه أبو داود ، والنسائي .
2492- (12) وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : اللهم إني أعوذ بك من الشقاق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/450)


أعين الناس بحيث يستخفونه ويحقرون شأنه ، وقيل : المراد بها الذلة الحاصلة من المعصية أو التذلل للأغنياء على وجه المسكنة ، والمراد بهذه الأدعية تعليم الأمة ولا ينافي هذا الحديث قوله : (( اللهم أحيني مسكينا )) إلخ ، الآتي في فضل الفقراء لأن المراد بالمسكنة التواضع وعدم التكبر لا الفقر . قال المناوي : لم يسأل مسكنة ترجع للقلة بل إلى الإخبات والتواضع ذكره البيهقي وجرى على قضيته حجة الإسلام أي الغزالي حيث قال : استعاذته من الفقر لا تنافي طلب المسكنة لأن الفقر مشترك بين معنيين الأول : الافتقار إلى الله والاعتراف بالذلة والمسكنة له ، والثاني : فقر الاضطرار وهو فقد المال المضطر إليه كجائع فقد الخبز فهذا هو الذي استعاذ منه والأول هو الذي سأله - انتهى . وسئل الشيخ زكريا عن معنى هذا الحديث فقال : معناه طلب التواضع والخضوع وأن لا يكون من الجبابرة المتكبرين والأغنياء المترفين - انتهى . ومنه أخذ السبكي قوله : المراد استكانة القلب لا المسكنة التي هي نوع من الفقر فإنه أغنى الناس بالله ، وقال القتيبي : المسكنة حرف مأخوذ من السكون ، يقال : تمسكن أي تخشع وتواضع . وقال الحافظ في التلخيص : إن الذي استعاذ منه وكرهه فقر القلب والذي اختاره وارتضاه طرح المال . وقال ابن عبد البر : الذي استعاذ منه هو الذي لا يدرك معه القوت والكفاف ولا يستقر معه في النفس غنى لأن الغنى عنده - صلى الله عليه وسلم - غنى النفس وقد قال تعالى : ? ووجدك عائلا فأغنى ? (93 : 8) ولم يكن غناه أكثر من ادخاره قوت سنة لنفسه وعياله وكان الغنى محله في قلبه ثقة بربه ، وكان يستعيذ من فقر منس وغنى مطغ ، وفيه دليل على أن للفقر والغنى طرفين مذمومين وبهذا تجتمع الأخبار في هذا المعنى - انتهى . ( وأعوذ بك من أن أظلم ) بالبناء للفاعل أي أحدا من المسلمين والمعاهدين ويدخل فيه ظلم نفسه بمعصية الله ، والظلم وضع الشيء في غير محله

(16/451)


وموضعه أو التعدي في حق غيره ( أو أظلم ) بالبناء للمفعول ، أي يظلمني ويتعدى على أحد وأو للتنويع وقيل بمعنى الواو ( رواه أبو داود ، والنسائي ) في الاستعاذة وهو عند أبي داود ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2 : ص131) من رواية سعيد بن يسار عن أبي هريرة ، وأخرجه ابن ماجة من طريق جعفر بن عياض عن أبي هريرة وجعله حديثا قوليا بلفظ تعوذوا بالله من الفقر والقلة إلخ . وأخرجه أحمد (ج2 : ص205) ، والنسائي ، وابن حبان ، والحاكم (ج1 : ص531 ، 541) من كلا الوجهين وقد سكت عنه أبو داود ولم يعترضه المنذري وصححه الحاكم وأقره الذهبي .
2492- قوله ( اللهم إني أعوذ بك من الشقاق ) بكسر الشين ككتاب التنازع والخلاف والخصومة أو التعادي لأن كلا من المتعاديين يكون في شق ، أي ناحية في غير شق صاحبه أو يريد مشقة الآخر أو لشق العصا بينهما ، واستعاذ منه - صلى الله عليه وسلم - لأنه يؤدي إلى المهاجرة والمقاطعة . وقال القاري : أي من مخالفة الحق ومنه قوله تعالى : ? بل الذين كفروا
والنفاق وسوء الأخلاق . رواه أبو داود ، والنسائي .
2493- (13) وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/452)


في عزة وشقاق ? (38 : 2) ( والنفاق ) ، أي إظهار الإسلام وإبطان الكفر . قال في اللمعات : النفاق في الدين أن يستر الكفر ويظهر الإيمان ولعل المراد هنا أعم من ذلك مما يشمل الرياء وعلامات النفاق . وقال الطيبي : أي أن تظهر لصاحبك خلاف ما تضمره . وقيل المراد النفاق في العمل بكثرة كذبه وخيانة أمانته وخلف وعده ، والفجور في مخاصمته ، والأظهر أن اللام للجنس فيشمل جميع أفراده ( وسوء الأخلاق ) من عطف العام على الخاص ، وفيه إشعار بأن المذكورين أولا أعظم الأخلاق السيئة لأنه يسري ضررهما إلى الغير ، ذكره الطيبي وقال في اللمعات : هو تعميم بعد تخصيص لأن الأخلاق هي الصفات الباطنة ، أو المراد منه ضد بشاشة الوجه والسماحة ، وقال ابن الملك : هو إيذاء أهل الحق وإيذاء الأهل والأقارب وتغليظ الكلام عليهم بالباطل وعدم التحمل عنهم وعدم العفو عنهم ، إذا صدرت خطيئة منهم . ( رواه أبو داود والنسائي ) في الاستعاذة كلاهما من رواية بقية بن الوليد حدثنا ضبارة بن عبد الله بن أبي السليك عن دويد بن نافع عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة ، وسكت عنه أبو داود وضعفه النووي في الأذكار وقال المنذري (ج2 : ص159) : في إسناده بقية بن الوليد ودويد بن نافع وفيهما مقال - انتهى . قلت : بقية هذا صدوق كثير التدليس . قال ابن معين ، ويعقوب وابن سعد ، والعجلي ، وأبو زرعة ، والنسائي ، والجوزجاني ، وأبو أحمد الحاكم : ثقة في حديثه إذا حدث عن الثقات والمعرفين ، فأما إذا حدث عن الضعفاء والمجهولين فليس بشيء . قال ابن عدي : إذا روى عن أهل الشام فهو ثبت وإذا روى عن غيرهم خلط . وإذا روى عن المجهولين فالعهدة منهم لا منه . وقال ابن المديني : صالح فيما روى عن أهل الشام . وضبارة بن عبد الله بن أبي السليك ، أبو شريح الحضرمي الحمصي مجهول ، قاله الحافظ في التقريب ، وابن القطان كما في تهذيب التهذيب ، وذكره ابن حبان في الثقات على ما اصطلح أن

(16/453)


من لم يعرف بجرح ولا تعديل فهو عدل عنده . وقال يعتبر حديثه من رواية الثقات عنه - انتهى . ودويد بن نافع الشامي مقبول ، وقال ابن حبان : مستقيم الحديث إذا كان دونه ثقة . قال الحافظ : وذكر ابن خلفون أن الذهلي والعجلي وثقاه .
2493- قوله ( اللهم إني أعوذ بك من الجوع ) ، أي الألم الذي ينال الحيوان من خلو المعدة عن الغذاء استعاذ منه لظهور أثره في بدن الإنسان وقواه الظاهرة والباطنة ، ومنعه من الطاعات والخيرات ( فإنه بئس الضجيع ) بفتح فكسر ، وهو من ينام معك في فراشك ، أي المضاجع سماه ضجيعا للزومه الإنسان في النوم واليقظة وفيه إشارة إلى أن الجوع المذم الذي يلزم الإنسان ويتضرر به أي بئس الصاحب الجوع الذي يمنع الإنسان من وظائف العبادات ويشوش
وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة . رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة .
2494- (14) وعن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : اللهم إني أعوذ بك من البرص والجذام والجنون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/454)


الدماغ ويثير الأفكار الفاسدة والخيالات الباطلة . قال الطيبي : الجوع يضعف القوى ويشوش الدماغ فيثير أفكارا ردية وخيالات فاسدة فيخل بوظائف العبادات والمراقبات ، ولذلك خص بالضجيع الذي يلازمه ليلا ومن ثم حرم الوصال - انتهى . وقال التوربشتي : استعاذ من الجوع الذي يشغله عن ذكر الله ويثبطه عن طاعته لمكان الضعف وتحليل المواد لا إلى بدل وأشار بالضجيع إلى الجوع الذي يمنع عن الهجوع ( النوم بالليل ) لأنه جعل القسم المستعاذ منهما يلازم صاحبه في المضجع وذلك بلليل ، وإلى التفريق الواقع بينه وبين ما شرع له من التعبد بالجوع المبرح في نهار الصوم ( وأعوذ بك من الخيانة ) هي ضد الأمانة . قال الطيبي : هي مخالفة الحق بنقض العهد في السر ، والأظهر أنها شاملة لجميع التكاليف الشرعية كما يدل عليه قوله تعالى : ? إنا عرضنا الأمانة ? (33 : 72) الآية ، وقوله تعالى : ? يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم ? (8 : 27) شامل لجميعها ( فإنها بئست البطانة ) ، أي الخصلة الباطنة بكسر الباء الموحدة خلاف الظهارة من الثوب ثم استعيرت لمن يخصه الرجل بالإطلاع على باطن أمره ، والتبطن الدخول في باطن الأمر فلما كانت الخيانة أمر يبطنه الإنسان ويستره ولا يظهره سماها بطانة . قال الطيبي : البطانة ضد الظهارة وأصلها في الثوب فاستعير لما يستبطنه الإنسان من أمره فيجعله بطانة حاله . ( رواه أبو داود ، والنسائي ) في الاستعاذة وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه كلهم من حديث محمد بن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة ، وقد سكت عنه أبو داود وقال المنذري : في سنده محمد بن عجلان وفيه مقال - انتهى . قلت : خرج له مسلم في صحيحه ثلاثة عشر حديثا كلها في الشواهد ولذا صحح النووي إسناد هذا الحديث في الأذكار والرياض ( وابن ماجة ) ، في باب التعوذ من الجوع من أبواب الأطعمة من طريق ليث بن

(16/455)


أبي سليم عن كعب عن أبي هريرة ، وليث هذا صدوق اختلط أخيرا ولم يتميز حديثه فترك ، قاله الحافظ ، وأخرجه البغوي (ج5 : ص170) من رواية ليث عن رجل عن أبي هريرة ثم أشار إلى طريق المقبري عن أبي هريرة .
2494- قوله ( اللهم إني أعوذ بك من البرص ) بفتحتين ، بياض رديء يظهر في ظاهر البدن لفساد مزاج ( والجذام ) بضم الجيم ، علة رديئة تحدث من انتشار المرة السوداء في البدن كله فيفسد مزاج الأعضاء وهيئتها وشكلها وربما فسد في آخره أوصالها حتى تتأكل الأعضاء وتسقط قال في القاموس : الجذام كغراب علة تحدث من انتشار السوداء في البدن كله فيفسد مزاج الأعضاء وهيأتها وربما انتهى إلى تأكل الأعضاء وسقوطها عن تقرح ( والجنون ) ، أي
ومن سيئ الأسقام . رواه أبو داود ، والنسائي .
2495- (15) وعن قطبة بن مالك قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/456)


زوال العقل الذي هو منشأ الخيرات العلمية والعملية ، ( ومن سيئ الأسقام ) ، الإضافة ليست بمعنى من كقولك خاتم فضة بل هي من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي الأسقام السيئة ، يعني الأمراض القبيحة الفاحشة الرديئة تكون سببا لعيب يتنفر منه الخلق أو فساد أعضائه كالاستسقاء والسل والفالج والمرض المزمن الطويل ، وهو تعميم بعد تخصيص نص على تلك الثلاثة مع دخولها في سيئ الأسقام لكونها أبغض شيء إلى العرب بل إلى جميع الناس ، ولهم عنها نفرة عظيمة ، ولهذا عدوا من شروط الرسالة السلامة من كل ما ينفر الخلق ويشوه الخلق قال صاحب الفتح الرباني : اعلم أن الأمراض المنفرة لا تجوز على الأنبياء بل يشترط في النبي سلامته من كل منفر وإنما ذكرها - صلى الله عليه وسلم - تعليما للأمة كيف تدعو . قال الطيبي : وإنما لم يتعوذ من الأسقام مطلقا ، أي سائر الأسقام بل قيد بالسيئ فإن بعضها مما يخف مؤنته وتكثر مثوبته عند الصبر عليه مع عدم إزمانه كالحمى والصداع والرمد يعني أن من الأمراض ما إذا تحامل الإنسان فيه على نفسه بالصبر خفت مؤنته وعظمت مثوبته قال : وإنما استعاذ من السقم المزمن فينتهي بصاحبه إلى حالة ينفر منها الحميم ويقل دونها المؤانس والمداوى مع ما يورث من الشين فمنها الجنون الذي يزيل العقل فلا يأمن صاحبه القتل ، ومنها البرص والجذام وهما العلتان المزمنتان مع ما فيهما من القذارة والبشاعة وتغيير الصورة - انتهى . وقال ابن مالك : الحاصل أن كل مرض يحترز الناس من صاحب ذلك المرض ولا ينتفعون منه ولا ينتفع منهم ويعجز بسبب ذلك المرض عن حقوق الله وحقوق عباده يستحب الاستعاذة من ذلك . ( رواه أبو داود ، والنسائي ) في الاستعاذة ، وأخرجه أيضا أحمد (ج : ص) ، والطيالسي (ج1 : ص258) وابن أبي شيبة ، وسكت عنه أبو داود والمنذري ، وصحح النووي سنده في الرياض والأذكار .

(16/457)


2495- قوله ( وعن قطبة ) بضم القاف وسكون الطاء المهملة وفتح الباء الموحدة ( بن مالك ) الثعلبي بمثلثة ، ومهملة من بني ثعلبة بني ذبيان ولذلك يقال له الذبياني ، وهو عم زياد بن علاقة الذي روى هذا الحديث عنه ، صحابي سكن الكوفة ( اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق ) المنكر ما لا يعرف حسنه من جهة الشرع أو ما عرف قبحه من جهته ، والمراد بالأخلاق الأعمال الباطنة كحقد وبخل وحسد وجبن ونحوها ، واستعاذ من منكرات الأخلاق لأنها تكون سببا لجلبب كل شر ودفع كل خير ( والأعمال ) ، أي الأفعال الظاهرة وهي تعم الصغائر والكبائر من نحو قتل و زنا وشرب خمر وسرقة ونحوها ( والأهواء ) جمع الهوى مصدر هواه إذا أحبه ثم سمي بالهوى المشتهي محمودا كان أو مذموما ثم غلب
رواه الترمذي .
2496- (16) وعن شتير بن شكل بن حميد عن أبيه قال : قلت : يا نبي الله علمني تعويذا أتعوذ به قال :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/458)


على غير المحمود فقيل فلان اتبع هواه إذا أريد ذمه ، وفي التنزيل ? ولا تتبع الهوى ? (38 : 26) منه (( فلان من أهل الأهواء )) لمن زاغ عن الشرع من أهل القبلة كالجبرية والقدرية والحشوية والخوارج والروافض ومن سار سيرتهم كذا في المغرب . قال الطيبي : الإضافة في القرينتين الأوليين من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف وفي الثالثة بيانية لأن الأهواء كلها منكرة انتهى . قال القاري : والأظهر أن الإضافات كلها من باب واحد ، ويحمل الهوى على المعنى اللغوي كما في قوله تعالى : ? ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ? (28 : 50) أو يحمل على ما تختاره النفس من العقائد ومنه قوله تعالى : ? أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ? (45 : 23) فالمراد بالأهواء مطلقا الاعتقادات وبالمنكرات الأهوية الفاسدة التي غير مأخوذة من الكتاب والسنة ، وقيل منكرات الأهواء هي الزيغ والانهماك في الشهوات جمع هوى مقصور هوى النفس وهو ميلها إلى المستلذات والمستحسنات عندها واستعاذ منه لأنه يشغل عن الطاعة ويؤدي إلى الأشر والبطر وزاد في رواية الحاكم والأدواء ، أي من منكرات الأدواء ، وهي بمعنى سيئ الأسقام وذكر هذا الدعاء مع عصمته تعليما لأمته كما سبق ( رواه الترمذي ) في الدعوات ، وأخرجه أيضا الحاكم (ج1 : ص532) ، والطبراني في الكبير ، ورواه ابن حبان في صحيحه مختصرا بلفظ (( اللهم جنبي منكرات الأهواء والأدواء )) ، والحديث حسنه الترمذي وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي .

(16/459)


2496- قوله ( وعن شتير ) أوله شين معجمة ثم تاء مثناة وآخرة راء مصغرا ( بن شكل ) بفتح المعجمة والكاف العبسي الكوفي يقال أنه أدرك الجاهلية ثقة من الطبقة الوسطى من التابعين ، مات في ولاية ابن الزبير وقيل توفي زمن مصعب ( عن أبيه ) ، أي شكل وهو من رهط حذيفة بن اليمان صحابي سكن الكوفة لم يرو عنه غير ابنه شتير وذكر له أبو القاسم البغوي هذا الحديث وقال لا أعلم له غيره ، كذا في مختصر السنن (ج2 : ص161) للمنذري ، وقال الحافظ : في الإصابة (ج2 : ص154) بعد ذكر هذا الحديث من رواية السنن قلت : وله رواية عن علي ( علمني تعويذا ) ، أي ما يتعوذ به . قال الجوهري في الصحاح (ج2 : ص567) : العوذة والمعاذ والتعويذ كله بمعنى . وقال المجد في القاموس : العوذة بالهاء الرقية كالمعاذة والتعويذ قلت : قوله (( تعويذا )) ، كذا في جميع النسخ من المشكاة والمصابيح ، وهكذا وقع عند البخاري في تاريخه ( 2 - 2 - 266 ) ، وفي شرح السنة للبغوي (ج5 : 169) ، وللترمذي تعوذا بتشديد الواو المضمومة ، وهكذا وقع في أسد الغابة (ج3 : ص3) ، وجامع الأصول (ج5 : ص132) ، وجمع الفوائد (ج2 : ص667) والإصابة والمستدرك للحاكم ، وفي رواية أبي داود : علمني دعاء فقال ، وأخرج النسائي الروايتين إلا أنه قال (( علمني الدعاء انتفع به )) ، وهكذا وقع عند أحمد في المسند والبخاري في التاريخ والأدب المفرد (ج2 : ص117) ( أتعوذ به ) أي لخاصة نفسي ، وفي
قل : اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي وشر بصري وشر لساني وشر قلبي وشر منيي . رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي .
2497- (17) وعن أبي اليسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/460)


الترمذي بعده (( قال فأخذ بكفي )) ، وللنسائي والبخاري في التاريخ والبغوي (( فأخذ بيدي )) وكان أخذه - صلى الله عليه وسلم - كفه لمزيد الاعتناء والاهتمام بالتعليم ( اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي ) ، أي حتى لا أسمع شيئا تكرهه . وقال في الحرز الثمين قوله من شر سمعي بأن أسمع كلام الزور والبهتان والغيبة وسائر أسباب العصيان أو بأن لا أسمع كلمة الحق وأن لا أقبل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ( وشر بصري ) ، أي حتى لا أرى شئيا تكرهه ، وقيل : أي خائنة الأعين وغيرها من معاصي النظر ، وقيل : بأن أنظر إلى محرم أو أرى إلى أحد بعين الاحتقار وأن لا أتفكر في خلق السماء والأرض بنظر الفكر والاعتبار ، ( وشر لساني ) ، أي حتى لا أتكلم بما لا يعنيني ، وقيل : أي من شر نطقي فإن أكثر الخطايا منه وهو الذي يورد المرأ في المهالك ، وخص هذه الجوارح لما أنها مناط الشهوة ومثار اللذة ، ( وشر قلبي ) ، أي حتى لا أعتقد اعتقادا فاسدا ولا يكون فيه نحو حقد وحسد وتصميم فعل مذموم أبدا وقيل : أي بأن أشتغل بغير أمر ربي وقيل : أي من شر نفسي والنفس مجمع الشهوات والمفاسد بحب الدنيا والرهبة من الخلق وخوف فوت الرزق والأمراض القلبية من نحو حسد وحقد وطلب رفعه وغير ذلك ( وشر منيي ) هو المني المشهور بمعنى الماء المعروف مضاف إلى ياء المتكلم ، أي بأن أوقعه في غير محله أو يوقعني في مقدمات الزنا من النظر واللمس والتقبيل والمشي والعزم وأمثال ذلك . وقيل هو أن يغلب عليه حتى يقع في الزنا أو مقدماته ، وقيل : أي من شر شدة الغلمة وسطوة الشهوة إلى الجماع الذي إذا أفرط ربما أوقع في الزنا أو مقدماته لا محالة فهو حقيق بالاستعاذة من شره ، وخص هذه الأشياء بالاستعاذة لأنها أصل كل شر وقاعدته ومنبعه وزاد في رواية للنسائي والبغوي ، (( قال : حتى حفظتها )) قال سعد ( أحد رواة الحديث ) : (( والمني ماءه )) وفي رواية للنسائي أيضا يعني ذكره ،

(16/461)


وللترمذي يعني فرجه . وقوله (( منيي )) كذا في جميع النسخ من المشكاة والمصابيح ، وهكذا وقع في النسخ الموجودة عندنا للترمذي ، وكذا عند أحمد ، والبخاري ، وأبي داود ، والنسائي ، والحاكم ، والبغوي ، والجزري في أسد الغابة ، وذكره في جامع الأصول بلفظ (( ومن شر هني )) يعني الفرج . وقال هذه رواية الترمذي ، وكذا نقله في جمع الفوائد وعزاه لأصحاب السنن ( رواه أبو داود ) في آخر الصلاة ، ( والترمذي ) في الدعوات ، ( والنسائي ) في الاستعاذة ، وأخرجه أيضا أحمد (ج3 : ص429) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2 : ص117 ، 118) ، وفي التاريخ الكبير (2/2/266) ، والحاكم (ج1ص532 ، 533) والبغوي (ج5 : ص168 ، 169) وسكت عنه أبو داود وحسنه الترمذي ونقل المنذري تحسينه وأقره . وقال الحاكم : حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي .
2497- قوله ( وعن أبي اليسر ) بفتح التحتية والسين المهملة آخره راء اسمه كعب بن عمرو بن عباد السلمي
اللهم إني أعوذ بك من الهدم وأعوذ بك من التردي وأعوذ بك من الغرق والحرق والهرم وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/462)


بفتحتين الأنصاري مشهور باسمه وكنيته صحابي شهد العقبة وبدرا وله فيها آثار كثيرة ، وكان عظيم الفناء يوم بدر وغيره ، وهو الذي أسر العباس ، وهو الذي انتزع راية المشركين من يد أبي عزيز بن عمير ، ثم شهد المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم شهد صفين مع علي بن أبي طالب . مات بالمدينة سنة خمس وخمسين وقد زاد على المائة وهو آخر من مات من أهل بدر ( اللهم إني أعوذ بك من الهدم ) بسكون الدال ، وهو سقوط البناء ووقوعه على الشيء يعني انهدام البناء عليه ، وروي بالفتح وهو اسم ما انهدم منه . وفي النهاية محركا البناء المهدوم ، وبالسكون الفعل نفسه ، وقال السندي : الهدم بفتح فسكون مصدر هدم البناء نقضه ، والمراد من أن يهدم على البناء على أنه مصدر مبني للمفعول أو من أن أهدم البناء على أحد على أنه مصدر مبني للفاعل ( وأعوذ بك من التردي ) ، أي السقوط من موضع عال كالوقوع من شاهق جبل وسطح مرتفع أو الوقوع في مكان سفلي كالبئر تفعل من الردى وهو الهلاك . قال الجزري : بفتح التاء المثناة من فوق وفتح الراء المهملة وتشديد الدال المكسورة ، من تردي يتردى إذا سقط في بئر أو تهور من جبل ( ومن الغرق ) ، بفتحتين مصدر غرق في الماء من باب تعب ، أي سقط فيه ( والحرق ) بالتحريك مصدر حرق بالنار ، إنما استعاذ - صلى الله عليه وسلم - من الهدم والتردي والغرق والحرق ، لأن ذلك يكون بغتة ، وقد يكون الإنسان في ذلك الوقت غير مقرر أموره بالوصية فيما يكون محتاج الوصية فيه وبإخراج ما يجب إخراجه ركونا منه على ما هو فيه من الصحة والعافية ، وقد لا يتمكن عند حدوث هذه الأمور من أن يتكلم بكلمة الشهادة لما يفجأه من الفزع ويدهمه من الخوف . قال التوربشتي : إنما استعاذ من هذه البليات مع ما وعد عليها من الشهادة لأنها محن مجهدة مقلقة لا يكاد واحد يصبر عليها ويثبت عندها أو يذكر عند حلولها شيئا مما يجب عليه في وقته ذلك ، وربما ينتهض

(16/463)


الشيطان عنه فرصة لم يكن لينال منه في غيرها من الأحوال ، أي فيحمله على ما يضر بدينه ، ثم إنها تفجأ عليه فتتضمن الأسباب التي ذكرناها في موت الفجاءة . وقال الطيبي : استعاذ منها مع ما فيها من نيل الشهادة لأنها في الظاهر مصائب ومحن وبلايا كالأمراض السابقة المستعاذ منها ، وأما ترتب ثواب الشهادة عليها فللبناء على أن الله تعالى يثيب المؤمن على المصائب كلها حتى الشوكة يشاكها ومع ذلك فالعافية أوسع ، ولأن الفرق بين الشهادة الحقيقية وبين هذه الشهادة أن الشهادة الحقيقية متمنى كل مؤمن ومطلوبة وقد يجب عليه توخي الشهادة والتحري لها والتجرؤ فيها بخلاف التردي والحرق والغرق ونحوها فإنه يجب التحرير عنها ولو سعى فيها عصى . وقيل : في الحقيقة الاستعاذة ترجع إلى وقوعها من حيث الإخلال بالدين والاستعاذة من المحن والمصائب كلها إنما هي من حيث احتمال الجزع والشكوى مع كونها سببا للكفارة من الذنوب ورفع الدرجات ( وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان ) أي يصرعني ويلعب بي ويفسد ديني وعقلي ( عند الموت ) بنزغاته التي تزل الأقدام وتصارع العقول والأحلام ،
وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا وأعوذ بك من أن أموت لديغا . رواه أبو داود ، والنسائي . وزاد في رواية أخرى : والغم .
2498- (18) وعن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : استعيذوا بالله من طمع يهدي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/464)


والأصل في التخبط أن يضرب البعير الشيء بخف يده فيسقط وقال الجزري : من تخبطه الشيطان إذا صرعه ولعب به ، والخبط باليدين كالرمح بالرجلين . وقال الشوكاني : أي يفتنه ويغلبه على أمره ويحسن له ما هو قبيح ويقبح له ما هو حسن ويناله بشيء من المس كالصرع والجنون ولما قيده بالتخبط عند الموت كان أظهر المعاني فيه هو أن يغويه ويوسوس له ويلهيه عن التثبت بالشهادة والإقرار بالتوحيد . وقال الخطابي : هو أن يستولي عليه الشيطان عند مفارقته الدنيا فيضله ويحول بينه وبين التوبة أو يعوقه عن إصلاح شأنه والخروج من مظلمة تكون قبله أو يؤيسه من رحمة الله أو يكره الموت ويؤسفه على حياة الدنيا فلا يرضى بما قضاه الله عليه من الفناء والنقلة إلى الدار الآخرة فيختم له بالسوء ويلقى الله وهو ساخط عليه ( وأعوذ بك من أن أموت في سبيلك مدبرا ) ، أي عن الحق أو عن قتال الكفار حيث حرم الفرار ، وقال في الحرز : أي فارا من الزحف أو تاركا للطاعة مرتكبا للمعصية أو رجوعا إلى الدنيا بعد الإقبال على العقبى أو اختيارا للغفلة والهوى إلى سوى حضور المولى . قيل : هذا وأمثال ذلك تعليم للأمة وإلا فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز عليه الخبط والفرار من الزحف ونحوهما . والأظهر أن هذا كله تحدث بنعمة الله وطلب الثبات عليها والتلذذ بذكرها المتضمن بشكرها الموجب لمزيد النعمة المقتضي لإزالة النقمة - انتهى . قلت : وقع عند أحمد وكذا في رواية للنسائي (( وأن أقتل في سبيلك مدبرا )) وهذا يرجح بل يعين المراد من الإدبار في رواية الكتاب وهو الفرار من الزحف في قتال الكفار ( وأعوذ بك من أن أموت لديغا ) فعيل بمعنى مفعول من اللدغ وهو يستعمل في ذوات السم من الحية والعقرب ونحوهما ، والاستعاذة مختصة بأن يموت عقيب اللدغ فيكون من قبيل فجاءة الموت . قال الشوكاني : استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن يموت لديغا لأنه قد يموت بذلك فجاءة فلا

(16/465)


يقدر على التثبت وقد يتراخى موته فيشتغل بهذا الألم الشديد عن أن يتخلص بما يجب عليه التخلص عنه . وقال التوربشتي : موت اللديغ مشابه في المعنى لأسباب الهلاك التي ذكرناها قبل ( رواه أبو داود ) في أواخر الصلاة ، ( والنسائي ) في الاستعاذة ، وأخرجه أيضا أحمد (ج3 : ص427) ، والحاكم (ج1 : ص530) ، ( وزاد ) أي النسائي ( في رواية أخرى (( والغم )) ) ، أي كلمة الغم ، وكذا زادها أحمد والحاكم ، والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري وصححه الحاكم ووافقه الذهبي .
2498- قوله ( استعيذوا بالله من طمع ) بفتح الطاء المهملة والميم ، أي حرص شديد . وقال القاري : هو نوع النفس إلى الشيء شهوة له ( يهدى ) بفتح أوله ، أي يدل أو يؤدي أو يدني ويقرب ويوصل أو يجر . قال الطيبي : الهداية
إلى طبع . رواه أحمد ، والبيهقي في الدعوات الكبير .
2499- (19) وعن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى القمر فقال : يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا ، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/466)


الإرشاد إلى الشيء والدلالة إليه ، ثم اتسع فيه فاستعمل بمعنى الإدناء من الشيء والإيصال إليه قال القاري : الأظهر أن الهداية هنا بمعنى الدلالة وهي متعد تارة بنفسه كاهدنا الصراط المستقيم وتارة باللام كقوله : ? إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ? (17 : 9) وتارة بإلى كقوله : ? وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ? (42 : 52) فلا حاجة إلى استعمالها بمعنى الإدناء والإيصال ( إلى طبع ) بفتح الطاء والموحدة ، أي عيب وشين وأصله الدنس الذي يعرض السيف ، وكانوا يرون أن الطبع هو الرين قال مجاهد : الرين أيسر من الطبع ، و الطبع أيسر من الإقفال . ثم استعمل الطبع فيما يشبه الوسخ في الدنس من الآثام والأوزار وغير ذلك من العيوب والمقابح المعنوية ، والمعنى تعوذوا بالله من طمع يسوقكم وبدلكم إلى ما يشينكم في الدين ويزري بكم في المروءة من المقابح كالمذلة للسفلة والتواضع لأرباب الدنيا وإظهار السمعة والرياء وغير ذلك مما يترتب على الطمع ، لذا قيل الطمع فساد الدين والورع صلاحه . وللحديث عند أحمد والطبراني تتمة وهي (( ومن طمع يهدي إلى غير مطمع )) ، ( أي إلى تأميل ما يبعد حصوله والتعليق به ، قال في المصباح : ومن كلامهم (( فلان طمع في غير مطمع )) إذا أمل ما يبعد حصوله ) (( ومن طمع حيث لا مطمع )) ، ( أي ومن طمع شيء لا مطمع فيه بالكلية لتعذره حسا أو شرعا ، وهذه الثالثة أحط مراتب الدناءة في مطمع وأقبحها فإن حيث للتعميم في الأمكنة والأزمنة والأحوال ، أي حيث لا يمكن حصوله في مكان أصلا ولا في زمان أصلا ولا في حال أصلا فهو محال فهو أشد ذما ودناءة مما قبله ) ( رواه أحمد ) (ج5 : ص232 ، 247) ( والبيهقي في الدعوات الكبير ) ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10 : ص144) مطولا وقال : رواه الطبراني ( في الكبير ) ، وأحمد والبزار بنحوه وفيه عبد الله بن عامر الأسلمي وهو ضعيف . قلت : وأخرجه

(16/467)


أيضا الحاكم (ج1 : ص533) بنحوه وفي إسناده عبد الله بن عامر الأسلمي . وقال الحاكم : هذا حديث مستقيم الإسناد ووافقه الذهبي . قلت : عبد الله بن عامر هذا من رجال ابن ماجة ، قال الحافظ : عنه في التقريب ، ضعيف . قلت : قد ضعفه أحمد ، وأبو زرعة ، والنسائي ، وأبو داود ، وابن معين ، والدارقطني . وقال أبو حاتم : متروك . وقال أبو أحمد الحاكم : ليس بالقوى عندهم . وقال البخاري : يتكلمون في حفظه . وقال أيضا : ذاهب الحديث . وقال ابن سعد : كان قارئا للقران وكان يقوم بأهل المدينة في رمضان ، وكان كثير الحديث استضعف . وقال ابن عدي : كان عزيز الحديث لا يتابع في بعض حديثه وهو ممن يكتب حديثه . وذكره البرقي في (( باب من غلب عليه الضعف )) .
2499- قوله ( استعيذي بالله من شر هذا ) ، أي هذا القمر ( فإن هذا هو الغاسق إذا وقب ) ، قال المجد : في القاموس الغسق محركة ظلمة أول الليل وغسق الليل كضرب غسقا اشتدت ظلمته والغاسق القمر أو الليل إذا غاب
رواه الترمذي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/468)


الشفق ، وقال في مادة (( وقب )) وقب الظلام دخل والشمس وقبا ووقوبا غابت والقمر دخل في الخسوف ومنه غاسق إذا وقب . - انتهى . وقال القاضي : الغاسق الليل إذا غاب الشفق واعتكر ظلامه من غسق يغسق إذا أظلم وأطلق ها هنا على القمر لأنه يظلم ووقوبه دخوله في الكسوف واسوداده . قال الطيبي : وإنما استعاذ من كسوفه لأنه من آيات الله الدالة على حدوث بلية ونزول نازلة كما قال عليه الصلاة والسلام ولكن يخوف الله به عباده ولأن اسم الإشارة في الحديث كوضع اليد في التعيين وتوسيط ضمير الفصل بينه وبين الخبر المعروف يدل على أن المشار إليه هو القمر لا غير وتفسير الغاسق بالليل يأباه سياق الحديث كل الإباء ولأن دخول الليل نعمة من نعم الله تعالى ومن الله تعالى على عباده في كثير من الآيات ، قال تعالى : ? جعل لكم الليل لتسكنوا فيه ? (10 : 67 ، 40 : 61) قال القاري : قد يرد مثل هذا ادعاء وإرادة للمبالغة وقصدا للتخصيص إيماء إلى أنه أعظم أفراد نوعه وبه يدفع قوله وتفسير الغاسق بالليل يأباه سياق الحديث . قال : ولا يشك أحد أن دخول الليل نعمة ولكن لا يلزم من كونه نعمة أنه لا يتضمن نقمة ، ولذا قال تعالى في صدر السورة ? قل أعوذ برب الفلق من * شر ما خلق ? (113 : 1 ، 2) تعميما ثم قال ? ومن شر غاسق إذا وقب ? (113 : 3) إلخ . تخصيصا - انتهى كلام القاري مختصرا . وقال الخازن : في تفسيره بعد ذكر حديث عائشة هذا ما لفظه : فعلى هذا الحديث المراد به القمر إذا خسف وأسود . ومعنى وقب دخل في الخسوف أو أخذ في الغيبوبة . وقيل سمي لأنه إذا خسف اسود وذهب ضوءه . وقيل إذا وقب دخل في المحاق وهو آخر الشهر وفي ذلك الوقت يتم السحر المورث للتمريض وهذا مناسب لسبب نزول هذه السورة . وقال ابن عباس ( وإليه ذهب جمهور المفسرين ) الغاسق الليل إذا وقب ، أي أقبل بظلمته من المشرق ، وقيل سمي الليل

(16/469)


غاسقا لأنه أبرد من النهار والغسق البرد وإنما أمر بالتعوذ من الليل لأن فيها تنتشر الآفات ويقل الغوث وفيه يتم السحر . وقيل : الغاسق الثريا إذا سقطت وغابت ، وقيل إن الأسقام تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها فلهذا أمر بالتعوذ من الثريا عند سقوطها - انتهى . وقال ابن جرير في تفسيره : ولأولى الأقوال في ذلك عندي أن يقال أن الله أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يستعيذ من شر غاسق وهو الذي يظلم ، يقال قد غسق الليل يغسق غسوقا إذا أظلم ، إذا وقب يعني إذا دخل في ظلامه ، والليل إذا دخل في ظلامه غاسق والنجم إذا أفل غاسق والقمر غاسق إذا وقب ، ولم يخصص بعد ذلك بل عم الأمر بذلك فكل غاسق فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان يؤمر بالاستعاذة من شره إذا وقب - انتهى . وارجع لمزيد الكلام في ذلك إلى التفسير القيم (ص557 ،560) ( رواه الترمذي ) ، في تفسير سورة المعوذتين وقال هذا حديث حسن صحيح وأخرجه أيضا أحمد (ج6 : ص 61 ، 206 ، 215 ، 237 ، 252) ، والنسائي في التفسير من سننه الكبرى وفي عمل اليوم والليلة ، والبغوي (ج5 : ص167) ، وابن جرير في تفسيره ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم (ج2 : ص540 ، 541) ، وابن مردويه ، وابن السني (ص209) ، وحسنه الحافظ وتعجب من تضعيف النووي له في فتاويه مع قول الترمذي فيه : أنه حديث حسن صحيح ، وكذا صححه الحاكم ووافقه الذهبي ورجاله رجال الصحيح إلا الحارث بن عبد الرحمن

(16/470)


2500- (20) وعن عمران بن حصين قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي : يا حصين كم تعبد اليوم إلها قال . أبي : سبعة ستا في الأرض وواحدا في السماء قال : فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك . قال : الذي في السماء . قال : يا حصين أما إنك لو أسلمت علمتك كلمتين تنفعانك . قال فلما أسلم حصين قال : يا رسول الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الراوي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة فقال علي بن المديني فيه : مجهول ، ما روى عنه إلا ابن أبي ذئب ، وخالفه يحيى بن معين فقال : مشهور . وقواه أحمد والنسائي فقالا : لا بأس به ، وقد روى عنه أيضا محمد بن إسحاق حديثا آخر ، وأقل درجاته أن يكون حديثا حسنا كذا في هامش شرح السنة .

(16/471)


2500- قوله ( وعن عمران بن حصين ) بالتصغير ابن عبيد بن خلف الخزاعي ( لأبي ) ، أي لوالدي حصين حال كفره . قلت : واختلف في إسلام حصين كما قال الحافظ : في الإصابة ، وابن الأثير في أسد الغابة ، والصحيح أنه أسلم فحديث عمران هذا نص في إسلامه ، وكذا ما رواه أحمد ، والنسائي . قال الحافظ : بإسناد صحيح والحاكم . وصححه وأقره الذهبي عن ربعي عن عمران بن حصين أن حصينا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يسلم - الحديث . وفيه (( ثم إن حصينا أسلم )) ورواه النسائي من وجه آخر عن ربعي وفيه (( فانطلق ولم يكن أسلم ثم أسلم فقال يا رسول الله فما أقول الآن حين أسلمت )) ؟ الحديث . وفي رواية للنسائي (( فما أقول الآن وأنا مسلم )) ؟ قال الحافظ : وسنده صحيح من الطريقين ثم ذكر من حديث عمران بن حصين أيضا عند ابن السكن والطبراني أنه قال : أتى أبي حصين بن عبيد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا محمد - الحديث . وفيه (( قال : فما مضت عشرون ليلة حتى مات مشركا )) قال الطبراني بعد ذكره : الصحيح أن حصينا أسلم )) ثم ذكر الحافظ من رواية ابن خزيمة عن عمران قصة طويلة وفيها (( فلم يقم أي حصين حتى أسلم فقام إليه عمران فقبل رأسه )) إلخ . ( يا حصين كم تعبد اليوم ) اللام للمعهود الحاضري نحو قوله تعالى : ? اليوم أكملت لكم دينكم ? (5 : 3) ( إلها ) قال ابن حجر المكي الهيتمي : هو تمييز لكم الاستفهامية ولا يضره الفصل لأنه غير أجنبي ( قال أبي سبعة ) ، أي أعبد سبعة من الآلهة ( ستا ) كذا في جميع النسخ : والذي عند الترمذي ستة وهكذا ذكره الجزري في جامع الأصول (ج5 : ص116) وفي أسد الغابة (ج6 ص25) بسنده إلى الترمذي وهكذا نقله في جمع الفوائد (ج2 : ص661) ( في الأرض وواحدا في السماء ) ، أي ستة آلهة في الأرض وإلها واحدا في السماء ( فأيهم ) بضم الياء ( تعد ) بفتح التاء وضم العين ، أي تعده إلها ( لرغبتك

(16/472)


ورهبتك ) قال القاري : وفي نسخة يعني من المشكاة بضم أوله وكسر ثانيه ، أي تهيئه لنفعك حين ترجو وتخاف . قال الطيبي : الفاء جزاء شرط محذوف ، أي إذا كان كذلك فأيهم تخصه وتلتجئ إليه إذا أنابتك نائبة ( أما ) بالتخفيف للتنبيه ( إنك ) بكسر الهمزة ( لو أسلمت علمتك كلمتين ) ، أي دعوتين ( تنفعانك ) ، أي في الدارين ، قال ابن جحر :
علمني الكلمتين اللتين وعدتني . فقال : قل اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي
2501- (21) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إذا فزع أحدكم في النوم فليقل أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/473)


هذا من باب الإغراء على الشيء بذكر ما يحمل عليه ( علمني الكلمتين اللتين وعدتني ) ، أي بتعليمهما ( اللهم ألهمني رشدي ) بضم فسكون وبفتحتين وهما لغتان ، وقرئ بهما ? مما علمت رشدا ? (18 : 66) وقال في القاموس : رشد كنصر وفرح رشدا ورشدا ورشاد اهتدى والرشد الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه - انتهى . قال القاري : أي : وفقني إلى الرشد وهو الاهتداء إلى الصلاح ( وأعذني من شر نفسي ) بفتح كسر عين أمر من الإعاذة أي : أجرني واحفظني من شرها فإنها منبع الفساد . قال الشوكاني : وهذا الحديث من جوامع الكلم النبوية لأن طلب إلهام الرشد يكون به السلامة من كل ضلال والاستعاذة من شر النفس يكون بالسلامة من غالب معاصي الله سبحانه فإن أكثرها من جهة النفس الأمارة بالسوء ( رواه الترمذي ) في الدعوات وقال : هذا حديث حسن غريب ، وقد روى هذا الحديث عن عمران بن حصين من غير هذا الوجه . قلت : وأخرجه البخاري في التاريخ (1/2/2) مختصرا ، ورواه ابن الأثير الجزري في أسد الغابة بسند إلى الترمذي مطولا ، وفي سنده شيب بن شيبة بن عبد الله المنقري التميمي البصري الخطيب البليغ . قال الحافظ : صدوق يهم في الحديث ، وأخرج أحمد ، والنسائي ، وابن حبان ، والحاكم وصححا من حديث حصين والد عمران في قصة إسلامه وتعليمه النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء بلفظ : (( اللهم قني شر نفسي واعزم لي على أرشد أمري ، اللهم اغفر لي ما أسررت وما أعلنت وما أخطأت وما عمدت وما علمت وما جهلت )) .

(16/474)


2501- قوله : ( إذا فزع ) بكسر الزاي أي : خاف ( في النوم ) أي : في حال النوم أو عند إرادته ( أعوذ بكلمات الله التامة ) كذا في بعض النسخ بلفظ الإفراد والمراد به الجماعة وهكذا وقع عند الترمذي ، وأبي داود وكذا نقله في الأذكار ، والحصن ، وتحفة الذاكرين ، ووقع في بعض نسخ المشكاة (( التامات )) بلفظ الجمع وهكذا وقع عند الحاكم وكذا نقله في الترغيب ، ومختصر السنن ، والمراد من التامة الكاملة الشاملة الفاضلة وهي أسماءه وصفاته وآيات كتبه ( وعقابه ) أي : عذابه ( وشر عباده ) من الظلم والمعصية ونحوهما وهو أخص من (( شر خلقه )) ( ومن همزات الشياطين ) جمع همزة وهي النخس والغمز وكل شيء دفعته فقد همزته أي : نزغاتهم وخطراتهم ودسائسهم وإلقائهم الفتنة والعقائد الفاسدة في القلب وهو تخصيص بعد تعميم ( وأن يحضرون ) بحذف الياء وإبقاء الكسرة دليلا عليها قاله القاري . وقال الشوكاني :
فإنها لن تضره وكان عبد الله بن عمر يعلمها من بلغ من ولده ومن لم يبلغ منهم كتبها في صك ثم علقها في عنقه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/475)


بكسر النون وأصله يحضرونني فحذفت النون الأولى لدخول الناصب عليها وحذفت الياء تخفيفا وبقيت نون الوقاية مكسورة لتدل على الياء المحذوفة أي : ومن أن يحضروني في أموري كالصلاة وقراءة القرآن وغير ذلك لأنهم إنما يحضرون بسوء ( فإنها ) أي : الهمزات ( لن تضروه ) أي : إذا دعا بهذا الدعاء وفيه دليل على أن الفزع إنما هو من الشيطان ( وكان عبد الله بن عمرو ) بالواو ( يعلمها ) أي : هذه الكلمات ، وفي بعض نسخ الترمذي يلقنها من التلقين ( من بلغ من ولده ) أي : ليتعوذ به ( في صك ) الصك بفتح الصاد وتشديد الكاف ، ما يكتب فيه من الورقة ونحوها ( ثم علقها ) أي : علق الورقة التي هي فيها ( في عنقه ) أي : في رقبة ولده الذي لم يبلغ ، وفي رواية أبي داود (( وكان عبد الله عمرو يعلمهن من عقل من بنيه ومن لم يعقل كتبه فأعلقه عليه ، وفي رواية أحمد (( فكان يعلمها من بلغ من ولده أن يقولها عند نومه ، ومن كان منهم صغيرا لا يعقل أن يحفظها كتبها له فعلقها في عنقه )) . ولابن السني (( كان يعلمها من أطاق الكلام من ولده ومن لم يطق كتبها فعلقها عليه )) . وفيه دليل على جواز تعليق التعويذات التي فيها أسماء الله تعالى على الصغار . قال في اللمعات : هذا هو السند فيما يعلق في أعناق الصبيان من التعويذات ، وفيه كلام . وأما تعليق الحرز والتمائم مما كان من رسوم الجاهلية فحرام بلا خلاف - انتهى . قلت : اختلف العلماء في تعليق التمائم التي فيها أسماء الله وصفاته وآيات القرآن والأدعية المأثورة قال العلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (ص127) : اعلم أن العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم اختلفوا في جواز تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء الله تعالى وصفاته فقالت طائفة : يجوز ذلك وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص وهو ظاهر ما روى عن عائشة ، وبه قال أبو جعفر الباقر وأحمد في رواية

(16/476)


وحملوا الحديث ، ( يعني حديث ابن مسعود قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن الرقى والتولة والتمائم شرك . رواه أبو داود ، وابن ماجة ، وابن حبان ، والحاكم ، وقال صحيح وأقره الذهبي ) على التمائم التي فيها شرك ( والقرينة على هذا الحمل اقتران التمائم بالرقى ، ومن المعلوم أن المراد من الرقى ها هنا هي التي فيها شرك ) ، وقالت طائفة لا يجوز ذلك ، وبه قال ابن مسعود وابن عباس وهو ظاهر قول حذيفة وعقبة ابن عامر وابن عكيم ، وبه قال جماعة من التابعين منهم أصحاب ابن مسعود وأحمد في رواية اختارها كثير من أصحابه وجزم بها المتأخرون واحتجوا بهذا الحديث وما في معناه ( كحديث عقبة بن عامر عن ابن حبان ، وحديث عبد الله بن عكيم عند أحمد والترمذي وأبي داود والحاكم ) قلت : ( قائله الشيخ عبد الرحمن بن حسن مؤلف فتح المجيد ) هذا هو الصحيح لوجوه ثلاثة تظهر للمتأمل الأول عموم النهي ولا مخصص للعموم الثاني سد الزريعة فإنه يفضي إلى تعليق ما ليس كذلك ، الثالث أنه إذا علق فلا بد أن يمتهنه المعلق بحمله معه في حال قضاء الحاجة والاستنجاء ونحو ذلك انتهى . قلت : وزاد بعضهم وجها
رواه أبو داود ، والترمذي وهذا لفظه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/477)


رابعا وهو إن فعل ذلك استهزاء بآيات الله ومناقضة لما جاءت به فإن الله أنزل القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان وشفاء لما في الصدور ولا يزيد الظالمين إلا خسارا وإنه لتذكرة للمتقين ولم ينزل القرآن ليتخذ حجبا وتمائم ولا ليتلاعب به المتأكلون به الذين يشترون به ثمنا قليلا والذين يقرؤنه على المقابر وأمثال ذلك مما ذهب بحرمة القرآن وجرأ رؤساء المسلمين على ترك الحكم به . وأجاب هؤلاء عن حديث عبد الله بن عمرو أولا بأنه ضعيف وإن حسنه الترمذي ، وصححه الحاكم وذلك لأن في سنده محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن . وثانيا بأنه لو فرضنا صحته فليس فيه أيضا حجة لأنه ليس فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - رأى ذلك وأقره . وثالثا بأنه عمل فردي من عبد الله بن عمرو لا يترك به حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمل كبار الصحابة الذين لم يعملوا مثل عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم ، قال الوشاكاني في تحفة الذاكرين (ص 89) في شرح حديث عبد الله بن عمرو هذا : قد ورد ما يدل على عدم جواز التمائم فلا تقوم بفعل عبد الله بن عمرو حجة - انتهى . ورابعا : بأن غاية ما يدل عليه فعل عبد الله بن عمرو الصحابي هو جواز تعليق التمائم على الصغار الذين لا يعقلون ولا يقدرون على حفظ كلمات التميمة والذين ذهبوا إلى جواز التعليق أباحوه مطلقا ، أي لم يخصوه بالصغار بل توسعوا فيه عملا للكبار والرجال والنساء حتى الكفرة الفجرة والفسقة أيضا ولا يخفى ما في ذلك من القبائح . قال العلامة الشيخ أبو الطيب صديق بن حسن القنوجي البوفالي في (( الدين الخالص )) بعد نقل الوجوه الثلاثة المذكورة في فتح المجيد ما لفظه : الوجه الثالث لمنع التعليق ضعيف جدا لأنه لا مانع من نزع التمائم عند قضاء الحاجة ونحوها لساعة ثم يعلقها ، والراجح في الباب أن ترك التعليق أفضل في كل حال بالنسبة إلى التعليق الذي جوزه بعض أهل العلم بناء على أن يكون بما

(16/478)


ثبت لا بما لم يثبت لأن التقوى له مراتب وكذا الإخلاص وفوق كل رتبة في الدين رتبة أخرى والمحصلون لها أقل ولهذا ورد في الحديث في حق السبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب أنهم هم الذين لا يرقون ولا يسترقون مع أن الرقى جائزة وردت بها الأخبار والآثار والله أعلم بالصواب . والمتقي من يترك ما ليس به بأس خوفا مما به بأس - انتهى . كلامه . قلت : والأحوط عندي هو ترك التعليق وجوبا لا ندبا فقط سدا للباب وقطعا للذريعة والله تعالى أعلم ( رواه أبو داود ) في الطب ، ( والترمذي ) في الدعوات ، ( وهذا ) أي المذكور ( لفظه ) ، أي لفظ الترمذي فرواه أبو داود بمعناه وكذا ابن أبي شيبة ، وأحمد (ج2 : ص181) ، والنسائي في عمل اليوم والليلة ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، وابن عبد البر في التمهيد ، وابن السني (ص239) ، والحاكم (ج1 : ص548) وليس عنده تخصيصها بالنوم رواه جميعهم من طريق محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده . وقد سكت عنه أبو داود وحسنه الترمذي . وقال المنذري بعد نقل تحسين الترمذي (ج : ص366) : وفي إسناده محمد بن إسحاق وقد تقدم الكلام عليه وعلى عمرو بن شعيب - انتهى . قلت : الحديث المرفوع روي أيضا من غير طريق محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فقد روى أحمد (ج4 : ص57 ، وج6 : ص6) ، وابن السني (ص206) ، والنسائي في اليوم والليلة من حديث
2502- (22) وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سأل الله الجنة ثلاث مرات . قالت الجنة : اللهم أدخله الجنة ومن استجار من النار ثلاث مرات قالت النار : اللهم أجره من النار . رواه الترمذي ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/479)


محمد بن يحيى بن حبان عن الوليد بن الوليد أنه قال : يا رسول الله إني أجد وحشة ، قال : إذا أخذت مضجعك فقل . فذكر مثله وهذا منقطع . محمد لم يسمع من الوليد ، وروى أيضا النسائي ، وابن السني ، وابن عبد البر في التمهيد من طريق محمد بن يحيى بن حبان : أن خالد بن الوليد الحديث . وهذا أيضا مرسل ، وروى ابن السني (ص236 ، 237) من طريق سفيان عن محمد بن المنكدر قال جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فشكا إليه أهاويل يراها في النوم فقال : إذا أويت إلى فراشك فقل فذكر مثله . وهذا أيضا مرسل ، وقال مالك في الموطأ بلغني أن خالد بن الوليد قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إني أروع في منامي ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قل . فذكر مثله . وروى الطبراني في الأوسط عن أبي أمامة قال : حدث خالد بن الوليد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أهاويل يراها بالليل حالت بينه وبين صلاة الليل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا خالد ألا أعلمك كلمات تقولهن الحديث . وهذه الطرق يشد بعضها بعضا وتدل بمجموعها على أن للحديث أصلا قويا والله أعلم . وأما اختلاف الروايات في أن القصة للوليد بن الوليد أو لأخيه خالد أو لرجل منهم فيدفع بأن القصة وقعت لهما جميعا .

(16/480)


2502- قوله ( من سأل الله الجنة ) ، أي دخولها بصدق وإيقان وحسن نية بأن قال : اللهم إني أسالك الجنة أو قال اللهم أدخلني الجنة ( ثلاث مرات ) ، أي كرره في مجالس أو في مجلس بطريق الإلحاح على ما ثبت أنه من آداب الدعاء ( قالت الجنة ) ببيان الحال أو بلسان القال لقدرته تعالى على إنطاق الجمادات وهو الظاهر ، وقيل : المراد أهل الجنة من الحور والولدان أو خزنتها ( اللهم أدخله الجنة ) ، أي دخولا أوليا أو لحوقا آخريا ( ومن استجار ) ، أي استحفظ ( من النار ) بأن قال اللهم أجرني من النار ( قالت النار اللهم أجره ) ، أي احفظه أو أنقذه ( من النار ) ، أي من دخوله أو خلوده فيها . قال الطيبي : وفي وضع الجنة والنار موضع ضمير المتكلم تجريد ونوع من الالتفات ، ثم قال وقول الجنة والنار يجوز أن يكون حقيقة ولا بعد فيه كما في قوله تعالى : ? وتقول هل من مزيد ? (50 : 30) ويجوز أن يكون استعارة شبه استحقاق العبد بوعد الله ووعيده بالجنة والنار في تحققهما وثبوتهما بنطق الناطق كأن الجنة مشتاقة إليه سائلة داعية دخوله والنار نافرة منه داعية له بالبعد منها ، فأطلق القول وأراد التحقق والثبوت ، ويجوز أن يقدر مضاف ، أي قال خزنتهما فالقول إذا حقيقي . قال القاري : لكن الإسناد مجازي . قال ابن حجر : الحمل على لسان الحال وتقدير المضاف مخالف للقواعد المقررة أن كل ما ورد في الكتاب والسنة ولم يحل العقل حمله على ظاهره لم يصرف عنه إلا بدليل ، ونطق الجمادات بالعرف واقع كتسبيح الحصى في يده - صلى الله عليه وسلم - وحنين الجذع وغيره - انتهى . قلت : حمل القول على الحقيقة هو الظاهر الراجح ولا وجه للعدول عنه . وفي الحديث حث على كثرة سؤال الجنة والتعوذ من النار . ( رواه الترمذي ) .
والنسائي .
( الفصل الثالث )

(16/481)


2503- (23) وعن القعقاع أن كعب الأحبار قال : لولا كلمات أقولهن لجعلتني يهود حمارا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في أواخر صفة الجنة ، ( والنسائي ) في الاستعاذة وفي اليوم والليلة ، وأخرجه أيضا أحمد (ج3 : ص117 ، 141 ، 155 ، 262) ، وابن ماجة في آخر سننه ، وابن حبان في كتاب الأدعية من صحيحه ، والحاكم (ج1 : ص534 ، 535) ، والبغوي (ج5 : ص165) والحديث رجال إسناده ثقات . وصححه الحاكم ووافقه الذهبي .

(16/482)


2503- قوله ( عن القعقاع ) بقافين وعينين مهملتين أولاهما ساكنة ، وابن حكيم الكناني المدني تابعي ثقة وثقه يحيى ابن سعيد ، وأحمد ، وابن معين ، وذكره ابن حبان في الثقات ( أن كعب الأحبار ) تقدم (ج1 : ص354) ( لو لا كلمات أقولهن ) ، أي أدعو بهن ( لجعلتني يهود ) ، يمنع الصرف للعملية ووزن الفعل ، أي من السحر ( حمارا ) ، أي بليدا أو ذليلا والمعنى أنهم سحرة وقد أغضبهم إسلامي فلولا استعاذتي بالكلمات الآتية لتمكنوا مني وغلبوا علي وجعلوني بليدا وأذلوني كالحمار فإنه مثل في الذلة . قال الباجي : يحتمل أن يريد - والله أعلم - لبلدتني وأضلتني عن رشدي حتى أكون كالحمار الذي لا يفقه شيئا وبه يضرب المثل في البلادة - انتهى . وقال الطيبي : لعله أراد أن اليهود سحرته ولولا استعاذتي بهذه الكلمات لتمكنوا من أن يقلبوا حقيقتي لبغضهم إياي من حيث أني أسلمت أو لتمكنوا من إذلالي وتوهيني كالحمار فإنه مثل في الذلة قال القاري : وفيه أن قلب الحقائق ليس إلا لله كما قال تعالى : ? كونوا قردة خاسئين ? (2 : 65) وقال ? يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ? (20 : 66) فهذا يدل على غاية سحرهم الذي أجمع عليه كيد السحرة في زمان فرعون الطامعين على مال فرعون وجاهه فلو كان في قدرتهم شيء أزيد من هذا لفعلوه في حق موسى عليه الصلاة والسلام فإذا لم يقدروا في حقه فكيف يجوز أن يقدروا على سيد الخلق أن يقلبوا حقيقته . ولذا قال البيضاوي : والمراد بالسحر ما يستعان في تحصيله بالقرب إلى الشيطان مما لا يستقل به الإنسان وذلك لا يستتب إلا لمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس فإن التناسب شرط في التضام والتعاون وبهذا تميز الساحر عن النبي والولي ، وأما ما يتعجب منه كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات والأدوية فتسميته سحرا على التجوز - انتهى . فإذا كان ليس للشيطان أن يجعل نفسه حمارا حقيقة فضلا عن غيره فكيف للمتوسل

(16/483)


إلى قربه أن يقلب الحقيقة . وأما قول صاحب المدارك : وللسحر حقيقة عند أهل السنة - كثرهم الله تعالى - وتخييل وتمويه عند المعتزلة - خذلهم الله - فمعناه أن السحر ثابت وحق لا أنه خيال فاسد كرؤية الأحوال شيئا واحدا شيئين وكتخيل الأشياء عند خلل الدماغ وحصول الأفكار الفاسدة لما يدل عليه الكتاب والسنة من قوله تعالى : ? يعلمون الناس السحر ? (2 : 102) وقوله : ? فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ? (2 : 102) ، أي علم السحر الذي يكون سببا في التفريق بين الزوجين بأن يحدث الله عنده النشور والخلاف ، وقوله عز وجل : ? ومن
فقيل له : وما هن ؟ قال : أعوذ بوجه الله العظيم الذي ليس شيء أعظم منه وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر وبأسماء الله الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم من شر ما خلق وذرأ وبرأ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/484)


شر النفاثات في العقد ? (113 : 4) كما هو مشهور في سحر اليهود له عليه الصلاة والسلام وبهذا يتبين قول البغوي . والصحيح أن السحر عبارة عن التمويه والتخييل ، والسحر وجوده حقيقة عند أهل السنة وعليه أكثر الأمم ، حكي عن الشافعي أنه قال إن السحر يخبل ويمرض وقد يقتل حتى أوجب القصاص على من قتل به ، وقيل إنه يؤثر في قلب الأعيان فيجعل الآدمي على صورة حمار ويجعل الحمار على صورة الكلب والأصح أنه تخييل . قال تعالى : ? يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ? (20 : 66) لكنه يؤثر في الأبدان بالأمراض والموت والجنون - انتهى . ومما يدل على بطلان قلب الحقائق بعد إجماع أهل السنة والمعتزلة على خلافه أنه لم يقع مثل هذا أبدا في الكون . ويدل على بطلانه النقل والعقل ، ومما يذكر من بعض الحكايات لإثبات ذلك فهي مجرد حكاية فاسدة مما يستمرها الناس ويحكونها في بيوت القهوة وتجوز في عقول النساء وبعض الرجال ممن سخف عقله وسخف قلبه . انتهى كلام القاري بحذف واختصار يسير وارجع لمزيد الكلام في ذلك إلى تفسير سورة الفلق لابن القيم ( فقيل له ) ، أي لكعب ( ما هن ؟ ) ، أي تلك الكلمات ( أعوذ بوجه الله ) قال الباجي : قال القاضي أبو بكر : هو صفة من صفات الباري أمر - صلى الله عليه وسلم - أن يتعوذ بها . وقال أبو الحسن المحاربي معناه : أعوذ بالله - انتهى . وقال الحافظ تحت ترجمة البخاري في صحيحه باب قول الله عز وجل : ? كل شيء هالك إلا وجهه ? (28 : 88) قال ابن بطال : فيه دلالة على أن الله تعالى وجها من صفة ذاته وليس بجارحة ولا كالوجوه التي نشاهدها من المخلوقين كما نقول : أنه عالم ولا نقول إنه كالعلماء إلى آخر ما بسطه ( العظيم الذي ليس شيء أعظم منه ) ، أي ولا مساويا لعظمته ولا قريبا منها بل ولا عظمة لغيره لأن الكل عبيده ثم يحتمل أن يكون الموصول صفة للمضاف أو المضاف إليه والمؤدى واحد

(16/485)


قاله القاري : ( وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن ) ، أي لا يتعداهن ( بر ) بفتح الموحدة وتشديد الراء ، أي تقي ( ولا فاجر ) ، أي مائل عن الحق وإعادة لا لزيادة التأكيد ، أي لا ينتهي علم أحد إلى ما يزيد عليها . قال الطيبي : قوله (( لا يجاوزهن )) إلخ يشعر بأن المراد بالكلمات علم الله الذي ينفد البحر قبل نفاده وأراد بقوله (( بر ولا فاجر )) الاستيعاب كما في قوله تعالى : ? لا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ? (6 : 59) فإن تكرير حرف التأكيد للاستيعاب أو المراد بالكلمات القرآن لأن أحدا من البر والفاجر لا يخرج عن وعده ووعيده بالثواب والعقاب ( وبأسماء الله الحسنى ) مؤنث الأحسن ، وفي الموطأ بعده (( كلها )) قال الباجي : يشير إلى قوله تعالى : ? ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ? (7 : 180) ( ما علمت منها ) ، أي من الأسماء الحسنى ( وما لم أعلم ) ، أي منها ? من شر ما خلق ? ، أي أنشأ وقدر ( وذرأ ) بالهمز ، أي بث ونشر ( وبرأ ) ، أي أوجد الخلق مبرأ عن التفاوت فخلق كل عضو على
رواه مالك .
2504- (24) عن مسلم بن أبي بكرة قال : كان أبي يقول في دبر الصلاة : اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر فكنت أقولهن فقال : أي بني عمن أخذت هذا ؟ قلت : عنك . قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقولهن في دبر الصلاة . رواه النسائي ، والترمذي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/486)


ما ينبغي ووضعه في موضعه . قال تعالى : ? ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ? (67 : 3) قال الزرقاني : قيل هما بمعنى خلق فذكرها لإفادة اتحاد معناهما ، وقيل البرأ والذرأ يكون طبقة وجيلا بعد جيل والخلق لا يلزم فيه ذلك ( رواه مالك ) في باب ما يؤمر به من التعوذ من كتاب الجامع ولم أجده عند غيره .
2504- قوله : ( وعن مسلم بن أبي بكرة ) بن الحارث الثقفي البصري صدوق من أوساط التابعين وثقه ابن حبان والعجلي ، مات في حدود سنة تسعين ( كان أبي ) أي : أبو بكرة واسمه نفيع بن الحارث تقدم ترجمته ( يقول في دبر الصلاة ) أي : المكتوبة أو جنس الصلاة وهو يحتمل أن يكون آخرها وعقبها قبل السلام أو بعده وهو الأظهر قاله القاري . قلت : وقع عند النسائي ، وأحمد في رواية بلفظ : (( في دبر كل صلاة )) أي : مكتوبة أو أعم من أن تكون فريضة أو نافلة والظاهر هو الأول وعليه حمله النسائي حيث ترجم لهذا الحديث باب التعوذ في دبر الصلاة وذكره أثناء أبواب ما يقول بعد تسليم الإمام ( اللهم إني أعوذ بك من الكفر ) أي : من أنواعه ( والفقر ) أي : الفقر الذي لا يصحبه خير ولا روع ، ولذا ورد (( كاد الفقر أن يكون كفرا )) رواه أبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في الشعب عن أنس مرفوعا وهو حديث ضعيف فيه يزيد الرقاشي وهو ضعيف متروك ، قال الصغاني : وصح من قول أبي سعيد ومعناه أي : قارب أن يوقع في الكفر لأنه يحمل على عدم الرضاء بالقضاء وتسخط الرزق وذلك يجر إلى الكفر والعياذ بالله ، وقال القاري : أي من فتنة الفقر أو فقر القلب المؤدي إلى كفران النعمة وفي اقترانه بالكفر إشارة إلى ما ورد كاد الفقر أن يكون كفرا حيث لم يكن راضيا بما قسم الله له وشاكرا لما أنعم عليه وللترمذي ، والحاكم : (( أعوذ بك من الهم والكسل )) بدل قوله : (( أعوذ بك من الكفر والفقر )) ( أي بني ) بضم الموحدة وفتح الياء المشددة والتصغير للشفقة ( عمن أخذت هذا )

(16/487)


أي هذا الدعاء وفيه إيماء إلى أن الأليق للسالك أن يدعوا بالدعوات المأثورة ( قلت عنك ) أي أخذته ، وفيه تنبيه على أفضلية الإجازة في الأذكار و الدعوات ( قال ) أي تنبيها له تحصيل السند إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وزاد في رواية لأحمد والنسائي (( فالزمهن )) أي حاف على قراءة هذه الكلمات ( إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقولهن في دبر الصلاة ) في القاموس الدبر بالضم وبضمتين نقيض القبل ومن كل شيء عقبه ومؤخره . ( رواه النسائي ) في الصلاة ، وفي الاستعاذة ، ( والترمذي ) في الدعوات ، وأخرجه أيضا الحاكم (ج1 : ص533) ، وابن أبي شيبة ، وابن السني (ص39) . وقال الترمذي : هذا حديث
إلا أنه (( في دبر الصلاة )) وروى أحمد لفظ الحديث عنده : (( في دبر كل صلاة )) .
2505- (25) وعن أبي سعيد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : أعوذ بالله من الكفر والدين . فقال رجل : يا رسول الله أتعدل الكفر بالدين ؟ قال : نعم . وفي رواية : اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر . قال رجل : ويعدلان ؟ قال : نعم . رواه النسائي .
(9) باب جمع الدعاء
( الفصل الأول )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حسن غريب ، وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي ( إلا أنه ) أي الترمذي ( لم يذكر (( في دبر الصلاة )) وروي أحمد لفظ الحديث وعنده (( في دبر الصلاة )) ) قلت روى الإمام أحمد هذا حديث ثلاث مرات الأولى : (ج5 : ص36) بدون ذكر دبر الصلاة وبدون القصة ، والثانية : (ج5 : 39) مع ذكر دبر كل الصلاة ، والثالثة : (ج5 : ص44) مع ذكر القصة ودبر كل الصلاة .

(16/488)


2505 - قوله ( أتعدل الكفر ) أي تساويه وتقارنه ( بالدين ؟ قال : نعم ) قال السندي : أراد الرجل أن قرانهما في الذكر يقتضي قوة المناسبة بينهما في المضرة بحيث أن كلا منهما يساوي الآخر فهل الدين بلغ هذا المبلغ حتى استحق أن يجعل عديلا للكفر ويذكر قرينا معه في الذكر فأجاب بأنه كذلك كيف وهو يمنع دخول الجنة كالكفر نعم هو دائمي ومنع الدين إلى غاية الأداء والله تعالى أعلم . ( وفي رواية (( اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر )) قال ) وفي النسائي (( فقال )) وهكذا في بعض النسخ للمشكاة ( رجل : ويعدلان ؟ ) بصيغة المجهول أو المعلوم أي : يعدل أحدهما بالآخر أي : يستويان ( قال : نعم ) أي نعم المديون يساوي الكافر المنافق لأن الرجل إذا غلب عليه الدين حدث فكذب ووعد فأخلف وتلك من صفات المنافقين وعلامات النفاق ، والفقير أيضا إذا لم يصبر كاد يفضى فقره إلى كفره فهو أسوأ حالا من المديون ( رواه النسائي ) الرواية الأولى في باب الاستعاذة من الدين ، والثانية في باب الاستعاذة من شر الكفر ، وكذا أخرج الروايتين ابن حبان كما في موارد الظمآن (ص604 ، 605) ، وأخرج الحاكم الرواية الأولى فقط (ج1 : ص532) وقال : حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي . قلت : في سنده عندهم دراج أبو السمح رواه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد وثقه ابن معين وضعفه الدارقطني . وقال أبو داود : حديثه مستقيم إلا عن أبي الهيثم . وقال أحمد : أحاديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد فيها ضعف ، وقال في التقريب : صدوق ، في حديثه عن أبي الهيثم ضعف .
( باب جامع الدعاء ) هو من إضافة الصفة إلى الموصوف أي : الدعاء الجامع لمعان كثيرة في ألفاظ قليلة .

(16/489)


2506- (1) عن أبي موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يدعو بهذا الدعاء : اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2506- قوله : ( أنه كان يدعوا بهذا الدعاء ) قال الحافظ : لم أر في شيء من طرقه محل الدعاء بذلك ، وقد وقع معظم أخره في حديث ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقوله في صلاة الليل ، ووقع أيضا في حديث علي عند مسلم أنه كان يقوله في آخر الصلاة ، واختلف الرواية هل كان يقوله قبل السلام أو بعده ؟ ففي رواية لمسلم (( ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والسلام : اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت )) وفي رواية له ( ولأحمد ، وأبي داود ، والترمذي ) (( وإذا سلم قال : اللهم اغفر لي ما قدمت )) إلى آخره . ويجمع بينهما بحمل الرواية الثانية على إرادة السلام لأن مخرج الطريقين واحد ، وأورده ابن حبان في صحيحه بلفظ : (( كان إذا فرغ من الصلاة وسلم )) وهذا ظاهر في أنه بعد السلام ، ويحتمل أنه كان يقول ذلك قبل السلام وبعده وقد وقع في حديث ابن عباس نحو ذلك كما بينته عند شرحه - انتهى ( اللهم اغفر لي خطيتئي ) أي : سيئتي أو ذنبي قال الحافظ : الخطئية الذنب يقال خطئي يخطأ ، ويجوز تسهيل الهمزة فيقال خطية بتشديد الياء ( وجهلي ) أي : ما صدر مني من أجل جهلي ، والجهل ضد العلم ، وقال القاري : (( وجهلي )) أي : فيما يجب علي علمه وعمله ، وقيل : أي : ما لم أعلمه ( وإسرافي ) الإسراف الإفراط في كل شيء ، ومجاوزة الحد فيه أي : تجاوزي عن حدي ( في أمري ) أي : في أموري كلها قال الكرماني : يحتمل أن يتعلق بالإسراف فقط ،

(16/490)


ويحتمل أن يتعلق بجميع ما ذكر على سبيل التنازع بين العوامل ( وما أنت أعلم به مني ) أي : تعلمه ولا أعلمه من المعاصي والسيئات والتقصيرات في الطاعة ، وقيل : أي : مما علمته وما لم أعلمه وهو تعميم بعد تخصيص وتتميم لما يستغفر منه ( اللهم اغفر لي جدي ) بكسر الجيم وهو الاجتهاد في الأمر والتحقيق وضد الهزل ( وهزلي ) بفتح الهاء وسكون الزاي وهو المزاح أي : ما وقع مني في الحالين أو هو التكلم بالسخرية والبطلان والهذيان ( وخطائي ) قال في الصحاح : الخطأ نقيض الصواب وقد يمد ، والخطأ الذنب ، وقال في القاموس : الخطء والخطأ والخطاء ضد الصواب . والخطيئة : الذنب أو ما تعمد منه كالخطء بالكسر والخطأ ما لم يتعمد – انتهى . وقوله : خطائي كذا في جميع نسخ المشكاة والمصابيح بلفظ ضد العمد وهكذا وقع عند مسلم ووقع عند أكثر رواة البخاري (( خطاياي )) قال الحافظ : وقع في رواية الكشميهني (( خطئي )) وكذا أخرجه البخاري في الأدب المفرد بالسند الذي في الصحيح وهو مناسب لذكر العمد ، ولكن جمهور الرواة على الأول والخطايا جمع خطيئة وعطف العمد عليها من عطف الخاص على العام فإن الخطيئة أعم من أن تكون عن خطأ أو عمد أو هو من عطف أحد العامين على الآخر يعني أنه اعتبر المغايرة بينهما باختلاف الوصفين . وقال العيني : عطف العمد على الخطايا إما عطف الخاص على العام باعتبار أن الخطيئة
وعمدي وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير . متفق عليه .
2507- (2) عن أبي هريرة قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي

(16/491)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أعم من التعمد ، أو عطف أحد المتقابلين الآخر بأن الخطيئة على ما وقع على سبيل الخطأ ( وعمدي ) ، أي وتعمدي في ذنبي ، ( وكل ذلك ) ، أي جميع مال ذكر من الذنوب والعيوب ، ( عندي ) ، أي موجود أو ممكن وهو كالتذييل للسابق ، أي أنا متصف بجميع هذه الأشياء فاغفرها لي قاله تواضعا وهضما واستكانة وشكرا لما أعلم أنه قد غفر له أو عد ترك الأولى وفوات الكمال ذنبا وقيل : أراد ما كان عن غفلة وسهو ، وقيل : أراد ما كان قبل النبوة ، وقيل : هو محض مجرد تعليم للأمة وعلى كل حال فهو - صلى الله عليه وسلم - مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فدعا بهذا وغيره تواضعا لأن الدعاء عبادة ، قاله النووي وغيره ( اللهم اغفر لي ما قدمت ) ، أي من الذنوب والأعمال السيئة أو من التقصير في العمل قبل هذا الوقت ( وما أخرت ) أي : وما يقع مني بعد ذلك على الفرض والتقدير ، وعبر عنه بالماضي لأن المتوقع كالمتحقق ، أو معناه ما تركت من العمل ، أو قلت سأفعل أو سوف أترك ، وقيل : يحتمل أن يكون المراد ما قدم الفاضل وأخر الأفضل ، وهذا القدر من هذا الدعاء يدخل فيه جميع ما أشتمل عليه لأن جميع ما ذكر فيه لا يخلو عن أحد الأمرين فهما شاملان لجميع ما سبق كقوله ( وما أسررت ) أي : أخفيت ( وما أعلنت ) أي : أظهرت والمقصود استيفاء المغفرة لأنواع الذنوب كلها ، وقيل : المراد ما حدثت به نفسي وما تحرك به لساني ( أنت المقدم ) لمن تشاء من خلقك بتوفيقك إلى رحمتك ( وأنت المؤخر ) لمن تشاء عن ذلك ، وقيل : أي : أنت المقدم بعض العباد إليك بتوفيق الطاعة أو أنت المقدم لي بالبعث في الآخرة وأنت المؤخر بخذلان بعضهم عن التوفيق فتؤخره عنك أو أنت المؤخر لي بالبعث في الدنيا أو أنت الرافع والخافض أو المعز والمذل ( وأنت على كل شيء قدير ) جملة مؤكدة لمعنى ما قبلها وعلى كل شيء متعلق بقدير وهو فعيل بمعنى فاعل أي : كامل

(16/492)


القدرة ، وفي الحديث الإحاطة بمغفرة جميع الذنوب متقدمها ومتأخرها وسرها وعلنها وما كان منها على جهة الإسراف وما علم به الداعي وما لم يعلم به ( متفق عليه ) أخرجاه في الدعوات ، وأخرجه أيضا أحمد (ج4 : ص391 - 417) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2 : ص139 ، 140 ، 141) ، والبيهقي ، والبغوي وغيرهم .
2507- قوله : ( اللهم أصلح لي ) أي : عن الخطأ ( ديني الذي هو عصمة أمري ) بكسر العين أي : يعصمني من النار وغضب الجبار وقيل : أي : ما يعتصم به فإن العصمة في النفس والمال والعرض إنما يحصل بالدين . والعصمة على ما في الصحاح المنع والحفظ ، فقيل هو مصدر ها هنا بمعنى الفاعل أي : الذي هو حافظ لأمري أي : لجميع أموري لأنه مفرد مضاف . قال المناوي : فإن من فسد دينه فسدت جميع أموره وخاب وخسر في الدنيا والآخرة ( وأصلح لي دنياي التي
فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر . رواه مسلم .
2508- (3) وعن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/493)


فيها معاشي ) أي : بإعطاء الكفاف فيما يحتاج إليه وكونه حلالا معينا على الطاعة . وقيل : معناه احفظ من الفساد ما أحتاج إليه في الدنيا ( وأصلح لي آخرتي ) أي : بالتوفيق للعبادة والإخلاص في الطاعة وحسن الخاتمة ( التي فيها معادي ) مصدر عاد إذا رجع أي : وفقني للطاعة التي هي إصلاح معادي قاله القاري . وقال الجزري : أي : ما أعود إليه يوم القيامة وهو إما مصدر أو ظرف انتهى أي : مكان عودي أو زمان إعادتي ( واجعل الحياة زيادة لي في كل خير ) أي : اجعل حياتي سبب زيادة الخيرات من العبادة والطاعة والإخلاص وقيل : أي : اجعل عمري مصروفا فيما تحب وترضى وجنبني عما تكره ( واجعل الموت راحة لي من كل شر ) أي : من الفتن والمحن والابتلاء بالمعصية والغفلة . وقال زين العرب : أي : بأن يكون على شهادة واعتقاد حسن وتوبة حتى يكون موتي سبب خلاصي عن مشقة الدنيا والتخليص من غمومها وهمومها وحصول الراحة في العقبى . وقيل : فيه إشارة إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا أردت بقوم فتنة فتوفني غير مفتون )) وهذا هو النقصان الذي يقابل الزيادة في القرينة السابقة . قال الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص284) : هذا الحديث من جوامع الكلم لشموله لصلاح الدين والدنيا ، ووصف إصلاح الدين بأنه عصمة أمره لأن صلاح الدين هو رأس مال العبد وغاية ما يطلبه ، ووصف إصلاح الدنيا بأنها مكان معاشه الذي لا بد منه في حياته وسأله إصلاح آخرته التي هي المرجع وحولها يدندن العباد وقد استلزم ذلك سؤال إصلاح الدين لأنه إذا أصلح دين الرجل فقد أصلح له آخرته التي هي دار معاده ، وسأله أن يجعل الحياة زيادة له في كل خير لأن من زاده الله خيرا في حياته كانت حياته صلاحا وفلاحا وسأله أن يجعل له الموت راحة له من كل شر لأنه إذا كان الموت دافعا للشرور قاطعا لها ففيه الخير الكثير للعبد ولكنه ينبغي له أن يقول : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي ، وتوفني إذا

(16/494)


كانت الوفاة خيرا لي كما علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه يشمل كل أمره ومعلوم أن من لم يكن في حياته إلا الوقوع في الشرور فالموت خير له من الحياة وراحة له من محنها - انتهى . ( رواه مسلم ) في الدعاء ، ولم يخرجه البخاري في صحيحه فهو من أفراد مسلم ، نعم أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ج2 : ص122) ، وأبو عوانة في الدعوات ، والطبراني في الصغير (ص128) .
2508- قوله : ( اللهم إني أسألك الهدى والتقى ) بالضم والقصر أي : الهداية والتقوى ( والعفاف ) بالفتح الكف عن المعاصي وعما لا ينبغي ( والغنى ) بالكسر والقصر اليسار والمراد غنى القلب لا غنى اليد . قال النووي : العفاف والعفة هو التنزه عما لا يباح والكف عنه والغنى ها هنا غنى النفس والاستغناء عن الناس وعما في أيديهم . وقال في
رواه مسلم .
2509- (4) وعن علي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قل اللهم اهدني وسددني واذكر بالهدى هدايتك الطريق وبالسداد سداد السهم . رواه مسلم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/495)


المعتصر : ليس المراد بالغنى غنى المال بل غنى النفس القاطع عن المال الذي يقطع المرء عن الطاعات ويشغل القلب عن الله تعالى فالغنى المحمود هو الغنى الذي يتفرغ به القلب عن الدنيا وعن الاهتمام بها فقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ما أحب أن لي أحدا ذهبا تأتي علي ليلة وعندي منه دينار إلا دينارا أرصده لدين أو أقول به في عباد الله هكذا وهكذا . قال الطيبي : أطلق الهدى والتقى ليتناول كل ما ينبغي أن يهتدي إليه من أمر المعاش والمعاد ومكارم الأخلاق وكل ما يجب أن يتقى منه من الشرك والمعاصي ورذائل الأخلاق وطلب العفاف والغنى تخصيص بعد تعميم ( رواه مسلم ) ، في الدعاء وأخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص389 ، 411 ، 416 ، 427) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2 : ص128) ، والترمذي ، وابن ماجة في الدعاء والبغوي (ج5 : ص174) .

(16/496)


2509- قوله ( اللهم اهدني ) ، أي إلى مصالح أمري أو ثبتني على الهداية إلى الصراط المستقيم أو دلني على الكمالات الزائدة ( وسددني ) ، أمر من التسديد ، أي اجعلني على السداد بفتح السين المهملة وهو الاستقامة وإصابة القصد في الأمر والعدل فيه ، أي وفقني واجعلني مصيبا في جميع أموري مستقيما . قال الطيبي : فيه معنى قوله تعالى : ? فاستقم كما أمرت ? (11 : 112) و ? اهدنا الصراط المستقيم ? ، أي اهدني هداية لا أميل بها إلى طرفي الإفراط والتفريط ( واذكر ) عطف على قل ، أي اقصد وتذكر يا علي ( بالهدى ) بالضم والقصر معناه الرشاد ويذكر ويؤنث ( هدايتك الطريق ) ، أي المستقيم ( وبالسداد ) بفتح السين ( سداد السهم ) ، وفي رواية أحمد وأبي داود تسد يدك السهم . قال النووي : سداد السهم تقويمه . وأصل السداد الاستقامة والقصد في الأمور . قال الطيبي : أمره بأن يسأل الهدى والسداد وأن يكون في ذكره مخطرا بباله أن المطلوب هداية كهداية من ركب متن الطريق وأخذ في المنهج المستقيم ، وسداد يشبه بسداد السهم نحو الغرض . وقال الخطابي في المعالم (ج6 : ص116) قوله : (( واذكر بالهدى هداية الطريق )) معناه أن سالك الطريق والفلاة وإنما يؤم سمت الطريق ولا يكاد يفارق الجادة ولا يعدل عنها يمنة ويسرة خوفا من الضلال وبذلك يصيب الهداية وينال السلامة ، يقول : إذا سألت الهدى فاخطر بقلبك هداية الطريق وسل الله الهدى والاستقامة كما تتحراه في هداية الطريق إذا سلكتها ، وقوله : (( واذكر بالسداد تسديدك السهم )) معناه أن الرامي إذا رمى غرضا سدد بالسهم نحو الغرض ولم يعدل عنه يمينا ولا شمالا ليصيب الرمية فلا يطيش سهمه ولا يخفق سعيه يقول : فاختر المعنى بقلبك حين تسأل الله السداد ليكون ما تنويه من ذلك على شاكلة ما تستعمله في الرمي . ( رواه مسلم ) في الدعاء ، وأخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص88 ، 134 ، 138 ، 154) ، وأبو داود في

(16/497)


الخاتم ، والنسائي في الزينة .
2510- (5) وعن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال : كان الرجل إذا أسلم علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة ، ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات : اللهم اغفر لي ، وارحمني ، واهدني ، وعافني ، وارزقني .
رواه مسلم .
2511- (6) وعن أنس قال : كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - : اللهم آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2510- قوله ( وعن أبي مالك الأشجعي ) اسمه سعد بن طارق بن أشيم ، تقدم ترجمته وترجمة أبيه في (ج2 : ص223) ( كان الرجل إذا أسلم علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة ) ، أي جنس مسائل الصلاة من شروطها وأركانها أو الصلاة تحضره فإنه فرض عينه ( ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات ) لكونها جامعة لجميع خيرات الدنيا والآخرة ( اللهم اغفر لي ) ، أي بمحو ذنوبي ( وارحمني ) ، أي بستر عيوبي ( واهدني ) ، أي إلى سبيل السلامة أو ثبتني على نهج الاستقامة ( وعافني ) ، أي من البلايا والخطايا ( وارزقني ) ، أي رزقا حلالا . ( رواه مسلم ) ، في الدعاء وأخرجه أيضا أحمد (ج3 : ص472) ، وروى مسلم وأحمد أيضا (ج3 : ص472 ، و ج6 : ص394) ، وابن ماجة في الدعاء من طريق يزيد بن هارون عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتاه رجل فقال : يا رسول الله كيف أقول حين أسأل ربي ؟ قال : قل اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني ، ويجمع أصابعه إلا الإبهام فإن هؤلاء تجمع لك دنياك وآخرتك .

(16/498)


2511- قوله ( كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ) ، أي لكونه دعاء جامعا ولكونه من القرآن مقتبسا وجعل الله داعية ممدوحا ( اللهم آتنا في الدنيا ) ، أي قبل الموت ، وهذا لفظ البخاري في الدعوات ورواه في تفسير البقرة بلفظ (( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : اللهم ربنا آتنا في الدنيا )) . وأخرجه مسلم وغيره بلفظ (( كان أكثر دعوة يدعو بها يقول اللهم آتنا في الدنيا )) إلى آخرة . قال : وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة ( أي واحدة ) ، دعا بها ، ( أي بهذه الدعوة أي اللهم آتنا في الدنيا حسنة إلى آخره ) ، وإذا أراد أ، يدعو بدعاء ( أي كثير طويل ) دعا بها فيه ( أي بهذه الدعوة في ضمن دعواته الكثيرة ) وللبغوي قال : (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول )) ( حسنة ) ، أي كل ما يسمى نعمة ومنحة عظيمة وحالة مرضية ( وفي الآخرة ) ، أي بعد الموت ( حسنة ) ، أي مرتبة مستحسنة ( وقنا عذاب النار ) ، أي احفظنا منه وما يقرب إليه ، قال الطيبي : قوله (( وقنا عذاب النار )) تنميم ، أي إن صدر منا ما يوجبه من التقصير والعصيان فاعف عنا وقنا عذاب النار . قيل : المراد بالحسنة كل ما يعطاه العبد في الدنيا مما يلائم طبعه من العيشة الطيبة والغنى والعافية والمرأة الحسنة وغير ذلك مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين من المباح والحلال وكذلك كل ما يعطاه في الآخرة يكون حسنة بلا واسطة أو بواسطة ،
متفق عليه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16/499)


وأما ما يذكر عن علي أن الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة ، وفي الآخرة الحور العين ، وعذاب النار المرأة السوء ، وعن الحسن البصري أنها العلم النافع والعبادة والرزق الطيب ، وفي الآخرة الجنة ، وعن قتادة أنها العافية في الدنيا والآخرة . وعن السدي ومقاتل أن حسنة الدنيا الرزق الحلال الواسع والعمل الصالح وحسنة الآخرة المغفرة والثوب . وعن عطية : حسنة الآخرة تيسير الحساب ودخول الجنة ، وعن غيره : أن حسنة الدنيا الصحة والكفاف والعفاف في الدنيا والثواب والرحمة في الآخرة ونحو ذلك فمثال لا غير . قال القاضي عياض : إنما كان يكثر الدعاء بهذه الآية لجمعها معاني الدعاء كلها من أمر الدنيا والآخرة ، قال : والحسنة عندهم ها هنا النعمة ، فسأل نعيم الدنيا والآخرة ، والوقاية من العذاب . وقال ابن كثير في تفسيره : جمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا وصرفت كل شر فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية ودار رحبة وزوجة حسنة ، وولد بار ، ورزق واسع ، وعلم نافع ، وعمل صالح ، ومركب هين ، وثناء جميل ، إلى غير ذلك ، مما اشتملت عليه عبارات المفسرين ولا منافاة بينها فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا ، وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة ، وأما النجاة من النار والوقاية من عذابه فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات والحرام . قال الحافظ : أو العفو محضا ومراده بقوله وتوابعه ما يلتحق به في الذكر لا ما يتبعه حقيقة - انتهى . وقال القرطبي : والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين نعيم الدنيا والآخرة . قال : وهذا هو الصحيح فإن اللفظ يقتضي هذا كله فإن (( حسنة )) نكرة في سياق الدعاء فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل وحسنة الآخرة الجنة بإجماع - انتهى . وقال القاري : لعله -

(16/500)


صلى الله عليه وسلم - كان يكثر هذا الدعاء لأنه من الجوامع التي تحوز جميع الخيرات الدنيوية والأخروية ، وبيانه أنه - صلى الله عليه وسلم - كرر الحسنة ونكرها وقد تقرر في علم المعاني أن النكرة إذا أعيدت كانت غير الأول فالمطلوب في الأولى الحسنات الدنيوية من الاستقامة والتوفيق والوسائل إلى اكتساب الطاعات والميراث بحيث تكون مقبولة عند الله ، وفي الثانية ما يترتب عليها من الثواب والرضوان في العقبى ، وفي تفسير الآية أقوال كثيرة كلها ترجع إلى المعنى الأعم - انتهى . وقال الشوكاني : الظاهر أن المراد أنه يكون ما يعطاه في الدنيا حسنة فيكون كل خصلة من خصال الدنيا حسنة وكل خصلة من خصال الآخرة حسنة . أو يقال : المراد حسن المعاش وحسن المعاد وحسن الحياة وحسن الممات فإن ذلك يستلزم أن يكون كل أمور دنياه وآخرته حسنة ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في تفسير البقرة ، وفي الدعوات ، ومسلم في الدعاء . واللفظ للبخاري في الدعوات ، وأخرجه أيضا أحمد (ج : ص ) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2 : ص130 ، 134) ، وأبو داود في أواخر الصلاة ، والنسائي في اليوم والليلة ، والبغوي (ج5 : ص181 ، 182) .
( الفصل الثاني )
2512- (7) عن ابن عباس قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو يقول : رب أعني ولا تعن علي ، وانصرني ولا تنصر علي ، وامكر لي ولا تمكر علي ، واهدني ، ويسر الهدى لي ، وانصرني على من بغى علي ، رب اجعلني لك شاكرا ، لك ذاكرا ، لك راهبا ، لك مطواعا ، إليك مخبتا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(17/1)


2512- قوله ( يقول ) بدل أو حال ( رب أعني ) من الإعانة ، (( أي على أعدائي في الدين والدنيا من النفس والشيطان والجن والإنس )) ( ولا تعن علي ) ، أي أحدا منهم ( وانصرني ولا تنصر علي ) أحدا من خلقك ، أي لا تسلطهم علي ( وامكر لي ولا تمكر علي ) بضم الكاف فيهما ، أي أعني على أعدائي بإيقاع المكر منك عليهم لا علي . قال الطيبي : المكر الخداع وهو من الله إيقاع بلائه بأعدائه من حيث لا يشعرون ، وقد يكون مكر الله باستدارجه بطول العمر وحسن الصحة وبظاهر النعمة ، وقد يكون باستدراج العبد بالطاعات فيتوهم أنها مقبولة ، وهي مردودة بما وقع فيها من الرياء والسمعة . والحاصل ألحق مكرك بأعدائي لا بي . وقال ابن الملك : المكر الحيلة والفكر في دفع عدو بحيث لا يشعر به العدو ، فالمعنى اللهم اهدني إلى طريق دفع أعدائي عني ولا تهد عدوي إلى طريق دفعه إياي عن نفسه ( واهدني ) ، أي دلني على الخيرات والمبرآت ، ( ويسر الهدى لي ) ، أي وسهل إتباع الهداية أو طرق الدلالة لي حتى لا أستثقل الطاعة ولا أشتغل عن الطاعة ( وانصرني على من بغي علي ) ، أي ظلمني وتعدى على ( رب اجعلني لك شاكرا ) ، أي لا لغيرك ( لك ذاكرا ) ، أي لا لمن سواك ( لك راهبا ) ، أي خائفا منك خاصة في السراء والضراء ، فتقديم الجار والمجرور للاهتمام والاختصاص أو لتحقيق مقام الإخلاص ، وهذا لفظ أبي داود . ولأحمد ، والترمذي ، وابن ماجة ، وابن حبان ، والحاكم ، وابن أبي شيبة ، والبغوي : (( لك ذكارا ، لك شكارا ، لك رهابا )) ، أي على وزن فعال بصيغة المبالغة في المواضع الثلاثة ، أي كثير الذكر لك في الأوقات والآناء ، كثير الشكر على النعماء والآلاء ، كثير الخوف والرهبة من المعصية ومن الغضب والسخط ، أو جامعا لشكر القلب وشكر العمل وشكر اللسان ، وشكر القلب أن تعلم أن كل نعمة عليك فهي من الله وأن تلتذ بكونها من الله وشكر العمل أن تجعل النعمة في محلها كما

(17/2)


أمر الله وشكر اللسان التلفظ بحمده بعد هذا والعلم والعمل ( لك مطواعا ) بكسر الميم مفعال للمبالغة ، أي كثير الطوع وهو الانقياد والطاعة يعني كثير الطاعة لأمرك والانقياد إلى قبول أوامرك ونواهيك ، وفي رواية ابن ماجة ، وابن أبي شيبة : (( مطيعا )) من الإطاعة ، أي منقادا ( لك مخبتا ) من الإخبات وهو الخشوع والتواضع والخضوع ، أي اجعلني لك خاشعا خاضعا متواضعا ، قال في القاموس : أخبت : خشع . وقيل : من الخبت بفتح فسكون وهو المطئن من الأرض ، يقال أخبت الرجل قصد الخبت أو نزله نحو أسهل ، ثم استعمل الخبت استعمال اللين والتواضع ، قال الله تعالى : ? وأخبتوا إلى ربهم ? (11 : 23) ، أي اطمأنوا وسكنت نفوسهم إلى أمره فالمخبت هو
إليك أواها منيبا ، رب تقبل توبتي ، واغسل حوبتي ، وأجب دعوتي ، وثبت حجتي ، وسدد لساني ، واهد قلبي ، واسلل سخيمة صدري . رواه الترمذي ، وأبو داود ، وابن ماجة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(17/3)


المتواضع الذي اطمأن قلبه إلى ذكر ربه وأقيم اللام مقام (( إلى )) لتفيد الاختصاص قال تعالى : ? وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ? الآية (22 : 35) وفي رواية البغوي : (( إليك مخبتا )) ( إليك ) وللبغوي : (( لك )) مكان (( إليك )) ( أواها ) بتشديد الواو أي أكثر التأوه من الذنوب وهو التضرع , وقيل : كثير الدعاء ، وقيل : كثير البكاء . وقال القاري : أي متضرعا فعال للمبالغة من أوه تأويها وتأوه تأوها إذا قال : أوه أي قائلا لفظ أوه وهو صوت الحزين أي : اجعلني حزنيا ومتفجعا على التفريط أو هو قول النادم من معصيته المقصر في طاعته ، وقيل : الأواه البكاء ( منيبا ) من الإنابة ، أي راجعا إليك في أموري كلها ، وقيل التوبة رجوع من المعصية إلى الطاعة والإنابة من الغفلة إلى الذكر والفكرة والأوبة من الغيبة إلى الحضور والمشاهدة . قال الطيبي : وإنما اكتفى في قوله : (( أواها منيبا )) بصلة واحدة لكون الإنابة لازمة للتأوه ورديفا له فكأنه شيء واحد ومنه قوله تعالى : ? إن إبراهيم لحليم أواه منيب ? (11 : 75) ( رب تقبل توبتي ) بجعلها صحيحة بشرائطها واستجماع آدابها فإنها لا تتخلف عن حيز القبول قال تعالى : ? وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ? (42 : 25) ( واغسل حوبتي ) بفتح الحاء وتضم ، أي امح ذنبي وأزل خطيئتي وإثمي . قيل : هي مصدر حبت بكذا ، أي أثمت ، تحوب حوبة وحوبا وحبابة والجواب بالضم ، والحاب الإثم سمي بذلك لكونه مزجورا عنه إذ الحوب في الأصل لزجر الإبل وذكر المصدر دون الإثم وهو الحوب لأن الاستبراء من فعل الذنب أبلغ منه من نفس الذنب كذا قيل ، ويمكن أن يكون مراعاة للسجع ، ثم ذكر الغسل ليفيد إزالته بالكلية بحيث لا يبقى منه أثر ، والتنزة والتفصي عنه عن القذر الذي يستنكف عن مجاورته ( وأجب دعوتي ) ، أي دعائي ( وثبت حجتي ) ، أي

(17/4)


على أعدائك في الدنيا والعقبى أو ثبت قولي وتصديق في الدنيا وعن جواب الملكين في القبر وقيل : أي قو إيماني بك وثبتني على الصواب عند السؤال ( وسدد لساني ) ، أي صوبه وقومه حتى لا ينطق إلا بالصدق ولا يتكلم إلا بالحق ( واهد قلبي ) ، أي إلى الصراط المستقيم وقيل : أي إلى معرفة ربي ، وقيل : أي إلى درك الحقائق الشرعية ( واسلل ) بضم اللام الأولى ، أي أخرج وأنزع من سل السيف إذا أخرجه من الغمد ( سخيمة صدري ) ، بضم المهملة وكسر المعجمة ، أي غشه وغله وحقده . قيل : السخيمة الضغينة من السخمة وهو السواد ومنه سخام القدر وإنما أضاف السخيمة إلى المصدر إضافة الشيء إلى محله والمعنى أخرج من صدري وانزع عنه ما ينشأ منه ويسكن فيه ويستولى عليه من مساوي الأخلاق وفي رواية ابن حبان ، والبغوي (( قلبي )) بدل (( صدري )) . ( رواه الترمذي ) في الدعوات ، ( وأبو داود ) في أواخر الصلاة ، ( وابن ماجة ) في الدعاء ، وأخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص227) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2 : ص118 ، 119)، والنسائي في اليوم والليلة ، وابن حبان في صحيحه ، والحاكم (ج1 : ص520) ، وابن أبي شيبة ، والبغوي (ج5 : ص175 ، 176) وقال
2513- (8) وعن أبي بكر قال : قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر ثم بكى ، فقال : سلوا الله العفو والعافية ، فإن أحدا لم يعط بعد اليقين خيرا من العافية .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . كت عنه أبو داود ، ونقل المنذري كلام الترمذي وأقره . وقال الحاكم : حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي .

(17/5)


2513- قوله : ( ثم بكى ) وفي رواية ابن حبان (( فخنقته العبرة ثلاث مرات )) قيل إنما بكى لأنه علم وقوع أمته في الفتن وغلبة الشهوة والحرص على جمع المال وتحصيل الجاه فأمرهم بطلب العفو والعافية ليعصمهم من الفتن ( سلوا الله العفو ) أي : عن الذنوب ، قال في النهاية العفو معناه التجاوز عن الذنب ، وترك العقاب عليه وأصله المحو والطمس ( والعافية ) زاد في رواية لأحمد ، والحاكم ، والبغوي : (( واليقين في الأولى والآخرة )) قيل العافية هي السلامة في الدين من الفتنة وفي البدن من الأسقام والمحنة ، قال في الصحاح : عافاه الله وأعفاه بمعنى واحد والاسم العافية وهي دفاع الله تعالى عن العبد ، وتوضع موضع المصدر فيقال : عافاه عافية فقوله : دفاع الله عن العبد يفيد أن العافية تشمل جميع ما يدفعه الله عن العبد من البلايا كائنة ما كانت . وقال في النهاية : العافية أن تسلم من الأسقام والبلايا وهذا يفيد العموم كما أفاده كلام صاحب الصحاح ، وقال في القاموس : والعافية دفاع الله عن العبد ، عافاه الله من المكروه معافاة وعافية وهب له العافية من العلل كأعفاه - انتهى . وهكذا كلام سائر أئمة اللغة ، وبهذا علم أن العافية هي دفاع الله عن العبد ، وهذا الدفاع المضاف إلى الإسم الشريف يشمل كل نوع من أنواع البلايا والمحن فكل ما دفعه الله عن العبد منها فهو عافية ، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( فإن أحدا لم يعط بعد اليقين ) أي : الإيمان ، وفي رواية لأحمد ، وابن حبان (( بعد كلمة الإخلاص )) ( خيرا من العافية ) قال الطيبي : وهي السلامة من الآفات فيندرج فيها العفو - انتهى . يعني ولعموم معنى العافية الشاملة للعفو اكتفى بذكرها عنه والتنصيص عليه سابقا للإيماء إلى أنه أهم أنواعها قال الشوكاني : أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسأل الإنسان ربه أن يرزقه العفو الذي هو العمدة في الفوز بدار المعاد وبأن يرزقه العافية التي

(17/6)


هي العمدة في صلاح أمور الدنيا والسلامة من شرورها ومحنها فكان هذا الدعاء من الكلم الجوامع والفوائد النوافع فعلى العبد أن يكثر من الدعاء بالعافية وقد أغنى عن التطويل في ذكر فوائدها ومنافعها ما ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث فإنها إذا كانت بحيث أنه لم يعط أحد بعد اليقين خيرا منها فقد فاقت كل الخصال وارتفعت درجتها كل خير وقد ورد في حديث العباس عند أحمد ، والبخاري في الأدب المفرد ، والترمذي ، والطبراني ما يدل على أن العافية تشمل أمور الدنيا والآخرة وهو الظاهر من كلام أهل اللغة لأن قولهم دفاع الله عن العبد غير مقيد بدفاعه عنه لأمور الدنيا فقط بل يعم كل دفاع يتعلق بالدنيا والآخرة ، قال : وفي أمره - صلى الله عليه وسلم - للعباس بالدعاء بالعافية بعد تكرير العباس سؤاله بأن يعلمه شيئا يسأل الله به دليل جلي بأن الدعاء بالعافية لا يساويه شيء
رواه الترمذي ، وابن ماجة . وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب إسنادا .
2514- (9) وعن أنس أن رحلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ! أي الدعاء أفضل ؟ قال : سل ربك العافية والمعافاة في الدنيا والآخرة ، ثم أتاه في اليوم الثاني فقال : يا رسول الله ! أي الدعاء أفضل ؟ فقال له مثل ذلك ، ثم أتاه في اليوم الثالث فقال له مثل ذلك . قال : فإذا أعطيت العافية والمعافاة في الدنيا والآخرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(17/7)


من الأدعية ، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينزل عمه العباس منزلة أبيه ويرى له من الحق ما يراه الولد لوالده ففي تخصيصه بهذا الدعاء وقصروه على مجرد الدعاء بالعافية تحريك لهمم الراغبين على ملازمته ، وأن يجعلوه من أعظم ما يتوسلون به إلى ربهم ويستدفعون به في كل ما يهمهم ثم كلمه - صلى الله عليه وسلم - بقوله : (( سل الله العافية في الدنيا والآخرة )) فكأن الدعاء من هذه الحيثية قد صار لدفع كل ضر وجلب كل خير ( رواه الترمذي ، وابن ماجة ) في الدعاء ، وأخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص3 ، 4 ، 5 ، 7 ، 8 ، 9 ، 10) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2 : ص186) ، والنسائي ، وابن حبان ، والحاكم (ج1 : ص529) ، والبغوي (ج5 : ص178) ، وأبو بكر المروزي في مسند أبي بكر الصديق ( وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب إسنادا تمييز عن الثاني فإن الغرابة قد تكون في المتن وأخرى في الإسناد كما هو مقرر في موضعه ، وأما الحسن فلا يكون إلا باعتبار إسناده ، فليس فيه إبهام ليحتاج إلى رفعه بالتمييز قاله القاري . قلت : الذي في الترمذي هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه عن أبي بكر - انتهى . وهذا واضح ، وكأن ما في المشكاة نقل بالمعنى . وقال البغوي بعد روايته : هذا حديث غريب . والحديث رواه النسائي من طرق وعن جماعة من الصحابة . قال المنذري : وأحد أسانيده صحيح . وقال الحاكم : حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي .

(17/8)


2514- قوله : ( سل ربك العافية والمعافاة ) يعني أن الدعاء بالعافية أفضل من غيره من الأدعية لاشتماله على جلب كل نفع ودفع كل ضر ، وقد تقدم كلام وصاحب القاموس : في بيان العافية والمعافاة ، وقال الجزري في النهاية : العافية أن تسلم من الأسقام والبلايا وهي الصحة وضد المرض والمعافاة هي أن يعافيك الله من الناس ويعافيهم منك أي : يغنيك عنهم ، ويغنيهم عنك ويصرف أذاهم عنك وأذاك عنهم . وقيل : هي مفاعلة من العفو وهو أن يعفو عن الناس ويعفو لهم عنه - انتهى . وقال في اللمعات : أراد بالعافية السلامة عن جميع الآفات الظاهرة والباطنة ويدخل فيه الإيمان ولذلك سمي هذا الدعاء أفضل ، والمعافاة مفاعلة من العافية فالمعنى أن يعافيك الله عن الناس ، يصرف عنك أذاهم وأذاك عنهم ، وقيل : مفاعلة من العفو يعني عفوك عنهم وعفوهم عنك والمآل واحد ( فقال له مثل ذلك )
فقد أفلحت . رواه الترمذي ، وابن ماجة ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب إسنادا .
2515- (10) وعن عبد الله بن يزيد الخطمي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في دعائه : اللهم ارزقني حبك وحب من ينفعني حبه عندك ، اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب . اللهم ما زويت عني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(17/9)


أي : مثل ذلك القول فنصبه على المصدرية ( فقد أفلحت ) أي : فزت بمرادك وظفرت بمقصودك له بذلك عظم ذلك الدعاء وعموم بركته لمصالح الدنيا والآخرة ، وفي الحديث التصريح بأن الدعاء بالعفاية أفضل الدعاء ولاسيما بعد تكريره للسائل في ثلاثة أيام حين أن يأتيه للسؤال عن أفضل الدعاء فأفاد هذا أن الدعاء بالعافية أفضل من غيره من الأدعية ، ثم في قوله : (( فإذا أعطيت العافية )) إلخ . دليل ظاهر واضح بأن الدعاء بالعافية يشمل أمور الدنيا والآخرة لأنه قال هذه المقالة بعد أن قاله له : سل ربك العافية ثلاث مرات فكان ذلك كالبيان لعموم بركة هذه الدعوة بالعافية لمصالح الدنيا والآخرة ثم رتب على ذلك الفلاح الذي هو المقصد الأسنى والمطلب الأكبر ( رواه الترمذي ، وابن ماجة ) في الدعاء ، وأخرجه أيضا أحمد (ج : ص ) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2 : ص93) ، وابن أبي الدنيا كلهم من طريق سلمة بن وردان عن أنس وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه إنما نعرفه من حديث سلمة بن وردان - انتهى . قلت : سلمة هذا ضعيف ، والظاهر أن الترمذي حسنه لشواهده .

(17/10)


2515- قوله : ( وعن عبد الله بن يزيد ) بمثناتين تحتيتين من الزيادة ، ابن زيد بن حصين الأنصاري الأوسي ( الخطمي ) بفتح المعجمة وسكون المهملة نسبة إلى خطمة بن جشم بن مالك بن الأوس ، كان من أفاضل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال ابن الأثير : يكنى أبا موسى وهو كوفي وله بها دار ، شهد الحديبية وهو ابن سبع عشرة سنة وشهد ما بعدها ، واستعمله عبد الله بن الزبير على الكوفة ، وكان الشعبي كاتبه لما كان أميرا على الكوفة وشهد مع علي بن أبي طالب الجمل وصفين والنهروان . قال الدارقطني : له ولأبيه صحبة ، شهد بيعة الرضوان وهو صغير ، وشهد أبوه أحدا وما بعدها وهلك قبل فتح مكة ( اللهم ارزقني حبك ) أي : لأنه لا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون الله أحب إليه مما سواه ، فقوله (( حبك )) ، فيه إضافة المصدر إلى مفعولة ( وحب من ينفعني حبه عندك ) كالملائكة والأنبياء والأصفياء والأتقياء ، والظرف متعلق بينفعني ( اللهم ما رزقتني مما أحب ) ، أي الذي أعطيتني من الأشياء التي أحبها منصحة البدن وقوته وأمتعة الدنيا من المال والجاه والأولاد والفراغ وسائر النعم ( فاجعله قوة ) ، أي عدة ( لي فيما تحب ) بأن أصرفه فيما تحبه وترضاه من الطاعة والعبادة ( اللهم ما زويت عني ) في الترمذي (( اللهم وما زويت عني )) بزيادة الواو وهكذا نقله في جامع الأصول والجامع الصغير وجمع الفوائد والحصن ، أي ما صرفت ونحيت من الزى بمعنى القبض
مما أحب فاجعله فراغا لي فيما تحب . رواه الترمذي .
2516- (11) وعن ابن عمر قال : قلما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه : اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(17/11)


والجمع ، يقال : زوى فلان المال عن وارثه زيا ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : اللهم ازو لنا الأرض وهون علينا السفر ، أي اطوها كما في رواية أخرى ، أي وما قبضته ونحيته وصرفته عنى بأن منعتني ولم تعطني ( مما أحب ) أي : مما أشتهيه من المال والجاه والأولاد وأمثال ذلك ( فاجعله فراغا لي ) أي : سبب فراغ خاطري ( فيما تحب ) أي : من الذكر والفكر والطاعة والعبادة ، قال القاضي : يعني ما صرفت عني من محابي فنحه عن قلبي واجعله سببا لفراغي لطاعتك ولا تشغل به قلبي فيشغل عن عبادتك . وقال الطيبي : أي : اجعل ما نحيته عني من محابي عونا على شغلي بمحابك وذلك أن الفراغ خلاف الشغل فإذا زوى عنه الدنيا ليتفرغ لمحاب ربه كان ذلك الفراغ عونا له على الاشتغال بطاعة الله ذكره القاري ( رواه الترمذي ) في الدعوات وقال : هذا حديث حسن غريب ، قال ابن القطان : ولم يصححه لأن رواته ثقات إلا سفيان بن وكيع فمتهم بالكذب وترك الرازيان حديثه بعد ما كتباه . وقيل لأبي زرعة أكان يكذب ؟ قال : نعم . كذا في فيض القدير (ج2 : ص102) قلت : سفيان هذا من شيوخ الترمذي ، قال الحافظ عنه : كان صدوقا إلا أنه ابتلي بوراقه فأدخل عليه ما ليس من حديثه فنصح فلم يقبل فسقط حديثه .
2516- قوله : ( قلما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي : ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، اتصلت ها هنا حرف ما الكافة الزائدة بقل فكفته عن عمل الرفع كما في قول الشاعر :
قلما يبرح اللبيب إلى ما ( ... يورث المجد داعيا أو مجيبا (

(17/12)


قال شيخنا : قد تتصل ما بقل فيقال : قلما جئت وتكون ما كافة عن عمل الرفع فلا اقتضاء للفاعل وتستعمل قلما لمعنيين أحدهما النفي الصرف والثاني إثبات الشيء القليل ( يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه ) وبعض نسخ الترمذي بهذه الكلمات ، وفي رواية ابن السني (( كان ابن عمر إذا جلس مجلسا لم يقم حتى يدعو لجلسائه بهذه الكلمات )) وزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو بهن لجلسائه ( اللهم اقسم لنا ) ، أي اجعل لنا قسما ونصيبا ( من خشيتك ) ، أي من خوفك ، والخشية الخوف أو خوف مقترن بالتعظيم ( ما تحول به ) من حال يحول حيلولة ، أي مقدار تحجب أنت بسببه ( بيننا وبين معاصيك ) فإنه لا أمنع لها من خشية الله تعالى . وقيل : لأن القلب إذا امتلأ من الخوف أحجمت الأعضاء جميعها من ارتكاب المعاصي وبقدر قله الخوف يكون الهجوم على المعاصي فإذا قل الخوف جدا واستولت الغفلة كان ذلك من علامة الشقاء ، ومن ثم قالوا : المعاصي بريد الكفر كما أن القبلة بريد الجماع والغناء بريد الزنا والنظر بريد العشق والمرض بريد الموت وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة المضرة بالعقل والبدن والدنيا
ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا ، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(17/13)


والآخرة ما ل يحصيه إلا الله وقوله : (( ما تحول به )) ، كذا وقع في أكثر نسخ المشكاة ، وهكذا في المصابيح ، وشرح السنة ، وابن السني ، وعدة الحصن ، ووقع في بعض نسخ المشكاة : ما يحول بالتحية ، أي بالتذكير على أن الضمير لما وترك به وهكذا وقع في الترمذي ، أي اجعل لنا من خوفك قسما ونصيبا يحجب ويمنع هو بيننا وبينها واختلفت نسخ الحصن في ذلك ( ومن طاعتك ) ، بإعطاء القدرة عليها والتوفيق لها ( ما تبلغنا ) بتشديد اللام المكسورة ، أي توصلنا أنت ( به جنتك ) ، أي مع شمولنا برحمتك ، وليست الطاعة وحدها مبلغة ( ومن اليقين ) ، أي بك وبأنه لا راد لقضائك وبأنه لا يصيبنا إلا ما كتبت لنا وبأن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا وما أصابنا لم يكن ليخطئنا وبأن ما قدرته لا يخلو عن حكمه ومصلحة واستجلاب منفعة ومثوبة ( ما تهون به ) ، من التهوين أي تسهل به أنت بذلك اليقين ( مصيبات الدنيا ) ، وفي رواية الحاكم ، وابن السني (( مصائب الدنيا )) ، أي من المرض والغم والجراحة وتلف المال والأولاد فإن من علم يقينا أن ما يصيبه من المصيبات في الدنيا يعطيه الله عوضه في الآخرة الثواب ويكفر السيئات ويرفع الدرجات لا يغتم بما أصابه ولا يحزن بما نابه بل يفرح بذلك غاية حرصه على تحصيل الثواب ( ومتعنا ) ، أي التمتيع ، أي اجعلنا متمتعين منتفعين ( بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ) ، أي بأن نستعملها في طاعتك ، وقال ابن الملك : التمتيع بالسمع والبصر إبقاءهما صحيحين إلى الموت ( ما أحييتنا ) ، أي مدة حياتنا ، قال الطيبي : وإنما خص السمع والبصر بالتمتيع من الحواس لأن الدلائل الموصلة إلى معرفة الله وتوحيده إنما تحصل من طريقهما لأن البراهين إنما تكون مأخوذة من الآيات المنزلة وذلك بطريق السمع أو من الآيات المنصوبة في الآفاق والأنفس وذلك بطريق البصر فسأل التمتيع بهما حذرا من الانخراط في سلك الذين ختم لله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ،

(17/14)


ولما حصلت المعرفة بالأولين يترتب عليها العبادة فسأل القوة ليتمكن بها من عبادة ربه - انتهى . والمراد بالقوة قوة سائر الأعضاء والحواس أو جميعها فيكون تعميما بعد تخصيص ( واجعله ) ، أي كل واحد منها أو أي المذكور من الأسماع والأبصار والقوة ، فالضمير راجع لما سبق من الأسماع والأبصار والقوة وإفراده وتذكيره على تأيلها بالمذكور ، أي اجعل ما متعتنا به ( الوارث ) ، أي الباقي ( منا ) ، أي بأن يبقى إلى الموت . قال البغوي : قوله (( واجعله الوارث منا )) ، أي أبقه معي حتى أموت . قيل : أراد بالسمع وعي ما يسمع والعمل به وبالبصر الاعتبار بما يرى ، وقيل : يجوز أن يكون أراد بقاء السمع والبصر بعد الكبر وانحلال القوى فيكون السمع والبصر وارثي سائر القوى والباقيين بعدها ورد الهاء إلى الإمتاع فلذلك وحده فقال (( واجعله الوارث منا )) - انتهى . وقال في اللمعات : الضمير في قوله اجعله للمصدر المحذوف الذي هو الجعل أي اجعل الجعل وهو المفعول المطلق وعلى هذا الوارث مفعول أول ومنا في محل المفعول الثاني أي اجعل الوارث من نسلنا لا كلالة خارجة منا ، والكلالة قرابة ليست من جهة
واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا . رواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن غريب .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(17/15)


الولادة وهذا الوجه قد ذكره بعض النحاة في قولهم : أن المفعول قد يضمر ولكن لا يتبادر إلى الفهم من الفظ ولا ينساق الذهن إليه كما لا يخفى . وقيل : أن الضمير فيه للمتمتع الذي هو مدلول متعنا والمعنى اجعل تمتعنا بها باقيا مأثورا فيمن بعدنا لأن وارث المرأ لا يكون إلا الذي يبقى بعده وهو المفعول الأول والوارث مفعول ثان و (( منا )) صلته ، وهذا المعنى يشبه سؤال خليل الرحمن على نبينا وعليه الصلاة والسلام ? واجعل لي لسان صدق في الآخرين ? (26: 84) وقيل : معنى وراثنه دوامه إلى يوم الحاجة إليه يعني يوم القيامة والأول أوجه لأن الوارث إنما يكون باقيا في الدنيا . وقيل : إن الضمير للأسماع والأبصار والقوة بتأويل المذكور ومثل هذا شائع في العبارات لا كثير تكلف فيها ، وإنما التكليف فيما قيل : أن الضمير راجع إلى أحد المذكورات ، ويدل ذلك على وجود الحكم في الباقي لأن كل شيئين تقاربا في معنييهما فإن الدلالة على أحدهما دلالة على الآخر والمعنى بوراثتها لزومها إلى موته لأن الوارث يلزم إلى موته - انتهى . ( واجعل ثأرنا ) بالهمزة بعد المثلثة المفتوحة ، أي إدراك ثأرنا ( على من ظلمنا ) ، أي مقصورا عليه ولا تجعلنا ممن تعدى في طلب ثأره فأخذ به غير الجاني كما كان معهودا في الجاهلية فنرجع ظالمين بعد أن كنا مظلومين . وأصل الثأر الحقد والغضب ثم غلب استعماله في طلب الدم من القاتل يقال ثأرت القتيل وبالقتيل ، أي قتلت قاتله ( وانصرنا على من عادانا ) ، أي ظفرنا عليه وانتقم منه ، ( ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ) ، أي لا تصبنا بما ينقص ديننا من اعتقاد السوء وأكل الحرام والفترة في العبادة وغيرها ( ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ) ، (( الهم )) القصد والحزن ، أي لا تجعل طلب المال والجاه أكبر قصدنا أو حزننا أو لا تجعل أكبر قصدنا أو حزننا لأجل الدنيا بل اجعل أكبر قصدنا أو حزننا مصروفا في عمل الآخرة ، وفيه أن==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج3.كتاب المزهر في معرفة اللغة للسيوطي الجزء الثالث والاخير{من النوع الحادي والأربعون معرفة آداب اللغوي الي الخاتمة}

  النوع الحادي والأربعون معرفة آداب اللغوي  أول ما يلزمه الإخلاص وتصحيح النية لقوله ﷺ: « الأعمال بالنيات » ثم التحري في الأخذ عن الثقات لق...