الخميس، 1 سبتمبر 2022

ج5.وج6.مرعاة المفاتيح

 

5. مرعاة المفاتيح

آثارا استدلا بها، وبأنه سلم في مسجد مكة أن المضاعفة لا تخصتص بما كان موجودا في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، وبأن الإشارة في الحديث إنما هي لإخراج غيره من المساجد المنسوبة إليه - صلى الله عليه وسلم -، وبأن الإمام مالكا سئل عن ذلك فأجاب بعدم الخصوصية وقال: لأنه عليه السلام أخبر بما يكون بعده، وزويت له الأرض، فعلم بما يحدث بعده، ولولا هذا ما استجاز الخلفاء الراشدون أن
خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام))

(4/254)


يستزيدوا فيه بحضرة الصحابة ولم ينكر ذلك عليهم، وبما في تاريخ المدينة عن عمر رضي الله عنه أنه لما فرغ من الزيادة قال لو انتهى إلى الجبانة – وفي رواية إلى ذي الحليفة – لكان الكل مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبما روي عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لو زيد في هذا المسجد ما زيد كان الكل مسجدي. وفي رواية: لو بني هذا المسجد إلى صنعا كان مسجدي. هذا خلاصة ما ذكره ابن حجر في الجوهر المنظم-انتهى مافي المرقاة. قلت: لو كان حديث أبي هريرة: لو زيد في هذا المسجد، الخ. قابلا للإحتجاج لكان قاطعا للنزاع، لكنه ضعيف بجميع طرقه لا يصلح بمجموعها للاستدلال، قال في تمييز الطيب من الخبيث (ص119): حديث صلاة في مسجدي هذا ولو وسع إلى صنعاء اليمن بألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام. أخرجه ابن أبي شيبة في أخبار المدينة عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ "لو مد مسجدي هذا إلى صنعاء كان مسجدي"، وفي سنده ضعف، وله شواهد لا تقوم الحجة بمجموعها فضلا عن أفرادها، ولذا خصص النووي اختصاص التضعيف بمسجده الشريف عملا بالإشارة في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة-انتهى. وقال ابن عابدين: وأما حديث: لو مد مسجدي هذا إلى صنعاء كان مسجدي. فقد اشتد ضعف طرقه فلا يعمل به في فضائل الأعمال كما ذكره السخاوي في المقاصد الحسنة-انتهى. (خير) أي من جهة الثواب لا من جهة الإجزاء فالتضعيف يرجع إلى الثواب ولا يتعدى إلى الإجزاء بإتفاق العلماء كما نقله النووي وغيره، فلو كان عليه صلاتان فصلى في أحد المسجدين صلاة لم تجزه إلا عن واحدة، وهذا مع قطع النظر عن التضعيف بالجماعة، فإنها تزيد سبعا وعشرين درجة كما سيأتي في فضل الجماعة لكن هل يجتمع التضعيفان أو لا؟ محل بحث. (من ألف صلاة) تصلي. (فيما سواه) من المساجد. (إلا المسجد الحرام) بالنصب على الاستثناء ويجوز الجر على أن إلا بمعنى غير أي فإن الصلاة فيه

(4/255)


خير من الصلاة في مسجدي، ويدل له حديث عبدالله بن الزبير أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان من طريق عطاء عن عبدالله بن الزبير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا. وفي رواية ابن حبان: وصلاة في ذلك أفضل من مائة صلاة في مسجد المدينة. قال ابن عبدالبر: اختلف على ابن الزبير في رفعه ووقفه، ومن رفعه أحفظ وأثبت، ومثله لا يقال بالرأي. ويدل له أيضا حديث جابر أخرجه ابن ماجه مرفوعا، وفيه: وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه. قال الحافظ: وفي بعض النسخ "من مائة صلاة فيما سواه"، فعلى الأول معناه في ما سواه إلا مسجد المدينة، وعلى الثاني معناه من مائة صلاة في مسجد المدينة. ورجال إسناده ثقات، لكنه من رواية عطاء في ذلك عنه قال ابن عبدالبر: جائز أن يكون عند عطاء في ذلك عنهما، وعلى ذلك يحمله أهل الحديث، ويؤيده أن عطاء إمام واسع الرواية، معروف بالرواية عن جابر وابن الزبير، ويدل لذلك أيضا حديث أبي الدرداء، أخرجه البزار والطبراني
متفق عليه.
698- (5) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام،

(4/256)


مرفوعا: الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمس مائة صلاة. قال الحافظ في الفتح: قال البزار: إسناده حسن، ففي هذه الأحاديث الثلاثة دلالة واضحة على أن المراد بالاستثناء في حديث أبي هريرة تفضيل المسجد الحرام، ورد صريح على من حمل الاستثناء على المساواة، أو على أن المراد أن الصلاة في مسجدي لا تفضل الصلاة في المسجد الحرام بألف بل بدونها. قال القاري: لا تنافي بين الروايات المختلفة في التضعيف لاحتمال أن حديث الأقل قبل حديث الأكثر، ثم تفضل الله تعالى بالأكثر شيئا بعد شيء، ويحتمل أن يكون تفاوت الأعداد لتفاوت الأحوال لما جاء: أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعين إلى سبعمائة إلى غير نهاية-انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضا الترمذي وابن ماجه في الصلاة والنسائي في المناسك، وفي الباب عن جماعة من الصحابة ذكر أحاديثهم الحافظ المنذري والعيني.

(4/257)


قوله. (لا تشد الرحال) بضم التاء على البناء للمفعول بلفظ النفي، والمراد النهي عن المسافرة إلى غيرها، قال الطيبي: وهو أبلغ مما لو قيل: لا تسافر لأنه صور حالة المسافرة وتهيئة أسبابها من الراكب وفعل الشد، ثم أخرج النهي مخرج الإخبار، أي لا ينبغي ولا يستقيم أنيقصد الزيارة بالرحلة إلا إلى هذه البقاع الشريفة لاختصاصها بالمزايا والفضائل؛ لأن إحداها بيت الله وقبلتهم، رفع قواعدها الخليل عليه السلام، والثانية قبلة الأمم السالفة، عمرها سليمان عليه السلام، والثالثة أسست على التقوى، عمرها خير البريه، فكأن المسافرة إليها وفادة إلى بانيها – انتهى. والرحال – بكسر الراء – جمع رحل بالفتح وهو للبعير كالسرج للفرس، وهو أصغر من القتب، وشده كناية عن السفر لأنه لازمه، والتعبير بشدها خرج مخرج الغالب في ركوبها للمسافر في بلاد العرب إذ ذاك، فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والبغال والحمير والقطار الحديدي، والسيارات والدراجات والعربات في البر، والسفن والبواخر في البحر، والطيارات في الجو، والمشي على الأقدام في هذا المعنى، ويدل لذلك قوله في بعض طرقه: إنما يسافره. أخره مسلم. (إلا إلى ثلاثة مساجد) الاستثناء مفرغ، والتقدير لا تشد الرحال إلى موضع. ولازمه منع السفر إلى كل موضع غيرها؛ لأن المستثنى منه في المفرغ مقدر بأعم العام، لكن يمكن أن يكون المراد بالعموم ههنا الموضع المخصوص وهو المسجد، قاله الحافظ. (مسجد الحرام) بإضافة الموصوف إلى الصفة، والحرام بمعنى المحرم كالكتاب بمعنى المكتوب. والمسجد - يخفض الدال- بدل من ثلاثة، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أى هي المسجد الحرام، والتاليان عطف عليه، ويجوز النصب بتقدير أعني، قيل: المراد به جميع الحرم، وقيل: يختص بالموضع الذي يصلي
والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا))

(4/258)


فيه دون البيوت وغيرها من أجزاء الحرم. (والمسجد الأقصى) أي بيت المقدس وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة عند الكوفيين كقوله تعالى: ?وماكنت بجانب الغربي? [28: 44]. والبصريون يؤولونه بإضمار المكان، الذي بجانب المكان الغربي ومسجد المكان الأقصى، وسمي به لبعده عن مسجد مكة في المسافة، أو لأنه لم يكن وراءه مسجد. (ومسجدي هذا) أي مسجد المدينة، وفي رواية مسجد الرسول. وفي الحديث مزية هذه المساجد وفضيلتها على غيرها لكونها مساجد الأنبياء، ولأن الأول قبلة الناس وإليه حجهم، والثاني كان قبلة الأمم الماضية، والثالث أسس على التقوى واختلف في شد الرحال إلى غيرها كالذهاب إلى زيارة الصالحين أحياء وأمواتا، وإلى الموضع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها، فقال الشيخ أبومحمد الجويني: يحرم شد الرحال إلى غيرها عملا بظاهر هذا الحديث، وأشار القاضي حسين إلى اختياره، وبه قال عياض وطائفة، ويدل عليه ما رواه أصحاب السنن من إنكار بصرة الغفاري على أبي هريرة خروجه إلى الطور، وقال له: لو أدركت قبل أن تخرج ما خرجت. واستدل بهذا الحديث، فدل على أنه يرى حمل الحديث على عمومه، ووافقه أبوهريرة. والصحيح عند إمام الحرمين وغيره من الشافعية أنه لا يحرم، وأجابوا عن الحديث بأجوبة لا يخلو واحد منها عن النظر، وأحسنها وأقواها عندهم أن المراد حكم المساجد فقط، وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد للصلاة فيه غير هذه الثلاثة، وأما قصد غير المساجد لزيارة صالح أو قبر أو طلب علم أو تجارة أو نزهة فلا يدخل في النهي، وقد ورد ذلك مصرحا في بعض طرق الحديث في مسند أحمد برواية أبي سعيد الخدري، وذكر عنده صلاة في الطور فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا ينبغي للمصلى أن يشد رحاله إلى مسجد يبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا، وفي سنده شهر بن حوشب وهو حسن الحديث وإن كان فيه بعض الضعف، وقال بعضهم: قوله: إلا

(4/259)


إلى ثلاثة مساجد. المستثنى منه محذوف، فإما أن يقدر عاما فيصير: لا تشد الرحال إلى مكان في أي أمر كان إلا إلى الثلاثة. أو أخص من ذلك، لا سبيل إلى الأول لإفضائه إلى سد باب السفر للتجارة وصلة الرحم وطلب العلم وغيرها فتعين الثاني، والأولى أن يقدر ما هو أكثر مناسبة، وهو لا تشد الرحال إلى مسجد للصلاة فيه إلا إلى الثلاثة. قال شيخنا في شرح الترمذي بعد ذكر هذا الجواب: إن قولهم: المراد حكم المساجد فقط وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد... الخ، غير مسلم، بل ظاهر الحديث العموم وأن المراد لا تشد الرحال إلى موضع إلا إلى ثلاثة مساجد، فإن الاستثناء مفرغ، والمستثنى منه في المفرغ يقدر بأعم العام، نعم لو صح رواية أحمد بلفظ: لا ينبغي للمصلي أن يشد رحاله إلى مسجد... الخ. لاستقام هذا الجواب، لكنه تفرد بهذا اللفظ شهر بن حوشب ولم يزد لفظ "مسجد" أحد غيره فيما أعلم، وهو كثير الأوهام كما صرح به الحافظ في التقريب، ففي ثبوت لفظ "مسجد" في هذا الحديث كلام، فظاهر الحديث هو العموم وأن المراد: لا يجوز السفر إلى موضع للتبرك به والصلاة فيه إلا إلى ثلاثة
متفق عليه.
699- (6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة،
ومنبري على حوضي))

(4/260)


مساجد، وأما السفر إلى موضع للتجارة أو لطلب العلم أو لغرض آخر صحيح مما ثبت جوازه بأدلة أخرى فهو مستثنى من حكم هذا الحديث- انتهى كلام الشيخ. وقال الشاه عبدالعزيز الدهلوي في تعليقه على البخاري في شرح هذا الحديث: المستثنى منه المحذوف في هذا الحديث إما جنس قريب أو جنس بعيد، فعلى الأول تقدير الكلام: لا تشد الرحال إلى المساجد إلا إلى ثلاثة مساجد. وحينئذ ما سوى المساجد مسكوت عنه، وعلى الوجه الثاني، لا تشد الرحال إلى موضع يتقرب به إلا إلى ثلاثة مساجد، فحينئذ شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة المعظمة منهي عنه بظاهر سياق الحديث، ويؤيده ما روى أبوهريرة عن بصرة الغفاري حين رجح عن الطور، وتمامه في الموطأ. وهذا الوجه قوي من جهة مدلول حديث بصرة انتهى، كذا في عون المعبود. وقال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله (ج1: ص153) : كان أهل الجاهلية يقصدون مواضع معظمة بزعمهم يزورونها ويتبركون بها، وفيه من التحريف والفساد ما لا يخفى، فسد النبي - صلى الله عليه وسلم - الفساد بهذا الحديث لئلا يلتحق غير الشعائر بالشعائر، ولئلا يصير ذريعة لعبادة غير الله، والحق عندي أن القبر ومحل عبادة ولي من أولياء الله والطور كل ذلك سواء في النهي-انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضا الترمذي وابن ماجه في الصلاة.

(4/261)


699- قوله: (ما بين بيتي ومنبري) الموصول مبتدأ وخبره قوله: روضة... الخ. والمراد بالبيت البيت المعهود وهو بيت عائشة الذي صار فيه قبره - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية الطبراني: ما بين المنبر وبيت عائشة. وفي حديث سعد بن أبي وقاص عند البزار بسند رجاله ثقات، وعند الطبراني من حديث ابن عمر بلفظ: ما بين قبري ومنبري. (روضة) بفتح الراء، أرض مخضرة بأنواع النباتات، وروضات الجنة أطيب بقاعها وأنزهها. (من رياض الجنة) اختلف في تأويله فقيل: المعنى أن العبادة فيه تؤدي إلى الجنة، فهو مجاز باعتبار المآل كقوله: الجنة تحت ظلال السيوف. أي الجهاد مآله الجنة. وقيل: المعنى أي كروضة الجنة في نزول الرحمة وحصول السعادة بما يحصل من ملازمة حلق الذكر لا سيما في عهده - صلى الله عليه وسلم -، فيكون تشبيها بغير أداة، وهذا القول لا يخلو عن بعد؛ لأنه خلاف الظاهر يشترك فيه سائر المساجد وبقاع الخير. وقال أهل التحقيق: إن الكلام محمول على الحقيقة بأن ينقل هذا المكان يوم القيامة إلى الفردوس الأعلى، ولا يفنى ولا يهلك مثل سائر البقاع. ويحتمل أن يكون عين هذه البقعة روضة من رياض الجنة أنزلت منها إلى المسجد كما ورد في الحجر الأسود ومقام إبراهيم، وبعد قيام الساعة ينقل إلى مقامه الأصلي. (ومنبري على حوضي) أي على حافته والمراد بالحوض نهر الكوثر الكائن داخل الجنة لا حوضه الذي خارجها بجانبها المستمد من الكوثر. قيل: هذا إخبار
متفق عليه.
700- (7) وعن ابن عمر، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي مسجد قباء كل سبت ماشيا وراكبا، ويصلي
فيه ركعتين)) متفق عليه.

(4/262)


عن المنبر الذي يكون له - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة، يوضع عليه بأمر ربه، يدعو الناس عليه إليه، لا هذا المنبر في المسجد الشريف، وهذا القول بعيد من سياق الحديث. والراجح ما قال به الأكثر من أن المراد منبره بعينه الذي قال هذه المقالة وهو فوقه. فينقله الله بعينه ويضعه عليه، ويؤيده حديث أم سلمة عند النسائي مرفوعا: إن قوائم منبري هذا رواتب في الجنة. وقيل: معناه أن قصد منبره والحضور عنده لملازمة الأعمال الصالحة يورد صاحبه إلى الحوض، ويقتضي شربه منه. ونقل ابن زبالة أن ذرع ما بين المنبر والبيت الذي فيه القبر الآن ثلاث وخمسون ذراعا، وقيل: أربع وخمسون وسدس. وقيل: خمسون إلا ثلثي ذراع، وهو الآن كذلك، فكأنه نقص لما أدخل من الحجرة في الجدار. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة، وفي أواخر الحج، وفي الحوض، والاعتصام، ومسلم في الحج.

(4/263)


700- قوله: (مسجد قباء) بضم القاف ممدودا وقد يقصر، ويذكر على أنه اسم موضع، ويؤنث على أنه اسم بقعة، وبينه وبين المدينة ثلاثة أميال أو ميلان على يسار قاصد مكة، وهو من عوالى المدينة وسمي باسم بئر هناك، والمسجد المذكور هو مسجد بني عمرو بن عوف وهو أول مسجد أسسه رسول الله- صلى الله عليه وسلم -. (كل سبت) خص السبت لأجل مواصلته لأهل قباء، وتفقد حال من تأخر منهم عن حضور الجمعة معه في مسجده بالمدينة، وفيه دلالة على جواز تخصيص بعض الأيام ببعض الأعمال الصالحة والمداومة على ذلك. (ماشيا) تارة. (وراكبا) أخرى بحسب ما تيسر، والواو بمعنى أو (ويصلي فيه ركعتين) ادعى الطحاوي أن هذه الزيادة مدرجة، قالها أحد الرواة من عنده لعلمه أنه عليه الصلاة والسلام كان من عادته أنه لا يجلس حتى يصلي، وقد روى النسائي من حديث سهل بن حنيف مرفوعا: من خرج حتى يأتي مسجد قباء فيصلي فيه كان له عدل عمرة. وعند الترمذي من حديث أسيد بن حضير رفعه: الصلاة في مسجد قباء كعمرة. وعند عمر بن شبة في أخبار المدينة بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص قال: لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إلى من أن آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل. وفي هذه الأحاديث مع حديث الباب دلالة على فضل قباء، وفضل مسجده، وفضل الصلاة فيه، لكن لم يثبت في ذلك تضعيف بخلاف المساجد الثلاثة. قال بعضهم حديث ابن عمر يدل على أن النهي عن شد الرحال لغير المساجد الثلاثة ليس على التحريم لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي قباء ماشيا وراكبا، وتعقب بأن مجيئه - صلى الله عليه وسلم - إلى قباء إنما كان بلا سفر، فهو غير مخالف لحديث النهي، فلا يكون قرينة على كون النهي فيه للتنزيه. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة، ومسلم في الحج، وأخرجه أيضا أبوداود في الحج.

(4/264)


701- (8) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها)) رواه مسلم.
702- (9) وعن عثمان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من بنى لله مسجدا، بنى الله له بيتا في الجنة)) متفق عليه.
701- قوله: (أحب البلاد) أي أحب أماكن البلاد وبقاعها، ويمكن أن يراد بالبلد مأوى الإنسان فلا تقدير. (إلى الله مساجدها)؛ لأنها بيوت الطاعة، وأساس التقوى، ومحل تنزل الرحمة، وموضع التقرب إلى الله تعالى. (وأبغض البلاد إلى الله أسواقها)؛ لأنها محل أفعال الشياطين من الحرص والطمع والخيانة والغش والخداع والربا والأيمان الكاذبة، وإخلاف الوعد، والفتن والغفلة، فالمراد محبة وبغض ما يقع فيهما. وقيل: المعنى أي من يمكث في المساجد أحب إلى الله ممن يمكث في غيرها إذ المحبة الإثابة، ولا معنى لإثابة نفس المساجد، فالمراد الماكث فيها لذكر الله أو اعتكاف أو نحوهما. وكذا المراد بغض من في الأسواق لتعاطيه الأيمان الكاذبة، والغش، والأعراض الفانية لا بغض نفس الأسواق، نظير ما ورد في مدح الدنيا وذمها، فالمراد مدح من قام بحقوق الله تعالى فيها وذم ضده. وقال النووي: الحب والبغض من الله تعالى إرادته الخير والشر، أو فعله ذلك بمن أسعده أو أشقاه. والمساجد محل نزول الرحمة والأسواق ضدها، وهي جمع سوق سمى به لأن الأشياء تساق للبيع، أو لأن الناس تمشي فيه للبيع والشراء على سوقها جمع ساق. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا ابن حبان وأخرجه أحمد والحاكم عن جبير بن مطعم.

(4/265)


702- قوله: (من بنى) حقيقة أو مجازا. (لله) أي يبتغي به وجه الله لا رياء وسمعة. قال ابن الجوزي: من كتب اسمه على المسجد الذي يبنيه كان بعيدا من الإخلاص- انتهى. ومن بناه بالأجرة لا يحصل له هذا الوعد المخصوص لعدم الإخلاص وإن كان يؤجر في الجملة، وهل يحصل الثواب المذكور لمن جعل بقعة من الأرض مسجدا بأن يكتفي بتحويطها من غير بناء؟ وكذا من عمد إلى بناء كان يملكه فوقفه مسجدا؟ وإن وقفنا مع ظاهر اللفظ فلا، وإن نظرنا إلى المعنى فنعم، وهو المتجه. وكذا قوله "بنى" حقيقة في المباشرة بشرطها لكن المعنى يقتضي دخول الأمر بذلك أيضا، قاله الحافظ. (مسجدا) أي كبيرا كان أو صغيرا، فقد رواه الترمذي عن أنس مرفوعا بزيادة لفظ "صغيرا كان أو كبيرا"، ويدل لذلك رواية "كمفحص قطاة"، وهي مرفوعة ثابتة عند ابن أبي شيبة عن عثمان، وابن حبان والبزار عن أبي ذر، وأبي مسلم الكجي من حديث ابن عباس، والطبراني عن أبي بكر، وابن خزيمة عن جابر. وحمل ذلك العلماء على المبالغة وقيل: هي على ظاهرها. (بنى الله) إسناد البناء إلى الله تعالى مجاز أي أمر الملائكة ببنائه، أو البناء مجاز عن الخلق والإسناد حقيقة، وأبرز الفاعل تعظيما وافتخارا. (بيتا في الجنة) زاد الشيخان في رواية "مثله" وكذا الترمذي، وقد اختلف في معنى المماثلة، فقيل: مثله في الشرف والفضل والتوقير؛ لأنه جزاء المسجد فيكون مثلا له في صفات الشرف. وقيل: مثله في مسمى
703- (10) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((من غدا إلى المسجد أو راح، أعد الله له نزله من الجنة كلما غدا أو راح)) متفق عليه.
704- (11) وعن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((أعظم الناس أجرا في الصلاة، أبعدهم فأبعدهم ممشى،

(4/266)


البيت، وأما صفته في السعة وغيرها فمعلوم فضلها، فإنها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وقيل: المراد أن فضله على بيوت الجنة كفضل المسجد على بيوت الدنيا، وقيل: غير ذلك. وقوله "في الجنة" متعلق ببنى أو بمحذوف صفة لبيتا. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وابن ماجه، وفي الباب عن جماعة من الصحابة. ذكر أحاديثهم مع تخريجها شيخنا في شرح الترمذي.
703- قوله: (من غدا إلى المسجد أو راح) قيل: المراد بالغدو هنا مطلق الذهاب للمسجد في أي وقت كان، وبالرواح الرجوع منه، أي من ذهب للصلاة في المسجد ورجع، والأصل في الغدو المضي من بكرة النهار، والرواح بعد الزوال، ثم قد يستعملان في كل ذهاب ورجوع توسعا. وظاهر الحديث حصول الفضل لمن أتى المسجد مطلقا، لكن المقصود منه اختصاصه بمن يأتيه للعبادة، والصلاة رأسها. (أعد) أي هيأ من الإعداد. (نزله) بضم النون والزاي: المكان الذي يهيأ للنزول فيه. وبسكون الزاي: ما يهيأ للقادم من الضيافة ونحوها. فعلى هذا "من" في قوله: (من الجنة) للتبعيض على الأول، وللتبيين على الثاني. (كلما غدا أو راح) قال الطيبي: النزل ما هيأ للنزيل، و"كلما غدا" ظرف وجوابه ما دل عليه ما قبله، وهو عامل فيه، والمعنى: كلما استمر غدوه ورواحه استمر إعداد نزله في الجنة، فالغدو والرواح في الحديث كالبكرة والعشي في قوله تعالى: ?ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا? [19: 62] يراد بها الديمومة لا الوقتان المعلومان. قال المظهر: من عادة الناس أن يقدموا طعاما إلى من دخل بيوتهم، والمسجد بيت الله، فمن دخله أي وقت كان من ليل أو نهار يعطيه الله أجره من الجنة؛ لأن الله أكرم الأكرمين فلا يضيع أجر المحسنين- انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد.

(4/267)


704- قوله: (أعظم الناس أجرا) أي أكثرهم ثوابا. (في الصلاة) أي في الإتيان إليها. (أبعدهم فأبعدهم ممشى) بفتح الميم الأولى وسكون الثانية أي مسافة، وهو منصوب على التمييز يعني أبعدهم مسافة إلى المسجد، وإنما كان أعظم أجرا لما يحصل في بعيد الدار عن المسجد من كثرة الخطا، وفي كل خطوة عشر حسنات كما رواه أحمد. فإن قيل: روى أحمد في مسنده (ج5: ص387، 399) عن حذيفة مرفوعا: أن فضل الدار القريبة يعني من المسجد على الدار البعيدة
والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصلي ثم ينام)) متفق عليه.
705- (12) وعن جابر، قال: ((خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لهم: بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد. قالوا: نعم يا رسول الله! قد أردنا ذلك. فقال: يا بني سلمة! دياركم، تكتب آثاركم، دياركم، تكتب آثاركم))

(4/268)


كفضل الغازي على القاعد. أي من الجهاد. فالجواب أن هذا في نفس البقعة، وذاك في الفعل، فالبعيد دارا مشيه أكثر وثوابه أعظم، والبيت القريب أفضل من البعيد، قاله العلقمي. قلت: حديث حذيفة هذا ضعيف لضعف علي بن يزيد أبي عبدالملك الدمشقي، وقد رواه عن حذيفة بلاغا. وفاء "فأبعدهم" قال البرماوي كالكرماني والطيبي: للاستمرار نحو الأمثل فالأمثل والأكمل فالأكمل. وتعقبه العيني بأنه لم يذكر أحد من النحاة أن الفاء تجيء بمعنى الاستمرار، ثم رجح كونها بمعنى ثم أي أبعدهم ثم أبعدهم ممشى. وقال السندي في حاشية ابن ماجه: الفاء للترتيب أي الأبعد على مراتب البعد أعظم أجرا من الأقرب على مراتب القرب، فكل من كان أبعد فهو أكثر أجرا ممن كان أقرب منه، ولو كان هذا الأقرب أبعد من غيره، فأجره أكثر من ذلك الغير. والمراد أنه إذا حضر المسجد مع ذلك البعد ولم يمنعه البعد عن الحضور. (حتى يصليها مع الإمام) زاد مسلم "في جماعة". (أعظم أجرا من الذي يصلي) أي وحده. (ثم ينام) أي يستريح بخروجه من عهدة ما عليه، فكما أن بعد المكان مؤثر في زيادة الأجر كذلك طول الزمان، للمشقة فيهما، فأجر منتظر الإمام أعظم من أجر من صلى منفردا من غير انتظار، وفائدة قوله "ثم ينام" الإشارة إلى الاستراحة المقابلة للمشقة التي في ضمن الانتظار، وقيل: الحديث في صلاة العشاء لقوله: ثم ينام. وظاهر الحديث يقضى أن تأخير الصلاة للجماعة أفضل من تقديمها أول الوقت ولو مع الجماعة لزيادة أجره بمشقة الانتظار، وليس مرادا إذ يعارضه الأخبار الدالة على طلب الصلاة أول الوقت. وقد استنبط من الحديث بعضهم استحباب قصد المسجد البعيد ولو كان بجنبه مسجد قريب، وإنما يتم ذلك إذ لم يلزم من ذهابه إلى البعيد هجر القريب، وإلا فإحياءه بذكر الله أولى، وكذا إذا كان في البعيد مانع من الكمال كأن يكون إمامه مبتدعا. (متفق عليه) وأخرجه أحمد وأبوداود وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة

(4/269)


مرفوعا بلفظ: الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرا.
705- قوله: (خلت البقاع) بكسر الباء. (حول المسجد) أي أطرافه قريبا منه. (فأراد بنو سلمة) بكسر اللام، قبيلة معروفة من الأنصار. (قرب المسجد) منصوب بنزع الخافض، أي إلى مكان بقربه. (فبلغ ذلك) أي انتقالهم. (دياركم) نصب على الإغراء، أي الزموا دياركم. (تكتب) يروي بالجزم على جواب الزموا ويجوز الرفع على الاستئناف. (آثاركم) جمع أثر، يعني الزموا دياركم فإنكم إذا لزمتموها كتبت خطاكم الكثيرة إلى المسجد. قال الطيبي: بنو سلمة بطن
رواه مسلم.
706- (13) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا
ظله:
من الأنصار، وليس في العرب سلمة- بكسر اللام- غيرهم، كانت ديارهم بعيدة من المسجد، وكان يجهدهم في سواد الليل وعند وقوع الأمطار واشتداد البرد، فأرادوا أن يتحولوا قرب المسجد، فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تعرى جوانب المدينة، فرغبهم فيما عند الله من الأجر على نقل الخطا. والمراد بالكتابة أن تكتب في صحف الأعمال، أي كثرة الخطا سبب لزيادة الأجر- انتهى. وفي الحديث أن أعمال البر إذا كانت خالصة تكتب آثارها حسنات. وفيه استحباب السكنى بقرب المسجد للفضل إلا لمن حصلت به منفعة أخرى، أو أراد تكثير الأجر بكثرة المشي ما لم يحمل على نفسه، ووجهه أنهم طلبوا السكنى بقرب المسجد للفضل الذي علموه منه فما أنكر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بل رجح درء المفسدة بإخلائهم جوانب المدينة على المصلحة المذكورة، وأعلمهم بأن لهم في التردد إلى المسجد من الفضل ما يقوم مقام السكنى بقرب المسجد أو يزيد عليه. (رواه مسلم) وأخرج البخاري قريبا من معناه من حديث أنس، وروى ابن ماجه وغيره عن ابن عباس بسند قوي، قال: كانت الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد فأرادوا أن يقتربوا فنزلت: ?ونكتب ما قدموا وآثارهم? [36: 12] قال فثبتوا.

(4/270)


706- قوله: (سبعة) أي سبعة أشخاص أو سبعة من الناس، وهذا العدد لا مفهوم له، فقد وردت أحاديث بزيادة على ذلك لا تخفى على من تتبع دواوين الحديث، وقد أفردها الحافظ بتأليف سماه معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال، وتتبعها السيوطي فأوصلها إلى سبعين خصلة، وأفردها في المؤلف بالأسانيد ثم اختصره. (يظلهم الله) جملة في محل الرفع على أنها خبر للمبتدأ أعني قوله: سبعة، أي يدخلهم (في ظله) إضافة تشريف ليحصل امتياز هذا عن غيره كما يقال للكعبة: بيت الله. مع أن المساجد كلها ملكه، وقيل: المراد بظله كرامته وحمايته وكنفه، يقال: فلان في ظل الملك أي في كنفه وحمايته، والمعنى يحفظهم من كرب الآخرة ويكنفهم في رحمته. قال عياض: وهو أولى الأقوال. وقيل المراد ظل عرشه. ويدل عليه ما رواه سعيد بن منصور بإسناد حسن من حديث سلمان: سبعة يظلهم الله في ظل عرشه- فذكر الحديث، ثم كونهم في ظل عرشه يستلزم ما ذكر من كونهم في كنف الله وكرامته من غير عكس، فهو أرجح وبه جزم القرطبي، ويؤيده أيضا تقييد ذلك بيوم القيامة كما صرح به في رواية. (يوم لا ظل إلا ظله) أي ظل عرشه على حذف المضاف، والمراد يوم القيامة إذا قام الناس لرب العالمين، وقربت الشمس من الرؤوس، واشتد عليهم حرها، وأخذهم العرق ولا ظل هناك لشيء إلا العرش. قيل: المراد إن ظل العرش يغلب على الشمس بالنسبة إليه فلا يبقى لها
إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه،

(4/271)


تأثير الحرارة. (إمام عادل) أي أحدهم إمام عادل، والمراد به صاحب الولاية العظمى، ويلتحق به كل من ولي شيئا من أمور المسلمين، فعدل فيه لحديث: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن الذي يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا" رواه مسلم. وأحسن ما فسر به العادل أنه الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط. وقدمه في الذكر على تاليه لكثرة مصالحه وعموم نفعه. (وشاب) خص الشاب؛ لأن العبادة في الشباب أشق لكثرة الدواعي وغلبة الشهوات وقوة البواعث على إتباع الهوى، فملازمة العبادة مع ذلك أشد وأدل على غلبة التقوى. وفي الحديث: "يعجب ربك من شاب ليست له صبوة". (نشأ) أي نما وتربى وشب. (في عبادة الله) أي حتى توفي على ذلك كما في رواية الجوزقي. وفي حديث سلمان: "أفنى شبابه ونشاطه في عبادة الله". (معلق) بفتح اللام. (بالمسجد) قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة "في المسجد". قال الحافظ: قوله "معلق في المساجد" هكذا في الصحيحين، وظاهره أنه من التعليق كأنه شبهه بالشيء المعلق في المسجد كالقنديل مثلا إشارة إلى طول الملازمة بقلبه، وإن كان جسده خارجا عنه، ويحتمل أن يكون من العلاقة، وهي شدة الحب، ويدل عليه رواية أحمد: معلق بالمساجد. وكذا رواية سلمان: من حبها. قال النووي: معناه شديد الحب لها والملازمة فيها، وليس معناه دوام القعود فيها، يعني أنه كنى به عن انتظاره أوقات الصلاة، فلا يصلي صلاة في المسجد ويخرج منه إلا وهو ينتظر الأخرى ليصليها فيه، يعني أنه كنى به عن انتظاره أوقات الصلاة، فلا يصلي صلاة في المسجد ويخرج منه إلا وهو ينتظر الأخرى ليصليها فيه، فهو ملازم للمسجد بقلبه وإن عرض لجسده عارض، وهذه الخصلة هي المقصودة من هذا الحديث للباب. (ورجلان) مثلا. (تحابا) بتشديد الباء وأصله تحابيا من التفاعل، أي اشتركا في جنس المحبة وأحب كل منهما الآخر حقيقة لا إظهارا فقط. (في الله) أي في

(4/272)


طلب رضاه أو لأجله لا لغرض دنياوي. (اجتمعا عليه) أي على الحب في الله إن اجتمعا. (وتفرقا عليه) أي على الحب إن تفرقا، يعني يحفظان الحب في الحضور والغيبة. وقال الحافظ: والمراد أنهما داما على المحبة الدينية ولم يقطعاها بعارض دنيوي سواء اجتمعا حقيقة أم لا. حتى فرق بينهما الموت. وذكر المتحابين لا يصير العدد ثمانية؛ لأن معناه: رجل يحب غيره في الله والمحبة أمر نسبي فلا بد لها من المنتسبين، فلذلك قال: رجلان، أو المراد عد الخصال لا عد المتصفين بها. (ورجل ذكر الله) بلسانه أو بقلبه. (خاليا) من الخلو، أي من الناس؛ لأنه أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء، أو المراد خاليا من الالتفات إلى غير الله تعالى ولو كان في ملأ، ويؤيده رواية البيهقي: ذكر الله بين يديه، ويؤيد الأول ما وقع في رواية للبخاري وغيره: ذكر الله في خلاء، أي في موضع خال من الناس. (ففاضت عيناه) من الدمع لرقة قلبه، وشدة خوفه من جلاله، أو مزيد شوقه إلى جماله. والفيض انصباب عن امتلاء فوضع موضع الامتلاء للمبالغة، أو المعنى: فاضت أي سالت
ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها
حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) متفق عليه.
707- (14) وعنه، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته
وفي سوقه

(4/273)


وجرت دموع عينيه، وأسند إلى العين مبالغة، جعلت من فرط البكاء كأنها تفيض بنفسها. (ورجل دعته امرأة) أي إلى الزنا بها. (ذات حسب) بفتحتين، وهو ما يعده الإنسان من مفاخر آبائه، وقيل: الخصال الحميدة له ولآبائه. قال الحافظ: الحسب يطلق على الأصل والمال أيضا. وفي رواية ذات منصب- بكسر الصاد- أي حسب ونسب شريف ومال. (وجمال) أي مزيد حسن. (فقال) بلسانه زاجرا لها عن الفاحشة، ومعتذرا إليها، أو المراد قال بقلبه زاجرا لنفسه. (إني أخاف الله) زاد في رواية: رب العالمين. قال عياض: خص ذات المنصب والجمال لكثرة الرغبة فيها وعسر حصولها، وهي جامعة للمنصب والجمال لا سيما وهي داعية إلى نفسها، طالبة لذلك، قد أغنت عن مشاق التوصل إلى مراودة ونحوها، فالصبر عنها لخوف الله تعالى- وقد دعت إلى نفسها مع جمعها المنصب والجمال- من أكمل المراتب وأعظم الطاعات، فرتب الله تعالى عليه أن يظله في ظله. (بصدقة) نكرها ليشمل كل ما يتصدق به من قليل وكثير، وظاهره أيضا يشمل المندوبة والمفروضة، لكن نقل النووي عن العلماء أن إظهار المفروضة أولى من إخفائها. (فأخفاها) قال ابن الملك: هذا محمول على التطوع؛ لأن إعلان الزكاة أفضل. قلت: في كل من الصدقة المندوبة والمفروضة عندي تفصيل. (حتى لا تعلم شماله) الخ. ذكره للمبالغة في إخفاء الصدقة والإسرار بها، وضرب المثل بهما لقربهما وملازمتهما أي لو قدر أن الشمال رجل متيقظ لما علم صدقة اليمين للمبالغة في الإخفاء، فهو من مجاز التشبيه، أو من مجاز الحذف أي حتى لا يعلم ملك شماله، أو حتى لا يعلم من على شماله من الناس، أو هو من باب التسمية الكل بالجزء، فالمراد بشماله نفسه، أي إن نفسه لا تعلم ما تنفق يمينه، ووقع في صحيح مسلم: حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله. وهو مقلوب سهو عند المحققين. وذكر الرجال في هذا الحديث لا مفهوم له، فتدخل النساء، نعم لا يدخلن في الإمامة العظمى، ولا في خصلة ملازمة المسجد؛ لأن

(4/274)


صلاتهن في بيتهن أفضل، لكن يمكن في الإمامة حيث يكن ذوات عيال فيعدلن، ولا يقال: لا يدخلن في خصلة من دعته امرأة؛ لأنا نقول إنه يتصور في امرأة دعاها ملك جميل مثلا للزنا فامتنعت خوفا من الله مع حاجتها. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة والزكاة والرقاق، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي في الزهد والنسائي في القضاء.
707- قوله: (صلاة الرجل) أي ثواب صلاته. (تضعف) بضم الفوقية وتشديد العين أي تزاد، يقال: ضعف الشيء، إذا زاد. وضعفته وأضعفته بمعنى، كذا في النهاية. (على صلاته في بيته وفي سوقه) أي منفردا، إذ الغالب
خمسا وعشرين ضعفا، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى، لم تزل الملائكة تصلي عليه مادام في مصلاه: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه. ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة)). وفي رواية: قال: ((إذا دخل المسجد كانت الصلاة تحبسه)).

(4/275)


أن من لم يحضر الجماعة في المسجد صلى منفردا، ولا يلزم من استواء الصلاة في البيت والسوق في المفضولية عن المسجد أن لا يكون أحدهما أفضل من الآخر، وكذا لا يلزم منه أن الصلاة جماعة في البيت أو السوق لا فضل فيها على الصلاة منفردا، بل الظاهر أن التضعيف المذكور مختص بالجماعة في المسجد، والصلاة في البيت مطلقا أولى منها في السوق لما ورد من أن الأسواق موضع الشياطين، والصلاة جماعة في البيت وفي السوق أولى من الانفراد. (خمسا وعشرين ضعفا) بكسر الضاد أي مثلا، ووجه حذف التاء من "خمسا" بتأويل الضعف بالدرجة أو بالصلاة، وتوضيحه أن ضعفا مميز مذكر فتجب التاء فقيل بالتأويل المذكور، وفي المصابيح: خمسة وعشرين ضعفا. وكذا وقع في بعض نسخ البخاري، والمرجع في سر الأعداد إلى علوم النبوة التي قصرت عقول الألباء عن إدراك جملها وتفاصيلها. (وذلك) إشارة إلى التضعيف الذي يدل عليه قوله: تضعف. (أنه إذا توضأ) قال الحافظ: هذا ظاهر في أن الأمور المذكورة علة للتضعيف المذكور، إذ التقدير: وذلك لأنه. فكأنه يقول: التضعيف المذكور سببه كيت وكيت. وإذا كان كذلك فما رتب على موضوعات متعددة لا يوجد بوجود بعضها إلا إذا دل دليل على إلغاء ما ليس معتبرا، أو ليس مقصودا لذاته، وهذه الزيادة التي في حديث أبي هريرة معقولة المعنى، فالأخذ بها متوجه، والروايات المطلقة لا تنافيها بل يحمل مطلقها على هذه المقيدة. (فأحسن الوضوء) أي أسبغه برعاية السنن والآداب. (لا يخرجه إلا الصلاة) أي قصد الصلاة المكتوبة في جماعة، جملة حالية، والمضارع المنفي إذا وقع حالا يجوز فيه الواو وتركه. (لم يخط) بفتح أوله وضم الطاء من خطا يخطو خطوا: فتح ما بين قدميه ومشى. (خطوة) بضم أوله ويجوز الفتح، قال الجوهري: الخطوة بالضم ما بين القدمين، وبالفتح المرة الواحدة. وجزم اليعمري: أنها هنا بالفتح، وقال القرطبي: إنها في روايات مسلم بالضم. (تصلي عليه) أي تدعو له

(4/276)


بالخير وتستغفر من ذنوبه، وتطلب له الرحمة. (مادام) أي مدة دوامه. (في مصلاه) بضم الميم، أي في المكان الذي أوقع فيه الصلاة من المسجد، وكذا لو قام إلى موضع آخر من المسجد مع دوام نية انتظاره للصلاة، فالأول خرج مخرج الغالب. (اللهم صل عليه) أي لم تزل الملائكة تصلي عليه حال كونهم قائلين ذلك. (اللهم ارحمه) قال الطيبي: طلب الرحمة بعد طلب المغفرة؛ لأن صلاة الملائكة استغفار لهم. (في الصلاة) أي في ثواب صلاة. (ما انتظر الصلاة) أي مادام ينتظرها سواء ثبت في مجلسه الذي صلى فيه من المسجد أم تحول إلى غيره. (وفي رواية: إذا دخل المسجد كانت الصلاة تحبسه) أي تمنعه
وزاد في دعاء الملائكة: ((اللهم اغفر له، اللهم تب عليه. ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه)). متفق عليه.
708- (15) وعن أبي أسيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(4/277)


من الخروج من المسجد، ولم أجد هذه الرواية في الصحيحين، نعم وقع في رواية لهما: إذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه. أي مدة كون الصلاة حابسة له بأن كان جالسا لانتظار الصلاة، أما جلوسه بعد الصلاة لذكر أو اعتكاف مثلا، فلا يترتب عليه خصوص هذا الثواب وإن كان فيه ثواب عظيم. (وزاد) أي في هذه الرواية، وهذه الزيادة من إفراد مسلم. (اللهم تب عليه) أي وفقه للتوبة وتقبلها منه، أو ثبته عليها. (ما لم يؤذ فيه) أي لا تزال الملائكة داعين له مادام في مصلاه منتظرا للصلاة ما لم يؤذ في مجلسه أحدا من المسلمين بقوله أو فعله. وقيل: أي ما لم يؤذ الملائكة، وإيذاءه إياهم بالحدث في المسجد، وهو معنى قوله. (ما لم يحدث) من أحدث أي ما لم ينقض وضوءه. وظاهره عموم النقض لغير الاختيار أيضا، ويحتمل الخصوص، ولفظ البخاري: اللهم اغفر له اللهم ارحمه، ما لم يؤذ يحدث فيه. قال الحافظ: كذا للأكثر بالفعل المجزوم على البدلية، ويجوز بالرفع على الاستئناف. وللكشمهيني: ما لم يؤذ بحدث فيه. بلفظ الجار والمجرور متعلقا بيؤذ. وقال الكرماني: وفي بعض النسخ: ما لم يحدث فيه. بطرح لفظ يؤذ، أي ما لم ينقض الوضوء، فالمراد بالحدث الناقض للوضوء، ويدل عليه ما روي: أن أبا هريرة لما روى هذا الحديث قال له أبورافع: ما يحدث؟ قال: يفسو أو يضرط، وهو في بعض طرق الحديث عند مسلم، وقيل: يحتمل أن يكون المراد بالحدث هنا أعم من الحدث الناقض للوضوء، أي ما لم يحدث سوء، ويدل عليه رواية أبي داود: ما لم يؤذ فيه أو يحدث فيه؛ لأنه عطف قوله: أو يحدث. على قوله: لم يؤذ فيه. قال ابن المهلب: معنى الحديث أن الحدث في المسجد خطيئة يحرم بها المحدث استغفار الملائكة ودعائهم المرجو بركته. وقيل: إخراج الريح من الدبر لا يحرم، لكن الأولى اجتنابه؛ لأن الملائكة تتأذى بما يتأذى منه بنو آدم، كما يأتي في الحديث، ويؤخذ منه أن الحدث الأصغر وإن منع دعاء الملائكة

(4/278)


لا يمنع جواز الجلوس في المسجد، كذا في المرقاة. قال الحافظ: في الحديث دليل على أن الحدث في المسجد أشد من النخامة؛ لأن لها كفارة ولم يذكر لهذا كفارة بل عومل صاحبه بحرمان استغفار الملائكة، ودعاء الملائكة مرجو الإجابة، لقوله تعالى: ?ولا يشفعون إلا لمن ارتضى? [21: 28] قال: واستدل بالحديث على أفضلية الصلاة على غيرها من الأعمال لما ذكر من صلاة الملائكة عليه، ودعائهم له بالرحمة والمغفرة والتوبة. (متفق عليه) واللفظ إلى قوله: ما انتظر الصلاة. للبخاري، ولمسلم معناه. وأما قوله: اللهم تب عليه، الخ. فهو من إفراد مسلم كما تقدم، والحديث أخرجه أيضا أحمد وأبوداود، وابن ماجه بنحوه.
708- قوله: (عن أبي أسيد) بضم الهمزة وفتح السين المهملة وسكون الياء، اسمه مالك بن ربيعة بن البدن الساعدي الخزرجي مشهور بكنيته، صحابي جليل، شهد بدرا والمشاهد كلها، له ثمانية وعشرون حديثا، اتفقا على حديث
إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج فليقل: اللهم إني
أسألك من فضلك)) رواه مسلم.
709- (16) وعن أبي قتادة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين

(4/279)


وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بآخر، مات سنة (30) وقيل: بعد ذلك حتى قال المدائني: مات سنة (60) وله. (87) سنة بعد ما ذهب بصره، قال: هو آخر من مات من البدريين. (إذا دخل أحدكم المسجد) أي أراد دخوله عند وصول بابه. (فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك) وفي رواية أي داود: فليسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ليقل: اللهم افتح لي، الخ.. (وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك) قال النووي: في الحديث استحباب هذا الذكر، وقد جاءت فيه أذكار كثيرة غير هذا في سنن أبي داود وغيره ومختصر مجموعها: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، بسم الله والحمدلله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم، اللهم اغفرلي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك. وفي الخروج يقوله لكن يقول: اللهم إني أسألك من فضلك-انتهى. وتخصيص الرحمة بالدخول والفضل بالخروج؛ لأن الرحمة في كتاب الله أريد به النعم النفسانية والأخروية. قال تعالى: ?ورحمة ربك خير مما يجمعون? [43: 32]، والفضل على النعم الدنيوية، قال تعالى: ?لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلا من ربكم? [2: 198] وقال. ?فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله? [62: 10] ومن دخل المسجد يطلب القرب من الله، ويشتغل بما يزلفه إلى ثوابه وجنته فيناسب ذكر الرحمة، والخروج وقت ابتغاء الرزق فناسب ذكر الفضل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أبوداود، وكلاهما من حديث أبي حميد. (اسمه عبدالرحمن بن سعد الساعدي) أو أبي أسيد على الشك، والنسائي عنهما من غير شك، وابن ماجه عن أبي حميد وحده.

(4/280)


709- قوله: (إذا دخل أحدكم المسجد) عمومه يشمل أوقات الكراهة أيضا. فقيل: هذا الحديث مخصوص بغير أوقات الكراهة، وقيل: بل محمول على عمومه، والكراهة في تلك الأوقات مخصوصة بالصلاة التي لا يكون لها سبب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بعد العصر قضاء سنة الظهر فخص وقت النهي، وصلى به ذات السبب، ولم يترك التحية في حال من الأحوال بل أمر الذي دخل المسجد يوم الجمعة وهو يخطب فجلس أن يقوم فيركع ركعتين مع أن الصلاة في حال الخطبة ممنوع منها إلا التحية، فلو كانت التحية تترك في حال من الأحوال لتركت الآن؛ لأنه قعد وهي مشروعية قبل القعود، ولأنه كان يجهل حكمها، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع خطبته وكلمه وأمره أن يصلي التحية، فلو لا شدة الاهتمام بالتحية في جميع الأوقات لما اهتم هذا الاهتمام، قاله النووي. (فليركع ركعتين) أي فليصل ركعتين يعني تحية المسجد أو ما يقوم مقامهما من صلاة فرض أو سنة تعظيما للمسجد. قال النووي: لا يشترط أن ينوي التحية بل تكفيه ركعتان من فرض
قبل أن يجلس)) متفق عليه.

(4/281)


وسنة راتبة أو غيرهما، ولو نوى بصلاته التحية والمكتوبة انعقدت صلاته وحصلتا له –انتهى. قال الحافظ: قوله: ركعتين. هذا العدد لا مفهوم لأكثره بالاتفاق، واختلف في أقله، والصحيح اعتباره فلا تتأدى هذه السنة بأقل من ركعتين. واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر في ذلك للندب. ونقل ابن بطال عن أهل الظاهر: الوجوب، والذي صرح به ابن حزم عدمه، ومن أدلة عدم الوجوب قوله - صلى الله عليه وسلم - للذي رآه يتخطى: اجلس فقد آذيت. ولم يأمره بصلاة، كذا استدل به الطحاوي وغيره، وفيه نظر-انتهى. قال شيخنا: لعل وجه النظر أنه لا مانع له من أن يكون قد فعلها في جانب من المسجد قبل وقوع التخطي منه، أو أنه كان ذلك قبل وقوع الأمر بها والنهي عن تركها. ومن أدلة عدم الوجوب ما أخرجه ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم، قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلون المسجد، ثم يخرجون ولا يصلون. ومشروعية تحية المسجد لا تختص بمن قصد الجلوس في المسجد بل تسن لكل من دخل أراد الجلوس فيه أو لا. ومن أدلة عدم الوجوب حديث كعب بن مالك في تخلفه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، وفيه حتى جئت أي إلى المسجد فلما سلمت أي على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - تبسم تبسم المغضب، ثم قال: تعالى، فجئت حتى جلست بين يديه. الحديث، وفيه: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك، فقمت فمضيت. فقوله: حتى جئت، الخ. يدل بظاهره على أنه جلس بلا صلاة، وقوله: فمضيت. على أنه خرج بلا صلاة، وقد استنبط منه النسائي في سننه الرخصة في الجلوس في المسجد والخروج منه بغير صلاة. قال الخطابي: في حديث أبي قتادة من الفقة أنه إذا دخل المسجد كان عليه أن يصلي ركعتين تحية المسجد قبل أن يجلس، سواء كان ذلك في جمعة أو غيرها، كان الإمام على المنبر أو لم يكن؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عم ولم يخص. قلت: هذا هو الصحيح، وقد جاء

(4/282)


مصرحا في حديث جابر أن رجلا جاء والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فقال: أصليت يا فلان؟ قال: لا، قال: قم فاركع. وقد تقدم الإشارة إليه في كلام النووي. واختلفوا فيمن جاء المسجد وقد ركع ركعتي الفجر في بيته، هل يركع عند دخوله المسجد أم لا؟ فقال الشافعي: يركع. وهي رواية أشهب عن مالك. وقال أبوحنيفة: لا يركع. وهي رواية ابن القاسم عن مالك. قال ابن رشد: وسبب اختلافهم معارضة الأمر قوله عليه السلام: لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الصبح. فههنا عمومان وخصوصان: أحدهما في الزمان والآخر في الصلاة، وذلك أن حديث الأمر بالصلاة عام في الزمان، خاص في الصلاة، وحديث النهي عام في الصلاة، خاص في الزمان، فمن استثنى خاص الصلاة من عامها رأى الركوع بعد ركعتي الفجر، ومن استثنى خاص الزمان من عامه لم يوجب ذلك –انتهى. (قبل أن يجلس) الظاهر أنه خرج مخرج الغالب من فعل الصلاة من قيام، فلو جلس ليأتي بها وأتى بها فورا من قعود جاز، وكذا لو أحرم بها قائما ثم أراد القعود لإتمامها. قال ابن رسلان: المراد بالركعتين الإحرام بهما حتى لو صلاهما قاعدا كفى سواء أحرم قائما ثم جلس أو أحرم جالسا
710- (17) وعن كعب بن مالك، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقدم من سفر إلا نهارا في الضحى، فإذا قدم بدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين، ثم جلس فيه)) متفق عليه.
711- (18) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردها الله عليك،

(4/283)


واتصل إحرامه بأول جلوسه؛ لأن النهي عن جلوس في غير صلاة-انتهى. ثم إنه إذا خالف وجلس قبل أن يصلي يشرع له التدارك ولا تفوت بالجلوس؛ لما روى ابن حبان في صحيحه من حديث أي ذر أنه دخل المسجد فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أركعت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم فأركعهما. ترجم عليه ابن حبان أن تحية المسجد لا تفوت بالجلوس، ومثله قصة سليك الغطفاني. ويحتمل أن تحمل مشروعيتهما بعد الجلوس على ما إذا لم يطل الفصل. قال القاري: وما يفعله بعض العوام من الجلوس أولا ثم القيام للصلاة ثانيا باطل لا أصل له. (متفق عليه) وأخرجه أيضا مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
710- قوله: (لا يقدم) بفتح الدال أي لا يرجع. (إلا نهارا في الضحى) بضم المعجمة والقصر، وهو وقت تشرق الشمس، قيل: الحكمة في ذلك أنه وقت نشاط فلا مشقة على أصحابه في المجيء إليه بخلاف نصف النهار فإنه وقت نوم وراحة، وبخلاف أواخره لأنه وقت اشتغال بأسباب العشاء ونحوه، وبخلاف الليل فإنه يشق الحركة فيه. (بدأ بالمسجد) أي بدخوله. (فصلى فيه ركعتين) هذا فعله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يتوهم أنه من خصائصه؛ لأنه قد أمر جابرا بصلاة القدوم من السفر، وحديثه عند الشيخين وغيرهما، وفي الحديثين استحباب ركعتين للقادم من سفره في المسجد أول قدومه، وهذه الصلاة مقصودة للقدوم من السفر ينوي بها صلاة القدوم، لا أنها تحية المسجد التي أمر الداخل بها قبل أن يجلس لكن تحصل التحية بها. (ثم جلس فيه) قبل أن يدخل بيته ليزوره المسلمون شفقة على خلق الله. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي، وهو طرف من حديث طويل لكعب بن مالك في قصة تخلفه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك وتوبته.

(4/284)


711- قوله: (ينشد ضالة) أي يطلبها برفع الصوت، وينشد بفتح الياء وضم الشين، يقال: نشد الضالة أي نادى وسأل عنها وطلبها، وهو من النشد رفع الصوت، والضالة تطلق على الذكر والأنثى، والجمع ضوال كدابة ودواب، وهي مختصة بالحيوان الضائع، ويقال لغير الحيوان ضائع ولقيط. (في المسجد) متعلق بينشد. (فليقل) أي السامع يعني عقوبة له لارتكابه في المسجد ما لا يجوز، وظاهره أنه يقوله جهرا. (لا ردها الله عليك) معناه ما رد الله الضالة إليك
فإن المساجد لا تبن لهذا)) رواه مسلم.
712- (19) وعن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أكل من هذه الشجرة المنتنة،

(4/285)


وما وجدتها. قال السندي: يحتمل أنه دعاء عليه، فكلمة لا لنفي الماضي، ودخولها على الماضي بلا تكرار جائز في الدعاء، وفي غير الدعاء الغالب هو التكرار كقوله تعالى: ?فلا صدق ولا صلى? [75: 31] ويحتمل أن لا ناهية أي لا تنشد، وقوله: ردها الله عليك، دعاء له لإظهار أن النهي عنه نصح له، إذا الداعي بالخير لا ينهى إلا نصحا، لكن اللائق حينئذ الفصل بأن يقال: لا، وردها الله عليك، بالواو؛ لأن تركها يوهم، إلا أن يقال: الموضع موضع زجر، ولا يضر به الإبهام لكونه إيهام شيء هو آكد في الزجر-انتهى. (فإن المساجد لم تبن لهذا) أي لنشدان الضالة ونحوه، بل بنيت لذكرالله والصلاة، والعلم والمذاكرة في الخير، ونحوهما. وقوله: فإن المساجد، الخ. يحتمل أنه في حيز القول فلا بد أن يقوله القائل تعليلا لقوله، ويؤيده حديث بريدة عند مسلم: أن رجلا نشد في المسجد فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا وجدته، إنما بنيت المساجد لما بنيت له. ويحتمل أنه تعليل لقوله فليقل، فلا حاجة إلى أن يقول. والحديث دليل على تحريم السؤال برفع الصوت عن ضالة الحيوان في المسجد، وهل يلحق به السؤال عن غيرها من المتاع ولو ذهب في المسجد؟ قيل: يلحق للعلة، وهي قوله: فإن المساجد لم تبن لهذا، وإن من ذهب عليه متاع فيه أو في غيره قعد في باب المسجد يسأل الخارجين والداخلين إليه. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود وابن ماجه.

(4/286)


712- قوله: (من هذه الشجرة المنتنة) بضم الميم وكسر التاء الفوقية من أنتن الشيء أي خبثت رائحته، يعني بها الثوم كما وقع في رواية للشيخين، وفي رواية لمسلم: من أكل البصل والثوم والكراث. وفي قوله: شجرة، مجاز؛ لأن المعروف في اللغة أن الشجرة ما كان لها ساق، وما لا ساق له يقال له: نجم، وبهذا فسر ابن عباس قوله تعالى. ?والنجم والشجر يسجدان? [55: 6] ومن أهل اللغة من قال: كل ما ثبت له أرومة أي أصل في الأرض يخلف ما قطع من ظاهرها فهو شجر، وما ليس لها أرومة تبقى فهو نجم. قال العيني: فإن قلت على ما ذكر: كيف أطلق الشجر على الثوم ونحوه، قلت: قد يطلق كل منهما على الآخر، وتكلم أفصح الفصحاء به من أقوى الدلائل-انتهى. والمراد بالثوم في الحديث النيئ منه، وأما المطبوخ فلا كراهة فيه لما روى أبوداود والترمذي من حديث علي قال: نهى عن أكل الثوم إلا مطبوخا، ولما يأتي في الفصل الثاني من حديث معاوية بن قرة، عن أبيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هاتين الشجرتين-الحديث. وفيه: إن كنتم لابد آكليهما فأميتوهما طبخا. فهذان الحديثان يفيدان تقييد ما ورد من الأحاديث المطلقة في النهي. ويلحق بما نص عليه في الحديث من الثوم في رواية، والبصل والكراث في أخرى، والفجل في رواية
فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس)).

(4/287)


المعجم الصغير للطبراني، كل ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها لاسيما التتن والتبغ والتنباك والسيجارة، وإنما خص الثوم والبصل والكراث والفجل بالذكر لكثرة أكلهم بها. (قلا يقربن) بفتح الراء والباء الموحدة وبنون التأكيد المشددة. (مسجدنا) يريد به المكان الذي أعد ليصلى فيه مدة إقامته بخيبر، لأن القول المذكور صدر منه - صلى الله عليه وسلم - عقب فتح خيبر، أو المراد بالمسجد الجنس، والإضافة إلى المسلمين أي فلا يقربن مسجد المسلمين، ويؤيده رواية أحمد بلفظ "فلا يقربن المساجد" ونحوه لمسلم، وهذا يدفع قول من خص النهي بمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن لفظ المساجد لا يساعده، وكذا التعليل يتأذى الملائكة؛ لأن ذلك يوجد في المساجد كلها، ثم إن ظاهر التقييد بالمساجد يقتضي أن قربهم في الأسواق غير منهي عنه، ويؤيده التعليل؛ لأن المساجد محل اجتماع الملائكة دون الأسواق، وكان المقصود مراعاة الملائكة الحاضرين في المساجد الخيرات، وإلا فالإنسان لا يخلو عن صحبة ملك فينبغي له دوام الترك لهذه العلة، قاله السندي. قلت: قد وقع في حديث أنس عند الشيخين "فلا يقربنا" قال الحافظ: ليس في هذا تقييد النهي بالمسجد فيستدل بعمومه على إلحاق المجامع بالمساجد كمصلى العيد والجنازة، ومكان الوليمة، وقد ألحقها بعضهم بالقياس، والتمسك بهذا العموم أولى، ونظيره قوله: وليقعد في بيته. لكن قد علل المنع في الحديث بترك أذى الملائكة وترك أذى المسلمين. (كما في حديث أبي هريرة عند مسلم: "فلا يقربن مسجدنا ولا يؤذينا بريح الثوم" فإن كان كل منهما جزء علة اختص النهي بالمساجد وما في معناها، وهذا هو الأظهر، وإلا لعم النهي كل مجمع كالأسواق-انتهى. وقال ابن دقيق العيد: والظاهر أن كل واحد منهما علة مستقلة- انتهى. وعلى هذا الأسواق كغيرها من مجامع العبادات. (فإن الملائكة تتأذى) أريد بهم الحاضرون مواضع العبادات عامة، ويدل هذا التعليل على أنه لا

(4/288)


يدخل المسجد وإن كان خاليا عن الإنسان؛ لأنه محل ملائكة، فقوله: مما يتأذى منه الإنس-بكسر الهمزة- يكون محمولا على تقدير وجودهم فيه. والحديث يدل على جواز أكل الثوم وغيره من البقول مما فيه رائحة كريهة مطبوخا كان أو غير مطبوخ لمن قعد في بيته، وعند حضور المسجد إذا كان مطبوخا لئلا يؤذي برائحته الخبيثة من يحضره من الملائكة وبني آدم، فالنهي إنما هو عن حضور المسجد بعد أكل الثوم النيئ ونحوه لا عن أكل الثوم والبصل ونحوهما، فهذه البقول حلال لقوله - صلى الله عليه وسلم -: كل فإني أناجي من لا تناجي. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: أيها الناس ليس لي تحريم ما أحل الله لي. وشذ أهل الظاهر فحرموا هذه الأشياء لإفضائها إلى ترك الجماعة، وهي عندهم فرض عين، وتقريره أن يقال: صلاة الجماعة فرض، ولا تتم إلا بترك أكلها وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فترك أكلها واجب، فتكون حراما، كذا نقله ابن دقيق العيد وغيره عن أهل الظاهر، لكن صرح ابن حزم منهم بان أكلها حلال مع قوله: بأن الجماعة فرض عين، وانفصل عن اللزوم المذكور بأن المنع من أكلها مختص بمن علم بخروج الوقت قبل زوال الرائحة، ونظيره أن صلاة الجمعة فرض عين بشروطها ومع ذلك تسقط بالسفر، وهو في أصله مباح لكن يحرم
متفق عليه.
713- (20) وعن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((البزاق في المسجد خطيئة،

(4/289)


على من أنشأه بعد سماع النداء، قلت: الحديث قد استدل به على أن صلاة الجماعة ليست فرض عين، قال ابن دقيق العيد: وتقريره أن يقال: أكل هذه الأمور جائز، ومن لوازمه ترك صلاة الجماعة في حق آكلها، ولازم الجائز جائز، فيكون ترك صلاة الجماعة في حق آكلها جائزا، وذلك ينافي الوجوب، قال: وقد يستدل بهذا الحديث على أن أكل هذه الأمور من الأعذار المرخصة في ترك حضور الجماعة، وقد يقال: إن هذا الكلام خرج مخرج الزجر عنها فلا يقتضي ذلك أن يكون عذرا في تركها إلا أن تدعو إلى أكلها ضرورة، قال: ويبعد هذا من وجه تقريبه إلى بعض أصحابه فإن ذلك ينفي الزجر-انتهى. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضا أحمد، والترمذي في الأطعمة والنسائي في الصلاة وفي الباب روايات عن جماعة من الصحابة عند الشيخين وغيرهما بألفاظ متقاربة.

(4/290)


713- قوله: (البزاق) أي إلقاءه، وهو بضم الباء بعدها زاي، وفي رواية لمسلم "التفل" بدل البزاق، وفي رواية النسائي: البصاق بالصاد والتفل بفتح المثناة فوق وسكون الفاء هو البزاق والبصاق، وهما ماء الفم إذا خرج منه، ومادام فيه فهو ريق. (في المسجد) أي في أرضه وجدرانه، قال الحافظ: قوله: في المسجد. ظرف للفعل فلا يشترط كون الفاعل فيه حتى لو بصق من هو خارج المسجد فيه تناوله النهي. (خطيئة) بالهمزة أي إثم وفي رواية لأحمد: سيئة، ومثل البزاق المخاط والنخامة بل أولى. قال القاضي عياض: إنما يكون خطيئة إن لم يدفنه، فمن أراد دفنه فلا، ورده النووي فقال: هو خلاف صريح الحديث، فالبزاق في المسجد عنده خطيئة مطلقا أراد دفنه أو لا. قال الحافظ: وحاصل النزاع أن ههنا عمومين تعارضا وهما قوله: البزاق في المسجد خطيئة. وقوله: وليبصق عن يساره أو تحت قدمه، فالنووي يجعل الأول عاما ويخص الثاني بما إذا لم يكن في المسجد، والقاضي بخلافه يجعل الثاني عاما ويخص الأول بمن لم يرد دفنها. وقد وافق القاضي جماعة منهم ابن مكي في التنقيب، والقرطبي في المفهم، ويشهد لهم ما رواه أحمد والطبراني بإسناد حسن من حديث أبي أمامة مرفوعا، قال: من تنخع في المسجد فلم يدفنه فسيئة، وإن دفنه فحسنة، فلم يجعله سيئة إلا بقيد عدم الدفن، ونحوه حديث أبي ذر عند مسلم مرفوعا قال: وجدت في مساوئ أعمال أمتي النخاعة تكون في المسجد لا تدفن. قال القرطبي: فلم يثبت لها حكم السيئة بمجرد إيقاعها في المسجد بل به وبتركها غير مدفونة-انتهى. ومما يدل على أن عمومه مخصوص جواز ذلك في الثواب ولو كان في المسجد بلا خلاف، وعند أبي داود من حديث عبدالله بن الشخير أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فبصق تحت قدمه اليسرى ثم دلكه بنعله. إسناده صحيح، وأصله في مسلم، والظاهر أن ذلك كان في المسجد فيؤيد ما تقدم. وتوسط بعضهم فحمل الجواز على ما إذا كان له عذر كأن لم يتمكن من

(4/291)


الخروج من المسجد، والمنع على ما إذا لم يكن له عذر،
وكفارة دفنها)) متفق عليه.
714- (21) وعن أبي ذر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عرضت على أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوي أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن)) رواه مسلم.
715- (22) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه،
وهو تفصيل حسن-انتهى كلام الحافظ باختصار يسير. (وكفارتها) أي كفارة الخطيئة إذا فعلها. (دفنها) أي في تراب المسجد ورمله وحصياته إن كان، وإلا فيخرجها يعني أنه إذا أزال ذلك البزاق أو ستره بشيء طاهر عقيب الإلقاء زال منه تلك الخطيئة، قال الحافظ: قال ابن أبي جمرة: لم يقل: وكفارتها تغطيتها؛ لأن التغطية يستمر الضرر بها إذ لا يأمن أن يجلس غيره عليها فتؤذيه بخلاف الدفن فإنه يفهم منه التعميق في باطن الأرض-انتهى. قيل: إن لم يكن المسجد ذا تراب وكان ذا حصير لا يجوز إلقاء البزاق فيه احتراما للمالية. قلت: إذا احتاج إلى دفع البزاق وكان المسجد مجصصا ومبلطا فألقى البزاق تحت قدمه اليسرى ودلكه بحيث لم يبق في المسجد للبزاق أثر فلا حرج، وعلى هذا يحمل حديث عبدالله بن الشخير الذي تقدم في كلام الحافظ. (متفق عليه) وأخرجه أيضا الترمذي، وأبوداود والنسائي.

(4/292)


714- قوله: (عرضت على) أي إجمالا أو تفصيلا. (حسنها وسيئها) بالرفع عطف بيان للأعمال أو بدل اشتمال. (في محاسن أعمالها) جمع حسن بالضم والسكون على غير قياس. (الأذى) أي المؤذي يعني إزالته، واللام فيه للجنس. (يماط) أي يزال. (عن الطريق) صفة الأذى، قاله الطيبي. وفيه التنبيه على أن كل ما نفع المسلمين أو أزال عنهم ضرارا كان من حسن الأعمال. (مساوي أعمالها) جمع سوء على غير قياس والياء منقلبة عن الهمزة. (النخاعة) بضم النون أي البزاقة التي تخرج من أصل الفم والمراد إلقائها، وقيل: المراد بها البزاق. (تكون في المسجد) صفة النخاعة. (لا تدفن) قال ابن الملك: الجملتان صفتان أو حالان أي متداخلتان أو مترادفتان. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد، وابن ماجه وابن حبان.
715- قوله: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة) أي شرع فيها ففي حديث أنس عند الشيخين: إذا كان أحدكم في الصلاة. وفي حديث عبدالله بن عمر عندهما أيضا: إذا كان أحدكم يصلي. (فلا يبصق) بالصاد والجزم على النهي، وقيل: نفي معناه النهي. (أمامه) بفتح الهمزة أي قدامه، وظاهر الإطلاق يعم المسجد وغيره، بل الواقعة كانت في المسجد
فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه، فإن عن يمينه ملكا. وليبصق عن يساره أو تحت قدمه فيدفنها)).

(4/293)


كما يدل عليه سبب الحديث فيدل على أن الحكم ليس معللا بتعظيم المسجد وإلا لكان اليمين واليسار سواء، بل المنع عن تلقاء الوجه للتعظيم بحالة المناجاة مع الرب تعالى، وعن اليمين للتأدب مع ملك اليمين كما يفهم من الأحاديث، قاله السندي. (فإنما يناجي الله) والمناجاة من قبل العبد حقيقة، ومن قبل الله إقباله تعالى عليه بالرحمة والرضوان فمناجاة الله مجاز، إذ المناجاة هي المسارة بين الاثنين، ولا كلام محسوسا إلا من طرف العبد فيكون المراد لازم المناجاة وهو إرادة الخير. (مادام في مصلاه) أي ومن يناجي أحدا مثلا لا يبصق نحوه، وظاهره يقتضي تخصيص المنع بحالة الصلاة لكن التعليل بتأذي المسلم في حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعا عند أحمد بإسناد حسن: من تنخم في المسجد فليغيب نخامته أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه، يقتضي المنع في جدار المسجد مطلقا، ولو لم يكن في الصلاة، فيجمع بأن يقال: كونه في الصلاة أشد إثما مطلقا، وكونه في جدار القبلة أشد إثما من كونه في غيرها من جدار المسجد. (ولا عن يمينه) تعظيما لليمين وزيادة لشرفها. (فإن عن يمينه ملكا) لا بد من وجه يقتضي اختصاص المنع باليمين لأجل الملك، إذا الملك في يساره أيضا، وذلك الوجه هو أن يقال: أن ملك اليمين يكتب حسنات المصلى في حالة صلاته، والصلاة هي أم الحسنات البدنية، وهي أيضا تنهى عن الفحشاء والمنكر، فلا دخل لكاتب السيأت الكائن عن اليسار فيها، ويكون هو فارغا. وأحسن ما قيل فيه: أن لكل أحد قرينا أي شيطانا، وموقعه يساره كما في حديث أبي أمامة عند الطبراني، فإنه يقوم بين يدي الله، وملكه عن يمينه وقرينه على يساره، فلعل المصلي إذا تفل عن يساره يقع على قرينه وهو الشيطان، ولعل ملك اليسار حينئذ يكون بحيث لا يصيبه شيء من ذلك، أو أنه يتحول في الصلاة إلى اليمين. وقيل: التنكير في ملكا للتعظيم أي ملكا عظيما، فلا يشكل بأن على اليسار أيضا ملكا. وقال

(4/294)


الطيبي: يحتمل أن يراد ملك آخر غير الحفظة يحضر عند الصلاة للتائيد والإلهام والتأمين على دعائه، فسبيله سبيل الزائر فيجب أن يكرم زائره فوق من يحفظه من الكرام الكاتبين. (وليبصق عن يساره) أي إن كان فارغا. قال الخطابي: إن كان عن يساره أحد فلا يبزق في واحد من الجهتين لكن تحت قدمه أو ثوبه. ويؤيده ما رواه أبوداود من حديث طارق المحاربي مرفوعا، فإنه قال فيه: ولكن عن تلقاء يساره إن كان فارغا، أو تحت قدمه اليسرى، ثم ليقل به. وفي رواية النسائي: أو تلقاء شمالك إن كان فارغا، وإلا فهكذا وبزق تحت رجله ودلكه، ومعنى قوله "فارغا" أي متمكنا من البزق في يساره، وقوله "ثم ليقل به" أي ليدفنه إذا بزقه تحت قدمه اليسرى. (أو تحت قدمه) أي اليسرى وأو للتنويع أي إذا تعذر في جهة اليسار لوجود مصل فيها بصق تحت قدمه. (فيدفنها) بنصب النون؛ لأنه جواب الأمر، وبرفعها على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي فهو يدفنها، ويجوز الجزم عطفا على الأمر،
716- (23) وفي رواية أبي سعيد: ((تحت قدمه اليسرى)) متفق عليه.
716- (24) وعن عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في مرضه الذي لم يقم منه: ((لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))
وتأنيث الضمير في "فيدفنها" بتأويل البصقة التي يدل عليها قوله "وليبصق" أي فيغيب البصقة بالتعميق في باطن أرض المسجد بحيث يأمن الجالس عليها من الإيذاء، فلو كان المسجد غير ترابي فيدلكها بشيء حتى يذهب أثرها ألبتة، وإذا بدره البزاق ولم يكن يساره فارغا وكان تحت قدمه فراش من ثوب ونحوه تعين الثوب للبزق فيتفل فيه ثم يرد بعضه على بعض، ولو فقد الثوب مثلا فلعل بلعه أولى من ارتكاب المنهي عنه.
716- قوله: (وفي رواية أبي سعيد) أي عند الشيخين. (متفق عليه) واللفظ للبخاري، وفي الباب عن أنس، وابن عمر، وأبي سعيد عند الشيخين، وجابر بن عبدالله عند أبي داود وغيره.

(4/295)


717- قوله: (قال في مرضه الذي لم يقم منه) كأنه - صلى الله عليه وسلم - علم أنه مرتحل من ذلك المرض، فخاف أن يعظم قبره كما فعل اليهود والنصارى، فعرض بلعنهم إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم كيلا يعامل معه ذلك، فقال: (لعن الله اليهود والنصارى) واللعن أمارة الكبيرة المحرمة أشد التحريم فيكون الفعل الذي أوجب اللعن حراما. (اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد) جملة مستأنفة على سبيل البيان لموجب اللعن، كأنه قيل: ما سبب لعنهم؟ فأجيب بقوله: اتخذوا. زاد في رواية: يحذر ما صنعوا. وهي جملة مستأنفة أخرى من كلام الراوي، كأنه سئل عن حكمة ذكر ذلك في ذلك الوقت، فقالك ليحذر أمته أن يصنعوا بقبره مثل ما صنع اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم. واتخاذ القبور مساجد أعم من أن يكون بمعنى الصلاة إليها، أو بمعنى الصلاة عليها. وفي مسلم: لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها، ولا عليها. والظاهر أن العلة سد الذريعة والبعد عن التشبه بعبدة الأوثان الذين يعظمون الجمادات التي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر، ولما في إنفاق المال في ذلك من العبث والتبذير الخالي عن النفع بالكلية، ولأنه سبب لإيقاد سرج عليها الملعون فاعله، ومفاسد ما يبنى على القبور من المشاهد والقباب لا تحصر. وقال التوربشتي الحنفي في شرح المصابيح: معنى إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - على اليهود والنصارى صنيعهم هذا مخرج على وجهين: أحدهما أنهم كانوا يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لهم، والثاني أنهم كانوا يتحرون الصلاة في مدافن الأنبياء، والسجود على مقابرهم، والتوجه إلى قبورهم حالة الصلاة نظرا منهم بأن ذلك الصنيع أعظم موقعا عند الله لاشتماله على الأمرين: عبادة الله سبحانه، والمبالغة في تعظيم الأنبياء، وذهابا إلى أن تلك البقاع بإقامة الصلاة والتوسل بالعبادة فيها إلى الله لاختصاصها بقبور الأنبياء، وكلا الطريقين غير مرضية، أما الأولى فلأنها من الشرك الجلي، أما الثانية فلأنها

(4/296)


متضمنة معنى ما من الإشراك في عبادة الله حيث أتى بها على صنعة
متفق عليه.
718- (25) وعن جندب، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد،
الإشراك أو التبعية لمخلوق. والدليل على ذم الوجهين قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. والوجه الأول أشبه به. وأما نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته عن الصلاة في المقابر فإنه لمعنيين: أحدهما لمشابهة ذلك الفعل سنة اليهود، وإن كان القصدان مختلفين، والثاني لما يتضمنه من الشرك الخفي حيث أتى في عبادة الله بما يرجع إلى تعظيم مخلوق فيما لم يؤذن له. قال: والصلاة في المواضع المتبركة بها من مقابر الصالحين داخلة في جملة هذا النهي، لا سيما إذا كان الباعث تعظيم هؤلاء، وتخصيص تلك الموضع لما أشرنا إليه من الشرك الخفي-انتهى كلام التوربشتي بقدر الضرورة. قلت: ويدخل أيضا في هذا النهي والوعيد اتخاذ مسجد بجوار نبي أو صالح، والصلاة عند قبره لا لتعظيمه، ولا بالتوجه نحوه بل لحصول مدد منه، ورجاء كمال عبادته ببركة مجاورته لتلك الروح، وهذا لأن اتخاذ المسجد بقربه وقصد التبرك به تعظيم له، ولأن في هذا الصنيع أيضا من المفاسد ما لا يخفى، ولأنه لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدا من أمته بالاستفاضة بقبره أو بقبر أحد من صلحاء أمته، ولا بالاستمداد منه، ولا بالمجاورة به، ولا التبرك به، وإنما أمر أمته بالسلام على أهل القبور والدعاء والاستغفار لهم عند زيارة القبور وحث على الاعتبار بهم، فالاستفاضة بالقبور، والاستمداد منها، والتبرك بها ولو كان بدون التوجه إليها حرام عندنا لكونه داخلا في الشرك الخفي. واعلم أنه قد استشكل ذكر النصارى في الحديث؛ لأنه ليس لهم نبي إلا عيسى عليه السلام، إذ لا نبي بينه وبين محمد -

(4/297)


صلى الله عليه وسلم -، وهو حي في السماء لم يمت، فليس له قبر، وأجيب بأن ضمير الجمع في قوله "أنبيائهم" للمجموع من اليهود والنصارى، فإن اليهود لهم أنبياء، أو المراد الأنبياء وكبار أتباعهم، فاكتفى بذكر الأنبياء، ويؤيده رواية جندب التالية حيث قال: كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ولهذا أفرد النصارى، كما في رواية لعائشة رضي الله عنها عند الشيخين. قال: إذا مات فيهم الرجل الصالح، ولما أفرد اليهود كما في حديث أبي هريرة قال: قبور أنبيائهم، أو أنه كان فيهم أنبياء أيضا لكنهم غير مرسلين كالحواريين، أو يقال: أنبياء اليهود أنبياء النصارى؛ لأن النصارى مأمورون بالإيمان بكل رسول، فرسل بني إسرائيل يسمون أنبياء في حق الفريقين، والمراد من الإتخاذ أعم من أن يكون ابتداعا أو إتباعا، فاليهود ابتدعت، والنصارى اتبعت، ولا ريب أن النصارى تعظم قبور كثير من الأنبياء الذين تعظمهم اليهود، وخصص اليهود بالذكر في حديث أبي هريرة لكونهم ابتدعوا هذا الاتخاذ فهم أظلم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة، والجنائز، والمغازي، ومسلم في الصلاة، وأخرجه أيضا النسائي.
718- قوله: (ألا) للتنبيه. (وإن) بالكسر على تقدير أنبهكم وأقول إن. قال القاري: وروى بالفتح، فالتقدير: تنبهوا واعلموا أن. (من كان قبلكم) أي اليهود والنصارى، أو أعم منها. (ألا فلا تتخذوا القبور مساجد) كرر التنبيه
إني أنهاكم عن ذلك)) رواه مسلم.
719- (26) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبورا))

(4/298)


بإقحام أداته بين السبب والمسبب مبالغة، وكرر النهي أيضا كما كرر التنبيه بقوله. (إني أنهاكم عن ذلك) وفي الصحيحين عن عائشة: أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح، فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، وأولئك شرار الخلق عندالله يوم القيامة. قال الحافظ: وإنما فعل ذلك أوائلهم ليتأنسوا برؤية تلك الصور، ويتذكروا أحوالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم، ثم خلف من بعدهم خلوف جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان أن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها فاعبدوها، فحذر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مثل ذلك سدا للذريعة المؤدية إلى ذلك. (رواه مسلم) ....

(4/299)


719- قوله: (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم) قيل من زائدة، والمراد من الصلاة النوافل، والتقدير: اجعلوا صلاتكم أي نوافلكم في بيوتكم، يدل على هذا ما رواه مسلم من حديث جابر مرفوعا: إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته. وفي الصحيحين حديث: صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة. وإنما شرع ذلك لكونه أبعد من الرياء، وليتبرك به البيت، وتنزل الرحمة فيه والملائكة، وتنفر الشياطين منه، لكن استثنى منه ركعتا الطواف والإحرام، وتراويح رمضان، وصلاة الكسوف والاستسقاء وتحية المسجد، وصلاة القدوم من السفر، وما ورد من صلاته - صلى الله عليه وسلم - بعض النوافل في المسجد- كركعتين بعد المغرب مثلا – فهو لبيان الجواز، وقيل: من للتبعيض، والمراد من الصلاة مطلق الصلاة، والمعنى: اجعلوا بعض صلاتكم وهو النفل من الصلاة المطلقة في بيوتكم، والصلاة المطلقة تشمل النفل والفرض، قال القاري: "من صلاتكم" مفعول أول و"في بيوتكم" مفعول ثان، قدم على الأول للإهتمام بشأن البيوت، أي اجعلوا بعض صلاتكم التي هي النوافل مؤداة في بيوتكم، وإن من حقها أن يجعل لها نصيبا من الطاعات لتصير منورة؛ لأنها مأواكم ومنقلبكم، وليست كقبوركم التي لا تصلح لصلاتكم، ولذا قال: (لاتتخذوها) أي بيوتكم. (قبورا) بأن تتركوا الصلاة فيها كما تتركون في المقابر، والمعنى: أعطوا البيوت حظها من الصلاة، ولا تجعلوها كالمقابر حيث لا يصلى فيها، فأحال على المقابر لكونها معهودة معروفة بهذه الصفة بحسب الحس والمشاهدة والشرع، ويؤيده ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: لا تجعلوا بيوتكم مقابر. فالحديث فيه دليل على كراهة الصلاة في المقابر، وعليه حمله البخاري في صحيحه حيث عقد عليه "باب كراهية الصلاة في المقابر"، وقد نقل ابن المنذر عن أكثر أهل العلم أنهم استدلوا بهذا الحديث على أن المقبرة ليست بموضع الصلاة، وكذا قال البغوي

(4/300)


في شرح السنة
متفق عليه.
?الفصل الثاني?
720- (27) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بين المشرق والمغرب قبلة)).
والخطابي. وقيل: المراد من الحديث الندب إلى الصلاة في البيوت، إذ الموتى لا يصلون كأنه قال: لا تكونوا كالموتى الذين لا يصلون في بيوتهم، وهي القبور. وقيل: المراد لا تجعلوا بيوتكم وطنا للنوم فقط لا تصلون فيها، فإن النوم أخو الموت، والميت لا يصلي. ويحتمل أن يكون المراد أن من لم يصل في بيته جعل نفسه كالميت وبيته كالقبر، ويؤيده ما رواه مسلم: مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه كمثل الحي والميت. وهذا يرجع إلى المعنى الثاني. وقيل: المراد النهي عن دفن الموتى في البيوت، والمعنى: لا تدفنوا في بيوتكم موتاكم لئلا يكدر عليكم معايشكم ومأواكم، ولأن استمرار الدفن في البيوت ربما صيرها مقابر فتصير الصلاة فيها مكروهة، ولفظ حديث أبي هريرة عند مسلم أصرح من حديث ابن عمر وهو قوله: لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن ظاهره يقتضي النهي عن الدفن في البيوت مطلقا. (متفق عليه) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.

(4/301)


720- قوله: (ما بين المشرق والمغرب قبلة) قد اضطربت أقوال العلماء في شرح هذا الحديث ومعناه، فقال العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي: هذا الحديث كحديث أبي أيوب المتقدم: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا. إنهما كلاهما فيما كان من المواضع سمته وجهته كسمت المدينة وجهتها؛ لأنها في شمال مكة، بينها وبين الشام، فإذا استقبل القبلة استدبر الشام، وإذا استدبر القبلة استقبل الشام، وإن المراد بقوله: ما بين المشرق والمغرب قبلة، أن الفرض على المصلى إذا كان بعيدا عن الكعبة أن يتوجه جهتها، لا أن يصيب عينها على اليقين، فإن هذا محال أو عسير-انتهى. وقال العراقي: ليس هذا عاما في سائر البلاد، وإنما هو بالنسبة إلى المدينة المشرفة وما وافق قبلتها، قال: ولسائر البلدان من السعة في القبلة مثل ذلك بين الجنوب والشمال ونحو ذلك. وقال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عن معنى الحديث فقال: هذا في كل البلدان إلا بمكة عند البيت فإنه إن زال عنه شيئا وإن قل فقد ترك القبلة، ثم قال: هذا المشرق- وأشار بيده- وهذا المغرب – وأشار بيده- وما بينهما قبلة. قلت: فصلاة من صلى بينهما جائزة؟ قال: نعم. وينبغي أن يتحرى الوسط. قال ابن عبدالبر: تفسير قول أحمد هذا في كل البلدان يريد أن البلدان كلها لأهلها في قبلتهم مثل ما لمن كانت قبلتهم بالمدينة الجنوب التي يقع لهم فيها الكعبة، فيستقبلون جهتها ويتسعون يمينا وشمالا فيها ما بين المشرق والمغرب، يجعلون المغرب عن أيمانهم والمشرق عن يسارهم، وكذلك لأهل اليمن من السعة في قبلتهم مثل ما بين المشرق والمغرب إذا توجهوا أيضا قبل القبلة إلا أنهم يجعلون المشرق

(4/302)


عن أيمانهم والمغرب عن يسارهم، وكذلك أهل العراق وخراسان لهم من السعة في استقبال القبلة ما بين الجنوب والشمال مثل ما كان لأهل المدينة من السعة فيما بين المشرق والمغرب، وكذلك ضد العراق على ضد ذلك أيضا، وإنما تضيق القبلة كل الضيق على أهل المسجد الحرام، وهي لأهل مكة أوسع قليلا، ثم هي لأهل الحرم أوسع قليلا ثم لأهل الآفاق من السعة على حسب ما ذكرنا_ انتهى. قال الترمذي: قال ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة إذا استقبلت القبلة. وقد ذكر العلامة أحمد بن علي المقريزي هذا الحديث في أثناء الفصل الذي عقده في خططه(1) عن المحاريب التي بديار مصر (ج4: ص21-33 من طبعة مصر سنة 1326) ومما قال في شرحه: إذا تأملت وجدت هذا الحديث يختص بأهل الشام والمدينة وما على سمت تلك البلاد شمالا وجنوبا فقط، والدليل على ذلك أنه يلزم من حمله على العموم إبطال التوجه إلى الكعبة في بعض الأقطار، وقد عرفت إن كنت تمهرت في معرفة البلدان وحدود الأقاليم أن الناس في توجههم إلى الكعبة كالدائرة حول المركز، فمن كان في الجهة الغربية من الكعبة فإن جهة قبلة صلاته إلى المشرق، ومن كان في الجهة الشرقية من الكعبة فإنه يستقبل في صلاته جهة المغرب، ومن كان في الجهة الشمالية من الكعبة فإنه يتوجه في صلاته إلى جهة الجنوب، ومن كان في الجهة الجنوبية من الكعبة كانت صلاته إلى جهة الشمال، ومن كان من الكعبة فيما بين المشرق والجنوب فإن قبلته فيما بين الشمال والمغرب، ومن كان من الكعبة فيما بين الجنوب والمغرب فإن قبلته فيما بين الشمال والمشرق، ومن كان من الكعبة فيما بين المشرق والشمال فقبلته فيما بين الجنوب والمغرب، ومن كان من الكعبة فيما بين الشمال والمغرب فقبلته فيما بين الجنوب والمشرق، إلى آخر ما قال. وقد علمت مما تقدم أن الحديث على هذا المعنى يدل على أن الواجب استقبال جهة الكعبة في حق من بعد عن الكعبة

(4/303)


وتعذرت عليه العين، وقد ذهب إليه أكثر السلف مالك، وأحمد، وأبوحنيفة وغيرهم، وهو ظاهر ما نقله المزني عن الشافعي، ووجه الاستدلال به على ذلك أن المراد أن بين الجهتين قبلة لغير المعاين ومن في حكمه؛ لأن المعاين لا تنحصر قبلته بين الجهتين المشرق والمغرب، بل كل الجهات في حقه سواء متى قابل العين. فالحديث دليل على أن ما بين الجهتين قبلة، وأن الجهة كافية في الاستقبال، وذهب الشافعي في أظهر القولين عنه: أن فرض من بعد إصابة العين، وأنه يلزمه ذلك بالظن، وقوله تعالى: ?حيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره? [2: 144] يدل على كفاية الجهة، إذ العين في كل محل تتعذر على كل مصل، فالحق أن الجهة كافية لمن تعذر عليه العين. وقال ابن المبارك في معنى الحديث: ما بين المشرق. (أى مشرق الشتاء) والمغرب. (أى مغرب الصيف) قبلة، هذا لأهل المشرق، واختبار التياسر لأهل مرو-انتهى. قال الشوكاني: أراد ابن المبارك بالمشرق البلاد التي يطلق عليها اسم المشرق كالعراق مثلا، فإن قبلتهم أيضا بين المشرق والمغرب وقد ورد مقيدا بذلك في بعض طرق حديث أبي هريرة: ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل العراق. رواه البيهقي في الخلافيات، وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه قال: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة لأهل المشرق- انتهى.
(1) أعنى به كتابة "الواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار".
رواه الترمذي.

(4/304)


قال المظهر: يعني من جعل من أهل المشرق أول المغارب-وهو مغرب الصيف- عن يمينه وآخر المشارق - وهو مشرق الشتاء- عن يساره كان مستقبلا للقبلة، والمراد بأهل المشرق أهل الكوفة وبغداد وخوزستان وفارس وعراق وخراسان وما يتعلق بهذه البلاد-انتهى. فليس المراد بأهل المشرق في قولي ابن المبارك وابن عمر جميع من هم في المشرق إلى أقصى المعمورة، بل أهل العراق وبخاري وبلخ وسمرقند ونحوهم؛ لأن بلادهم في مشرق الصيف من المدينة، وقبلتهم بين مغرب الصيف ومشرق الشتاء. وانظر الخريطة وهي هذه:
وقال بعضهم: أراد به بيان قبلة من التبس عليه قبلته فإلى أي جهة صلى بالتحري والاجتهاد كفته. قال تعالى: ?ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله? [2: 115] وقال بعضهم: المراد منه المتطوع على الدابة في السفر إلى أي جهة. وفي القولين نظر، إذا لا وجه فيهما للتقييد بما بين المشرق والمغرب، قاله القاري. وقال بعضهم: المراد منه صحة الصلاة في جميع الأرض، ذكره الزيلعي في نصب الراية (ج1: ص304) وقيل: المراد به بيان حكم المريض الذي لا يقدر أن يتوجه إلى القبلة. وقيل: هو محمول على المجاهد المطلوب. والراجح عندي هو القول الأول، والله أعلم بالصواب. (رواه الترمذي) وابن ماجه كلاهما من طريق أبي معشر نجيح السندي وهو صدوق أسن واختلط فتكلم فيه من قبل حفظه. وقد تابعه عليه علي بن
721- (28) وعن طلق بن علي، قال: ((خرجنا وفدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبايعناه، وصلينا معه، وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا، فاستوهبناه من فضل طهوره، فدعا بماء، فتوضأ

(4/305)


ظبيان قاضي حلب كما رواه ابن عدي في الكامل قال: ولا أعلم يرويه عن محمد بن عمرو غير علي بن ظبيان، وأبي معشر، وهو بأبي معشر أشهر منه بعلي بن ظبيان. قال: ولعل عليا سرقه من أبي معشر، وذكر قول ابن معين فيه: أنه ليس بشيء، وقول النسائي: أنه متروك الحديث. وقد تابعه عليه أيضا أبوجعفر الرازي، رواه البيهقي في الخلافيات، وأبوجعفر وثقة ابن معين، وابن المديني، وأبوحاتم، والحاكم، وابن عبدالبر، وابن سعد. وقال أحمد والنسائي: ليس بقوي. وقال الحافظ: صدوق سيء الحفظ. وقد أخرج الترمذي الحديث من طريق أخرى غير طريق أبي معشر، وقال: حديث حسن صحيح. وقال أيضا: هو أقوى من حديث أبي معشر وأصح. وقد خالفه البيهقي فقال بعد إخراجه من هذه الطريق: هذا إسناد ضعيف. قال الشوكاني: فنظرنا في الإسناد فوجدنا عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس بن شريق قد تفرد به عن المقبري، وقد اختلف فيه فقال علي بن المديني: إنه روى أحاديث مناكير، ووثقة ابن معين وابن حبان، فكان الصواب ما قاله الترمذي-انتهى. قلت: الحديث قد تأيد بروايته من حديث ابن عمر، فقد رواه الحاكم (ج1: ص205) من طريق شعيب بن أيوب، عن عبدالله بن نمير، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا، ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فإن شعيب بن أيوب ثقة وقد أسنده، ورواه محمد بن عبدالرحمن بن مجبر-وهوثقة- عن نافع، عن ابن عمر مسندا، ثم أخرجه كذلك (ج1: ص206) وقال: هذا حديث صحيح، قد أوقفه جماعة عن عبدالله بن عمر، ووافقه الذهبي على ما قال، وزاد: وصححه أبوحاتم الرازي موقوفا على عبدالله، ورواه البيهقي في السنن الكبرى (ج2: ص9) عن الحاكم بالإسنادين ثم قال: تفرد بالأول ابن مجبر وتفرد بالثاني يعقوب بن سفيان الخلال، والمشهور رواية الجماعة: حماد بن سلمة، وزائدة بن قدامة، ويحيى بن سعيد القطان وغيرهم، عن عبيدالله، عن نافع، عن ابن عمر عن عمر من قوله-انتهى. ورواه أيضا

(4/306)


الدارقطني (ص101) بالإسنادين. قلت: الرفع زيادة ثقة فنقبل، ولا تكون رواية من أوقفها علة للحديث بل تكون مؤيدة له، وليس ههنا قرينة على كون الرفع وهما. والله أعلم.
721- قوله: (خرجنا وفدا) الوفد بفتح الواو وإسكان الفاء، جماعة قاصدة عظيما لشأن من الشؤون فهو حال أي قاصدين، يقال: وفد إلى أو على الأمير كضرب إذا قدم وورد رسولا فهو وافد والجمع وفد ووفود. (فبايعناه) أي على التوحيد والرسالة والسمع والطاعة. (بيعة) بكسر الباء وهي معبد النصارى. (فاستوهبناه) الفاء عطفت ما بعدها على المجموع أي خرجنا وفعلنا فاستوهبناه أي سألناه أن يعطينا. (من فضل طهوره) بفتح الطاء، والظاهر أن المراد ما استعمله في الوضوء وسقط من أعضائه الشريفة، ويحتمل أن المراد ما بقي في الإناء عند الفراغ من الوضوء، قال ابن حجر: من
وتمضمض، ثم صبه لنا في إدواة، وأمرنا فقال: اخرجوا فإذا أتيتم أرضكم، فاكسروا بيعتكم، وانضحوا مكانها بهذا الماء، واتخذوها مسجدا. قلنا: إن البلد بعيد، والحر شديد، والماء ينشف. فقال: مدوه من الماء، فإنه لا يزيده إلا طيبا)) رواه النسائي.
722- (29) وعن عائشة، قالت: ((أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببناء المسجد في الدور،

(4/307)


تبعيضية وهي وما بعدها في محل نصب بدل اشتمال من المفعول به. (وتمضمض) منه بعد الوضوء أو في أثنائه. (ثم صبه) أي الماء المتمضمض به زيادة على مطلوبهم فضلا، ويمكن أن يكون المصبوب هو الماء الباقي المطلوب. (في إدواة) بكسر الهمزة ظرف صغير من جلد. (وأمرنا) أي بالخروج. (فقال) بيان للأمر، أو أمرنا بمعنى أراد أمرنا فقال: (اخرجوا) إذنا بالخروج. (فإذا أتيتم أرضكم) أي دياركم. (فاكسروا) بكسر السين. (بيعتكم) أي غيروا محرابها وحولوه إلى الكعبة، وقيل: خربوها. (وانضحوا) بكسر الضاد وفتحها من ضرب وفتح أي رشوا. (مكانها بهذا الماء) ليصل إليها بركة فضل وضوئه، فالإشارة إلى فضل الوضوء. (واتخذوها) أي البيعة يعني مكانها. (مسجدا) فيه دليل على جواز اتخاذ البيع مساجد، وغيرها من الكنائس وبيوت الأصنام ونحوها ملحق بها بالقياس. (والحر) بالنصب ويرفع. (ينشف) بالتخفيف بصيغة المجهول، يقال نشف الثوب العرق-بالكسر- ونشف الحوض الماء ينشفه إذا شربه. (مدوه من الماء) أي زيدوا فضل ماء الوضوء من الماء غيره يعني صبوا عليه ماء آخر. (فإنه لا يزيده إلا طيبا) قال الطيبي: الضمير في "فإنه" إما للماء الوارد أو المورود، أي الوارد لا يزيد المورورد الطيب ببركته إلا طيبا أو المورورد الطيب لا يزيد بالوارد إلا طيبا-انتهى. وفي الحديث التبرك بفضله - صلى الله عليه وسلم -، ونقله إلى البلاد، ونظيره ماء زمزم، قيل: ويؤخذ من ذلك أن فضلة وارثيه من العلماء والصلحاء كذلك. (رواه النسائي) أي عن هناد بن السري، عن ملازم هو ابن عمر، وعن عبدالله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه طلق بن علي. وقد أكثر الناس في قيس بن طلق، والحق أنه صدوق، وثقه العجلي، وابن معين في رواية عثمان بن سعد عنه. وقال ابن القطان: يقتضي أن يكون خبره حسنا لا صحيحا، وأما بقية رجاله وهم من دون قيس بن طلق فهم ثقات. والحديث أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه مطولا عن خليفة: حدثنا مسدد

(4/308)


بن مسرهد: حدثنا ملازم بالسند المتقدم، قال: خرجنا ستة وفدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - الحديث. نقله ميرك عن التخريج، كذا في المرقاة.
722- قوله: (أمر) الظاهر أن الأمر للندب لا للوجوب فكان معناه أذن. وهذا لأن مبناه على دفع المشقة عنهم كما سيأتي. (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببناء المسجد في الدور) جمع دار وهو اسم جامع للبناء والعرصة والمحلة، والمراد المحلات، فإنهم كانوا يسمون المحلة التي اجتمعت فيها قبيلة دارا. قال البغوي في شرح السنة: يريد بالدور المحال التي
وأن ينظف ويطيب)) رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه.
723- (30) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أمرت بتشييد المساجد،

(4/309)


فيها الدور. ومنه قوله تعالى: ?سأريكم دار الفاسقين? [7: 145]؛ لأنهم كانوا يسمون المحلة التي اجتمعت فيها قبيلة دارا. ومنه الحديث: ما بقيت دار إلا بني فيها مسجد. قال سفيان: بناء المساجد في الدور يعني القبائل أي من العرب يتصل بعضها ببعض وهو بنو أب واحد يبنى لكل قبيلة مسجد، هذا ظاهر معنى تفسير سفيان الدور. قال أهل اللغة: الأصل في إطلاق الدور على المواضع، وقد تطلق على القبائل مجازا. وحكمة أمره لأهل كل محلة ببناء مسجد فيها أنه قد يتعذر أو يشق على أهل محلة الذهاب للأخرى فيحرمون أجر المسجد وفضل إقامة الجماعة فيه فأمروا بذلك ليتسر لأهل كل محلة العبادة في مسجدهم من غير مشقة تلحقهم. وقال البغوي: قال عطاء: لما فتح الله على عمر الأمصار أمر المسلمين ببناء المساجد وأمرهم أن لا يبنوا مسجدين يضار أحدهما الآخر، ومن المضارة فعل تفريق الجماعة إذا كان هناك مسجد يسعهم، فإن ضاق سن توسعته أو اتخاذ مسجد يسعهم. (وأن ينظف) أي يطهر كما في رواية ابن ماجه أي من الأقذار. (ويطيب) أي يرش العطر ويجوز أن يحمل التطيب على التجمير بالبخور في المسجد، وفيه أنه يستحب تجمير المسجد بالبخور، فقد كان عبدالله يجمر المسجد إذا قعد عمر على المنبر، واستحب بعض السلف التخليق بالزعفران والطيب، وروى عنه عليه السلام فعله. قال الشعبي هو سنة، وأخرج ابن أبي شيبة أن ابن الزبير لما بنى الكعبة طلى حيطانها بالمسك. وفيه أنه يستحب كنس المسجد وتنظيفه، وقد روى ابن أبي شيبة أنه عليه السلام كان يتتبع غبار المسجد بجريدة. (رواه أبوداود) مسندا وسكت عنه. (والترمذي) مسندا ومرسلا. وقال: المرسل أصح. وإنما صحح الترمذي إرساله؛ لأن في سند الموصول عامر بن صالح وقد ضعفه بعض العلماء وكذبه ابن معين، لكنه رواه غير الترمذي موصولا من غير طريق عامر بن صالح، فرواه أبوداود، وابن ماجه من طريق زائدة بن قدامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مسندا

(4/310)


مرفوعا، وزائدة ثقة ثبت. ورواه ابن ماجه أيضا من طريق مالك بن سعير عن هشام بن عروة، ومالك بن سعير لا باس به، وأيضا عامر بن صالح قال فيه أحمد بن حنبل: ثقة لم يكن صاحب كذب. والحديث أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه.
723- قوله: (ما أمرت) بضم الهمزة وكسر الميم، مبني للمفعول وما نافية. (بتشديد المساجد) أي برفعها وأعلاء بنائها. قال البغوي في شرح السنة: التشييد رفع البناء وتطويله، ومنه قوله تعالى: ?ولو كنتم في بروج مشيدة? [4: 78] وهي التي طول بنائها، يقال: شدت الشيء أشيده مثل بعته أبيعه إذا بنيته بالشييد وهو الجص، وشيدته تشييدا طولته ورفعته. وقيل: المراد بالبروج المشيدة المجصصة. قال ابن رسلان: والمشهور في الحديث أن المراد بتشييد المساجد هنا رفع البناء وتطويله كما قال البغوي-انتهى. والحديث قد استدل به بعضهم على منع تشييد المساجد
قال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى)) رواه أبوداود.
724- (31) وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أشراط الساعة أن يتباهي الناس في المساجد)).

(4/311)


وفيه نظر؛ لأن نفي كون التشييد مأمورا به لا يقتضي الكراهة والمنع بل يدل على عدم الوجوب، ونفي الوجوب قد يتحقق بجواز الفعل أيضا فلا يستوجب الكراهة والمنع، فتشييد المسجد وإحكام بنائه بما يستحكم به الصنعة من غير تزيين وتزويق وزخرفة ليس بمكروه عندنا إذا لم يكن مباهاة ورياء وسمعة لما تقدم من حديث عثمان بن عفان: من بنى لله مسجدا بنى الله له مثله في الجنة. وأيضا يؤيده ما فعله عثمان في خلافته في بناء المسجد النبوي، فإنه صنع ما صنع في بنائه مستدلا بهذا الحديث، وكل ما صنع كان من باب الإحكام والتجصيص من غير تزويق وزخرفة، وأما الحجارة المنقوشة فلم يكن نقشها بأمره بل حصلت له كذلك منقوشة، ولم يكن عند الذين أنكروا عليه من الصحابة دليل يوجب المنع إلا الحث على إتباع ما فعله - صلى الله عليه وسلم - وعمر في بناء المسجد من ترك الرفاهية، وهذا لا يقتضي منع التشييد وكراهته. (قال ابن عباس) هو موقوف لكنه في حكم المرفوع؛ لأنه إخبار عن ما يأتي، وهو لا يكون إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الأمير اليماني: هذا مدرج من كلام ابن عباس كأنه فهمه من الأخبار النبوية من أن هذه الأمة تحذو حذو بني إسرائيل. (لتزخرفنها) بفتح اللام على أنها جواب القسم، وبضم المثناة وفتح الزاي، وسكون الخاء المعجمة، وضم الفاء، وتشديد النون، وهي نون التأكيد. والزخرفة الزينة، وأصل الزخرف الذهب، ثم استعمل في كل ما يتزين به. قال الخطابي معنى قوله: لتزخرفنها، لتزيننها. وأصل الزخرف الذهب، يريد تموية المساجد بالذهب ونحوه، ومنه قولهم: زخرف الرجل كلامه إذا موهه وزينه بالباطل. (كما زخرفت اليهود والنصارى) أي بيعهم وكنائسهم، يعني أن اليهود والنصارى زخرفوا مساجدهم عندما حرفوا أمر دينهم وتركوا العمل بما في كتبهم، فأنتم تصيرون إلى مثل حالهم إذا طلبتم الدنيا بالدين، وتركتم الإخلاص في العمل، وصار أمركم إلى المراآة بالمساجد والمباهاة في

(4/312)


تشييدها وتزينها. قال القاري: هذا أي زخرفة المساجد بدعة؛ لأنه لم يفعله عليه الصلاة والسلام. وفيه موافقة أهل الكتاب-انتهى. قال البخاري في صحيحه: أمر عمر ببناء المسجد وقال: أكن الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس. وهذا الحديث فيه معجزة ظاهرة لإخبار عما سيقع بعده، فإن تزويق المساجد والمباهاة بزخرفتها قد كثر في هذا الزمان في جميع بلاد المسلمين إلا بلاد نجد، فسلام على نجد ومن حل بالنجد. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه، وذكر البخاري قول ابن عباس المذكور تعليقا، وإنما لم يذكر البخاري المرفوع للاختلاف على يزيد بن الأصم في وصله وإرساله، قاله الحافظ.
724- قوله: (من أشراط الساعة) جمع شرط بالتحريك وهو العلامة، قدم الخبر على المبتدأ للإهتمام به وزيادة الإنكار على فاعله لا للتخصيص ولا للحصر أي من علامات القيامة. (أن يتباهى الناس) أي يتفاخرون، والتباهي إما
رواه أبوداود، والنسائي، والدارمي، وابن ماجه.
725- (32) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد. وعرضت على ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها))

(4/313)


بالقول كما ستعرف أو بالفعل كأن يبالغ كل واحد في تزين مسجده وتزويقه وغير ذلك، وفيه دلالة مفهمة بكراهة ذلك. (في المساجد) أي في بنائها يعني يتفاخر كل أحد بمسجده، يقول: مسجدي أرفع أو أزين أو أوسع أو أحسن علوا وزينة، رياء وسمعة واجتلابا للمدحة، أو يأتون بهذا الفعل الشنيع-وهو المباهاة بما ذكر- وهم جالسون في المساجد. والحديث على المعنيين مما يشهد بصدقه الوجود، فهو من جملة المعجزات الباهرة له - صلى الله عليه وسلم -. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (والنسائي والدارمي وابن ماجه) واللفظ للنسائي وابن ماجه، ورواه أبوداود والدارمي بلفظ: لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد. وهكذا رواه ابن حبان في صحيحه، وأخرجه أبويعلى في مسنده، وابن خزيمة في صحيحه بلفظ: يأتي على الناس زمان يتباهون بالمسجد ثم لا يعمرونها إلا قليلا. وعند أبي نعيم في كتاب المساجد: يتباهون بكثرة المساجد.

(4/314)


725- قوله: (عرضت علي) لعل هذا العرض في ليلة المعراج. (أجور أمتي) أي ثواب أعمالهم. (حتى القذاة) بزنة حصاة وهي ما يقع في العين من تراب أو تبن أو وسخ، ثم استعمل في كل شيء يقع في البيت وغيره إذا كان يسيرا، والمراد هنا الشيء القليل مما يؤذي المسلمين سواء كان من تين أو وسخ أو غير ذلك، ولا بد في الكلام من تقدير مضاف أي أجور أعمال أمتي، وأجر القذاة أي أجر إخراج القذاة، إما بالجر وحتى بمعنى إلى والتقدير: إلى إخراج القذاة، وعلى هذا قوله: (يخرجها الرجل من المسجد) جملة مستأنفة للبيان، وإما بالرفع عطفا على أجور، فالقذاة مبتدأ ويخرجها خبره. وهذا إخبار بأن ما يخرجه الرجل من المسجد وإن قل فهو مأجور فيه؛ لأن فيه تنظيف بيت الله، ويفيد الحديث بمفهومه أن من الأوزار إدخال القذاة إلى المسجد، وفيه تنبيه بالأدنى على الأعلى؛ لأنه إذا كتب هذا القليل وعرض على نبيهم فيكتب الكبير ويعرض من باب الأولى. (فلم أر ذنبا) أي يترتب على نسيان. (أعظم من سورة) أي من ذنب نسيان سورة كائنة. (من القرآن) فإن قلت: هذا مناف لما مر في باب الكبائر، قلت: إن سلم أن أعظم وأكبر مترادفان، فالوعيد على النسيان لأجل أن مدار هذه الشريعة على القرآن، فنسيانه كالسعي في الإخلال بها. فإن قلت: النسيان لا يؤاخذ به، قلت: المراد تركها عمدا إلى أن يفضي إلى النسيان، وقيل: المعنى أعظم من الذنوب الصغار إن لم تكن عن استخفاف وقلة تعظيم، كذا في الأزهار شرح المصابيح. (أو آية) أو للتنويع. (أوتيها رجل) أي تعلمها أو حفظها عن ظهر قلب. (ثم نسيها) قال الطيبي: إنما قال: أوتيها دون حفظها، إشعارا بأنها كانت نعمة جسيمة أولاها الله ليشكرها، فلما
رواه الترمذي وأبوداود.
726- (33) وعن بريدة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) رواه الترمذي، وأبوداود.

(4/315)


نسيها فقد كفر تلك النعمة، فبالنظر إلى هذا المعنى كان أعظم جرما، فلما عد إخراج القذاة التي لا يؤبه لها من الأجور تعظيما لبيت الله عد أيضا النسيان من أعظم الجرم تعظيما لكلام الله سبحانه، فكأن فاعل ذلك عد الحقير عظيما بالنسبة إلى العظيم فأزاله عنه، وصاحب هذا عد العظيم حقيرا فأزاله عن قلبه. (رواه الترمذي) في فضائل القرآن واستغربه. (وأبوداود) في الصلاة وسكت عنه، وقال الترمذي: ذاكرت به محمد بن إسماعيل يعني البخاري فلم يعرفه واستغربه. قال محمد: ولا أعرف للمطلب بن عبدالله يعني الراوي له عن أنس سماعا من أحد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا قوله: حدثني من شهد خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: وسمعت عبدالله بن عبدالرحمن، يقول: لا يعرف للمطلب سماع من أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال عبدالله: وأنكر علي بن المديني أن يكون المطلب سمع من أنس-انتهى. وقال المنذري بعد نقل كلام الترمذي هذا: وفي إسناده عبدالمجيد بن عبدالعزيز بن أبي رواد الأزدي، وثقة يحيى بن معين، وتكلم فيه غير واحد-انتهى. قلت: ووثقة أيضا أحمد وأبوداود والنسائي كما في تهذيب التهذيب. وقال الحافظ في بلوغ المرام: وصححه ابن خزيمة.

(4/316)


726- قوله: (بشر) هذا من الخطاب العام ولم يرد به امرأ واحدا بعينه، قاله السيوطي. وقال السندي: لعله خطاب لكل من يتولى تبليغ الدين ويصلح له. (المشائين) بالهمزة والمد من صيغ المبالغة والمراد منه كثرة مشيهم ويعتادون ذلك، لا من اتفق منهم المشي مرة أو مرتين. (في الظلم) بضم الظاء وفتح اللام جمع ظلمة بسكونها أي ظلمة الليل، والحديث يشمل العشاء والصبح بناء على أنها تقام بغلس. (إلى المساجد) قيل: لو مشى في الظلام بضوء لدفع آفات الظلام فالجزاء بحاله، وإلا فلا، قاله ابن الملك. وعلى هذا فالمراد من "في الظلم" أي في وقت ظلمة الليل وإن كان معهم مصباح. (بالنور) متعلق ببشر. (التام) الذي يحيط بهم من جميع جهاتهم، أي على الصراط لما قاسوا مشقة المشي في ظلمة الليل جوزوا بنور يضيء لهم ويحوط بهم. (يوم القيامة) قال الطيبي: في وصف النور بالتام وتقييده بيوم القيامة تلميح إلى وجه المؤمنين يوم القيامة في قوله تعالى: ? نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا? [66: 8]، وإلى وجه المنافقين في قوله تعالى: ?انظرونا نقتبس من نوركم? [57: 13] انتهى. (رواه الترمذي) من طريق إسماعيل الكحال، عن عبدالله بن أوس، عن بريدة، واستغربه. (وأبوداود) من هذا الطريق وسكت عنه. وقال المنذري: قال الدارقطني: تفرد به إسماعيل بن سليمان الضبي الكحال عن عبدالله بن أوس. وقال المنذري في الترغيب: رجال إسناده ثقات.
727 ، 728 - (35، 34) ورواه ابن ماجه، عن سهل بن سعد، وأنس.
729- (36) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد،
فاشهدوا له بالإيمان؛ فإن الله يقول: ?إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر?.

(4/317)


وأخرجه ابن ماجه بلفظ من حديث أنس-انتهى. قلت: إسماعيل الكحال، قال أبوحاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ. وقال الحافظ: صدوق يخطئ. وعبدالله بن أوس الخزاعي ذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ: لين الحديث. فالظاهر أن الحديث حسن، ويؤيده توثيق المنذري لرجال إسناده. وتفرد إسماعيل وعبدالله لا يضر؛ لأن له شواهد كثيرة بمعناه، وبعضها بلفظه أو بنحوه، وبعض أسانيدها صحاح وبعضها حسان من أحاديث بعض الصحابة، وكلها مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وانظرها في الترغيب (ج1: ص106) ومجمع الزوائد (ج2: ص31، 30).
728، 727- قوله: (ورواه ابن ماجه عن سهل بن سعد) وأخرجه أيضا ابن خزيمة في صحيحه، و الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين. وقال في الزوائد: إسناده حسن، و صححه الحاكم وإبراهيم بن محمد الحلبي (شيخ ابن ماجه) قال ابن حبان في الثقات: يخطئ، وقال الذهبي في الكاشف: صدوق. وباقي رجاله ثقات. قال السندي: وهذا يؤيد قول من قال: إسناده حسن (وأنس) قال في الزوائد: إسناده ضعيف.

(4/318)


729- قوله: (يتعاهد المسجد) أي: يخدمه ويعمره. وقيل: المراد التردد إليه في إقامة الصلاة وجماعته. وهذا هو التعهد الحقيقي وهو عمارته صورة ومعنى. وفي رواية للترمذي "يعتاد" بدل يتعاهد" أي: يلازم المسجد ويرجع إليه كرة بعد أخرى. قال الطيبي: التعهد والتعاهد الحفظ بالشئ، وفي التعاهد المبالغة لأن الفعل إذا أخرج على زنة المبالغة دل على قوته، وورد في رواية للترمذي "يعتاد" بدل "يتعاهد" وهو أقوى سندا وأوفق معنى لشموله جميع ما يناط به المسجد من العمارة واعتياد الصلاة وغيرها. ألا ترى إلى ما أشهد به النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله (فاشهدوا له) أي: اقطعوا له القول (بالإيمان) لأن الشهادة قول صدر عن مواطأة القلب اللسان على سبيل القطع-انتهى. قال السندي: وهو الموافق للاستشهاد بالآية، لكن يشكل عليه حديث سعد: قال في رجل إنه مؤمن فقال - صلى الله عليه وسلم -: أو مسلم. رواه في الصحيحين، فإنه يدل على المنع عن الجزم بالإيمان إلا أن يقال ذلك الرجل لم يكن ملتزما للمساجد، أو يراد بالإيمان ههنا الإسلام، وفيه أن الجزم بالإسلام لا يحتاج إلى ملازمة المساجد، والأقرب أن المراد بالشهادة الاعتقاد وغلبة الظن-انتهى. وقال ابن حجر: بل التعهد أولى، أي: من لفظ يعتاد لأنه مع شموله لذلك يشمل تعهدها بالحفظ، والعمارة، والكنس، والتطييب، وغير ذلك ما يدل عليه استشهاده عليه السلام بالآية الآتية (إنما يعمر مساجد الله) أي: بإنشائها أو ترميمها، أو إحيائها بالعبادة والدروس ?من آمن بالله واليوم الآخر? [18:9] قال في الكشاف: عمارتها كنسها وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح،
رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي.
730- (37) وعن عثمان بن مظعون، قال: ((يارسول الله ! ائذن لنا في الاختصاء. فقال رسول الله : ((ليس منا من خصى ولا اختصى، إن خصاء أمتي الصيام. فقال: ائذن لنا في السياحة.

(4/319)


وتعظيمها واعتيادها بالعبادة والذكر، وصيانتها عما لم تبن له المساجد من حديث الدنيا فضلا عن فضول الحديث-انتهى (رواه الترمذي) في الإيمان، وفي التفسير، وحسنه (وابن ماجه والدارمي) وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، والحاكم كلهم من طريق دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد. قال الحاكم: صحيح الإسناد. قال الذهبي في سنده دراج وهو كثير المناكير. وكذا قال أحمد، وقال ابن معين: ثقة. وقال يحيى بن سعيد: ليس به بأس. وقال الحافظ: صدوق في حديثه عن أبي الهيثم ضعف.

(4/320)


730- قوله: (عن عثمان بن مظعون) بالظاء المعجمة ابن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح الجمحي القرشي، يكنى أبا السائب، أسلم بعد ثلاثة عشرة رجلا ، وهاجر هجرتين، وشهد بدرا، وكان ممن حرم الخمر في الجاهلية، وكان عابدا مجتهدا، من فضلاء الصحابة، وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين في شعبان على رأس ثلاثين شهرا من الهجرة بعد شهوده بدرا، وقيل: بعد اثنين وعشرين شهرا من مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة. ولما غسل وكفن قبله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين عينيه، ولما دفن قال: نعم السلف هو لنا. وهو أول من دفن ببقيع الغرقد من المهاجرين، ووضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجرا عند رأسه، وقال: هذا قبر فرطنا (ائذن لنا في الاختصاء) أي: سل الخصيتين لتزول شهوة النساء لأنه تشق علينا العزبة في المغازي (ليس منا) أي: ممن يقتدى بسنتنا ويهتدي بطريقتنا، لكن هذا التأويل لا يقال إلا في مقام التعليم، فلا يقال للعامة لئلا تتساهل في ذلك (من خصى) أي: سل خصية غيره (ولا اختصى) أي: بنفسه بحذف "من" لدلالة ما قبله عليه، يعني ولا من سل خصية نفسه واخرجها. قيل: واحتيج لتقدير "من" لئلا يتوهم أن المنهى عنه الجمع بينهما. قال ابن حجر: وكل من هذين حرام. وفي معناه إطعام دواء لغيره أو أكله، إن كان يقطع الشهوة والنسل دائما. وكذا نادرا إن أطعم غيره بغير إذنه (إن خصاء) بكسر الخاء (أمتي الصيام) أي: فأكثروا الصوم، فإنه يكسر الشهوة وضررها. كما أفاده قوله - صلى الله عليه وسلم -: يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء. يعني أن تكثير الصوم مسكن لشهوة الجماع وقاطع لها مع ما فيه من سلامة النفس من التعذيب وقطع النسل، ومن حصول الثواب بالصوم المقتضي لرياضة النفس المؤدية إلى إطاعتها لأمر الله تعالى. وفيه دليل على كراهة الاستمناء باليد (في السياحة) بكسر السين المهملة

(4/321)


بعدها تحتية، وهي مفارقة الأمصار والذهاب في الأرض كفعل عباد بني إسرائيل،
قال: إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله. فقال: ائذن لنا في الترهب. فقال: إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد انتظار الصلاة)). رواه في شرح السنة.
731- (38) وعن عبدالرحمن بن عائش، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رأيت ربي عزوجل في أحسن صورة.
قال الطيبي: (إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله) وهو أفضل، فإنه عبادة شاقة على النفس ونفعه متعد إلى الغير، وهو يشمل الجهاد الأكبر والأصغر (في الترهب) أي: في التعبد، وإرادة العزلة، والفرار من الناس إلى رؤوس الجبال كالرهبان. وأصل الترهب من الرهب بمعنى الخوف، كانوا يترهبون بالتخلي من أشغال الدنيا وملاذها. (انتظار الصلاة) بالإضافة، ونصبه بأنه مفعول له للجلوس أي: لانتظار الصلاة، فإن الجلوس في المسجد يتضمن فوائد الترهب مع زيادة الفضائل (رواه) أي: البغوي (في شرح السنة) بسنده المتصل من حديث سعد بن مسعود الصحابي: أن عثمان بن مظعون أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يارسول الله ! ائذن لنا في الاختصاء. وساقه بسند فيه مقال، قاله ميرك. وقال الحافظ في الإصابة (ج2:ص27) في ترجمة سعد بن مسعود الكندي: قال ابن المبارك في الزهد: أنبأنا رشدين بن سعد، عن ابن أنعم عن سعد بن مسعود أن عثمان بن مظعون أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ائذن لنا في الاختصاء-فذكر الحديث انتهى. وروى الطبراني في الكبير عن ابن عباس: ليس منا من خصى أو اختصى، ولكن صم ووفر شعر جسدك. قال المناوي: قاله لعثمان بن مظعون لما قال له: إني رجل شبق فأذن لي في الاخصاء. وأخرج الطبراني أيضا من حديث عثمان نفسه أنه قال: يارسول الله ! إني رجل يشق على العزوبة فأذن لي في الخصاء، قال: لا ولكن بالصيام-الحديث. ومن طريق سعيد بن العاص أن عثمان قال: يارسول الله ! ائذن لي في الاختصاء، فقال: إن الله قد أبدلنا بالرهبانية الحنيفية

(4/322)


السمحة.
731- قوله: (عبدالرحمن بن عائش) بكسر الهمزة والشين المعجمة، كذا في المفاتيح. وقال في التقريب بمثانة تحتية ثم معجمة يعنى أن أصله ياء، قال ابن حبان: له صحبة. وقال ابن السكن: يقال: له صحبة. وذكره في الصحابة محمد بن سعد، والبخاري، وأبوزرعة الدمشقي، وأبوالحسن بن سميع، وأبوالقاسم، والبغوي، وأبوزرعة الحراني، وغيرهم. وقال أبوحاتم الرازي: أخطأ من قال: له صحبة. وقال ابن خزيمة، والترمذي: لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال البخاري: له حديث واحد إلا أنهم مضطربون فيه، كذا في الإصابة (ج2:ص45) وقال في تهذيب التهذيب (ج6:ص204): عبدالرحمن بن عائش الحضرمي- ويقال السكسكي- مختلف في صحبته، وفي إسناد حديثه (رأيت ربي عزوجل في أحسن صورة) الصواب أن هذا الحديث مستند إلى رؤيا رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يدل على ذلك
قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت أنت أعلم. قال: فوضع كفه بين كتفي، فوجدت بردها بين ثدي، فعلمت ما في السموات والأرض،

(4/323)


حديث ابن عباس عند الترمذي ففيه: أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة، قال أحسبه قال: في المنام، ويدل على ذلك أيضا حديث معاذ بن جبل الآتي في الفصل الثالث فإن فيه: فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي في أحسن صورة. قال الحافظ ابن كثير بعد نقله عن مسند أحمد: وهو حديث المنام المشهور، ومن جعله يقظة غلط-انتهى. والروايات التي أطلق فيها الرؤية محمولة على المقيدة. وإليه أشار الدارمي حيث بوب على حديث عبدالرحمن بن عائش هذا "باب رؤية الرب تعالى في النوم" وعلى هذا فلا إشكال في الحديث، إذ الرأى قد يري غير المتشكل متشكلا والمتشكل بغير شكله، ثم لم يعد ذلك بخلل في الرؤيا ولا في خلد الرأي، بل له أسباب أخرى تذكر في علم المنام أي: التعبير، ولولا تلك الأسباب لما افتقرت رؤيا الأنبياء عليهم السلام إلى تعبير، وعلى تقدير كون ذلك في اليقظة فمذهب السلف في مثل هذا من أحاديث الصفات إذا صح أن يمر كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، وأن يؤمن به من غير تأويل له، وأن يسكت عنه وعن أمثاله مع الاعتقاد بأن الله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وقال من ذهب إلى التأويل: إن قوله في أحسن صورة، حال من الفاعل، أي: رأيت ربي حال كوني في أحسن صورة وصفة من غاية إنعامه ولطفه على، وإن كان حالا من المفعول فالمراد بالصورة صفته أو شأنه أو مثل ذلك، كما يقال: صورة المسألة كذا، وصورة الحال كذا، فإن إطلاق الصورة على الصفة شائع، والمعنى: رأيت ربي حال كون الرب في أحسن صفة أو شأن، قلت: مذهب السلف هو المنهج القويم والمسلك الصحيح فهو المتعين ولا حاجة إلى التأويل (قال) أي: ربي (فيم) أي: في أي: شيء (يختصم أي: يبحث (الملأ الأعلى) أي: الملائكة المقربون، والملأ هم الأشراف الذين يملؤن المجالس والصدور عظمة وإجلالا، وصفوا بالأعلى إما لعلو مكانهم وإما لعلو مكانتهم عند الله تعالى. قال الطيبي: المراد بالاختصام التقاول

(4/324)


الذي كان بينهم في الكفارات والدرجات، شبه تقاولهم في ذلك وما يجري بينهم من السؤال والجواب، بما يجري بين المتخاصمين (أنت أعلم) أي: بما ذكر وغيره، وزاد في المصابيح كما في الدارمي: أي: رب (قال) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (فوضع) أي: ربي (كفه بين كتفي) بتشديد الياء. قيل: هو مجاز من تخصيصه إياه بمزيد الفضل عليه وإيصال الفيض إليه، لأن من ديدن الملوك إذا أرادوا أن يدنوا إلى أنفسهم بعض خدمهم يضعون أيديهم على ظهره تلطفا به وتعظيما لشأنه فجعل ذلك حيث لا كف ولا وضع حقيقة كناية عن التخصيص بمزيد الفضل والتأييد - انتهى. قلت: قد تقدم في مثل هذا مذهب السلف أنه يؤمن بظاهره من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا يفسر بما يفسر به صفات الخلق بل تنفي عنه الكيفية ويوكل علم الكيفية إلى الله تعالى وهذا هو المعتمد المعمول عليه (فوجدت بردها بين ثدي) بالتثنية والإضافة إلى ياء المتكلم أي: قلبي وصدري. قال القاري: هو كناية عن وصول ذلك الفيض إلى قلبه، ونزول الرحمة، وانصباب العلوم عليه، وتأثره عنه، ورسوخه فيه، وإتقانه له –انتهى. وفيه ما تقدم آنفا (فعلمت ما في السموات والأرض) الأرض بمعنى الجنس أي: وما

(4/325)


في الأرضين السبع. قال القاري: يعني ما أعلمه الله تعالى مما فيهما من الملائكة والأشجار وغيرهما، وهو عبارة عن سعة علمه الذي فتح الله به عليه، قال: ويمكن أن يراد بالسموات الجهة العليا، وبالأرض الجهة السفلى، فيشمل الجميع لكن لا بد من التقييد الذي ذكرنا، إذ لا يصح إطلاق الجميع كما هو الظاهر-انتهى. اعلم أنه قد استدل بعض القبوريين في هذا الزمان بقوله: فعلمت ما في السموات والأرض، على ما ابتدعوا واعتقدوا من أن الله تعالى قد خص نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - من بين الأنبياء بعلم جميع ما كان من بدء الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، فكان علمه - صلى الله عليه وسلم - عند هؤلاء محيطا بجميع الأشياء حقائقها وعوارضها وصفاتها إحاطة تامة كلية بتعليم الله تعالى وإلهامه، كما أنه تعالى أحاط بكل شيء علما، ولا فرق بين علمه تعالى وعلم رسوله عندهم إلا أن علم الله ذاتي وحقيقي، وعلم رسوله ليس بذاتي بل وهبي، حصل له بتعليم الله وانكشف له الأشياء بإلهامه، وهذا كما تراه مخالف للعقل والنقل من النصوص الصريحة من كتاب الله وسنة رسوله، وتصريحات السلف الصالح من الصحابة والتابعين والمحدثين، وفقهاء المذاهب الأربعة، وغيرهم. قالوا في وجه الاستدلال: أن لفظه "ما" في الحديث للعموم الاستغراق فتعم جميع الممكنات من الموجودات، والمعدومات وذوات العقول، وغيرها بل تشتمل الواجبات والممتنعات أيضا. قلت: استدلالهم هذا مخدوش من وجوه بل باطل، الأول: أن لفظة "ما" في أصل الوضع لغير ذوى العقول عند المحققين فيخرج من مفهومها ذوات العقول كما يدل عليه قصة ابن الزبعري في قوله تعالى: ?إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم? [98:21] وعلى هذا فلا تكون الرواية دليلا على كون علمه - صلى الله عليه وسلم - محيطا بجميع الأشياء إحاطة كلية. والثاني: أن من ذهب إلى كونها شاملة لذوى العقول وهم

(4/326)


الأكثر من علماء الأصول قد صرحوا بأنها إنما تشمل صفات من يعقل فقط لا ذواتهم، أعنى أن ذوات من يعقل خارجة من مفهومها عندهم أيضا بحسب أصل الوضع، فلا تشملها إلا بقرينة ولا قرينة ههنا تدل على ذلك، بل الأمر بالعكس كما سيأتي، فبطل بذلك دعوى العلم الكلي له - صلى الله عليه وسلم -. والثالث: أن قوله: في السموات والأرض، في الحديث يدل على أن المراد بلفظه "ما" إنما هي الممكنات فقط لا الواجبات والممتنعات، وذلك لأن تقدير الكلام: فعلمت ما هو كائن، أو ثابت، أو متحقق، أو موجود، أو حاصل، أو مستقر، أو حادث في السموات والأرض. وهذا إنما هو شأن الممكن بالإمكان الخاص لا الواجب والممتنع، وهذا يبطل دعوى القبوريين بكون علمه عليه السلام كليا محيطا بجميع الأشياء. والرابع: أن سياق الحديث يدل على أن لفظة ما ههنا ليست للعموم والاستغراق، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد بين ذلك باستشهاده بقوله تعالى: ?وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض? [75:6] ما علمه الله عزوجل في المنام، وهو عجائب السموات والأرض فقط لا جميع ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، وإلا يلزم أن يقال: إن إبراهيم عليه السلام أيضا كان عالما بجميع الأشياء بعلم كلي محيط إحاطة تامة، ويبطل بذلك دعوى الخصوصية، وهو خلاف ما ذهب إليه القبوريون من أن ذلك من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، فلا مناص من أن يقال أن لفظة "ما" في الحديث ليست للعموم والاستغراق. والخامس: أنه قد ثبت بنصوص الكتاب والسنة
وتلا ?وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين? رواه الدارمي.

(4/327)


الصحيحة الصريحة عدم علمه - صلى الله عليه وسلم - ببعض الأشياء كما يدل عليه قوله تعالى: ?مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم? [101:9] وقوله: ?وما علمناه الشعر، وما ينبغي له? [69:36] وقوله: ?قل إنما علمها عند ربي? [187:7] وقوله عليه السلام (أنتم أعلم بأمور دنياكم). وقوله: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) وقوله في حديث الشفاعة (أحمده بمحامد لا أقدر عليه الآن يلهمنيه الله تعالى) وفي رواية (فأحمده بتحميد يعلمنيه ربي) وغير ذلك من الآيات والأحاديث الصحيحة الصريحة، فعدم علمه - صلى الله عليه وسلم - ببعض الأشياء أو ببعض أوصافها قرينة صريحة على أن لفظه "ما" في الحديث ليست للعموم والاستغراق، وهو يبطل دعوى القبوريين. وأما قولهم: بأن المراد بنفي علم الغيب عنه - صلى الله عليه وسلم - في بعض الآيات والأحاديث نفى العلم الذاتي لا الو هبي فهو تحكم محض وادعاء بحت ليست عليه أثارة من علم لا من كتاب، ولا من سنة، ولا من إجماع، ولا من قياس، بل يبطله قوله تعالى: ?ولا يحيطون بشيء من علمه? [255:2] وقوله: ?وما يعلم جنود ربك إلا هو? [31:74] فتفكر وتأمل ولا تعجل (وتلا) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - استشهادا على ما تقدم (وكذلك نرى إبراهيم) مضارع في اللفظ ومعناه الماضي والعدول لإرادة حكاية الحال الماضية استعجابا، أي: أرينا إبراهيم، يعني كما أن الله أرى إبراهيم عليه السلام ملكوت السموات والأرض وكشف له ذلك، فتح على أبواب الغيوب التي تليق لشأن الرسالة والكاف للتشبيه، وهي في محل نصب نعتا لمصدر محذوف فقدره الزمخشري: ومثل ذلك التعريف والتبصير نعرف إبراهيم ونبصره ملكوت. وقدره بعضهم: وكما أريناك يا محمد الهداية أو أحكام الدين، وعجائب ما في السموات وما في الأرض أرينا إبراهيم. وقال الخازن، معناه: وكما أرينا إبراهيم البصيرة في دينه، والحق في خلاف قومه وما كانوا عليه من الضلال في عبادة الأصنام، نريه ملكوت السموات

(4/328)


والأرض، فلهذا السبب عبر عن هذه الرؤية بلفظ المستقبل في قوله ?وكذلك نرى? لأنه تعالى كان أراه بعين البصيرة أن أباه وقومه على غير الحق فخالفهم فجزاه الله بأن أراه بعد ذلك ملكوت السموات ولأرض فحسنت هذه العبارة لهذا المعنى (ملكوت السموات والأرض) أي: ملكهما وهو فعلوت من الملك، وزيدت التاء والواو للمبالغة في الصفة، ومثله الرغبوت والرحموت والرهبوت مبالغة في الرغبة والرحمة والرهبة قيل: أراد بملكوتها ما فيهما من الخلق، وقيل: عجائبهما وبدائعهما، وقيل الربوبية والألوهية. أي: نريه ذلك ونوفقه لمعرفته بطريق الاستدلال التي سلكها. وقال ابن كثير: أي: نبين له وجه الدلالة في نظره إلى خلقها إلى وحدانية الله عزوجل في ملكه وخلقه وإنه لا إله غيره كقوله ?أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض? [185:7] (وليكون من الموقنين) عطف على مقدر، أي: ليستدل به على وحدانيتنا، ويصح أن يكون علة لمحذوف أي: وليكون من الموقنين فعلنا ذلك، والجملة معطوفة على الجملة قبلها، واليقين عبارة عن علم يحصل بسبب التأمل بعد زوال التشبه لأن الإنسان في أول الحال لا ينفك عن شبهة وشك، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت صارت سببا لحصول اليقين والطمأنينة في القلب (رواه الدارمي) في كتاب الرؤيا من طريق الوليد بن مسلم، عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، عن خالد بن اللجلاج، عن عبدالرحمن بن عائش الحضرمي أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: رأيت ربي – الحديث. وأخرجه أيضا
مرسلا.
733، 732- (40، 39) وللترمذي نحوه عنه،

(4/329)


من هذا الطريق ابن خزيمة، والبغوي وابن السكن، وأبونعيم. ووقع في أسانيدهم التصريح بسماع عبدالرحمن من النبي - صلى الله عليه وسلم - (مرسلا) إنما أطلق عليه المرسل مع التصريح فيه بسماع عبدالرحمن بن عائش من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن ابن عائش هذا مختلف في صحبته كما تقدم، والراجح عند المصنف أنه لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن "سمعت" في هذا الحديث وهم. قال ميرك: قوله: رواه مرسلا، بل معضلا فإن عبدالرحمن هذا مختلف في صحبته، والصحيح أنه لم يدرك النبي- صلى الله عليه وسلم -بل رواه عن مالك بن يخامر، عن معاذ بن جبل، كما في مسند أحمد وهو إسناد جيد – انتهى.

(4/330)


733، 732- قوله: (وللترمذي) أي: في تفسير سورة ص (نحوه) أي: نحو هذا اللفظ أي: معناه (عنه) أي: عن عبدالرحمن لكن لم يذكر الترمذي لفظ حديثه، بل قال بعد إخراج حديث معاذ بن جبل الآتي في الفصل الثالث: قال البخاري: هذا أصح من حديث الوليد بن مسلم، عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر قال: حدثنا خالد بن اللجلاج: حدثني عبدالرحمن بن عائش الحضرمي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر الحديث، وهذا غير محفوظ، هكذا ذكر الوليد في حديثه عن عبدالرحمن بن عائش قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ورواه بشر بن بكر عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر هذا الحديث بهذا الإسناد عن عبدالرحمن بن عائش، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا أصح، وعبد الرحمن بن عائش لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -- انتهى كلام الترمذي. وقال ابن خزيمة "سمعت" في هذا الحديث وهم فإن هذا الخبر لم يسمعه عبدالرحمن، ثم استدل على ذلك بما أخرجه هو والترمذي من رواية أبي سلام، عن عبدالرحمن بن عائش، عن مالك ابن يخامر، عن معاذ بن جبل فذكر نحوه، قال الترمذي: صحيح. وقال أبوعمرو: هو الصحيح عندهم، وقال، وقد سبقه ابن خزيمة: لم يقل في حديثه: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -إلا الوليد بن مسلم. قال الحافظ في الإصابة (ج2: ص405) في ترجمة عبدالرحمن بن عائش: لم ينفرد الوليد بن مسلم بالتصريح المذكور بل تابعه حماد بن مالك الأشجعي والوليد بن يزيد البيروتي، وعمارة بن بشر، وغيرهم عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر. فأما الوليد بن يزيد فأخرجه الحاكم، وابن مندة والبيهقي من طريق العباس بن الوليد، عن أبيه: حدثنا ابن جابر، قال: وهذه متابعة قوية للوليد بن مسلم، وأما حماد بن مالك فأخرجه البغوي. وابن خزيمة من طريقه، قال: حدثنا ابن جابر، وأما رواية عمارة بن بشر فأخرجها الدارقطني في كتاب الرواية من طريقه: حدثنا عبدالرحمن بن جابر، فذكر نحو رواية حماد بن مالك،

(4/331)


وزاد: وذكر ابن جابر عن أبي سلام أنه سمع عبدالرحمن بن عائش يقول في هذا الحديث: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر بعضه. وأما رواية بشر الذي أشار إليها الترمذي فأخرجها الهيثم بن كليب في مسنده، وابن خزيمة والدار القطني من طريقه، عن ابن جابر عن خالد سمعت عبدالرحمن بن عائش يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ذكر الحافظ الاختلاف على خالد بن اللجلاج فقال: وروى هذا الحديث يزيد بن يزيد بن جابر أخو عبدالرحمن، عن خالد فخالف أخاه، أخرجه أحمد من طريق زهير بن محمد عنه عن خالد، عن عبدالرحمن بن عائش، عن رجل من الصحابة فزاد فيه رجلا ، ولكن رواية
وعن ابن عباس، ومعاذ بن جبل، وزاد فيه: ((قال: يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم، في الكفارات. والكفارات: المكث في المساجد

(4/332)


زهير بن محمد عن الشاميين ضعيفة كما قال البخاري وغيره، وهذا منها. وقال هشام الدستوائي عن أبي قلابة، عن خالد ابن اللجلاج، عن ابن عباس أخرجه الترمذي وأبويعلى، عن قتادة، عن أبي قلابة. وقد ذكر أحمد بن حنبل أن قتادة أخطأ فيه، والقول ما ابن جابر. ورواه أيوب عن أبي قلابة مرسلا لم يذكر خالدا، أخرجه الترمذي وأحمد، وكذا أرسله بكر بن عبدالله المزني عن أبي قلابة أخرجه الدارقطني، ورواه سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أبي قلابة فخالف الجميع، قال: عن أبي أسماء، عن ثوبان، وهي رواية أخطأ فيه سعيد بن بشير وأشد منها خطأ رواية أخرجها أبوبكر النسيابوري في الزيادات من طريق يوسف بن عطية، عن قتادة، عن أنس، وأخرجها الدارقطني، ويوسف متروك. قال: ويستفاد من مجموع ما ذكرت قوة رواية عبدالرحمن بن يزيد بن جابر بإتقانها، ولأنه لم يختلف عليه فيها. وأما رواية أبي سلام فاختلف عليه. وروى حماد بن مالك كما تقدم كرواية عبدالرحمن بن يزيد بن جابر. وخالفه زيد بن سلام. فرواه عن جده أبي سلام، عن عبدالرحمن بن عائش، عن مالك بن يخامر، عن معاذ، وقد ذكره مطولا، وفيه قصة، هكذا رواه جهضم بن عبدالله اليمامي، عن يحيى بن أبي كثير، عن زيد. أخرجه أحمد(ج 5: ص243) وابن خزيمة والرؤياني والترمذي والدارقطني وابن عدي وغيرهم. وخالفهم موسى بن خلف فقال: عن يحيى، عن زيد عن جده عن أبي عبدالرحمن السكسكي، عن مالك بن يخامر، عن معاذ، أخرجه الدارقطني وابن عدي. ونقل عن أحمد أنه قال: هذه الطريق أصحها. قال الحافظ: فإن كان الأمر كذلك فإنما روى هذا الحديث المالك بن يخامر أبوعبدالرحمن السكسكي لا عبدالرحمن بن عائش. ويكون للحديث سندان: ابن جابر عن خالد عن عبدالرحمن بن عائش. ويحي، عن زيد، أبي سلام، عن أبي عبدالرحمن عن مالك عن معاذ. ويقوي ذلك اختلاف السياق بين الراويتين- انتهى كلام الحافظ في الإصابة مختصرا ومخلصا ( وعن ابن عباس) عطف على عنه. والحديث أخرجه

(4/333)


الترمذي عن ابن عباس من طريق أبي قلابة، عن ابن عباس، وعنه، عن خالد بن اللجلاج، عن ابن عباس. وقال: حديث حسن. وأخرجه أيضا عبدالرزاق، وأبويعلى، وعبد بن حميد، ومحمد بن نصر (ومعاذ بن جبل) أراد حديثه الذي ذكره في الفصل الثالث، وقد تقدم تخريجه في كلام الحافظ (وزاد) أي: الترمذي ( فيه) أي: في نحوه من الحديث (قال) أي: الله تعالى سائلا مرة أخرى كما يدل عليه أول الحديث الذي اختصره المصنف، وهو مذكور عند الترمذي وغيره، وسياق الحديث الذي ذكره المصنف إنما هو من رواية أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس ( قلت نعم، في الكفارات) أي: يختصمون في الكفارات يعني في أعمال تكفر الذنوب، وفي رواية قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن ابن عباس في الدرجات والكفارات (والكفارات) مبتدأ وخبره "المكث في المساجد" الخ. وسميت هذه الخصال كفارات لأنها تكفر الذنوب عن فاعلها، فهي من باب تسمية الشيء باسم لازمه (في المساجد) وفي بعض نسخ الترمذي "المسجد" بلفظ
بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإبلاغ الوضوء في المكاره، فمن فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه، وقال: يا محمد! إذا صليت فقل: أللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، قال: والدرجات: إفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام). ولفظ هذا الحديث كما في "المصابيح" لم أجده عن عبدالرحمن إلا في شرح السنة.

(4/334)


الإفراد (بعد الصلوات) أي: بعد كل صلاة انتظار الصلاة أخرى، وفي الترمذي "بعد الصلاة" بلفظ الإفراد (والمشي على الأقدام إلى الجماعات) فإن الآتي إلى المسجد زائر الله، والزيارة على الأقدام أقرب إلى الخضوع والتواضع والتذلل (وإبلاغ الوضوء) بفتح الواو وتضم، أي: إيصال ماء الوضوء بطريق المبالغة مواضع الفروض والسنن. وفي الترمذي "إسباغ الوضوء" بدل إبلاغ. والإبلاغ بمعنى الإسباغ (في المكاره) جمع مكره بفتح ميم ما يكرهه شخص ويشق عليه أي: التوضى مع برد شديد وعلل، يتأذى معها بمس الماء. قال ابن الملك: إنما خص هذه الأشياء بالذكر حثا على فعلها لأنها دائمة فكانت مظنة أن تمل-انتهى (فمن فعل) وفي الترمذي "ومن" بالواو (ذلك) أي: المذكور (عاش بخير ومات بخير) كما دل عليه قوله تعالى: ?من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم بأحسن ما كانوا يعملون? [97:16] (وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه) أي: فيه بفتح "يوم" قال الطيبي: مبنى على الفتح لإضافته إلى الماضي، وإذا أضيف إلى المضارع اختلف في بناءه، أي: كان مبرأ كما كان مبرأ يوم ولدته أمه (إذا صليت) أي: فرغت من الصلاة (فعل الخيرات) بكسر الفاء، وقيل: بفتحها، وقيل: الأول اسم، والثاني مصدر، والخيرات ما عرف من الشرع من الأقوال الحميدة والأفعال السعيدة (وترك المنكرات) هي التي لم تعرف من الشرع من الأقوال القبيحة والأفعال السيئة (وحب المساكين) الظاهر أنه كما قبله من إضافة المصدر إلى المفعول، وهو تخصيص بعد تعميم لدخوله في الخيرات اهتماما بهاذ الفرد منه (فتنة) أي: ضلالة أو عقوبة دنيوية (فاقبضني) بكسر الباء، أي: توفني (غير مفتون) أي: غير ضال أو غير معاقب (قال) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (والدرجات) مبتدأ، أي: ما ترفع به الدرجات (إفشاء السلام) أي: بذله على من عرفه ومن لم يعرفه (والناس نيام) بكسر النون جمع نائم، والجملة حالية، وإنما عدت هذه

(4/335)


الأشياء من الدرجات لأنها فضل منه على ما وجب عليه فلا جرم استحق بها فضلا وهو علو الدرجات، هذا. وارجع لشرح الحديث مفصلا، وبسط الكلام عليه مطولا إلى كتاب "اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى" لابن رجب.
734- (41) وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة كلهم ضامن على الله: رجل خرج غازيا في سبيل الله، فهو ضامن على الله حتى يتوفاه، فيدخله الجنة، أو يرده بما نال من أجر أو غنيمة؛ ورجل راح إلى المسجد، فهو ضامن على الله؛ ورجل دخل بيته بسلام، فهو ضامن على الله)).
734- قوله: (ثلاثة) أي: أشخاص (كلهم) أي: كل واحد منهم، والإفراد باعتبار لفظ الكل. قال الخطابي: أنشدني أبوعمر، عن أبي العباس في كل بمعنى كل واحد:
فكلهم لا بارك الله فيهم… إذا جاء ألقى خده يتسمعا

(4/336)


(ضامن على الله) عدى الضمان بعلى بتضمين معنى الوجوب والمحافظة، والضامن بمعنى المضمون كدافق بمعنى مدفوق في قوله تعالى: ?من ماء دافق? [6:86]) وعاصم بمعنى معصوم في قوله: ?لا عاصم اليوم من أمر الله? [43:11] على تأويل و"راضية بمعنى مرضية" في قوله: ?عيشة راضية? [7:101) أو هو بمعنى ذو ضمان أي: حفظ ورعاية كلا بن وتامر أي: صاحب لبن وتمر. وحاصل المعنى أنه يجب على الله بمقتضى وعده الصادق أن يحفظ كلا من هؤلاء الثلاثة من الضرر والخيبة والضياع والآفة (خرج غازيا) أي: حال كونه مريدا للغزو (فهو ضامن على الله) أي: واجب الحفظ والرعاية على الله كالشئ المضمون (حتى يتوفاه) أي: يقبض روحه إما بالموت أو بالقتل في سبيل الله (فيدخله الجنة) أي: مع الناجين (أو يرده) عطف على يتوفاه (بما نال) أي: مع ما وجد (من أجر) أي: ثواب فقط (أو غنيمة) أي: مع الأجر فأو للتنويع (ورجل راح) أي: مشى إلى المسجد (فهو ضامن على الله) أي: يعطيه الأجر وأن لا يضيع سعيه، أو واجب الوقاية والرعاية، ووقع في سنن أبي داود بعد قوله "ضامن على الله" حتى يتوفاه، فيدخله الجنة، أو يرده بما نال من أجر أوغنيمة، وهكذا رواه الحاكم وكذا ذكره السيوطي في الجامع الصغير، وسقط هذا من جميع نسخ المشكاة (ورجل دخل بيته بسلام) يحتمل وجهين، أحدهما: أن يسلم على أهله إذا دخل منزله كقوله تعالى: ?فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم? [61:24] والمضمون عليه أن يبارك عليه وعلى أهله فمعنى قوله: (فهو ضامن على الله) أي: يعطيه البركة والثواب الكثير لما روى أنه عليه السلام قال لأنس: إذا دخلت على أهلك فسلم، يكون بركة عليك وعلى أهل بيتك. والوجه الآخر: أن يكون أراد بدخول بيته سالما من الفتن، أي: طالبا للسلامة منها. قال الطيبي: وهذا أوجه لأن المجاهدة في سبيل الله سفرا، والرواح إلى المسجد حضرا، ولزوم البيت اتقاء من الفتن آخذ بعضها بحجزة بعض، فعلى هذا المضمون به هو رعاية

(4/337)


الله تعالى وجواره من الفتن-انتهى. وإنما لم يذكر المضمون به في الأخير اكتفاء لظهور المراد وهو الأجر والمثوبة حسب ما يليق به من
رواه أبوداود
735- (42) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من خرج من بيته متطهرا إلى الصلاة مكتوبة؛ فأجره كأجر الحاج المحرم. ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه، فأجره كأجر المعتمر.
البركة والسلامة (رواه أبوداود) في الجهاد وسكت عنه، وأخرجه أيضا ابن حبان والحاكم في الجهاد وقال "صحيح" ووافقه الذهبي.

(4/338)


735- قوله: (من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة، فأجره كأجر الحاج المحرم) أي: كما أن الحاج إذا كان محرما قبل الميقات كان ثوابه أتم، فكذلك الخارج إلى الصلاة إذا كان متطهرا من بيته كان ثوابه أفضل، شبه بالحاج المحرم لكون التطهر من الصلاة بمنزلة الإحرام من الحج لعدم جوازهما بدونهما. وقيل: المراد كأصل أجره، وقيل: كأجره من حيث أنه يكتب له بكل خطوة أجر كالحاج، وإن تغاير الأجران كثرة وقلة أو كمية وكيفية. وقال الطيبي: من خرج من بيته أي: قاصدا إلى المسجد لأداء الفرائض. وإنما قدرنا القصد ليطابق الحج لأنه القصد الخاص، فنزل النية مع التطهير منزلة الإحرام. وأمثال هذه الأحاديث ليست للتسوية، كيف وإلحاق الناقص بالكامل يقتضى فضل الثاني وجوبا ليفيد المبالغة، وإلا كان عبثا، فشبه حال المصلي القاصد إلى المكتوبة بحال الحاج المحرم في الفضل مبالغة وترغيبا للمصلي ليركع مع الراكعين، ولا يتقاعد عن حضور الجماعات (تسبيح الضحى) أي: صلاة الضحى، وكل صلاة تطوع تسبيحة وسبحة. قال الطيبي: المكتوبة والنافلة وإن اتفقتا في أن كل واحدة منهما يسبح فيها إلا أن النافلة جاءت بهذا الاسم أخص من جهة أن التسبيحات في الفرائض والنوافل سنة، فكأنه قيل للنافلة تسبيحة على أنها شبيهة بأذكار في كونها غير واجبة (لا ينصبه) أي: لا يتعبه ولا يخرجه، بضم الياء من الأنصاب وهو الإتعاب، مأخوذ من نصب بكسر الصاد أي: تعب، وأنصبه غيره أي: أتعبه، ويروي بفتح الياء من نصبه إذا أقامه، قاله زين العرب. وقال التوربشتي: هو بضم الياء والفتح احتمال لغوي لا أحققه رواية (إلا إياه) أي: لا يزعجه ولا يحمله على الخروج إلا ذلك، أي: تسبيح الضحى. وحقه أن يقال: إلا هو، فوضع الضمير المنصوب موضع المرفوع. قال ابن الملك: وضع الضمير المنصوب موضع المرفوع لأنه استثناء مفرغ يعني لا يتعبه إلا الخروج إلى تسبيح الضحى (فأجره كأجر المعتمر) إشارة إلى أن فضل ما بين

(4/339)


المكتوبة ولا نافلة، والخروج إلى كل واحد منهما، كفضل ما بين الحج والعمرة، والخروج إلى كل واحد منهما. ولا تخالف بين هذا الحديث وحديث "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" لأن حديث الباب يدل على جوازه في المسجد لا على أفضليته، أو يحمل على من لا يكون له مسكن، أو في مسكنه شاغل ونحوه على أنه ليس للمسجد ذكر في الحديث أصلا، فالمعنى: من خرج من بيته أو سوقه أو شغله متوجها إلى صلاة الضحى تاركا أشغال الدنيا. وقال التوربشتي: يحتمل أن يكون قوله - صلى الله عليه وسلم -: يا أيها الناس صلوا في بيوتكم، فإن خير صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة، مختصا بصلاة
وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما، كتاب في عليين)) رواه أحمد، وأبوداود.

(4/340)


الليل وإن كان ظاهر لفظه يقتضي العموم، وذلك لأنه قال هذا القول بعد أن قام ليالي رمضان، فلما رآهم يجتمعون إليه ويتنحنحون ليخرج إليهم قال ذلك. ومن الدليل على صحة ما ذهبنا إليه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقعد في مصلاه حتى تطلع الشمس، ثم يركع ركعتين، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح حتى يسبح ركعتي الضحى لا يقول إلا خيرا إلا غفر له خطاياه، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، وكان - صلى الله عليه وسلم - يأتي مسجد قباء كل سبت ماشيا وراكبا فيصلي فيه ركعتين، فلو كانت صلاته هذا في البيت خيرا لم يكن ليأخذ بالأدنى ويدع الأعلى والأفضل. وإذ قد ثبت هذا فنقول الظاهر أنه أمرهم بالصلاة في بيوتهم لمعان، أو لبعض تلك المعاني: أحدها، وهو آكد الوجوه: أنه أحب أن يجعلوا لبيوتهم حظا من الصلاة، ولا يتركوا الصلاة فيها فيجعلوها قبورا مثل بيوت بني إسرائيل، فإنهم كانوا لا يصلون إلا في كنائسهم وبيعهم. والثاني: أحب أن يتنفلوا في بيوتهم ليشملها بركة الصلاة فيرتحل عنها الشيطان، وينزل فيها الخير والسكنية. والثالث: أنه رأى النافلة في البيت أفضل حذرا من دواعي الرياء وطلب المحمدة التي جبل عليها الإنسان ونظرا إلى سلامته من العوارض والموانع التي تصيبه في المسجد بخلاف البيت، فإنه يخلو هناك بنفسه فينسد مداخل تلك الآفات والعوارض. فعلى الوجه الأول والثاني، إذا أدى الإنسان بعض نوافله في البيت فقد خرج من عهدة ما شرع له. وعلى الوجه الثالث، إذا تمكن عن أداء نافلة في المسجد عارية عن تلك القوادح لم تتأخر صلاته تلك عن صلاته في البيت فضيلة. وأرى قوله "لا ينصبه إلا إياه" إشارة إلى هذا المعنى، وهو أن لا يشوب قصده ذلك شيء آخر، فلا يزعجه إلا القصد المجرد بخروجه إلى الصلاة سالما من الآفات التي أشرنا إليها- انتهى كلام التوربشتي مختصرا (وصلاة على

(4/341)


إثر صلاة) بكسر الهمزة وسكون الثاء وبفتحتين لغتان، أي: عقبيهما، يعني صلاة تتبع صلاة وتتصل بها ليلا ونهارا فرضا وسنة ( لا لغو بينهما) أي: ما لا يعني من القول والفعل، قال في النهاية: يقال: لغا الإنسان يلغو ولغى يلغى، إذا تكلم بالمطروح من القول وما لا يعني. وقال في القاموس: اللغو واللغى كالفتى السقط وما لا يعتد به من كلام وغيره - انتهى. فيشمل اللغو من الفعل كما جاء في الحديث: من مس الحصى فقد لغى (كتاب) أي: عمل مكتوب (في عليين) قال ابن رسلان: أي: مكتوب ومقبول تصعد به الملائكة المقربون إلى عليين لكرامة المؤمن وعمله الصالح. قال القاري: هو علم لديوان الخير الذي دون فيه أعمال الأبرار. قال تعالى ?إن كتاب الأبرار لفي عليين، وما أدراك ما عليون؟ كتاب مرقوم، يشهد المقربون? [ 21، 18:83) منقول من جمع علي فعيل من العو، سمى به لأنه مرفوع إلى السماء السابعة تكريما، ولأنه سبب الارتفاع إلى أعلى الدرجات، والعليلة بتشديد اللام والياء الغرفة، كذا قاله بعضهم. وقيل: أراد أعلى الأمكنة وأشرف المراتب، أي: مداومة الصلاة والمحافظة عليها من غير شوب بما ينافيها لا شيء من الأعمال أعلى منها فكنى عن ذلك بقوله في عليين (رواه أحمد وأبوداود) وسكت عنه. وقال المنذري: فيه القاسم أبوعبدالرحمن، وفيه مقال-انتهى. قلت: قد وثقه ابن معين، والعجلي،
736- (43) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قيل: يارسول الله ! وما رياض الجنة؟ قال: المساجد. قيل: وما الرتع؟ يارسول الله ! قال: سبحان الله، والحمدلله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)) رواه الترمذي.
ويعقوب بن سفيان، والترمذي، ويعقوب بن شيبة، وإسحاق الحربي، وغيرهم. فالحديث لا ينحط عن درجة الحسن.

(4/342)


736- قوله: (إذا مررتم برياض الجنة) جمع روضة وهي أرض مخضرة بأنواع النبات (فارتعوا) من رتعت الماشية رتعا ورتوعا من باب نفع. رعت كيف شاءت. قال في القاموس: رتع كمنع، أكل وشرب ما شاء في خصب وسعة، أو هو الأكل والشرب رغدا في الريف. وتلخيص الحديث: إذا مررتم بالمساجد قولوا هذه الأذكار، فلما وضع رياض الجنة موضع المساجد بناء على أن العبادة فيها سبب للحلول في رياض الجنة روعيت المناسبة لفظا ومعنى، فوضع الرتع موضع القول، أي: استعير للعوض في الأذكار الواقعة فيها، لأن هذا القول سبب لنيل الثواب الجزيل. والرتع هنا كما في قول إخوة يوسف ?يرتع ويلعب? [12:12] وهو أن يتسع في أكل الفواكه والمستلذات والخروج إلى التنزه في الأرباف والمياه كما هو عادة الناس إذا خرجوا إلى الرياض والبساتين، ثم اتسع واستعمل في الفوز بالثواب الجزيل والأجر الجميل (قيل: يارسول الله) السائل في الفصلين هو أبوهريرة راوي الحديث وهو صريح في كتاب الترمذي (وما رياض الجنة؟ قال: المساجد) وفي حديث أنس عند أحمد والترمذي: حلق الذكر. ولا منافاة بينهما لأنها تصدق بالمساجد وغيرها فهي أعم، وخصت المساجد هنا لأنها أفضل، قاله القاري. وفسر في حديث ابن عباس عند الطبراني في الكبير بمجالس العلم. قال الشوكاني: لا مخالفة بين هذه الأحاديث، فرياض الجنة تطلق على حلق الذكر، ومجالس العلم، والمساجد، ولا مانع من ذلك-انتهى. وقيل: اختلف الجواب في تفسير الرتع باختلاف أحوال السائلين، فرأى أن الأولى بحال سائل حلق العلم، وبحال سائل آخر حلق الذكر، ولهذا قال العلقمي: المراد من هذه الأحاديث في تفسير الرتع مناسبة كل شخص بما يليق به من أنواع العبادة (وما الرتع؟) بسكون المثناة الفوقية (يارسول الله ! قال: سبحان الله)إلخ. لا يخفى أن الرتع ليس منحصرا في هذه الأذكار، بل المقصود هذه وأمثالها من الباقيات الصالحات التي هي سبب وصول الروضات، ورفع الدرجات العالية، وهذا لأن

(4/343)


في قوله "حلق الذكر" في حديث أنس و"مجالس الذكر" في حديث جابر عند أبي يعلى، والبزار، والطبراني، والحاكم، والبيهقي إشارة إلى أن كل ذكر رتع، وإنما خصت الكلمات المذكورة بالذكر لأن الباقيات الصالحات في الآية مفسر بها. ولحديث "إنها أحب الكلام إلى الله" أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث سمرة بن جندب (رواه الترمذي) في الدعوات وغربه، وفي سنده حميد المكي، وهو مجهول، لكن له شواهد ترتقى بها إلى الصحة أو الحسن.
737- (44) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أتى المسجد لشيء، فهو حظه)) رواه أبوداود.
738- (45) وعن فاطمة بنت الحسين، عن جدتها فاطمة الكبرى، رضي الله عنها، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم، وقال: رب اغفرلي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج صلى على محمد وسلم، وقال: رب اغفرلي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك)).
737- قوله: (من أتى المسجد لشيء) أي: لقصد حصول شيء من غرض أخروي أو دنيوي (فهو) أي: ذلك الشيء (حظه) أي: نصيبه، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: إنما لكل امرئ ما نوى-الحديث. ففيه تنبيه على تصحيح النية في إتيان المسجد لئلا يكون مختلطا بغرض دنيوي كالتمشية والمصاحبة مع الأصحاب مثلا، بل ينوي العبادة كالصلاة، والاعتكاف، واستفادة علم وإفادته ونحوها (رواه أبوداود) وسكت عليه. وقال المنذري: في إسناده عثمان بن أبي العاتكة الدمشقي، وقد ضعفه غير واحد-انتهى. قلت: قال العجلي: لا بأس به، وكان دحيم يثنى عليه، وينسبه إلى الصديق. وقال أبوحاتم عنه: لا بأس به. وقال أبودواد: صالح. وقال خليفة: كان ثقة كثير الحديث. وقال الحافظ في التقريب: ضعفوه في روايته عن علي بن يزيد الألهاني-انتهى. وهذا الحديث إنما هو من روايته عن عمير بن هانئ العنسي، لا علي بن يزيد الألهاني، فحديثه هذا لا ينحط عن درجة الحسن، ويقويه حديث: إنما لكل امرئ ما نوى، إلخ.

(4/344)


738- قوله: (وعن فاطمة بنت الحسين) بن علي بن أبي طالب الهاشمية القرشية المدنية، تزوجها ابن عمها الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب، ومات عنها، فتزوجها عبدالله بن عثمان بن عفان. ثقة تابعية، روت عن أبيها وأخيها زين العابدين، وعمتها زينب بنت علي، وجدتها فاطمة الزهراء مرسل، وبلال المؤذن مرسل، وابن عباس، وأسماء بنت عميس، وروى عنها جماعة. ماتت بعد المائة وقد أسنت. ذكرها ابن حبان في الثقات، وقال: ماتت وقد قاربت التسعين. ووقع ذكرها في صحيح البخاري في الجنائز: قال: لما مات الحسن بن الحسن ضربت امرأته القبة (عن جدتها فاطمة الكبرى) أي: الزهراء بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمها خديجة، وهي أصغر بناته في قول. وهي سيدة نساء هذا الأمة. تزوجها علي بن أبي طالب في السنة الثانية من الهجرة في شهر رمضان، وبنى عليها في ذي الحجة. وكان سنها يوم تزوجها خمس عشر سنة وخمسة أشهر ونصف، فولدت له الحسن، والحسين، والمحسن، وزينب، وأم كلثوم، ورقية. وماتت بالمدينة بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بستة أشهر، وقيل: بثلاثة أشهر، وقيل: غير ذلك، ولها سبع وعشرون سنة. وقيل: ثمان، وقيل: جاوزت العرشين بقليل، وكان أول آل النبي - صلى الله عليه وسلم - لحوقا به. وغسلها علي مع أسماء بنت عميس، وصلى عليها. ودفنت ليلا. روى عنها جماعة من الصحابة، ومناقبها كثيرة جدا (إذا دخل المسجد) أي: أراد دخوله (صلى على محمد وسلم) تشريعا للأمة وبيانا، لأن حكمه حكم الأمة حتى ابتغاء الصلاة والسلام
رواه الترمذي، وأحمد، وابن ماجه، وفي روايتهما، قالت: إذا دخل المسجد، وكذا إذا خرج، قال: بسم الله، والسلام على رسول الله، بدل: صلى على محمد وسلم. وقال الترمذي: ليس إسناده بمتصل، وفاطمة بنت الحسين لم تدرك فاطمة الكبرى.
739- (46) وعن عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(4/345)


على نفسه إلا ما خصه الدليل، وإنما شرع الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند دخول المصلى المسجد وعند خروجه، لأنه السبب في دخوله المسجد، ووصوله الخير العظيم، فينبغي أن يذكره بالخير. وقال القاري: هو يحتمل قبل الدخول وبعده. والأول أولى. ثم حكمته بعد تعليم أمته أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجب عليه الإيمان بنفسه، كما كان يجب على غيره، فكذا طلب منه تعظيمها بالصلاة منه عليها، كما طلب ذلك من غيره-انتهى (رواه الترمذي) وقال: حديث حسن، وإنما حسنه مع اعترافه بعدم اتصال سنده كما سيأتي، لأن الترمذي قد يحسن الحديث مع ضعف الإسناد للشواهد لحديث فاطمة هذا حسنه لأن له شواهد يرتقى بها درجة الحسن (بسم الله والسلام على رسول الله) فيه زيادة التسمية وهي ثابتة أيضا عند ابن السني من حديث أنس، فينبغي لداخل المسجد والخارج منه أن يجمع بين التسمية والصلاة والسلام على رسول الله ، والدعاء بالمغفرة، وبالفتح لأبواب الرحمة داخلا، ولأبواب الفضل خارجا، ويزيد في الخروج سؤال الفضل، وينبغي أيضا أن يضم إلى ذلك ما سيأتي في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص مرفوعا: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، الخ (ليس إسناده بمتصل) لأن فاطمة الصغرى بنت الحسين تروى هذا الحديث عن جدتها فاطمة الكبرى، وهي ما أدركتها، لأن الكبرى ماتت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بستة أشهر، وفي سنده أيضا ليث ابن أبي سليم، وفيه مقال معروف. قال الحافظ: صدوق، اختلط أخيرا فلم يتميز حديثه، فترك.

(4/346)


739- قوله: (عن أبيه) شعيب (عن جده) أي: جد شعيب، وهو عبدالله بن عمرو بن العاص الصحابي، وقد صح سماع شعيب من جده عبدالله بن عمرو. والدليل على أن المراد بقولهم في الإسناد "عن جده" جد شعيب-أعنى عبدالله بن عمرو الصحابي – ما رواه البيهقي في السنن الكبرى (ج5:ص92) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، قال: كنت أطوف مع أبي عبدالله بن عمرو بن العاص. فهذا يشير إلى صحة ما قال الذهبي في الميزان: أن محمدا والد شعيب مات في حياة أبيه عبدالله، وترك ابنه شعيبا صغيرا، فكفله جده عبدالله ورباه ولذلك يسميه هنا أباه، إذ هو أبوه الأعلى وهو الذي رباه، ومما يدل صريحا على صحة سماع شعيب عن جده عبدالله بن عمرو ما رواه الدارقطني (ص310) والحاكم (ج2:ص65) في المستدرك عنه في قصة سؤال الرجل عن محرم وقع بامرأة، فإن فيه تصريحا بسماع شعيب من جده عبدالله، وإنه كان يجالسه، ويجالس الصحابة في عصره، وعلى هذا فحديث عمرو
عن تناشد الأشعار في المسجد، وعن البيع والشراء فيه، وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة في المسجد)) رواه أبوداود، والترمذي.

(4/347)


ابن شعيب عن أبيه عن جده، صحيح أو حسن إذا كان الإسناد إلى عمرو صحيحا، وهو الذي عليه المحققون من أهل الحديث: علي بن المديني وأحمد بن حنبل والحميدي وإسحاق بن راهويه وأبوعبيد والبخاري والحاكم والبيهقي، وغيرهم. وبه قال الذهبي والنووي وابن عبدالبر، وقد تقدم شيء من البسط في هذا في باب الإيمان بالقدر. وانظر تفصيل الكلام في تهذيب التهذيب (ج8:ص48-55) والميزان (ج2:ص289) والتدريب (ص221) ونصب الراية (ج1:ص59، 58) وتعليق الشيخ أحمد محمد شاكر على جامع الترمذي (ج2:ص141-144) (عن تناشد الأشعار) قال التوربشتي: التناشد أن ينشد كل واحد صاحبه نشيدا لنفسه أو لغيره افتخارا ومباهاة، أو على وجه التفكه بما يستطاب منه ترجية للوقت بما تركن إليه النفس أو لغيره، فهو مذموم، وأما ما كان منه في مدح الحق وأهله، وذم الباطل وذويه، أو كان منه تمهيدا لقواعد الدين، أو إرغاما لمخالفيه فهو خارج عن الذم وإن خالطه التشبيب. وقد كان يفعل ذلك بين يدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا ينهى عنه، لعلمه بالغرض الصحيح، كذا نقله الطيبي. وقيل التناشد هو المفاخر بالشعر، والإكثار منه حتى يغلب على غيره، وحتى يخشى منه كثرة اللغط والشغب مما ينافي حرمة المساجد، وهذا غير إنشاد بعض القصائد. وقيل المراد تناشد أشعار الجاهلية والمبطلين (وعن البيع والاشتراء فيه) فيه دليل على تحريم البيع والشراء في المسجد. وقال الشوكاني: ذهب جمهور العلماء إلى أن النهي محمول على الكراهة. قال العراقي: وقد أجمع العلماء على أن ما عقد البيع في المسجد لا يجوز نقضه، وهكذا قال الماوردي. وأنت خبير بأن حمل النهي على الكراهة يحتاج إلى قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي الذي هو التحريم عند القائلين: بأن النهي حقيقة في التحريم، وهو الحق، وإجماعهم على عدم جواز النقض وصحة العقد لا منافاة بينه وبين التحريم، فلا يصح جعله قرينة لحمل النهي على الكراهة (وأن يتحلق الناس يوم

(4/348)


الجمعة قبل الصلاة في المسجد) أي: نهى أن يجلسوا محلقين حلقة واحدة أو أكثر وإن كان لمذاكرة علم. وفيه دليل على حرمة التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة، وذلك لأنه ربما قطع الصفوف مع كونهم مأمورين بالتبكير يوم الجمعة، والتراص في الصفوف، الأول فالأول، ولأنه يخالف هيئة اجتماع المصلين، ولأن الاجتماع للجمعة خطب عظيم لا يسمع من حضرها أن يهتم ما سواها حتى يفرغ منها، والتحلق قبل الصلاة يوهم غفلتهم عن الأمر الذي ندبوا إليه، ولأن الوقت وقت الاشتغال بالإنصات للخطبة. والتقييد بقبل الصلاة يدل على جوازه بعدها للعلم، والذكر، والتقييد بيوم الجمعة يدل على جوازه في غيرها (رواه أبوداود) في أبواب الجمعة، وزاد: وأن تنشد فيه ضالة. وسكت عليه (والترمذي) وحسنه، وصححه ابن خزيمة. وقال الحافظ في الفتح: إسناده صحيح إلى عمرو بن شعيب، فمن يصحح نسخته يصححه. قال:وفي المعنى عدة أحاديث لكن في أسانيدها مقال-انتهى. والحديث أخرجه أيضا أحمد والنسائي وابن ماجه.
740- (47) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك. وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة، فقولوا: لا رد الله عليك)) رواه الترمذي، والدارمي.
741- (48) وعن حكيم بن حزام، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستقادر في المسجد، وأن ينشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود)) رواه أبوداود في سننه،

(4/349)


740- قوله: (يبيع أو يبتاع) أي: يشتري. قال القاري: حذف المفعول يدل على العموم فيشمل ثوب الكعبة، والمصاحف، والكتب، والسبح (فقولوا) أي: لكل منهما باللسان جهرا، وقيل: سرا (لا أربح الله تجارتك) أي: لا جعل الله تجارتك ذات ربح ونفع، وهو دعاء عليه. ولو قال لهما معا: لا أربح الله تجارتكما لجار لحصول المقصود (من ينشد فيه ضالة) أي: يطلبها برفع الصوت (رواه الترمذي) في آخر البيوع وحسنه (والدارمي) وأخرجه أيضا أحمد والنسائي في اليوم والليلة، وابن حبان وابن خزيمة والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، ذكره ميرك. وقد أخرج الشطر الثاني مسلم أيضا كما تقدم في الفصل الأول.

(4/350)


741- قوله: (وعن حكيم بن حزام) بكسر مهملة وفتح زاى، هو حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبدالعزى القرشي الأسدي. أبوخالد المكي، ابن أخي خديجة أم المؤمنين، ولد قبل الفيل بثلاث عشرة سنة، أسلم يوم الفتح، وكان من المؤلفة، أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من غنائم حنين مائة من الإبل، وحسن إسلامه، وكان من سادات قريش وأشرافها ووجوهها في الجاهلية والإسلام، و كان عاقلا فاضلا تقيا جوادا، أعتق في الجاهلية مائة رقبة، وفي الإسلام مثلها، وجاء الإسلام ودار الندوة بيده فباعها من معاوية بعد بمائة ألف درهم، فقال له ابن الزبير: بعت مكرمة قريش، فقال: ذهب المكارم إلا التقوى، اشتريت بها دارا في الجنة، أشهدكم أنى قد جعلتها في سبيل الله يعني الدراهم. وكان عالما بالنسب. مات بالمدينة في داره سنة (54) وله مائة عشرون سنة، ستون في الجاهلية وستون في الإسلام. وقيل في سنة وفاته غير ذلك، له أربعون حديثا، اتفقا على أربعة. روى عنه نفر (أن يستقاد) أي: يطلب القود أي: القصاص يعني يقتص (في المسجد) لئلا يقطر الدم فيه (وأن ينشد) بضم التحتية مذكرا، وفي أبي داود بالتأنيث: أي: يقرأ (الأشعار) أي: القبيحة المذمومة (وأن تقام فيه الحدود) أي: سائرها، أي: تعميم بعد تخصيص، أي: الحدود المتعلقة بالله، أو بالآدمي، لأن في ذلك نوع هتك حرمته، ولاحتمال تلوثه بجرح أو حدث، ولأنه إنما بنى المسجد للصلاة والذكر لا لإقامة الحدود. والحديث دليل على تحريم إقامة الحدود في المساجد وتحريم الإستفادة فيها، لأن النهي كما تقرر في الأصول حقيقة في التحريم، ولا صارف له ههنا عن معناه الحقيقي (رواه أبوداود في سننه) في أواخر كتاب الحدود،
وصاحب جامع الأصول فيه عن حكيم، وفي المصابيح عن جابر.
742- (49) وعن معاوية بن قرة، عن أبيه، ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هاتين الشجرتين – يعني

(4/351)


البصل والثوم – وقال: من أكلها فلا يقربن مسجدنا. وقال: إن كنتم لا بد
وأخرجه أيضا أحمد والدارقطني والحاكم وابن السكن والبيهقي. والحديث سكت عنه أبوداود. وقال الحافظ في التلخيص: لا بأس بإسناده. وقال في بلوغ المرام: إن إسناده ضعيف. وقال الذهبي في الميزان: ضعفه عبدالحق. وقال ابن القطان: علته الجهل بحال زفر بن وثيمة، تفرد عنه محمد بن عبدالله الشعيثي. قال الذهبي: قد وثقه ابن معين، ودحيم. قلت: وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ: مقبول، فمن عرفه حجة على من لم يعرف، وجهل في جهله لا يضر. وقال المنذري: في إسناده محمد بن عبدالله بن المهاجر الشعيثي النصر الدمشقي، وقد وثقه غير واحد. وقال أبوحاتم الرازي: يكتب حديثه ولا يحتج به –انتهى. قلت: قد وثقه دحيم، و المفضل بن غسان الغلابي، وقال النسائي لا بأس به. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ، صدوق، فحديثه لا ينحط عن درجة الحسن. وفي الباب عن ابن عباس عند الترمذي وابن ماجه، وفي سنده إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف من قبل حفظه. وعن جبير بن مطعم عند البزار، وفيه الواقدي. وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وفيه ابن لهيعة. كذا في النيل (وصاحب جامع الأصول فيه) أي: الجامع (عن حكيم) متعلق برواه (وفي المصابيح عن جابر) قال الطيبي: ولم يوجد في الأصول الرواية عنه. وقال ميرك: صوابه عن حكيم بن حزام.

(4/352)


742- قوله: (وعن معاوية بن قرة) بضم القاف وتشديد الراء، ابن إباس-بكسر الهمزة وتخفيف الياء تحتها نقطتان-ابن هلال المزني، يكنى أبا إباس البصري، ثقة عالم من الطبقة الوسطى من التابعين، وثقه ابن معين، والنسائي والعجلي وأبوحاتم وابن سعد وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من عقلاء الرجال، مات سنة (113) وهو ابن (76)سنة (عن أبيه) قرة بن إباس بن هلال بن رياب المزني أبومعاوية جد إباس بن معاوية القاضي، صحابي. قال ابن عبدالبر: سكن البصرة. لم يرو عنه غير ابنه. قتل في حرب الأزارقة مع عبدالرحمن ابن عبيس في زمن معاوية، وقد أرخه ابن سعد، وخليفة وأبوعروبة وابن حبان سنة (64) فيكون ذلك في زمن معاوية ابن يزيد بن معاوية. وذكره ابن سعد في طبقة من شهد الخندق، له اثنان وعشرون حديثا (يعني البصل والثوم) وفي معناهما الكراث، والفجل، وما له رائحة كريهة (من أكلهما فلا يقربن مسجدنا) أي: مسجد المسلمين، قال الطيبي: وهذه الجملة كالبيان للجملة الأولى، أي: أفاد هذا البيان أن التقدير: نهى عن أكلهما. وأفاد أيضا أن شرط النهي عن أكلهما اقترانه بدخول المسجد مثلا مع بقاء ريحهما. وأما أكلهما بحيث تزول الرائحة عند دخول المسجد، فلا يدخل تحت النهى، وفي النهي عن القربان إشارة إلى أن النهي عن الدخول أوله (إن كنتم لا بد) أي: لا فراق،
أكليهما، فأميتوهما طبخا)) رواه أبوداود.
743- (50) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام))
رواه أبوداود، والترمذي، والدارمي.
ولا محالة، ولا غنى بكم عن أكلهما لفرط حاجة أو شهوة، فخبر لا محذوف كما قدرنا. وهذه الجملة معترضة بين اسم كان وخبرها وهو (أكليهما) يعني وأردتم دخول المسجد (فأميتوهما طبخا) أي: أزيلوا رائحتهما بالطبخ، وفي معناه الإمانة والإزالة بغير الطبخ، و إنما خرج مخرج الغالب (رواه أبوداود) في الأطعمة، وسكت عنه هو والمنذري.

(4/353)


743- قوله: (الأرض كلها مسجد) أي: يجوز الصلاة فيها من غير كراهة (إلا المقبرة) في القاموس مثلثة الباء، وكمكنسة، موضع القبو (والحمام) بتشديد الميم الأولى، هو الموضع الذي يغتسل فيه بالحميم، وهو في الأصل الماء الحار ثم قيل لموضع الاغتسال بأى ماء كان. والمراد إلا المقبرة والحمام وما في معناهما، فلا يشكل الحصر بما سيجيء. الحديث دليل على أن الأرض كلها تصح فيها الصلاة ماعدا المقبرة ، وهي التي يدفن فيها الموتى، فلا تصح الصلاة فيها. وظاهره سواء كان على القبر أو بين القبور أو في مكان منفرد منها كالبيت أعد للصلاة، وسواء كانت القبور منبوشة، أو غير منبوشة، و سواء فرش عليها شيء يقيه من النجاسة، أو لم يفرش، وسواء كان قبر مؤمن أو كافر. وإلى ذلك ذهب أحمد، والظاهرية، و هو الراجح عندي. وكذلك الحمام، فإنه لا تصح فيه الصلاة، سواء صلى في مكان نظيف منه أو في مكان نجس. وإليه ذهب أحمد عملا بإطلاق الحديث. وقيل: يختص النهي بالمكان النجس منه. وإن صلى في مكان طاهر فلا بأس. وذهب الجمهور إلى صحتها مع الطهارة لكن تكون مكروهة. وقد ورد النهي معللا بأنه محل الشياطين، وظاهر الحديث مع أحمد وهو مخصص لقوله: جعلت لي الأرض كلها مسجدا (رواه أبوداود والترمذي والدارمي) وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه والحاكم والبيهقي وابن خزيمة وابن حبان والشافعي. والحديث سكت عنه أبوداود. وقال الترمذي: هذا حديث فيه اضطراب، أي: من جهة إسناده، وذكر أن سفيان الثوري أرسله، قال:وكأن رواية الثوري، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - - أي: مرسلا – أثبت وأصح – انتهى. وقال الحافظ في بلوغ المرام: رواه الترمذي، وله علة، و يعني بها الاختلاف في وصله وإرساله، فرواه حماد بن سلمة، وعبدالواحد بن زيادة، وعبدالعزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - موصولا. ورواه الثوري عن عمرو بن

(4/354)


يحيى عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا. ورجح الترمذي كما تقدم، ثم الدارقطني، والبيهقي الإرسال. والراجح وصله لأن الذي وصله ثقة، فلا يضر إرسال من أرسله. قال العلامة الشيخ أحمد في تعليقه على الترمذي: الحديث رواه الشافعي في الأم (ج1:ص79) عن سفيان بن عيينة مرسلا، ورواه أيضا البيهقي من طريق يزيد بن هارون عن الثوري موصولا، ثم قال: حديث الثوري مرسل، وقد روى موصولا وليس بشيء. وحديث حماد بن سلمة موصول، و قد تابعه على وصله عبدالواحد بن زياد والدراوردي، قال: ولا أدري كيف
744- (51) وعن ابن عمر، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي في سبعة مواطن: في المزيلة،
والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل،

(4/355)


يزعم الترمذي ثم البيهقي أن الثوري رواه مرسلا في حين أن روايته موصولة أيضا، ثم الذي وصله عن الثوري هو يزيد ابن هارون، وهو حجة حافظ، وأنا لم أجده مرسلا من رواية الثوري، إنما رأيته كذلك من رواية سفيان بن عيينة فلعله أشتبه عليهم سفيان بسفيان، ثم ماذا يضر في إسناد الحديث أن يرسله الثوري أو ابن عينه إذا كان مرويا بأسانيد أخرى صحاح موصولة، المفهوم في مثل هذا أن يكون المرسل شاهدا للمسند ومؤيدا له. وقد ورد من طريق أخرى ترفع الشك، وتؤيد من رواه موصولا، وهي في المستدرك للحاكم من طريق بشر بن المفضل: ثنا عمارة بن غزية، عن يحيى بن عمارة الأنصاري- وهو والد عمرو بن يحي- عن أبي سعيد الخدري مرفوعا. ولذلك قال الحاكم بعد أن رواه بهذه الطريق، ومن طريق عبدالواحد بن زياد والدراوردي كلهم عن عمرو، عن أبيه: هذه الأسانيد كلها صحيحة على شرط البخاري ومسلم، ووافقه الذهبي، وقد صدقا. ثم إن رواية سفيان بن عينية المرسلة ليست قولا واحدا بالإرسال، بل هي تدل على أنهم كانوا يروونه تارة بالإرسال وتارة بالوصل، لأن الشافعي بعد أن رواه عنه مرسلا قال: وجدت هذا الحديث في كتابي في موضعين: أحدهما منقطع والآخر عن أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -- انتهى. وهذا عندي قوة للحديث لا علة له- انتهى كلام الشيخ. وقال صاحب الإمام: حاصل ما علل به الإرسال، وإذا كان الواصل له ثقة فهو مقبول، وله شواهد: منها حديث عبدالله بن عمرو مرفوعا: نهى عن الصلاة في المقبرة، أخرجه ابن حبان. ومنها حديث علي: إن حبي نهاني أن أصلي في المقبرة، أخرجه أبوداود.

(4/356)


744- قوله: (أن يصلي) على بناء المفعول (في المزبلة) بفتح الباء، وقيل: بضمها، الموضع الذي يكون فيه الزبل وهو السرجين، ومثله سائر النجاسات، أي: وإن وجد فيها موضع خال عن الزبل، أو بسط عليها بساط في المكان اليبس، لأن في ذلك استخفافا بأمر الدين لأن من حق الصلاة أن تؤدي في الأمكنة النظيفة، والبقاع المحترمة، وكذلك المجزرة لأنها مسفح الدماء، وملقى القاذورات، وكذلك القول في الحمام لأنه مكتثر الأوساخ، ومجتمع الغسالات، ثم إنه محل تعرى الأبدان عن اللباس (والمجزرة) بفتح الميم والزاي تفتح وتكسر: الموضع الذي تجزر فيه الحيوانات أي: تنحر وتذبح (والمقبرة) قيل: لأن فيها اتخاذ القبور مساجد استنانا بسنة اليهود (وقارعة الطريق) الإضافة بيانية، أي: الطريق الذي يقرعها الناس بأرجلهم أي: يدقونها ويمرون عليها. وقيل: هي وسطها أو أعلاها، والمراد هنا نفس الطريق، وكأن القارعة بمعنى المقروعة أو الصيغة للنسبة أي: ذات قرع، وإنما نهى عن الصلاة فيها لإشغال القلب بمرور الناس، وتضييق المكان عليهم، وإيقاعهم في الإسم إن مروا بلا ضرورة، وإيقاع نفسه فيه لو كان لهم ضرورة (وفي معاطن الإبل) جمع معطن بكسر الطاء، وهو وطن الإبل ومبركها حول الحوض كالعطن- محركة- وجمعه أعطان، وكذا الحكم في سائر مباركها ومواطنها، فقد ورد النهي بلفظ"مزابل الإبل" وفي لفظ"مزابل الإبلي" وفي أخرى"مناخ الإبل" وهي أعم من معاطن الإبل. وقد ورد
وفوق ظهر بيت الله)) رواه الترمذي، وابن ماجه.

(4/357)


التعليل فيها منصوصا بأنها من الشياطين. أخرجه أبوداود. وفي حديث ابن مغفل عنده: فإنها خلقت من الجن، ألا ترون إلى عيونها وهيئتها إذا نفرت. قيل المعنى أنها كثيرة الشراد، شديدة النفار، معها أخلاق جنية، فلا يأمن المصلي في أعطانها أن تنفر، فتقطع عليه صلاته. وعلى هذا فيفرق بين كون الإبل في معاطنها، وبين غيبتها عنها، إذ يؤمن نفورها حينئذ (وفوق ظهر بيت الله) لأن الصلاة على ظهر البيت تفضي إلى ارتفاع سطح البيت، وذلك مخل بشرط التعظيم لمشابهته صنيع أهل العادة في استعلاء البيوت للتطلع والتفرج، ثم لخلوه عن الفائدة. والحديث يدل على منع الصلاة في هذه المواطن السبعة، ولو صح لكان بقاء النهي على ظاهره الذي هو التحريم في جميع ما ذكر هو الواجب، وكان مخصصا لعموم"جعلت لي الأرض مسجدا"لكن فيه كلام كما ستعرف، إلا أن الحديث في القبور والحمام والمعاطن من بين هذه المذكورات قد صح كما تقدم، وكما يفيده الحديث الثاني (رواه الترمذي وابن ماجه) كلاهما من طريق زيد بن جبيرة، عن داود بن الحصين، عن نافع، عن ابن عمر، قال الترمذي: حديث ابن عمر ليس بذاك القوي، وقد تكلم في زيد بن جبيرة من قبل حفظه- انتهى. قال الزيلعي: اتفق الناس على ضعف زيد بن جبيرة، فقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة. وقال أبوحاتم والأزدي: منكر الحديث، لا يكتب حديثه، وقال الدارقطني: ضعيف الحديث- انتهى. وقال الحافظ في التلخيص: إنه ضعيف جدا. وأخرجه أيضا ابن ماجه من حديث عمر، من طريق أبي صالح عبدالله بن صالح المصري، كاتب الليث، عن سعد، عن الليث بن سعد: حدثني نافع، عن ابن عمر، عن عمر. وقد أشار الترمذي إلى هذه الرواية، لكن زاد في سنده عبدالله بن عمر العمري بين الليث بن سعد ونافع، والعمري ضعيف، قاله في التقريب. وقال الذهبي: صدوق، في حفظه شيء. ثم رجح الترمذي رواية زيد بن جبيرة، عن داود، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -

(4/358)


على رواية الليث من أجل عبدالله بن عمر العمري، وفيه نظر ظاهر، بل الأمر بالعكس، لأن زيد بن جبيرة منكر الحديث متروك الحديث ضعيف جدا. وأما العمري فروى أحمد بن أبي مريم، عن ابن معين ليس به بأس، يكتب حديثه. وقال الدارمي: قلت لابن معين: كيف حاله في نافع؟ قال: صالح ثقة. وقال أحمد بن حنبل: صالح لا بأس به. وقال ابن عدي: في نفسه صدوق. على أن الليث بن سعد رواه عند ابن ماجه، عن نافع من غير واسطة العمري كما عرفت، وقد ضعفه بعضهم بأبي صالح عبدالله بن صالح كاتب الليث، والظاهر أنه ثقة مأمون كما قال عبدالملك بن شعيب بن الليث. وقال ابن معين: هما ثبتان: ثبت حفظ وثبت كتاب، وأبوصالح كاتب الليث ثبت كتاب. وقال أبوزرعة: كان حسن الحديث. وقال ابن القطان: هو صدوق، ولم يثبت عليه ما يسقط له حديثه إلا أنه مختلف فيه فحديثه حسن. وقال الحافظ: صدوق كثير الغلط ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة. قلت: فالظاهر أن حديث الليث حديث حسن، وأنه أرجح وأحسن من حديث زيد بن جبيرة عن داود، خلافا لما قال الترمذي.
754- (52) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في
أعطان الإبل)). رواه الترمذي.
746- (53) وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور،

(4/359)


754- قوله: (صلوا في مرابض الغنم) جمع مربض بفتح الميم وسكون الراء وكسر الباء الموحدة وآخره ضاد معجمة، وهو مأوى الغنم، ومكان ربوضها. والأمر للإباحة. قال العراقي: اتفاقا، وإنما نبه - صلى الله عليه وسلم - لئلا يظن أن حكمها حكم الإبل، أو أنه أخرج على جواب السائل حين سأله عن الأمرين، فأجاب في الإبل بالمنع، وفي الغنم بالإذن وأما الترغيب المذكور في الأحاديث بلفظ: فإنها بركة. فهو إنما لقصد تبعيدها عن حكم الإبل، كما وصف أصحاب الإبل بالغلظ والقسوة، ووصف أصحاب الغنم بالسكينة- انتهى. وفيه دليل على طهارة أبوال مأكول اللحم، وأرواثه لأنه أذن للصلاة في المرابض مطلقا من غير تقييد بحائل، ومن غير تخصيص بموضع دون موضع (ولا تصلوا في أعطان الإبل) جمع عطن بالعين والطاء المهملتين المفتوحتين، وهي أماكن بروكها. وقد تكلفوا في استخراج علة النهي فيها واختلفوا، فقيل: هي النجاسة. وفيه أن ذلك متوقف على نجاسة أبوال الإبل وأزبالها، وقد تقدم أن الحق طهارتها، ولو سلمنا النجاسة لم يصح جعلها علة، إذ لا فرق حينئذ بين المرابض والمعاطن لأن كل واحد من الجنسين مأكول اللحم فهما سيان في الحكم. وقيل علة النهي شدة نفار الإبل، فقد يؤدي ذلك إلى بطلان الصلاة، أو قطع الخشوع، أو غير ذلك، فلذلك جاء: إنها من الشياطين، وعلى هذا فيفرق بين كون الإبل في المعاطن وبين غيبتها إذ يؤمن حينئذ نفورها. وفيه أنه نهى عن الصلاة في الأعطان مطلقا سواء كانت الإبل فيها أو غابت عنها. وقيل: العلة أن الرعاة كانوا يبولون، ويتغوطون بينها. وقيل: الحكمة في النهي كونها خلقت من الشياطين كما في حديث ابن مغفل عند ابن ماجه وغيره. والظاهر أن النهي تعبدي فالحق الوقوف على مقتضى النهي وهو التحريم، فيحرم الصلاة في المعاطن، ولا تصح. وهو مذهب أحمد، والظاهرية، وغيرهم (رواه الترمذي) وصححه، وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه، وفي الباب عن جماعة من الصحابة ذكر تخريج

(4/360)


أحاديثهم الشوكاني في النيل.
746- قوله: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور) قيل: هذا كان قبل الترخص بقوله: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها الآن لأنها تذكر الآخرة) أخرجه مسلم وأبوداود والنسائي. فلما رخص دخل في الرخصة الرجال والنساء، ومحله ما إذا أمنت الفتنة. وقيل: بل نهى النساء عن زيارة القبور باق لقلة صبرهن، وكثرة جزعهن إذا رأين القبور. وقيل بل يحرم زيارة القبور على النساء مطلقا، فإن النهي ورد خاصا بهن، والإباحة والرخصة لفظها عام، ولا منافاة بين العام والخاص حتى يقال: إن العام نسخ الخاص، بل الخاص حاكم عليه، ومقيد له، فيكون الإذن خاصا بالرجال، ولا يجوز للنساء زيارة القبور مطلقا سواء أمنت الفتنة والجزع أم لم تأمن، هذا وقد بسط ابن القيم القول
والمتخذين عليها المساجد والسرج)) رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي.
747- (54) وعن أبي أمامة، قال: ((إن حبرا من اليهود سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي: البقاع خير؟ فسكت عنه، وقال:

(4/361)


في مختصر السنن في مسألة زيارة النساء للمقابر فارجع إليه (والمتخذين عليها المساجد) لأن في ذلك استنانا بصفة اليهود (والسرج) بضمتين جمع سراج بكسر أوله، وهو المصباح أي: لما فيه من تضييع بلا نفع، ويشبه تعظيم القبور كاتخاذها مساجد، وفيه رد صريح على القبوريين الذين يبنون القباب على القبور، ويسجدون إليها، ويسرجون عليها، ويضعون الزهور والرياحين عليها تكريما وتعظيما لأصحابها (رواه أبوداود) في الجنائز (والترمذي) في الصلاة (والنسائي) في الجنائز. وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه وابن حبان. والحديث سكت عنه أبوداود. وقال الترمذي: حديث حسن. قال المنذري في مختصر السنن (ج4:ص350): وفيما قاله نظر، فإن أبا صالح هذا أي: الراوي للحديث عن ابن عباس هو باذام، ويقال: باذان مكي مولى أو هانئ بنت أبي طالب، وهو صاحب الكلبي، وقد نقل: أنه لم يسمع من ابن عباس. وقد تكلم فيه جماعة من الأئمة، وقال ابن عدي: لم أعلم أحدا من المتقدمين رضيه. وقد قيل عن يحيى ابن سعيد القطان وغيره تحسين أمره، فلعله يريد: رضيه حجة، أو قال: هو ثقة- انتهى. وذكر المنذري أيضا في الترغيب، ونسبه أيضا لصحيح ابن حبان، ثم قال: وأبوصالح هذا هو باذام، ويقال: باذان، مكي مولى أم هانئ وهو صاحب الكلبي. قيل: لم يسمع من ابن عباس، وتكلم فيه البخاري والنسائي وغيرهما- انتهى. وقال ابن القيم: قد تقدم أن أبا حاتم خالفه أي: المنذري في ذلك وقال: صالح هذا هو مهران ثقة وليس بصاحب الكلبي، ذاك اسمه باذام- انتهى. وقيل: الظاهر هو قول الترمذي: أن هذا الحديث حسن، لأنه ليس لتضعيف أبي صالح حجة قوية، والذي ادعى أنه لم يسمع من ابن عباس هو ابن حبان كما في تهذيب التهذيب (ج1:ص407) ولعلها فلتته منه، فإن أبا صالح تابعي قديم، روى عن مولاته أم هانئ، وعن أخيها على بن أبي طالب، وعن أبي هريرة. وابن عباس أصغر من هؤلاء كلهم، وأما وصف الحافظ، والخزرجي أبا صالح بالتدليس فلعله مبني على

(4/362)


قول ابن حبان، وإنما تكلم فيه من تكلم من أجل التفسير الكثير المروى عنه والحمل في ذلك على تلميذه محمد بن السائب الكلبي، ولذلك قال ابن معين: ليس به بأس، وإذا روى عنه الكلبي فليس بشيء. وهذا الحديث رواه عنه محمد بن جحادة لا الكلبي. وقال يحيى القطان: لم أر أحدا من أصحابنا تركه، وما سمعت أحدا من الناس يقول فيه شيئا، ووثقه أيضا العجلي.
747- قوله: (إن حبرا) أي: عالما، وهو بفتح الحاء أشهر من كسرها، قاله ابن الملك. وذكر في الصحاح أن كسر الحاء أصح، لكن المشهور في الاستعمال الفتح ليفرق بين العالم وبين ما يكتب به، كذا في المفاتيح (أي البقاع) بكسر الباء جمع البقعة بالضم (خير) أي: أفضل يعني كثير الخير (فسكت عنه) أي: عن جوابه (وقال) أي: في نفسه وقلبه أو بلسانه
أسكت حتى يجيء جبريل، فسكت، وجاء جبرئيل عليه السلام، فسأل، فقال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، لكن أسأل ربي تبارك وتعالى. ثم قال جبريل: يا محمد! إني دنوت من الله دنوا ما دنوت منه قط. قال: وكيف كان يا جبريل؟ قال: كان بيني وبينه سبعون ألف حجاب من نور، فقال: شر البقاع أسواقها وخير القاع مساجدها)). رواه. . . . . .

(4/363)


(أسكت) بصيغة المتكلم أو الأمر (فسكت) أي: إلى مجيء جبريل. قال الطيبي: فيه أن من استفتى عن مسألة لا يعلمها فعليه أن لا يعجل في الإفتاء، ولا يستنكف عن الاستفتاء ممن هو أعلم منه، ولا يبادر إلى الاجتهاد ما لم يضطر إليه، فإن ذلك من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة جبرئيل (فسأل) أي: فسأله النبي- صلى الله عليه وسلم - عن هذه المسألة (فقال: ما المسئول عنها) أي: عن هذه المسألة (ثم قال جبرئيل) أي: بعد سؤاله ورجوعه من حضرة الله تعالى (دنوت من الله دنوا) فعول مصدر دنا بمعنى قرب (ما دنوت منه قط) أي: أذن لي أن أقرب منه تعالى أكثر مما قربت منه في سائر الأوقات. قال ابن الملك: ولعل زيادة تقريبه منه في هذه المرة لتعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد يزيد المحب في احترام رسول الحبيب لأجل الحبيب- انتهى كلامه. أو لأنه تقرب إليه تعالى بطلب العلم، ومن وعده تعالى أن من تقرب إليه شبرا تقرب عليه باعا، كذا في المرقاة (وكيف كان) أي: دنوك (سبعون ألف حجاب من نور) قالوا المراد به التكثير لا التحديد، و"من نور" إشارة إلى أن الحجب للملائكة نورانية، وهي حجب أسماءه وصفاته وأفعاله، وهي غير متناهية وإن كانت أصول الصفات الحقيقية سبعة أو ثمانية. والملائكة محجوبون بنور المهابة والعظمة والجلال، والإنسان منهم من حاله كذلك، ومنهم من حجب بحجب ظلمانية، كذا في اللمعات. وقال القاري: اعلم أن الحجب إنما تحيط بمقدر محسوس، وهو الخلق، فهم محجوبون عنه تعالى بمعاني أسماءه وصفاته وأفعاله، وأقرب الملائكة الحافون بالعرش، وهو محجوبون بنور المهابة والعظمة والكبرياء والجلال، وأما الآدميون فمنهم من حجب برؤية النعم عن المنعم، وبشاهدة الأسباب عن المسبب، ومنهم من حجب بالشهوات المباحة أو المحرمة، أو بالمال والنساء والبنين وزينة الحياة الدنيا والجاه. ومنه قول الصوفية: العلم حجاب. قال بعض مشائخنا: لكنه نوراني، فأفاد أن الحجب على

(4/364)


نوعين: نوراني وظلماني. وقد أشار إليه الحديث بقوله من نور- انتهى. وقال النووي: حقيقة الحجاب إنما يكون للأجسام المحدودة، والله تعالى منزه عن الجسم والحد، والمراد هنا المانع من رؤيته، وسمي ذلك المانع نورا أو نارا لأنهما يمنعان من الإدراك في العادة لشعاعهما- انتهى (شر البقاع أسواقها) لأنها محل الغفلة والمعصية (وخير البقاع مساجدها) لأنها محل الحضور والطاعة. قال الطيبي: أجاب عن الشر والخير، وإن كان السؤال عن الخير فقط تنبيها على بيت الرحمن وبيت الشيطان. قلت: الأشياء تتبين بأضدادها (رواه. . . .) كذا في أصل المصنف هنا بياض، وألحق به ابن حبان عن ابن عمر، ولذا قال الطيبي: ذكر الراوي أي: المخرج ملحق.
?الفصل الثالث?
748- (55) عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من جاء مسجدي هذا لم يأت إلا
لخير يتعلمه أو يعلمه؛ فهو بمنزلة المجهد في سبيل الله.

(4/365)


وقال السيد جمال الدين: هذا الحديث بهذا اللفظ لم أره مخرجا في شيء من الكتب المعتمدة المشهورة، ولكن رأيت في تخريج أحاديث المصابيح للسلمي أنه قال: وروى ابن حبان في صحيحه، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر، أن رجلا سأل النبي- صلى الله عليه وسلم - أي: البقاع خير؟ وأي البقاع الشر؟ قال: لا أدري حتى أسأل جبرئيل عليه السلام، فسأل جبرئيل فقال: لا أدري حتى أسأل ميكائيل، فجاء فقال: خير البقاع المساجد، وثر البقاع الأسواق- انتهى. وذكر المنذري حديث ابن عمر هذا في الترغيب مختصرا ليس فيه الدنو من الله ولا الحجب ونسبه للطبراني وابن حبان، وكذلك رواه الحاكم (ج2:ص8، 7) بأطول منه، وفي سنده عندهم جميعا عطاء بن السائب وكان اختلط وله شاهد من حديث جبير بن مطعم أن رجلا قال: يا رسول الله أي: البلدان أحب إلى الله وأي البلدان أبغض إلى الله؟ قال: لا أدري حتى أسأل جبرئيل، فأتاه فأخبره أن أحسن البقاع إلى الله المساجد، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق، رواه أحمد (ج4:ص81) والبزار واللفظ له. وأبويعلى، والحاكم وقال صحيح الإسناد، وفي الباب أيضا عن أنس أخرجه الطبراني في الأوسط. وقد تقدم في الفصل الأول حديث أبي هريرة بلفظ أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها. ومن هذا كله عرفت أن عدد السبعين وتكثير الحجب لم يرد في حديث صحيح، وأما الحجاب نفسه فقد ورد في صحيح مسلم على ما تقدم في صدر الكتاب من حديث أبي موسى مرفوعا.

(4/366)


748- قوله: (مسجدي هذا) قال السندي: أراد مسجده وتخصيصه بالذكر إما لخصوص هذا الحكم به، أو لأنه كان محلا للكلام حينئذ، وحكم سائر المساجد كحكمه- انتهى. وقال الشوكاني: فيه تصريح بأن الأجر المرتب على الدخول إنما يحصل لمن كان في مسجده - صلى الله عليه وسلم -، ولا يصح إلحاق غيره به من المساجد التي هي دونه في الفضيلة لأنه قياس مع الفارق (لم يأت) الجملة حال أي: حال كونه غير آت (إلا لخير) أي: علم أو عمل (يتعلمه أو يعلمه) أو للتنويع، وفي رواية أحمد: من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيرا أو ليعلمه. قال الشوكاني: فيه أن الثواب المذكور إنما يتسبب عن هذه الطاعة الخاصة لا عن كل طاعة، وفيه أيضا التنويه بشرف تعلم العلم وتعليمه، لأنه هو الخير الذي لا يقاوم قدره، وهذا إن جعل تنكير الخير للتعظيم، ويمكن إدراج كل تعلم وتعليم لخير أي: خير كان تحت ذلك، فيدخل كل ما فيه قربة يتعلمها الداخل أو يعلمها غيره، وفيه أيضا الإرشاد إلى أن التعليم والتعلم في المسجد أفضل من سائر الأمكنة (بمنزلة المجاهد) من حيث أن كلا منهما يريد إعلاء كلمة الله العليا، أو لأن كل واحد من العلم والجهاد عبادة نفعها متعد إلى عموم المسلمين،
فمن جاء لغير ذلك، فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره)) رواه ابن ماجه، والبيهقي في شعب الإيمان.
749- (56) وعن الحسن مرسلا، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يأتي على الناس زمان يكون حديثهم في مساجدهم في أمر دنياهم. فلا تجالسوهم؛ فليس لله فيهم حاجة)) رواه البيهقي في شعب الإيمان.

(4/367)


وقيل: وجه مشابه طلب العلم بالمجاهدة في سبيل الله أنه إحياء للدين، وإذلال للشيطان وإتعاب النفس، وكسر ذرى اللذة، كيف وقد أبيه لح التخلف عن الجهاد فقال تعالى ?وما كان المؤمنون لينفروا كافة? [122:9] الآية (ومن جاء لغير ذلك) أي: لغير ما ذكر من الخير، وهو العلم والعمل الذي يشمل الصلاة، والاعتكاف، والزيارة. قال الطيبي: يوهم أن الصلاة داخلة في الغير، وليس كذلك لأن الصلاة مفرغ عنها، وإنها مستثناة من أصل الكلام. وقال الشوكاني: ظاهر الحديث أن كل ما ليس فيه تعليم ولا تعلم من أنواع الخير لا يجوز فعله في المسجد، و لا بد من تقييده بما عدا الصلاة، والذكر والاعتكاف، ونحوها مما ورد فعله في المسجد أو الإرشاد إلى فعله فيه (فهو بمنزلة الرجل)إلخ. أي: بمنزلة من دخل السوق لا يبيع ولا يشتري بل لينظر إلى أمتعة الناس فهل يحصل له بذلك فائدة فكذلك هذا. وفيه أن مسجده - صلى الله عليه وسلم - سوق العلم فينبغي للناس شراء العلم بالتعلم والتعليم. وقيل المقصود: أن من لم يأت المسجد لخير يتعلمه أو يعلمه ينظر يوم القيامة إلى ثواب غيره ممن يعمل أعمال الخير في المسجد كمن ينظر إلى متاع غيره نظر إعجاب واستحسان وليس له مثله (رواه ابن ماجه) في السنة. قال في الزوائد: إسناده صحيح على شرط مسلم (والبيهقي في شعب الإيمان) وأخرجه أيضا أحمد، وفي الباب عن سهل بن سعد، وأبي أمامة، أخرجهما الطبراني بإسناد حسن.

(4/368)


749- قوله: (وعن الحسن) أي: البصري (حديثهم) أي: كلامهم ومحادثتهم (فلا تجالسوهم) أي: في المسجد أو مطلقا (فليس لله فيهم) أي: في إتيانهم إلى المسجد (حاجة) قال الطيبي: هو كناية عن براءة الله تعالى عنهم، وخروجهم عن ذمة الله، وإلا فالله سبحانه وتعالى منزه عن الحاجة مطلقا. وفيه تهديد عظيم، ووعيد شديد، وذلك أنه ظالم مبالغ في ظلمه حيث يضع الشيء في غير موضعه لأن المساجد لم تبن إلا للعبادات-انتهى (رواه البيهقي في شعب الإيمان) وفي حديث ابن مسعود: سيكون في آخر الزمان قوم يجلسون في المساجد حلقا حلقا أمانيهم الدنيا، فلا تجالسوهم، فإنه ليس لله فيهم حاجة، ذكره العراقي في شرح الترمذي. قال: وإسناده ضعيف فيه بزيغ أبوالخليل وهو ضعيف جدا، وفي الترغيب للمنذري عن عبدالله بن مسعود قال: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سيكون في آخر الزمان قوم يكون حديثهم في مساجدهم، ليس لله فيهم حاجة) رواه ابن حبان في صحيحه.
750- (57) وعن السائب بن يزيد، قال: ((كنت نائما في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: اذهب فائتني بهذين. فجئته بهما. فقال: ممن أنتما-أو من أين أنتما- قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما؛ ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله ؟)) رواه البخاري.

(4/369)


750- قوله: (كنت نائما) وفي رواية الإسماعيلي:كنت مضطجعا (فحصبني) أي: رماني بالحصباء، وهي الحجارة الصغيرة (فإذا هو) أي: الرجل الحاصب (عمر بن الخطاب) كلمة إذا للمفاجأة، وهو مبتدأ وخبره محذوف تقديره: فإذا عمر حاضر، أو قائم، أو واقف (فقال) أي: عمر للسائب (بهذين) قال الحافظ: لم أقف على تسمية هذين الرجلين لكن في رواية عبدالرزاق أنهما ثقفيان (ممن أنتما) أي: من أي: قبيلة وجماعة (أو من أين أنتما) أي: من أي: بلد (لو كنتما من أهل المدينة) وفي البخاري: لو كنتما أهل البلد. والمراد بالبلد المدينة. وهذا يدل على أنه كان تقدم نهيه عن ذلك. وفيه المعذرة لأهل الجهل بالحكم إذا كان مما يخفى مثله (لأوجعتكما) إذ لا عذر لكما حينئذ، قاله الطيبي. يعني أهل المدينة يعرفون حرمة مسجده - صلى الله عليه وسلم - أكثر من غيرهم، فلا يسامحون مسامحة الغرباء، إذ يمكن أن يكونوا قريبي العهد بالإسلام وبمعرفة الأحكام. وفي رواية الإسماعيلي: لأوجعتكما جلدا. ومن هذه الجهة يتبين كون هذا الحديث له حكم الرفع. لأن عمر لا يتوعد هما بالجلد إلا على مخالفة أمر توقيفي (ترفعان) جملة استئنافية، وهي في الحقيقة جواب عن سؤال مقدر كأنهما قالا له: لم توجعنا؟ قال: لأنكما ترفعان أصواتكما في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - (أصواتكما) عبر بأصواتكما بالجمع دون صوتيكما بالتثنية لأن المضاف المثنى معنى إذا كان جزء ما أضيف إليه فالأصح الأجود الأفصح أن يذكر بالجمع كقوله تعالى: ?فقد صغت قلوبكما? [4:66] ويجوز إفراده نحو أكلت رأس شاتين. والتثنية مع إصالتها قليلة الاستعمال، وإن لم يكن جزئه فالأكثر مجيئة بلفظ التثنية نحو سل الزيدان سيفيهما. وإن أمن اللبس جاز جعل المضاف بلفظ الجمع كما يعذبان في قبورهما، قاله المالكي، وفي رواية الإسماعيلي: يرفعكما أصواتكما. وإنما أنكر عليهما عمر لأنهما رفعا أصواتهما فيما لا يحتاجان إليه من اللغط الذي لا يجوز في

(4/370)


المسجد، فيمنع رفع الصوت في المسجد فيما لا منفعة فيه، وأما إذا ألجئت الضرورة إليه فلا منع لعدم إنكاره - صلى الله عليه وسلم - على ابن أبي حدرد وكعب بن مالك رفع أصواتهما في المسجد عند تقاضى الدين وقد وردت أحاديث في النهي عن رفع الصوت في المساجد مطلقا، لكنها ضعيفة. أخرج ابن ماجه بعضها. وقيل: أحاديث المنع محمولة على ما إذا كان الصوت متفاحشا، وحديث الإباحة محمول على ما إذا كان غير متفاحش (في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) إذ مع شرافته له زيادة مزية كون حجرته - صلى الله عليه وسلم - متصلة بالمسجد ( رواه البخاري) وأخرجه
751- (58) وعن مالك، قال: ((بنى عمر رحبة في ناحية المسجد تسمى الطيحاء، وقال: من كان
يريد أن يلغط، أو ينشد شعرا، أو يرفع صوته؛ فليخرج إلى هذه الرحبة)) رواه في الموطأ.
أيضا الإسماعيلي. وروى عبدالرزاق عن نافع قال: كان عمر يقول:لا تكثروا اللغط، فدخل المسجد فإذا هو برجلين قد ارتفعت أصواتهما، فقال: إن مسجدنا هذا لا يرفع فيه الصوت – الحديث. وفيه انقطاع لأن نافعا لم يدرك ذلك الزمان.

(4/371)


751- قوله: (عن مالك) بن أنس الإمام صاحب المذهب المشهور إمام دار الهجرة (قال: بنى عمر رحبة) من بلاغات مالك، ففي الموطأ مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب بنى رحبة. قال الزرقاني: كذا ليحيى-أى ابن يحيى المصمودي الأندلسي – ولغيره: مالك، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيدالله عن سالم بن عبدالله بن عمر، عن أبيه أن عمر بن الخطاب (في ناحية المسجد) أي: بنى فضاء في خارج المسجد. قال في القاموس: رحبة المكان – وتسكن –ساحته ومتسعه. وقال الطيبي: الرحبة بالفتح الصحراء بين أفنية القوم، ورحبة المسجد ساحته (تسمى) أي: تلك الرحبة (البطيحاء) بضم الباء وفتح الطاء تصغير البطحاء، والبطحاء مسيل واسع فيه دقاق الحصى، وتسمية الرحبة بها إما لسعتها أو لوجود دقاق الحصى فيها. قال الباجي: هذه البطيحاء بناء يرفع على الأرض أزيد من الذراع، ويحدق حواليه بشئ من جدار قصير، ويوسع كهيئة الرحبة، ويبسط بالحصباء يجتمع فيها للجلوس-انتهى (وقال) أي: عمر (من كان يريد أن يلغط) بفتح أوله وثالثه أي: يتكلم بكلام فيه جلبة واختلاط، ولا يتبين. قال الطيبي: اللغط – بفتح الغين المعجمة وسكونها – صوت وضجة لا يفهم معناه. قال القاري: والمراد من أراد أن يتكلم بما لا يعنيه (أو ينشد شعرا) لنفسه أو لغيره أي: وإن كان مباحا (أو يرفع صوته) ولو بالذكر (فليخرج إلى هذه الرحبة) فإن الأمر فيها أسهل وأهون. قال الباجي: لما رأى عمر بن الخطاب كثرة جلوس الناس في المسجد وتحدثهم فيه، وربما أخرجهم ذلك إلى اللغط- وهو المختلط من القول وارتفاع الأصوات – وربما جرى في أثناء ذلك إنشاد شعر، بنى هذه البطيحاء إلى جانب المسجد وجعلها لذلك ليتخلص المسجد لذكر الله وما يحسن من القول، وينزه من اللغط وإنشاد الشعر، ولم يرد أن ذلك محرم. وإنما ذلك على معنى الكراهية، وتنزيهه المساجد، لاسيما مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيجب أن ينزه المسجد من مثل هذا، ومعنى هذا أن المسجد مما

(4/372)


أمرنا بتعظيمه وتوقيره. والثانية لأنه مبنى للصلاة وقد أمرنا أن نأتيها وعلينا السكنية والوقار، فبأن يلتزم ذلك بموضعها المتخذ لها أولى (رواه) أي: مالك (في الموطأ) بالهمزة والألف، و قد سبق الاعتراض على مثل صنيع المؤلف هذا، وكان حقه في هذا المقام أن يقول: وعن عمر أنه بنى رحبة، ثم يقول: رواه مالك بلاغا. وقد تقدم أيضا أن ابن عبدالبر صنف كتابا وصل ما في الموطأ من المرسل والمنقطع والمعضل،
752- (59) وعن أنس، قال: ((رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - نخامة في القبلة؛ فشق ذلك عليه حتى رئى في وجهه، فقام فحكه بيده، فقال: إن أحدكم إذا قام في الصلاة فإنما يناجي ربه، وإن ربه بينه وبين القبلة؛ فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته، ولكن عن يساره، أو تحت قدمه،
وقال: جميع ما فيه من قوله "بلغني" ومن قوله "عن الثقة عنده" مما لم يسنده، أحد وستون حديثا كلها مسندة من غير طريق مالك إلا أربعة أحاديث، ثم ذكرها. وأثر عمر هذا ليس من الأربعة، فهو مسند إلى عمر في موضعه. وقد تقدم عن الزرقاني: أن صورة البلاغ إنما هي ليحيى، وأما غيره فقد ذكره مسندا.

(4/373)


752- قوله: (نخامة) بالميم مع ضم النون، قيل: هي ما يخرج من الصدر، وقيل: النخاعة- بالعين – من الصدر، و–بالميم – من الرأس. وقيل: النخاعة هي البزاقة التي تخرج من أقصى الحلق (في القبلة) أي: في الحائط الذي في جهة القبلة (فشق) أي: صعب (ذلك) أي: ما ذكر من رؤية النخامة (حتى رئى) بضم الرأى وكسر الهمزة وفتح الياء، أي: شوهد أثر المشقة. قال الطيبي: الضمير الذي أقيم مقام الفاعل راجع إلى معنى قوله: فشق ذلك عليه. وهو الكراهة، وفي رواية النسائي: فغضب حتى أحمر وجهه (فكه) أي: أثر النخامة (بيده) المباركة تعليما لأمته، وتواضحا لربه جل جلاله ومحبة لبيته (إذا قام في الصلاة) أي: دخل فيها سواء كان في المسجد أو غيره (فإنما يناجي ربه) من جهة مساررته بالقرآن والأذكار فكأنه يناجيه تعالى، والرب تعالى يناجيه من جهة لازم ذلك، وهو إرادة الخير، فهو من باب المجاز، لأن القرينة صارفة عن إرادة الحقيقة، إذ لا كلام محسوسا إلا من جهة العبد. قال الحافظ: المراد بالمناجاة من قبل العبد حقيقة النجوى. ومن قبل الرب لازم ذلك، فيكون مجازا عن إقباله على العبد بالرحمة والرضوان (وإن) بكسر الهمزة (ربه بينه وبين القبلة) قال الخطابي: معناه أن توجهه إلى القبلة مفض بالقصد منه إلى ربه، فصار في التقدير كأن مقصوده بينه وبين القبلة ، وقيل: هو على حذف مضاف أي: عظمة ربه، أو ثواب ربه، أو إطلاع ربه على ما بينه وبين القبلة أي: فيجب على المصلى إكرام قبلته بما يكرم به من يناجيه من المخلوقين عند استقبالهم بوجهه، ومن أعظم الجفاء وسوء الأدب أن تتنخم في توجهك إلى رب الأرباب، وقد أعلما الله تعالى بإقباله على من توجه إليه (فلا يبزقن أحدكم قبل) بكسر القاف وفتح الموحدة إلى جهة (قبلته) التي عظمها الله، فلا تقابل بالبزاق المقتضي للاستخفاف والاحتقار، والأصح أن النهي للتحريم. قيل البزاق إلى القبلة دائما ممنوع، ففي صحيحي ابن خزيمة وابن حبان من حديث

(4/374)


حذيفة مرفوعا: من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه. وفي رواية لابن خزيمة من حديث ابن عمر مرفوعا: يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه (ولكن) أي: ليبصق (عن يساره) أي: إذا كان فارغا لا عن يمينه، فإن عن يمينيه كاتب الحسنات. كما رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح (أو تحت قدمه) أي: اليسرى. وأو للتنويع وهو محمول على ما إذا لم يكن يساره
ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه، ثم رد بعضه على بعض، فقال: أو يفعل هكذا)) رواه البخاري.
753- (60) وعن السائب بن خلاد - وهو رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - - قال: ((إن رجلا أم قوما، فبصق في القبلة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقومه حين فرغ: لا يصلي لكم. فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم، فمنعوه، فأخبروه بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: نعم. وحسبت
فارغا (ثم أخذ) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (ثم رد بعضه) أي: بعض ردائه (أو يفعل) عطف على المقدر بعد حرف الاستدراك، أي: ولكن ليبزق عن يساره أو يفعل هكذا، أي: مثل هذا الذي فعلته، وفيه البيان بالفعل لأنه أوقع في نفس السامع، وليست لفظه أو هنا للشك أو للتخيير بل للتنويع، فهو محمول على ما إذا بدره البزاق. فقد رواه مسلم من حديث جابر بلفظ: وليبصق عن يساره وتحت رجله اليسرى، فإن عجلت به بادرة فليقل بثوبه هكذا، ثم طوى بعضه على بعض. ولابن أبي شيبه وأبي داود من حديث أبي سعيد نحوه، وفسره في رواية أبي داود بأن يتفل في ثوبه ثم يرد بعضه على بعض (رواه البخاري) من طريق حميد عن أنس، وحمد مدلس، لكن قد صرح عبدالرزاق في روايته بسماع حميد من أنس، فأمن تدليسه.

(4/375)


753- قوله: (وعن السائب بن خلاد) بمفتوحة وشدة لام وإهمال دال، ابن سويد بن ثعلبة بن عمرو الخرزجي الأنصاري، أبوسهلة المدني، قال أبوعبيد: شهد بدرا، وولي اليمن لمعاوية. وله أحاديث، روى عنه ابنه خلاد، وصالح بن حيوان، وعطاء بن يسار، وغيرهم. وقيل استعمله عمر على اليمن. مات سنة (71) فيما قال الواقدي (إن رجلا أم قوما) أي: صلى بهم إماما، ولعلهم كانوا وفدا. (فبصق) أي: الرجل (في القبلة) أي: في جهتها (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقومه) لما رأى منه قلة الأدب، وليس في نسخ أبي داود التي بأيدينا لفظة "لقومه" (حين فرغ) أي: هذا الرجل من الصلاة (لا يصلي لكم) بإثبات الياء، أي: لا يكن هذا الرجل إماما لكم في الصلاة بعد هذا. قال في شرح السنة: أصل الكلام "لاتصل لهم" فعدل إلى النفي ليؤذن بأنه لا يصلح للإمامة، وأن بينه وبينها منافاة. وأيضا في الإعراض عنه غضب شديد حيث لم يجعله محلا للخطاب، وكأن النهي في غيبته، كذا في المرقاة (فأراد) أي: ذلك الرجل (بعد ذلك) أي: بعد القول الذي ظهر منه - صلى الله عليه وسلم - (أن يصلي لهم) أي: يؤمهم، ولعله لم يبلغه قوله - صلى الله عليه وسلم - فيه (فمنعوه) من الإمامة، فسأل عن سبب المنع (فأخبره وبقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو: لا يصلي لكم (فذكر) أي: الرجل (ذلك) أي: منع القوم إياه عن الإمامة وأنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك (فقال: نعم) أنا أمرتهم بذلك (وحسبت) أي: قال السائب بن خلاد:
أنه قال: إنك قد آذيت الله ورسوله)) رواه أبوداود.

(4/376)


754- (61) وعن معاذ بن جبل: ((احتبس عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة عن صلاة لصبح، حتى كدنا نتراءى عين الشمس، فخرج سريعا، فثوب بالصلاة، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتجوز في صلاته. فلما سلم دعا بصوته، فقال لنا: على مصافكم كما أنتم، ثم انفتل إلينا، ثم قال: أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة: إني قمت من الليل، فتوضأت وصليت ما قدر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة، فقال: يا محمد! قلت:
حسبت (أنه) أي: الرسول - صلى الله عليه وسلم - (قال) أي: له زيادة على نعم (إنك قد آذيت الله ورسوله) أي: فعلت فعلا لا يرضى الله ورسوله. وفي هذا القول زجر عظيم. قال الله تعالى: ?إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا? [57:33] ولكن لما فعل الرجل ذلك الفعل جهلا وخطأ لم يعده كفرا. وقيل: يحتمل أن يكون ذلك الرجل منافقا، وعلم - صلى الله عليه وسلم - نفاقه إذ ذاك فنهى عن إمامته (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه. وروى الطبراني في الكبير بإسناد جيد عن عبدالله بن عمر، قال أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا يصلي بالناس الظهر، فتفل في القبلة وهو يصلي للناس، فلما كانت صلاة العصر أرسل إلى آخر فأشفق الجل الأول، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله ! أأنزل في شيء؟ قال لا، ولكنك تفلت بين يديك وأنت قائم تؤم الناس، فآذيت الله والملائكة، كذا في الترغيب.

(4/377)


754- قوله: (احتبس) بصيغة المعلوم، ويحتمل أن يكون على بناء المفعول (ذات غداة) لفظة ذات مقحمة أي: غداة (عن صلاة الصبح) بدل اشتمال بإعادة الجار (حتى كدنا) بكسر الكاف أي: قاربنا (نتراءى) أي: نرى، وعدل عنه إلى ذلك لما فيه من كثرة الاعتناء بالفعل، وسبب تلك الكثرة خوف طلوعها المفوت لأداء الصبح (فخرج سريعا) أي: مسرعا أو خروجا سريعا (فثوب بالصلاة) بصيغة المجهول من التثويب أي: أقيم بها (وتجوز في صلاته) أي: خفف واقتصر على خلاف عادته مع أداء الأركان والواجبات والسنن (دعا) أي: نادى (بصوته فقال لنا) أي: رفع صوته بقوله لنا (على مصافكم) أي: اثبتوا عليها جمع مصف وهو موضع الصف (كما أنتم) أي: ما أنتم عليه، أو ثبوتا مثل الثبوت الذي أنتم عليه قبل النداء من غير تغيير وتقديم وتأخير (ثم انفتل علينا) أي: توجه إلينا وأقبل علينا (أما) بالتخفيف للتنبيه (ما حبسني) ما موصولة أو موصوفة (الغداة) بالنصب على الظرفية (من الليل) أي: في الليل (فنعست) بالفتح من النعاس وهو النوم الخفيف من باب نصر وفتح (استثقلت) بصيغة المعلوم أو المجهول أي: غلب على النعاس (فإذا أنا بربي) إذا
لبيك رب! قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري. قالها ثلاثا. قال: فرأيته وضع كفه بين
كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي، فتجلى لي كل شيء وعرفت.

(4/378)


للمفاجأة، أي: فاجأ استثقالي رؤيتي ربي تبارك وتعالى، وهذا ظاهر في أن هذه الرؤية في النوم فلا إشكال فيه (رب) بحذف النداء وياء الإضافة (فيم) ما الاستفهامية إذا دخل عليه حرف الجر حذف ألفها (قالها ثلاثا) أي: قال الله تعالى هذه المقولة المترتب عليها جوابها ثلاثا، وأجبت عنها بلا أدري تأكيدا للاعتراف بعدم العلم (فتجلى لي كل شيء) أي: مما أذن الله في ظهوره لي مما في السموات والأرض مطلقا، أو مما يختصم فيه الملأ الأعلى خصوصا وهذا هو الظاهر. وقد تمسك به بعض القبوريين على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان عالما بجميع ما كان وما يكون من المغيبات علما كليا تفصيليا محيطا بناء على أن لفظ الكل من ألفاظ العموم والاستغراق وإحاطة الأفراد. ولا متمسك لهم فيه لأن لفظ الكل لا يراد به الاستغراق دائما كما في قوله تعالى: ?كل نفس ذائقة الموت? [57:29] وقد أطلق لفظ النفس على ذاته تعالى في قوله: ?تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك? [116:5] وكما في قوله تعالى: ?وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا? [79:18] وقد علم أن الملك كان لا يغصب إلا السفن الصالحة الغير المعيبة. وكما في قوله تعالى: ?الله خالق كل شيء? [16:13] وقد ورد إطلاق الشيء على الله في قوله تعالى: ?قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد? [19:6] وكما في قوله تعالى: ?تدمر كل شيء? [25:46] وقوله تعالى: ?يجبى إليه ثمرات كل شيء? [57:28] وقوله تعالى: ?وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق? [27:22] وكما في قوله- صلى الله عليه وسلم -: (كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب)، وفي قوله: (كل مصور في النار). وقول ابن مسعود: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى يكبر في كل خفض ورفع. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (كل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج) (وقد خصه الحنفية بالإمام والمنفرد، واستثنوا منه المقتدي) وقوله: (كل شيء خلق من الماء). وقوله: (كل بني آدم

(4/379)


خطاؤن). وقوله: (كل بني آدم حسود). وغير ذلك من الآيات والأحاديث. ولا يخفى على من له أدنى شيء من العقل والفهم أن لفظ الكل في هذه الآيات والأحاديث ليس لا لاستغراق وإحاطة الأفراد لفساد المعنى في بعضها ولزوم الاستحالة في بعضها، مع ذلك إن حمل على العموم والاستغراق فعلم بذلك أن لفظ الكل لا يكون دائما للاستغراق الحقيقي التام، ولذلك اتفق العلماء على جواز تخصيص ألفاظ العموم كما صرح به في كشف الأسرار وغيره من كتب الأصول حتى اشتهر عند الشافعية ما من عام إلا وقد خص منه البغض. وقد صرح رئيس الطائفة القبورية في الهند الشيخ البريلوي في فتاواه المطبوعة: أنه قد يطلق الكل ويراد به الأكثر. وإذا كان الأمر كذلك جاز، بل وجب أن يقال: إن لفظ الكل في حديث معاذ بن جبل هذا ليس للاستغراق وعموم الأفراد لقيام القرائن القوية والدلائل الواضحة على ذلك، كيف لا وقد صرح رئيسهم المذكور وغيره من أتباعه أن ذات الله تعالى وصفاته، وتجلياته، وما يكون بعد القيامة خارجة من علمه - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: لا ندعى أن علمه - صلى الله عليه وسلم - محيط بذاته تقدس
فقال: يا محمد! قلت: لبيك رب! قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات. قال: وما هن؟ قلت: مشى الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء حين الكريهات. قال: ثم فيم؟ قلت: في الدرجات. قال: وما هن؟ قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة والناس نيام. قال: سل. قال: قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفرلي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربني إلى حبك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنها حق فادرسوها ثم تعلموها)).

(4/380)


وتعالى، وصفاته وتجلياته، وما يكون بعد القيامة، بل نقول: إنه - صلى الله عليه وسلم - كان عالما بجميع ما كان من بدء الخلق وما يكون إلى قيام الساعة إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار بعلم كلي تفصيلي محيط، فهذا كما ترى صريح في أنهم قد خصوا علمه عليه السلام بما كان من بدء الخلق إلى قيام الساعة فقط، واستثنوا منه ماعدا ذلك؟ فكأنهم صرحوا بصنيعهم هذا بأن لفظ الكل في حديث معاذ هذا ليس لاستغراق والعموم. وهذا هو المطلوب. وإذا كان كذلك بطل استدلالهم به على ما ابتدعوه. ومما يدل على عدم إرادة الاستغراق في الحديث، الآيات والأحاديث الصريحة الدالة على نفى علمه - صلى الله عليه وسلم - ببعض المغيبات من الممكنات، وقد تقدمت الإشارة إليه. ومما يدل على ذلك أيضا سياق هذا الحديث، فإنه يدل على أن المراد بقوله: تجلى لي كل شيء أي: ظهر وانكشف لي كل شيء مما يتعلق باختصام الملأ الأعلى، لا جميع ما كان وما يكون كما لا يخفى على المتأمل (وعرفت) تأكيد لما قبله (في الكفارات) أي: للسيئات (إلى الجماعات) أي: الصلوات المكتوبات (حين الكريهات) أي: وقت المكروهات من أيام البرد أو أزمنة الغلاء في ثمن الماء (قال: ثم فيم؟) أي: فيم يختصم الملأ الأعلى أيضا (في الدرجات) أي: في ما يرفع الجنات العاليات (ولين الكلام) أي: لطفه مع الأنام (قال: سل، قال: قلت) كذا في بعض النسخ للمشكاة وفي جامع الترمذي "قال: قلت" أي: بحذف"قال" الثانية، وهكذا في مسند أحمد (ج5:ص243) (وأسألك حبك) قال الطيبي: يحتمل أن يكون معناه أسألك حبك إياي، أو حبي إياك. وعلى هذا يحمل قوله: وحب من يحبك. وقيل: الإضافة هنا إلى المفعول أنسب (وحب عمل يقربني إلى حبك) قال الطيبي: هذا يدل على أنه طالب لمحبته ليعمل حتى يكون وسيلة إلى محبة الله إياه، فينبغي أن يحمل الحديث على أقصى ما يكون من المحبة في الطرفين. ولعل السر في تسميته بحبيب الله لا يخلو من هذا القول-

(4/381)


انتهى (إنها) أي: هذه الرؤيا (حق) لأن رؤيا الأنبياء وحي (فادرسوها) أي: فاحفظوا الألفاظ التي ذكرتها لكم في ضمنها، أو أن هذه
رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح، سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث. فقال: هذا حديث حسن صحيح.
755- (62) وعن عبدالله بن عمرو بن العاص، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا دخل المسجد: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم، قال: فإذا قال ذلك، قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم)) رواه أبوداود.
الكلمات حق فادرسوها، أي: اقرؤوها (ثم تعلموها) أي: معانيها الدالة هي عليها. قال الطيبي: أي: لتعلموها، فحذف اللام أي: لام الأمر (رواه أحمد والترمذي) في تفسير سورة ص. وأخرجه أيضا ابن خزيمة والدارقطني والحاكم والطبراني وابن عدي ومحمد بن نصر وابن مردويه وغيرهم. وهذا الحديث هو الذي أشار إليه المصنف بعد ذكر حديث عبدالرحمن ابن عائش في الفصل الثاني عن الدارمي بقوله: وللترمذي مثله عنه، وعن ابن عباس، ومعاذ بن جبل. وقد تقدم الكلام فيه هناك مفصلا.

(4/382)


755- قوله: (إذا دخل المسجد) أي: أراد دخوله عند وصول بابه (العظيم) ذاتا وصفة (وسلطانه) أي غلبته وقدرته (القديم) أي: الأزلي الأبدي (من الشيطان) مأخوذ من شطن أي: بعد، أي: المبعد من رحمة الله تعالى (الرجيم) فعيل بمعنى مفعول أي: المطرود من باب الله تعالى، أو المشتوم بلعنة الله. والظاهر أنه خبر معناه الدعاء يعني أللهم احفظني من وسوسته وإغوائه، وخطراته، وإضلاله، فإنه السبب في الضلالة، والباعث على الغواية والجهالة، وإلا ففي الحقيقة إن الله هو الهادي المضل، ويحتمل أن يكون التعوذ من صفاته وأخلاقه من الحسد، والعجب والكبر والغرور والإباء والإغواء (قال) أي: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فإذا قال) أي: المؤمن (ذلك) أي: القول المذكور (قال الشيطان حفظ) أي: قائل هذا القول (مني سائر اليوم) أي: بقيته أو جميعه ويقاس عليه الليل، أو يراد باليوم مطلق الوقت فيشمله، قال ابن حجر المكي: إن أريد حفظه من جنس الشياطين تعين حمله على حفظه من كل شيء مخصوص كأكبر الكبائر، أو من إبليس اللعين فقط، بقى الحفظ على عمومه، وما يقع منه من إغواء جنوده. وإنما ذكرت ذلك لأنا نرى ونعلم من يقول ذلك، ويقع في كثير من الذنوب، فتعين حمل الحديث على ما ذكرته- انتهى. قال القاري: وفيه أن الظاهر أن لام الشيطان للعهد والمراد منه قرينة المؤكل على إغوائه، وبه يرتفع أصل الإشكال، والله أعلم (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري.
756- (63) وعن عطاء بن يسار، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) رواه مالك مرسلا.
757- (64) وعن معاذ بن جبل، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب الصلاة في الحيطان)).

(4/383)


756- قوله: (اللهم لا تجعل قبري وثنا) بفتح الواو والمثلثة، وهو كل ماله جثة معمولة من الجواهر، أو الخشب والحجارة كصورة الآدمي. والصنم الصورة بلا جثة. وقيل: هما سواء. وقد يطلق الوثن على غير الصورة. ومنه حديث عدي بن حاتم: قدمت على النبي- صلى الله عليه وسلم -وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: ألق هذا الوثن عنك (يعبد) بصيغة المجهول أي: لا تجعل قبري مثل الوثن في تعظيم الناس وعودهم للزيارة بعد بدءهم واستقبالهم نحوه في السجود، كما نسمع ونشاهد الآن في بعض المزارات والمشاهد، قاله القاري. وقال الباجي:دعاءه - صلى الله عليه وسلم -أن لا يجعل قبره وثنا يعبد، تواضعا، والتزاما للعبودية لله تعالى، وإقرار بالعبودية، وكراهية أن يشركه أحد في عبادته، وعن مالك أنه كره لذلك أن يدفن في المسجد (اشتد) استئناف كأنه قيل: لم تدعوا بهذا الدعاء فأجاب بقوله اشتد (غضب الله) ترحما على أمته وتعطفا لهم، قاله الطيبي. وقال القاري: والأظهر أنه إخبار عما وقع في الأمم السالفة تحذيرا للأمة من أن يفعلوا فعلهم فيشتد غضبه عليهم (على قوم) هم اليهود والنصارى كما تقدم (اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) تقدم الكلام عليه (رواه مالك) أي: عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار (مرسلا) أي: بحذف الصحابي، قال ابن عبدالبر: لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث، وهو حديث غريب لا يكاد يوجد. قال: وزعم البزار أن مالكا لم يتابعه أحد على هذا الحديث إلا عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم، وليس بمحفوظ عن النبي- صلى الله عليه وسلم -بوجه من الوجوه إلا بهذا الوجه لا إسناد له غيره، إلا أن عمر بن محمد أسنده عن أبي سعيد الخدري، عن النبي- صلى الله عليه وسلم -، وعمر بن محمد ثقة. وقوله: اشتد غضب الله- الحديث. محفوظ من طرق كثيرة صحاح، هذا كلام البزار. قال ابن عبدالبر: مالك عند جميعهم حجة فيما نقل. وقد أسند حديثه هذا عمر بن محمد بن عبدالله بن عمر بن الخطاب، وهو من ثقات أشراف

(4/384)


أهل المدينة. فالحديث صحيح عند من يحتج بالمراسيل. وعند من قال بالمسند لإسناد عمر بن محمد، وهو ممن تقبل زيادته، وله شاهد عند العقيلي من طريق سفيان، عن حمزة بن المغيرة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رفعه: أللهم لا تجعل قبري وثنا، لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، كذا في شرح الزرقاني، وتنوير الحوا لك للسيوطي. وفي مجمع الزوائد (ج2: ص28) عن أبي سعيد الخدري أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: أللهم إني أعوذ بك أن يتخذ قبري وثنا، فإن الله تبارك وتعالى اشتد غضبه على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. رواه البزار. وفيه عمر بن صهبان، وقد اجمعوا على ضعفه.
757- قوله: (يستحب) بصيغة المعلوم (الصلاة) أي: النافلة. أو مطلقا (في الحيطان) بكسر المهملة جمع الحائط،
قال بعض رواته: يعني البساتين. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن أبي جعفر، وقد ضعفه يحيى بن سعيد وغيره.

(4/385)


قال الجزري: الحائط البستان من النخل إذا كان عليه حائط وهو الجدار. قال العراقي: استحبابه - صلى الله عليه وسلم - الصلاة في الحيطان يحتمل معاني: أحدها: قصد الخلوة عن الناس فيها، وبه جزم ابن العربي. الثاني: قصد حلول البركة في ثمارها ببركة الصلاة، فإنها جالبة للرزق. الثالث: أن هذا من كرامة المزور أن يصلي في مكانه. الرابع: أنها تحية كل منزل نزله أو توديعه، كذا في قوت المغتذي (قال بعض رواته) هو أبوداود الطيالسي الراوي للحديث عن الحسن بن أبي جعفر (يعني البساتين) جمع بستان (رواه الترمذي) وفي بعض النسخ "رواه أحمد والترمذي" وهو غلط من الناسخ (لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن أبي جعفر) الجفري- بضم الجيم وسكون الفاء- نسبة إلى جفرة خالد مكان بالصرة. واسم أبيه عجلان. وقيل: عمرو الأزدي. ويقال: العدوى البصري (وقد ضعفه يحيى بن سعيد وغيره) كأحمد وابن المديني وأبي داود والعجلى. وقال الساجي: منكر الحديث، من مناكيره حديث معاذ "كان يعجبه الصلاة في الحيطان" وقال عمرو بن علي: صدوق، منكر الحديث. كان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه. وقال الأزدي: هو عندي ممن لا يتعمد الكذب، وهو صدوق. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال ابن حبان: من خيار عباد الله الخشن. ضعفه يحيى وتركه أحمد، وكان من المتعبدين المجابى الدعوة، ولكنه ممن غفل عن صناعة الحديث وحفظه، فإذا حدث وهم وقلب الأسانيد وهو لا يعلم حتى صار ممن لا يحتج به، وإن كان فاضلا. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف الحديث مع عبادته وفضله. مات سنة (167) والظاهر أنه ضعيف من قبل حفظه. ويحيى بن سعيد المذكور هو يحيى بن سعيد بن فروخ الإمام العلم سيد الحفاظ القطان أبوسعيد التميمي مولاهم البصري الأحول، أحد أئمة الجرح والتعديل، وأحد فقهاء المحدثين ومجتهديهم، ولد سنة (120) روى عن هشام بن عروة، وحميد الطويل، والأعمش، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وطبقتهم، فأكثر جدا. وعنه ابن المهدي، وأحمد ومسدد

(4/386)


وإسحاق وابن المديني، وابن معين، وعمرو بن على الفلاس، وبندار وأمم سواهم. قال الحافظ: ثقة متقن، حافظ إمام قدوة. وقال أحمد: ما رأت عيناي مثله. وقال ابن المديني: ما رأيت أحدا أعلم بالرجال منه. وقال إسحاق بن إبراهيم بن أبي حبيب الشهيد: كنت أرى يحيى القطان يصلي العصر ثم يستند فيقف بين يديه على بن المديني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين والشاذكوني، وعمرو بن على يسألونه عن الحديث وهم قيام هيبة له، وقال ابن عمار: كنت إذا نظرت إلى يحيى القطان ظننت أنه لا يحسن شيئا، فإذا تكلم أنصت له الفقهاء. وقال بندار: اختلفت إلى يحيى بن سعيد عشرين سنة، فما أظن أنه عصى الله قط. وقال ابن معين: أقام يحيى القطان عشرين سنة يختم القرآن في كل ليلة، ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة. وقال ابن حبان: كان من سادات أهل زمانه حفظا، وورعا، وفهما، وفضلا، ودينا، وعلما، وهو الذي مهد لأهل العراق رسم الحديث، وأمعن في البحث عن
758- (65) وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((صلاة الرجل في بيته بصلاة، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة، وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة، وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة، وصلاته في مسجدي بخمسين ألف صلاة، وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة)). رواه ابن ماجه.
الثقات، وترك الضعفاء. مات سنة (198) وله (78) سنة. قال الذهبي في الميزان في ترجمة ابن عيينة: إن يحيى القطان متعنت جدا في الرجال، وهو غير ابن القطان الحافظ الإمام أبي الحسن على بن محمد الحميري الفاسي الشهير بابن القطان.

(4/387)


758- قوله: (صلاة الرجل في بيته) أي: منفردا كذا قيل: والأظهر أن يكون أعم (بصلاة) أي: محسوبة بصلاة واحدة أي: لا يزداد له في الأجر بسبب خصوص المكان، وهذا لا ينافي الزيادة التي ورد بها الشرع عموما، كقوله تعالى: ?من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها? [160:6] (في مسجد القبائل) أي: في المسجد الذي تجتمع فيه القبائل للصلاة جماعة. والمراد به مسجد الحي والمحلة (بخمس وعشرين صلاة) أي: بالإضافة إلى صلاته في بيته لا مطلقا (وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه) بتشديد الميم أي: يصلي فيه الجمعة (بخمس مائة صلاة) أي: بالنسبة إلى مسجد الحي (في المسجد الأقصى) أي: مسجد بيت المقدس، وسمي به لبعده من المسجد الحرام. وقيل: لبعده عن الأقذار والخبائث. والمقدس المطهر عن ذلك (بخمسين ألف صلاة) أي: بالإضافة إلى ما قبله (وصلاته في مسجدي بخمسين ألف صلاة) أي: بالنسبة إلى ما يليه (وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة) أي: بالنسبة إلى مسجد المدينة على ما يدل عليه سياق الكلام، فيحتاج إلى ضرب بعض الأعداد في بعض، فإنه ينتج مضاعفة كثيرة، وبه يجمع بين الروايات، ذكره القاري. قال ابن حجر المكي: قيل: إن هذا الحديث منكر لأنه مخالف لما رواه الثقات، وقد يقال: يمكن الجمع بينه وبين ما رووه بأن روايتهم "إن صلاة الجماعة تعدل صلاة المنفرد بخمس أو سبع وعشرين" تحمل على أن هذا كان أولا، ثم زيد هذا المقدار في المسجد الذي تقام فيه الجمعة، وكذا ما جاء "أن صلاة المسجد الأقصى بألف في سائر المساجد، وصلاة بمسجده - صلى الله عليه وسلم - بألف صلاة في المسجد الأقصى" كان أولا ثم زيد فيهما، فجعل الأول بخمسين ألفا في سائر المساجد، والثاني بخمسين ألفا في المسجد الأقصى، ومسجد مكة بمائة ألف في مسجده عليه الصلاة والسلام، وحينئذ فتزداد المضاعفة في مسجد مكة بأضعاف مضاعفة، فتأمله ضاربا مائة ألف في خمسين ألف ألف، ثم الحاصل في الخمسين ألفا تجد صحة ما

(4/388)


ذكرته، كذا في المرقاة (رواه ابن ماجه) في أواخر الصلاة من طريق أبي الخطاب الدمشقي، عن زريق أبي عبدالله الألهاني عن أنس. قال في الزوائد: إسناده ضعيف، لأن أبا الخطاب الدمشقي لا يعرف حاله. وزريق فيه مقال، حكى عن أبي زرعة أنه
759- (66) وعن أبي ذر، قال: ((قلت: يا رسول الله ! أي: مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام. قال: قلت: ثم أي؟ قال: ثم مسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عاما؛
قال لا بأس به. ذكره ابن حبان في الثقات وفي الضعفاء، وقال يتفرد بالأشياء التي لا تشبه حديث الإثبات. لا يجوز الاحتجاج بخبره إلا عند الوفاق- انتهى. وقال الذهبي في الميزان: إنه حديث منكر جدا.

(4/389)


759- قوله: (وضع في الأرض أول) بضم اللام وهي ضمة بناء لقطعة عن الإضافة مثل قبل وبعد. قال أبوالبقاء: وهو الوجه. والتقدير: أول كل شيء، ويجوز النصب منصرفا أي: أولا بالتنوين كما في رواية للبخاري. وغير منصرف لوزن الفعل والو صفية نحو قوله تعالى: ?والركب أسفل منكم? [42:8] (ثم أي) بالتنوين مشددا أي: ثم أي: مسجد وضع بعد المسجد الحرام؟ وهذا الحديث يفسر المراد بقوله ?إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين? [96:3] ويدل على أن المراد بالبيت بيت العبادة لا مطلق البيوت، قاله الحافظ. وقال الرازي في تفسيره: إن قوله تعالى: ?إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة? يحتمل أن يكون المراد كونه أولا في الوضع والبناء، وأن يكون المراد كونه أولا في كونه مباركا وهدى. ثم قال: إن دلالة الآية على الأولية في الفضل والشرف أمر لا بد منه، لأن المقصود الأصلي بيان الفضيلة، لأن المقصود ترجيحه على بيت المقدس، وهذا إنما يتم بالأولية في الفضيلة والشرف، ولا تأثير للأولية في البناء في هذا المقصد إلا أن ثبوت الأولية بسبب الفضيلة لا ينافي ثبوت الأولية في البناء (أربعون عاما) فيه إشكال، وذلك أن المسجد الحرام بناه إبراهيم عليه السلام بنص القرآن، والمسجد الأقصى بناه سليمان عليه السلام، كما أخرجه النسائي من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص، وإسناده صحيح، وبين إبراهيم وسليمان عليهما السلام أيام طويلة. قال أهل التاريخ: أكثر من ألف سنة. وجوابه أن الإشارة إلى أول البناء، ووضع أساس المسجد، وليس إبراهيم أول من بني الكعبة، ولا سليمان أول من بني بيت المقدس، فقد روي أن أول من بنى الكعبة آدم، ثم انتشر ولده، فجائز أن يكون بعضهم قد وضع بيت المقدس من بعده بأربعين عاما. قال القرطبي: يرتفع الإشكال بأن يقال: الآية والحديث لا يدلان على أن إبراهيم وسليمان لما بنيا المسجدين ابتداء وضعهما لهما، بل ذاك تجديد لما كان أسسه غيرهما وبدأه،

(4/390)


وبناء آدم لكعبة مشهور قلت: بل هو الذي أسس كلا من المسجدين، فذكر ابن هشام في كتاب التيجان أن آدم لما بنى الكعبة أمره الله بالسير إلى بيت المقدس، وأن يبنيه فبناه ونسك. والحاصل أن المراد في الحديث بناءهما قبل بناء إبراهيم للمسجد الحرام، وبناء سليمان للمسجد الأقصى، فإبراهيم وسليمان عليهما السلام مجددان للبناء لا مؤسسان. وقال ابن القيم في الهدى (ج1:ص9): قد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد به، فقال: معلوم أن سليمان بن داود الذي بنى المسجد الأقصى، وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف عام. وهذا من جهل هذا القائل، فإن سليمان إنما كان له من المسجد الأقصى
ثم الأرض لك مسجد، فحيث ما أدركت الصلاة فصل)) متفق عليه.
(8) باب الستر
?الفصل الأول?
760- (1) عن عمر بن أبي سلمة، قال: (( رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في ثوب واحد

(4/391)


تجديده لا تأسيسه، والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق صلى الله عليهما وسلم بعد بناء إبراهيم الكعبة بهذا المقدار- انتهى (ثم الأرض لك مسجد) أي: صالحة للصلاة فيها. ويخص هذا العموم بما ورد فيه النهي. قال السندي: كلمة "ثم" للتراخي بالإخبار، والمراد أنها كلها مسجد ما دامت على الحالة الأصلية التي خلقت عليها. وأما إذا انتجست فلا. ذكره لبيان أنه لا يؤخر الصلاة لإدراك فضل هذه المساجد (فحيث ما أدركتك الصلاة) أي: وقت الصلاة. وفيه إشارة إلى المحافظة على الصلاة في أول وقتها. ويتضمن ذلك الندب إلى معرفة الأوقات. وفي بعض الطرق: فأينما أدركتك الصلاة فصل، فإن الفضل فيه. قال الحافظ: في الحديث إشارة إلى أن المكان الأفضل للعبادة إذا لم يحصل لا يترك المأمور به لفواته، بل يفعل المأمور في بالمفضول، لأنه- صلى الله عليه وسلم - كأنه فهم عن أبي ذر من تخصيصه السؤال عن أول مسجد وضع، أنه يريد تخصيص صلاته فيه، فنبه على أن إيقاع الصلاة إذا حضرت لا يتوقف على المكان الأفضل( فصل) وفي بعض النسخ"فصله" بهاء ساكنة وهي هاء السكت. قال الطيبي: يعني سألت أبا ذر عن أما كن بنيت مساجد، واختصت العبادة بها، وأيها أقدم زمانا فأخبرتك بوضع المسجدين وتقدمهما على سائر المساجد، ثم أخبرك بما أنعم الله علي وعلى أمتي من رفع الجناح وتسوية الأرض في أداء العبادة فيها(متفق عليه) أخرجه البخاري في الأنبياء ومسلم في الصلاة،
وأخرجه أيضا النسائي وابن ماجه في الصلاة.

(4/392)


(باب الستر) أي: ستر العورة وسائر الأعضاء، وهو بالفتح مصدر سترته إذا غطيته، وبالكسر واحد الستور والأستار. قال الله تعالى: ?يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد? [7: 31]، روى مسلم من حديث ابن عباس، قال: كانت المرأة تطوف بالبيت عريانة- الحديث. وفيه"فنزلت: ?خذوا زينتكم? ووقع في تفسير طاؤس قال: في قوله تعالى: ?خذوا زينتكم? قال: الثياب. وصلة البيهقي، ونحوه من مجاهد. ونقل ابن حزم الاتفاق على أن المراد ستر العورة شرط لصحة الصلاة وإن كان في مكان خال. وفي غير حالة الصلاة يجب سترها عن أعين الناس ممن يحرم نظره.
760-قوله: (عن عمر بن أبي سلمة) هو عمر بن أبي سلمة عبدالله بن عبدالأسد المخزومي القرشي أبوحفص المدني، ربيب النبي- صلى الله عليه وسلم -. صحابي صغير، وأمه أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولد بأرض الحبشة في السنة الثانية من الهجرة. وقبض
مشتملا به، في بيت أم سلمة، واضعا طرفيه على عاتقيه)). متفق عليه.
761-(2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء)).

(4/393)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وله تسع سنين، وشهد مع علي الجمل. وأمره علي على البحرين. توفي في زمن عبدالملك بن مروان سنة (83) على الصحيح، له اثنا عشر حديثا، اتفقا على حديثين، روى عنه جماعة (مشتملا به) أي: بالثوب. ووقع في رواية للبخاري "متوشحا به". وفي بعض روايات مسلم "ملتحفا به" ومعنى الاشتمال والتو شح والالتحاف واحد هنا. وهو المخالفة بين طرفي الثوب بأن يأخذ الأيمن من تحت يده اليمنى فيلقيه على منكبه الأيسر، ويلقي طرف الثوب الأيسر من تحت يده اليسرى على منكبه الأيمن. قال الطيبي: الاشتمال، التوشح والمخالفة بين طرفي الثوب الذي ألقاه على منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى، ويأخذ طرفيه الذي ألقاه على منكبه الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقدهما على صدره، يعني لئلا يكون سدلا. قلت: الاشتمال على أنواع، أحدها: التوشح، وهو المذكور في حديث الإباحة. والثاني: ما فسر به الأخفش أن الاشتمال هو أن يلتف الرجل برداءه أو بكسائه من رأسه إلى قدمه، ويرد طرف الثوب الأيمن على منكبه الأيسر، ذكره الشوكاني. والثالث: اشتمال الصماء المنهى عنه. وقد اختلفوا في تفسيره، فقال أهل اللغة: هو أن يشتمل بالثوب حتى يجلل به جسده، لا يرفع منه جانبا، فلا يبقى ما يخرج منه يده، وإنما كره لئلا تعرض له حاجة من دفع بعض الهوام، فيعسر عليه إخراج يده فيلحقه الضرر، ولأنه يعسر عليه حينئذ رفع اليدين حذو أذنيه، وبسطهما على الأرض حذاء أذنيه في السجدة. وقالت الفقهاء: هو أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على أحد منكبيه فيبدو منه فرجه. وفائدة التوشح والاشتمال والالتحاف المذكورة في الأحاديث أن لا ينظر المصلى إلى عورة نفسه إذا ركع، ولئلا يسقط الثوب عند الركوع والسجود. والحديث يدل على أن الصلاة في الثوب الواحد صحيحة إذا توشح به المصلي، أي: وضع طرفيه على عاتقيه مخالفا بين طرفيه (في بيت أم سلمة) ظرف ليصلي

(4/394)


(واضعا طرفيه) تفسير مشتملا (على عاتقيه) العاتق ما بين المنكبين إلى أصل العنق (متفق عليه) وأخرجه أيضا مالك واحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
761- قوله: (لا يصلين) بنون التأكيد المشددة. قال ابن الأثير : وفي رواية الصحيحين "لا يصلي" بإثبات الياء، ووجهه أن لا نافية، وهو خبر بمعنى النهي. ورواه الدارقطني في غرائب مالك من طريق الشافعي بلفظ "لا يصل" ومن طريق عبدالوهاب بن عطاء" لا يصلين" أي: بزيادة التأكيد، قلت: وكذا رواه النسائي بلفظ "لا يصلين" (ليس على عاتقه منه شيء) الجملة المنفية حال. والمراد أنه لا يتزر في وسطه، ويشد طرفيه الثوب في حقويه بل يتوشح
متفق عليه.
762- (3) وعنه، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من صلى في ثوب واحد، فليخالف بين طرفيه)) رواه البخاري.

(4/395)


بهما على عاتقيه، فيحصل الستر من أعالي البدن وإن كان ليس بعورة. أو لكون ذلك أمكن في ستر العورة، وهذا إذا كان الثوب واسعا، وذلك لأنه إذا خالف بين طرفيه وضعهما على عاتقيه يكون بمنزلة الإزار والرداء جميعا، ويكون أستر وأجمل. وأما إذا كان ضيقا وليس عنده ثوب آخر شده على حقوه كما في حديث جابر عند الشيخين مرفوعا "إذا صليت في ثوب واحد، فإن كان واسعا فالتحف به، وإن كان ضيقا فاتزر به". وقيل: في حكمة وضع الثوب على العاتق إذا كان واسعا أنه إذا اتزر به ولم يكن على عاتقه منه شيء لم يؤمن أن تنكشف عورته، بخلاف ما إذا جعل بعضه على عاتقه. ولأنه قد يحتاج إلى إمساكه بيده أو بيديه، فيشتغل بذلك، ولا يتمكن من وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر فتفوت السنة والزينة المطلوبة في الصلاة. والحديث يدل على المنع من الصلاة في الثوب الواحد إذا لم يكن على عاتق المصلى منه شيء، وقد حمل الجمهور هذا النهي على التنزيه، فلو صلى في ثوب واحد ساتر لعورته وليس على عاتقه شيء منه صحت صلاته مع الكراهة، ولو كان الثوب واسعا. وأما أحمد وبعض السلف فذهبوا إلى أنه لا يصح صلاته، عملا بظاهر الحديث. وهذا هو الحق لأنه لا صارف للنهي عن معناه الحقيقي فيجب الجزم بمعناه الحقيقي وهو تحريم ترك جعل طرف الثوب الواحد حال الصلاة على العاتق، والجزم بوجوبه مع المخالفة بين طرفيه بالحديث الآتي حتى ينتهض دليل يصلح للصرف. ولكن هذا إذا كان الثوب واسعا، جمعا بين الأحاديث كما تقدم التصريح بذلك في حديث جابر. وقد عمل بظاهر الحديث ابن حزم (متفق عليه) قال ميرك: وفيه نظر من وجوه، الأول: أن قوله "لا يصلين" ليس فيهما بل فيهما "لا يصلي" والثاني : أن قوله "على عاتقيه" ليس في البخاري، وإنما فيه "على عاتقه" والثالث: أن قوله "منه" ليس في البخاري، وإنما هو من إفراد مسلم، كما صرح به الشيخ ابن حجر- أي: العسقلاني صاحب فتح الباري- انتهى. والحديث أخرجه

(4/396)


أيضا أحمد وأبوداود والنسائي.
762- قوله: (فليخالف بين طرفيه) زاد أحمد وأبوداود على عاتقيه. وهذا إذا كان الثوب واسعا، وأما إذا كان ضيقا فيشده على حقوه. قال النووي: المشتمل، والمتوشح، والمخالف بين طرفيه، معناه واحد هنا، وقد سبقه إلى ذلك الزهري. وقد حمل الجمهور هذا الأمر على الاستحباب، وخالفهم في ذلك أحمد. والخلاف في النهي في الحديث الذي قبل هذا. وقد تقدم أن الحق فيه ما ذهب إليه أحمد (رواه البخاري) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود.
763- (4) وعن عائشة، قالت: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف، قال: ((اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وائتوني بأنبجانية أبي جهم؛

(4/397)


763- قوله: (في خميصة) بفتح خاء وكسر ميم وصاد مهملة، ثوب رقيق مربع من خز أو صوف معلم، وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة، فعلى هذا قول عائشة (لها) أي: للخميصة (أعلام) جمع علم وهو رسم الثوب ورقمه، على وجه البيان والتأكيد، ولا يبعد أن يكون من طريق التجريد. وقال ابن عبدالبر في التمهيد: الخميصة هي كساء رقيق قد يكون بعلم وبغيره، وقد يكون أبيض معلما، وقد يكون أصفر وأحمر وأسود. وهي من لباس أشراف العرب، والجملة صفة لخميصة (فلما انصرف) أي: عن الصلاة (اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم) بفتح الجيم وسكون الهاء، هو أبوالجهم بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبدالله القرشي العدوي. قال البخاري وجماعة: اسمه عامر، وقيل: عبيد. أسلم عام الفتح، وصحب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان مقدما في قريش معظما، وعالما بالنسب. وهو أحد الأربعة الذين كانت قريش تأخذ عنهم علم النسب. وكان من المعمرين. حضر بناء الكعبة حين بنتها قريش، وحين بناها زبير. وهو أحد الأربعة الذين تولوا دفن عثمان، بقي إلى أول خلافة ابن الزبير. ووجه تخصيص أبي جهم بإرسال الخميصة إليه أنه هو الذي أهداها له - صلى الله عليه وسلم -، فلذلك ردها عليه، فقد روى مالك، عن علقمة بن أبي علقمة ، عن أمه أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: أهدى أبوجهم بن حذيفة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خميصة شامية، لها علم، فشهد فيها الصلاة- الحديث. قال ابن الأثير في أسد الغابة: قد اختلفوا في هذه الخميصة، فقال مالك: هكذا. ومنهم من قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى بخميصتين سوداوين، فلبس إحداهما وبعث بالأخرى إلى أبي جهم، فلما ألهته في الصلاة بعثها إلى أبي جهم، وطلب التي كانت عنده بعد أن لبسها لبسات. روى ذلك سعيد بن عبدالكبير – انتهى. وقال الحافظ في الإصابة (ج4:ص35) بعد ذكر الحديث برواية الصحيحين: وذكر الزبير من وجه آخر مرسلا أن

(4/398)


النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى بخميصتين سوداوين، فلبس إحداهما وبعث الأخرى إلى أبي جهم، ثم إنه أرسل إلى أبي جهم في تلك الخميصة، وبعث إليه التي لبسها هو، ولبس هو التي كانت عند أبي جهم بعد أن لبسها أبوجهم لبسات – انتهى. (وائتوني بأنبجانية أبي جهم) وإنما طلب انبجانيته بدلها لئلا يتأذى برد هديته. قال ابن بطال: إنما طلب منه ثوبا غيرها ليعلمه أنه لم يرد عليه هديته استخفافا به وهي – بفتح الهمزة وسكون النون وكسر الموحدة وتخفيف الجيم وبعد النون ياء نسبة مشددة – كساء يتخذ من الصوف وله خمل ولا علم له، وهو من أدون الثياب الغليظة. ويجوز كسر الهمزة وسكون النون وفتح الموحدة وتخفيف الياء بالمثناة. قال عياض: يروي بفتح الهمزة وكسرها، وبتشديد الياء وتخفيفها – انتهى. نسبة إلى منبج – بفتح الميم وكسر الموحدة – موضع معروف بالشام، فأبدلت الميم همزة في النسب. ويقال: نسبة إلى موضع يقال له: أنبجان، وفي هذه قال ثعلب: كساء أنبجاني، وهذا هو الأقرب إلى الصواب في لفظ الحديث. والأول فيه
فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي)) متفق عليه.

(4/399)


تعسف (فإنها) أي: الخميصة (ألهتي) من لهي – بكسر – إذا غفل، لا من "لها لهوا" إذا لعب (آنفا) أي: قريبا، أو في هذه الساعة (عن صلاتي) وعند مالك في الموطأ: فإني نظرت إلى علمها في الصلاة فكاد يفتنني. وفي الرواية الآتية "فأخاف أن يفتنني" فيحمل قوله "ألهتني" على قوله "كاد" فيكون الإطلاق للمبالغة في القرب لا لتحقق وقوع الإلهاء. وقيل: معنى قوله "يفتنني" يلهني عن الصلاة إلهاء أتم مما وقع منها أولا، فلا تنافي بين الجزم بوقوع الإلهاء بهاء ثم، وخشية وقوعه بها هنا. وكان ذلك هو حكمة التغاير بين الأسلوبين حيث عبر أولا بالإلهاء وثانيا بالفتنة. والحاصل أن المراد بالفتنة شيء فوق الإلهاء. وقيل: معنى ألهتني: أرادت أن تلهيني فلا ينافي قوله "فأخاف أن يفتنني" بمعنى يلهيني، بل يكون الثاني تفسيرا للأول. ولا يقال: إن المعنى شغلتني عن كمال الحضور في صلاتي، لأنا نقول: قوله "فأخاف أن يفتنني" يدل على نفي وقوع ذلك. وقد يقال: إن له عليه الصلاة والسلام حالتين حالة بشرية، وحالة يختص بها خارجة عن ذلك فبالنظر إلى الحالة البشرية قال ألهتني، وبالنظر إلى الحالة الثانية لم يجزم به، بل قال: أخاف. ولا يلزم من ذلك الوقوع. ونزع الخميصة ليستن به في ترك كل شغل، فهو تشريع لأمته، وليس المراد أن أبا جهم يصلي في الخميصة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليبعث إلى غيره بما يكرهه لنفسه، فهو كإهداء الحلة لعمر مع تحريم لباسها عليه، لينتفع بها ببيع أو غيره. وقيل كان هو أعمى فالإلهاء مفقود في حقه. قال ابن الجوزي: قيل: كيف خاف الإفتتنان بعلم من لم يلتفت إلى الأكوان بليلة ما زاغ البصر؟ وأجيب بأنه كان في تلك الليلة خارجا عن طباعه، فأشبه ذلك نظره من وراءه، فإذا رد إلى طبعة أثر فيه ما يؤثر في البشر. وقيل: أيضا إن المراقبة في الصلاة شغلت خلقا من أتباعه حتى أنه وقع السقف إلى جانب مسلم بن يسار ولم يعلم. وأجيب بأن أولئك كانوا يؤخذون

(4/400)


عن طبائعهم فيغيبون عن وجودهم. وكان الشارع يسلك طريق الخواص وغيرهم، فإذا سلك طريق الخواص وغير الكل فقال: لست كأحدكم، وإن سلك طريق غيرهم قال "إنما أنا بشر مثلكم" فرد إلى حالة الطبع ليستن به في ترك كل شاغل-انتهى. واستنبط من الحديث الحث على حضور القلب في الصلاة، وترك ما يؤدي إلى شغله. وقد شهد القرآن بالفلاح للمصلين الخاشعين، والفلاح أجمع اسم لسعادة الآخرة. وبانتفاء الخشوع ينتفي الفلاح. قال الأمير اليماني: في الحديث دليل على كراهة ما يشغل عن الصلاة من النقوش ونحوها مما يشغل القلب. وقال الطيبي: فيه إيذان بأن للصور والأشياء الزاهرة تأثيرا في القلوب الطاهرة والنفوس الزكية فضلا عما دونها. وفيه كراهة الصلاة على المفارش والسجاجيد المنقوشة، وكراهة نقش المساجد ونحوه (متفق عليه) واللفظ للبخاري. وقال ميرك: فيه نظر لأنه ليس هذا الحديث في مسلم بهذا اللفظ، وإنما هو لفظ البخاري. ولفظ مسلم عن عائشة، قالت: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في خميصة ذات أعلام، فنظر إلى أعلامها، فلما قضى صلاته قال: اذهبوا بهذه الخميصة إلى أبي جهم بن حذيفة، رائتوني بأنجانيته، فإنها ألهتني آنفا في صلاتي. فانظر في اختلاف الألفاظ-انتهى. قلت: مقصود المصنف أن أصل الحديث متفق عليه لا خصوص هذا اللفظ. وعلى هذا
وفي الرواية للبخاري، قال: كنت أنظر إلى عملها وأنا في الصلاة فأخاف أن يفتنني.
764- (5) وعن أنس، قال: كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أميطي عنا قرامك هذا، فإنه لا يزال تصاويره تعرض لي في صلاتي)) رواه البخاري.
765- (6) وعن عقبة بن عامر، قال: ((أهدي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فروج حرير، فلبسه ثم صلى فيه، ثم انصرف فنزعه نزعا شديدا كالكاره له،

(4/401)


فلا اعتراض على المصنف في عزو الحديث إلى الشيخين. والحديث أخرجه أيضا مالك، وأحمد والنسائي (وفي رواية) أي: معلقة (إلى علمها) أي: علم الخميصة (وأنا في الصلاة) جملة حالية (فأخاف أن يفتنني) بفتح المثناة التحتية في أوله، وكسر المثناة فوق، وبالنونين من باب ضرب يضرب، وفي رواية تفتنني بفتح المثناة الفوقية في أوله بدل التحتية أي: تمنعني من الصلاة وتشغلني عنها.
764- قوله: (قرام) بكسر القاف وتخفيف الراء، الستر الرقيق، وقيل: الصفيق من صوف ذى ألوان. وقيل الستر الرقيق وراء الستر الغليظ (جانب بيتها) هو يحتمل جانب الباب وجانب الجدار (أميطي) أمر من أماط يميط أي: أزيلي (فإنه) الضمير للشأن أو لقرام (تصاويره) جمع تصوير بمعنى الصورة أي: تماثيله، أو نقوشه (تعرض) بفتح المثناة الفوقية وكسر الراء أي: تلوح وتظهر لي (في صلاتي) في الحديث دلالة على إزالة ما يشوش على المصلى صلاته مما في منزله أو في محل صلاته. ولا دليل فيه على بطلان الصلاة، لأنه لم يرو أنه - صلى الله عليه وسلم - أعادها أو قطعها، نعم! تكره الصلاة حينئذ لما فيه من سبب اشتغال القلب المفوت للخشوع. قال الحافظ: وقد استشكل الجمع بين هذا الحديث وبين حديث عائشة أيضا أنه اشترت نمرقة فيها تصاوير، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - بالباب، فلم يدخل – الحديث. لأنه يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يدخل البيت الذي كان فيه الستر المصور أصلا حتى نزعه. وهذا يدل على أنه أقره وصلى، وهو منصوب إلى أن أمر بنزعه من أجل ما ذكر من رؤية الصورة حالة الصلاة، ولم يتعرض لكونها صورة، ويمكن الجمع بأن الأول كانت تصاويره من ذوات أرواح، وهذا أي: القرام المذكور في حديث الباب كانت تصاوير من غير الحيوان كصورة الشجرة ونحوها (رواه البخاري) في الصلاة، وفي اللباس.

(4/402)


765- قوله: (أهدى) على بناء المفعول (فروج حرير) بالإضافة كثوب خز، وخاتم فضة. وفي رواية أحمد "فروج من حرير" وهو بفتح الفاء وتشديد الراء المضمومة وتخفيفها وآخرها جيم. وحكى عن أبي العلاء المعرى ضم أوله وخفة الراء على وزن خروج، قباء مشقوق عن خلفه، وهو من لبوس الأعاجم. وكان الذي أهداه له أكيدر بن عبدالملك صاحب دومة (فلبسه) قبل تحريم الحرير (فنزعه نزعا) بفتح النون وسكون الزاى (شديدا كالكاره له)
ثم قال: لا ينبغي هذا للمتقين)) متفق عليه.
?الفصل الثاني?
766- (7) عن سلمة بن الأكوع، قال قلت: ((يارسول الله ! إني رجل أصيد؛ أ فأصلي في القميص الواحد؟ قال: نعم، وازرره

(4/403)


وفي حديث جابر بن مسلم "صلى في قباء ديباج، ثم نزعه، وقال: نهاني جبريل عليه السلام، فهذا ظاهر في أن صلاته فيه كانت قبل تحريمه. وأن النهي سبب نزعه له، وذلك ابتداء تحريمه. قال ابن تيمية: حديث عقبة محمول على أنه لبسه قبل تحريمه، إذ لا يجوز أن يظن به أنه لبسه بعد التحريم في صلاة ولا غيرها. ويدل على إباحته في أول الأمر ما روى أنس بن مالك: أن أكيدردومة أهدى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - جبة سندس أو ديباج قبل أن ينهى عن الحرير، فلبسها، فتعجب الناس منها، فقال: والذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن منها. رواه أحمد (لا ينبغي هذا) أي: لا يجوز استعمال الحرير (للمتقين) عن الكفر، وهم المؤمنون، وعبر بجمع الذكر ليخرج النساء لأنه حلال لهن. فإن قلت: يدخلن تغليبا، أجيب بأنهن خرجن بدليل آخر قال - صلى الله عليه وسلم -: أحل الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرم على ذكورها، أخرجه أحمد والترمذي وصححه. والحديث يدل على تحريم الصلاة في الحرير، وقد اختلفوا هل تجزئ الصلاة في الحرير بعد تحريمه أم لا؟ فقال الحافظ: إنها تجزئ عند الجمهور مع التحريم، وعن مالك يعيد في الوقت إن وجد ثوبا غيره. وقد استدل بعضهم لجواز الصلاة في ثياب الحرير بعدم إعادته - صلى الله عليه وسلم - لتلك الصلاة، وهو مردود لأن ترك إعادتها لكونها وقعت قبل التحريم كما دل عليه حديث جابر (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة، وفي اللباس، ومسلم في اللباس، وأخرجه أيضا النسائي في اللباس.

(4/404)


766- قوله: (عن سلمة) بفتح السين واللام (بن الأكوع) هو سلمة بن عمرو بن الأكوع، واسمه سنان بن عبدالله ابن قشير الأسلمي، أبومسلم المدني، شهد بيعة الرضوان. قال الخزرجي: بايع تحت الشجرة أو الناس وأوسطهم وآخرهم على الموت، وكان شجاعا راميا سخيا خيرا فاضلا، كان يسبق الفرس شدا على قدميه، استوطن الربذة بعد قتل عثمان، وتزوج بها امرأة، وولدت له أولادا، فلم يزل بها حتى قبل أن يموت بليال فنزل المدينة وتوفي بها سنة (74) له سبعة وسبعون حديثا، اتفقا على ستة عشر، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بتسعة، روى عنه خلق كثير (إني رجل أصيد) بصيغة المتكلم كأبيع من صاد يصيد، أي: أخرج للإصطياد، وفي رواية أحمد والنسائي: إن أكون في الصيد. وفي رواية ابن حبان "إني رجل أتصيد" وإنما ذكر الصيد لأن الصائد يحتاج أن يكون خفيفا ليس عليه ما يشغله عن الإسراع في طلب الصيد، قاله ابن الأثير (قال نعم) أي: صل فيه (وازرره) بضم الراء من باب نصر، أي: شد جيب القميص،
ولو بشوكة)). رواه أبوداود، وروى النسائي نحوه.
767- (8) وعن أبي هريرة، قال: ((بينما رجل يصلي مسبل إزاره، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذهب فتوضأ، فذهب وتوضأ،

(4/405)


وأربطه، واجمع بين طرفيه لئلا تظهر عورتك (ولو بشوكة) أي: ولو لم يمكنك ذلك إلا بأن تغرز في طرفة شوكة تستمسك بها. قال الطيبي: هذا إذا كان جيب القميص واسعا يظهر منه عورته فعليه أن يزره لئلا تنكشف العورة- انتهى. والحديث يدل على جواز الصلاة في الثوب الواحد، وفي القميص منفردا عن غيره مقيدا بعقد الإزار. قال في شرعة الإسلام ومن آداب الصلاة زر القميص بناء على أن الصحيح أن ستر عورته عن نفسه ليس بشرط، حتى لو كان محلول الجيب فنظر إلى عورته لا يعيد صلاته، كذا في التبيين. وفي شرح المنية أفتى بعض المشائخ بأنه إذا رأى عورته تفسد صلاته. وهو ظاهر الحديث. قال القاري(رواه أبوداود) من طريق الدراوردي، عن موسى بن إبراهيم المخزومي، عن سلمة بن الأكوع. وأخرجه أيضا أحمد والشافعي وابن خزيمة والطحاوي وابن حبان والحاكم، وعلقه البخاري في صحيحه، وقال: في إسناده نظر. قال الحافظ في الفتح: وقد وصله المصنف أي: البخاري في تاريخه. وأبوداود وابن خزيمة وابن حبان من طريق الدراوردي. قال: ورواه البخاري أيضا عن إسماعيل بن أبي أويس، عن أبيه، عن موسى بن إبراهيم، عن أبيه، عن سلمة. زاد في الإسناد رجلا . ورواه أيضا عن مالك بن إسماعيل، عن عطاف ابن خالد. قال: حدثنا موسى بن إبراهيم، قال: حدثنا سلمة، فصرح بالتحديث بين موسى وسلمة، فاحتمل أن يكون رواية أبي أويس من المزيد في متصل الأسانيد، أو يكون التصريح في رواية عطاف وهما، فهذا وجه النظر في إسناده- انتهى. والحديث سكت عنه أبوداود والمنذري. قال الحافظ في الفتح: أما من صححه فاعتمد رواية الدراوردي، وجعل رواية عطاف شاهدة لاتصالها. وطريق عطاف أخرجها أيضا أحمد والنسائي- انتهى. وقال في التلخيص قد بينت طرق الحديث في تعليق العليق، وله شاهد مرسل، وفيه انقطاع أخرجه البيهقي.

(4/406)


767- قوله(مسبل إزاره) صفة بعد صفة لرجل، أي: مرخ إزاره عن الحد الشرعي- وهو الكعبان- ففي حديث أبي هريرة عند أبي داود: ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار(قال له) وفي أبي داود "إذ قال له"بزيادة "إذ" قال القاري: أي: بعد صلاته لكون صلاته صحيحة، فأراد أن يبين أنها غير مقبولة، وقال ابن حجر: ظاهر الحديث أنه أمر المسبل بقطع صلاته ثم بالوضوء( إذهب فتوضأ) قيل: نما أمره بالوضوء ليعلم أنه مرتكب معصية لما أسبقه في نفوسهم أن الوضوء يكفر الخطايا ويزيل أسبابها كالغضب ونحوه، وقال الطيبي: لعل السر في أمره بالتوضي وهو ظاهر أن يتفكر الرجل في سبب ذلك الأمر فيقف على ما ارتكبه من المكروه (أى ينظر إلى إسباله المخل في إسباغ الوضوء المسبب لعدم قبول الصلاة) وأن الله ببركة أمر رسوله عليه الصلاة والسلام إياه بطهارة الظاهر يطهر باطنه من
ثم جاء. فقال رجل يا رسول الله ! مالك أمرته أن يتوضأ؟ قال: إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره، وأن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل إزاره)). رواه أبوداود.
768- (9) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقبل صلاة حائض

(4/407)


دنس الكبر، لأن طهارة الظاهر مؤثرة في طهارة الباطن، فعلى هذا ينبغي أن يعبر كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أن الله تعالى لا يقبل صلاة المتكبر المختال، فتأمل في طريق التنبيه، ولطف هذا الإرشاد. ومنه ما روى عن عطية، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما يطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ). أخرجه أبوداود- انتهى كلام الطيبي (ثم جاء) كأنه جاء وهو غير مسبل إزاره (فقال رجل) لم يعرف اسمه (مالك أمرته أن يتوضأ) أي: والحال أنه طاهر متوضئ لم يوجد منه ما ينقض وضوئه (لا يقبل) أي: قبوله كاملا (صلاة رجل مسبل إزاره) قال القاري: ظاهر جوابه عليه السلام أنه أعاده بالوضوء- والله أعلم- أنه لما كان يصلي وما تعلق القبول الكامل بصلاته، والطهارة من شرائط الصلاة وأجزائها الخارجية، فسرى عدم القبول إلى الطهارة أيضا، فأمره بإعادة الطهارة حثا على الأكمل والأفضل- انتهى. قلت: ويمكن أن يستدل بالحديث على كون الإسبال من مفسدات الصلاة بناء على أن عدم القبول يرادف الرد، وإذا كانت صلاة المسبل مردودة كانت باطلة، والله أعلم (رواه أبوداود) في الصلاة واللباس، وفي سنده أبوجعفر، وهو رجل من أهل المدينة لا يعرف اسمه. قال الحافظ: أبوجعفر المؤذن الأنصاري المدني مقبول، ومن زعم أنه محمد بن على بن الحسين (الباقر) فقدوهم- انتهى. قال النووي في "رياض الصالحين" بعد ذكر هذا الحديث: رواه أبوداود بإسناد صحيح على شرط مسلم- انتهى. وفي الباب عن ابن عباس مرفوعا: (إذا صليتم فارفعوا سبلكم (أي لثياب المسبلة) فكل شيء أصاب الأرض من سبلكم فهو في النار). رواه الطبراني في الكبير، وفيه عيسى بن قرطاس وهو ضعيف جدا. وعن عطاء بن يسار، عن بعض أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم -، قال: بينما رجل يصلي وهو مسبل إزاره قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اذهب فتوضأ. . . قال: فذهب

(4/408)


فتوضأ ثم جاء، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اذهب فتوضأ، ثم جاء، فقال (رجل): يا رسول الله ! مالك أمرته يتوضأ ثم سكت عنه؟ فقال: إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره، وإن الله تبارك وتعالى لا يقبل صلاة عبد مسبل إزاره، ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج5:ص125) وقال: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. وعزاه صاحب الأطراف إلى النسائي، ولم أجد في نسختي، فلعله في الكبرى انتهى. وعن ابن مسعود، أنه رأى أعرابيا يصلي قد أسبل إزاره، فقال: المسبل إزاره في صلاته ليس من الله في حل ولا حرام. رواه الطبراني ورجاله ثقات.
768- قوله: (لا تقبل) أي: لا تصح إذ الأصل في نفى القبول نفى الصحة والإجزاء إلا لدليل (صلاة حائض) يعني
إلا بخمار)) رواه أبوداود والترمذي.
769- (10) وعن أم سلمة، ((أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتصلي المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار؟ قال: إذا كان الدرع سابغا يغطى ظهور قدميها)).

(4/409)


به المرأة البالغة أي: المكلفة، وإن تكلفت بالاحتلام مثلا. وإنما عبر بالحيض نظرا إلى الأغلب. قال الخطابي: يريد بالحائض المرأة التي بلغت سن الحيض، ولم يرد به التي هي في أيام حيضها، لأن الحائض لا تصلي بوجه- انتهى. وقيل: الأصواب أن يراد بالحائض من شأنها الحيض، ليتناول الصغيرة أيضا، فإن ستر رأسها شرط لصحة صلاتها أيضا. قلت: ويدل لما قال الخطابي ما رواه الطبراني في الصغير والأوسط من حديث أبي قتادة مرفوعابلفظ: لا يقبل الله من امرأة صلاة حتى توارى زينتها، ولا من جارية بلغت الحيض حتى تختمر (إلا بخمار) بكسر الخاء المعجمة آخره راء، قال في القاموس: الخمار بالكسر النصيف، وكل ما ستر شيئا فهو خماره. وقال: نصيف كأمير: الخمار والعمامة، وكل ما غطى الرأس- انتهى. والمراد به هنا ما تغطى به المرأة رأسها وعنقها. والحديث يدل على أن رأس المرأة عورة، وأنه يجب عليها ستر رأسها وعنقها حال الصلاة. واستدل به من سوى بين الحرة والأمة في العورة لعموم ذكر الحائض، ولم يفرق بين الحرة والأمة، وهو قول أهل الظاهر. وفرق الجمهور بين عورة الحرة والأمة، وحملوا الحديث على الحرة. والحديث قد استدل به على أن ستر العورة شرط في صحة الصلاة، لأن قوله"لا تقبل" صالح للاستدلال به على الشرطية كما تقدم وقد اختلف في ذلك. ومذهب الجمهور أن ستر العورة من شروط الصلاة (رواه أبوداود والترمذي) وحسنه. ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. والحديث أخرجه أيضا أحمد وابن ماجه وابن خزيمة والحاكم في المستدرك (ج1:ص251) وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأظن أنه لخلاف فيه على قتادة، ثم رواه الحاكم من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن مرفوعامرسلا. وكذلك أشار أبوداود بعد روايته إلى رواية الحسن المرسلة كأنه يعلل الحديث بها. وليست هذه بالعلة، فإن حماد بن سلمة ثقة، والرواية المرسلة تؤيد المتصلة، وهي من طريق آخر، فهو عند قتادة عن

(4/410)


شيخين عن ابن سيرين متصلا، وعن الحسن مرسلا. والحديث صحيح كما قال الحاكم، أو حسن كما قال الترمذي.
769- قوله: (في درع) أي: قميص (ليس عليها) أي: ليس تحت قميصها أو فوقه (إزار) أي: ولا سراويل (قال) أي: نعم (إذا كان الدرع سابغا) أي: كاملا واسعا (يغطى ظهور قدميها) يعني يجوز لها حينئذ أن تصلي في درع وخمار ليس عليها إزار، ففي بعض ألفاظ الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: لا بأس إذا كان الدرع سابغا، الخ. والحديث دليل لمن قال: إن قدمي المرأة عورة يجب سترها، لأن قوله: "يغطى ظهور قدميها" يدل على عدم العفو، فهو حجة لمن
رواه أبوداود، وذكر جماعة وقفوه على أم سلمة.
770- (11) وعن أبي هريرة، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن السدل في الصلاة،

(4/411)


لم يستثن القدمين من العورة. وإليه ذهب أكثر العلماء. وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة. قال الأمير اليماني في السبل بعد ذكر حديث أم سلمة هذا وحديث عائشة السابق ما لفظه: هذا يدل على أنه لا بد في صلاتها من تغطية رأسها ورقبتها كما أفاد حديث الخمار، ومن تغطية بقية بدنها حتى ظهر قدميها كما أفاده حديث أم سلمة ويباح كشف وجهها حيث لم يأت دليل بتغطيته. والمراد كشفه عند صلاتها بحيث لا يراها أجنبي، فهذه عورتها في الصلاة. وأما عورتها بالنظر إلى نظر الأجنبي إليها فكلها عورة كما يأتي تحقيقه. وذكره هنا، وجعل عورتها في الصلاة هي عورتها بالنظر إلى نظر الأجنبي، وذكر الخلاف في ذلك ليس محله هنا، إذ لها عورة في الصلاة، وعورة في نظر الأجانب، والكلام الآن في الأول، والثاني يأتي في محله- انتهى. قلت: قد اختلف العلماء في تحديد عورة المرأة في الصلاة وخارجها اختلافا كثيرا، إن شئت الوقوف على ذلك فارجع إلى المغني لابن القدامة. والراجح عندي ما ذهب إليه الحنابلة من أن الحرة البالغة كلها عورة في الصرة حتى ظفرها وشعرها إلا وجهها، والوجه والكفان عورة خارج الصلاة باعتبار النظر إليها كبقية البدن. قال الخطابي: في خبر أم سلمة دليل على صحة قول من لم يجز صلاتها إذا انكشف من بدنها شيء، ألا تراه عليه السلام يقول: إذا كان سابغا يغطى ظهور قدميها، فجعل من شرط جواز صلاتها لئلا يظهر من أعضاءها شيء- انتهى (رواه أبوداود) أي: مرفوعا(وذكر) أي: أبوداود (جماعة) أي: من الرواة (وقفوه على أم سلمة) قال أبوداود بعد روايته من طريق عبدالرحمن بن عبدالله بن دينار، عن محمد بن زيد بن قنفذ، عن أمه، عن أم سلمة مرفوعا: روى هذا الحديث مالك بن أنس، وبكر بن مضر، وحفص بن غياث، وإسماعيل بن جعفر، وابن أبي ذئب، وابن إسحاق عن محمد بن زيد، عن أمه عم أم سلمة، لم يذكر أحد منهم النبي- صلى الله عليه وسلم -، قصروا به على أم سلمة- انتهى. يعني أن هؤلاء

(4/412)


الرواة الثقات كلهم رووه وقوفا على أم سلمة، ولم يرفعوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخالفهم عبدالرحمن بن عبدالله بن دينار، فروى عن محمد بن زيد عن أم سلمة مرفوعا: فكأنه أشار إلى أن هذا الرفع شاذ. قال الزرقاني: يعني فرواية عبدالرحمن شاذة، وهو وإن كان صدوقا لكنه يخطئ، فلعله أخطأ في رفعه. وأعله أيضا عبدالحق بأن مالكا وغيره رووه موقوفا. قال الحافظ: وهو الصواب، ولكنه قد قال الحاكم بعد إخراجه: أن رفعه صحيح على شرط البخاري- انتهى. وقال الشوكاني: الرفع زيادة لا ينبغي إلغاءها كما هو مصطلح أهل الأصول، وبعض أهل الحديث، وهو الحق. وقال الأمير اليماني: له حكم الرفع وإن كان موقوفا، إذ الأقرب أنه لا مسرح للاجتهاد في ذلك.
770- قوله: (نهى عن السدل في الصلاة) قال الجوهري: سدل ثوبه يسدله- بالضم- سدلا أي: أرخاه. وقال
وأن يغطى الرجل فاه)) رواه أبوداود، والترمذي.
771- (12) وعن شداد بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خالفوا اليهود،

(4/413)


الخطابي: السدل إرسال الثوب حتى يصيب الأرض- انتهى. فعلى هذا السدل والإسبال واحد. وقال أبوعبيد في غريبه: السدل إسبال الرجل ثوبه من غير أن يضم جانبيه بين يديه، فإن ضمه فليس بسدل- انتهى. وقال الجزري: هو أن يلتحف بثوبه ويدخل يديه من داخل فيركع ويسجد وهو كذلك. قال: وهذا مطرد في القميص وغيره من الثياب. قال: وقيل: هو أن يضع وسط الإزار على رأسه (أو على كتفه) ويرسل طرفيه عن يمينه وشماله من غير أن يجعلهما على كفيه- انتهى. ولا مانع من حمل الحديث على جميع هذه المعاني إن كان السدل مشتركا بينها. وحمل المشترك على جميع معانيه هو المذهب القوي، قاله الشوكاني. والحديث يدل على تحريم السدل في الصلاة، سواء كان عليه قميص أو سراويل أو لم يكن، لأنه معنى النهي الحقيقي، ولا موجب للعدول عن تحريم لعدم وجدان صارف له عن ذلك. وقد روى أن السدل من فعل اليهود. أخرج الخلال في العلل، وأبوعبيد في الغريب عن على أنه خرج فرأى قوما يصلون قد سدلوا ثيابهم فقال: كأنهم اليهود خرجوا من قهرهم (وأن يغطى الرجل فاه) أي: فمه في الصلاة. قال الخطابي: فإن من عادة العرب التلثم بالعمائم على الأفواه، فنهوا عن ذلك في الصلاة إلا أن يعرض الثوباء فيغطى فمه عند ذلك للحديث الذي جاء فيه- انتهى. والحديث يدل على تحريم أن يصلى الرجل متلثما أي: مغطيا فمه. وحكمة النهي أن في التغطية منعا من القراءة والأذكار المشروعة. ولأنه لو غطى بيده فقد ترك سنة اليد، ولو غطاه بثوب فقد تشبه بالمجوس لأنهم يتلثمون في عبادتهم النار. قال ابن حبان: وإنما زجر عن تغطية الفم في الصلاة على الدوام لا عند التثاؤب بمقدار ما يكظمه لحديث"إذا تثاؤب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع" وفي رواية "فليمسك بيده على فمه، فإن الشيطان يدخل فيه" رواه مسلم (رواه أبوداود والترمذي) فيه نظر لأنه ليس في الترمذي "أن يغطى الرجل فاه" فروى الحديث الترمذي مقتصرا على الفصل الأول، وكذا رواه

(4/414)


أحمد، والحاكم، والطبراني في الأوسط. وروى ابن ماجه الفصل الثاني فقط. ورواه ابن حبان بتمامه كأبي داود. والحديث حسن، فرجال إسناده كلهم ثقات إلا عسل بن سفيان، وهو لم يتفرد به بل تابعه سليمان الأحول عند أبي داود. وتابعه أيضا عامر الأحول كما أخرجه الطبراني في معجمه الوسط. قال الزيلعي: رجاله كلهم ثقات إلا أبا بكر البحراوي فإنه ضعفه أحمد، وابن معين، وغيرهما. وكان يحيى بن سعيد حسن الرأى فيه، وروى عنه، وقال ابن عدي: وهو ممن يكتب حديثه.
771- قوله: (وعن شداد بن أوس) بن ثابت الأنصاري النجاري، يكنى أبا يعلى، المدني ابن أخي حسان بن ثابت، صحابي، مات بالشام سنة (58) وهو ابن خمس وسبعين سنة. وقيل: توفي سنة (64) قال عبادة بن الصامت: شداد ابن الأوس من الذين أوتوا العلم والحلم. له خمسون حديثا. انفرد له البخاري بحديث، ومسلم بآخر (خالفوا اليهود)
فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم)). رواه أبوداود.
772- (13) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم، ألقوا نعالهم.

(4/415)


أي: بالصلاة في نحو النعال (فإنهم لا يصلون في نعالهم) بكسر النون، جمع نعل وهي معروفة (ولا خفافهم) بكسر الخاء المعجمة جمع خف بالضم. قال الشاه ولى الله: كان اليهود يكرهون الصلاة في نعالهم وخفافهم، لما فيه ترك التعظيم، فإن الناس يخلعون نعالهم بحضرة الكبراء وهو قوله تعالى: ?فاخلع نعليك، إنك بالواد المقدس طوى? [12:20] وكان هناك وجه آخر، وهو أن الخف والنعل تمام زى الرجل فترك النبي - صلى الله عليه وسلم - القياس الأول، وأبدى الثاني مخالفة لليهود- انتهى. والحديث يدل على مشروعية الصلاة في النعال. وقد اختلف نظر الصحابة والتابعين في ذلك هل هو مستحب أو مباح أو مكروه؟ وأقل أحوال هذا الحديث الدلالة على الاستحباب من جهة قصد مخالفة اليهود. وقال الحافظ في الفتح في شرح حديث أبي سلمة سعيد بن يزيد: سألت أنسا أكان النبي- صلى الله عليه وسلم - يصلي في نعليه؟ قال نعم. قال ابن بطال: هو محمول على ما إذا لم يكن فيهما نجاسة، ثم هي من الرخص كما قال ابن دقيق العيد، لا من المستحبات، لأن ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب من الصلاة، وهو وإن كان من ملابس الزينة إلا أن ملامسة الأرض التي تكثر فيها النجاسات قد تقصر عن هذه الرتبة. وإذا تعارضت مراعاة مصلحة التحسين ومراعاة مصلحة النجاسة قدمت الثانية، لأنها من باب رفع المفاسد والأخرى من باب جلب المصالح. قال: إلا أن يرد دليل بإلحاقه بما يتجمل، فيرجع إليه، ويترك هذا النظر. قال الحافظ: قد روى أبوداود والحاكم من حديث شداد بن أوس مرفوعا" خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم" فيكون استحباب ذلك من جهة قصد المخالفة المذكورة. قال: وورد في كون الصلاة في النعال من الزينة المأمور بأخذها في الآية حديث ضعيف جدا، أورده ابن عدي في الكامل، وابن مردويه في تفسيره من حديث أبي هريرة، والعقيلي من حديث أنس – انتهى (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. وأخرجه أيضا ابن حبان

(4/416)


في صحيحه والحاكم والبيهقي. قال الشوكاني: لا مطعن في إسناده. وفي الباب عن جماعة من الصحابة، ذكر تخريج أحاديثهم الشوكاني في النيل، والهيثمي في مجمع الزوائد.
772- قوله: (إذا خلع نعليه) أي: نزعهما عن رجليه (فوضعهما عن يساره) فيه معنى التجاوز، أي: وضعهما بعيدا متجاوزا عن يساره. وفيه من الأدب أن المصلي إذا صلى وحده وخلع نعله وضعها عن يساره. وإذا كان مع غيره في الصف، وكان عن يمينه ويساره ناس فإنه يضعها بين رجليه كما سيأتي. وفيه دليل على جواز عمل قليل في الصلاة. وأن العمل اليسير لا يقطع الصلاة (فلما رأى ذلك) أي: خلع النعل (ألقوا نعالهم) أي: خلعوها عن أرجلهم ثم ألقوها
فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته، قال: ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك، فألقينا نعالنا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن جبرئيل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا. إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذرا فليمسحه وليصل فيهما)). رواه أبوداود والدارمي.
773- (14) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلى أحدكم فلا يضع نعليه عن يمينه، ولا عن يساره فتكون عن يمين غيره، إلا أن لا يكون على يساره أحد،

(4/417)


(نعالكم) بالنصب (أن فيهما قذرا) بفتحتين، أي: نجاسة، وفي رواية أحمد"أن بهما خبثا" والحديث يدل على أن المصلي إذا دخل في الصلاة وهو متلبس بنجاسة غير عالم بها أو ناسيا لها ثم عرف بها أثناء صلاته أنه يجب عليه إزالتها، ثم يستمر في صلاته، ويبنى على ما صلى. قال الخطابي: في الحديث من الفقه أن من صلى وفي ثوبه نجاسة لم يعلم بها فإن صلاته مجزية ولا إعادة عليه. قال القاضي: ومن يرى فساد الصلاة حمل القذر على ما تقذر عرفا كالمخاط. وحمله بعضهم على المقدار المعفو من النجاسة. قلت: حمله على مستقذر غير نجس، أو نجس معفو عنه تحكم، ويرد حمل القذر على المستقذر الغير النجس رواية الخبث المذكورة للاتفاق بين أئمة اللغة وغيرهم أن الأخبثين هما البول والغائط (فإن رأى في نعليه) أو في أحدهما (قذرا فليمسحه وليصل فيهما) فيه دليل على استحباب الصلاة في النعال، وعلى أن مسح النعل من النجاسة مطهر له من القذر. والظاهر عند الإطلاق فيه أن النعل يطهر بالمسح مطلقا أي: سواء كانت النجاسة رطبة أو جافة. قال القاضي: فيه دليل على أن من تنجس نعله إذا دلك على الأرض طهر، وجاز الصلاة فيه – انتهى. ومن يرى خلافه أول بالمستقذر الغير النجس أو بالمقدار المعفو من النجاسة، وهو تحكم فلا يلتفت إليه. وقد تقدم الكلام مفصلا على كون دلك النعال مطهرا لها في باب تطهير النجاسات (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضا أحمد والحاكم وابن خزيمة وابن حبان. واختلف في وصله وإرساله. ورجح أبوحاتم في العلل وصله. ورواه الحاكم من حديث أنس وابن مسعود. ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس، وعبد الله بن الشخير، وإسنادهما ضعيفان، ورواه البزار من حديث أبي هريرة، وإسناده ضعيف معلول أيضا، قاله الحافظ. وذكر الهيثمي أحاديث هؤلاء الصحابة مع الكلام عليها، إن شئت الوقوف عليها فارجع إلى مجمع الزوائد (ج2: ص55).

(4/418)


773- قوله: (إذا صلى أحدكم) أي: أراد أن يصلي (فلا يصنع نعليه) بالجزم جواب إذا (عن يمينه) لأن جهة اليمين محرمة (فتكون) أي: فتقع النعل (عن يمين غيره) قال الطيبي: هو بالنصب جوابا للنهي، أي: وضعه عن يساره مع وجود غيره سبب لأن تكون عن يمين صاحبه. يعني وفيه نوع إهانة وإيذاء له، وعلى المؤمن أن يحب لصاحبه ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه (إلا أن لا يكون على يساره) وفي بعض النسخ "عن يساره" (أحد) أي: فيجوز له حينئذ أن يضعهما عن
وليضعهما بين رجليه. وفي رواية: أو ليصل فيهما)). رواه أبوداود، وروى ابن ماجه معناه.
?الفصل الثالث?
774-(15) عن أبي سعيد الخدري، قال: ((دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرأيته يصلي على حصير يسجد
عليه قال: ورأيته يصلي في ثوب واحد متوشحا به)). رواه مسلم.

(4/419)


عن يساره (وليضعهما بين رجليه) إذا كان عن يساره أحد. والمراد الفرجة التي بين رجليه (وفي رواية) أي: زيادة لا بدلا أي: إذا صلى أحدكم فخلع نعليه فلا يؤذ بهما أحدا (بأن يضعهما عن يمينه أو قدامه) ليجعلهما (في الفرجة التي) بين رجليه (أو ليصل فيهما) أي: إن كان طاهرين. وإنما لم يقل "أو خلفه" لئلا يقع قدام غيره، أو لئلا يذهب خشوعه لاحتمال أن يسرق (رواه أبوداود) وسكت عليه. وقال العراقي: هذا حديث صحيح الإسناد-انتهى. وفي سنده عبدالرحمن بن قيس عن يوسف بن ماهك. قال المنذري: يشبه أن يكون الزعفراني البصري، كنيته أبومعاوية، لا يحتج به-انتهى. قلت: عبدالرحمن بن قيس هذا هو العتكي أبوروح البصري لا الزعفراني، ذكره ابن حبان في الثقات، له هذا الحديث الواحد عند أبي داود. قال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج6:ص257): وأخرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما وقال المنذري في مختصره: يشبه أن يكون الزعفراني فواهي الحديث-انتهى. وفي الباب عن أبي بكرة عند الطبراني في الكبير. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وفيه زياد الجصاص ضعفه ابن معين وابن المديني وغيرهما. وذكره ابن حبان في الثقات (وروى ابن ماجه) في آخر الصلاة (معناه) وفي سنده عبدالله بن سعيد بن أبي سعيد. قال في الزوائد: متفق على تضعيفه-انتهى. ولفظه "الزم نعليك قدميك" فإن خلعتهما فاجعلهما بين رجليك، ولا تجعلهما عن يمينك، ولا عن يمين صاحبك، ولا ورائك فتؤذي من خلفك.

(4/420)


774- قوله: (يصلي على حصير) فيه دليل على جواز الصلاة على شيء يحول بينه وبين الأرض من ثوب، وحصير وصوف وشعر وغير ذلك، وسواء نبت من الأرض أم لا. قال القاضي: الصلاة على الأرض أفضل إلا لحاجة، حر أو برد أو نحوهما، لأن الصلاة سرها التواضع والخضوع، والأرض أقرب إلى التواضع (يسجد عليه) بدل بعض من يصلي (متوشحا به) أي: مخالفا بين طرفيه. قال ابن السكيت: التوشح أن يأخذ طرف الثوب الذي ألقاه على منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى ويأخذ طرفه الذي ألقاه على الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقدهما على صدره فيكون بمنزلة الإزار والرداء (رواه مسلم) وأخرجه أيضا ابن ماجه.
775- (16) وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي حافيا ومنتعلا)) رواه أبوداود.
776- (17) وعن محمد بن المنكدر، قال: ((صلى جابر في إزار قد عقده من قبل قفاه. وثيابه موضوعة على المشجب. فقال له قائل:تصلي في إزار واحد؟ إنما صنعت ذلك ليراني أحمق مثلك وأينا كان له ثوبان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟))
775- قوله: (حافيا) أي: بلا نعال تارة (ومنتعلا) أي: أخرى، من الانتعال. وفي بعض النسخ "متنعلا" من التنعل، أي: لابسا نعليه في رجليه (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضا ابن ماجه.

(4/421)


776- قوله: (وعن محمد بن المنكدر) هو محمد بن المنكدر بن عبدالله بن الهدير-بالتصغير- التيمي المدني، أحد الأئمة الأعلام الحفاظ. سمع عن جابر، وأنس، وابن الزبير، وعمه ربيعة وغيرهم، وأكثر عن جابر. روى عنه جماعة، منهم الثوري ومالك والزهري وجعفر الصادق وهشام بن عروة. وهو من مشاهير التابعين وجلتهم، جمع بين العلم والزهد والعبادة والدين المتين والصدق والعفة. قال إسحاق بن راهويه عن ابن عيينة: كان من معادن الصدق، ويجتمع إليه الصالحون، ولم يدرك أحد أجدر أن يقبل الناس منه إذا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يسأل عمن هو، من ابن المنكدر، يعني لتحريه. وقال إبراهيم بن المنذر: كان غاية في الحفظ والإتقان والزهد، حجة. مات سنة (130) وقيل: (131) وقد بلغ (76) سنة (من قبل قفاه) بكسر القاف وفتح الموحدة أي: من جهة قفاه (وثيابه) الواو للحال (موضوعة على المشجب) بكسر الميم وسكون الشين المعجمة وفتح الجيم بعدها موحدة، هو ثلاث عيدان تضم وتعقد رؤسها ويفرج بين قوائمها، توضع عليها الثياب، وقد تعلق عليها الأسقية لتبريد الماء، قال ابن سيدة: المشجب والشجاب خشبات ثلاث يعلق عليها الراعي دلوه وسقاءه. ويقال في المثل: "فلان كالمشجب من حيث قصدته وجدته" والجملة اسمية حالية (فقال له قائل) هو عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت كما في مسلم (تصلي في إزار واحد) همزة الإنكار محذوفة (إنما صنعت ذلك) أي: الذي فعله من صلاته، وإزاره معقود على قفاه، وثيابه موضوعة على المشجب (ليراني أحمق) بالرفع غير منصرف من الحمق – بضم الحاء وسكون الميم – وهو قلة العقل. والمراد بالأحمق هنا الجاهل. وحقيقة الحمق وضع الشيء في غير موضعه مع العلم بقبحة، قاله في النهاية. وإنما أغلظ له في الخطاب زجرا عن الإنكار على العلماء، وليحثه على البحث عن الأمور الشرعية (مثلك) أي: فيعلم أنه جائز، أو فينكر على بجهله، فأظهر له جوازه ليقتدي بي الجاهل

(4/422)


ابتداء. ومثلك – بالرفع – صفة أحمق لأنها وإن أضيفت إلى المعرفة لا تتعرف لتوغلها في الإبهام إلا إذا أضيفت لما اشتهر بالمماثلة وههنا ليس كذلك، ولذا وقعت صفة لنكرة وهي أحمق (و أينا كان له ثوبان) استفهام
رواه البخاري.
777- (18) وعن أبي بن كعب، قال: ((الصلاة في الثوب الواحد سنة. كنا نفعله مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يعاب علينا. فقال ابن مسعود: إنما كان ذاك إذا كان في الثياب قلة؛ فأما إذا وسع الله، فالصلاة في الثوبين أزكى)) رواه أحمد.

(4/423)


يفيد النهى، وغرضه أن الفعل كان مقررا (على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وحينئذ فلا ينكر. والمعنى: كان أكثرنا في عهده - صلى الله عليه وسلم - لا يملك إلا الثوب الواحد، ومع ذلك فلم يكلف تحصيل ثوب ثان ليصلي فيه، فدل على الجواز. والحديث فيه دليل على جواز الصلاة في الثوب الواحد لمن يقدر على أكثر منه، وهو قول عامة الفقهاء. وروى عن ابن عمر خلاف ذلك، وكذا عن ابن مسعود، فروى ابن أبي شيبة عنه "لا يصلين في ثوب وإن كان أوسع مما بين السماء والأرض" قال في الفائق: أجمعوا على أن الصلاة في ثوبين أفضل، فلو أوجبناه لعجز من لا يقدر عليهما، وفي ذلك حرج. وأما صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في ثوب واحد، ففي وقت كان لعدم ثوب آخر، وفي وقت كان مع وجوده لبيان الجواز، نقله الطيبي. وأخرج البخاري من طريق سعيد بن المسبب، عن أبي هريرة أن سائلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في ثوب واحد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أو لكلكم ثوبان؟ قال الخطابي: لفظه إستخبار ومعناه الإخبار عما هم عليه من قلة الثياب، ووقع في ضمنه الفتوى من طريق الفحوى. كأنه يقول: إذا علمتم أن ستر العورة فرض، والصلاة لازمة، وليس لكل أحد منكم ثوبان فيكف لم تعلموا أن الصلاة في الثوب الواحد جائزة؟ أي: مع مراعاة ستر العورة به (رواه البخاري) قال العيني: هذا الطريق انفرد به البخاري.

(4/424)


777- قوله: (سنة) أي: جائز بالسنة وإن كانت في الثوبين أفضل، كما يأتي عن ابن مسعود، فلا تنافي بينهما، قاله القاري (كنا نفعله) أي: ما ذكر من الصلاة في الثوب الواحد (مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: مع فعله، أو حال كوننا معه. ويؤيد الثاني قوله (ولا يعاب علينا) أي: وما نهانا. فيكون تقريرا نبويا، فثبت جوازه بالسنة، إذ عدم الإنكار دليل الجواز لا دليل الندب (إنما كان ذاك) أي: المذكور من الصلاة في الثواب الواحد من غير كراهة (إذا كان) وفي المسند "إذ كان" (في الثياب قلة) أي: في وقت كون الثياب قليلة (فأما إذا) وفي المسند "إذ" (وسع الله) بتكثير الثياب، شرطية جزاؤها (فالصلاة في الثوبين) أي: الإزار والرداء، أو القميص والإزار (أزكى) أي: أولى. وقال الطيبي: أي: أطهر، أو أفضل، لأن الزكاة النمو الحاصل عن بركة الله تعالى، أو طهارة النفس عن الخصال الذميمة، وكلا المعنيين محتمل في الحديث، وقيل: أزكى بمعنى أنمى، أي: أكثر ثوابا، أو بمعنى أطهر، لأنه أبعد من الخصلة الذميمة التي هي أداء الصلاة على وجه الكراهة (رواه أحمد) فيه نظر لأنه لم يروه أحمد، بل هو مما رواه ابنه عبدالله زائدا على أبيه
(9) باب السترة
?الفصل الأول?
778- (1) عن ابن عمر، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغدو إلى المصلى والعنزة بين يديه تحمل، وتنصب بالمصلى بين يديه فيصلي إليها.
(ج5:ص141) من طريق أبي نضرة بن بقية، قال: قال أبي بن كعب، الخ. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص49) بعد ذكره: رواه عبدالله من زياداته، والطبراني في الكبير بنحوه من رواية زر عنه موقوفا، وأبونضرة لم يسمع من أبي ولا من ابن مسعود-انتهى. وعن ابن عمر، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإن الله أحق من يزين له). رواه الطبراني في الكبير، وإسناده حسن، قاله الهيثمي.

(4/425)


(باب السترة) هي – بالضم – ما يستتر به كائنا ما كان، وقد غلب على ما ينصبه المصلى قدامه من عصا، أو رمح، أو حربه، أو سهم، أو غير ذلك مما يظهر به موضع سجود المصلى كيلا يمر مار بينه وبين موضع سجوده. قال النووي: قال العلماء: الحكمة في السترة كف البصر عما ورائها، ومنع من يجتاز بقربه. وقال ابن الهمام في فتح القدير: المقصود من الستر جمع الخاطر بربط الخيال به كيلا ينتشر. يريد أن في فطرة الإنسان أن خياله ينتشر في كل واد، ويطوف بكل جانب إذا كان في مكان واسع، بخلاف ما إذا كان في مكان ضيق، فإنه لا يكون له جولان وتطواف مثل الأول، بل ينقبض وينحصر فيه، فأراد الشارع بأمر نصب السترة أن يضيق عليه مكان صلاته بجمع خاطره بربط الخيال به كيلا ينتشر. والله أعلم.
778- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغدو) أي: يذهب غدوة (إلى المصلى) أي: مصلى العيد (والعنزة) بفتحات وهي أقصر من الرمح، في طرفها زج كزج الرمح، والزج-بضم الزاي- الحديدة التي في أسفل الرمح، يقابله السنان. وقيل:العنزة أطول من العصا، وأقصر من الرمح، وفيها سنان كسنان الرمح (وتنصب) أي: تغرز (بالمصلى بين يديه) أي: قدامه أي: قبالة أحد حاجبيه لا بين عينيه (فيصلي إليها) زاد ابن ماجه وابن خزيمة، والإسماعيلي "وذلك أن المصلى كان فضاء، ليس فيه شيء يستره". وفي رواية للبخاري: كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة، فتوضع بين يديه، فيصلي إليها والناس وراءه. وكان يفعل ذلك (أى نصب الحربة بين يديه وحيث لا يكون جدار، والصلاة إليها) في السفر (فليس مختصا بيوم العيد) والحديث يدل على مشروعية اتخاذ السترة في الفضاء، وملازمة ذلك في السفر، وعلى أن السترة تحصل بكل شيء ينصب تجاه المصلى وإن دق إذا كان قدر مؤخرة الرحل وعلى مشروعية المشى بين يدي الإمام بآلة من السلاح. ولا يعارض ذلك ما روى من النهي عن حمل السلاح يوم العيد، لأن ذلك إنما هو عند
رواه البخاري.

(4/426)


779- (2) وعن أبي جحيفة، قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة وهو بالأبطح في قبة حمرآء من أدم، ورأيت بلالا أخذ وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورأيت الناس يبتدرون ذلك الوضوء، فمن أصاب منه شيئا تمسح به، ومن لم يصب منه أخذ من بلل يد صاحبه. ثم رأيت بلالا أخذ عنزة فركزها. وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حلة حمرآء مشمرا، صلى إلى العنزة
خشية التأذى به (رواه البخاري) في العيدين. وأخرجه أيضا مسلم، وأبوداود والنسائي وابن ماجه بنحوه.

(4/427)


779- قوله: (وعن أبي جحيفة) بضم الجيم وفتح الحاء المهملة وسكون الياء وبالفاء، اسمه وهب بن عبدالله السوائى – بضم المهملة وخفة الواو والمد – نسبة إلى سواءة بن عامر. ويقال: اسم أبيه وهب أيضا، مشهور بكنيته. ويقال له: وهب الخير، صحابي معروف. قيل: مات النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبلغ الحلم، ولكنه سمع منه وروى عنه. وكان من كبار أصحاب على وخواصه، وكان على شرطته، واستعمله على خمس المتاع. مات بالكوفة سنة (74) له خمسة وأربعون حديثا، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بثلاثة. روى عنه جماعة (وهو بالأبطح) بفتح الهمزة، وهو في اللغة مسيل واسع فيه دقاق الحص. والبطيحة والبطحاء مثله، صار علما للمسيل الذي بين مكة ومنى، ينتهى إليه السيل من وادي منى، وهو أقرب إلى مكة، يكون فيه دقاق الحصى، ويسمى البطحاء والمحصب أيضا فكثرة الحصباء فيه (من أدم) بفتحتين، جمع أديم أي: جلد (وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بفتح الواو، أي: الماء الذي توضأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والظاهر أن المراد به ما سال من أعضاء وضوءه - صلى الله عليه وسلم -. وفيه دلالة بينة على طهارة الماء المستعمل (يبتدرون) أي: يتسارعون ويتسابقون (ذلك الوضوء) أي: إلى أخذ ماء وضوئه تبركا بآثاره الشريفة (فمن أصاب) أي: أخذ (منه) أي: من بلال (شيئا) من الماء، أو فمن وجد من ذلك الماء شيئا قليلا وقدرا يسيرا (تسمح به) أي: مسح به وجهه وأعضائه لينال بركته - صلى الله عليه وسلم - (ومن لم يصب منه) أي: من بلل يد بلال (أخذ من بلل يد صاحبه) فيه دليل بين على أن الماء المستعمل طاهر، ولا دليل على كونه من خصائصه (فركزها) أي: غرزها (في حلة) أي: حال كونه في حلة. وهي بضم الحاء إزار ورداء، ولا تسمى حلة حتى يكون ثوبين (حمرآء) فيه أظهر دليل على أنه يجوز لبس الأحمر الصرف للرجال وإن كان قانئا، خلافا للحنفية، فإنهم قالوا: يكره،

(4/428)


وتأولوا هذا الحديث بأنها كانت حلة من برود فيها خطوط حمر. وهو تأويل ضعيف أو باطل. وسيأتي الكلام عليه مفصلا في موضعه (مشمرا) بكسر الميم الثانية من التشمير، وهو ضم الذيل ورفعه للعدو أي: مسرعا، يقال: فلان شمر عن ساقه، وتشمر في أمره أي: خف، وقيل: المراد رافعا ثوبه قد كشف شيئا من ساقيه. قال في مسلم: كأنى أنظر إلى بياض ساقيه (صلى)
بالناس ركعتين. ورأيت الناس والدواب يمرون بين يدي العنزة)). متفق عليه.
780- (3) وعن نافع، عن ابن عمر ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعرض راحلته فيصلي إليها)). متفق عليه.
ولمسلم: تقدم فصلى إلى العنزة (بالناس) أي: إماما بهم (ركعتين) أي: للظهر كما في رواية (يمرون) فيه تغليب للعقلاء (بين يدي العنزة) أي: وراءها. وفيه استعمال المجاز، وإلا فالعنزة لا يدلها. وفي الحديث من الفوائد: استعمال البركة مما لامسه الصالحون، ووضع السترة للمصلى حيث يخشى المرور بين يديه، والإكتفاء فيها بمثل غلظ العنزة. وفيه تعظيم الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وفيه استحباب استصحاب العنزة ونحوها (متفق عليه) أخرجه البخاري مطولا ومختصرا في الطهارة وفي الصلاة وفي اللباس وفي صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه مسلم في الصلاة. قال ميرك: ولفظه للبخاري. وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود في الصلاة، والنسائي في الزينة، وابن ماجه في الصلاة.

(4/429)


780- قوله: (كان يعرض راحلته) أي: ينيخها بالعرض بينه وبين القبلة حتى تكون معترضة بينه وبين من يمر بين يديه. من عرض العود على الإناء يعرض-بضم الراء وكسرها- وضعه عرضا، قاله التوربشتي. وقال النووي: هو بفتح الياء وكسر الراء، وروى بضم الياء وفتح العين وتشديد الراء المكسورة. ومعناه يجعلها معترضة بينه وبين القبلة-انتهى. والراحلة الناقة التي تصلح لأن يوضع الرحل عليها، قاله الجوهري. وقال الأزهري: الراحلة المركوب النجيب ذكرا كان أو أنثى. والهاء فيها للمبالغة (فيصلي إليها) فيه دليل على جواز الصلاة إلى الحيوان، والاستتار بما يستقر منه من غير كراهة، وجواز الصلاة بقرب البعير، ولا يعارضه النهي عن الصلاة في معاطن الإبل، لأن المعاطن مواضع إقامتها عند الماء، ولا يستلزم من النهي عن الصلاة في معاطن الإبل النهي عن الصلاة إلى البعير الواحد في غير المعاطن. قال ابن حزم: من منع الصلاة إلى البعير فهو مبطل. وقال ابن عبدالبر في الاستذكار: أما الاستتار بالراحلة فلا أعلم فيه خلافا. قلت: قال الشافعي: لا يستتر بامرأة ولا دابة. وفي الشرح الكبير للمالكية: وسترة لإمام وفذ بطاهر ثابت لا دابة إما لنجاسة فضلتها كالبغال، وإما لخوف زوالها، وإما لهما. قال الدسوقي: فلا تحصل السنة أو المندوب بالاستتار بها-انتهى. وبهذا علم أن التستر بالدابة والصلاة إليها لا يخلوا عن الكراهة عند الشافعية والمالكية. ولذلك حملوا الحديث على حال الضرورة، فقال الحافظ في الفتح، والزرقاني في شرح الموطأ، وابن رسلان: يحمل ما وقع منه في السفر من الصلاة إليها على حالة الضرورة. ونظيره صلاته إلى السرير الذي عليه المرأة، لكون البيت كان ضيقا. قال الحافظ: وعلى هذا فقول الشافعي في البويطي "لايستتر بامرأة ولا دابة" في حال الاختيار. وقال النووي: لعل الحديث لم يبلغ الشافعي ومذهبه اتباع الحديث، فتعين العلم به، إذ لا معارض له-انتهى. قال الحافظ: وروى

(4/430)


عبدالرزاق، عن ابن عيينة، عن عبدالله بن دينار أن ابن عمر كان يكره أن يصلي إلى البعير إلا وعليه رحل. وكان الحكمة في ذلك أنها في حال شد الرحل عليها أقرب إلى السكون من حال تجريدها-انتهى (متفق عليه) ولفظه للبخاري،
وزاد البخاري، قلت: أفرأيت إذا هبت الركاب. قال: كان يأخذ الرحل فيعدله، فيصلي إلى أخرته.
781- (4) وعن طلحة بن عبيدالله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل، ولا يبال

(4/431)


وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود (قلت) أي: قال عبيدالله بن عمر: قلت: لنافع، كذا بينه إسماعيلي، وحينئذ فيكون مرسلا لأن فاعل قوله "يأخذ" الآتي هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر نافع. قال الحافظ: قوله "قلت أفرأيت" ظاهره أنه كلام نافع والمسؤل ابن عمر، لكن بين الإسماعيلي من طريق عبيدة بن حميد، عن عبيدالله بن عمر أنه كلام عبيدالله، والمسؤل نافع فعلى هذا هو مرسل، لأن فاعل "يأخذ" هو النبي. ولم يدركه نافع-انتهى. قال ميرك شاه: فعلى هذا إيراد محي السنة، وصاحب المشكاة ليس بسديد، لأنهما ذكرا في كتابيهما كلا مالم يذكر قائله فيهما مع أنه يوهم خلاف الواقع-انتهى (إذا هبت الركاب) بكسر الراء، أي: هاجت الإبل. وشوشت على المصلى لعدم استقرارها. يقال: "هب الفحل" إذا هاج، و"هب البعير في السير" إذ نشط. والركاب الإبل التي يسار عليها. ولا واحد لها من لفظها. والمعنى إلى أي: شيء كان يصلي عند هبوب الركاب؟ (قال) أي: نافع (كان يأخذ) أي: النبي- صلى الله عليه وسلم - (الرحل) بفتح الراء وسكون الحاء، ما يوضع على ظهر البعير ليركب عليه كالسرج للفرس (فيعدله) بضم المثناة التحتية وفتح العين وتشديد الدال، من التعديل وهو تقويم الشيء وتسويته. وضبطه الحافظ وغيره بفتح أوله، وسكون العين، وكسر الدال أي: يقيمه تلقاء وجهه (فيصلي إلى آخرته) بفتح الهمزة والمعجمة والراء من غير مد، ويجوز المد لكن مع كسر الخاء، والمراد بها العود الذي في آخر الرحل الذي يستند إليه الراكب خلاف قادمته.

(4/432)


781- قوله: (إذا وضع أحدكم بين يديه) أي: قدامه. وهذا مطلق، وقد ورد في حديث بلال "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في الكعبة وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع" فينبغي للمصلي أن يدنو من السترة ولا يزيد ما بينهما على ثلاثة أذرع. قال البغوي: استحب أهل العلم الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود، وكذلك بين الصفوف. وقد ورد الأمر بالدنو منها كما سيأتي (مثل مؤخرة الرحل) أي: سترة مثل آخرة الرحل. وفي المؤخرة لغات: ضم الميم وسكون الهمزة وكسر الخاء المخففة وفتحها. وفتح الهمزة والخاء معا مع تشديد الخاء، وفتح الهمزة وكسر الخاء المشددة. وفتح الميم وسكون الواو من غير همزة وكسر الخاء. وهو العود الذي يستند إليه راكب الرحل، قال الحافظ: اعتبر الفقهاء مؤخرة الرحل في مقدار أقل السترة، واختلفوا في تقديرها بفعل ذلك، فقيل: ذراع، وقيل: ثلثا ذراع. وهو أشهر، لكن في مصنف عبدالرزاق عن نافع: أن مؤخرة رحل ابن عمر كانت قدر ذراع. وقال النووي: في هذا الحديث بيان أن أقل السترة مؤخرة الرحل، وهي قدر عظم الذراع وهو نحو ثلثي ذراع. ويحصل بأي شيء أقامه بين يديه. قال: وليس في هذا الحديث دليل على بطلان الخط-انتهى (ولا يبال) وفي بعض نسخ مسلم "ولا يبالى" من المبالاة، يقال: بالى الأمر
من مر وراءه ذلك)) رواه مسلم.
782- (5) وعن أبي جهيم، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه، لكان أن يقف أربعين

(4/433)


وبالأمر، اهتم به وأكترث له (من) أي: بمن أو ممن (مر وراء ذلك) من المرأة ونحوها. ولا يدفعه بالإشارة وغيرها. ولفظ أبي داود "إذا جعلت بين يديك مثل مؤخرة الرحل فلا يضر من مر بين يديك" والمراد بالضرر الضرر الراجع إلى نقصان صلاة المصلى. وفيه إشعار بأنه لا ينقص شيء من صلاة من اتخذ سترة بمرور من مر بين السترة والقبلة. ويحصل النقص إذا لم يتخذ سترة، وكذا إذا مر المار بينه وبين السترة (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه.

(4/434)


782- قوله: (بين يدي المصلي) ظرف الماء، أي: أمامه بالقرب منه. وعبر باليدين لكون أكثر الشغل يقع بهما. واختلف في تحديد ذلك فقيل: ما بين موضع جبهته في سجوده وقدميه، وقال بعض الحنفية: المرور المحرم، المرور بينه وبين موضع سجوده. والمراد بموضع السجود المكان الذي بينه وبين منتهى بصره إذا قام متوجها إلى مكان يسجد فيه. وقيل: المراد قدر ما يقع بصره على المار لو صلى بخشوع، أي: راميا ببصره إلى موضع سجوده. وقال بعضهم: مقدار صف. وقال بعضهم: مقدار صفين. وقال بعضهم: مقدار ثلاثة صفوف. وهذا كله في الصحراء والمسجد الكبير. وأما في المسجد الصغير فما بينه وبين جدار المسجد. وقال ابن العربي: حريم المصلى الذي يمنع المرور فيه مقدار ما يحتاجه لقيامه وركوعه وسجوده. وقيل: إنه قدر رمية الحجر، أو السهم، أو المضاربة بالسيف، أقوال عند المالكية. وقالت الشافعية والحنابلة: مقدار ثلاثة أذرع. قلت: أرجح الأقوال في ذلك عندي أنه قدر ما يقع بصره على المار لو صلى بخشوع، أي: راميا ببصره إلى موضع سجوده من غير تفصيل بين المسجد وغيره. والله أعلم. قال السيوطي: المراد بالمرور أن يمر بين يديه معترضا. أما إذا مشى بين يديه ذاهبا لجهة القبلة فليس داخلا في الوعيد-انتهى. وقال الحافظ: ظاهر الحديث أن الوعيد المذكور يختص بمن مر لا بمن وقف عامدا مثلا بين يدى المصلى أو قعد، أو رقد لكن إن كانت العلة فيه التشويش على المصلي فهو في معنى المار-انتهى. والحديث عام في كل مصل فرضا أو نفلا، سواء كان إماما أو منفردا أو مأموما، والمفرد في ذلك (ماذا عليه) أي: من الإثم أو الضرر بسب مروره بين يديه، وهو في موضع نصب ساد مسد مفعولى يعلم، وجواب "لو" قوله: (لكان أن يقف أربعين) أي: أن المار لو علم مقدار الإثم الذي يلحقه من مروره بين يدي المصلي لاختار أن يقف المدة المذكورة حتى لا يلحقه ذلك الإثم. وقال الكرماني:

(4/435)


خيرا له من أن يمر بين يديه. قال أبوالنضر: لا أدري قال: أربعين يوما، أو شهرا، أو سنة)) متفق عليه.
جواب "لو" ليس هو المذكور بل التقدير: لو يعلم ما الذي عليه لوقف أربعين، ولو وقف أربعين لكان خيرا له. قال الحافظ: وليس ما قاله متعينا. وقال السندي: أي: لكان وقوفه خيرا له من المرور عنده. ولهذا علق بالعلم، وإلا فالوقوف خيرا له سواء علم أو لم يعلم (خيرا له) بالنصب على أنه خبر كان، واسمه قوله: أن يقف. وروى بالرفع، وهي رواية الترمذي. قيل: هو مرفوع على أنه اسم كان، وسوغ الابتداء بالنكرة لكونها موصوفة. ويحتمل أن يقال: اسمها ضمير الشأن، والجملة خبرها. قال الكرماني: أبهم العدد تفخيما للأمر وتعظيما له. قال الحافظ: ظاهرالسياق أنه عين المعدود، ولكن شك الراوي فيه. وقد وقع في مسند البزار من حديث أبي جهيم "لكان أن يقف أربعين خريفا" أي: عاما. أطلق الخريف على العام من إطلاق الجزء على الكل. وسيأتي في الفصل الثالث من حديث أبي هريرة "كان لأن يقيم مائة عام خير له من الخطوة التي خطاها" وهذا مشعر بأن إطلاق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر لا لخصوص عدد معين. وجنح الطحاوي إلى أن التقييد بالمائة وقع بعد التقييد بالأربعين زيادة في تعظيم الأمر على المار، لأنهما لم يقعا معا، إذ المائة أكثر من الأربعين، والمقام مقام زجر وتخويف، فلا يناسب أن يتقدم ذكر المائة على الأربعين، بل المناسب أن يتأخر ومميز الأربعين إن كان هو السنة ثبت المدعى، أو ما دونها فمن باب الأولى (من أن يمر) أي: من المرور (بين يديه) أي: المصلي لأن إثم المرور يفضى إلى تعب هو أشد من هذا التعب، فإن عذاب الدنيا وإن عظم يسير (قال أبوالنضر) هذه مقولة مالك، وأبوالنضر-بفتح النون وسكون الضاد المعجمة-اسمه سالم بن أبي أمية المدني مولى عمر بن عبيدالله التيمي، سمع أنسا. قال ابن عبدالبر: أجمعوا على أنه ثقة ثبت، وكان ابن عيينة يصفه بالفضل، والعقل،

(4/436)


والعبادة. وقال الحافظ: ثقة ثبت، وكان يرسل من صغار التابعين، روى عنه مالك، والسفيانان، وغيرهم. مات سنة (129) (قال) وفي رواية "أقال" بهمزة الاستفهام. والضمير يرجع إلى بسر بن سعيد، وقيل: إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أربعين يوما، أو شهرا، أو سنة) معنى هذا الكلام أن أبالنضر قال: لا أدري-أى لا أحفظ- أن شيخي بسر بن سعيد أقال بعد قوله عن أبي جهيم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكر بعد قوله "أربعين" لا يوما، ولا شهرا، ولا سنة، فلا أدري هل ذكر بعد ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا من هذه الثلاثة أو لم يذكر. والحديث يدل على تحريم المرور بين يدي المصلي، فإن في معنى الحديث النهي الأكيد، والوعيد الشديد على ذلك، قاله النووي. ومقتضى ذلك أن يعد في الكبائر. وظاهره يدل على منع المرور مطلقا، و لو لم يجد مسلكا، بل يقف حتى يفرغ المصلى من صلاته (متفق عليه) واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضا مالك، وأحمد والترمذي وأبوداود، والنسائي وابن ماجه.
783- (6) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه، فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو الشيطان)).

(4/437)


783- قوله: (إلى شيء يستره من الناس) مما سلف تعيينه من السترة، وقدرها، وقدركم يكون بينها وبين المصلي. وفيه أنه لا يجوز الدفع والمقاتلة إلا لمن كان له سترة. قال النووي: اتفقوا على أن هذا كله لمن لم يفرط في صلاته بل احتاط وصلى إلى سترة، أو في مكان يأمن المرور بين يديه (أن يجتاز) من الجواز أي: يعبر ويمر ويتجاوز (بين يديه) وليدرأه ما استطاع، قيل: ندبا. وقال أهل الظاهر: وجوبا، وهو الظاهر. قال القرطبي: أي: بالإشارة ولطيف المنع، أو بوضع اليد على نحره كما في رواية. وقيل: بالتسبيح أو الجهر بآية في الصلاة السرية، فإن كانت الصلاة جهرية يرفع بها صوته أزيد من قرأته. قال عياض: اتفقوا على أنه لا يجوز له المشى إليه من موضعه ليرده، إنما يرده ويدفعه من موقفه لأن مفسدة المشي في صلاته أعظم من مروره من بعيد بين يديه. وإنما أبيح له قدر ما تناله يده من موقفه. ولهذا أمر بالقرب من سترته، وإنما يرده إذا كان بعيدا منه بالإشارة والتسبيح-انتهى (فإن أبى) أي: امتنع من الاندفاع (فليقاتل) حملوه على أشد الدفع، وقالوا: يزيد في دفعه الثاني أشد من الدفع الأول. قال القرطبي: اجمعوا على أنه لا يلزمه أن يقاتله بالسلاح لمخالفة ذلك لقاعدة الإقبال على الصلاة، والإشتغال بها، والخشوع فيها – انتهى. وقال الحافظ: وقد رواه الإسماعيلي بلفظ "فإن أبى فليجعل يده في صدره ويدفعه، " وهو صريح في الدفع باليد، قال: وقال أصحابنا يرده بأسهل الوجوه، فإن أبى فبأشدها ولو أدى إلى قتله، فلو قلته فلا شيء عليه، لأن الشارع أباح له مقاتلته، والمقاتلة المباحة لا ضمان فيها. ونقل عياض وغيره أن عندهم خلافا في وجوب الدية في هذه الحالة (فإنما هو شيطان) تعليل للأمر بقتاله، أو لعدم اندفاعه، أولهما. أي: مطيع له فيما يفعل من المرور. وإطلاق الشيطان على مارد الإنس شائع ذائع. وقد جاء في القرآن قوله تعالى: ?شياطين الإنس والجن? [111:6] وسبب إطلاقه عليه أنه

(4/438)


فعل فعل الشيطان في إرادة التشويش على المصلي. وقيل المراد: إنما الحامل له على ذلك شيطان. وقد وقع في رواية للإسماعيلي "فإن معه الشيطان" ونحوه لمسلم من حديث ابن عمر بلفظ "فإن معه القرين" أي: الشيطان المقرون بالإنسان لا يفارقه، الحامل له هذا الفعل، يعني فينبغي منعه مهما أمكن عن ذلك الفعل الذي الحامل عليه الشيطان. وقد اختلف في الحكمة المقتضية للدفع، فقيل: لدفع الإثم عن المار. وقيل: لدفع الخلل الواقع بالمرور في الصلاة. وهذا الأرجح لأن عناية المصلى بصيانة صلاته أهم من دفعه الإثم عن غيره. قال الأمير اليماني، ولو قيل: إنه لهما معا لما بعد، فيكون لدفع الإثم عن المار الذي أفاده حديث "لو يعلم المار" ولصيانة الصلاة عن النقصان من أجرها، فقد أخرج أبونعيم عن عمر "لو يعلم المصلى ما ينقص من صلاته بالمرور بين يديه ما صلى إلا
هذا لفظ البخاري، ولمسلم معناه.
784- (7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب. ويقى ذلك مثل مؤخرة الرحل)).
إلى شيء يستره من الناس، وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود: أن المرور بين يدي المصلي يقطع نصف صلاته. ولهما حكم الرفع وإن كانا موقوفين لأن مثلهما لا يقال بالرأي. وهذان الأثران مقتضاهما أن الدفع لخلل يتعلق بصلاة المصلي ولا يختص بالمار (هذا لفظ البخاري) أي: في كتاب الصلاة، وأخرجه أيضا في صفة إبليس (ولمسلم معناه) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه مطولا ومختصرا.

(4/439)


784- قوله: (تقطع) بالتأنيث (الصلاة) أي: تفسدها وتبطلها، أو تقلل ثوابها وتنقص أجرها بقطع حضورها وخشوعها وكمالها. وهذا إذا لم يكن بين يديه سترة كما سيأتي (المرأة) هو فاعل تقطع، أي: مرور المرأة إذا مرور هو محل النزاع. ولأبي داود وابن ماجه من حديث ابن عباس "يقطع الصلاة المرأة الحائض". قال السندي: يحتمل أن المراد ما بلغت سن الحيض أي: البالغة وهي المتبادرة من لفظ المرأة. وعلى هذا فالصغيرة لا تقطع. قلت: تقييد المرأة بالحائض يقتضي حمل المطلق على المقيد، فلا تقطع الصلاة إلا الحائض، كما أنه أطلق الكلب عن وصفه بالأسود في حديث أبي هريرة هذا، وقيد به في حديث أبي ذر عند مسلم وغيره، فحملوا المطلق على المقيد، وقالوا: لا يقطع إلا الأسود، فتعين في المرأة الحائض حمل المطلق على المقيد (والحمار الكلب) وجه تخصيص هذه الأشياء مفوض إلى رأى الشارع، والله أعلم (ويقى) أي: يحفظ (ذلك) أي: القطع (مثل مؤخرة الرحل) أي: مثلا، وإلا فقد أجزأ السهم كما رواه الحاكم من حديث سبرة بن معبد مرفوعا"يستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم". وفي قطع الصلاة بمرور هذه الأشياء أحاديث عن جماعة من الصحابة: عن عبدالله بن مغفل عند أحمد وابن ماجه. أبي ذر عند أحمد ومسلم والترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجه. والحكم الغفاري عند الطبراني في الكبير. قال الهيثمي:وفيه عمر بن دريج، ضعفه أبوحاتم، ووثقه ابن معين وابن حبان، وبقية رجاله ثقات. وأنس عند البزار. قال العراقي: رجاله ثقات. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وابن عباس عند أبي داود وابن ماجه. وعبدالله بن عمرو عند أحمد. قال الهيثمي: رجاله موثقون، وقال العراقي: إسناده صحيح. وعائشة عند أحمد قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يقطع صلاة المسلم شيء إلا الحمار، والكافر والكلب والمرأة، فقالت عائشة: يارسول الله ! لقدر قرنا بدواب سوء. قال العراقي والهيثمي: رجاله ثقات. وهذه الأحاديث نص

(4/440)


في أن الأشياء المذكورة فيها تقطع صلاة من لا سترة له. وظاهر القطع الإبطال. وقد عارضها حديث "لا يقطع الصلاة شيء" أخرجه أبوداود من حديث أبي سعيد، وسيأتي الكلام فيه في الفصل الثاني. وروى أيضا من حديث أنس عند الدارقطني، قال الحافظ في الدراية: إسناده حسن. ومن حديث أبي أمامة عند الدارقطني
والطبراني في الكبير، قال الهيثمي: إسناده حسن. وقال الشوكاني: في إسناده عفير بن معدان، وهو ضعيف. ومن حديث جابر عند الطبراني في الأوسط. قال الهيثمي: وفيه يحيى بن ميمون التمار، وهو ضعيف، وقد ذكره ابن حبان في الثقات. ومن حديث أبي هريرة عند الدارقطني، وفيه إسحاق بن عبدالله بن أبي فروة، وهو متروك. ومن حديث ابن عمر عند الدارقطني أيضا، وفيه إبراهيم بن يزيد الخوزي، وهو ضعيف. قال العراقي: والصحيح ما رواه مالك في الموطأ من قوله. وقد أخرج سعيد بن منصور، عن علي وعثمان وغيرهما من أقوالهم نحو هذا الحديث بأسانيد صحيحة. قيل ويعارض أحاديث القطع حديث عائشة، وحديث ابن عباس التاليان، وحديث الفضل بن عباس في الفصل الثاني، وحديث عائشة في الفصل الثالث. وقد اختلف العلماء في العمل بهذه الأحاديث، واختلفت آراؤهم في الكلام على هذه الروايات وتعارضها: فقال بقطع الصلاة بالمرأة والكلب والحمار أبوهريرة وأنس من الصحابة، والحسن البصري وأبوالأحوص من التابعين، وأحمد بن حنبل من الأئمة فيما حكاه عنه ابن حزم الظاهري. وحكى الترمذي عنه أنه يخصصه بالكلب الأسود، ويتوقف في الحمار والمرأة. ووجهه ابن دقيق العيد وغيره بأنه لم يجد في الكلب الأسود ما يعارضه، ووجد في الحمار حديث ابن عباس، وفي المرأة حديث عائشة يعني الذين يليان حديث أبي هريرة وسيأتي الكلام في دلالتهما على ذلك. وقال عطاء وابن جرير: يقطعها الكلب الأسود والمرأة الحائض دون الحمار لحديث ابن عباس الآتي. وذهب أهل الظاهر- كما قال ابن حزم في المحلى- إلى أنه يقطع الصلاة كون الكلب والحمار

(4/441)


بين يدي المصلي مارا أو غير مار، صغيرا أو كبيرا، حيا أو ميتا، وكذا كون المرأة بين يدي الرجل مارة أو غير مارة، صغيرة أو كبيرة، إلا أن تكون مضطجعة معترضة فقط. ثم اختلف القائلون بالقطع بمعنى الإبطال بالثلاثة في الجواب عن أحاديث عدم القطع، فقال بعضهم: الأحاديث التي تعارض حديث أبي ذر ومن وافقه بعضها صحيحة لكنها غير صريحة في عدم القطع كحديث عائشة وابن عباس، فإن في دلالتهما على ذلك نظرا قويا كما ستعرف، فلا يترك العمل بحديث أبي ذر الصريح بالمحتمل. وبعضها صريحة كحديث أبي سعيد ومن وافقه، لكنها ضعيفة لا تنهض للاحتجاج، ولو سلم انتهاضها فهي عامة مخصصة بأحاديث القطع. أمل عند من يقول إنه يبني العام على الخاص مطلقا فظاهر. وأما عند من يقول إن العام المتأخر ناسخ فلا تأخر لعدم العلم بالتاريخ، ومع عدم العلم يبني العام الخاص عند الجمهور. وأما على القول بالتعارض بين العام والخاص مع جهل التاريخ كما هو مذهب الحنفية فلا شك أن الأحاديث الخاصة- أي: أحاديث أبي ذر ومن وافقه- أرجح وأقوى وأصح من هذه الأحاديث العامة، فالأخذ بالأقوى أولى. وقال بعضهم: أحاديث عدم القطع منسوخة بحديث أبي ذر ومن وافقه. قال ابن حزم في المحلى (ج4:ص 14): لو صحت هذه الآثار- وهي لا تصح- لكان حكمه - صلى الله عليه وسلم - بأن الكلب والحمار والمرأة يقطعون الصلاة، هو الناسخ بلا شك لما كانوا عليه قبل من أن لا يقطع الصلاة شيء من الحيوان كما لا يقطعها الفرس والسنور والخنزير وغير ذلك، فمن الباطل الذي لا يخفي، ولا يحل ترك الناسخ المتيقن والأخذ بالمنسوخ المتيقن. ومن المحال أن تعود الحالة المنسوخة ثم لا يبين

(4/442)


عليه السلام عودها- انتهى. وذهب الجمهور مالك والشافعي وأبوحنيفة وغيرهم من السلف والخلف إلى أنه لا يقطعها شتى. ثم اختلف هؤلاء في تأويل أحاديث القطع، فمال بعضهم إلى النسخ. قال الطحاوي وابن عبدالبر: إن حديث أبي ذر ومن وافقه منسوخ بحديث عائشة وحديث ابن عباس الآتيين، واستدلا على تأخر تاريخ حديث ابن عباس بأنه كان في حجة الوداع، وهي في سنة عشر، وفي آخر حياة النبي- صلى الله عليه وسلم -، وعلى تأخر حديث عائشة بأن ما حكاه عائشة عنه يعلم تأخره لكونه صلاته بالليل عندها، ولم يزل على ذلك حتى مات مع تكرر قيامه في كل ليلة، فلو حدث شيء مما يخالف ذلك لعلمت به. وفي هذا الاستدلال نظر لا يخفى على المتأمل، وعلى تسليم صحته لا يتم به المطلوب من النسخ لوجوه ذكرها الشوكاني في النيل، وسنورد بعضها في شرح حديث ابن عباس وعائشة. ووجه النسخ بعضهم بأن ابن عمر وابن عباس من رواة حديث القطع وقد حكما بعدم قطع شيء وهو من أمارات النسخ. وفيه أن عمل الراوي خلاف ما رواه لا يدل على نسخ مروية على ما هو الحق في ذلك. وقال العلامة الشيخ أحمد في تعليقه على الترمذي (ج2:ص164): والصحيح الذي أرضاه وأختاره أن أحاديث القطع منسوخة بحديث "لا يقطع الصلاة شيء" الذي رواه أبوداود، وقد ضعفه ابن حزم في المحلى (ج4:ص13) بأن أبا الوداك ومجالدا ضعيفان. وأبوالوداك هو جبر بن نوف البكالي، وهو ثقة، وثقة ابن معين، وابن حبان. واختلف فيه قول النسائي، فمرة قال "صالح" ومرة قال "ليس بالقوي" ومثل هذا لا يطلق عليه الحكم بالضعف. وقد أخرج له مسلم في الصحيح. ومجالد هو ابن سعيد الهمداني الكوفي ضعفه أحمد وغيره. وقال يعقوب بن سفيان: تكلم الناس فيه وهو صدوق. وقال البخاري: صدوق، وأخرج له مسلم مقرونا بغيره، ومثله أيضا لا يطرح حديثه، وقد ورد أيضا عن أبي أمامة مرفوعارواه الطبراني في الكبير. قال في مجمع الزوائد: إسناده حسن. قال: وقد حققت ترجيح النسخ في تعليقي

(4/443)


على المحلى لابن حزم (ج4:ص15، 14) وقلت: إن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -"لا يقطع الصلاة شيء" فيه إشارة إلى أنه كان معروفا عند السامعين قطعها بأشياء من هذا النوع بل هو يكاد يكون كالصريح فيه لمن تأمل وفكر في معنى الحديث. ثم قد ورد ما يؤيد هذا، فروى الدارقطني (ص141، 140) والبيهقي (ج2:ص278، 277) من طريق إبراهيم بن منقذ الخولاني، ثنا إدريس بن يحيى أبوعمرو المعروف بالخولاني، عن بكر بن مضر، عن صخر بن عبدالله بن حرملة أنه سمع عمر بن عبدالعزيز يقول عن أنس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بالناس فمر بين أيديهم حمار، فقال عياش بن أبي ربيعة: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله. فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من المسبح آنفا سبحان الله؟ قال: أنا يارسول الله ! إني سمعت أن الحمار يقطع الصلاة. قال: لا يقطع الصلاة شيء). قال: ولم أجد ترجمة لإدريس بن يحيى، وما أظن أحدا ضعفه، ولذلك لما أراد ابن الجوزي أن ينصر مذهبه ضعف الحديث بصخر بن عبدالله فأخطأ جدا، لأنه زعمه صخر بن عبدالله الحاجي المنقري، وهو كوفي متأخر، روى عن مالك والليث، وبقي في حدود سنة (230) وأما الذي في الإسناد، فهو صخر ابن عبدالله بن حرملة المدلجي، وهو حجازي قديم، كان في حدود سنة (130) وهو ثقة. قال: وهذا صريح في
رواه مسلم.

(4/444)


الدلالة على أن الأحاديث التي فيها الحكم بقطع الصلاة بالمرأة، والحمار، والكلب منسوخة، فقد سمع عياش أن الحمار يقطع الصلاة، وعياش من السابقين الذين هاجروا الهجرتين، ثم حبس بمكة. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوا له في القنوت كما ثبت في الصحيحين، فعلم الحكم الأول، ثم غاب عنه نسخة، فأعلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الصلاة لا يقطعها شيء- انتهى كلامه ملخصا مختصرا. ومال بعضهم إلى الترجيح، فقال: أحاديث الجمهور مثل حديث عائشة، وحديث ابن عباس أقوى وأصح من الأحاديث التي فيها الحكم بالقطع، فالأخذ بالأقوى أولى. قال الشيخ أحمد في تعليقه بعد نقل كلام الشافعي من "اختلاف الحديث" المطبوع بحاشيته كتاب الأم (ج7:ص164، 163): وكأن الشافعي يريد تضعيف الحديث الذي فيه قطع الصلاة بأنه حديث يخالف أحاديث أثبت منه وأقوى، كأنه يقول شاذ، ولكن القطع ثابت بأحاديث صحيحة من غير وجه، فلا تكون شاذة. واختار بعضهم للترجيح مسلكا آخر، قال: لما اختلفت أحاديث الباب، ولم يتبين الراجح منها نظرنا إلى ما عمل به الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فرجحنا به أحد الجانبين. قال أبوداود في سننه بعد رواية حديث أبي سعيد: إذا تنازع الخبران عن النبي- صلى الله عليه وسلم - نظر إلى ما عمل به أصحابه من بعده، يعني وقد ذهب أكثرهم مثل عائشة، وابن عباس، وابن عمر، وعلى، وعثمان، وحذيفة إلى عدم القطع فليكن هو الراجح. ومال بعضهم إلى التأويل، فقال الخطابي والنووي وغيرهما: المراد بالقطع في حديث أبي ذر نقص الصلاة بشغل القلب بمرور هذه الأشياء عن مراعاة الصلاة، وبعدم القطع في حديث أبي سعيد عدم البطلان، أي: أنه لا يبطلها شيء وإن نقص ثوابها بمرور ما ذكر في حديث أبي ذر وأبي هريرة. قال الحافظ: ويؤيد ذلك أن الصحابي راوى الحديث سأل عن الحكمة في التقييد بالأسود، فأجيب بأنه شيطان. وقد علم أن الشيطان لو مر بين يدى المصلي لم تفسد عليه

(4/445)


صلاته. وقال القرطبي: هذا مبالغة في الخوف على قطعها بالشغل بهذه المذكورات، فإن المرأة تفتن، والحمار ينهق، والكلب يخوف، فيشوش المتفكر في ذلك حتى تنقطع عليه الصلاة. فلما كانت هذه الأمور آئلة إلى القطع جعلها قاطعة- انتهى. وفيه ما قال السندي: من أن شغل القلب لا يرتفع بمؤخرة الرحل، إذ المار وراء مؤخرة الحل في شغل القلب قريب من المار في شغل القلب إن لم يكن مؤخرة الرحل فيما يظهر، فالوقاية بمؤخرة الرحل على هذا المعنى غير ظاهر- انتهى. قلت: الراجح عندي أنه لا يقطع الصلاة مرور شيء وإن لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل. وأقرب المسالك في الأحاديث التي فيها الحكم بقطع الصلاة أنها منسوخة بحديث "لا يقطع الصلاة شيء" وإن لم يرتض بذلك النووي. وهذا لأن الجمع بما تأول به الخطابي والنووي لا يخلو عن تكلف وخفاء كما أشار إليه السندي. ولا شك في أن الجميع المذكور خلاف الظاهر. وقد علم تأخر حديث "لا يقطع الصلاة شيء" بما حققه الشيخ في تعليقه على المحلى، وهو تحقيق جيد فهو أحق وأحرى بالقبول، والله أعلم (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه.
785- (8) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان النبي- صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل وأنا معترضة بينه
وبين القبلة كاعتراض الجنازة)).

(4/446)


785- قوله: (وأنا معترضة بينه وبين القبلة) قال ابن الملك: الاعتراض صيرورة الشيء حائلا بين شيئين، ومعناه ههنا مضطجعة (كاعتراض الجنازة) بفتح الجيم وكسرها. والمراد أنها تكون نائمة بين يديه من جهة يمينه إلى جهة شماله كما تكون الجنازة بين يدي المصلي عليها. وفي رواية للبخاري: ذكر عند عائشة ما يقطع الصلاة، فقالوا: يقطعها الكلب والحمار، والمرأة، فقالت: لقد جعلتمونا كلابا، وفي رواية: ذكر عندها ما يقطع الصلاة، الكلب والحمار، والمرأة، فقالت شبهتمونا بالحمر والكلاب، والله لقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة، فتبدو لي الحاجة، فأكره أن أجلس فأوذي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنسل (أي أمضى وأخرج بتأن وتدريج) من عند رجليه. والحديث استدلت به عائشة والجمهور بعدها على أن المرأة لا تقطع صلاة الرجل لأنها إذا كانت لا تقطع في حالة كونها معترضة مضطجعة- وهذه الحالة أقوى من المرور- ففي المرور بالأولى. وفيه أنه ليس فيما ذكرت مرور امرأة بين يدي المصلى، ومحمل حديث"يقطع الصلاة الكلب" الخ. هو المرور. قال السندي: لا دلالة في حديث عائشة أنها مرت بين يديه، وقال ابن بطال: هذا الحديث وشبهه من الأحاديث التي فيها اعتراض امرأة بين المصلي وقبلته تدل على جواز القعود لا على جواز المرور- انتهى. لا يقال: إن قولها "أنسل" صريح في المرور، فإن الانسلال هو المرور. لأن المرور المتنازع فيه هو أن يمر المار بين يدي المصلي معترضا، لا أن يمشي ذاهبا لجة القبلة أو لجهة الرجلين، ولم يتحقق ههنا إلا المضيء إلى جهة الرجلين كما يدل عليه قولها "فأنسل من عند رجليه" وأما ما قيل: من أن اعتراض المرأة أشد من المرور، فإذا لم يقطع الصلاة الاعتراض لا يقطع المرور أيضا بالأولى، ففيه أن الظاهر أن حصول التشويش بالمرأة من جهة الحركة والسكون، وعى هذا فمرورها أشد من اعتراضها واضطجاعها وجلوسها. وفي

(4/447)


النسائي في هذا الحديث "فإذا أردت أن أقوم كرهت أن أقوم فأمر بين يديه انسللت انسلالا". فالظاهر أن عائشة إنما أنكرت إطلاق كون المرأة تقطع الصلاة في جميع الحالات لا المرور بخصوصه. وأما إنكار عائشة على من ذكر المرأة مع الكلب والحمار فيما يقطع الصلاة مع أنها روت الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ "لا يقطع صلاة المسلم إلا الحمار، والكافر، والكلب، والمرأة" فقالت عائشة: يا رسول الله ! لقد قرنا بدواب سوء. أخرجه أحمد. فيحتمل أنها نسيت حديث القطع عند الإنكار، ويمكن أن يكون عندها معنى القطع بمرور المرأة فيما روت، وهو قطع الخشوع بمرورها. وأما حديث الاعتراض فذكرته للرد على من قال بقطع الصلاة بالمرأة بمعنى إبطالها بالكلية. وقيل: أنكرت كون الحكم باقيا هكذا فلعلها كانت ترى نسخه. وروى البخاري أن عائشة زوج النبي- صلى الله عليه وسلم - قالت: لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم فيصلي من الليل وإني لمعترضة بينه وبين القبلة على فراشه. قال الحافظ: وجه الدلالة من حديث عائشة الذي احتج به ابن شهاب أن حديث "يقطع الصلاة المرأة" إلى
متفق عليه.
786- (9) وعن ابن عباس، قال: ((أقبلت راكبا على أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(4/448)


آخره، يشمل ما إذا كانت مارة أو قائمة أو قاعدة أو مضطجعة، فلما ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم - صلى وهي مضطجعة أمامه دل ذلك على نسخ الحكم في المضطجع، وفي الباقي بالقياس عليه (ولما كان ذلك كذلك مع أن النفوس جبلت على الإشغال بها فغيرها من الكلب والحمار كذلك بل أولى) قال: وهذا يتوقف على إثبات المساواة بين الأمور المذكورة، وقد تقدم ما فيه، فلو ثبت أن حديثها متأخر عن حديث أبي ذر لم يدل إلا على نسخ الاضطجاع فقط. وقد نازع بعضهم في الاستلال به مع ذلك من أوجه أخرى، أحدها: أن العلة في قطع الصلاة فيها ما يحصل من التشويش، وقد قالت "إن البيوت يومئذ لم يكن فيها مصابيح" فانتفى المعلول بانتفاء علته. ثانيها: أن المرأة في حديث أبي ذر مطلقة، وفي حديث عائشة مقيدة بكونها زوجته، فقد يحمل المطلق على المقيد ويقال يتقيد القطع بالأجنبية لخشية الافتتان بها بخلاف الزوجة، فإنها حاصلة. ثالثها أن حديث عائشة واقعة حال يتطرق الاحتمال بخلاف حديث أبي ذر فإنه مسوق مساق التشريع العام. وقال بعض النابلة: يعارض حديث أبي ذر وما وافقه أحاديث صحيحة غير صريحة، وصريحة غير صحيحة، فلا يترك العمل بحديث أبي ذر الصريح بالمحتمل، يعني حديث عائشة وما وافقه. والفرق بين المار وبين النائم في القبلة أن المرور حرام بخلاف الاستقرار نائما كان أم غيره، فهكذا المرأة يقطع مرورها لا لبثها- انتهى. ومن وجوه المنازعة أيضا ما قيل: إنه يحمل على أن ذلك وقع في غير حالة الحيض، والحكم بقطع المرأة للصلاة إنما هو إذا كانت حائضا كما تقدم (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود، والنسائي وابن ماجه بألفاظ متقاربة.

(4/449)


786- قوله: (على أتان) متعلق بقوله "راكبا" وأتان- بفتح الهمزة، وبالمثناه الفوقية، وفي آخره نون، وشد كسر الهمزة كما حكاه الصغاني، وهي الأنثى من الحمير، ولا يقال "أتانة" والحمار يطلق على الذكر والأنثى. وفي بعض طرق البخاري عل حمار أتان- بالتنوين فيهما- على أن قوله "أتان" صفة للحمار، أو بدل منه بدل بعض من كل، لأن الحمار يطلق على الجنس فيشمل الذكر والأنثى، أو بدل كل من كل نحو شجرة زيتونة، وروى بالإضافة، أي: حمار أنثى كفحل أتن (وأنا يومئذ) الواو للحال، وأنا مبتدأ وخبره قوله (قد ناهزت الاحتلام) أي: قاربت، يقال: ناهز الصبي البلوغ إذا قاربه وداناه. قال صاحب الأفعال: ناهز الصبي الفطام دنا منه، ونهز الشيء أي: قرب. والمراد بالاحتلام البلوغ الشرعي، وهو مشتق من الحلم بالضم. وقد أخرج البزار بإسناد صحيح أن هذه القصة كانت في حجة الوداع، ففيه دليل على أن ابن عباس كان في حجة الوداع دون البلوغ. وقد اختلف في سنه حين توفي النبي- صلى الله عليه وسلم -، فقيل: ثلاث عشرة، ويدل له قولهم "إنه ولد في الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين". وقيل: كان عمره عشر سنين وهو ضعيف، وقيل:
يصلي بالناس بمنأ إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك على أحد.

(4/450)


خمس عشرة. قال أحمد: إنه الصواب (بمنأ) مذكر مصروف إن قلت علم للمكان، وغير منصرف إن قلت علم للبقعة. قال النووي: فيه لغتان الصرف والمنع، ولهذا يكتب بالألف والياء، والأجود صرفها وكتابتها بالألف، سميت بها لما يمنى بها من الدماء أي: تراق (إلى غير جدار) في محل النصب على الحال، والتقدير يضلى متوجها إلى غير جدار، يعني إلى غير سترة، نقله البيهقي عن الشافعي، وبوب عليه "باب من صلى إلى غير سترة" ويؤيده رواية البزار بلفظ "والنبي- صلى الله عليه وسلم - يصلي المكتوبة، ليس شيء يستره" لكن البخاري بوب على حديث ابن عباس هذا "باب سترة الإمام سترة لمن خلفه" وهذا مصير منه إلى أن الحديث محمول على أنه كان هناك سترة. قال الحافظ: كأن البخاري حمل الأمر في ذلك على المألوف المعروف من عادته- صلى الله عليه وسلم - أنه كان لا يصلي في الفضاء إلا والعنزة أمامه. ثم أيد ذلك بحديثي ابن عمر وأبي جحيفة، (يعني المذكورين أول الباب) وأوردهما عقيب حديث ابن عباس هذا. وقال العيني: استنبط البخاري ذلك من قوله "إلى غير جدار" لأن لفظ غير يشعر بأن ثمة سترة لأنها تقع دائما صفة، وتقديره" إلى شيء غير جدار" وهو أعم من أن يكون عصا أو عنزة أو غير ذلك- انتهى. قلت: حمل البخاري لفظ الغير على النعت، والبيهقي على النفي المحض، وما اختاره البخاري هنا أولى، فإن التعرض لنفى الجدار خاصة يدل على أنه كان هناك شيء مغاير للجدار، لأنه إذا لم يكن هناك جدار ولا غيره لم يكن في التعرض لنفى الجدار خاصة فائدة. وقال الطيبي: فإن قلت: قوله "إلى غير جدار" لا ينفي شيئا فكيف فسره (الشافعي) بالسترة، قات: إخبار ابن عباس عن مروره بالقوم، وعن عدم جدار مع أنهم لم ينكروا عليه وأنه مظنة إنكار، يدل على حدوث أمر لم يعهد قبل ذلك من كون المرور مع عدم السترة غير منكر، فلو فرض سترة أخرى لم يكن لهذا الإخبار فائدة، إذ مروره حينئذ لا ينكره أحد أصلا- انتهى. قال القاري:

(4/451)


يمكن إفادته أن سترة الإمام سترة للقوم كما فهم البخاري- انتهى. وأما رواية البزار التي فيها "ليس شيء يستره" فليس المراد فيها نفي السترة مطلقا، بل أراد نفى السترة التي تحول بينهم وبينه كالجدار المرتفع الذي يمنع الرؤية وقد صرح بمثل هذا العراقي (فمررت) أي: راكبا (بين يدي بعض الصف) هو مجاز عن القدام لأن الصف لا يد له. والمراد الصف الأول، ففي البخاري في الحج "حتى سرت بين يدي بعض الصف الأول" (ترتع) بمثناتين فوقيتين مفتوحتين وضم العين، أي: تأكل ما تشاء، من رتعت الماشية ترتع رتوعا. وقيل تسرع في المشي (فلم ينكر) على صيغة المعلوم (ذلك) أي: مشية بأتانه وبنفسه بين يدي بعض الصف (على أحد) أي: لا النبي- صلى الله عليه وسلم - ولا غيره ممن كانوا معه، لا في الصلاة ولا في بعدها. قال ابن دقيق العيد: استدل ابن عباس بترك الإنكار على الجواز، ولم يستدل بترك إعادتهم للصلاة، لأن ترك الإنكار أكثر فائدة. قال الحافظ: وتوجيهه أن ترك الإعادة يدل على صحتها فقط لا على جواز المرور، وترك الإنكار يدل على جواز المرور وصحة الصلاة معا. ويستفاد منه أن ترك الإنكار حجة على الجواز بشرطه، وهو انتفاء الموانع من الإنكار وثبوت العلم بالإطلاع على الفعل. ولا يقال:
متفق عليه.

(4/452)


لا يلزم مما ذكره إطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك لاحتمال أن يكون الصف حائلا دون رؤية النبي- صلى الله عليه وسلم - له، لأنا نقول قد تقدم أي: في البخاري "أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرى في الصلاة من ورائه كما يرى من أمامه". وتقدم أنه مر بين يدي بعض الصف الأول، فلم يكن هناك حائل دون الرؤية، ولو لم يرو شيء من ذلك لكان توفر دواعيهم على سؤاله - صلى الله عليه وسلم - عما يحدث لهم كافيا في الدلالة على إطلاعه على ذلك. واستدل به على أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة، وأنه ناسخ للحديث الذي فيه الحكم بقطع الصلاة لكون هذه القصة في حجة الوداع. وتعقب بأنه لا دلالة فيه على ذلك لما تقدم أن صلاته - صلى الله عليه وسلم - كانت إلى سترة، وقد تقرر أن سترة الإمام سترة للقوم، فلا يتحقق المرور المضر في حق الإمام والقوم إلا إذا مرت بين يدي الإمام ما بينه وبين السترة، ولا دلالة لحديث ابن عباس على ذلك، قاله السندي. وقال ابن العربي: يحتمل أنه لم تقطع عليهم لأن الصلاة لا يقطعها شيء، ويحتمل أن تكون لم تقطع صلاة الإمام وسترته سترة لهم، وإذا مر ما يقطع الصلاة من وراء السترة لم يبال به بلا خلاف. ولا حجة بهذا الحديث بحال- انتهى. قلت: لا شك أن الحديث ليس حجة لمن قال بعدم القطع، لأنه صريح في أن الأتان مرت بين يدي الصف فلم تدخل بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين سترته فلم تقطع صلاته، وسترة الإمام سترة لمن خلفه. وقيل: منع المرور مختص بالإمام والمنفرد، ويختص منه حكم المأموم. قال ابن عبدالبر: حديث ابن عباس هذا يخص حديث أبي سعيد "إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه". قال: فحديث أبي سعيد هذا يحمل على الإمام والمنفرد. فأما المأموم فلا يضره من بين يديه لحديث ابن عباس هذا. قال: والمرور بين يدي المصلي مكروه إذا كان إماما أو منفردا. وأما المأموم فلا يضره من مر بين يديه كما أن الإمام أو المنفرد

(4/453)


لا يضر واحدا منهما ما مر من وراء سترته لأن سترة الإمام سترة لمن خلفه. وقد قيل: إن الإمام نفسه سترة لمن خلفه- انتهى. ويظهر أثر هذا الخلاف فيما لو مر بين يدي الإمام أحد فعلى قول من يقول: إن سترة الإمام سترة من خلفه يضر صلاته وصلاتهم معا. وعلى قول من يقول: إن الإمام نفسه سترة لمن خلفه يضر صلاته ولا يضر صلاتهم. وقيل: إن حكم منع المرور يستثنى منه ضرورة، فقد بوب على حديث ابن عباس هذا مالك في الموطأ بلفظ "الرخصة في المرور بين يدي المصلي" وعقد عليه الشاه ولي الله الدهلوي في المصفى "باب الرخصة في المرور بين يدي الصف إذا أقيمت الصلاة" وقال مالك بعد ذكر حديث ابن عباس: وأنا أرى ذلك واسعا إذا أقيمت الصلاة، وبعد أن يحرم الإمام، ولم يجد المرأ مدخلا إلى المسجد إلا بين الصفوف. قال ابن عبدالبر: هذا مع الترجمة يقتضي أن الرخصة عنده لمن لم يجد من ذلك بدا. وغيره لا يرى بذلك بأسا للآثار الدالة على أن سترة الإمام سترة لمن خلفه- انتهى. قلت: واستنبط بعضهم من الحديث نظرا إلى ما قاله مالك جواز تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة، أي: احتمال بعض المفاسد لمصلحة أرجح منها، فإن المرور أمام المصلين مفسدة خفيفة. والدخول في الصلاة وفي الصف مصلحة راجحة فاغتفرت المفسدة للمصلحة الراجحة من غير إنكار (متفق عليه) وهذا لفظ البخاري، قاله ميرك. والحديث أخرجه البخاري في
?الفصل الثاني?
787- (10) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا. فإن لم يجد؛ فلينصب عصاه. فإن لم يكن معه عصا؛ فليخطط خطا، ثم لا يضره ما مر أمامه)). رواه أبو داود وابن ماجه.
العلم ، وفي الصلاة، وفي الحج، وفي المغازي، ومسلم في الصلاة، وأخرجه أيضا مالك، وأحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم.

(4/454)


787- قوله: (إذا صلى أحدكم) أي: أراد الصلاة (فليجعل تلقآء وجهه) أي: حذائه لكن إلى أحد حاجبيه لا بين عينيه (شيئا) فيه أن السترة لا تختص بنوع بل كل شيء ينصبه المصلي تلقآء وجهه يحصل به الامتثال. قال سفيان بن عيينة: رأيت شريكا صلى بنا في جنازة العصر فوضع قلنسوته بين يديه يعني في فريضة حضرت. أخرجه أبوداود (فإن لم يجد) أي: شيئا منصوبا (فلينصب) بكسر الصاد أي: يرفع أو يقيم (عصا) ظاهره عدم الفرق بين الرقيقة والغليظة. ويدل على ذلك قوله "ليستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم" وقوله "يجزىء من السترة قدر مؤخرة الرحل ولو برقة شعرة" أخرجه الحاكم. وقال على شرطهما (فإن لم يكن معه عصا) هذا لفظ أبي داود، ولفظ ابن ماجه فإن لم يجد ( فليخطط) بضم الطاء، وفي ابن ماجه فليخط (خطا) حتى يبين فصلا فلا يتخطى المار. واختلف في صفته فاختار أحمد أن يكون عرضا مثل الهلال، أي: مقوسا كالمحراب فيصلي إليه كما يصلي في المحراب. وقيل يمد طولا إلى جهة الكعبة، أي: يكون مستقيما من بين يديه إلى القبلة. وقيل: يمد يمينا وشمالا أي: من غير تقويس، والأول أولى (ثم لا يضره) أي: بعد استتاره. وفيه ما يدل أنه يضره إذا لم يفعل إما بنقصان من صلاته أو بإبطالها على ما ذكر أنه يقطع الصلاة، إذ في المراد بالقطع الخلاف كما تقدم. وهذا إذا كان المصلي إماما أو منفردا، لا إذا كان مؤتما، فإن الإمام سترة له أو سترته سترة له كما سبق آنفا (ما مر أمامه) أي: أمام سترته. والحديث دليل على جواز الاقتصار على الخط. وإليه ذهب أحمد وغيره، فجعلوا الخط عند العجز عن السترة سترة. واختلف فيه قول الشافعي فروى عنه استحبابه، وروى عنه عدم ذلك. وقال جمهور أصحابه: باستحبابه. وقال ابن الهمام: وأما الخط فقد اختلفوا فيه حسب اختلافهم في الوضع إذا لم يكن معه ما يغرزه أو يضعه. فالمانع يقول: لا يحصل المقصود به إذ لا يظهر من بعيد. والمجيز يقول: ورد الأثر به.

(4/455)


واختار صاحب الهداية الأول. والسنة أولى بالإتباع من أنه يظهر في الجملة، إذ المقصود جمع الخاطر بربط الخيال به كيلا ينتشر – انتهى. (رواه أبوداود وابن ماجه) واللفظ لأبي داود. وأخرجه أيضا أحمد وابن حبان في صحيحه والبيهقي وصححه أحمد وابن المديني فيما نقله ابن عبدالبر في الاستذكار. وأشار إلى ضعفه سفيان بن عيينة والشافعي والبغوي
788- (11) وعن سهل بن أبي حثمة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته)). رواه أبوداود.
وغيرهم. قال الحافظ: وأورده ابن الصلاح مثالا للمضطرب، ونوزع في ذلك. قال في بلوغ المرام: ولم يصب من زعم أنه مضطرب بل هو حسن. وقال البيهقي: لا بأس به في مثل هذا الحكم إن شاء الله تعالى.

(4/456)


788- قوله: (وعن سهل بن أبي حثمة) بفتح الحاء المهملة ثم مثلثة، واسمه عبدالله، وقيل عامر. وقيل: هو سهل بن عبدالله بن أبي حثمة عامر بن ساعدة بن عامر الأنصاري الخزرجي المدني، صحابي صغير، ولد سنة (3) من الهجرة. واتفق الأئمة على أنه كان ابن ثمان سنين أو نحوها عند موت النبي- صلى الله عليه وسلم - ، منهم ابن مندة وابن حبان وابن السكن والحاكم أبوأحمد وأبوجعفر الطبري. قال الواقدي: قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمان سنين، ولكنه حفظ عنه فروى وأتقن. قال الذهبي: أظنه مات زمن معاوية وجزم الطبري أن الذي مات في خلافة معاوية هو أبوه أبوحثمة، وقال المصنف: سكن الكوفة. وعداده في أهل المدينة، وبها كانت وفاته في زمن مصعب بن الزبير. روى عنه جماعة. له خمسة وعشرون حديثا، اتفقا على ثلاثة (إلى سترة) أي: متوجها إليها ومستقبلا لها (فليدن) أمر من الدنو بمعنى القرب (منها) أي: من السترة. وفيه مشروعية الدنو من السترة حتى يكون مقدار ما بينهما ثلاثة أذرع، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما صلي في الكعبة جعل بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريبا من ثلاثة أذرع. قال البغوي: استحب أهل العلم الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود، وكذلك بين الصفوف (لا يقطع الشيطان) بالجزم جواب الأمر، ثم حرك بالكسر لالتقاء الساكنين، قاله القاري. وقال السندي: جملة مستأنفة بمنزلة التعليل، أي: لئلا يقطع الشيطان بأن يحمل على المرور من يقطع عليه صلاته حقيقة عند قوم كالمرأة والحمار والكلب الأسود، وخشوعا عند آخرين (أي بإلقاء الوساوس والخواطر) ويحتمل أن المراد بالشيطان هو الكلب الأسود، فقد جاء في الحديث أنه شيطان – انتهى. وقال ابن حجر: استفيد من الحديث أن السترة تمنع استيلاء الشيطان على المصلي وتمكنه من قلبه بالوسوسة، إما كلا أو بعضا بحسب صدق المصلي وإقباله في صلاته على الله تعالى، وأن عدمها يمكن الشيطان من

(4/457)


إزلاله عما هو بصدده من الخشوع والخضوع، وتدبره بالقراءة والذكر- انتهى (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد (ج4: ص2) والنسائي، والحاكم (ج1:ص252، 251) كلهم من طريق سفيان بن عيينة، عن صفوان بن سليم، عن نافع بن جبير، عن سهل بن أبي حثمة. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، فقال: على شرطهما. وقال أبوداود: اختلف في إسناده. وقد بين الاختلاف فيه بقوله: ورواه واقد بن محمد، عن صفوان، عن محمد بن سهل، عن أبيه، أو عن محمد بن سهل، عن النبي- صلى الله عليه وسلم -. وقال بعضهم: عن نافع بن جبير، عن سهل بن سعد- انتهى. ولا يضر هذا الاختلاف، لأن الطريق الأول- أي: طريق سفيان بن عيينة- أرجح وأقوى من طريق واقد بن محمد
789- (12) وعن المقداد بن الأسود، قال: ((ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى عود، ولا عمود، ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمد له صمدا)). رواه أبوداود.
790- (13) وعن الفضل بن عباس، قال: ((أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم،

(4/458)


وهذا ظاهر. واعلم أن ما وقع في رواية أبي داود في بيان الاختلاف مخالف لما ذكره الحافظ في الإصابة (ج3:ص514) حيث قال في القسم الرابع من حرف الميم: محمد بن سهل بن أبي حثمة الأنصاري المدني، قال أبوموسى في الذيل: ذكره بعض الحفاظ، ثم أخرج من طريق شعبة، وعن واقد بن محمد، سمعت صفوان بن سليم يحدث، عن محمد ابن سهل بن أبي حثمة، أو عن سهل بن أبي حثمة عن النبي- صلى الله عليه وسلم - في سترة المصلي. قال الحافظ: هو مرسل أو منقطع، لأنه إن كان المحفوظ محمد بن سهل فهو مرسل، لأنه تابعي لم يولد إلا بعد موت النبي- صلى الله عليه وسلم - بمكة، فإن النبي- صلى الله عليه وسلم - لما مات كان سن سهل بن أبي حثمة ثمان سنين، وإن كان عن سهل فهو منقطع، لأن صفوان لم يسمع من سهل- انتهى. فليتأمل. وفي الباب عن أبي سعيد أخرجه أبوداود وابن ماجه، وعن جبير بن مطعم أخرجه البزار والطبراني في الكبير، وعن بريدة أخرجه البزار، وعن سهل بن سعد أخرجه الطبراني في الكبير.

(4/459)


789- قوله: (إلى عود) كالعصا أو العنزة، أو الحربة أو مؤخرة الرحل، وهو واحد العيدان (ولا عمود) كالأسطوانة (ولا شجرة) أي: فيجعله سترة (إلا جعله) أي: العود، أو العمود، أو الشجرة (على حاجبه) أي: جانبه (الأيمن أو الأيسر) فيه استحباب أن تكون السترة على جهة اليمين أو اليسار. قال ابن حجر: وفي رواية للنسائي "إذا صلى أحدكم إلى عمود أو سارية، أو إلى شيء فلا يجعله بين عينيه، وليجعله على حاجبه الأيسر" وقد يؤخذ منه أن الأيسر أولى من الأيمن. ويوجه بأنه مانع للشيطان الذي هو على الأيسر، كذا في المرقاة (ولا يصمد) بضم الميم من باب نصر (له صمدا) الصمد القصد، يقال: أصمد صمد فلان، أي: أقصد قصده، يريد أنه لا يقصده قصدا مستويا يستقبله بحيث يجعله تلقاء وجهه ما بين عينيه حذرا عن التشبه بعبادة الأصنام (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد. والحديث سكت عنه أبوداود. وقال المنذري في سنده أبوعبيدة الوليد بن كامل البجلي الشامي، وفيه مقال. قلت: وثقه النسائي وقال أبوحاتم: شيخ، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال البخاري: عنده عجائب. قال الأزدي: ضعيف. وقال ابن القطان: لا تثبت عدالته. وقال الحافظ في التقريب: لين الحديث.
790- قوله: (وعن الفضل بن عباس) بن عبدالمطلب بن هاشم الهاشمي المدني ابن عم النبي- صلى الله عليه وسلم - ، وأمه أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث الهلالية. أردفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، وحضر غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أكبر ولد العباس. وكان وسيما جميلا، وثبت مع النبي- صلى الله عليه وسلم - يوم حنين فيمن ثبت، وخرج إلى الشام مجاهدا، فقيل مات بناحية الأردن بطاعون عمواس سنة (18) وقيل: استشهد يوم اليرموك. وقيل: بدمشق، وعليه درع النبي- صلى الله عليه وسلم -، وذلك

(4/460)


ونحن في بادية لنا، ومعه عباس، فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة، وحمارة لنا وكلبة تعبثان بين يديه، فما بالي بذلك)). رواه أبوداود. وللنسائي نحوه.
791-(14) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقطع الصلاة شيء،
في خلافة عمر. له أربعة وعشرون حديثا، اتفقا على حديثين (ونحن) حال من المفعول (في بادية لنا) في القاموس: البدو والبادية والبداوة خلاف الحضر (ومعه عباس) بن عبدالمطلب عم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والجملة حال من الفاعل (ليس بين يديه سترة) لأنه لم يكن هنا مظنة المرور. وفيه دليل على أن اتخاذ السترة غير واجب، فيكون قرينة لصرف الأوامر إلى الندب. قال ابن العربي في عارضة الأحوذى: اختلف العلماء في وضع السترة على ثلاثة أقوال، الأول: إنه واجب، وإن لم يجد وضع خطا. قاله أحمد وغيره. والثاني: أنها متسحبة، قاله الشافعي وأبوحنيفة ومالك في العتبية. وفي المدونة قولان: تركها، هذا إذا كان في موضع يؤمن المرور فيه، فإن كان في موضع لا يؤمن ذلك تأكد عند علمائنا وضع السترة-انتهى (وحمارة) بالتاء وهي لغة قليلة، والأفصح حمار بلا تاء للذكر والأنثى. وقال في المفاتيح: التاء في حمارة وكلبة للإراد، كما في تمر وتمرة. ويجوز أن تكون للتأنيث. قال الجوهري: وربما قالوا: حمارة، والأكثر أن يقال للأنثى أتان (تعبثان) أي: تلعبان (بين يديه) أي: قدامه (فما بالي بذلك) من المبالاة أي: ما اكترث به وما اعتده قاطعا. والحديث قد استدل به على أن الكلب والحمار لا يقطعان الصلاة. وتعقب بأنه ليس فيه نعت الكلبة بكونه سوداء. قال الخطابي، والمذري، والشوكاني، والسندي: لم يذكر فيه نعت الكلب. وقد يجوز أن يكون الكلب ليس بأسود-انتهى. على أن في سنده مقالا كما ستعرف، ولو سلم صحته فهو لا يقاوم أحاديث القطع فإنها أصح وأرجح وأقوى (رواه أبوداود) أي: بهذا اللفظ وسكت عنه (وللنسائي نحوه) ولفظه عن الفضل بن عباس قال: زار

(4/461)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عباس في بادية لنا، ولنا كليبة وحمارة ترعى، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - العصر وهما بين يديه، فلم يزجرا ولم يؤخرا. وأخرجه أيضا أحمد بهذا اللفظ. وأخرجه الطحاوي بمعناه. قال المنذري في مختصر السنن: ذكر بعضهم أن في إسناده مقالا. قلت في سند الحديث عباس بن عبيدالله بن عباس الهاشمي وهو مقبول، لكنه لم يدرك عمه الفضل، فالحديث منقطع. قال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج5:ص123): ذكره ابن حبان في الثقات. روى له أبوداود، والنسائي حديثا واحدا في الصلاة. قلت أعله ابن حزم بالانقطاع. قال: لأن عباسا لم يدرك عمه الفضل وهو كما قال-انتهى بلفظ. وأخرج أحمد وأبويعلى عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في فضاء ليس بين يديه شئ. قال الهيثمي: وفيه الحجاج بن أرطاة وفيه ضعف.
791- قوله: (لا يقطع الصلاة شيء) أي: مرور شيء بين يدي المصلى ولو بلا سترة وإلا فكم من شيء يقطعها. وقيل: يحتمل أن يراد بشيء الدفع، أي: لا يبطل الصلاة شيء من الدفع، فادفعوا المار بقدر استطاعتكم. وحذف المار لدلالة السياق
وادرؤا ما استطعتم، فإنما هو شيطان)) رواه أبوداود.
?الفصل الثالث?
792- (15) عن عائشة، قالت: ((كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته. فإذا سجد غمزني، فقبضت رجلي، وإذا قام بسطتهما. قال: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح)). متفق عليه.

(4/462)


عليه. وقيل: المراد لا يقطعها شيء من فعل غير المصلى، وفيه أن غير المصلى مثل المصلى إذا فعل معه ما أبطل عليه استقبال القبلة أو ما نقض عليه الوضوء كإخراج الدم عند القائل بنقض الوضوء به، أو مس المرأة عند القائل به، أو ما حصل به نجاسة ثوبه عند القائل ببطلان الصلاة به، لكان ذلك الفعل من غير المصلى قاطعا للصلاة على المصلى (وادرؤا) أي: ادفعوا المار (فإنما هو) أي: المار (شيطان) قد تقدم أن الراجح أن أحاديث القطع بالمرأة، والحمار، والكلب منسوخة بهذا الحديث وقد سبق تقرير ذلك فتذكر (رواه أبوداود) وسكت عنه، وضعفه ابن حزم في المحلي (ج4:ص13) كما تقدم وتضعيفه مردود عليه. وقال المنذري: في إسناده مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني، وقد تكلم فيه غير واحد. وأخرج له مسلم حديثا مقرونا بجماعة من أصحاب الشعبي-انتهى. قلت: قال يعقوب بن سفيان والبخاري: هو صدوق.

(4/463)


793- قوله: (و رجلاي) الواو للحال (في قبلته) أي: في موضع سجوده (فإذا سجد) أي: أراد السجود (غمزني) الغمز هو العصر والكبس باليد، وغمزني جواب إذا. وفيه إشارة إلى أن مس المرأة غير ناقض الوضوء، والأفضل عدم الحائل (فقبضت) عطفا على قوله غمزني (رجلي) بفتح اللام وتشديد الياء. قال الحافظ: كذا بالتثنية للأكثر وكذا في قوله "بسطتهما" وللمستملي والحموى "رجلي" بكسر اللام بالإفراد. وكذا بسطتها (قالت) أي: عائشة معتذرة عن نومها على هذه الهيئة (والبيوت يومئذ) أي: حينئذ أو وقتئذ (ليس فيها مصابيح) أي: إذ لو كانت لقبضت رجليها عند إرادته السجود ولما أحوجته للغمز. والمعنى: ما كنت أدرى وقت سجوده لعدم المصابيح، وإلا لما احتاج - صلى الله عليه وسلم - إلى الغمز كل مرة، بل أنا ضممت رجلي إلى وقت السجود. وفي الحديث أن العمل اليسير في الصلاة غير قادح. وفيه جواز الصلاة إلى النائم من غير كراهة. وذهب مالك وغيره إلى كراهة الصلاة إلى النائم خشية ما يبدو منه مما يلهى المصلى عن صلاته. واستدلوا بحديث ابن عباس عند أبي داود وابن ماجه بلفظ "لا تصلوا خلف النائم والمتحدث" وقد قال أبوداود: طرقه كلها واهية. وفي الباب عن أبي هريرة عند الطبراني، و عن ابن عمر عند ابن عدي، وهما واهيان. والحديث قد استدل به على أن المرأة لا تقطع الصلاة، وأنه ناسخ لأحاديث القطع، وقد قدمنا ما في هذا الاستدلال من الكلام والنظر فتذكر (متفق عليه) وأخرجه أيضا أبوداود في الصلاة، والنسائي في الطهارة.
793- (16) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو يعلم أحدكم ما له في أن يمر بين يدى أخيه معترضا في الصلاة، كان لأن يقيم مائة عام خير له من الخطوة التي خطا)). رواه ابن ماجه.
794- (17) وعن كعب الأحبار،

(4/464)


793- قوله: (ماله) أي: من الإثم فحذف البيان ليدل الإبهام على ما لا يقادر قدره من الإثم، قاله الطيبي (في أن يمر) أي: بسبب مروه (بين يدى أخيه) ذكر لمزيد التلطف بالمار حتى ينكف عن مروره، إذ من شأن الأخ أن لا يؤذى أخاه بنوع من أنواع الأذى وإن قل (معترضا) أي: حال كون المار معترضا محل سجود (في الصلاة) حال من أخيه (كان لأن يقيم مائة عام خير له) بالرفع، قال الطيبي: اسم كان ضمير عائد إلى "أحدكم" أو ضمير الشأن، والجملة خبر كان، و اللام لام الابتداء المقارنة بالمبتدأ المؤكدة لمضمون الجملة، أو التي يتلقى بها القسم وهو أقرب، وقيل: اللام هي الداخلة على جواب "لو" أخرت عن محلها-وهو كان- إلى خبرها- وهو إقامة مائة عام- ولهذا التقدير المقتضي لكونه أو غل في التعريف كان الأصل أنه الاسم و"خير" هو الخبر، لكنهما عكسا إبهاما على السامع ليظهر جودة فهمه وذكائه. وقد جرى على الأصل في الأمرين في الخبر الذي عقب هذا، فأدخل اللام على كان، وجعل المصدر المسبوك من أن والفعل هو الاسم و"خيرا" هو الخبر وتجوز زيادة كان هنا، كذا في المرقاة (من الخطوة التي خطا) وفي ابن ماجه "خطاها" بزيادة ضمير المؤنث المنصوب، والخطوة-بالضم وتفتح- ما بين القدمين وبالفتح المرة (رواه ابن ماجه) من طريق عبيدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله بن موهب، عن عمه، عن أبي هريرة، قال في الزوائد: في إسناد مقال لأن عم عبيدالله بن عبدالرحمن، اسمه عبيدالله بن عبدالله بن موهب. قال أحمد ابن حنبل: أحاديثه مناكير، ولكن ابن حبان خص ضعف أحاديثه بما إذا روى عنه ابنه-انتهى. قلت: عبيدالله بن عبدالله هذا قال فيه أحمد: لا يعرف، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال: روى عنه ابنه يحيى، ويحيى لا شيء، وأبوه ثقة. وإنما وقعت المناكير في حديثه من قبل ابنه. وقال الشافعي: لا نعرفه. وقال ابن القطان الفاسي: مجهول الحال -انتهى. وقال الحافظ في التقريب: مقبول. وأما عبيدالله بن

(4/465)


عبدالرحمن بن عبدالله فضعفه ابن عيينة وابن معين في رواية الدوري. وقال النسائي: ليس بالقوي، ووثقه العجلي وابن معين في رواية إسحاق بن منصور. وقال أبوحاتم: صالح. وقال ابن عدي: حسن الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات، كذا في تهذيب التهذيب (ج7:ص29) فالظاهر أن الحديث لا ينحط عن درجة الحسن. وأخرجه أيضا أحمد، وابن حبان، وابن خزيمة في صحيحهما.
794- قوله: (كعب الأحبار) بالإضافة جمع حبر-بالفتح، وبكسر- وهو العالم. قال في القاموس: كعب الحبر وبكسر، ولا تقل الأحبار-انتهى. قال الزرقاني: قول المجد "لا تقل الأحبار" فيه نظر، فقد اثبته غير واحد، ويكفي قول مثل أبي هريرة إذ قال: كعب الأحبار-انتهى. وقال الطيبي: الأحبار جمع حبر-بالفتح والكسر والإضافة-
قال: لو يعلم المسار بين يدي المصلى ما عليه؛ لكان أن يخسف به خيرا له من أن يمر بين يديه. وفي رواية: أهون عليه)). رواه مالك
795- (18) وعن ابن عباس، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلى أحدكم إلى غير السترة، فإنه يقطع صلاته الحمار، والخنزير، واليهودي، والمجوسي، والمرأة. وتجزئ عنه إذا مروا بين يديه على قذفة بحجر)) رواه أبوداود.

(4/466)


كما في زيد الخيل-انتهى (قال) يحتمل أن يكون أخذه من الكتب السابقة لأنه خبرها، قاله الزرقاني (لكان أن يخسف) بصيغة المجهول (به) أي: بالمار في الأرض (خيرا له) بالنصب، قال الطيبي: المذكور في الحديثين ليس جواب "لو" بل هو دال على ما هو جوابها والتقدير"لو يعلم المار ما عليه من الإثم لأقام مائة عام، وكانت الإقامة خيرا له" وفي الثاني "لو يعلم ماذا عليه من الإثم لتمنى الخسف، وكان الخسف خيرا له" (وفي رواية) أي: لمالك هذا هو الظاهر، لكن الموجود في نسخ الموطأ الموجودة الحاضرة هو "خيرا له" لا قوله "أهون عليه" والظاهر أن المصنف نسب الرواية الثانية للمؤطا تبعا للجزري حيث قال بعد ذكر الرواية الأولى: وفي رواية "أهون عليه" أخرجه في الموطأ (أهون عليه) أي: على المصلى، لأن عذاب الآخرة أشد وأصعب وأبقى من عذاب الدنيا (رواه مالك) أي: في مؤطاه عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار "أن كعب الأحبار" الخ.

(4/467)


795- قوله: (إلى غير السترة) كذا في نسخ المشكاة، وفي أبي داود "إلى غير سترة" أي: بغير اللام (الحمار) وفي أبي داود "الكلب والحمار" أي: بزيادة الكلب قبل الحمار. والظاهر أن سقوط لفظ الكلب من النساخ (وتجزئ) بالهمزة من الإجزاء، وبالتأنيث في أكثر النسخ، أي: تجزئ الصلاة بلا سترة على المصلى، قاله القاري. وفي بعض النسخ "يجزئ" بالياء، وكذا وقع في أبي داود، أي: يكفي عن المصلى أي: في عدم قطع الصلاة (إذا مروا) أي: وإن لم يكن سترة (بين يديه على قذفه) بالفتح أي: رمية (بحجر) أي: لو مروا على بعد هذا المقدار بين يدي المصلى لا يقطع مرورهم صلاته. والحديث دليل على أن قطع الصلاة بالمرور بين يدي المصلي ليس بمخصوص بالكلب، والحمار، والمرأة وأن ذكر هذه الثلاثة في حديثي أي: ذر وأبي هريرة ليس لاختصاص حكم القطع بها، لكن ذكر اليهودي، و المجوسي، والخنزير في هذا الحديث منكر كما سيأتي (رواه أبوداود) عن محمد بن إسماعيل بن أبي سمينة البصري، عن معاذ بن هشام، عن هشام، الخ. قال أبوداود: في نفسي من هذا الحديث شيء كنت أذاكر به إبراهيم وغيره لم أر أحدا جاء به عن هشام، ولا يعرفه، ولم أر أحدا يحدث به عن هشام، وأحسب الوهم من ابن أبي سمية، والمنكر فيه ذكر المجوسي، وفيه"على قذفة بحجر" وذكر الخنزير، وفيه نكارة. قال أبوداود: ولم أسمع هذا الحديث إلا من محمد بن

(4/468)


إسماعيل، وأحسبه وهم، لأنه كان يحدثنا من حفظه-انتهى. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج9:ص60) في ترجمة محمد بن إسماعيل: توقف أبوداود في صحة حديث أخرجه عنه، عن معاذ بن هشام، عن ابيه عن يحيى ابن كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس: يقطع الصلاة الكلب-الحديث. قال أبوداود: لم أسمعه إلا منه. وذاكرت به فلم يعرف – انتهى. قلت: في نسبة الوهم إلى محمد بن إسماعيل بن أبي سمينة نظر فإنه ثقة. وقد أخرج الطحاوي هذا الحديث فقال: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا معاذ بن هشام، ثنا أبي، عن يحيى، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أحسبه قد أسنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يقطع الصلاة المرأة الحائض، والكلب، والحمار، واليهودي، والنصراني، والخنزير. ويكفيك إذا كانوا منك قدر رمية لم يقطعوا عليك صلاتك. فهذا الحديث هو ما رواه أبودود. وليس فيه محمد بن إسماعيل بن أبي سمينة البصري.
بعون الله وحسن توفيقه تم الجزء الثاني من مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح، ويليه الجز الثالث إن شاء الله تعالى، وأوله "باب صفة الصلاة"

(4/469)


بسم الله الرحمن الرحيم
(24) باب تسوية الصف
(باب تسوية الصف) أي في الصلاة. وفي بعض النسخ الصفوف، والمراد بالأول الجنس قال تعالى: ?إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص? [4:61]، وقال تعالى: ?إنا لنحن الصافون? [165:37] وأمرنا أن نصف في الصلاة كما تصف الملائكة عند ربها. ومعنى تسوية الصف هو اعتدال القائمين به على سمت واحد وخط مستقيم، وسد الخلل الذي في الصف بإلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم. قال ابن عبدالبر في الاستذكار: الآثار في تسوية الصف متواترة من طرق شتى في أمره ? بتسوية الصفوف وعمل الخلفاء الراشدين بعده، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء - انتهى. واختلفوا في حكمها من الوجوب والندب. قال العيني: هي من سنة الصلاة عند أبي حنيفة والشافعي ومالك، وزعم ابن حزم أنه فرض. وقيل: إنه مندوب. وذهب البخاري إلى الوجوب، حيث ترجم في صحيحه بقوله: باب إثم من لم يتم الصفوف. قال العيني: ظاهر ترجمة البخاري يدل على أنه يرى وجوب التسوية، والصواب هذا الورود الوعيد الشديد في ذلك، وقال في موضع آخر: الصواب أن تسوية الصفوف واجبة بمقتضى الأمر، ولكنها ليست من واجبات الصلاة، بحيث أنه إذا تركها فسدت صلاته أو نقصتها، غاية ما في الباب إذا تركها يأثم. قلت: الحق عندي أن إقامة الصف وتعديله وتسويته من واجبات صلاة الجماعة، بحيث إذا تركها نقصتها، ويأثم تاركها لورود الأمر بالتسوية، والأصل
?الفصل الأول?
1091- (1) عن النعمان بن بشير قال: ((كان رسول الله ? يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح، حتى رأى أنا قد عقلنا عنه، ثم خرج يوما، فقام حتى كاد أن يكبر، فرأى رجلا باديا

(5/1)


في الأمر الوجوب، ولورود الوعيد الشديد في تركه، ولقوله ?: "إن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة"، وفي رواية: "من تمام الصلاة"، ولقوله: "إن إقامة الصف من حسن الصلاة"، والمراد بحسنها تمامها، ولشدة اهتمامه ? وخلفائه بعده بذلك، ولإنكار أنس على تركه حيث قال: ما أنكرت شيئا إلا أنكم لا تقيمون الصفوف، أخرجه البخاري. والإنكار يستلزم المنكر، والمباح لا يسمى منكرا، ولأن عمر وبلالا كانا يضربان أقدامهم لإقامة الصف، وضربهما أقدامهم يدل على أنهم تركوا واجبا من واجبات الصلاة. وأما إنه هل تفسد صلاة من ترك التسوية أم لا؟ فالظاهر أنه تصح ولا تفسد لعدم ورود نص صريح في ذلك. قال الحافظ في الفتح: ومع القول بأن التسوية واجبة، فصلاة من خالف ولم يسو صحيحة لاختلاف الجهتين. ويؤيد ذلك أن أنسا مع إنكاره عليهم يأمرهم بإعادة الصلاة. وأفرط ابن حزم فجزم بالبطلان - انتهى.

(5/2)


1091- قوله: (يسوي صفوفنا) أي بيده أو بأمره. (كأنما يسوي بها) أي بالصفوف. (القداح) بكسر القاف جمع قدح بكسر قاف فسكون دال، وهو خشب السهم حين ينحت ويبرى. قال الخطابي في المعالم (ج1:ص184): القدح خشب السهم إذا برئ وأصلح قبل أن يركب فيه النصل والريش - انتهى. وقيل: هو السهم مطلقا، يعني يبالغ في تسوية الصفوف حتى تصير كأنما يقوم بها السهام لشدة استوائها واعتدالها، قاله النووي. وقال الطيبي: ضرب المثل به للمتساويين أبلغ الاستواء في المعنى المراد منه؛ لأن القدح لا يصلح لما يراد منه إلا بعد الانتهاء في الاستواء، وإنما جمع مع الغنية عنه بالمفرد لمكان الصفوف أي يسوي كل صف على حدة، كما يسوي الصانع كل قدح على حدته. وروعي في قوله: يسوي بها القداح نكتة؛ لأن الظاهر كأنما يسويها بالقداح، والباء للآلة كما في كتبت بالقلم، فعكس، وجعل الصفوف هي التي يسوي بها القداح مبالغة في الاستواء - انتهى. وفي رواية لأحمد (ج4:ص272) كان يسوي بنا في الصفوف حتى كأنما يحاذى بنا القداح، وفي أخرى له (ج4 ص271): يقيم الصفوف كما تقام الرماح أو القداح. وفي أخرى له (ج4:ص277) ولابن ماجه: يسوي الصف حتى يجعله مثل الرمح أو القدح. (حتى رأى) أي علم. (إنا قد عقلنا) أي فهمنا التسوية. (عنه) قال الطيبي: أي لم يبرح يسوي صفوفنا حتى استوينا استواء أراده منا وتعقلنا عن فعله. (ثم خرج يوما) أي إلى المسجد. (فقام) أي في مقام الإمامة. (حتى كاد أن يكبر) تكبيرة الإحرام. (باديا) أي ظاهرا خارجا.
صدره من الصف، فقال: عبادالله! لتسون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم)) رواه مسلم.

(5/3)


(صدره من الصف) أي من صدور أهل الصف. وفي رواية أبي داود: حتى إذا ظن أن قد أخذنا ذلك عنه وفقهنا أقبل ذات يوم بوجهه إذا رجل منتبد بصدره، وفي رواية لأحمد: فلما أراد أن يكبر رأى رجلا شاخصا صدره. وفي أخرى له، ولابن ماجه: فرأى صدر رجل ناتئا يعني مرتفعا بالتقدم على صدور أصحابه. (عباد الله) بالنصب على حذف حرف النداء، قال ابن حجر: لم ينهه بخصوصه جريا على عادته الكريمة مبالغة في الستر. (لتسون) بضم التاء المثناة وفتح السين وضم الواو المشددة وتشديد النون المؤكدة. قال القسطلاني: ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: "لتسوون" بواوين والنون للجمع. قال القاضي: هذه اللام هي التي يتلقى بها القسم، والقسم ههنا مقدر، ولهذا أكده بالنون المشددة. (أو ليخالفن الله) بالرفع على الفاعلية، وفتح اللام الأولى المؤكدة وكسر الثانية وفتح الفاء، أي ليوقعن الله المخالفة. (بين وجوهكم) إن لم تسووا صفوفكم أي بتحويلها عن مواضعها إلى أدبارها وجعلها مواضع الأققية، أو بتغيير صورها ومسخها على صورة بعض الحيوانات كالحمار مثلا، فهو محمول على الحقيقة. ويؤيد حمله على ظاهره حديث أبي أمامة: لتسون الصفوف أو لتطمسن الوجوه، أخرجه أحمد، وفي إسناده ضعف. وفيه وقوع الوعيد من جنس الجناية، وهي المخالفة. قال الحافظ: وعلى هذا فهو أي التسوية واجب، والتفريط فيه حرام. وقيل: هو مجاز ومعناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب، كما تقول تغير وجه فلان علي، أي ظهر لي من وجهه كراهة لي؛ لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن. ويؤيده ما في رواية لأبي داود: أو ليخالفن الله بين قلوبكم، وحديث أبي مسعود الآتي: لا تختلفوا فتختلف قلوبكم، أي هواها وإرادتها. وقيل: المراد بالوجوه الذوات. قال ابن العربي في العارضة (ج2:ص25): بين وجوهكم، يعني مقاصدكم، فإن استواء القلوب يستدعي استواء الجوارح واعتدالها، فإذا اختلفت

(5/4)


الصفوف دل على اختلاف القلوب، فلا تزال الصفوف تضطرب وتهمل، حتى ييتلي الله باختلاف المقاصد، وقد فعل، ونسأل الله حسن الخاتمة. وقال القرطبي: معناه تفترقون فيأخذ كل واحد وجها غير الذي يأخذه صاحبه؛ لأن تقدم الشخص على غيره مظنة الكبر المفسد للقلب الداعي إلى القطعية. والحاصل أن المراد بالوجه إما ذات الشخص، فالمخالفة بحسب المقاصد، وإما العضو المخصوص، فالمخالفة إما بحسب الصورة الإنسانية، وإما بحسب الصفة، وإما يجعل القدام وراء. والحديث فيه غاية التهديد والتوبيخ. قال الطيبي: إن مثل هذا التركيب متضمن للأمر توبيخا، أي والله ليكونن أحد الأمرين إما تسويتكم صفوفكم أو أن يخالف الله بين وجوهكم. وفيه دليل على وجوب تسوية الصف وتعديله. وقيل: إن هذا الوعيد من باب التغليظ والتشديد تأكيدا وتحريضا على فعلها، أي فلا يدل على الوجوب. قال العيني بعد ذكره: كذا قاله الكرماني، وليس بسديد؛ لأن الأمر المقرون بالوعيد يدل على الوجوب. (رواه مسلم) وأخرجه
1092- (2) وعن أنس، قال: ((أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله ? بوجهه، فقال: أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري)) رواه البخاري. وفي المتفق عليه قال: ((أتموا الصفوف، فإني أراكم من وراء ظهري)).
أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص100) و (ج2: 21) كلهم من طريق سماك عن النعمان بن بشير. وأخرج البخاري ومسلم والبيهقي من طريق سالم بن أبي الجعد عن النعمان بن بشير الفصل الأخير منه، ولأحمد وأبي داود في رواية. والبيهقي قال: فرأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه، وركبته بركتبه، ومنكبه بمنكبه.

(5/5)


1092- قوله: (أقيمت الصلاة) أىأقام المؤذن للصلاة. (فأقبل علينا رسول الله ? بوجهه) أي التفت إلينا بعد إقامة المؤذن. (أقيموا صفوفكم) أي عدلوها وسووها، يقال: أقام العود إذا عدله وسواه. (وتراصوا) بضم الصاد المهملة المشددة. وأصله تراصصوا، أي تضاموا وتلاصقوا حتى تتصل مناكبكم وأقدامكم في الصف، ولا يكون بينكم خلل وفرج، من رص البناء ألصق بعضه ببعض. ومنه قوله تعالى ?كأنهم بنيان مرصوص? [4:61]. وفيه جواز الكلام بين الاقامة والدخول في الصلاة، وفيه أن تسوية الصف واجبة. (فإني أراكم من وراء ظهري) أي من خلف ظهري. والفاء فيه للسببية، أشار به إلى سبب الأمر بذلك، أي إنما أمرت بذلك؛ لأني تحققت منكم خلافه. وقد تقدم القول في المراد بهذه الرؤية في باب الركوع، وأن المختار حملها على الحقيقة خلافا لمن زعم أن المراد بها خلق علم ضروري له بذلك، ونحو ذلك قال الزين بن المنير: لا حاجة إلى تأويلها؛ لأنه في معنى تعطيل لفظ الشارع من غير ضرورة. وقال القرطبي: حملها علىظاهرها أولى؛ لأن فيه زيادة في كرامة النبي ?، وفيه مراعاة الإمام لرعيته والشفقة عليهم وتحذيرهم من المخالفة. (رواه البخاري) أي بهذا اللفظ في باب إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف. وأخرج مسلم بنحوه، وأخرجه البيهقي (ج2:ص21) بلفظ البخاري. (وفي المتفق عليه) ظاهر هذا أن الشيخين اتفقا على إخراج الحديث بهذا اللفظ. وفيه نظر؛ لأن قوله: "أتموا الصفوف" من إفراد مسلم، وقوله: "فإني أراكم من وراء ظهري" من إفراد البخاري، وسياق الحديث عند مسلم: "أتموا الصفوف فإني أراكم خلف ظهري". والظاهر أن المصنف أخذ قوله أتموا الصفوف من رواية مسلم، وقوله: فإني أراكم من وراء ظهري، من رواية البخاري، فجعل مجموعهما حديثا متفقا عليه. ولا يخفى ما فيه. ولعله تبع في ذلك الجزري، حيث نسب هذه الرواية الثانية في جامع الأصول (ج6:ص393) إلى البخاري ومسلم. (أتموا) أي أيها الحاضرون لأداء

(5/6)


الصلاة معي. (الصفوف) أي الأول فالأول. (فإني أراكم) رؤية حقيقية. (من وراء ظهري) أي من خلفه كما أراكم من بين يدي. قيل: الفرق بين قوله: إني أراكم من
وراء ظهري بذكر "من" وبين قوله: إني أراكم خلف ظهري أي بدون "من" أنه إذا وجد من يكون فيه إشعار بأن مبدأ الرؤية ومنشأها من خلف بأن يخلق الله حاسة باصرة فيه، وإذا عدم يحتمل أن يكون منشأها هذه العين المعهودة، وأن تكون غيرها مخلوقة في الخلف والوراء، ولا يلزم رؤيتنا تلك الحاسة، إذ الرؤية إنما هي بخلق الله تعالى وإرادته. والحديث أخرجه أيضا النسائي. وزاد البخاري في رواية: وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه. قال الحافظ: صرح سعيد بن منصور في روايته أن هذه الزيادة في آخر الحديث من قول أنس، وأخرحه الإسماعيلي من رواية معمر عن حميد بلفظ: قال أنس: فلقد رأيت أحدنا إلى آخره. وأفاد هذا التصريح أن الفعل المذكور كان في زمن النبي ?. وبهذا يتم الاحتجاج به على بيان المراد بإقامة الصف وتسويته، وزاد معمر في روايته ولو فعلت ذلك بأحدهم اليوم لنفر كأنه بغل شموس - انتهى كلام الحافظ. قلت: قوله ?: تراصوا، وقوله: رصوا صفوفكم، وقوله: سدوا الخلل، ولا تذروا فرجات للشيطان، وقول النعمان بن بشير: فرأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه الخ، وقول أنس: وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه الخ، كل ذلك يدل دلالة واضحة على أن المراد باقامة الصف وتسويته أنما هو اعتدال القائمين على سمت واحد وسد الخلل والفرج في الصف بإلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم، وعلى أن الصحابة في زمنه ? كانوا يفعلون ذلك، وأن العمل برص الصف والزاق القدم بالقدم وسد الخلل كان في الصدر الأول من الصحابة وتبعهم، ثم تهاون الناس به. قال شيخنا في إبكار المنن بعد ذكر قولي النعمان وأنس: فظهر أن إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف سنة، قد عمل بها الصحابة خلف النبي ?، وهو المراد بإقامة الصف وتسوية على ما

(5/7)


قال الحافظ - انتهى. وجزى الله أهل الحديث أحسن ما يجزى به الصالحون، فانهم أحيوا هذه السنة التي تهاون الناس بها لاسيما المقلدون لأبي حنيفة، فإنهم لا يلزقون المنكب بالمنكب في الصلاة فضلا عن إلزاق القدم بالقدم والكعب بالكعب، بل يتركون في البين فرجة قد شبر أو أزيد، بل ربما يتركون فصلا يسع ثالثا وإذا قام أحد من أصحاب الحديث في الصلاة مع حنفي وحاول لإلصاق قدمه بقدمه اتباعا للسنة نحى الحنفي قدمه حتى يضم قدميه ولا يبقى فرجة بينهما وأشمأز ونظر إلى صاحبه المحمدي شزرا، بل ربما نفر كالحمار الوحشي، ويعد صنيع أهل الحديث الذي هو اتباع للسنة وإحياءها من الجهل والجفاء والفظاظة والغلظة، فإنالله وإنا إليه راجعون، وعالمهم وعاميهم في ترك هذه السنة والاستنفار عنها سواء. قال صاحب فيض الباري (ج2:ص236) : المراد بالزاق المنكب بالمنكب عند الفقهاء الأربعة أن لا يترك في البين فرجة تسع فيها ثالثا، قال ولم أجد عند السلف فرقا بين حال الجماعة والانفراد في حق الفصل بين قدمي الرجل بأنهم كانوا يفصلون بين قدميهم في حال الجماعة أزيد من حال الانفراد. وهذه المسألة أوجدها غير المقلدين فقط، وليس عندهم إلا لفظ الإلزاق، وليت شعرى ما ذا يفهمون من قولهم الباء- للالتصاق، ثم يمثلونه مررت بزيد، فهل كان مروره به متصلا بعضه ببعض أم كيف معناه، ثم إن الأمر

(5/8)


لا ينفصل قط إلا بالتعامل، وفي مسائل التعامل لايؤخذ بالألفاظ، قال: لما لم نجد الصحابة والتابعين يفرقون في قيامهم بين الجماعة والانفراد علمنا أنه لم يرد بقوله: إلزاق المنكب إلا التراص وترك الفرجة، ثم فكر في نفسك ولا تعجب أنه هل يمكن إلزاق المنكب مع إلزاق القدم إلا بعد ممارسة شاقة، ولا يمكن بعده أيضا فهو إذن من مخترعاتهم لا أثر له في السلف - انتهى. قلت: حمل الإلزاق هنا على المجاز يحتاج إلى قرينة، وتفسيره بأن لا يترك في البين فرجة تسع فيها ثالثا لا أثارة عليه من دليل لا من منقول ولا من معقول، ولا يوجد ههنا أدنى قرينة وأضعف أثر يدل على هذا المعنى البتة، فهو إذا من مخترعات هذا المقلد الذي جعل السنة بدعة، والبدعة أي ترك الإلزاق بإبقاع الفرجة وعدم التضام سنة، ثم لم يكتف بذلك بل تجاسر فنسب ما اخترعه إلى الفقهاء الأربعة. ثم أقول ما الدليل من السنة أو عمل الصحابي على تحديد الفصل بين قدمي المصلي بأن يكون قدر أربع أصابع أو قدر شبر في حال الانفراد والجماعة كلتيهما. والحق أن الشارع لم يعين قدر التفريج بين قدمي المصلي راحة له وشفقة عليه؛ لأنه يختلف ذلك باختلاف حال المصلى في الهزال والسمن والقوة والضعف. فالظاهر أنه يفصل بين قدميه في الجماعة قدر ما يسهل له سد الفرج والخلل، وإلزاق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه من غير تكلف ومشقة. ثم إنه ليس عندنا لفظ الإلزاق فقط بل هنا لفظ التراص وسد الخلل والنهى عن ترك الفرجة للشيطان، وكل واحد من ذلك يؤكد حمل الإلزاق على معناه الحقيقي، وماذا كان لوكان هنا لفظ الإلزاق فقط. وقد اعترف هو في آخر كلامه أن المراد به التراص وترك الفرجة، وهذا هو الذي نقوله. ولا يحصل التراص والتوقي عن الفرجة إلا بأن يلصق الرجل منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه حقيقة، وليت شعري ماذا يقول هو في مثال الإلصاق الحقيقي وهو قولهم به داء، ثم ماذا يقول في قوله ?: إذا ألزق الختان بالختان فقد

(5/9)


وجب الغسل. والسنة الصحيحة المحكمة حجة وقاضية على التعامل، لا أن التعامل قاض على السنة، لا فرق عندنا في ذلك بين عمل أهل المدينة وبين علمهم وعمل غيرهم من البلاد الإسلامية، مع أن عمل المسلمين في الزمن النبوي وعمل الخلفاء وسائر الصحابة والتابعين بعده ? كان على التراص والتضام وعدم إبقاء الفرجة مطلقا، ولا يعتد بعمل الناس بعد الصدر الأول، ولا يكون أدنى مشقة في إلزاق المنكب بالمنكب مع إلزاق القدم بالقدم، فنحن نفعل ذلك في الجماعة عملا بالحديث واتباعا للسنة من غير ممارسة وكلفة، ومن غير أن نفرج بين القدمين أزيد مما نفرج في حال الانفراد، لكن لا يسهل ذلك إلا على من يجب السنة وصاحبها، ويترك التحيل لترك العمل بها وأما المقلد الذي.... عمت بصيرته، فيشق عليه كل سنة إلا ما كان موافقا لهواءه، هدى الله تعالى هؤلاء المقلدين ووفقهم للعمل بالسنن النبوية الصحيحة الثابتة، وترك التأويل والتحريف.
1093- (3) وعنه، قال: قال رسول الله ?: (( سووا صفوفكم، فإن تسوية الصفوف من إقامة
الصلاة)) متفق عليه. إلا أن عند مسلم: (( من تمام الصلاة )).
1094- (4) وعن أبي مسعود الأنصاري، قال: ((كان رسول الله ? يمسح مناكبنا

(5/10)


1093- قوله: (سووا صفوفكم) فيه دليل على وجوب تسوية الصف. (فان تسوية الصفوف) وفي رواية الصف بالإفراد، والمراد به الجنس. (من إقامة الصلاة) أي المأمور بها الممدوح فاعلها في الآيات الكثيرة. وقال القاري: أي من جملة إقامة الصلاة في قوله تعالى ?الذين يقيمون الصلاة? وهي تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها. وقال العيني: التقدير من كمال إقامة الصلاة، فإن تسوية الصفوف ليست من إقامة الصلاة؛ لأن الصلاة تقام بغيرها، ولا يخفى ما فيه. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد وأبودواد وابن ماجه. (إلا أن عند مسلم من تمام الصلاة) وكذا أخرج بهذا اللفظ أبوداود وابن ماجه والإسماعيلي والبيهقي وغيرهم. وروي عن جابر قال: قال رسول الله ?: "إن من تمام الصلاة إقامة الصف" أخرجه أحمد وأبويعلى والطبراني في الكبير والأوسط. قال العيني: أي من كمال تمام الصلاة أو من حسن تمام الصلاة. قلت: هذا خلاف الظاهر. والحديث معناه مستقيم من غير تقدير لفظ الكمال أو الحسن. وقد استدل ابن حزم بقوله من إقامة الصلاة على أن تعديل الصفوف والتراص فيها فرض. قال في المحلي (ج4:ص55): تسوية الصف إذا كان من إقامة الصلاة فهو فرض؛ لأن إقامة الصلاة فرض، وما كان من الفرض فهو فرض. قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه، ولا سيما قد بينا أن الرواة لم يتفقوا على هذه العبارة، يعني أنه رواها بعضهم بلفظ "من تمام الصلاة". واستدل ابن حزم بالعبارتين. قال العيني والحافظ: واستدل ابن بطال بما في البخاري من حديث أبي هريرة بلفظ "فإن اقامة الصف من حسن الصلاة" على أن التسوية سنة، قال: لأن حسن الشئ زيادة على تمامه، واورد عليه رواية من تمام الصلاة. وأجاب ابن دقيق العيد فقال: قد يؤخذ من قوله: تمام الصلاة الاستحباب؛ لأن تمام الشيء في العرف أمرخارج عن حقيقة التي لا يتحقق إلا بها، وإن كان يطلق بحسب الوضع على ما لا تتم الحقيقة إلا به. قال الحافظ: ورد بأن لفظ

(5/11)


الشارع لا يحمل إلا على ما دل عليه الوضع في اللسان العربي، وإنما يحمل على العرف إذا ثبت أنه عرف الشارع لا العرف الحادث. وقال العيني: وفيه أي في جواب ابن دقيق العيد نظر؛ لأن ألفاظ الشرع لا تستعمل بحسب العرف.
1094- قوله: (يمسح منا كبنا) وفي رواية للنسائي: يمسح عواتقنا. والمناكب جمع منكب، وهو ما بين الكتف والعنق. وقيل: مجتمع الرأس الكتف والعضد، والعواتق جمع عاتق، وهو ما بين المنكب والعنق،
في الصلاة، ويقول: ((استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليلني منكم

(5/12)


أي يمسحها ليعلم به تسوية الصف. وقال القاري: أي يضع يده على أعطافنا حتى لا نتقدم ولا نتأخر. وقال النووي: أي يسوي مناكبنا في الصفوف ويعدلنا فيها (في الصلاة) أي في حال إرادة الصلاة بالجماعة (ويقول) أي حال تسوية المناكب على ما هو الظاهر (ولا تختلفوا) أي بالتقدم والتأخر في الصفوف، كما يدل عليه روايات الحديث (فتختلف) بالنصب على أنه جواب للنهي. (قلوبكم) أي أهويتها وإرادتها أي اختلاف الصفوف سبب لاختلاف القلوب يجعل الله كذلك. وقيل: لأن اختلاف الصفوف اختلاف الظواهر، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن. وفيه أن القلب تابع للأعضاء، فإذا اختلفت اختلف، وإذا اختلف فسد ففسدت الأعضاء؛ لأنه رئيسها المتبوع وملكها المطاع والأعضاء كلها تبع له، فإذا صلح المتبوع صلح التبع، وإذا استقام الملك استقامت الرعية. ويبين ذلك الحديث المشهور: ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد، وإذا فسدت فسد الجسد، ألا وهي القلب. قيل: إن بين القلب والأعضاء تعلقا عجيبا وتأثيرا غريبا بحيث أنه يسري مخالفة كل إلى آخر وإن كان القلب مدار الأمر إليه. (ليلني منكم) بكسر لامين وخفة نون بلا ياء قبلها. وفي المصابيح ليليني. قال شارح: الرواية باثبات الياء، وهو شاذ لأنه من الولي بمعنى القرب، واللام للأمر، فيجب حذف الياء للجزم، قيل: لعله سهو من الكاتب، أو كتب بالياء؛ لأنه الأصل ثم قرئ كذا. أقول الأولى أن يقال إنه من إشباع الكسرة كما قيل في لم تهجو ولم تدعى، أو تنبيه على الأصل كقراءة ابن كثير ?إنه من يتقي ويصبر?، أو أنه لغة في أن سكونه نقديري، كذا في المرقاة. وقال النووي في شرح مسلم: ليلني هو بكسر اللامين وتخفيف النون من غير ياء قبل النون. ويجوز إثبات الياء مع تشديد النون على التوكيد. قال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج1 ص440) بعد ذكر كلام النووي: وهكذا طبع في صحيح مسلم في طبعة بولاق (ج1 ص128)، وفي طبعة الآستانة (ج2

(5/13)


ص30) في حديثي أبي مسعود وابن مسعود (الآتي)، وكتب بها مشها في حديث أبي مسعود أن في نسخة ليليني، وضبط بتشديد النون وفتح الياء قبلها، ولكن في نسخة مخطوطة عندي من صحيح مسلم يغلب عليها الصحة بإثبات الياء فيهما من غير ضبط، وكتب بهامشها في الموضعين أن في نسخة ليلني بحذف الياء، قال: وأظن أن حذفها من تصرف الناسخين، وكذلك ضبط الكلمة على إثبات الياء بفتحها وتشديد النون ذهابا منهم إلى الجادة في قواعد النحو بجزم الفعل المعتل بحذف حرف العلة. وقد رأيت كثيرا من الناسخين والعلماء يجيزون لأنفسهم تغيير ما خالف القواعد المعروفة ظنا منهم أنه خطأ، والدليل على ظن التصرف منهم أنه قال الطيبي على ما نقل عنه الشارح المبار كفوري في شرح الترمذي: أن من حق هذا اللفظان يحذف منه الياء؛ لأنه على صيغة الأمر، وقد وجدنا بإثبات الياء وسكونها في سائر
أولوا الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) قال أبومسعود: فأنتم اليوم أشد اختلافا. رواه مسلم.

(5/14)


كتب الحديث، والظاهر أنه غلط - انتهى. وليس هذا غلطا كما زعم الطيبي، بل إثبات حرف العلة في مثل هذا ورد في الحديث كثيرا، وله شواهد من الشعر، وقد بحث فيه العلامة ابن مالك في كتاب شواهد التوضيح (ص11-15) بحثا طويلا، وذكر من شواهد في البخاري قول عائشة: إن أبا بكر رجل أسيف، وأنه متى يقوم مقامك لا يسمع الناس، وحديث: من أكل من هذه الشجرة فلا يغشانا، وحديث: مروا أبا بكر فلصلى بالناس. ووجه ذلك بأوجه متعددة أحسنها عندي الوجه الثالث أن يكون أجزى المعتل مجرى الصحيح فأثبت الألف، يعني أو الواو أو الياء واكتفى بتقدير حذف الضمة التي كان ثبوتها منويا في الرفع - انتهى (أولو الأحلام) أي ذو العقول الراجحة، واحدها حلم بالكسر، وهو الأناة والتثبيت في الأمور والسكون والوقار وضبط النفس عند هيجان الغضب، ويفسر بالعقل؛ لأن هذه الأمور من مقتضيات العقل. والعقل الراجح يتسبب لها. وقيل: أولو الأحلام البالغون، والحلم بضم الحاء البلوغ، وأصله ما يراه النائم (والنهى) بضم نون وفتح هاء وألف، جمع نهية بالضم بمعنى العقل؛ لأنه ينهى صاحبه عن القبائح. وقال أبوعلي الفارسي: يجوز أن يكون النهى مصدرا كالهدى، وأن يكون جمعا كالظلم. قال ابن سيد الناس الأحلام والنهى بمعنى واحد، وهي العقول. وقيل: المراد بأولو الأحلام البالغون، وبأولى النهى العقلاء، فعلى الأول يكون العطف فيه من باب قوله: وألفى قوله كذبا ومينا. وهو أن تغاير اللفظ قائم مقام تغاير المعنى، وهوكثير في كلام، وعلى الثاني يكون لكل لفظ معنى مستقل - انتهى. قال الخطابي في المعالم (ج1 ص184-185) : وإنما أمر ? أن يليه ذو والأحلام والنهى ليعقلوا عنه صلاته، ولكي يخلفوه في الإمامة إن حدث به حدث في صلاته، وليرجع إلى قولهم إن أصابه سهو أو عرض في صلاته عارض في نحو ذلك من الأمور. (ثم الذين يلونهم) أي الذين يقربونهم في هذا الوصف، وقال القاري: كالمراهقين أو الذين يقربون

(5/15)


الأولين في النهى والحلم (ثم الذين يلونهم) كالصبيان المميزين أو الذين أنزل مرتبة من المتقدمين حلما وعقلا. والمعنى هلم جرا- فالتقدير ثم الذين يلونهم كالنساء فإن نوع الذكر أشرف على الإطلاق. والمقصود بيان ترتيب الصفوف في القيام. قال النووي: في هذا الحديث تقديم الأفضل فالأفضل إلى الإمام؛ لأنه أولى بالاكرام، ولأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف فيكون هو أولى، ولأنه يتفطن لننبيه الإمام على السهو لما يتفطن له غيره، وليضبطوا صفة الصلاة ويحفظوها وينقلوها ويعلموها الناس، وليقتدي بأفعالهم من ورائهم - انتهى. (قال أبومسعود) أي المذكور (فأنتم اليوم أشد اخنلافا) أي في كلمة حتى فشت فيكم الفتن وذلك لعدم تسويتكم الصفوف كذا فسره الطيبي (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص97).
1095- (5) وعن عبدالله بن مسعود، قال: ((قال رسول الله ? : ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثلاثا، وإياكم وهيشات الأسواق)). رواه مسلم.
1096- (6) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((رأى رسول الله ? في أصحابه تأخرا، فقال لهم: تقدموا وأتموا بي وليأتم بكم من بعدكم،

(5/16)


1095- قوله: (ليلني منكم وأولو الأحلام والنهى) أي ليدن مني ذوو العقول الراجحة لشرفهم ومزيد تفطينهم وتيقظهم وضبطهم لصلاته. قال الطيبي أخذا عن التوربشتى: أمر بتقديم العقلاء ذوي الأخطار والعرفان ليحفظوا صلاته ويضبطوا الأحكام والسنن، فيبلغوا من بعدهم. وفي ذلك مع الإنصاح عن جلالة شأنهم حث لهم على تلك الفضيلة وإرشاد لمن قصر حالهم عن المساهمة معهم في المنزلة إلى تحري ما يزاحمهم فيها. وقد روى ابن ماجه والبيهقي عن أنس بإسناد رجاله ثقات قال: كان رسول الله ? يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليأخذوا عنه (ثم الذين يلونهم ثلاثا) أي كرر"ثم" وما بعدها ثلاثا (وإياكم وهيشات الأسواق) بفتح الهاء وإسكان الياء وبالشين المعجمة، جمع هيشة بالفتح، أي اختلاطها والمنازعة والخصومات وارتفاع الأصوات واللغط والفتن التي فيها، قاله النووي. وقال الخطابي في المعالم: أصله من الهوش، وهو الاختلاط يقال: تهاوش القوم إذا اختلطوا ودخل بعضهم في بعض وبينهم تهاوش، أي اختلاط واختلاف - انتهى. وقال الطيبي: هي ما يكون من الجلبة وارتفاع الأصوات، نهاهم عنها؛ لأن الصلاة حضور بين يدي الحضرة الإلهية، فينبغي أن يكونوا على السكوت وآداب العبودية. وقيل: هي الاختلاط، أي لا تختلطوا اختلاط أهل الأسواق، فلا يتميز أصحاب الأحلام والعقول عن غيرهم، ولا يتميز الصبيان من البالغين ولا الذكور من الإناث. ويجوز أن يكون المعنى: قوا أنفسكم من الاشتغال بأمور الأسواق فإنه يمنعكم أن تلونى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والبيهقي (ج3 ص97).

(5/17)


1096- قوله: (رأى رسول الله ? في أصحابه تأخرا) أي في صفوف الصلاة كأنهم تأخروا عن القرب والدنو منه?. وقيل: المراد التأخر في أخذ العلم (وأتموا بي) أي اصنعوا كما أصنع (وليأتم) بسكون اللام، وتكسر (بكم من بعدكم) أي من خلفكم من الصفوف. والخطاب لأهل الصف الأول، أي اقتدوا بأفعالي، وليقتد بكم من بعدكم مستدلين بأفعالكم على أفعالي، أو المراد من بعدكم من أتباع الصحابة، والخطاب للصحابة مطلقا، أي تعلموا مني أحكام الشريعة، وليتعلم منكم التابعون بعدكم وكذلك أتباعهم إلى انقراض الدنيا. "وبعد" على الأول مستعار للمكان، وعلى الثاني للزمان، كما هو الأصل. قال الطيبي: أراد التأخر في صفوف الصلاة أو التأخر
لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله)) رواه مسلم.
1097- (7) وعن جابر بن سمرة قال: (( خرج علينا رسول الله ? فرآنا حلقا،

(5/18)


عن أخذ العلم، فعلى الأول معناه ليقف الألباء والعلماء في الصف الأول، وليقف من دونهم في الصف الثاني، فإن الصف الثاني مقتدون بالصف الأول ظاهرا لا حكما. ففيه جواز اعتماد المأموم في متابعة الامام الذي يراه ولا يسمعه على مبلغ عنه أوصف قدامه يراه متابعا للإمام، وعلى الثاني المعنى وليتعلم كلكم مني أحكام الشريعة، وليتعلم التابعون منكم، وكذلك من يلونهم قرنا بعد قرن - انتهى. واستدل الشعبي بقوله: وليأتم بكم من بعدكم، لما ذهب إليه أن كل صف منهم إمام لمن وراءهم مع كونهم مأمومين، وأن الجماعة يتحملون عن بعضهم بعض ما يتحمله الإمام خلافا للجمهور. قال الشعبي: فيمن أحرم قبل أن يرفع الصف الذي يليه رؤوسهم من الركعة إنه أدركها ولو كان الإمام رفع قبل ذلك؛ لأن بعضهم لبعض أئمة، أخرجه ابن شيبة. قيل: وإليه مال البخاري حيث قال: باب الرجل يأتم بالإمام. ويأتم الناس بالمأموم. قال ابن بطال: هذا موافق لقول مسروق والشعبي إن الصفوف يؤم بعضها بعضا خلافا للجمهور. وقال العيني: ظاهر هذه الترجمة أن البخاري يميل إلى مذهب الشعبي في ذلك، قال: ومما يؤكد أن ميله إلى قول الشعبي أنه صدر هذا الباب بالحديث المعلق يعني حديث أبي سعيد هذا حيث قال: ويذكر عن النبي ? قال ائتموبي وليأتم بكم من بعدكم، قال العيني: فإنه صريح في أن القوم يأتمون بالإمام في الصف الأول، ومن بعدهم يأتمون بهم. وقال الحافظ: ظاهره يدل لمذهب الشعبي، وأجاب النووي: أن معناه يقتدي بكم من خلفكم مستدلين على أفعالي بأفعالكم - انتهى. قلت: لم يفصح البخاري باختياره في هذه المسألة. والظاهر أنه اتبع في وضع الترجمة لفظ الحديث، ولم يرد التنبيه على مسئلة تسلسل الاقتداء. والحديث ليس بعض فيما قاله الشعبي ون وافقه، كما هو ظاهر من تفسير الجمهور للحديث. والراجح عندي هو قول الجمهور والله أعلم. (ولا يزال قوم يتأخرون) أي عن الصفوف المتقدمة. وقيل: عن الخيرات أو عن العلم

(5/19)


(حتى يؤخرهم الله) أي في دخول الجنة. وقال النووي: أي عن رحمته أو عظيم فضله ورفيع المنزلة وعن العلم ونحو ذلك. وفيه الحث على الكون في الصف الأول والتنفير عن التأخر والبعد عنه. وقد ورد في فضيلة الصلاة في الصف الأول أحاديث متعددة عن جماعة من الصحابة. وسيأتي ذكر بعضها (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص103).
1097 وغيره - قوله: (فرآنا حلقا) بكسر الحاء وفتحها لغتان، جمع حلقة بإسكان اللام. وحكى الجوهري فتحها في لغة ضعيفة. قال الجرزي: الحلقة بسكون اللام حلقة الباب وحلقة القوم وجمعها حلق بفتح الحاء واللام على غير قياس، قاله الجوهري، قال: وقال الأصمعي: الجمع حلق، مثل بدرة وبدر وقصعة وقصع، قال:
فقال: ما لي أراكم عزين؟ ثم خرج علينا فقال: ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ فقلنا: يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأولى، ويتراصون في الصف)) رواه مسلم.
1098 (8)- وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ?: ((خير صفوفالرجال أولها، وشرها

(5/20)


وحكى يونس عن أبي عمرو حلقة في الواحد بالتحريك، والجمع حلق، وقال ثعلب: كلهم يجيزه على ضعفه. وقال الشيباني: ليس في الكلام حلقة بالتحريك إلا في جمع حالق، وهو الذي يحلق الشعر. والذي رويناه في كتاب مسلم حلقا مضبوطا بكسر الحاء، والله أعلم - انتهى. قال الطيبي: أي جلوسا حلقة حلقة كل صف منا قد تحلق - انتهى. (ما لي أراكم عزين) بكسر العين المهملة وتخفيف الزاي جمع عزة أي جماعات متفرقين حلقة حلقة نصب على الحال، قال الجزري: عزين جمع عزة وهي الحلقة من الناس، والأصل عزوة وهذا من الجموع النادرة الخارجة عن بابها. قال الطيبي: قوله: ما لي أراكم؟ إنكار على رؤيته إياهم على تلك الصفة، ولم يقل: ما لكم؛ لأن ما لي أراكم أبلغ كقوله: ?ما لي أرى الهدهد? [27: 20]. والمقصود الانكار عليهم كائنين على تلك الحالة، يعني لا ينبغي لكم أن تفرقوا ولا تكونوا مجتمعين مع توصيتي إياكم بذلك. (ثم خرج علينا) أي مرة أخرى بعد هذا (ألا تصفون) بفتح التاء المثناة من فوق وضم الصاد أي في الصلاة (كما تصف الملائكة عند ربها) أي عند قيامها لطاعة ربها. قال القاري. وقيل: أي في محل قربه ومكان قبوله (يتمون الصفوف الأولى) كذا في جميع النسخ بضم الهمزة وسكون الواو تأنيث الأول، وكذا في المصابيح. ووقع في مسلم: الأول بضم الهمزة وفتح الواو جمع الأولى، وكذا في النسائي وابن ماجه. وعند أبي داود: الصفوف المقدمة، يعني يتمون الصف الأول، ولا يشرعون في الثاني حتى يتم الأول، ولا في الثالث حتى يتم الثاني، ولا في الرابع حتى يتم الثالث، وهكذا إلى آخرها. (ويترابصون في الصف) أي يتلاصقون ويتضامون حتى لا يكون بينهم شيء من الخلل والفرجة. وفي الحديث النهي عن التقرق والأمر بالاجتماع. وفيه: الاقتداء بأفعال الملائكة في صلاتهم وتعبداتهم. وفيه: الأمر باتمام الصفوف الأول والتراص في الصفوف. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3

(5/21)


ص101).
1098- قوله: (خيرصفوف الرجال) أي أكثرها أجرا وثوابا وفضلا. (أولها) فيه التصريح بأفضلية الصف الأول للرجال، وإنه خيرها لما فيه من إحراز فضيلة التقدم المأمور به ولقربهم من الإمام ومشاهدتهم لأحواله واستماعهم لقراءته وبعدهم من النساء (وشرها) أي أقلها ثوابا وفضلا وأبعدها من مطلوب الشرع
آخرها وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها)) رواه مسلم.
(آخرها) لما فيه من ترك الفضيلة الحاصلة بالتقدم إلى الصف الأول ولقربهم من النساء وبعدهم من الإمام (وخير صفوف النساء آخرها) لبعدهن من مخالطة الرجال، ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك بخلاف الوقوف في الصف الأول من صفوفهن، فإنه مظنة المخالطة وتعلق القلب بهم المتسبب عن رؤيتهم وسماع كلامهم، ولهذا كان شرها. ثم هذا التفصيل في صفوف الرجال على إطلاقه، وفي صفوف النساء عند الاختلاط بالرجال. قال النووي: أما صفوف الرجال فهي على عمومها فخيرها أولها أبدا وشرها آخرها أبدا. أما صفوف النساء فالمراد بالحديث صفوف النساء اللواتي يصلين مع الرجال. وأما إذا صلين متميزات لا مع الرجال فهن كالرجال خير صفوفهن أولها وشرها آخرها- انتهى. وقيل: يمكن حمله على إطلاقه لمراعاة الستر فتأمل. وفي الحديث: إن صلاة النساء صفوفا جائزة من غير فرق بين كونهن مع الرجال أو منفردات وحدهن واعلم أنه اختلف في أن الصف الأول في المسجد هل هو ما يلي الإمام مطلقا أي الذي هو أقرب إلى القبلة، أو هو أول صف تام يلي الامام لا ما تخلله شيء كمقصورة، أو المراد به من سبق إلى الصلاة ولو صلى آخر الصفوف. قال النووي: الصف الأول الممدوح الذي وردت الأحاديث بفضله هو الصف الذي يلي الإمام، سواء جاء صاحبه متقدما أو متأخرا، وسواء تخلله مقصورة ونحوها أم لا، هذا هو الصحيح الذي يقتضيه ظواهر الأحاديث، وصرح به المحققون. وقال طائفة من العلماء: الصف الأول هو المتصل من طرف المسجد

(5/22)


إلى طرفه لا يتخلله مقصورة ونحوها، فإن تخلل الذي يلي الإمام شيء فليس بأول، بل الأول مالا يتخلله شيء وإن تأخر. وقيل الصف الأول عبارة عن مجيىء الإنسان إلى المسجد ولا وإن صلى في صف متأخر. وهذان القولان غلط صريح- انتهى. قال الحافظ: وكان صاحب الفول الثاني لحظ أن المطلق ينصرف إلى الفرد الكامل وما فيه خلل فهو ناقص. وصاحب القول الثالث لحظ المعنى في تفضيل الصف الأول دون مراعاة لفظه- انتهى. قال العلماء في الحض على الصف الأول المسارعة إلى خلاص الذمة، والسبق لدخول المسجد، والقرب من الإمام، واستماع قراءته، والتعلم منه، والفتح عليه، والتبليغ عنه، والسلامة من اختراق المارة بين يديه، وسلامة البال من رؤية من يكون قدامه، وسلامة موضع سجوده من أذيال المصلين- انتهى. (رواه مسلم) قال القاري: كان يمكن للمصنف أن يجمل ويقول روى الأحاديث الخمسة مسلم كما هو دأبه، ولعل عادته فيما إذا كان للأحاديث سند واحد باتفاق رجاله وخلافها في خلافة- انتهى. والحديث أخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص98) وروي عن جماعة من الصحابة، منهم أبوسعيد وابن عباس وأنس وعمر بن الخطاب وأبوأمامة، وذكرهم الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص93).
?الفصل الثاني?
1099- (9) عن أنس، قال: قال رسول الله ?: (( رصوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذروا بالأعناق، فوالذي نفسي بيده، إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنها الحذف)). رواه أبوداود.

(5/23)


1099- قوله (رصوا) بضم الراء والصاد المهملتين (صفوفكم) أي في صلاة الجماعة بانضمام بعضكم إلى بعض على السواء من الرص. وهو ضم البعض إلى البعض مثل لبنات الجدار، أي كونوا في الصف كأنه بنيان مرصوص، قال القاري: أي سووا صفوفكم وضموا بعضكم إلى بعض حتى لا يكون بينكم فرجة. (وقاربوا بينها) أي بين الصفوف بحيث لا يسع بين صفين صف آخر فيصير تقارب أشباحكم سيما لتعاضد أرواحكم، قاله القاري. (وحاذوا بالأعناق) قيل: الظاهر أن الباء زائدة، والمعنى اجعلوا بعض الأعناق في محاذاة بعض أي مقابلته. وقيل: المراد بمحاذاة الأعناق المحاذاة بالمناكب. ففي حديث أبي أمامة الآتي: حاذوا بين مناكبكم. وفي حديث ابن عمر: حاذوا بين المناكب. والمعنى اجعلوا الأعناق والمناكب بعضها حذاء بعض، أي موازيا ومسامتا ومقابلا له. وقال القاضي: أي بأن لا يترفع بعضكم على بعض بأن يقف في مكان أرفع من مكان الآخر. قال الطيبي: ولا عبرة بالأعناق أنفسها، إذ ليس على الطويل أن يجعل عنقه محاذيا لعنق القصير ( يدخل من خلل الصف) بفتح الخاء واللام أي فرجته. قال المنذري في الترغيب: الخلل بفتح الخاء المعجمة واللام أيضا ما يكون بين الاثنين من الاتساع عند عدم التراص –انتهى. وعن ابن مسعود قال: سووا صفوفكم فإن الشيطان يتخللها كالحذف. رواه الطبراني في الكبير موقوفا. (كأنها الحذف) بحاء مهملة وذال معجمة مفتوحتين واحدتها حذفة مثل قصب وقصبة، وهي الغنم السود الصغار الحجازية. وقيل: صغار جرد ليس لها آذان ولا أذناب، يجاء بها من اليمن، أي كأنها الشيطان، وأنث باعتبار الخبر. وقيل: إنما أنث؛ لأن اللام في الخبر للجنس فيكون في المعنى جمعا. وفي شرح الطيبي: قال المظهر الضمير في"كأنها" راجع إلى مقدر أي جعل نفسه شاة أو ماعز كأنها الحذف. وقيل: يجوز التذكير باعتبار الشيطان، ويجوز تأنيثه باعتبار الحذف لوقوعه بينهما فلا حاجة إلى مقدر، كذا في المرقاة. قلت: ورواية

(5/24)


النسائي بلفظ: إني لأرى الشياطين تدخل من خلل الصف كأنها الحذف. ولا إشكال فيها (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. وقال النووي: إسناده على شرط مسلم، نقله ميرك، والحديث أخرجه أيضا النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والبيهقي (ج3 ص100).
1100- (10) وعنه، قال: قال رسول الله ?: (( أتموا الصف المقدم، ثم الذي يليه، فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر)) رواه أبوداود.
1101- (11) وعن البراء بن عازب، قال: ((كان رسول الله ?يقول: إن الله وملائكته يصلون على الذين يلون الصفوف الأولى، وما من خطوة أحب إلى الله من خطوة يمشيها يصل بها صفا)) رواه أبوداود.
1100- قوله: ( أتموا الصف المقدم) ولفظ النسائي: الصف الأول (ثم الذي يليه) أي ثم أتموا الصف الذي يلي الصف الأول، وهكذا. (فما كان) أي وجد. (فليكن) أي النقص (في الصف المؤخر) دل الحديث على جعل النقص في الصف الأخير، لكن لم يظهر منه موقف الصف الناقص، فظاهر حديث أبي هريرة: وسطوا الامام، أن يقف أهل الصف الناقص خلف الإمام عن يمينه وشماله. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضا أحمد والنسائي والبيهقي (ج3 ص102).

(5/25)


1101- قوله: (يصلون على الذين يلون) أي يقومون. قال ابن مالك: أو يباشرون ويتولون يعني يصلون في الصفوف الأول. والمراد من الصلاة من الله إنزال الرحمة ومن الملائكة الدعاء بالتوفيق وغيره. (الصفوف الأولى) كذا في جميع النسخ بضم الهمزة وسكون الواو تأنيث أول، وكذا في المصابيح، ووقع في أبي داود: الأول أي بضم الهمزة وفتح الواو جمع أولى، وهكذا في جامع الأصول (ج6 ص397) أي فالأفضل الأول فالأول. وذكر المنذري: هذا الحديث في ترغيبه بلفظ: إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف الأول. وعند أبي داود في حديث آخر عن البراء: إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأول. وفي رواية النسائي: الصفوف المتقدمة. قال السندي: أي على الصف المقدم في كل مسجد، أو في كل جماعة، فالجمع باعتبار تعدد المساجد أو تعدد الجماعات، أو المراد الصفوف المتقدمة على الصف الأخير، فالصلاة من الله تعالى تشمل كل صف على حسب تقدمه إلا الأخير فلاحظ له منها لفوات التقدم. (وما من خطوة) قال العيني: بفتح الخاء وهي المرة الواحدة. وقال القرطبي: بضم الخاء وهي واحدة الخطا وهي ما بين القدمين من البعد، والتي بالفتح مصدر- انتهى. "ومن" زائدة و"خطوة" اسم"ما"وقوله: (أحب إلى الله) بالنصب خبره. قال القاري: والأصح رفعه وهو اسمه ومن خطوة خبره (من خطوة) متعلق بأحب (يمشيها) بالغيبة صفة خطوة أي يمشيها الرجل، وكذا (يصل بها صفا) وفي حديث ابن عمر عند الطبراني: مامن خطوة أعظم أجرا من خطوة مشاها رجل إلى فرجة في الصف فسدها. قال الهيثمي: في إسناده ليث بن حماد، ضعفه الدارقطني (رواه أبوداود) في حديث ذكره في باب
1102- (12) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله ?: (( إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف)) رواه أبوداود.

(5/26)


الصلاة تقام ولم يأت الإمام ينتظرونه قعودا. وفي سنده رجل مجهول، فإنه رواه من طريق كهمس عن شيخ من أهل الكوفة عن عبدالرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب. وأخرج أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة والبيهقي عن البراء حديثا، فيه نحو هذه الرواية لكن بدون ذكر الخطوة، وهو حديث صحيح رجاله ثقات. وفي الباب عن أبي أمامة وسيأتي. وعن النعمان بن بشير عند أحمد والبزار. قال الهيثمي: رجاله ثقات. وعن جابر عند البزار، وفيه عبدالله بن محمد بن عقبل، وفيه كلام، وقد وثقه جماعة. وعن العرباض بن سارية عند أحمد والنسائي وابن ماجه والبيهقي، وعن عبدالرحمن بن عوف عند ابن ماجه، وعن أبي هريرة عند البزار، وفيه أيوب بن عتبة، ضعف من قبل حفظه.

(5/27)


1102- قوله: (على ميامن الصفوف) جمع ميمنة، وفيه دليل على شرف يمين الصفوف واستحباب الكون في يمين الصف الأول وما بعده من الصفوف، وأما ما رواه ابن ماجه عن ابن عمر قال: قيل للنبي ? إن ميسرة المسجد تعطلت، فقال: من عمر ميسرة المسجد كتب له كفلان من الأجر. وما رواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله ? من عمر جانب المسجد الأيسر لقلة أهله فله أجران. ففي اسناده بهما مقال، فإن في سند حديث ابن عمر ليث بن سليم، وهو ضعيف. وفي سند حديث ابن عباس بقية بن وليد، وهو مدلس، وقد عنعنه، وإن ثبتا فلا يعارضان حديث عائشة وما وافقه؛ لأن ما ورد لمعنى عارض يزول بزواله. قال السندي في حاشية ابن ماجه تحت حديث ابن عمر فيه أن اليمين وإن كان هو الأصل، لكن اليسار إذا خلا فتعميره أولى من اليمين، وعلى هذا فلا بد من النظر إلى الطرفين، فإن كانت زيادة فلتكن في اليمين (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا ابن ماجه والبيهقي (ج3 ص103) كلهم من رواية معاوية بن هشام عن سفيان عن أسامة بن زيد عن عثمان بن عروة عن عروة عن عائشة، وقد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري في الترغيب، والحافظ في الفتح: إسناده حسن. وقال الشوكاني: رجاله رجال الصحيح على ما في معاوية بن هشام من المقال - انتهى. وقال البيهقي: تفرد به معاوية بن هشام ولا أراه محفوظا، والمحفوظ بهذا الإسناد عن النبي ?: إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف، وكذلك رواه الجماعة. قلت: معاوية بن هشام هذا وثقه أبوداود، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الساجي: صدوق يهم، وقال أبوحاتم، وابن سعد: صدوق. وقال في التقريب، صدوق له أو هام، ويؤيده حديث البراء عند مسلم وغيره قال: كنا إذا صلينا خلف النبي ? أحببنا أن نكون عن يمينه، يقبل علينا بوجهه، وعن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله ?: إن استطعت أن تكون خلف الإمام وإلا فعن يمينه. أخرجه البيهقي (ج3 ص104) ونسبه الهيثمي إلى

(5/28)


الطبراني في
1103- (13) وعن النعمان بن بشير، قال: ((كان رسول الله ? يسوي صفوفنا إذا قمنا إلى الصلاة، فإذا استوينا كبر)) رواه أبوداود.
1104- (14) وعن أنس، قال: ((كان رسول الله ? يقول عن يمينه: اعتدلوا، سووا صفوفكم. وعن يساره اعتدلوا، سووا صفوفكم)) رواه أبوداود.
1105- (15) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله ?: ((خياركم ألينكم مناكب في الصلاة))
الأوسط وقال فيه من لم أجد له ذكرا. وعن ابن عباس قال: عليكم بالصف الأول وعليكم بالميمنة منه، وإياكم والصف بين السوارى. رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه إسماعيل بن مسلم المكي وهوضعيف.
1103- قوله: (يسوي صفوفنا) ولفظ أبي داود: يسوي يعني صفوفنا أي باليد أو بالأشارة أو بالقول (إذا قمنا إلى الصلاة) وفي أبي داود: للصلاة. وكذا في جامع الأصول (ج6 ص392). ووقع عند البيهقي إلى الصلاة (فإذا استوينا كبر) أي للإحرام. وفيه دليل على أن السنة للإمام أن يسوي الصفوف ثم يكبر، وأخذ بعضهم من قوله: إذا قمنا أن التسوية كانت بعد الإقامة، وأصرح منه في الدلالة على هذا قوله فقام حتى كاد أن يكبر الخ في حديث النعمان، وقوله أقيمت الصلاة فأقبل علينا بوجهه الخ، في حديث أنس وقد تقدما في الفصل الأول (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا البيهقي (ج2 ص21) وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: هو طرف من الحديث المتقدم يعني حديث النعمان أول أحاديث هذا الباب.

(5/29)


1104- قوله: (كان رسول الله ? يقول عن يمينه) أي منصرفا بوجهه عن جهة يمينه متوجها إلى يمين الصف. ولفظ أبي داود: إن رسول الله ? كان إذا قام إلى الصلاة أخذه. (أى العود المذكور في رواية المتقدمة) بيمينه ثم التفت فقال، وكذا ذكره الجزري في جامع الأصول (ج6 ص394) وهكذا وقع عند البيهقي. (اعتدلوا) أي في القيام يعني استووا (سووا صفوفكم) بعدم تخلية الفرجة، أو الثاني تفسير للأول أو تأكيد له (رواه أبوداود) ومن طريقه البيهقي (ج2 ص22) وسكت عنه أبوداود والمنذري.
1105- قوله: (ألينكم مناكب) نصب على التمييز، أي أسرعكم انقيادا لمن يأخذ بمناكبكم الخارجة عن الصف يقدمها أو يؤخرها حتى يستوي الصف. قال المظهر: معناه إذا كان في الصف وأمره آخر بالاستواء أو يضع يده على منكبه ينقاد ولا يتكبر. وقال الخطابي في المعالم (ج1 ص184): معنى لين المنكب لزوم السكينة في الصلاة والطمأنينة فيها، لا يلتفت ولا يحاك بمنكبه منكب صاحبه، فالمعنى أكثركم سكينة وطمأنينة، قال: وقد يكون فيه وجه
رواه أبوداود.
?الفصل الثالث?
1106- (16) عن أنس، قال: ((كان النبي ? يقول: استووا، استووا، استووا، فوالذي نفسي بيده، إني لأراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي)) رواه أبوداود.

(5/30)


آخر، وهو أن لا يمتنع على من يريد الدخول بين الصفوف ليسد الخلل أو لضيق المكان بل يمكنه من ذلك ولا يدفعه بمنكبه لتتراص الصفوف وتتكاثف الجموع- انتهى. قال ميرك: والوجه الأول أليق بالباب، ويؤيده حديث أبي أمامة في الفصل الثالث: ولينوا في أيدي إخوانكم. قلت: والوجه الثالث أيضا أنسب بالباب. (رواه أبوداود) ومن طريقه البيهقي (ج3 ص101) وسكت عنه أبوداود والمنذري. وفي سنده جعفر بن يحيى بن ثوبان عن عمه عمارة بن ثوبان. وجعفر هذا قال ابن المديني مجهول. وقال ابن القطان الفاسي: مجهول الحال، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ في التقريب: مقبول. وعمه عمارة بن ثوبان. قال الذهبي في ترجمته: ما روى عنه الا ابن أخيه جعفر بن يحيى لكنه قد وثق وقال في ترجمته جعفر أن عمه يعني عمارة لين. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمته عمارة: ذكره ابن حبان في الثقات. وقال عبدالحق: ليس بالقوى فرد ذلك عليه ابن القطان وقال: إنما هو مجهول الحال. وقال في التقريب: عمارة بن ثوبان حجازي مستور، قلت: قول الذهبي لكنه قد وثق، وقوله لين، وقول عبدالحق ليس بالقوى، وذكر ابن حبان اياه في الثقاته يدل على أنه ليس بمجهول الحال عندهم، ومن عرف حجة على من لم يعرف. قال ميرك: وكان الأخصر أن يقول المصنف: روى جميع الأحاديث المذكورة في هذا الفصل أبوداود.

(5/31)


1106- قوله (استووا) أي في صفوف الصلاة بأن تقوموا على سمت واحد، وتتراصوا حتى لا يكون بينك فرجات. (استووا استووا) كرر ثلاث مرات للتأكيد، ويمكن أن يكون الأمر الأول وقع إجمالا، والثاني لأهل اليمين، والثالث لأهل اليسار. (إني لأراكم من خلفي) رؤية حقيقة (رواه أبوداود) هذا وهم من المصنف، فإن هذا الحديث ليس عند أبي داود بل هو عند النسائي بوب عليه: كم مرة يقول: استووا. رواه من طريق بهز بن أسد عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس، وقد عزاه العيني في شرح البخاري (ج5 ص254) للنسائي فقط وكذا الجزري في جامع الأصول (ج6 ص394).
1107- (17) وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله ?: (( إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول. قالوا يا رسول الله ! وعلى الثاني؟ قال: إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول. قالوا: يا رسول الله ! وعلى الثاني؟ قال: وعلى الثاني. وقال رسول الله ?: سووا صفوفكم، وحاذوا بين مناكبكم، ولينوا في أيدي إخوانكم، وسدوا الخلل، فإن الشيطان بدخل فيما بينكم بمنزلة الحذف، يعنى أولاد الضان الصغار)). رواه أحمد.

(5/32)


1107- قوله: (إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول) أي يرحم الله على أهل الصف الأول ويدعو الملائكة لهم بالتوفيق وغيره. (وعلى الثاني) المراد به غير الأول أو الثاني حقيقة لكونه يماثل الصف الأول فافهم. والظاهر هو الثاني، فإن قلت قوله ?: إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول خبر فما معنى قولهم: وعلى الثاني؟ قلنا: هو في معنى طلب كون الثاني كذلك، وسؤاله ? من الله عزوجل أن يصلي عليهم أيضا؛ لأنهم قد سبقوا من غير تقصير منهم، قاله في اللمعات. وقال القاري: قوله: يصلون على الصف الأول يحتمل أن يكون اخبارا ودعاء، ويؤيد الثاني قولهم يا رسول الله وعلى الثاني أي قل: وعلى الثاني ويسمى هذا العطف عطف تلقين والتماس كما حقق في قوله عليه السلام: اللهم ارحم الملحقين-الحديث. (قالوا يا رسول الله وعلى الثاني قال وعلى الثاني) التكرار يفيد التأكيد وحصول الكمال للأول وتثليث الرحمة على الصف الأول، ويؤيد ما روى أحمد والنسائي وابن ماجه والبيهقي عن العرباض بن سارية أن رسول الله ? كان يستغفر للصف المقدم ثلاثا وللثاني مرة. (وحاذوا بين مناكبكم) أي اجعلوا بعضها حذاء بعض بحيث يكون منكب كل واحد من المصلين موازيا لمنكب الآخر ومسامتا له، فتكون المناكب والأقدام على سمت واحد (ولينوا) بكسر اللام أمر من لان يلين (في أيدي إخوانكم) أي إذا أمر أحدكم من يسوي الصفوف بالإشارة بيده أن يستوي في الصف أو وضع يده على منكبه فليستوا، وكذا إذا أراد أن يدخل في الصف فليوسع. (وسدوا) بضم السين المهملة (الخلل) أي الفرجة من الصفوف، ولا يكون ذلك إلا بإلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم حقيقة. (فإن الشيطان يدخل فيما بينكم) ليشوش عليكم في صلاتكم بالإغواء والاشتغال (بمنزلة الحذف) بفتحتين أي في صورتها. قال الجزري: الحذف الغنم الصغار الحجازية واحدها حذفة، وقيل: هي غنم صغار ليس لها أذناب، يجاء بها من جرش، سميت حذفا لأنها محذوفة من مقدار

(5/33)


الكبار (يعني أولاد الضان الصغار) تفسير من الراوي (رواه أحمد) (ج5 ص262) قال
1108- (18) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله ?: (( أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا
المنذري في الترغيب باسناده لا بأس به. وقال الهيثمي: رجاله موثقون. وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير.
1108 – قوله: (أقيموا الصفوف) أى اعتدلوها وسووها (ولينوا بأيدي إخوانكم) أى كونوا لينين هينين منقادين إذا أخذوا بها ليقدموكم أو يؤخروكم حتى يستوي الصف؛ لتنالوا فضل المعاونة على البر والتقوى، ويصح أن يكون المراد لينوا بيد من يجركم من الصف أي وافقوه وتأخروا معه لتزيلوا عنه وعمة الانفراد التى تبطل الصلاة بها، فقد ذهب أكثر أصحاب الشافعي إلى أن من لم يجد فرجة ولا سعة في الصف يجذب إلى نفسه واحدا ويستحب للمجذوب أن يساعده، ولا فرق بين الداخل في أثناء الصلاة والحاضر في ابتدائها في ذلك، وكرهه الأوزاعي ومالك وأحمد وإسحاق؛ لأنه لو جذب إلى نفسه واحدا لفوات عليه فضيلة الصف الأول، ولوقع الخلل في الصف، واستدل الأولون بما رواه أبويعلى والطبراني في الأوسط والبيهقي (ج3 ص105) من حديث وابصة بن معبد: أنه ? قال: لرجل صلى خلف الصف أيها المصلي وحده هلا دخلت في الصف أو جررت رجلا من الصف، أعد صلاتك. وفيه السرى بن إسماعيل، وهو ضعيف، قاله الهيثمي. وقال الحافظ: إنه متروك، وله طريق أخرى في تاريخ أصبهان، وفيها قيس بن ربيع، وفيه ضعف. وأخرج الطبراني عن ابن عباس. قال الحافظ: بإسناد واه قال قال رسول الله ?: إذا انتهى أحدكم إلى الصف وقد تم فليجذب إليه رجلا يقيمه إلى جنبه. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وقال: لا يروى عن النبي ?إلا بهذا الإسناد. وفيه بشر بن إبراهيم، وهو ضعيف جدا، ولأبي داود في المراسيل من رواية مقاتل بن حيان مرفوعا: أن جاء رجل فلم يجد خللا أو أحدا فليختلج إليه رجلا من الصف فليقم معه

(5/34)


فما أعظم أجرا المختلج. قال الشوكاني في السيل الجرار: أما مشروعية انجذاب من في الصف المفسد لمن لحق ولم يجد من ينضم إليه فلم يثبت ما يدل على ذلك بخصوصه، ولا يصح الاستدلال بما أخرجه أبوداود في المراسيل بلفظ: إذا انتهى أحدكم إلى الصف وقد تم فليجذب إليه رجلا يقيمه إلى جنبه؛ لأنه مع كونه مرسلا، في اسناده مقاتل بن حيان، وفيه مقاتل ولم يثبت له لقاء أحد من الصحابة، فثم انقطاع بينه وبين الصحابي فهو مرسل معضل، ولا يصح الاستدلال أيضا بما أخرجه الطبراني عن ابن عباس، وبما أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي عن وابصة بن معبد، فذكرهما مع الكلام فيهما بنحو ما تقدم، ثم قال ولكن في انجذاب معاونة على البر والتقوى فيكون مندوبا من هذه الحيثية- انتهى. (ولاتذروا) أي لا تتركوا، ولا يستعمل من هذه المادة بمعنى الترك سوى المضارع والأمر والنهي، فتقول: ذره ولا تذره ويذره أي دعه واتركه ولا تدعه ولا تتركه ويدعه ويتركه، فإذا أريد الماضي، قيل: ترك. أو المصدر
فرجات الشيطان، ومن وصل صفا وصله الله، ومن قطعه قطعه الله)) رواه أبوداود، وروى النسائي منه قوله: (( ومن وصل صفا إلى أخره )).
1109- (19) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ?: (( توسطوا الإمام وسدوا الخلل)) رواه
أبوداود.

(5/35)


قيل: الترك، أو اسم الفاعل قيل: التارك. (فرجات الشيطان) بالإضافة في جميع النسخ، وكذا في جامع الأصول (ج6 ص395) ولفظ أبي داود: فرجات للشيطان، أي بتنوين فرجات ودخول لام الجر على الشيطان، وكذا وقع عند البيهقي من رواية أبي داود والفرجات بضم الفاء والراء جمع فرجة، وهي المكان الخالي بين الاثنين، والمعنى لا تبقوا خللا في الصف لدخول الشيطان فيه، فإنه إذا بقية فرجة في الصف يدخلها الشيطان كأنها الحذف كما تقدم. (ومن وصل صفا) بأن كان فرجة فسدها أو نقصان فأتمه. (وصله الله) أي برحمة. (ومن قطعه) بأن قعد بين الصف بلا صلاة أو منع الداخل من الدخول في الفرجات مثلا. وقال القاري: أي بالغيبة أو بعدم سد الخلل أو بوضع شيء مانع. (قطعه الله) أي من رحمته، وفيه تهديد شديد ووعيد بليغ. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري وأخرجه أيضا أحمد (ج2 ص98) والبيهقي (ج3 ص101). (وروى النسائي) وابن خزيمة كذلك كما في الترغيب للمنذري وكذلك الحاكم (ج1 ص213) وصححه هو وابن خزيمة. (منه) أي من حديث. (قوله) ? مفعول روى. (من وصل صفا إلى آخره) بيان المقول، أي لاصدر الحديث، وروي في صلة الصفوف وسد الفرج أحاديث عن جماعة من الصحابة منهم عائشة وأبوجحيفة وعبدالله بن زيد وابن عباس وأبوهريرة، ذكرهم الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص91، 90).

(5/36)


1109- قوله: (توسطوا الإمام) كذا في جميع النسخ توسطوا أي من التوسط. وكذا وقع في جامع الأصول (ج6 ص395) والبيهقي (ج3 ص104) ولفظ أبي داود: وسطوا أي بفتح الواو وتشديد السين المكسورة من التوسيط، وكذا نقله المجد بن تيمية في المنتقى، أي اجعلوه مقابلا لوسط الصف الذي تصفون خلفه يعني قفوا خلفه بحيث يكون الامام حذاء وسط الصف ويكون عن يمينه من المصلين ومن يساره سواء. قال الطيبي: أي اجعلوا أمامكم متوسطا بأن تقفوا في الصفوف خلفه وعن يمينه وشماله- انتهى. وفي القاموس: وسطهم جلس وسطهم كتوسطهم وسطه توسيطا جعله في الوسط، فالظاهر أن يكون التقدير توسطوا بالإمام فيكون من باب الحذف والايصال. (رواه أبودواد) وكذا البيهقي (ج3 ص104) وسكت عنه أبوداود والمنذري وفي سنده يحيى بن بشير بن خلاد عن أمه واسمها أمة الواحد بنت يامين بن عبد الرحمن بن
1110- (20) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله ?: ((لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول، حتى يؤخرهم الله في النار)) رواه أبوداود.
1111- (21) وعن وابصة بن معبد، قال: (( رأى رسول الله ? رجلا يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد الصلاة)).
يامين، سماها بقي بن مخلد في مسنده ولم يسمها. أبوداود في روايته: ويحيى مستور، وأمه مجهولة.
1110- قوله: (يتأخرون عن الصف الأول) أي لا يهتمون لإدراك فضل الصف الأول، ولا يبالون به. (حتى يؤخرهم الله) أي يجعلهم الله آخر الأمر. (في النار) أو لا يخرجهم من النار في الأولين، أو يؤخرهم عن الداخلين في الجنة أولا بإدخالهم النار أولا وحبسهم فيها، ويمكن أن يكون المعنى يوقعهم في أسفل النار. وقال الطيبي: أي حتى يؤخرهم عن الخيرات ويدخلهم في النار. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. وأخرجه أيضا ابن خزيمة في صحيحه وابن حبان إلا أنهما قالا: حتى يخلفهم الله في النار، وأخرجه البيهقي (ج3 ص103) من طريق أبي داود بلفظه.

(5/37)


1111- قوله: (عن وابصة) بكسر الموحدة فصاد مهملة. (بن معبد) بفتح الميم واسكان العين المهملة ابن عتبة بن الحارث بن مالك الأسدي أسد خزيمة، وفد على النبي ? سنة تسع ثم رجع إلى بلاد قومه ثم نزل إلى الجزيرة، صحابي. قال البرقى: جاء عنه خمسة أحاديث، وعمر إلى قرب سنة تسعين، وتوفي بالرقة، وقبره عند منارة مسجد جامع الرقة. (يصلي خلف الصف وحده) أي منفردا عن الصف. (فأمره أن يعيد الصلاة) فيه دليل على أن الصلاة خلف الصف وحده لا تصح. وأن من صلى خلف الصف وحده فعليه أن يعيد الصلاة. وإليه ذهب إبراهيم النخعي والحسن بن صالح وأحمد وإسحاق وأكثر أهل الظاهر وابن المنذر والحكم، وبه قال قوم من أهل الكوفة، منهم حماد بن أبي سليمان وعبد الرحمن بن أبي ليلي ووكيع. قال ابن حزم: وبه يقول الأوازاعي والحسن بن حي، وأحد قولي سفيان الثوري. ونقل عبد الله بن أحمد في المسند (ج4 ص228) بعد حديث وابصة قال: وكان أبي يقول بهذا الحديث- انتهى. وإليه ذهب الدارمي أيضا فقال في سننه بعد حديث وابصة قال أبومحمد: أقول بهذا. وقال الجواز فلأنه يتعلق بالأركان وقد وجدت، وأما الإساءة فلوجود النهي عن ذلك، والقول الأول هو الحق يدل عليه حديث وابصة وهوحديث صحيح كما ستعرف، ويدل عليه أيضا حديث علي بن شيبان قال: رأى رسول الله ? رجلا يصلي خلف الصف، فوقف حتى انصرف الرجل فقال له رسول الله ?

(5/38)


استقبل صلاتك، فإنه لا صلاة لرجل فرد خلف الصف. أخرجه أحمد (ج4 ص23) وابن ماجه وابن حزم في المحلى (ج4 ص53) والبيهقي (ج3 ص105). ونسبه الزيلعي في نصب الراية (ج1 ص244) لابن حبان في صحيحه، والبزار في مسنده، وهو حديث صحيح. قال البوصيري في زوائد ابن ماجه: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. وروى الأثرم عن أحمد أنه قال: حديث حسن. وقال ابن سيد الناس: رواته ثقات معروفون، وهو من رواية ملازم بن عمرو عن عبدالله بن بدر عن عبدالرحمن بن علي بن شيبان عن أبيه. قال ابن حزم في المحلى: ملازم ثقة. وثقه أبوبكر بن أبي شيبة وابن نمير وغيرهما، وعبدالله بن بدر ثقة مشهور، وعبدالرحمن ما نعلم أحدا عابه بأكثر من أنه لم يرو عنه إلا عبدالله بن بدر. وهذا ليس جرحة- انتهى. وقد روى عنه أيضا ابنه يزيد ووعلة ابن عبدالرحمن، وذكره ابن حبان في الثقات وأخرج له في صحيحه. وقال العجلي: تابعي ثقة، ووثقة أيضا أبوالعرب التميمي، كذا في تهذيب التهذيب (ج6 ص234). ويؤيد حديث علي بن شيبان ما أخرجه ابن حبان عن طلق بن علي مرفوعا: لا صلاة لمنفرد خلف الصف، ذكره الحافظ في بلوغ المرام. ويؤيده أيضا حديث ابن عباس قال: رأى النبي ? رجلا يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة. أخرجه البزار والطبراني في الكبير والأوسط. قال الهيثمي: (ج2 ص96): وفيه النضر أبوعمر أجمعوا على ضعفه. ويؤيده أيضا ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة بمعنى حديث ابن عباس، وهو أيضا حديث ضعيف. قال الهيثمي: فيه عبدالله بن محمد بن القاسم، وهو ضعيف وأجاب القائلون بالجواز بأن حديث وابصة معلول للاضطبراب في سنده كما نقل الزيلعي في نصب الراية (ج1 ص244) عن البيهقي في المعرفة والبزار في مسنده. قال البيهقي: وإنما لم يخرجاه صاحبا الصحيح لما وقع في إسناده من اختلاف. وقال ابن عبدالبر: أنه مضطرب الإسناد، ولا يثبته جماعة من أهل الحديث، وروي عن الشافعي أنه كان يضعف حديث وابصة،

(5/39)


ويقول: لو ثبت لقلت به وأجيب عنه بأن البيهقي وهو من أصحابه قد أجاب عنه فقال: الخبر المذكور ثابت، وبأن ابن سيد الناس قال في شرح الترمذي: ليس الاضطراب الذي الذي وقع فيه مما يضره، وبين ذلك وأطال وأطاب، ذكره الشوكاني وأجابوا أيضا بأن الأمر بالإعادة في حديث وابصة وما وافقه للاستحباب، والنفي في حديث علي وما وافقه محمول على نفي الكمال. قال الطيبي: إنما أمره باعادة الصلاة تغليظا وتشديدا، يؤيده حديث أبي بكرة في آخر الفصل الأول من باب الموقف. وقال ابن الهمام: حمل أئمتنا الأول أي حديث وابصة على الندب، والثاني أي حديث علي بن شيبان على نفي الكمال ليوافقا خبر البخاري عن أبي بكرة، إذ ظاهره عدم لزوم الإعادة لعدم أمره بها، وأيضا فهو عليه السلام تركه حتى فرغ ولو كانت باطلة لما أقره على المضي فيها، وأجيب عنه بأن حمل
رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن.

(5/40)


الأمر بالإعادة على الاستحباب، وحمل النفي على نفي الكمال خلاف الظاهر، والأصل فإن الأصل في الأمر الوجوب، وفي نفي الجنس نفي الحقيقة والذات إن أمكن وإلا فيحمل على أقرب المجازين إلى الحقيقة، وهو نفي الصحة كما تحقق في موضعه. وأما الاستدلال على ذلك بحديث أبي بكرة ففيه أن عدم أمره ? بالإعادة في هذه الصورة الجزئية لا يدل على أن أمره بالإعادة في حديث وابصة ليس للإيجاب، وأن النفى في حديث علي بن شيبان ليس لنفي الحقيقة أو الصحة، فإنه لا يقال لمن فعل مثل ما فعل أبوبكرة أنه صلى خلف الصف. قال ابن سيد الناس: ولا يعد حكم الشروع في الركوع خلف الصف حكم الصلاة كلها خلفه، فهذا أحمد ابن حنبل يرى أن صلاة المنفرد خلف الصف باطلة، ويرى أن الركوع دون الصف جائزة- انتهى. وقال الحافظ في الفتح: جمع أحمد وغيره بين الحديثين، بأن حديث أبي بكرة مخصص لعموم حديث وابصة، فمن ابتدأ الصلاة منفردا خلف الصف ثم دخل في الصف قبل القيام من الركوع لم تجب عليه الإعادة، كما في حديث أبي بكرة، وإلا فيجب على عموم حديث وابصة وعلي بن شيبان- انتهى. وفي مسائل الامام أحمد لأبي داود (ص35) قال: سمعت أحمد سئل عن رجل ركع دون الصف ثم مشى حتى دخل الصف وقد رفع الإمام قبل أن ينتهي إلى الصف قال: تجزئه ركعة وإن صلى خلف الصف وحده أعاد الصلاة. وقيل يحمل عدم الأمر بالإعادة على من فعل ذلك لعذر وهو خشية الفوات لو انضم إلى الصف وأحاديث الإعادة على من فعل ذلك لغير عذر. وقيل من لم يعلم ما ابتداء الركوع على تلك الحال من النهي فلا إعادة عليه كما في حديث أبي بكرة؛ لأن النهي عن ذلك لم يكن تقدم فكان أبوبكرة معذورا لجهله، ومن علم النهي وفعل بعض الصلاة أو كلها خلف الصلاة لزمته الإعادة، يعني أنه يحمل أمره بالإعادة لمن صلى خلف الصف بأنه كان عالما بالنهي. قال ابن حزم في المحلى (ج4 ص58): فإن قيل: فهلا أمر رسول الله ? أبا بكر بالإعادة كما أمر الذي أساء

(5/41)


الصلاة والذي صلى خلف الصف وحده؟ قلنا: نحن على يقين نقطع به أن الركوع دون الصف إنما حرم حين نهى النبي ? فإذ ذلك كذلك فلا إعادة على من فعل ذلك قبل النهي، ولو كان ذلك محرما قبل النهي لما أغفل عليه السلام أمره بالإعادة كما فعل مع غيره- انتهى. (رواه أحمد) (ج4 ص227و 228). (والترمذي وأبوداود) وأخرجه أيضا ابن ماجه وأبوداود الطيالسي والدارمي وابن الجارود والبيهقي (ج3 ص104- 105) وابن حبان والدارقطني والحاكم والطحاوي وابن حزم في المحلى. (وقال الترمذي: هذا حديث حسن) وسكت عنه أبوداود. ونقل المنذري كلام الترمذي هذا وأقره. وقال الحافظ في الفتح: صححه أحمد وابن خزيمة وغيرهما. وقال ابن حجر المكي: صححه ابن حبان والحاكم. قلت: وأعله بعضهم بما وقع من اختلاف في
(25) باب الموقف
?الفصل الأول?
1112- (1) عن عبدالله بن عباس، قال: (( بت في بيت خالتي ميمونة، فقام رسول الله ? يصلي،
فقمت عن يساره، فأخذ بيدي من وراء ظهره فعدلني كذلك من وراء ظهره إلى الشق الأيمن))
سنده كما تقدم عن ابن عبدالبر أنه قال: حديث مضطرب الإسناد، وقد تقدم قول ابن سيد الناس: أن الاختلاف الذي وقع في سنده ليس مما يضره، وقد بين ذلك في شرح الترمذي له كما قال الشوكاني، وقد بينه أيضا الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج2 ص451) وأطال الكلام فيه وحققه بما لا مزيد عليه، فعليك أن تراجعه، ولو لا خوف الإطناب لذكرنا كلامه.
(باب الموقف) أي موقف الإمام والمأموم.

(5/42)


1112- قوله (بت) أي رقدت أو كنت ليلا. (في بيت خالتي ميمونة) بنت الحارث أم المؤمنين. (يصلي) أي من الليل، والمراد به التهجد. (فقمت) أي وقفت. (عن يساره) بفتح الياء وكسرها. ولفظ مسلم: ثم قمت إلى شقه الأيسر. (فأخذ بيدي) بسكون الياء بالإفراد. (من وراء ظهره) أي وهو في الصلاة. (فعدلني) بالتخفيف. وقيل: بالتشديد أي أمالني وصرفنى. ولفظ مسلم: يعدلني أي بصيغة مضارع. (كذلك) أي آخذا بيدي. (من وراء ظهره) بيان لذلك. (إلى الشق الأيمن) متعلق بعدلني. قال الطيبي: الكاف صفة مصدر محذوف أي عدلني عدولا مثل ذلك، والمشار إليه هي الحالة المشبهة بها التي صورها ابن عباس بيده عند التحدث– انتهى. وقد اختلف في كيفية التحويل روايات الصحيح، ففي بعضها: أخذ برأسه فجعله عن يمينه، وفي بعضها: فوضع يده اليمنى على رأسي فأخذ بأذني اليمنى ففتلها، وفي بعضها: فأخذ برأسي من ورائي، وفي بعضها: بيدي أو عضدي. قال العيني: والرواية الثانية جامعة لهذه الروايات وقال أيضا: ووجه الجمع بين قوله: فأخذ بيدي، وبين قوله: فأخذ برأسي. كون القضية متعددة، وإلا فوجهه أخذ أولا برأسه ثم بيده أو العكس - انتهى. قلت: الغالب على الظن عدم تعدد قصة مبيت ابن عباس. فالجمع بين مختلف الروايات فيها أولى. وقيل: رواية أخذ الرأس أرجح لاتفاق الأكثر عليها، وفي الحديث دليل على أن موقف المأموم الواحد عن يمين الإمام، إذ لو كان اليسار موقفا له لما عدله وحوله في الصلاة، وإلى هذا ذهب الجماهير، وخالف النخعي فقال: إذا كان الإمام وواحد قام الواحد خلف الامام، فإن ركع الإمام قبل أن يجيء أحد قام عن يمينه، أخرجه سعيد بن منصور. قال الحافظ: ووجهه بعضهم بأن الإمامة

(5/43)


مظنة الاجتماع فاعتبرت في موقف الإمام حتى يظهر خلاف ذلك، وهو حسن، لكنه مخالف للنص، وهوقياس فاسد- انتهى. وروي عن سعيد بن المسيب أن موقف الواحد مع الإمام عن يساره، ولم يتابع على ذلك لمخالفته للأدلة، وقد اختلف في صلاة من وقف عن اليسار، فقيل: تصح لكنه مسيء، وهو قول الجمهور. وتمسكوا بعدم بطلان صلاة ابن عباس لوقوفه عن اليسار لتقريره ? على أول صلاته وعدم أمره بالإعادة. وقيل: تبطل، وإليه ذهب أحمد قال: وتقريره ? لابن عباس لا يدل على صحة صلاة من وقف من أول الصلاة إلى آخرها عن اليسار عالما، وغاية ما فيه تقرير من جهل الموقف والجهل عذر، وقد بوب البخاري على حديث ابن عباس: باب إذا قام الرجل عن يسار الإمام وحوله الإمام خلفه إلى يمينه تمت صلاته. قال الحافظ: أي صلاة المأموم ولا يضر وقوفه عن يسار الإمام أولا مع كونه في غير موقفه؛ لأنه معذور بعدم العلم بذلك الحكم - انتهى. وأيضا يجوز أن يكون ابن عباس ما كان قد أحرم بالصلاة. ثم قوله: فعدلني إلى الشق الأيمن يحتمل المساواة، ويحتمل التقدم والتأخر قليلا، وفي رواية: فقمت عن يساره فجعلني عن يمينه، وقد بوب عليها البخاري: باب يقوم عن يمين الإمام بحذاءه سواء إذا كانا اثنين. قال الحافظ: قوله بحذاءه أخرج به من كان خلفه أو مائلا عنه أو بجنبه لكن على بعد منه، وقوله سواء أي لا يتقدم ولا يتأخر، وفي انتزاع هذا من هذه الرواية بعد، وكأن المصنف أشار بذلك إلى ما تقدم في بعض طرقه وهو في الطهارة: فقمت إلى جنبه، وظاهره المساواة. وفي رواية للبخاري أيضا: فأقامني عن يمينه. قال العيني: يستفاد منها أن موقف المأموم إذا كان بحذاء الإمام على يمينه مساويا له، وهو قول عمر وابنه وأنس وابن عباس والثوري وإبراهيم ومكحول والشعبي وعروة وأبي حنيفة ومالك والأوزاعي وإسحاق، وعن محمد بن الحسن: يضع أصابع رجليه عند عقب الإمام. وقال الشافعي: يستحب أن يتأخر عن مساواة الإمام قليلا.

(5/44)


قال الشوكاني: وليس عليه فيما أعلم دليل، وروى عبدالرزاق عن ابن جريج قال: قلت لعطاء الرجل يصلي مع الرجل أين يكون منه؟ قال إلى الشق الأيمن قلت: أيحاذي به حتى يصف معه لا يفوت أحدهما الآخر. قال: نعم، قلت: أتحب أن يساويه حتى لا يكون بينهما فرجة؟ قال: نعم. وفي الموطأ عن عبدالله بن عتبة بن مسعود قال: دخلت على عمر بن الخطاب بالهاجرة فوجدته يسبح فقمت وراءه فقربني حتى جعلني حذاءه عن يمينه، والحديث له فوائد كثيرة: منها: أن الاثنين جماعة، وقد بوب عليه ابن ماجه: باب الاثنان جماعة. ومنها: انعقاد الجماعة باثنين: أحدهما صبي، ففي لفظ: صليت مع النبي ? وأنا يومئذ ابن عشر سنين، وقمت إلى جنبه عن يساره فأقامني عن يمينه، قال: وأنا يومئذ ابن عشر سنين. أخرجه أحمد، وقد بوب عليه ابن تيمية في المنتقى: باب انعقاد الجماعة باثنين أحدهما صبي. وقال العيني: في الحديث جواز ائتمام صبي ببالغ، وعليه ترجم البيهقي في سننه. قال الشوكاني: ليس على قول من منع من انعقاد من معه صبي فقط دليل، ولم
متفق عليه.
1113- (2) وعن جابر، قال: (( قام رسول الله ? ليصلي، فجئت حتى قمت عن يساره، فأخذ
بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر،

(5/45)


يستدل لهم إلا بحديث رفع القلم، ورفع القلم لا يدل على عدم صحة صلاته، وانعقاد الجماعة به، ولو سلم لكان مخصصا بحديث ابن عباس ونحوه، وقد ذهب أبوحنيفة وأصحابه إلى أن الجماعة لا تنعقد بصبي، وذهب الشافعي إلى الصحة من غير فرق بين الفرض والنفل، وذهب مالك وأبوحنيفة في رواية عنه إلى الصحة في النافلة. ومنها: جواز الائتمام بمن لم ينو الإمامة، وقد بوب البخاري لذلك. وفي المسألة خلاف، ومذهب الحنفية أن نية الإمامة في حق الرجال ليست بشرط؛ لأنه لا يلزمه باقتداء المأموم حكم، وفي حق النساء شرط لاحتمال فساد صلاته بمحاذاتها إياه. والأصح عند الشافعية أنه لا يشترط مطلقا، واستدل لذلك ابن المنذر بحديث أنس: أن النبي ? كان يقوم في رمضان قال: فجئت فقمت إلى جنبه وجاء آخر فقام إلى جنبي حتى كنا رهطا فلما أحس النبي ? بنا تجوز في صلاته- الحديث. وهو ظاهر في أنه لم ينو الإمامة ابتداء وائتموهم به ابتداء وأقرهم، وهو حديث صحيح. أخرجه مسلم، وعلقه البخاري في كتاب الصيام: وذهب أحمد إلى الفرق بين النافلة والفريضة، فشرط أن ينوى في الفريضة دون النافلة، وفيه نظر لحديث أبي سعيد أن النبي ? رأى رجلا يصلي وحده فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه. أخرجه أبوداود. وقد حسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، والراجح عندنا هو عدم الفرق بين الفريضة والنافلة، وعدم الاشتراط في حق الرجال والنساء جميعا؛ لانتفاء ما يدل على الفرق والتفصيل، والله أعلم. ومنها: جواز الإمامة في النافلة وصحة الجماعة فيها، ومنها التعليم في الصلاة إذا كان من أمرها. ومنها أن النافلة كالفريضة في تحريم الكلام؛ لأنه ? لم يتكلم. ومنها: ما قيل إن تقدم المأموم على إمامه مبطل. قال الحافظ: ذكر البيهقي أنه يستفاد من الحديث امتناع تقديم المأموم على الإمام لما في رواية مسلم: فقمت عن يساره فأدارني من خلفه حتى جعلني عن يمينه، وفيه نظر، قال العيني: لأنه يجوز

(5/46)


أن تكون ادارته من خلفه لئلا يمر بين يديه فإنه مكروه. ومنها أن العمل اليسير في الصلاة لا يفسدها، وقد بوب لذلك البخاري حيث قال: باب إذا قام الرجل عن يسار الإمام فحوله الإمام إلى يمينه لم تفسد صلاتهما أي بالعمل الواقع منها، لكونه خفيفا يسيرا وهو من مصلحة الصلاة أيضا. (متفق عليه) واللفظ لمسلم. وقد تقدم التنبيه على ما وقع من الاختلاف بين لفظ مسلم وبين اللفظ الذي ذكره المصنف تبعا للبغوي، والحديث أخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
1113- قوله: (وعن جابر) أي ابن عبدالله. (فأخذ بيدي) قال ابن الملك: أي أخذني بيده اليمنى من وراء ظهره حتى أقامني. (عن يمينه) فيه أن موقف المأموم الواحد عن يمين الإمام. (ثم جاء جبار بن صخر) بن
فقام عن يسار رسول الله ?، فأخذ بيدينا جميعا، فدفعنا حتى أقامنا خلفه)) رواه مسلم.

(5/47)


أمية بن خنساء بن سنان السلمى الأنصاري شهد بدرا، وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة، ثم شهد أحدا، وما بعدها من المشاهد وكان أحد السبعين ليلة العقبة، وآخى رسول الله ? بينه وبين المقداد بن الأسود، يكنى أبا عبدالله توفي بالمدينة سنة ثلاثين. قال ابن إسحاق: كان خارصا بعد عبدالله بن رواحة. (فأخذ بيدينا) بالتثنية. وفي مسلم: بأيدينا أي بلفظ الجمع. (فدفعنا) أي أخرنا. قال الطيبي: لعله ? أخذ بيمينه شمال أحدهما، وبشماله يمين الآخر فدفعهما. (حتى أقامنا خلفه) فيه أن الإمام إذا كان معه عن يمينه مأموم، ثم جاء مأموم آخر، ووقف عن يساره، فله أن يدفعهما خلفه إذا كان لوقوفهما خلفه مكان، أو يتقدمهما. يدل عليه حديث سمرة الآتي في الفصل الثاني. وفيه أن موقف الرجلين مع الإمام في الصلاة خلفه. قال النووي: في الحديث فوائد: منها: جواز العمل اليسير في الصلاة، وأنه يكره إن كان لحاجة، فإن لم يكن لحاجة كره. ومنها: أن المأموم الواحد يقف على يمين الإمام، وإن وقف على يساره حوله الامام. ومنها: أن المأمومين يكونان صفا وراء الإمام كما لو كانوا ثلاثة أو أكثر. وهذا مذهب العلماء كافة إلا ابن مسعود وصاحبيه يعني الأسود وعلقمة، فإنهم قالوا: يقف الاثنان عن جانبيه قال: وأجمعوا إذا كانوا ثلاثة أنهم يقفون وراءه- انتهى. قلت: روى مسلم في صحيحه عن علقمة والأسود أنهما دخلا على عبدالله فقال أصلي من خلفكم؟ قالا: نعم فقام بينهما وجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله ثم ركعنا فوضعنا أيدينا على ركبنا، فضرب أيدينا ثم طبق بين يديه ثم جعلهما بين فخذيه، فلما صلى قال هكذا فعل رسول الله ?. وروى أحمد عن الأسود قال: دخلت أنا وعمي علقمة على ابن مسعود بالهاجرة قال: قأقام الظهر ليصلي فقمنا خلفه فأخذ بيدي ويد عمي ثم جعل أحدها عن يمينه والآخر عن يسار، فصففنا صفا واحدا ثم قال: هكذا كان رسول الله ? يصنع إذا كانوا ثلاثة، وأجاب عنه ابن سيرين بأن ذلك

(5/48)


كان لضيق المكان أو لعذر آخر لا على أنه من السنة. رواه الطحاوي وقال الحازمي: أنه منسوخ؛ لأنه إنما تعلم ابن مسعود هذه الصلاة عن النبي ? بمكة إذ فيها التطبيق وأحكام أخرى، هي الآن متروكة وهذه من جملتها، ولما قدم النبي ? المدينة تركه بدليل حديث جابر، فإنه شهد المشاهد التى بعد بدر- انتهى. قال ابن الهمام: وغاية ما فيه خفاء الناسخ على عبدالله وليس ذلك ببعيد، إذا لم يكن دأبه عليه السلام إلا إمامة الجمع الكثير دون الاثنين إلا في الندرة كهذه القصة وحديث اليتيم وهو داخل في بيت امرأة. (يعنى حديث أنس الآتي) فلم يطلع عبدالله على خلاف ما علمه- انتهى. وقال ابن سيد الناس: وليس ذلك أي وقوف الاثنين خلف الإمام شرطا عند أحد منهم، ولكن الخلاف في الأولى والأحسن. (رواه مسلم) في آخر صحيحه في أثناء الحديث الطويل. وأخرجه البيهقي (ج3 ص95) مختصرا وأبوداود مطولا، وهذا الذي ذكر المصنف بعضا منه، وروى أحمد عن جابر قال: قام النبي ? يصلي المغرب فجئت فقمت
1114- (3) وعن أنس، قال: ((صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي ?، وأم سليم خلفنا)).
عن يساره فنهاني فجعلني عن يمينه، ثم جاء صاحب لي فصفنا خلفه- الحديث.

(5/49)


1114- قوله: (صليت أنا ويتيم) بالرفع عطفا على الضمير المرفوع. قال صاحب العمدة: اليتيم هو ضميرة جد حسين بن عبدالله بن ضميرة. قال ابن الحذاء: كذا سماه عبدالملك بن أبي حبيب، ولم يذكره غيره، وأظنه سمعه من حسين بن عبدالله أو من غيره من أهل المدينة. قال ضميرة: هو ابن أبي ضميرة مولى رسول الله ?. واختلف في اسم أبي ضميرة، فقيل: روح، وقيل غير ذلك- انتهى. وقال النووي: اسم اليتيم ضميرة بن سعد الحميري. وقال المنذري: اليتيم وهو ابن أبي ضميرة مولى رسول الله ?، له ولأبيه صحبة، وعدادهما في أهل المدينة (في بيتنا) متعلق بصليت. (وأم سليم خلفنا) وفي البخاري: وأمي أم سليم خلفنا. قال العيني: وأمي عطف على اليتيم، وأم سليم عطف بيان، وكانت مشتهرة بهذه الكنية، واسمها سهلة. وقيل: رميلة أو رميثة أو الرميصاء أو الغميصاء، زوجة أبي طلحة، وكانت فاضلة دينة- انتهى. قلت: أم سليم هي بنت ملحان بكسر الميم وإسكان اللام، واسمه مالك بن خالد بن زيد بن حرام من بنى النجار، وكانت أم سليم تحت مالك بن النضر، فولدت له أنسا في الجاهلية، وأسلمت مع السابقين من الأنصار، فغضب مالك وخرج إلى الشام، ومات بها فتزوجها بعده أبوطلحة زيد بن سهل الأنصاري، فولدت له عبدالله وأبا عمير، واسم والدة أم سليم مليكة بالتصغير بنت مالك بن عدي بن زيد مناة بن عدي، فهي جدة أنس لأمه. وفي الحديث دليل على صحة الجماعة في النفل في البيوت، وعلى صحة الصلاة للتعليم والتبرك كما تدل عليه القصة، وعلى أن مقام الاثنين خلف الإمام، وعلى أن أمامة المرأة للرجال غير جائزة؛ لأنها لما زحمت عن مساواتهم في مقام الصف كانت من أن تتقدمهم أبعد، وعلى وجوب ترتيب مواقف المأمومين، وأن الأفضل يتقدم على من دونه في الفضل، ولذلك قال النبي ?: ليلينى منكم أولوا الأحلام والنهى، وعلى صحة صلاة الصبي المميز، وإن الصبي يعتد بوقوفه ويسد الجناح، وهو الظاهر من لفظ اليتيم إذ لا يتم بعد

(5/50)


الاحتلام، ويؤيده جذبه ? لابن عباس من جهة اليسار إلى جهة اليمين، وصلاته معه وهو صبي، وعلى أن الصبي الواحد يقوم مع الرجل صفا، فإن اليتيم لم يقف منفردا بل صف مع أنس، وعلى أن المرأة لا تصف مع الرجال، وعلى أنها تقوم صفا وحدها إذا لم يكن معها امرأة غيرها، فعدم امرأة تنضم إليها عذر في ذلك، فإن انضمت المرأة مع الرجل أجزأت صلاتها؛ لأنه ليس في الحديث إلا تقريرها على التأخر، وأنه موقفها، وليس فيه دلالة على فساد صلاتها لو صلت في غيره، وذهب أبوحنيفة إلى أنه تفسد صلاة الرجل دون المرأة، ولا دليل على ذلك. قال الحافظ: في الحديث أن المرأة لا تصف مع الرجال، وأصله ما يخشى من الافتتان بها، فلو خالفت أجزأت صلاتها عند الجمهور، وعند الحنفية: تفسد صلاة الرجل دون المرأة، وهو عجيب، وفي توجيهه تعسف، حيث قال قائلهم: دليله قول ابن مسعود أخروهن من حيث
رواه مسلم.
_______________________________________________

(5/51)


أخرهن الله، والأمر للوجوب وحيث ظرف مكان، ولا مكان يجب تأخيرهن فيه إلا مكان الصلاة، فإذا حاذت الرجل فسدت صلاة الرجل؛ لأنه ترك ما أمر به من تأخيرها، وحكاية هذا تغني عن تكلف جوابه، والله المستعان. فقد ثبت النهى عن الصلاة في الثوب المغصوب، وأمر لابسه أن ينزعه، فلو خالف فصلى فيه ولم ينزعه أثم وأجزأته صلاته، فلم يقال في الرجل الذي حاذته المرأة ذلك وأوضح منه لو كان لباب المسجد صفة مملوكة فصلى فيها شخص بغير إذنه مع اقتداره على أن ينتقل عنها إلى أرض المسجد بخطوة واحدة صحت صلاته وأثم، وكذلك الرجل مع المرأة التي حاذته، ولا سيما إن جاءت بعد أن دخل في الصلاة فصلت بجنبه- انتهى كلام الحافظ. وقال الشوكاني في السيل الجرار: إذا لم تقف المرأة في موقفها الذي عينه رسول الله ? لها، وهو وقوفها في صف النساء أو وقوفها وحدها بعد الرجال فقد صارت بذلك عاصية، وأما فساد صلاتها بذلك، فلا دليل يدل عليه، وهكذا لا دليل يدل على فساد صلاة الرجال؛ لأن غاية الأمر دخول الأجنبية معهم ونظرهم إليها، وذلك لا يوجب فساد الصلاة، بل يكون من وقف بجنبها مختارا لذلك، أو نظر إليها عاصيا، وصلاته صحيحة، وأما من لم يقف بجنبها ولا نظر إليها فليس بعاص فضلا عن كون صلاته تفسد بمجرد دخولها معهم في الصلاة ومشاركتها لهم في الائتمام بإمامهم. والحاصل أن التسرع إلى إثبات مثل هذه الأحكام الشرعية بمجرد الرأي الخالي عن الدليل ليس من دأب أهل الأنصاف ولا من صنيع المتورعين - انتهى. واستدل الزيلعي والخطابي وابن بطال بالحديث على صحة صلاة المنفرد خلف الصف، قال الزيلعي: أحكام الرجال والنساء في ذلك سواء. وقال ابن بطال: لما ثبت ذلك للمرأة كان للرجال أولى، ورد هذا الاستدلال بأنه إنما ساغ ذلك للمرأة لامتناع أن تصف مع الرجال بخلاف الرجل، فان له أن يصف معهم وأن يزاحمهم وأن يجذب رجلا من حاشية الصف فيقوم معه فافترقا. قال ابن خزيمة: لا يصح الاستدلال

(5/52)


به؛ لأن المرأة خلف الصف وحده منهي عنها باتفاق ممن يقول تجزئه أو لا تجزئه، وصلاة المرأة وحدها إذا لم يكن هناك امرأة أخرى مأمور بها، فكيف يقاس مأمور على منهي - انتهى. (رواه مسلم). الصواب أن يقول متفق عليه، واللفظ للبخاري كما قال الحافظ في بلوغ المرام، أو يقول رواه البخاري كما قال المجد بن تيمية في المنتقى، فإن هذه الرواية أخرجها البخاري في كتاب الصلاة في باب المرأة وحدها تكون صفا من طريق سفيان بن عيينة عن إسحاق عن أنس، فالعجب من المصنف أنه عزا الحديث إلى مسلم فقط مع أن مسلما لم يروه بهذا اللفظ. والظاهر أن المصنف تبع في ذلك الجزري حيث عزاه في جامع الأصول (ج6:ص391) لمسلم والنسائي فقط. قال الحافظ في الفتح: هذا الحديث طرف من حديث اختصره سفيان، وطوله مالك كما تقدم في باب الصلاة على الحصير - انتهى. قلت: الحديث المطول أخرجه أحمد ومالك والبخاري ومسلم والترمذي وأبوداود والنسائي
1115- (4) وعنه، ((أن النبي ? صلى به وبأمه أو خالته، قال: فأقامني عن يمينه، وأقام المرأة
خلفنا))
والظاهر أنه قضية؛ لأن المراد بالعجوز في قوله: والعجوز من وراءنا في الحديث المطول هي مليكة جدة أنس التي دعته لطعام صنعته لا أم سليم.

(5/53)


1115- قوله: (صلى به) أي بأنس. (وبأمه) أي أم سليم. (أو خالته) شك من الراوي، واسم خالته أم حرام بنت ملحان. (قال) أي أنس. (فأقامني) أي أمرني بالقيام. (عن يمينه، وأقام المرأة خلفنا) في الحديث دليل على أنه إذا حضر مع إمام الجماعة رجل وامرأة كان موقع الرجل عن يمينه وموقف المرأة خلفهما. وإنها لا تصف مع الرجال. واعلم أنه اختلفت الروايات في صلاة النبي ? في بيت أنس، ففي بعضها أن مليكة جدة أنس دعته لطعام صنعته، فأكل منه ثم قال: قوموا فلأصلي بكم. قال أنس: فقام رسول الله ? على حصير، وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من وراءنا، أخرجه أحمد (ج3:ص 131، 149) ومالك وأصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه. وفي بعضها أنه دخل على أم سليم فأتته بتمر وسمن، وكان صائما، فقال أعيدوا تمركم في وعائه، وسمنكم في سقائه، ثم قام إلى ناحية البيت فصلى ركعتين، وصلينا معه-الحديث. أخرجه أحمد من طريق حميد عن أنس في (ج3:ص108، و188) وعند أبي داود من طريق ثابت عن أنس أنه دخل على أم حرام فأتوه بسمن وتمر، فقال: ردوا هذا في وعائه، وهذا في سقائه، فاني صائم، ثم قام فصلى بنا ركعتين تطوعا، فقامت أم سليم وأم حرام خلفنا، قال ثابت: ولا أعلمه إلا قال: أقامني عن يمينه، وفي بعضها: أنه صلى في بيت أم حرام، فأقام أنسا عن يمينه، وأم حرام خلفهما، وهو عند أحمد (ج3:ص204) من طريق ثابت عن أنس. وفي بعضها أنه صلى، ومعه أنس وأم سليم فجعل أنسا عن يمينه وأم سليم خلفهما، وهو عند أحمد أيضا (ج3:ص217) من طريق ثابت. وروى أحمد (ج3:ص194-195) والنسائي من طريق شعبة عن عبدالله بن المختار عن موسى بن أنس عن أنس أن النبي ? جعل أنسا عن يمينه، وأمه وخالته خلفهما. وروى أحمد (ج3:ص160و193-194 و217 و239 و242) ومسلم وأبوداود والنسائي هذا المعنى أيضا من حديث ثابت عن أنس، وفي بعضها أنه صلى بأنس وبإمراة من أهله فجعله عن يمينه، والمرأة خلفهما وهو عند أحمد (ج3:ص258

(5/54)


و261) وأبي داود والنسائي وابن ماجه، وفي بعضها ما يدل على أنه كان يزورهم، فربما تحضره الصلاة، وهو عند أحمد (ج3:ص212) ومسلم، وهو يدل على أنه كان في بعض أحيانه يصلي الفريضة عندهم. وفي بعضها ورد التصريح بأنه صلى بهم تطوعا، كما في رواية لأحمد (ج3:ص160) وأبي داود. وقد ظن بعضهم هذا الاختلاف موجبا للاضطراب. والحق أنه لا اضطراب ههنا؛ لأن صلاته ? في بيت أنس وأمه وخالته وجدته، ليست حادثة واحدة، بل هي حوادث متعددة مختلفة، كما يدل عليه
رواه مسلم.
1116- (5) وعن أبي بكرة، ((أنه انتهى إلى النبي ? وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، ثم مشى إلى الصف فذكر ذلك للنبي ?، فقال: زادك الله حرصا، ولا تعد))
اختلاف سياق هذه الروايات، فلا تعارض بينها. كذا حققه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي. (رواه مسلم) من طريق شعبة عن عبدالله بن المختار عن موسى بن أنس. وأخرجه أيضا أحمد (ج3:ص258 وص261) وأبوداود والنسائي وابن ماجه من هذا الطريق، لكنهم أبهموا المرأة. فلفظ أحمد وأبي داود: أن رسول الله ? أم أنسا وامرأة منهم. ولفظ النسائي: صلى بي وبمرأة من أهلي. ولفظ ابن ماجه: صلى بامرأة من أهله وبي.

(5/55)


1116- قوله: (أنه انتهى إلى النبي ? وهو راكع) أي والحال أن النبي ? راكع. وفي رواية النسائي: أنه دخل المسجد والنبي ? راكع. وعند الطبراني. أنه دخل المسجد، وقد أقيمت الصلاة، فانطلق يسعى، وللطحاوي: جئت ورسول الله ? راكع وقد حفزني النفس، فركعت دون الصف. (فركع) أي كبر قائما وركع. (قبل أن يصل إلى الصف) ليدرك النبي ? في الركوع. (ثم مشى إلى الصف) ليس هذا عند البخاري، وإنما هو عند أحمد (ج5 ص45) وأبي داود، ولفظهما: فركع دون الصف ثم مشى إلى الصف. (فذكر) على البناء للمفعول، وقيل: معلوم. (ذلك) أي الذي فعله أبوبكرة من السعي والركوع دون الصف، والمشي إلى الصف راكعا. وفي رواية للطبراني: فلما انصرف رسول الله ? قال: أيكم دخل الصف وهو راكع؟ ولأبي داود: فلما قضى النبي ? صلاته قال: أيكم الذي ركع دون الصف ثم مشى إلى الصف؟ فقال أبوبكرة أنا. وفي رواية أخرى للطبراني فقال: من الساعي؟ وله أيضا فقال: أيكم صاحب هذا النفس، قال: خشيت أن تفوتني الركعة معك، وله أيضا في رواية في آخر الحديث: صل ما أدركت واقض ما سبقك. (زادك الله حرصا) أي على طلب الخير. (ولا تعد) أي أن منشأ هذا الفعل، هو الحرص على العبادة وإدراك فضل الإمام، والحرص على الخير مطلوب محبوب، لكن لا تعد إلى مثل هذا الفعل لأجله؛ لأن الحرص لا يستعمل على وجه يخالف الشرع، وإنما المحمود أن يأتي به على وفق الشرع. وقوله: لا تعد بفتح أوله وضم العين من العود. قال الحافظ في التلخيص (ص110): اختلف في معنى قوله: ولا تعد: فقيل: نهاه عن العود إلى الإحرام وخارج الصف، وأنكر هذا ابن حبان، وقال: أراد لا تعد في إبطاء المجيء إلى الصلاة، يعني أنه نهاه عن التأخر عن الصلاة حتى تفوته الركعة مع الامام. وقال ابن القطان الفاسي تبعا للمهلب بن أبي صفرة معناه: لا تعد إلى

(5/56)


دخولك في الصف، وأنت راكع فإنها كمشية البهائم. ويؤيده رواية حماد بن سلمة في مصنفه عن الأعلم عن الحسن عن ابي بكرة: أنه دخل المسجد، ورسول الله ? يصلي وقد ركع، فركع ثم دخل الصف وهو راكع فلما انصرف النبي ? قال: أيكم دخل في الصف وهو راكعن فقال له أبوبكرة: أنا، فقال: زادك الله حرصا ولا تعد، وقال غيره: بل معناه لا تعد إلى إتيان الصلاة مسرعا، واحتج بما رواه ابن السكن في صحيحه بلفظ: أقيمت الصلاة فانطلقت أسعى حتى دخلت في الصف، فلما قضى الصلاة قال: من الساعي آنفا، قال أبوبكرة أنا، فقال زادك الله حرصا ولا تعد- انتهى. وقال في الفتح قوله: "لا تعد" ضبطناه في جميع الروايات بفتح أوله وضم العين من العود، أي لا تعد إلى ما صنعت من السعي الشديد، ثم من الركوع دون الصف، ثم من المشي إلى الصف. وقد ورد ما يقتضي ذلك صريحا في طرق حديثه، كما تقدمت، وحكى بعض شراح المصابيح أنه روي بضم أوله وكسر العين من الإعادة، ويؤيد الروايات المشهورة ما ورد من الزيادة في آخر الحديث عند الطبراني: صل ما أدركت واقض ما سبقك. وروى الطحاوي: بإسناد حسن عن أبي هريرة مرفوعا: إذا أتى احدكم الصلاة فلا يركع دون الصف حتى يأخذ مكانه من الصف- انتهى. وقال: الجزري لا تعد بفتح التاء وضم العين وإسكان الدال من العود، أي لا تعد ثانيا إلى مثل ذلك الفعل، وهو المشي إلى الصف في الصلاة. ويحتمل أن يكون نهاه عن اقتدائه منفردا. ويحتمل أن يكون عن ركوعه قبل الوصول إلى الصف، والظاهر أنه نهى عن ذلك كله. وقد أبعد من قال: ولا تعد بضم التاء وكسر العين من الإعادة أي لا تعد الصلاة التي صليتها، وأبعد منه من قال إنه بإسكان العين وضم الدال من العدو أي لا تسرع، وكلاهما لم يأت به رواية، وإنما يحملهم على ذلك في أمثاله من تحريفهم ألفاظ النبوة وتغييرها كونهم لم يحفظوها أو ما وصلت إليهم بالرواية، فيذكرون ما يحتمله الخط لعدم معرفتهم باللفظ المروي- انتهى.

(5/57)


واخنلف في الركوع دون الصف، فذهب مالك والليث إلى أن الداخل إذا خاف فوت الركعة بأن يرفع الإمام رأسه من الركوع إن تمادى حتى يصل إلى الصف أن له أن يركع دون الصف، ثم يدب راكعا إذا كان قريبا، وحد القرب أن يصل إلى الصف قبل سجود الامام. وقيل: يدب قدر ما بين الفرجتين. وقيل: ثلاثة صفوف. وكره ذلك الشافعي. وفرق أبوحنيفة بين الجماعة والواحد، فكرهه للواحد، وأجازه للجماعة. وما ذهب إليه مالك روي عن زيد بن ثابت وابن مسعود وعبدالله بن الزبير وأبي أمامة وعطاء. وروى الطبراني في الأوسط من حديث ابن وهب عن ابن جريج عن عطاء سمع ابن الزبير على المنبر يقول: إذا دخل أحدكم المسجد، والناس ركوع فليركع حين يدخل، ثم يدب راكعا حتى يدخل في الصف، فإن ذلك السنة، قال: قد رأيته يصنع ذلك. قال ابن جريج: وقد رأيت عطاء يصنع ذلك، قال الطبراني: تفرد به ابن وهب، ولم يروه عنه غير حرملة، ولا يروى عن ابن الزبير إلا بهذا الإسناد- انتهى. قلت: قد رواه البيهقي (ج3 ص16) من

(5/58)


طريق سعيد بن الحكم بن أبي مريم عن ابن وهب. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص96) بعد غزوة للطبراني: رجاله رجال الصحيح. قلت: القول الراجح المعتمد المعول عليه هو المنع لحديث أبي بكرة، ولما روى الطحاوي من حديث أبي هريرة مرفوعا بإسناد حسن: إذا جاء أحدكم الصلاة فلا يركع دون الصف حتى يأخذ مكانه من الصف، وإليه ذهب أبوهريرة، كما أخرج عنه ابن عبدالبر وابن أبي شيبة، وبه قال الحسن وإبراهيم. واستدل بحديث أبي بكرة على أن من أدرك الإمام راكعا دخل معه، واعتد بتلك الركعة وإن لم يدرك شيئا من القيام والقراءة؛ لأن أبابكرة ركع خلف الصف مخافة أن تفوته الركعة، فدعا له بزيادة الحرص، ولم يأمره بإعادة تلك الركعة، وهذا مذهب الجمهور. وذهب أبوهريرة وأهل الظاهر وابن خزيمة وأبوبكر الضبعي والبخاري إلى أنه لا تجزئه تلك الركعة إذا فاته القيام وقراءة فاتحة الكتاب وإن أدرك الركوع مع الإمام. وقد حكى هذا المذهب الحافظ في الفتح عن جماعة من الشافعية، وقواه الشيخ تقي الدين السبكي وغيره من محدثي الشافعية، ورجحه المقبلي، قال: وقد بحثت هذه المسألة وأحطتها في جميع بحثي فقها وحديثا، فلم أحصل منها غير ما ذكرت، يعني من عدم الاعتداد بادراك الركوع فقط، وهو القول الراجح عندي، فلا يكون مدرك الركوع مدركا للركعة لما فاته من القيام وقراءة فاتحة الكتاب، وهما من فروض الصلاة وأركانها، ولحديث: ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا. قال الحافظ: قد استدل به على أن من أدرك الإمام راكعا لم يحتسب له تلك الركعة للأمر بإتمامه ما فاته؛ لأنه فاته القيام والقراءة فيه- انتهى. وأما حديث أبي بكرة فليس فيه ما يدل على ما ذهب الجمهور إليه؛ لأنه كما لم يأمر بالإعادة فلم ينقل إلينا أنه اعتد بها، والدعاء بالحرص لا يستلزم الاعتداد بها؛ لأن الكون مع الإمام مأمور به سواء كان الشيء الذي يدركه المؤتم معتمدا به أم لا، كما في حديث: إذا جئتم إلى الصلاة

(5/59)


ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئا. رواه أبوداود وغيره، على أن النبي ? قد نهى أبا بكرة عن العود إلى مثل ذلك، والاستدلال بشيء قد نهي عنه لا يصح، كذا ذكره الشوكاني في النيل. قلت: زيادة الطبراني في آخر حديث أبي بكرة بلفظ: صل ما أدركت واقض ما سبقك تدل على عدم اعتداد تلك الركعة، ويدل عليه أيضا ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن معاذ بن جبل، قال: لا أجده على حال إلا كنت عليها، وقضيت ما سبقني، فوجده قد سبقه، يعني النبي ?، ببعض الصلاة أو قال: ببعض ركعة، فوافقه فيما هو فيه، وأتى بركعة بعد السلام، فقال?: إن معاذا قد سن لكم، فهكذا فاصنعوا. وقال شيخنا في شرح الترمذي بعد ترجيح قول أهل الظاهر ومن وافقهم: أما حديث أبي بكرة فواقعه عين، يعني أنه يجري فيه من الاحتمالات ما لا يجري في الأدلة القولية التي هي نص في فرضية القيام، وقراءة فاتحة الكتاب، والأمر بإتمامه ما فاته. ورجح الشوكاني في فتاواه التي سماه ولده أحمد بن محمد بن علي الشوكاني
رواه البخاري.
?الفصل الثاني?
1117- (6) عن سمرة بن جندب، قال: ((أمرنا رسول الله ? إذا كنا ثلاثة أن يتقدمنا أحدنا) رواه الترمذي.

(5/60)


بالفتح الرباني، القول باعتداد تلك الركعة خلاف ما حققه في شرح المنتقى، حيث جعل تلك الحالة التي وقعت للمؤتم وهي إدراك إمامه راكعا مخصصة من عموم أدلة إيجاب قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة على كل مصل. واستدل لذلك بما روى ابن خزيمة والدارقطني (132) والبيهقي (ج2 ص89) عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها قبل أن يقيم الإمام صلبه. وإليه ذهب بعض أهل الحديث في عصرنا. والجواب عنه أولا أن في سنده يحيى بن حميد، وهو مجهول الحال غير معتمد في الحديث كما قال البخاري في جزء القراءة، وضعفه الدارقطني، وذكره العقيلي في الضعفاء وقد تفرد بقوله: قبل أن يقيم الإمام صلبه. قال العقيلي: وقد رواه مالك وغيره من الحفاظ أصحاب الزهري، ولم يذكروا الزيادة الأخيرة، ولعلها كلام الزهري. وقال ابن أبي عدي بعد أن أورد الحديث: تفرد بهذه الزيادة، ولا أعرف له غيره. كذا في اللسان (ج6 ص250)، وفيه أيضا قرة بن عبدالرحمن، وهو متكلم فيه، وثانيا بعد تسليم صحة الزيادة المذكورة أنه قد عرف في موضعه أن مسمى الركعة جميع أركانها وأذكارها حقيقة شرعية وعرفية، وهما مقدمتان على اللغوية، كما تقرر في الأصول. وأما التقييد بقوله: قبل أن يقيم الإمام صلبه فلدفع توهم أن من دخل مع الإمام، ثم قرأ فاتحة الكتاب، وركع الإمام قبل فراغه منها غير مدرك. وارجع لمزيد التفصيل إلى دليل الطالب على أرجح المطالب (ص339- 345) للعلامة القنوجي، فإنه قد بسط الكلام في ذلك أشد البسط. (رواه البخاري) فيه نظر؛ لأن قوله: ثم مشى إلى الصف ليس في البخاري. والحديث أخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن حبان والبيهقي (ج3 ص106).

(5/61)


1117- قوله: (أن يتقدمنا أحدنا) اختلفت نسخ الترمذي في هذا الحرف: ففي بعضها كما وقع ههنا، وكذلك نقله الجزري في جامع الأصول (ج6 ص392) وفي بعضها أن يتقدم أحدنا، وهذه توافق ما نقله المجد ابن تيمية في المنتقى، وفي بعضها أن يتقدمنا إمامنا، وفي بعضها أن يتقدم منا أحدنا. قال الطيبي: قوله: أن يتقدمنا معمول لقوله: أمرنا على حذف الباء، أي بأن يتقدمنا أحدنا. وإذا كنا ظرف يتقدمنا، وجاز تقديمه على أن المصدرية للاتساع في الظروف- انتهى. والمعنى أمرنا بأن يكون أحدنا إماما. وفيه دليل على أن موقف الاثنين مع الإمام في الصلاة خلفه. (رواه الترمذي) من حديث إسماعيل بن مسلم المكي عن الحسن عن سمرة.
1118- (7) وعن عمار، أنه أم الناس بالمدائن، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه، فتقدم
حذيفة فأخذ على يديه،

(5/62)


قال الترمذي: حديث غريب، وقد تكلم بعض الناس في إسماعيل بن مسلم من قبل حفظه- انتهى. قلت: ونقل الشوكاني في النيل عن الأطراف لابن عساكر أنه نقل عن الترمذي أنه قال فيه: حسن غريب، قال وذكر ابن العربي أنه ضعفه، وليس فيما وقفنا عليه من نسخ الترمذي إلا أنه قال: إنه حديث غريب. ولعل المراد بقول ابن العربي أنه ضعفه، أي أشار إلى تضعيفه بقوله: وقد تكلم الناس في إسماعيل بن مسلم من قبل حفظه بعد أن ساق الحديث من طريقه، وإسماعيل هذا تابعي روى عن أبي طفيل عامر بن واثلة كان فقيها مفتيا ضعيفا في الحديث من قبل حفظه، يهم في الحديث، ويخطىء ويكثر الغلط، ضعفه الجوزجانى وأبوزرعة وأبوحاتم وابن حبان وأبوعلى الحافظ. وقال يحيى بن سعيد القطان: لم يزل مخلطا، كان يحدثنا بالحديث الواحد على ثلاثة ضروب. وقال ابن عيينة: كان يخطئ، أسأله عن الحديث، فما كان يدري شيئا. وقال أبوحاتم: ضعيف الحديث مختلط. وقال أبوطالب عن أحمد: منكر الحديث. وقال عبدالله بن أحمد عن أبيه: يسند عن الحسن عن سمرة أحاديث مناكير، وقال الفلاس: كان ضعيفا في الحديث يهم فيه، وكان صدوقا يكثر الغلط. وذكره العقيلي والدولابي والساجي وابن الجارود وغيرهم في الضعفاء. وقال ابن سعد في الطبقات (ج7 ص34) : أخبرنا محمد بن عبدالله الأنصاري، قال: كان له رأي وفتوى وبصر وحفظ للحديث وغيره، وكان الناس عليه، وعلى عثمان البتي، وكان مجلس إسماعيل ويونس بن عبيد واحدا، فكنت أجىء فأجلس إليهما، فأكتب على إسماعيل، وأدع يونس لنباهة إسماعيل عند الناس لما كان شهر به من الفتوى- انتهى. وقال الحافظ في التقريب: كان فقيها ضعيف الحديث- انتهى. وحديث سمرة هذا لم أجده في غير سنن الترمذي، ولم أجد أحدا نسبه إلى غيره، وقد تكلم الناس في سماع الحسن عن سمرة، لكنه مؤيد بما تقدم من حديثي جابر وأنس في الفصل الأول.

(5/63)


1118- قوله: (عن عمار أنه أم الناس) أي صلى بالناس إماما. (بالمدائن) بالهمز مدينة قديمة على دجلة وكانت دار مملكة الأكاسرة على سبعة فراسخ من بغداد. ولفظ أبي داود عن عدي بن ثابت: حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن، فأقيمت الصلاة، فتقدم عمار. (وقام على دكان) أي مكان مرتفع وحده بضم الدال المهملة وتشديد الكاف واحد دكاكين، وهي الحوانيت فارسي معرب، والنون مختلف فيها: فمنهم من يجعلها أصيلة، ومنهم من يجعلها زائدة. فالدكان هي الدكة بفتح الدال، وهو المكان المرتفع المبني للجلوس عليه. (يصلي) بالناس. (والناس) أي المقتدون به. (أسفل منه) أي في مكان أسفل منه. (فتقدم حذيفة) أي من الصف. (فأخذ على يديه) أي أخذ حذيفة على يدي عمار وأمسكهما، فجذب عمارا من خلفه لينزل إلى أسفل ويستوي
فأتبعه عمار حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ عمار من صلاته، قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله ? يقول: إذا أم الرجل القوم فلا يقيم في مقام ارفع من مقامهم، أو نحو ذلك؟ فقال عمار: لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي.

(5/64)


مع المقتدين. (فأتبعه) بالتشديد. (عمار) أي طاوع عمار حذيفة. (حتى أنزله) أي عمارا من الدكان. (إذا أم الرجل القوم) أي صار إماما لهم يصلي بهم. (أو نحو ذلك) عطف على مفعول يقول. وأو للشك من الراوي، أي قال هذا اللفظ أو نحوه. (فقال عمار) أي في جواب حذيفة. وفي أبي داود قال عمار، أي بدون الفاء. (لذلك) أي لأجل هذا الحديث. قال القاري: أي لأجل سماعي هذا المنهي منه أولا، وتذكرى بفعلك ثانيا. (اتبعتك) أي في النزول. (حين أخذت على يدى) بالتثنية. والحديث دليل على كراهة أن يرتفع الإمام في المكان على المأموم الذي يقتدي به، سواء كان المكان قدر قامة الرجل أو دونها أو فوقها، لكن في سنده رجل مهمول، كما يتقدم. ويؤيد منع ارتفاع الإمام مطلقا ما روى أبوداود والحاكم والبيهقي عن همام أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبومسعود بقيمصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى قد ذكرت حين مددتني. وقد سكت عنه أبوداود والمنذري. وقال النووي رواه أبوداود باسناده صحيح. وقال الحافظ في التلخيص (ص128): وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. وفي رواية للحاكم التصريح برفعه. وفيه أن حذيفة هو الإمام، وأبومسعود هو الذي أخذ بقيمصه فجذبه. ولا تخالف لأنهما قضيتان، ولا بعد أن حذيفة وقع له ذلك مع أبي مسعود قبل واقعته مع عمار. ويؤيد المنع أيضا ما روى الدارقطني والحاكم عن أبي مسعود، قال: نهى رسول الله ? أن يقوم الإمام فوق شيء، والناس خلفه، يعني أسفل منه. ذكره الحافظ في التلخيص وسكت عنه. وسكت عنه الحاكم والذهبي أيضا، وسيأتي هذا الحديث في آخر باب المشي مع الجنازة والصلاة عليها، قال الشوكاني في النيل: ظاهر النهي في حديث أبي مسعود أن ذلك محرم لو لا ما ثبت عنه ? من الارتفاع على المنبر، قال: والحاصل من الأدلة منع ارتفاع الإمام على المؤتمين من غير فرق بين المسجد وغيره، وبين القامة ودونها

(5/65)


وفوقها؛ لقول أبي مسعود كانوا ينهون عن ذلك، وقول أبي مسعود أيضا: نهى رسول الله ?-الحديث. وأما صلاته ? على المنبر فقيل: إنما فعل ذلك لغرض التعليم كما يدل عليه قوله الآتي: ولتعلموا صلاتى، وغاية ما فيه جواز وقوف الإمام على محل أرفع من المأمومين إذا أراد تعليمهم. قال ابن دقيق العيد: فيه أي في حديث سهل بن سعد الآتي دليل على جواز صلاة الإمام على أرفع مما عليه المأموم لقصد التعليم. فأما من غير هذا القصد فقد قيل: بكراهته، قال ومن أراد أن يجيز هذا الارتفاع من غير قصد التعليم فاللفظ لا يتناوله. والقياس لا يستقيم؛ لانفراد الأصل بوصف معتبر يقتضي المناسبة اعتباره- انتهى. على
رواه أبوداود.
1119- (8) وعن سهل بن سعد الساعدي، أنه سئل: من أي شيء المنبر؟ فقال: هو من أثل الغابة، عمله

(5/66)


أنه قد تقرر في الأصول أن النبي ? إذا نهى عن شيء نهيا يشمله بطريق الظهور، ثم فعل ما يخالفه كان الفعل مخصصا له من العموم دون غيره، حيث لم يقم دليل على التأسي به في ذلك الفعل، فلا تكون صلاته ? معارضة للنهي عن الارتفاع باعتبار الأمة، وهذا على فرض تأخر صلاته على المنبر عن النهي من الارتفاع، وعلى فرض تقدمها أو التباس المتقدم من المتأخر فيه الخلاف المعروف في الأصول في التخصيص بالمتقدم والملتبس- انتهى. كلام الشوكاني في النيل. وقال في السيل الجرار: في هذين الحديثين دليل على منع الإمام من الارتفاع عن المؤتم، ولكن هذا النهي يحمل على التنزيه لحديث صلاته ? على المنبر، ومن قال: إنه ? فعل ذلك للتعليم كما وقع في آخر الحديث فلا يفيده ذلك؛ لأنه لا يجوز له في حال التعليم إلا ما هو جائز في غيره، ولا يصح القول باختصاص ذلك بالنبي ?. وقد جمعنا في هذا البحث رسالة مستقلة جوابا عن سؤال بعض الأعلام، فمن أحب تحقيق المقام فليرجع إليها- انتهى. قلت: وذهب إلى الجواز مطلقا من غير كراهة ابن حزم، كما صرح به في المحلى (ج4 ص84) مستدلا بحديث سهل قال: وهو قول الشافعي وأبي سليمان، وبمثل قولنا يقول أحمد بن حنبل والليث بن سعد والبخاري وغيرهما- انتهى. والراجح عندي هو المنع. وأما حديث سهل فإنما فعل ذلك للتعليم، أي لغرض أن لا يخفي على أحد صلاته، وهذا لا يثبت منه الجواز مطلقا، والله أعلم. واختلفوا في قدر الارتفاع الممنوع. فقيل: قدر القامة. وقيل: قدر الذراع. وقيل: ما يقع به الامتياز، وهو الأوجه. ذكره الكمال وغيره. وكذا في الدر المختار. (رواه أبوداود) ومن طريقه أخرج البيهقي (ج3 ص109) وسكت عنه أبوداود، وقد تقدم أن في سنده رجلا مجهولا، لكنه مؤيد بحديثي أبي مسعود.

(5/67)


1119- قوله: (عن سهل) بسكون الهاء. (بن سعد) بسكون العين الساعدي. (أنه سئل) رواه البخاري من طريق أبي حازم سلمة بن دينار، قال: سألوا سهل بن سعد. (من أي شيء المنبر) النبوي المدني. فاللام فيه للعهد، إذ السؤال عن منبره ?. وفي رواية: أن رجالا أتوا سهل بن سعد الساعدي، وقد امتروا في المنبر ثم عوده فسألوه عن ذلك. (هو من أثل الغابة) وفي رواية، من طرفاء الغابة. والأثل بفتح الهمزة وسكون المثلة هو الطرفاء. وقيل: شجر يشبه الطرفاء بسكون الراء والمد إلا إنه أعظم منه. قال القسطلاني: الأثل شجر كالطرفاء لا شوك له، وخشبة جيد، يعمل منه القصاع والأواني، وورقه أشنان يغسل به القصارون؛ والغابة بالمعجمة والموحدة موضع معروف قرب المدينة من العوالي من جهة الشام، وأصلها كل شجر ملتف. (عمله) أي المنبر.
فلان مولى فلانة لرسول الله ?، وقام عليه رسول الله ? حين عمل ووضع، فاستقبل القبلة وكبر وقام الناس خلفه، فقرأ وركع، وركع الناس خلفه، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقري، فسجد على الأرض، ثم عاد إلى المنبر، ثم قرأ، ثم ركع، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقري، حتى سجد بالأرض)).

(5/68)


(فلان) بضم الفاء بالتنوين. واختلف في اسمه: فقيل: ميمون، وقيل: باقوم الرومي، وقيل: باقول، وقيل: صباح، وقيل: قبيصة المخزومي، وقيل: كلاب، وقيل: ميناء، وقيل: تميم الداري. قال الحافظ:وأشبه الأقوال بالصواب وأقربها قول من قال: هو ميمون لكون الإسناد من طريق سهل بن سعد أيضا. وأما الأقوال الأخر فلا اعتداد بها لوهائها. ويبعد جدا أن يجمع بينهما بأن النجار كانت له أسماء متعددة، وأما احتمال كون الجميع اشتركوا في عمله فيمنع منه قوله في كثير من الروايات لم يكن بالمدينة إلا نجار واحد، إلا أن كل يحمل على أن المراد بالواحد الماهر في صناعته، والبقية أعوانه فيمكن. (مولى فلانة) بعدم الصرف للثأنيث والعلمية. قال الحافظ: لا يعرف اسمها لكنها أنصارية، وقيل: اسمها عائشة، قاله البرماوى كالكرمانى. ورواه الطبراني في الأوسط من حديث جابر بلفظ: وأمرت عائشة فصنعت له منبره، لكن إسناده ضعيف. ولو صح لما دل على أن عائشة هى المرادة في حديث سهل هذا إلا بتعسف. وكان منبر النبي ? ثلاث درجات، واستمر على ذلك مدة الخلفاء الراشدين، ثم زاده مروان في خلافة معاوية ست درجات من أسفله، فهي من جملة ما أحدث في المساجد من البدع المكروهة. (لرسول الله ) أي لأجله. (وقام عليه) أي على المنبر. قال الحافظ: كانت صلاته على الدرجة العليا من المنبر. (حين عمل ووضع) بالبناء للمفعول فيهما أي حين صنع ووضع في مكانه المعروف بالمسجد. (وكبر) أي للتحريمة. (وقام الناس خلفه) اقتداء به. (ثم رجع القهقري) بالقصر منصوب على أنه مفعول مطلق بمعنى الرجوع إلى خلف، أي رجع الرجوع الذي يعرف بذلك، وإنما فعل بذلك لئلا يولى ظهره القبلة. (فسجد على الأرض) إلى جنب الدرجة السفلى من المنبر. (حتى سجد بالأرض) قال القسطلاني: لاحظ في قوله: على الأرض معنى الاستعلاء، وفي قوله: بالأرض معنى الإلصاق- انتهى. قيل: قوله عمله الخ زيادة في الجواب، كأنه قيل: المهم أن يعرف هذه

(5/69)


المسألة الغريبة، وإنما ذكر حكاية صنع الصانع تنبيها على أنه عارف بتلك المسألة وما يتصل بها من الأحوال والفوائد. والحديث قد استدل به البخاري على جواز الصلاة على المنبر والخشب. قال الحافظ: وفيه جواز اختلاف موقف الإمام والمأموم في العلو والسفل، وقد صرح بذلك البخاري في حكايته عن شيخه علي بن المديني عن أحمد بن حنبل، ولابن دقيق العيد في ذلك بحث كما تقدم، وفيه دليل على جواز العمل اليسير في الصلاة، لكن
هذا لفظ البخاري، وفي المتفق عليه نحوه، وقال في آخره: فلما فرغ أقبل على الناس، فقال: (( أيها الناس! إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتى)).
1120- (9) وعن عائشة، قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرته،

(5/70)


فيه إشكال على من حدد الكثير من العمل بثلاث خطوات، فإن منبر النبي ? كان ثلاث درجات، والصلاة كانت على العليا، ومن ضرورة ذلك أن يقع ما أوقعه من الفعل على الأرض بعد ثلاث خطوات فأكثر وأقله ثلاث. والذي يعتذر به عن هذا أن يدعى عدم التوالى بين الخطوات، فإن التوالى شرط في الإبطال، أو ينازع في كون قيام هذه الصلاة فوق الدرجة العليا، ذكره ابن دقيق العيد. (هذا لفظ البخاري) في باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب. وأشار المصنف بهذا إلى أن هذا الحديث من الفصل الأول، وإنما أورده هنا تأسيا بالمصابيح، حيث ذكره في الحسان ليبين أنه مقيد لما قبله، يعني أن ارتفاع الإمام عن المأموم مكروه إلا لغرض التعليم. (وفي المتفق عليه نحوه) أخرجه البخاري في باب الخطبة على المنبر من كتاب الجمعة، وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي. (وقال) أي الراوى (في آخره) أي في آخر الحديث: المتفق عليه. (فلما فرغ) أي من الصلاة. (أقبل على الناس) بوجهه الشريف. (فقال) مبينا لأصحابه حكمة ذلك. (إنما صنعت هذا) أي ما ذكر من الصلاة على المكان المرتفع. (لتأتموا بي) أي لتقتدوا بي في الصلاة أولا. (ولتعلموا) بكسر اللام وفتح المثناة الفوقية والعين وتشديد اللام، أي لتتعلموا، فخذفت إحدى التائين تخفيفا (صلاتى) أي كيفيتها ثانيا. وقد عرف منه أن الحكمة في صلاته في أعلى المنبر ليراه من قد يخفى عليه رؤيته إذا صلى على الأرض. وفيه جواز قصد تعليم المأمومين أفعال الصلاة بالفعل.

(5/71)


1120- قوله: (صلى رسول الله ? ) أي التراويح، قاله القاري. (في حجرته ) اختلف في تفسيره الحجرة، فالأكثر على أن المراد بها المكان الذي اتخذه حجرة في المسجد من الحصير للاعتكاف في رمضان. وقيل: المراد حجرته بيته، فقد روى البخاري من حديث عبدة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة عن عائشة، قالت: كان رسول الله ? يصلي من الليل في حجرته. وجدار الحجرة قصير، فرأى الناس شخص النبي ? ، فقام أناس يصلون بصلاته-الحديث. قال الحافظ: قوله: في حجرته ظاهره أن المراد حجرة بيته. ويدل عليه ذكر جدار الحجرة. وأوضح منه رواية حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عند أبي نعيم بلفظ: كان يصلي في حجرة من حجر أزواجه. ويحتمل أن المراد الحجرة التي كان احتجرها في المسجد بالحصير، كما في الرواية التي بعد هذه، يعني ما رواه البخاري وغيره من حديث أبي سلمة عن عائشة أن النبي ? كان له حصير يبسطه بالنهار ويحتجره بالليل،
والناس يأتمون به من وراء الحجرة))

(5/72)


فثاب إليه أناس فصفوا، قال الحافظ: غرض البخاري من إيراده بيان أن الحجرة المذكورة في الرواية التي قبل هذه كانت حصيرا. وقال العيني: لعل مراده منه بيان أن الحجرة المذكورة في الحديث المذكور قبل هذا كانت حصيرا، والأحاديث يفسر بعضها بعضا، وكل موضع حجر عليه فهو حجرة- انتهى. وفي حديث زيد بن ثابت الذي رواه البخاري بعد رواية عائشة السابقة، أن رسول الله ? اتخذ حجرة من حصير في رمضان فصلى فيها ليالي، فصلى بصلاته ناس من أصحابه، فلما علم بهم جعل يقعد- الحديث. ولأحمد وأبي داود ومحمد بن نصر عن أبي سلمة عن عائشة أنها هي التي نصبت له الحصير على باب بيتها. قال الحافظ: فأما أن يحمل على التعدد أو على المجاز في الجدار وفي نسبته الحجرة إليها. وقال العيني بعد ذكر حديث زيد بن ثابت: وجاء في رواية: احتجر بخصفة أو حصير في المسجد. وفي رواية: صلى في حجرتي، روته عمرة عن عائشة، وفي رواية: فأمرني فضربت له حصيرا يصلي عليه. ولعل هذه كانت في أحوال- انتهى. قلت: الراجح عندي هو الحمل على التعدد. (والناس يأتمون به) أي يقتدون به. (من وراء الحجرة) أي خلفها وفيه دليل على أن الحائل بين الإمام والمؤتمين غير مانع من صحة الصلاة؛ لأن مقتضاه أنهم كانوا يقتدون به، وهو داخل الحجرة، وهم خارجها، وقد بوب له أبوداود: باب الرجل يأتم بالامام، وبينهما جدار، وبوب البخاري على روايتي عمرة وأبي سلمة عن عائشة، وحديث زيد بن ثابت: باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة، وذكر فيه قول الحسن: لا بأس أن تصلي وبينك وبينه نهر، وقول أبي مجلز (لاحق بن حميد التابعي المشهور): يأتم بالإمام وإن كان بينهما طريق أو جدار إذا سمع تكبير الامام. قال العيني: جواب إذا محذوف تقديره لا يضره ذلك، والمسألة فيها خلاف، لكن ما في الباب يدل على أن ذلك جائز، وهو مذهب المالكية أيضا، وهو المنقول عن أنس وأبي هريرة وابن سيرين وسالم. وكان عروة يصلي بصلاة

(5/73)


الإمام، وهو في دار بينها وبين المسجد طريق وقال مالك: لا بأس أن يصلي وبينه وبين الإمام نهر صغير أو طريق، وكذلك السفن المتقاربة، يكون الإمام في إحداها تجزيهم الصلاة معه. وكره ذلك طائفة، وروي عن عمر بن الخطاب إذا كان بينه وبين الإمام طريق أو حائط أو نهر فليس هو معه. وكره الشعبي وإبراهيم أن يكون بينهما طريق. وقال أبوحنيفة لا يجزيه إلا أن تكون الصفوف متصلة قي الطريق، وبه قال الليث والأوزاعي والأشهب- انتهى. قلت: مذهب الحنيفة أنه إنما يجوز ذلك بثلاثة شروط: الأول: أن لا يلتبس على المأموم حال الإمام، والثاني: أن لا يختلف المكان بينهما، والمسجد في حكم مكان واحد، والثالث: وهو تتمة الثاني أن لا يمنع التبعية في المكان. وأجابوا عن الأحاديث المذكورة بأنه لم يوجد فيها ما يخالف هذه الشروط؛ لأن المسجد كله مكان واحد. وفي المكان الواحد عند حيلولة الجدار يكفي علم انتقالات الإمام فقط ولو بمجرد صوته، وهو المفتى به، ولا يحتاج إلى المنافذ أو غيرها، واعتبروا في الصحراء تباعد قدر ثلاث صفوف إذ لم تتصل الصفوف، فإن كان بينهما طريق
رواه أبوداود.
?الفصل الثالث ?
1121- (10) عن أبي مالك الأشعري، قال: (( ألا أحدثكم بصلاة رسول الله ?؟ قال: أقام الصلاة، وصف الرجال، وصف خلفهم الغلمان، ثم صلى بهم، فذكر صلاته، ثم قال: هكذا صلاة ـ قال عبدالأعلى:

(5/74)


أو نهر تجرى فيه السفينة منعوا مطلقا، وعدوه كأنه مكان مختلف، واستدلوا لذلك بأثر عمر الذي ذكره العيني بلا سند. وقال ابن حجر: ليس في الحديث دليل لما قاله عطاء وغيره أن الشرط في صحة القدوة بشخص علمه بانتقالاته لا غير، أما أولا فلأنه لو اكتفى بذلك لبطل السعي المأمور به والدعاء إلى الجماعة، وكان كل أحد يصلي في بيته وسوقه بصلاة الإمام في المسجد وهو خلاف الكتاب والسنة، فاشترط اتحاد موقف الإمام والمأموم على ما فصل في الفروع؛ لأنه من مقاصد الاقتداء اجتماع جمع في مكان واحد عرفا، كما عهد عليه الجماعات في العصور الخالية، ومبنى العبادات على رعاية الاتباع. وأما ثانيا فلأن المراد بالحجرة كما قالوه المحل الذي اتخذه عليه السلام في المسجد من حصير حين أراد الاعتكاف. ويؤيده الخبر الصحيح أنه عليه السلام اتخذ حجرة من حصير صلى ليالي فيها- انتهى. (رواه أبوداود) في أواخر أبواب الجمعة من طريق يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة، وهو حديث صحيح سكت عنه أبوداود والمنذري، وقد أخرجه البخاري أيضا بنحوه، كما تقدم.

(5/75)


1121- قوله: (ألا أحدثكم) يحتمل أن تكون ألا للتنبيه، وهو الظاهر. ويحتمل أن تكون الهمزة للاستفهام ولا للنفي. (قال) أي أبومالك. (أقام) وفي أبي داود: فأقام، وكذا في جامع الأصول (ج6 ص391) أي أمر رسول الله ? بإقامة الصلاة أو أقامها بنفسه. (وصف الرجال) وفي أبوداود: فصف الرجال، وكذلك نقله الجزري في جامع الأصول، أي صفهم رسول الله ? صفا مقدما، يقال صففت القوم فاصطفوا. (وصف خلفهم) أي خلف الرجال. (الغلمان) الصبيان والولدان، زاد أحمد في روايته: وصف النساء خلف الولدان. (ثم صلى بهم) أي بالرجال والغلمان. (فذكر) أى وصف الراوي أي أبومالك (صلاته) أي كيفية صلاة رسول الله ?. وهذا قول أبوداود. اختصر الحديث. وأخرجه أحمد في مسنده مطولا (ج5 ص341، 342، 343، 344). (ثم قال) أي رسول الله ? وهو عطف على محذوف، أي قال أبومالك قال رسول الله ? كيت وكيت، ثم قال قال رسول الله ?: هكذا صلاة أمتي. (هكذا) أي مثل ما صليت لكم (صلاة قال عبدالأعلى) أي الراوي
لا أحسبه إلا قال - أمتي)). رواه أبوداود.
1122- (11) وعن قيس بن عباد، قال: (( بينا أنا في المسجد، في الصف المقدم، فجبذني رجل من خلفي جبذة، فنحانى، وقام مقامي، فوالله ما عقلت صلاتي.

(5/76)


عن قرة عن خالد عن بديل بن مسيرة عن شهر بن حوشب عن عبدالرحمن بن غنم عن أبي مالك. وعبدالأعلى هذا هو عبدالأعلى بن عبدالأعلى البصري السامي بالمهملة من بني سامة بن لوي، أبومحمد، وكان يغضب إذا قيل له أبوهمام، ثقة. (لا أحبسه) أي شيخي قرة. (إلا قال أمتي) أي هكذا صلاة أمتي. والمعنى أنه ينبغي لهم أن يصلوا هكذا. وفي رواية البيهقي: ثم قال: هكذا صلاة، قال عبدالأعلى: لا أحبسه إلا قال: صلاة النبي ?. ولأحمد من طريق عبدالحميد بن بهرام الفزاري عن شهر بن حوشب: فلما قضى. (أى أبومالك) صلاته أقبل إلى قومه بوجهه فقال: احفظوا تكبيري، وتعلموا ركوعي وسجودي، فإنها صلاة رسول الله ? التي كان يصلي لنا. والحديث يدل على ترتيب صفوف الرجال والصبيان والنساء، بأن تكون صفوف الرجال مقدمة، ثم صفوف الصبيان، ثم صفوف النساء. قال السبكى: هذا إذا كان الغلمان اثنين فصاعدا، فإن كان صبي واحد دخل مع الرجال ولا ينفرد خلف الصف. ويدل على ذلك حديث أنس المتقدم في الفصل الأول، فإن اليتيم لم يقف منفردا بل صف مع أنس. وقال أحمد بن حنبل: يكره أن يقوم الصبي مع الناس في المسجد خلف الإمام إلا من قد احتلم وأنبت وبلغ خمس عشرة سنة. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا رأى صبيا في الصف أخرجه، وكذلك عن أبي وائل وزر بن حبيش. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري وأخرجه أحمد والبيهقي (ج3 ص97) وفي سنده عندهم جميعا شهر بن حوشب، وفيه مقال.

(5/77)


1122- قوله: (عن قيس بن عباد) بضم العين المهملة وتخفيف الباء الموحدة الضبعي أبي عبدالله البصري، ثقة من كبار التابعين، مخضرم، مات بعد الثمانين، ووهم من عده في الصحابة، كذا في التقريب، قدم المدينة في خلافة عمر، وروى عنه وعن علي وأبي ابن كعب وغيرهم، كان من كبار الصالحين، وثقة ابن سعد والعجلي والنسائي وابن خراش، وذكره ابن مخنف عن شيوخه فيمن قتله الحجاج ممن خرج مع ابن الأشعث، وذكره ابن حبان في الثقات من التابعين. (بينا أنا في المسجد) النبوي. (في الصف المقدم، فجبذني) قال الطيبي: مقلوب جذبني، أي جرني. (فنحاني) بتشديد الحاء المهملة، أي بعدني وأخرني عن الصف المقدم. (وقام مقامي) أي مكاني. (فو الله ما عقلت صلاتي) أي ما دريت كيف أصلي وكم صليت لما فعل بي ما فعل، ولما حصل عندي بسبب تأخري عن المكان الفاضل مع سبقي إليه واستحقاقي له، فانتفاع العقل مسبب عما قبله، والقسم معترض.
فلما انصرف. إذا هو أبي بن كعب.فقال: يا فتى! لا يسوءك الله، إن هذا عهد من النبي ? إلينا أن نلبه، ثم استقبل القبلة فقال: هلك أهل العقد ورب الكعبة، ثلاثا، ثم قال: والله ما عليهم آسى، ولكن آسى على من أضلوا. قلت: يا أبا يعقوب! ما تعني بأهل العقد؟ قال: الأمراء)). رواه النسائي.

(5/78)


(فلما انصرف) أي ذلك الرجل الذي جبذني. (إذا هو أبي بن كعب) من أكابر الصحابة (فقال) أي لي إذ فهم مني التغير بسبب ما فعله معي تطيبا لخاطري. (لا يسؤك الله) قال الطيبي: كان ظاهر لا يسؤك ما فعلت بك. ولما كان ذلك من أمر الله وأمر رسوله أسنده إلى الله مزيدا للتسلية- انتهى. والظاهر: أن معناه لا يحزنك الله بي وبسبب فعلي، من ساء الأمر فلانا، أي أحزنه. ثم ذكر جملة مستأنفة مبينة لعلة ما فعل اعتذار إليه. (إن هذا) أي ما فعلت. (عهد من النبي ?) أي وصية أو أمر منه يريد قوله: ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى. وفيه أن قيسا لم يكن منهم، ولذلك نحاه. (إلينا أن نلبه) أي ومن يقوم مقامه من الأئمة. (ثم اسقبل) أي أبي. (هلك أهل العقد) بضم العين وفتح القاف يعني الأمراء، أي لأن عليهم رعاية أمور المسلمين دنياهم وأخراهم حتى رعاية صفوفهم في الصلاة، ورعاية الموقف فيها. قال الجزري في النهاية يعني أصحاب الولايات على الأمصار من عقد الألوية للأمراء، وروى العقدة يريد البيعة المعقودة للولاة. (ثلاثا) أي قال مقوله ثلاثا. ( ما عليهم آسى) بمد الهمزة آخره ألف، أي ما أحزن من الأسى مفتوحا ومقصورا، وهو الحزن. (ولكن آسى على من أضلوا) قال الطيبي: أي لا أحزن على هؤلاء الجورة، بل أحزن على أتباعهم الذين أضلوهم. لعله قال ذلك تعريضا بأمراء عهده. (قلت) هذا مقولة محمد بن عمر بن علي المقدمي شيخ النسائي. (يا با يعقوب) وفي بعض النسخ: يا أبا يعقوب بكتابة الهمزة موافقا لما في النسائي. وهو كنية يوسف بن يعقوب السدوسي مولاهم السلعي البصري الضبعي، وثقه أحمد. وقال أبوحاتم: صدوق صالح الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات، مات سنة إحدى ومائتين. (قال الأمراء) بالنصب على تقدير أعنى، وبالرفع بتقدير "هم". قال ابن حجر: أي الأمراء على الناس لا سيما أهل الأمصار، سموا بذلك لجريان العادة بعقد الألوية لهم عند التولية، وفعل أبي هذا مؤيد بما روي

(5/79)


عن أنس، قال: كان رسول الله ? يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليأخذوا عنه، أخرجه أحمد وابن ماجه، وبما روي عن سمرة مرفوعا: ليقم الأعراب خلف المهاجرين والأنصار ليقتدوا بهم في الصلاة، أخرجه الطبراني في الكبير من حديث الحسن عن سمرة. قال البيهقي: وفيه سعيد بن بشير، وقد اختلف في الاحتجاج به، وبما روي عن ابن عباس مرفوعا: لا يتقدم في الصف الأول أعرابي ولا عجمي ولا غلام لم يحتلم، وفي إسناده ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف. وفي هذه الأحاديث مشروعية تقدم أهل العلم والفضل ليأخذوا عن الإمام ويأخذ عنهم غيرهم؛ لأنهم أمس بضبط صفة الصلاة وحفظها ونقلها وتبليغها وتنبيه الإمام إذا احتيج إليه، والاستخلاف إذا احتيج إليه. (رواه النسائي).
(26) باب الإمامة
?الفصل الأول?
1123- (1) عن أبي مسعود، قال: قال رسول الله ?: (( يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله تعالى، فإن
كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء،
وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص140) وابن خزيمة في صحيحه. ولفظ أحمد: قال قيس بن عباد: أتيت المدينة للقى أصحاب محمد ? ولم يكن فيهم رجل ألقاه أحب إلى من أبي، فأقيمت الصلاة فخرج عمر بن الخطاب مع أصحاب رسول الله ?، فقمت في الصف الأول، فجاء رجل فنظر في وجوه القوم فعرفهم غيري، فنحاني وقام في مكاني، فما عقلت صلاتي، فلما صلى قال: يا بني لا يسؤك الله، فإني لم آتك الذي أتيتك بجهالة، ولكن رسول الله ? قال لنا: كونوا في الصف الذي يليني، وإني نظرت في وجوه القوم فعرفتهم غيرك، ثم حدث فما رأيت الرجال متحت أعناقها إلى شيء متوجها إليه، قال فسمعته يقول: هلك أهل العقدة ورب الكعبة، إلا لا عليهم آسى، ولكن آسى على من يهلكون من المسلمين، وإذا هو أبي.
(باب الإمامة) أي أحكام الإمامة في الصلاة وصفة الأئمة، وهي مصدر أم القوم في صلاتهم.

(5/80)


1123- قوله: (يؤم القوم) صيغة خبر بمعنى الأمر، أي ليؤمهم. (أقرأهم لكتاب الله) اختلف في المراد منه: فقيل: أفقههم في القرآن وأعلمهم بمعانيه وأحكامه. وقيل: المراد أحسنهم وأجودهم قراءة للقرآن وإن كان أقلهم حفظا. وقيل: هو على ظاهره، فالمراد به أكثرهم حفظا للقرآن، ويدل على ذلك ما رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح عن عمرو بن سلمة: انطلقت مع أبي إلى النبي ? بإسلام قومه، فكان فيما أوصانا: ليؤمكم أكثركم قرآنا، فكنت أكثرهم قرآنا، فقدموني. وأخرجه أيضا البخاري، وسيأتي في الفصل الثالث. قال القاري: بعد ذكر قول ابن الملك، أي أحسنهم قراءة لكتاب الله، والأظهر أن معناه أكثرهم قراءة بمعنى أحفظهم للقرآن، كما ورد أكثرهم قرآنا- انتهى. قلت: هذا هو الراجح عندي لحديث عمرو بن سلمة، والروايات يفسر بعضها بعضا. (فإن كانوا) أي القوم. (في القراءة) أي في العلم بها أو في حسنها أو مقدارها على اختلاف الأقوال (سواء) أي مستوين. قال الشوكاني: أي استووا في القدر المعتبر من القراءة إما في حسنها أو في كثرتها وقلتها. وفي رواية: لمسلم فإن كانت قراءتهم سواء. (فأعلمهم بالسنة) قال الطيبي: أراد بها الأحاديث. وقال السندي: حملوها على أحكام الصلاة. (فإن كانوا) أي بعد استوائهم في القراءة. (في السنة) أي بالعلم بها.
قأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سنا،

(5/81)


(سواء فأقدمهم هجرة) أي انتقالا من مكة إلى المدينة قبل الفتح، فمن هاجر أولا فشرفه أكثر ممن هاجر بعده، قال تعالى: ?لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح? الآية [57: 10]، قاله القاري. وقيل: هذا شامل لمن تقدم هجرة سواء ما كان في زمنه ? أو بعده كمن يهاجر من دار الكفار... إلى دار الإسلام. وأما حديث لا هجرة بعد الفتح فالمراد من مكة إلى المدينة؛ لأنهما جميعا صارا دار اسلام. قال الشوكاني: الهجرة المقدم بها في الإمامة لا تختص بالهجرة في عصره ? بل هي لا تنقطع إلى يوم القيامة، كما وردت بذلك الأحاديث، وقال به الجمهور. وأما حديث: لا هجرة بعد الفتح فالمراد بعد الهجرة من مكة إلى المدينة أو لا هجرة بعد الفتح. فضلها كفضل الهجرة قبل الفتح. وهذا لا بد منه للجمع بين الأحاديث. (فإن كانوا) أي بعد استوائهم فيما سبق من القراءة والسنة. (في الهجرة سواء فأقدمهم سنا) وفي رواية أكبرهم سنا، أي يقدم في الإمامة من كبر سنه في الإسلام؛ لأن ذلك فضيلة يرجح بها. قلت: ويؤيده ما في رواية لمسلم: فأقدمهم سلما، أي إسلاما، يعني أن من تقدم اسلامه يقدم على من تأخر إسلامه. والحديث دليل لمن قال يقدم الأقرأ في الإمامة على الأعلم. وإليه ذهب أحمد وأبويوسف وإسحاق. وقال مالك والشافعي وأبوحنبفة: الأعلم مقدم على الأقرأ، قال العيني: اختلف العلماء فيمن هو أولى بالإمامة: فقالت طائفة: الأفقه، وبه قال أبوحنيفة ومالك والجمهور، وقال أبويوسف وأحمد واسحاق: الأقرأ، وهو قول ابن سيرين وبعض الشافعية، قال العيني: وقال أصحابنا: أولى الناس بالإمامة أعلمهم بالسنة أي بالفقه والأحكام الشرعية إذا كان يحسن من القراءة ما تجوز به الصلاة، وهو قول الجمهور، وإليه ذهب عطاء والأوزاعي ومالك والشافعي. وقال السيد محمد مرتضى الزبيدي الحنفي في شرح الأحياء: قال أصحابنا يقدم الأعلم ثم الأقرأ، وهوقول أبي حنيفة ومحمد، واختاره صاحب الهداية وغيره من أصحاب

(5/82)


المتون وعليه أكثر المشائخ. وقال أبويوسف: يقدم الأقرأ ثم الأعلم واختاره جمع من المشائخ، ومن الشافعية ابن المنذر، كما نقله النووى في المجموع- انتهى. واستدل الشافعي ومن وافقه بأن الذي يحتاج إليه من القراءة مضبوط، والذي يحتاج إليه من الفقه غير مضبوط، وقد تعرض في الصلاة أمور لا يقدر على مراعاتها إلا كامل الفقه، فيقدم الأفقه على الأقرأ. قال البغوي: لأن الفقيه يعلم ما يجب من القراءة في الصلاة؛ لأنه محصور، وما يقع فيها من الحوادث غير محصور، وقد يعرض للمصلي ما يفسد صلاته، وهو لا يعلم إذا لم يكن فقيها. وقال صاحب الهداية: القراءة يفتقر إليها لركن واحد، والعلم لسائر الأركان، أي فلأعلم أولى بالإمامة من الأقرأ. قلت: هذا كله تعليل في مقابلة النص، فلا يلتفت إليه، بل يرد على قائله كائنا من كان. واستدل لهم أيضا بقوله ?: مروا أبا بكر أن يصلي بالناس، وسيأتي في باب المأموم من المتابعة

(5/83)


فإن تقديمه ? في مرض موته أبا بكر في الصلاة على غيره مع قوله: أقرؤكم أبي يدل على أنه يقدم الأعلم على الأقرأ لكون أبا بكر أعلمهم. قال ابن الهمام: أحسن ما يستدل به لمختار الجمهور حديث: مروا أبا بكر فليصل، وكان ثم من هو أقرأ منه لا أعلم. دليل الأول قوله عليه السلام: أقرؤكم أبي، ودليل الثاني قول أبي سعيد: كان أبوبكر أعلمنا، وهذا آخر الأمر من رسول الله ?، فيكون المعول عليه. وقال العيني: حديث أبي مسعود كان في أول الأمر، وحديث أبي بكر في آخر الأمر، وقد تفقهوا في القرآن، وكان أبوبكر أعلمهم وأفقههم في كل أمر- انتهى. قلت: قصة إمامة أبي بكر في مرض موته ? واقعة عين غير قابلة للعموم بخلاف حديث أبي مسعود، فإنه تقرير قاعدة كلية تفيد التعميم، فلا يصح الاستدلال بقصة أبي بكر على تقديم الأعلم على الأقرأ يجعلها ناسخة لحديث أبي مسعود، قال صاحب البذل: قصة الإشارة إلى الاستخلاف ربما تكون مخصصة على أنها واقعة حال لا عموم لها، ومن ثم اختار جمع من المشائخ قول أبي يوسف- انتهى. وأجاب صاحب الهداية وغيره عن حديث أبي مسعود بأنه خرج على ما كان عليه حال الصحابة من أن أقرأهم كان أعلمهم"؛ لأنهم كانوا في ذلك الوقت يتلقونه بأحكامه، فقدم في الحديث، ولا كذلك في زماننا، فقدمنا الأعلم. قال الشافعي: المخاطب بذلك الذين كانوا في عصره، كان أقرأهم أفقههم، فإنهم كانوا يسلمون كبارا، ويتفقهون قبل أن يقرأوا، فلا يوجد قارىء منهم إلا وهو فقيه، وقد يوجد الفقيه، وليس بقارىء. ورد هذا الجواب بأنه لو كان المراد بالأقرأ في قوله: يؤم القوم أقرأهم هو الأعلم لكان يلزم تكرار الأعلم في الحديث، ويكون التقدير يؤم القوم أعلمهم، فإن تساووا فأعلمهم. وقال الأمير اليماني: ولا يخفى أنه يبعد هذا الجواب قوله: فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإنه دليل على تقديم الأقرأ مطلقا. والأقرأ على ما فسروه به هو الأعلم بالسنة، فلو أريد به ذلك

(5/84)


لكان القسمان قسما واحدا. وقال الزبيدي: وأما تأويل المخالف للنص أي لحديث أبي مسعود بأن الأقرأ في ذلك الزمان كان الأفقه، فقد رد هذا التأويل قوله عليه السلام: فأعلمهم بالسنة، ولكن قد يجاب عنه بأن المراد بالأقرأ في الخبر الأفقه في القرآن فقد استووا في فقهه، فإذا زاد أحدهم بفقه السنة فهو أحق، فلا دلالة في الخبر على تقديم الأقرأ مطلقا، بل على تقديم تقديم الأقرأ الأفقه في القرآن على من دونه، ولا نزاع فيه. قال العيني: المراد من قوله: يؤم القوم أقرأهم أي أعلمهم، يعني أعلمهم بكتاب الله دون السنة، ومن قوله: أعلمهم بالسنة أعلمهم بأحكام الكتاب والسنة جميعا، فكان الأعلم الثاني غير الأعلم الأول- انتهى. قلت: قد سلف منا أن الراجح في المراد من قوله: أقرأهم هو الأكثر حفظا للقرآن وإن حمله على الأفقه في القرآن والأعلم بأحكامه ومعانيه خلاف الظاهر فلا يلتفت إليه. وأما حمل الحديث على الصحابة خاصة فهو ادعاء محض على أنه يلزم من هذا الجواب أن من نص النبي ? على أنه أقرأ من أبي بكر كان أفقه من أبي بكر، فيفسد الاحتجاج بأن تقديم أبي بكر كان لأنه الأفقه.
ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه

(5/85)


قال السندي: الحديث يفيد تقدم الأقرأ وغالب الفقهاء على تقديم الأعلم، ولهم عن هذا الحديث جوابان: النسخ بإمامة أبي بكر مع أن أقرأهم أبى، وكان أبوبكر أعلمهم، كما قال أبوسعيد، ودعوى أن الحكم مخصوص بالصحابة، وكان أقرأهم أعلمهم لكونهم يأخذون القآن بالمعاني، وبين الجوابين تناقض لا يخفى، ولفظ الحديث يفيد عموم الحكم- انتهى. وقد ظهر بهذا التفصيل أن القول الراجح المعول عليه هو تقديم الأقرأ على الأعلم وهذا، إنما هو حيث يكون الأقرأ عارفا بما يتعين معرفته من أحوال الصلاة، فأما إذا كان جاهلا بذلك فلا يقدم اتفاقا. قال الزبيدي: والذي ذهب إليه أبويوسف من تقديم الأقرأ على الأعلم رواية عن أبي حنيفة، ودليله قوي من حيث النص، فإنه فرق بين الفقيه والقاري، وأعطى الإمامة للقاري ما لم يتساويا في القراءة فإن تساويا لم يكن أحدهما بأولى من الآخر فوجب تقديم الأعلم بالسنة وهو الأفقه- انتهى. (ولا يؤمن الرجل الرجل) برفع الأول ونصب الثاني. (في سلطانه) أي في محل سلطانه، وهو موضع يملكه الرجل أو له فيه تسلط بالتصرف كصاحب المجلس وإمام المسجد، فإنه أحق من غيره، وإن كان أفقه، لئلا يؤدي ذلك إلى التباغض والخلاف الذي شرع الاجتماع لرفعه. قال الطيبي: أي لا يؤم الرجل الرجل في مظهره سلطنته ومحل ولايته أو فيما يملكه أو في محل يكون في حكمه. ويعضد هذا التأويل الرواية الأخرى في أهله. وتحريره أن الجماعة شرعت لاجتماع المؤمنين على الطاعة وتألفهم وتوادهم، فإذا أم الرجل الرجل في سلطانه أفضى ذلك إلى توهين أمر السلطنة وخلع ربقة الطاعة، وكذلك إذا أمه في أهله أدى ذلك إلى التباغض والتقاطع وظهور الخلاف الذي شرع لرفعه الاجتماع، فلا يتقدم الرجل على ذي السلطنة لاسيما في الأعياد والجمعات، وعلى إمام الحي ورب البيت إلا بالإذن- انتهى. وقال النووي: معناه أن صاحب البيت والمجلس وإمام المسجد أحق من غيره. قال ابن رسلان: لأنه موضع سلطنته-

(5/86)


انتهى. قال الشوكاني: والظاهر أن المراد به السلطان الذي إليه ولاية أمور الناس، لا صاحب البيت ونحوه. ويدل على ذلك ما في رواية أبي داود بلفظ: ولا يؤم الرجل في بيته ولا في سلطانه. وظاهره أن السلطان مقدم على غيره وإن كان أكثر منه قرآنا وفقها وورعا وفضلا، فيكون كالمخصص لما قبله، يعني أن أول الحديث محمول على من عدا الإمام الأعظم ومن يجري مجراه، وقد ورد في صاحب البيت حديث بخصوصه بأنه الأحق، فقد أخرج الطبراني من حديث أبي مسعود قال من السنة أن يتقدم صاحب البيت. قال الحافظ: رجاله ثقات. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وأخرج البزار والطبراني في الأوسط والكبير من حديث عبدالله بن حنطلة مرفوعا: الرجل أحق أن يؤم في بيته. قال الهيثمي: فيه إسحاق بن يحيى بن طلحة، ضعفه أحمد وابن معين والبخاري، ووثقه يعقوب بن شيبة وابن حبان. قال أصحاب الشافعي: ويتقدم السلطان أو نائبه على صاحب البيت وإمام المسجد وغيرهما؛ لأن ولايته وسلطنته عامة، قالوا: ويستحب لصاحب البيت أن يأذن لمن هو أفضل
ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه)). رواه مسلم. وفي رواية له: (( ولا يؤمن الرجل الرجل في أهله)).
1124- (2) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله ?: (( إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم،

(5/87)


منه. (ولا يقعد) بالجزم. وقيل: بالرفع أي الرجل. (في بيته) أي بيت الرجل الآخر. (على تكرمته) بفتح التاء وكسر الراء، مصدر كرم تكريما، أطلق مجازا على ما يعد للرجل إكراما له في منزله من فراش وسجادة ونحوهما. قال في النهاية: هو الموضع الخاص لجلوس الرجل من فراش أو سرير مما يعد لإكرامه، وهي تفعله من الكرامة. (إلا بإذنه) قال ابن الملك: متعلق بجميع ما تقدم: قلت: ورد ذلك في بعض روايات الحديث نصا، فقد قال المجد بن تيمية في المنتقى: ورواه سعيد بن منصور، لكن قال فيه: لا يؤم الرجل الرجل في سلطانه إلا بإذنه، ولا يقعد على تكرمته في بيته إلا بإذنه- انتهى. فالإذن في الكل، وبه قال أحمد والجمهور، وهو الحق. وقيل: يتعلق قوله: إلا بإذنه بقوله: لا يقعد فقط، وبه قال إسحاق. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا، أحمد (ج4 ص118، 121و ج5 ص272) والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وأبوداود الطيالسي وابن الجارود والبيهقي (ج3 ص90، 119، 125). (وفي رواية له: ولا يؤمن الرجل الرجل في أهله) وفي بعض النسخ من صحيح مسلم: ولا تؤمن الرجل في أهله، أي بصيغة الخطاب. ويؤيده ما بعده ولا في سلطانه ولا تجلس على تكرمته في بيته إلا بإذن لك أو بإذنه. فائدة: قال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة: سبب تقديم الأقرأ أنه ? حد للعلم حدا معلوما، كما بينا، وكان أول ما هناك كتاب الله؛ لأنه أصل العلم، وأيضا فإنه من شعائر الله، فوجب أن يقدم صاحبه. وينوه بشأنه ليكون ذلك داعيا إلى التنافس فيه، وليس كما يظن أن السبب احتياج المصلى إلى القراءة فقط، ولكن الأصل حملهم على المنافسة فيها، وإنما تدرك الفضائل بالنافسة، وسبب خصوص الصلاة باعتبار المنافسة احتياجها إلى القراءة، فليتدبر، ثم من بعدها معرفة السنة؛ لأنها تلو الكتاب، وبها قيام الملة، وهي ميراث النبي ? في قومه، ثم بعده اعتبرت الهجرة إلى النبي ?؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام عظم أمر

(5/88)


الهجرة ورغب فيها ونوه بشأنها، وهذا من تمام الترغيب والتنوية، ثم زيادة السن إذ السنة الفاشية في الملل جميعها توقير الكبير، ولأنه أكثر تجربة وأعظم حلما، وإنما نهى عن التقدم على ذي سلطان في سلطانه؛ لأنه يشق عليه ويقدح في سلطانه فشرع ذلك إبقاء عليه- انتهى.
1124- قوله: (إذا كانوا) أي القوم. (ثلاثة) أي واثنين، كما أفاده الخبر السابق أن الجماعة تحصل بهما، قاله القاري. وقال الشوكاني: مفهوم العدد هنا غير معتبر لما في حديث مالك بن الحويرث: إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما. أخرجه أحمد وغيره من أصحاب الكتب الستة، وقد تقدم. (فليؤم أحدهم) إشارة
وأحقهم بالإمامة أقرأهم)). رواه مسلم. وذكر حديث مالك ابن الحويرث في باب بعد باب فضل الأذان.

(5/89)


إلى جواز إمامة المفضول. (وأحقهم بالإمامة أقرأهم) أي أكثرهم. حفظا للقرآن، فإن إمامته أفضل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والنسائي والبيهقي (ج3 ص89، 119). وفي الباب عن أنس عند أحمد (ج3 ص163) بلفظ: يؤم القوم أقرؤهم للقرآن. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح ، وعن أبي هريرة عند البزار بنحوه. قال الهيثمي: في سنده الحسن بن علي النوفلي الهاشمي، وهوضعيف، وقد حسنه البزار، وعن ابن عمر عند الطبراني بلفظ: من أم قوما وفيهم من هو أقرأ لكتاب الله منه، لم يزل في سفال إلى يوم القيامة. قال الهيثمي: فيه الهيثم بن عقاب. قال الأزدى: لا يعرف. وذكره ابن حبان في الثقات. (وذكر) بصيغة المجهول. (حديث مالك بن الحويرث) أي في المشكاة، وكذا في المصابيح. والحديث هو قوله قال رسول الله ?: صلوا كما رأيتموني أصلي. وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، ثم ليؤمكم أكبركم يعني سنا، وذلك لاستوائهم في وجوه التقديم من القراءة والعلم، ففي رواية لآبي داود: وكنا يومئذ متقاربين في العلم. (في باب بعد باب فضل الأذان) أي فراجعه هناك. والمقصود أن حديث مالك بن الحويرث هذا ذكره البغوي أولا في باب بعد باب فضل الأذان، وذكره صاحب المشكاة أيضا هناك تبعا للبغوي لكون صدره في الآذان، ثم ذكره هاهنا في آخر الفصل الأول؛ لكون عجز الحديث متعلقا بباب الإمامة، ولما كان في ذكره هنا تكرار حذفه صاحب المشكاة، وأحال على الباب المذكور. وقال القاري: حديث مالك بن الحويرث فيه تفضيل الإمامة، فهو بباب الإمامة أولى، فلا معنى لتغيير التصنيف مع وجود الوجه الأدنى فضلا عن الأعلى، ثم يحتاج إلى الاعتذار المشير إلى الاعتراض، لا يقال صدر الحديث في الأذان؛ لأن تقديمه لتقدمه في الوجود ومنه تقدم بلال على النبي ? في دخول الجنة تقدم الخادم على المخدوم. ففيه إيماء إلى فضيلة الإمامة، وكذلك الحديث الآتي قريبا فالحاصل أن حديث مالك ابن الحويرث كان في المصابيح هنا في

(5/90)


آخر الفصل الأول، ونقله صاحب المشكاة فذكره في باب بعد باب فضل الآذان- انتهى. قلت: وقد وهم القاري في فهم غرض صاحب المشكاة كما لا يخفى، ولو راجع المصابيح لم يقع في هذا الوهم، وقد وهم أيضا في تعيين الحديث حيث قال: والحديث هو: قال أتيت النبي ? أنا وابن عم لي، فقال إذا سافرتما فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما مع أنه غير مذكور في المصابيح في باب الإمامة. واعلم أن هذا كله مبني على أن الحديث المذكور هنا في المصابيح بغير تسمية الصحابي لمالك بن الحويرث كما قال المصنف. وعندي فيه كلام؛ لأن الحديث الذي أورده البغوي هنا هو بلفظ: إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنا. وحديث مالك بن الحويرث الذي ذكرناه إنما هو بلفظ: وليؤمكم أكبركم. وهذا هو الذي ذكره البغوي في
?الفصل الثاني?
1125- (3) عن ابن عباس، قال: قال رسول الله ?: (( ليؤذن لكم خياركم وليؤمكم قراؤكم)). رواه أبوداود.
المصابيح والمصنف في المشكاة في باب هو بعد باب فضل الآذان. ولا يخفى ما بين اللفظين من الفرق البين. والظاهر أن الحديث المذكور في المصابيح هنا، أي في باب الإمامة بلفظ: ليؤمكم أكثركم قرآنا، إنما هو لعمرو بن سلمة الجرمي، رواه البخاري في حديث طويل في غزوة الفتح في باب بعد باب مقام النبي ? بمكة. وذكره البغوي ههنا لإثبات جواز إمامة الصبي المميز. وقد ذكره المصنف في الفصل الثالث مطولا، كما سيأتي.

(5/91)


1125- قوله: (ليؤذن لكم) أمر استحباب. (خياركم) أي الذين يحتاطون في أمر الأوقات، وفي أمر الحرم والعورات، فإنهم يشرفون علىالمنارات العالية، قاله السندي. وقال القاري: أي من هو أكثر صلاحا ليحفظ نظره عن العورات، ويبالغ في محافظة الأوقات. قال الجوهري: الخيار خلاف الأشرار، والخيار الاسم من الاختيار، وإنما كانوا خيارا لما ورد أنهم أمناء؛ لأن أمر الصائم من الإفطار والأكل والشرب والمباشرة منوط إليهم، وكذا أمر المصلي لحفظ أوقات الصلاة يتعلق بهم، فهم بهذا الاعتبار مختارون، ذكره الطيبي. (وليؤمكم) بسكون اللام وتكسر. (قراؤكم) بضم القاف وتشديد الراء، جمع قاري. كذا وقع في جميع النسخ، وهكذا في المصابيح وسنن أبي داود وابن ماجه. ونقله الجزري في جامع الأصول (ج6 ص377) عن أبي داود بلفظ: وليؤمكم أقرؤكم، وكذلك رواه البيهقي (ج1 ص426). وفيه دليل على تقديم الأقرأ في الإمامة على الأفقه. قال السندي: ظاهر الحديث أن الأقرأ أحق بالإمامة من الأعلم. وقال القاري: وكلما يكون أقرأ فهو أفضل إذا كان عالما بمسائل الصلاة، فإن أفضل الأذكار وأطولها وأصعبها في الصلاة إنما هو القراءة. وفيه تعظيم لكلام الله، وتقديم قارئه، وإشارة إلى علو مرتبته في الدارين كما كان ? يأمر بتقديم الأقرأ.. في الدفن- انتهى. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا ابن ماجه والبيهقي، وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: في سنده الحسين بن عيسى الحنفي الكوفي، وقد تكلم فيه أبوحاتم وأبوزرعة الرازيان، وقد ذكر الدارقطني أن حسين بن عيسى تفرد بهذا الحديث عن الحكم بن أبان- انتهى. قلت: الحسين بن عيسى قال البخاري: مجهول، وحديثه منكر. وقال أبوزرعة: منكر الحديث. وقال أبوحاتم: ليس بالقوي، روى عن الحكم بن أبان أحاديث منكرة. وقال الآجري عن أبي داود: بلغني أنه ضعيف. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف.

(5/92)


1126 – (4) وعن أبي عطية العقيلي، قال: كان مالك بن الحويرث يأتينا إلى مصلانا يتحدث، فحضرت الصلاة يوما، قال أبي عطية: فقلنا له: تقدم فصله. قال لنا: قدموا رجلا منكم يصلي بكم، وسأحدثكم لم لا أصلي بكم؟ سمعت رسول الله ?: (( من زار قوما فلا يؤمهم، وليؤمهم رجل منهم)).
1126- قوله: (عن أبي عطية) بفتح العين وكسر الطاء وتشديد التحتية. (العقيلي) بضم العين المهملة، أي مولاهم، فهي نسبة الولاء كما يدل عليه بعض روايات هذا الحديث. ففي رواية لأحمد (ج3 ص437و ج5 ص53) عن بديل بن ميسرة العقيلي قال: حدثني أبوعطية مولى منا، وكذا عند أبي داود. وللنسائي وأحمد في رواية (ج5 ص53) مولى لنا. قال الذهبي في الميزان: أبوعطية عن مالك بن الحويرث، لا يدرى من هو؟، وقال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج12.ص170): أبوعطية مولى بني عقيل، روى عن مالك بن الحويرث حديث: من زار قوما الخ، وعنه بديل بن ميسرة، قال أبوحاتم: لا يعرف ولا يسمى. وقال ابن المديني: لا يعرفونه. وقال أبوالحسن القطان: مجهول. وصحح ابن خزيمة حديثه. وقال في التقريب: مقبول. (يأتينا إلى مصلانا) أي مسجدنا في البصرة. (يتحدث) وفي بعض النسخ: نتحدث، أي بالنون في أوله بصيغة المتكلم. (تقدم) أي للإمامة. (فصله) الهاء للسكتة. (يصلي بكم) أي يؤمكم في الصلاة. (وسأحدثكم لم لا أصلي بكم) أي مع أني أحق بالإمامة منكم، وذلك لكونه صحابيا عالما. (من زار قوما فلا يؤمهم، وليؤمهم رجل منهم) فإنه أحق من الزائر. وامتنع مالك من الإمامة مع وجود الإذن منهم عملا بظاهر الحديث، ثم أن حدثهم بعد الصلاة. فالسين للاستقبال، وإلا فلمجرد التأكيد. والحديث دليل على أن المزور أحق بالإمامة من الزوائر وإن كان أقرأ أو أعلم من المزور. قال الترمذي بعد رواية الحديث: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي ? وغيرهم، وقالوا: صاحب المنزل أحق بالإمامة من الزائر. وقال بعض أهل العلم: إذا أذن له فلا

(5/93)


بأس أن يصلي به. وقال إسحاق بحديث مالك بن الحويرث: وشدد في أن لا يصلي أحد لصاحب المنزل وإن أذن له صاحب المنزل، قال وكذلك في المسجد لا يصلي بهم في المسجد إذا زارهم، يقول: ليصل بهم رجل منهم –انتهى. كلام الترمذي. وقد حكى المجد بن تيمية في المنتقى بعد ذكر الحديث عن أكثر أهل العلم أنه لا بأس بإمامة الزائر بإذن رب المكان، واستدل بقوله ? في حديث أبي مسعود. (يعني المتقدم) إلا بإذنه، قال ويعضده عموم ما روي ابن عمر أن النبي ? قال: ((ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة عبد أدى حق الله وحق مواليه، ورجل أم قوما، وهم به راضون) - الحديث. رواه الترمذي، وعن أبي هريرة عن
رواه أبوداود والترمذي، والنسائي إلا أنه اقتصر على لفظ النبي ?.
1127 – (5) وعن أنس، قال: (( استخلف رسول الله ? ابن أم مكتوم يؤم الناس،

(5/94)


النبي ? قال: (لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤم قوما إلا بإذنهم) –الحديث. رواه أبوداود- انتهى. قلت: الراجح عندنا هو قول من قال أن المزور إذا أذن للزائر فلا بأس أن يصلي به. ومعنى قوله ? في حديث مالك بن الحويرث: من زار قوما فلا يؤمهم، أي إلا أن يأذنوا له. يدل عليه حديث أبي مسعود عند سعيد بن منصور، وقد تقدم. ويعضد ما ذكرنا من التقييد بالإذن عموم قوله في حديث ابن عمر: وهم به راضون، وقوله في حديث أبي هريرة: إلا بإذنهم، كما قال ابن تيمية، فإنه يقتضي جواز إمامة الزائر عند رضى المأزور وإذنه، وقيل: حديث مالك بن الحويرث محمول على من عدا الإمام الأعظم فإذا حضر الإمام الأعظم أو من يجري مجراه بمكان مملوك لا يتقدم عليه مالك الدار، ولكن ينبغي للمالك أن يأذن له لجمع بين الحقين حق الإمام في التقدم وحق المالك في منع التصرف بغير إذنه، (رواه أبوداود) وسكت عنه. ( والترمذي) وقال: حديث حسن. وفي بعض نسخ الترمذي: حديث حسن صحيح. ويؤيد الأول ما نقله المنذري والشوكاني عن الترمذي من التحسين فقط، ويفهم ذلك من قول الحافظ في التهذيب في ترجمة أبي عطية أن ابن خزيمة صحح حديثه، فلو كان التصحيح عنده في نسخة الترمذي لأشار إليه، وإنما حسن الترمذي هذا الحديث، مع أن في سنده أبا عطية، وهو مجهول، كما قال الذهبي وأبوحاتم وابن المديني وأبوالحسن القطان؛ لأن له شواهد، والترمذي قد يحسن الحديث الضعيف لشواهده. وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي بعد قول أبي حاتم وغيره: ولكن تصحيح ابن خزيمة حديثه، وتحسين الترمذي أو تصحيحه إياه يجعله من المستورين المقبولي الرواية، ولحديثه شواهد. يشير إلى ما تقدم من حديث أبي مسعود عند أبي داود بلفظ: ولا يؤم الرجل في بيته، ومن حديث أبي مسعود عند الطبراني، وحديث عبدالله بن حنطلة عند البزار والطبراني، وقد ذكرنا لفظهما في شرح حديث أبي مسعود. (والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد (ج3

(5/95)


ص436- 437و ج5 ص53) والبيهقي (ج3 ص126). (إلا أنه) أي النسائي. (اقتصر على لفظ النبي ?) أي قوله، وهو: إذا زار أحدكم قوما فلا يصلين بهم، ولم يذكر صدر الحديث. واللفظ المذكور في الكتاب لأبي داود إلا قوله: يتحدث فحضرت الصلاة يوما، فإنه للترمذي، ولفظ أبي داود: إلى مصلانا هذا فأقيمت الصلاة.
1127 – قوله: (استخلف رسول الله ? ابن أم مكتوم) أي أقامه مقام نفسه في مسجد المدينة حين خرج إلى الغزو. (يؤم الناس) قال القاري: هو بيان للاستخلاف. وقال ابن حجر: أي استخلافا عاما على المدينة مرتين ما روي، وخاصا بكونه يؤم الناس. وقال الأمير اليماني: المراد استخلافه في الصلاة وغيرها، وقد
وهو أعمى)). رواه أبوداود.

(5/96)


أخرجه الطبراني بلفظ: في الصلاة وغيرها، وإسناده حسن. وقد عدت مرات الاستخلاف له، فبلغت ثلاث عشرة مرات، ذكره في الخلاصة. (وهو أعمى) قال الشيخ عبدالحق الدهلوي في أشعة اللمعات: فيه دليل على جواز إمامة الأعمى من غير كراهة في ذلك. وقال ابن حجر: فيه جواز إمامة الأعمى. ولا نزاع فيه، وإنما النزاع في أنه أولى من البصير أو عكسه. قال الشوكاني: قد صرح أبوإسحاق المروزي والغزالى بأن إمامة الأعمى أفضل من إمامة البصير؛ لأنه أكثر خشوع من البصير لما في البصير من شغل القلب بالمبصرات. ورجح البعض أن إمامة البصير أولى؛ لأنه أشد توقيا للنجاسة. والذي فهمه الماوردي من نص الشافعي أن إمامة الأعمى والبصير سواء في عدم الكراهية؛ لأن في كل منهما فضيلة غير أن إمامة البصير أفضل؛ لأن أكثر من جعله النبي ? إماما البصراء. وأما استنابته ? لابن أم مكتوم في غزواته فلأنه كان لا يتخلف عن الغزو من المؤمنين إلا معذور. فلعله لم يكن في البصراء المتخلفين من يقوم مقامه، أو لم يتفرغ لذلك أو استخلفه لبيان الجواز. وأما إمامة عتبان بن مالك لقومه، أي مع كونه ضرير البصر فلعله أيضا لم يكن في قومه من هو في مثل حاله من البصراء – انتهى كلام الشوكاني. وقال في البدائع بعد التصريح بجواز إمامة الأعمى ما لفظه: والأعمى يوجهه غيره إلى القبلة، فيصير في أمر القبلة مقتديا بغيره، وربما يميل في خلال الصلاة عن القبلة، ولأنه لا يمكنه التوقي عن النجاسة، فكان البصير أولى إلا إذا كان في الفضل لا يوازيه في مسجده غيره، فحينئذ يكون أولى، ولذا استخلف النبي ? ابن أم مكتوم- انتهى. وقال ابن الملك: كراهة إمامة الأعمى إنما هي إذا كان القوم سليم أعلم منه أو مساو له علما- انتهى: قال التوربشتي : استخلف ابن أم مكتوم على الإمامة حين خرج إلى تبوك مع أن عليا رضي الله عنه فيها لئلا يشغله شاغل عن القيام بحفظ من يستخلفه من الأهل حذرا أن ينالهم عدو بمكروه.

(5/97)


وقال ابن حجر. يمكن أن يوجه بأنه لو استخلفه في ذلك أيضا لوجد الطاعن في خلافة الصديق سبيلا وإن ضعف. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد والبيهقي (ج3 ص88) وسكت عنه أبوداود والمنذري، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وأبويعلى والطبراني في الأوسط عن عائشة. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص65) بعد عزوه إلى أبي يعلى والطبراني: ورجال أبي يعلى رجال الصحيح. وأخرجه أيضا البزار والطبراني في الأوسط عن ابن عباس. قال الهيثمي: وفيه عفير بن معدان، وهو ضعيف، وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير من حديث عبدالله بن بحينة. قال الهيثمي: وفيه الواقدي، وهو ضعيف. وفي الباب عن عبدالله بن عمير إمام بن خطمة أنه كان إماما لبني ختمة على عهد رسول الله ?، وهو أعمى. قال الشوكاني: أخرجه الحسن بن سفيان في مسنده وابن أبي خثيمة. وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح.
1128- (6) وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله ?: (( ثلاثة لا تجاوز صلاتهم أذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون)).

(5/98)


1128- قوله: (ثلاثة) أي أشخاص. (لا تجاوز صلاتهم آذانهم) جمع الأذن الجارحة، أي لا ترتفع إلى السماء، كما في حديث ابن عباس الآتي، وهو كناية عن عدم القبول، كما هو مصرح به في الحديث الذي بعده، وفي حديث ابن عباس عند ابن حبان. قال التوربشتي: أي لا ترفع إلى الله تعالى رفع العمل الصالح، بل أدنى شيء من الرفع. وخص الآذان بالذكر لما يقع فيها من التلاوة والدعاء، ولا تصل إلى الله تعالى قبولا وإجابة. وهذا مثل قوله عليه السلام في المارقة: يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، عبر عن عدم القبول بعدم مجاوزة الآذان- انتهى. وقال في اللمعات: خص الآذان بالذكر لقربها؛ لأنها يقع فيها صوت التلاوة، وإن غاية حظهم منها سماع ذكرها. (العبد الآبق) أي أولهم أو منهم أو أحدهم. (حتى يرجع) أي من إباقة إلى سيده. وفي معناه الجارية الآبقة. وفي صحيح مسلم، وسنن أبي داود والنسائي من حديث جرير بن عبدالله البجلي عن النبي ?: إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة. وهذا يؤيد ما تقدم من أن المراد بعدم المجاوزة عدم قبول الصلاة و (إمرأة باتت وزوجها عليها ساخط) من السخط وهو بالضم وكعنق وجبل ومقعد ضد الرضا، وقد سخط كفرح، وتسخط وأسخطه أغضبه، قال القاري: هذا إذا كان السخط لسوء خلقها أو سوء أدبها أو قلة طاعتها. أما إن كان سخط زوجها من غير جرم فلا إثم عليها. قال الشوكاني في الحديث: إن اغضاب المرأة لزوجها حتى يبيت ساخطا عليها من الكبائر. وهذا إذا كان غضبها عليها بحق. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ?: إذا دعا الرجل إمرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضبانا عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح. وسيأتي في عشرة النساء. (وإمام قوم وهم له كارهون) أي لأمر مذموم في الشرع، وإن كرهوا لخلاف ذلك فلا كراهة. قال ابن الملك: أي كارهون لبدعته أو فسقه أو جهله. أما إذا كان بينه وبينهم كراهة أو عداوة بسبب أمر دنيوى فلا يكون له هذا الحكم، والحديث يدل

(5/99)


على كراهة أن يكون الرجل إماما لقوم يكرهونه. قال الشوكاني: وقد ذهب قوم إلى التحريم، وإلى الكراهة آخرون. ويدل على التحريم نفى قبول الصلاة، وإنها لا تجاوز أذنه، ولعن الفاعل لذلك، كما في حديث أنس عند الترمذي: لعن رسول الله ? ثلاثة: رجل أم قوما وهم له كارهون- الحديث، قال: وقد قيد ذلك جماعة عن أهل العلم بالكراهة الدينية لسبب شرعي. وأما الكراهة لغير الدين فلا عبرة بها، وقيدوه أيضا بأن يكون الكارهون أكثر المأمومين، ولا اعتبار بكراهة الواحد والاثنين وثلاثة إذا كان المؤتمون جمعا كثيرا إلا إذا كانوا اثنين أو ثلاثة، فإن كراهتهم أو كراهة أكثرهم معتبرة، قال: والاعتبار بكراهة أهل الدين دون كراهته غيرهم، حتى قال الغزالي في الإحياء: لو كان الأقل من أهل الدين يكرهونه فالنظر إليهم،
رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب.
1129- (7) وعن ابن عمر قال: قال رسول الله ?: (( ثلاثة لا تقبل منهم صلاتهم: من تقدم

(5/100)


قال: وحمل الشافعي الحديث على إمام غير الوالي؛ لأن الغالب كراهة ولاة الأمر، قال: وظاهر الحديث عدم الفرق- انتهى. (رواه الترمذي) هذا الحديث مما انفرد به الترمذي، كما قال الشوكاني. (وقال: هذا حديث غريب) كذا في جميع النسخ. والذي في الترمذي حديث حسن غريب. وهو الذي ذكره المنذري في الترغيب والشوكاني في النيل. والحديث قد ضعفه البيهقي (ج3 ص128). قال النووي في الخلاصة: والأرجح هنا قول الترمذي- انتهى. وفي سنده أبوغالب الراسبي البصري، ضعفه النسائي وابن سعد. وقال أبوحاتم: ليس بالقوي. ووثقه موسى بن هارون الحمال والدارقطني. وقال ابن معين: صالح الحديث. وقال ابن عدي: لم أر في أحاديثه منكرا، وأرجوا أنه لا بأس به. وحسن الترمذي بعض أحاديثه، وصحح بعضها. كذا في تهذيب التهذيب- وقال في التقريب: صدوق يخطئ- انتهى. فالظاهر أن حديثه لا ينحط عن درجة الحسن، والله أعلم. وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة. ذكرها الشوكاني في النيل مع الكلام عليها.

(5/101)


1129- قوله: (وعن ابن عمر) كذا في جميع النسخ الحاضرة الموجودة عندنا. والمراد به عبدالله بن عمر بن الخطاب. والذي في سنن أبي داود، وابن ماجه عبدالله بن عمرو، أي ابن العاص. وكذا ذكره المجد بن تيمية في المنتقى نقلا عن أبي داود وابن ماجه. وكذا وقع في معالم السنن (ج1 ص169) شرح سنن أبي داود للخطابي، والسنن الكبرى للبيهقي (ج3 ص128) وهذا هو الصواب، فإن الحديث من رواية عمران بن عبد المعافري التابعي، وهو يرويه عن عبدالله بن عمرو بن العاص لا ابن عمر. قال الذهبي في الميزان (ج2 ص288) في ترجمة عمران المذكور: ضعفه يحيى بن معين، يحدث عنه الافريقي عن عبدالله بن عمرو: ثلاثة لا يقبل منهم صلاة- الحديث. وقال الحافظ في التهذيب (ج8 ص134) : روى عن عبدالله بن عمرو وعنه عبدالرحمن بن زياد بن أنعم الافريقي. وكذا قال الخزرجي في الخلاصة (ص296). والحديث ذكره النابلسي في ذخائر المواريث في مسند عبدالله بن عمرو بن العاص، وكذا نسبه إليه السيوطي في الجامع الصغير، والعزيزي في السراج المنير. ووقع في تيسير الوصول (ج2 ص268) وجامع الأصول (ج6 ص379) وعن ابن عمرو بن العاص. فالظاهر أن ما وقع في نسخ المشكاة من تصرف النساخ والله أعلم. (لا تقبل منهم صلاتهم) وفي أبي داود: لا يقبل الله منهم صلاة، ولفظ ابن ماجه: لا تقبل منهم صلاة، قالوا القبول أخص من الإجزاء، أي فلا يلزم من عدمه عدم الإجزاء، وهو كونه سببا لسقوط التكليف، والقبول كونه سببا للثواب. والحاصل أن المراد بنفي القبول نفى الثواب لا نفى الصحة والإجزاء. (من تقدم) خبر
قوما وهم له كارهون، ورجل أتى الصلاة دبارا- والدبار: أن يأتيها بعد أن تفوته-
ورجل اعتبد محررة)) رواه أبوداود، وابن ماجه.

(5/102)


مبتدأ محذوف أي أحدهم. (قوما) للإمامة. (وهم له كارهون) في شرح السنة. قيل: المراد به إمام ظالم. وأما من أقام السنة فاللوم على من كرهه. وقال الخطابي في المعالم (ج1 ص170) : يشبه أن يكون هذا الوعيد في الرجل ليس من أهل الإمامة، فيقتحم فيها ويتغلب عليها حتى يكره الناس إمامته. فأما إن كان مستحقا للإمامة فاللوم على من كرهه دونه- انتهى. (ورجل) أي وثانيهم رجل. (أتى الصلاة) أي حضرها. (دبارا) بكسر الدال. وانتصابه على المصدر، أي إتيان دبار، يعني صلاها حين أدبار وقتها بحيث لا يسع الوقت جميعها، وكان ذلك عادة له قال في الفائق: قبال الشيء ودباره أوله وآخره، يقال: فلان لا يدري قبال الأمر من دباره، أي ما أوله من آخره، وفي الغربيين عن ابن الأعرابي: الدبار جمع دبر ودبر وهو آخر أوقات الشيء، أي يأتي الصلاة بعد ما يفوت الوقت. قال ابن حجر: بأن لا يدركها كاملا فيه. وقال الجزري: دبار جمع دبر أو دبر، وهو آخر أوقات الشيء. وقيل: أراد بعد ما يفوت الوقت، وقد ذكر في الحديث. (والدبار أن يأتيها) أي الصلاة من غير عذر. (بعد أن تفوته) أي الصلاة جماعة أو أداء، قال الخطابي: هو أن يكون قد اتخذه عادة حتى يكون حضوره الصلاة بعد فراغ الناس وانصرافهم عنها- انتهى. وهذا التفسير ظاهر أنه من الراوي. (ورجل اعتبد) أي ثالثهم رجل اتخذ عبدا. (محررة) أي نسمة أو رقبة أو نفسا محررة. قال الطيبي: يقال أعبدته واعتبدته إذا اتخذته عبدا وهو حر، وذلك بأن يأخذ حرا، فيدعيه عبدا ويتملكه أو يعتق عبده ثم يستخدمه كرها أو يكتم عتقه استدامة لخدمته ومنافعه. قال ابن الملك: تأنيث محررة بالحمل على النسمة لتناول العبيد والإماء. وقيل: خص المحررة لضعفها وعجزها بخلاف المحرر لقوته بدفعه. وقال في المفاتيح شرح المصابيح: في بعض النسخ أي للمصابيح محررة بالضمير المجرور. قلت: وكذا وقع في بعض نسخ أبي داود، كما صرح به في عون المعبود، وكذا ذكره

(5/103)


المجد بن تيمية في المنتقى. وفي الترغيب للمنذري وسنن ابن ماجه: اعتبد محررا. قال الشوكاني: أي اتخذ معتقه عبدا بعد إعتاقه. قال الخطابي: اعتباد المحرر يكون من وجهين: أحدهما أن يعتقه ثم يكتم عتقه أو ينكره، وهو شر الأمرين. والوجه الآخر أن يستخدمه كرها بعد العتق، أي بالقهر والغلبة. (رواه أبوداود وابن ماجه) وكذا البيهقي كلهم من رواية الإفريقي عن عمران بن عبد بغير إضافة المعافري، والافريقي قد تقدم الكلام فيه. وأما عمران فقال ابن معين: ضعيف. وقال ابن القطان: لا يعرف حاله. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال العجلي: مصري تابعي ثقة. وذكره يعقوب بن سفيان في ثقات المصريين كذا في التهذيب (ج8 ص34). وقال في التقريب: ضعيف.
1130- (8) وعن سلامة بنت الحر، قالت: ((قال رسول الله ?: إن من أشراط الساعة أن يتدافع
أهل المسجد لا يجدون إماما يصلي بهم)) رواه أحمد، وأبوداود، وابن ماجه.
1131- (9) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ?: (( الجهاد واجب عليكم مع كل أمير، برا
كان أو فاجرا، وإن عمل الكبائر.

(5/104)


1130- قوله: (وعن سلامة) بفتح سين مهملة وخفة لام وهاء. (بنت الحر) بضم الحاء المهملة بعدها راء مهملة مشددة، أخت خرشة بن الحر الفزاري، صحابية، لها هذا الحديث فقط. (إن من أشراط الساعة)، أي من علاماتها الصغرى الدالة على قربها. واحدها شرط بالتحريك. (أن يتدافع أهل المسجد) أي في الإمامة فيدرأ كل من أهل المسجد الإمامة عن نفسه إلى غيره، ويقول لست أهلا لها لما ترك تعلم ما تصح به الإمامة، ولجهلهم بما يجوز ولا يجوز. (لا يجدون إماما) أي قابلا الإمامة. (يصلي بهم) على وجه الصحة بأداء أركانها. وواجباتها وسننها ومندوباتها. وقيلك المعنى يدفع كل من أهل المسجد الإمامة عن غيره إلى نفسه، فيحصل بذلك النزاع، فيؤدي ذلك إلى عدم الامام. (رواه أحمد) (ج6 ص381). (وأبوداود) ومن طريقه رواه البيهقي (ج3 ص29). (وابن ماجه) واللفظ لأحمد وأبي داود. ولفظ ابن ماجه وأحمد في رواية: يأتي على الناس زمان يقومون ساعة لا يجدون إماما يصلي بهم. والحديث سكت عنه أبوداود والمنذري. وفي سنده عندهم جميعا طلحة أم غراب. قال في التقريب: لا يعرف حالها. وذكرها ابن حبان في الثقات، روت عن عقيلة الفزارية عن سلامة بنت الحر. قال الحافظ في التقريب، والذهبي في الميزان: عقيلة الفزارية جدة علي بن غراب، لا يعرف حالها.

(5/105)


1131- قوله: (الجهاد واجب عليكم) أي فرض عين في حال وفرض كفاية في أخرى. (مع كل أمير) أي مسلم سلطان أو ولي أمره. (برا) بفتح الباء. (كان أو فاجرا) فإن الله قد يؤيد الدين بالرجل الفاجر، وإثمه على نفسه. ويؤيده ما روي عن أنس مرفوعا: الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل، أخرجه أبوداود في حديث، وسكت عنه هو والمنذري. قال ابن حجر في حديث أبي هريرة: جواز كون الأمير فاسقا جائرا، وإنه لا ينعزل بالفسق والجور، وأنه تجب طاعته ما لم يأمر بمعصيته. وخروج جماعة من السلف على الجورة كان قبل استقرار الإجماع على حرمة الخروج على الجائر- انتهى. (وإن عمل الكبائر) كذا في جميع النسخ الموجودة، وكذا وقع في المصابيح، وليست هذه الزيادة في سنن أبي داود، ولم يذكرها أيضا المجد بن تيمية في المنتقى، والزيلعي في نصب الراية (ج2 ص27) ولم تقع أيضا في
والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم، برا كان أو فاجرا، وإن عمل الكبائر.

(5/106)


رواه البيهقي. (والصلاة) أي بالجماعة. (واجبة عليكم) قال القاري: أي بالجماعة، كما تقدم من القول المختار، وهو فرض عملي لا اعتقادي لثبوته بالسنة، وهي آحاد. وقال ابن حجر: أي على الكفاية لا الأعيان - انتهى. وهي غاية من البعد عن شعار الإسلام، وطريق السلف العظام؛ لأنه يؤدي إلى أنه لو صلى شخص واحد مع الإمام في مصر لسقط عن الباقين. وقال الطيبي: القرينة الأولى تدل على وجوب الجهاد على المسلمين، وعلى جواز كون الفاسق أميرا، والثانية على وجوب الصلاة بالجماعة عليهم. وجواز أن يكون الفاجر إماما، هذا ظاهر الحديث. ومن قال الجماعة ليست بواجبة على الأعيان تأوله بأنه فرض على الكفاية كالجهاد، وعليه دليل إثبات ما ادعاه. (خلف كل مسلم) إذا كان إماما. (برا كان أو فاجرا وإن عمل الكبائر) قال ابن الملك: أي جاز اقتداءكم خلفه لورود الجواب بمعنى الجواز لاشتراكهما في جانب الإتيان بهما. وهذا يدل على جواز الصلاة خلف الفاسق، وكذا المبتدع إذا لم يكن ما يقوله كفرا. قال القاري في أمره بالصلاة خلف الفاجر مع أن الصلاة خلف الفاسق والمبتدع مكروهة عندنا دليل على وجوب الجماعة - انتهى. قلت: اختلف في امامة الفاسق والمبتدع: فذهب مالك إلى اشتراط عدالة من يصلى خلفه، وقال لا تصح إمامة الفاسق. وذهبت الشافعية والحنفية إلى صحة إمامته. قال العيني: أما الصلاة خلف الخوارج وأهل البدع فاختلف العلماء فيه: فأجازت طائفة منهم ابن عمر إذ صلى خلف الحجاج، وكذلك ابن أبي ليلى وسعيد بن جبير. وقال النخعي كانوا يصلون وراء الأمراء ما كانوا. وروى أشهب عن مالك: لا أحب الصلاة خلف الإباضية والواصلية، ولا السكنى معهم في البلد. وقال ابن القاسم: أرى الإعادة في الوقت على من صلى خلف أهل البدع. وقال أصبغ يعيد أبدا. وقال الثوري في القدري لا تقدموه. وقال أحمد بن حنبل: لا يصلي خلف أحد من أهل الأهواء إذا كان داعيا إلى هواه، ومن صلى خلف الجهمية

(5/107)


والرافضية والقدرية يعيد. وقال أصحابنا: تكره الصلاة خلف صاحب هوى وبدعة، ولا تجوز خلف الرافضي والجهمي والقدري؛ لأنهم يعتقدون أن الله لا يعلم الشيء قبل حدوثه وهو كفر، والمشبهة، ومن يقول يخلق القرآن. وكان أبوحنيفة لا يرى الصلاة خلف المبتدع، ومثله عن أبي يوسف. وأما الفاسق بجوارحه كالزاني وشارب الخمر فزعم ابن الحبيب أن من صلى خلف من شرب الخمر يعيد أيدا إلا أن يكون واليا. وفي رواية: يصح. وفي المحيط: لو صلى خلف فاسق أو مبتدع يكون محرز الثواب صلاة الجماعة، ولا ينال ثواب من صلى خلف المتقي. وفي المبسوط: يكره الإقتداء بصاحب البدعة - انتهى. والحق عندي أنه لا يشترط عدالة إمام الصلاة لصحة الجماعة وصحة صلاة المقتدين، ولكن لا يجوز تقديم الفاسق، وكذا المبتدع ببدعة غير مكفرة للإمامة؛ لأن في تقديمه تعظيمه، وقد وجب إهانته شرعا، ولأن الفاسق لا يهتم بأمر دينه، ولأن

(5/108)


الإمامة من باب الامانة، والفاسق خائن، ولأن مبنى الإمامة على الفضيلة، ولأن الناس لا يرغبون في الصلاة خلف الفاسق والمبتدع، فتؤدي إمامتهما إلى تنفير الجماعة وتقليلها، وذلك مكروه، ولقوله عليه السلام: اجعلوا أئمتكم خياركم، فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم. أخرجه الدارقطني (ص197) والبيهقي (ج3:ص90) من حديث ابن عمر، قال البيهقي: إسناده ضعيف - انتهى. قلت: في سنده حسين بن نصر المؤدب. قال ابن القطان: لا يعرف. وفيه أيضا سلام بن سليمان المدائني. قال الشوكاني: ضعيف، ولقوله عليه السلام: إن سركم أن تقبل صلاتكم فليؤمكم خياركم-الحديث، أخرجه الحاكم من حديث مرثد الغنوي في كتاب الفضائل (ج4:ص222) وسكت عنه، وأخرجه أيضا الطبراني والدارقطني (ص197)، الا أن الطبراني قال: فليؤمكم علماؤكم. وفيه عبدالله بن موسى. قال الدارقطني: ضعيف. وفيه أيضا القاسم بن أبي شيبة، وقد ضعفه ابن معين، ولما روى أبوداود وسكت عنه هو والمنذري عن السائب بن خلاد: أن رسول الله ? رأى رجل أم قوما فبصق في القبلة، ورسول الله ? ينظر إليه فقال رسول الله ? حين فرغ: لا يصلي لكم فأراد بعد ذلك أن يصلي بهم فمنعوه وأخبروه بقول رسول الله ?، فذكر ذلك لرسول الله ? فقال: نعم. قال الراوي: حسبت أنه قال له: إنك آذيت الله ورسوله، ولما روي عن علي رضي الله عنه مرفوعا: لا يؤمنكم ذو جرأة في دينه. ذكره الشوكاني في النيل بلا سند. وقال العلامة القنوجي في دليل الطالب (ص339) هو مرسل، ولقوله عليه السلام: لا يؤم فاجر مؤمنا إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه أو سوطه. أخرجه ابن ماجه من حديث جابر في صلاة الجمعة. وفي سنده عبدالله بن محمد العدوي التميمي، وهو تألف. قال البخاري وأبوحاتم والدارقطني: منكر الحديث. وقال الدارقطني أيضا: متروك. وقال وكيع: يضع الحديث. وقال ابن حبان لا يجوز الاحتجاج بخبره. وقال ابن عبدالبر: جماعة أهل العلم بالحديث يقولون: إن هذا الحديث من

(5/109)


وضع عبدالله بن محمد العدوي، وهو عندهم موسوم بالكذب. كذا في تهذيب التهذيب (ج6:ص21) هذا ولا يجوز للفاسق المبتدع التقدم للإمامة لما سبق من حديثي أبي أمامة وعبدالله بن عمرو بن العاص وما وافقهما من الأحاديث الدالة على تحريم إمامة الرجل وهو له كارهون. ولو تقدم الفاسق والمبتدع للإمامة وجب على القوم أن يمنعوهما عن الإمامة، وإن عجزوا عن المنع والعزل جازت الصلاة خلفهما مع الكراهة، أىجاز الاقتداء بهما للضرورة، وهي خوف الفتنة في منعهما وعزلهما عن الإمامة، وفي ترك الصلاة بالجماعة، وتصح الجماعة، ويكون المصلي محرزا الثواب الجماعة. لكن لاينال مثل ما ينال خلف تقي، وبالجملة لا تفسد صلاة من صلى خلف الفاسق والمبتدع لعدم ما يدل على اشتراط عدالة الإمام في حق صحة صلاة المقتدي، وجواز الاقتداء، ولأن جواز الصلاة متعلق بأداء الأركان، وهما قادران عليهما، ولأن عدم قبول صلاتهما لا يستلزم عدم جواز الاقتداء بهما، ولا عدم

(5/110)


قبول صلاة المؤتمين بهما فضلا عن فساد صلاتهم، لأن الذم والوعيد أنما هو متوجه إلى من كره القوم وإمامته لا إلى المؤتمين، كما لايخفى، ولأن من صحت صلاته لنفسه صحت لغيره، أي صحت إمامته وجاز الائتمام به، ولقوله عليه السلام: لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولحديث أبي هريرة هذا أو غيره مما سيأتي الإشارة إليها، وهي أحاديث كثيرة دالة على صحة الصلاة خلف كل بر وفاجر أي فاسق إلا أنها ضعيفة، كما ستعرف، ولما روى البخاري في تاريخه والبيهقي (ج3:ص122) عن عبدالكريم البكاء قال: أدركت عشرة من أصحاب النبي ? كلهم يصلي خلف أئمة الجور. قال الشوكاني: عبدالكريم هذا لايحتج بروايته، وقد استوفى الكلام عليه في الميزان، ولكنه قد ثبت إجماع أهل العصر الأول من بقية الصحابة ومن معهم من التابعين إجماعا فعليا، ولا يبعد أن يكون قوليا على الصلاة خلف الجائزين؛ لأن الأمراء في تلك الأعصار كانوا أئمة الصلوات الخمس، فكان الناس لا يؤمهم إلا أمراؤهم في كل بلدة فيها أمير، وكانت الدولة إذ ذاك لبني أمية وحالهم وحال أمراءهم لا يخفى، وقد أخرج البخاري عن ابن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج، وأخرج مسلم وأهل السنن أن أبا سعيد الخدري صلى خلف مروان صلاة العيد في قصة تقديمه الخطبة على الصلاة، ولأنه قد ثبت أنه ? أخبر بأنه يكون على الأمة أمراء يميتون الصلاة ويصلونها لغير وقتها، فقالوا: يارسول الله فما تأمرنا؟ فقال: صلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم مع القوم نافلة. ولا شك أن من أمات الصلاة وفعلها في غير وقتها غير عدل. وقد أذن النبي ? بالصلاة خلفه نافلة، ولا فرق بينها وبين الفريضة في ذلك. قال الأمير اليماني بعد ذكر هذا الحديث: فقد أذن بالصلاة خلفهم، وجعلها نافلة؛ لأنهم أخرجوها عن وقتها. وظاهره أنهم لو صلوها في وقتها لكان مأمورا بصلاتها خلفهم فريضة، ولما روي عن علي أنه أتاه قوم برجل فقالوا: إن هذا يؤمنا ونحن له كارهون. فقال له علي رضي

(5/111)


الله عنه: إنك لخروط أي مقهور في الأمور أو متعسف في فعلك، أتؤم قوما وهم لك كارهون. ففيه أنه وإن زجره عن الإمامة لكن لم ينه القوم عن الاقتداء به، ولا أمرهم باعادة الصلاة. والحاصل: أنه يحرم على الفاسق، وفي حكمة المبتدع، التقدم للامامة، ولا يجوز للقوم أن يقدموه ولو قدموه مع قدرتهم على المنع والعزل أثموا، وصحت الجماعة خلفه مع الكراهة التحريمية، ولا تفسد الصلاة لعدم ما يدل على بطلان صلاة المؤتمين به. ولو عجزوا عن المنع والعزل، وأمكنهم الصلاة خلف غيره بالتحول إلى مسجد آخر فهو أفضل، وإلا فالاقتداء به أولى من الانفراد، وصحت صلاتهم خلفه، لكن لا تخلو عن الكراهة، يعني يكونون محزرين لثواب صلاة الجماعة، لكن لا ينالون مثل ما ينال من صلى خلف تقي. وبما قلنا يحصل الجمع بين الأدلة المتعارضة الواردة في هذه المسألة. وإن شئت مزيد التفصيل فارجع إلى
والصلاة واجبة على كل مسلم برا أو فاجرا، وإن عمل الكبائر)). رواه أبوداود.

(5/112)


دليل الطالب (ص 335- 339). (والصلاة) أي صلاة الجنازة. (واجبة) أي فرض كفاية عليكم أن تصلوا. (على كل مسلم) أي ميت ظاهر الإسلام. (برا كان أو فاجرا) فيه دليل على أنه يصلي على كل من مات مسلما ولو كان فاسقا. وإليه ذهب مالك والشافعي وأبوحنيفة وجمهور العلماء. قال النووي: قال القاضي: مذهب العلماء كافة الصلاة على كل مسلم ومحدود ومرجوم وقاتل نفسه وولد الزنا- انتهى. وتعقب بأن الزهري يقول: لا يصلى على المرجوم، وقتادة يقول: لا يصلى على ولد الزنا، وقال عمر بن عبدالعزيز والأوزاعي: لا يصلى على الفاسق، ووافقهما أبوحنيفة في الباغي والمحارب، ووافقهما الشافعي في قول له في قاطع الطريق. والحق أن من قال كلمة الشهادة فله ما للمسلمين، ومنه صلاة الجنازة، ولأن عموم شرعية صلاة الجنازة لا يخص منه أحد من أهل كلمة الشهادة إلا بدليل، نعم يستحب للامام، وكذا لأهل العلم والصلحاء والأتقياء خاصة أن يتركوا الصلاة على الفاسق، سيما تارك الصلاة والمديون والغال وقاتل نفسه زجرا للناس. يدل على ذلك امتناعه ? من الصلاة على الغال والمديون، وأمرهم بالصلاة عليهما بقوله: صلوا على صاحبكم. ويدل عليه أيضا حديث الذي قتل نفسه بمشاقص، فقال ?: أما أنا فلا أصلي عليه، ولم ينههم عن الصلاة عليه. (وإن عمل الكبائر) قال ابن مالك: هذا يدل على أن من أتى الكبائر لا يخرج عن الإسلام، وأنها لا تحبط الأعمال الصالحة، يعني خلافا للمبتدعة فيهما. (رواه أبوداود) أي من طريق مكحول عن أبي هريرة في باب الغزو، مع أئمة الجور من كتاب الجهاد، وأخرجه أيضا في باب إمامة البر والفاجر من كتاب الصلاة مختصرا بإسناده في الجهاد على ما في بعض النسخ. ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي في المعرفة والسنن الكبرى (ج3 ص121)، وأخرجه أيضا الدارقطني (ص158) قال الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص27): ضعفه أبوداود بأن مكحولا لم يسمع من أبي هريرة. وقال الدارقطني: مكحول لم يسمع

(5/113)


من أبي هريرة، ومن دونه ثقات. وقال البيهقي: إسناده صحيح إلا أن فيه انقطاعا بين مكحول وأبي هريرة. قال ابن الهمام بعد ذكر كلام الدارقطني: وحاصله أنه من مسمى الإرسال عند الفقهاء، وهو مقبول عندنا، وقد روي هذا المعنى من عدة طرق للدارقطني وأبي نعيم والعقيلي، كلها مضعفة من قبل بعض الرواة. وبذلك يرتقي إلى درجة الحسن عند المحققين، وهو الصواب- انتهى. وقال ابن حجر: الحديث وإن كان مرسلا لكنه اعتضد بفعل السلف. قلت: في كلام ابن الهمام نظر لا يخفى على من له وقوف على طريق الحديث، وكلام الأئمة فيه. والحديث أخرجه الدارقطني أيضا من حديث الحارث عن علي، ومن حديث علقمة والأسود عن عبدالله، ومن حديث مكحول أيضا عن واثلة، ومن حديث أبي الدرداء من طرق كلها، كما قال الحافظ واهية جدا. قال العقيلي: ليس في هذا المتن إسناده يثبت. ونقل
?الفصل الثالث?
1132- (10) عن عمرو بن سلمة قال: (( كنا بماء ممر الناس، يمر بنا الركبان نسألهم: ما للناس، ما للناس؟
ابن الجوزي عن أحمد أنه سئل عنه، فقال ما سمعنا به. وقال الدارقطني: ليس فيها شيء يثبت. قال الحافظ: وللبيهقي في هذا الباب أحاديث كلها ضعيفة غاية الضعف. وأصح ما قيل حديث مكحول عن أبي هريرة على إرساله، يعني انقطاعه. وقال أبوأحمد الحاكم: هذا حديث منكر. وقد أطال الزيلعي الكلام في هذا الحديث في نصب الراية (ج2 ص26- 28).

(5/114)


1132- قوله: (عن عمرو بن سلمة) بكسر اللام. قال الفتني في المغني: سلمة كله بفتح اللام إلا عمرو بن سلمة الجرمي إمام قومه، وبني سلمة القبيلة من الأنصار فبكسرها- انتهى. قال الحافظ في الفتح: عمرو بن سلمة مختلف في صحبته، ففي هذا الحديث أن أباه وفد. وفيه إشعار بأنه لم يفد معه. وأخرج ابن مندة من طريق حماد بن سلمة عن أيوب ما يدل على أنه وفد أيضا، وكذلك أخرجه الطبراني، وقال في تهذيب التهذيب: وفد أبوه على النبي ?، وكان عمرو يصلي بقومه في عهده وهو صغير لم يصح له سماع، ولا رواية. وروي من وجه غريب أنه أيضا وفد مع أبيه روى عن أبيه، وعنه أبوقلابة الجرمي وغيره. قلت: روى ابن مندة في كتاب الصحابة حديثه من طريق صحيحة، وهي رواية الحجاج بن المنهال عن حماد بن سلمة عن أيوب عن عمرو بن سلمة قال: كنت في الوفد الذين وفدوا على الرسول الله ?. وهذا تصريح بوفادته. وقد روى أبونعيم في الصحابة أيضا من طرق ما يقتضي ذلك. وقال ابن حبان: له صحبة. وقال في التقريب: صحابي صغير نزل البصرة. وقال ابن عبدالبر في الاستيعاب (ج2 ص446) أدرك زمن النبي ?، وكان يؤم قومه على عهد رسول الله ?؛ لأنه كان أقرؤهم للقرآن. وقد قيل: إنه قدم على النبي ? مع أبيه، ولم يختلف في قدوم أبيه. وقال ابن حزم في المحلى (ج2 ص218) : قد وجدنا لعمرو بن سلمة هذا صحبة ووفادة على النبي ? مع أبيه -انتهى. وأبوه سلمة بفتح السين وكسر اللام ابن قيس. وقيل: نفيع الجرمي بفتح الجيم وسكون الراء صحابي، ما له في البخاري سوى هذا الحديث، وكذا ابنه. (كنا بماء) أي ساكنين بمحل ماء. قال الطيبي: بماء خبر كان وقوله: (ممر الناس) أي عليه، صفة لماء أو بدل منه، أي نازلين بمكان فيه ماء يمر الناس عليه. قال الحافظ: يجوز في ممر الحركات الثلاث – انتهى. (يمر بنا) استئناف أو حال من ضمير الاستقرار في الخبر. (الركبان) بضم الراء جمع الراكب للبعير خاصة، ثم اتسع فيه فأطلق على من ركب

(5/115)


دابة. (نسألهم) أي نقول لهم. (ما للناس ما للناس) بالتكرار مرتين أي أي شيء حدث للناس كناية عن ظهور دين الإسلام، والتكرار لغاية التعجب. وقال الطيبي: سؤاله هذا يدل على
ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله أوحي إليه، أوحي إليه كذا. فكنت أحفظ ذلك الكلام، فكأنما يغري في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح فيقولون: أتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم،
حدوث أمر غريب، ولذا كرروه وقالوا: (ما هذا الرجل) كناية عن رسول الله ?، وهو يدل على سماعهم منه نبأ عجيبا، فيكون سؤالهم عن وصفه بالنبوة، ولذلك وصفوه بالنبوة، كذا قاله الطيبي، أي هذا الرجل الذي نسمع منه نبأ عجيبا أي ما وصفه. وقال الحافظ: أي يسألون عن النبي ? وعن حال العرب معه. (فيقولون) أي الركبان. (يزعم) أي الرجل يعني يقول. ( أوحي إليه كذا) هكذا في جميع النسخ الموجودة عندنا، وكذا في جامع الأصول (ج6 ص376). والذي في البخاري أوحى الله. (بلفظ الجلالة بدل إليه) ، كذا أي آية كذا أو سورة كذا. قال الطيبي: كناية عن القرآن. ووقع لغير أبي ذر أو أوحى الله كذا، أي بزيادة لفظ "أو" وهو للشك من الراوي، يريد به حكاية ما كانوا يخبرونهم به ما سمعوه من القرآن. وفي المستخرج لأبي نعيم فيقولون: نبي يزعم أن الله أرسله وأن الله أوحى إليه كذا وكذا. (فكنت أحفظ ذلك الكلام) أي الذي ينقلونه عنه، ولأبي داود: وكنت غلاما حافظا، فحفظت من ذلك قرآنا كثيرا. ( فكأنما يغري في صدري) بضم التحتية وفتح الغين المعجمة وتشديد الراء المهملة على بناء المجهول من التغرية، وهو الإلصاق بالغراء وهو الصمغ، أي كأنما يلصق في صدري، ونسبها الحافظ في الفتح للإسماعيلي، قال: ورجحها عياض. قال القاري: ما وقع في أصل نسخ المشكاة الحاضرة فهي رواية الإسماعيلي، وكذا حققه المحقق الشيخ ابن حجر في شرح صحيح البخاري. وقيل: بسكون الغين وفتح الراء من الإغراء. وقيل: بفتح التحتية وسكون الغين وفتح

(5/116)


الراء على بناء المعلوم من غيري بالكسر يغري بالفتح، أي يلصق بالغراء، والغراء بالمد والقصر ما يلصق به الأشياء، ويتخذ من أطراف الجلود والسمك، وفي الصحاح: إذا فتحت الغين قصرت، وإذا كسرت مددت. وفي رواية الكشمهيني: يقر بضم الياء وفتح القاف وتشديد الراء من القرار. وفي رواية عنه يقرى بزيادة ألف مقصورة، أي يجمع من قريت الماء في الحوض، أي جمعته، والبعير يقرى العلف في شدقه، أي يجمعه. وفي رواية الأكثرين: يقرأ مجهولا بسكون القاف آخره همزة مضمومة من القراءة، أي يجمع من قرأ بمعنى جمع، يقال للمرأة ما قرأت بسلى قط، أي لم تجمع في بطنها ولدا. وقال الشاعر: هجان اللون لم يقرأ جنينا. (وكانت العرب) أي ما عدا قومه عليه السلام. والمراد أكثرهم. (تلوم) بفتح التاء واللام والواو المشددة. وأصله بتائين فحذفت إحداهما تخفيفا، أي تنتظر وتتربص. (الفتح) أي فتح مكة يعنى النصرة والظفر على قومه. (فيقولون) تفسير لقوله "تلوم". أنث الضمير أولا باعتبار الجماعة، وجمع ثانيا باعتبار المعنى. (وقومه) أي قريشا، وهو منصوب على المعية. (ظهر عليهم) أي
فهو نبي صادق. فلما كانت وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم، قال: جئتكم والله من عند النبي حقا، فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا. فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنا. فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا مني، لما كنت أتلقى من الركبان. فقدموني بين أيديهم، وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت علي بردة كنت إذا سجدت تقلصت عني، فقالت امرأة من الحي:

(5/117)


غلب على قومه. (فهو نبي صادق) إذ لا يتصور غلبته عليهم كذلك إلا بمحض المعجزة الخارقة للعادة القاضية بأنه لا يظهر عليهم لضعفه وقوتهم. (فلما كانت وقعة الفتح) في رمضان سنة ثمان من الهجرة. (بادر) أي سارع وسابق. (بدر أبي قومي) أي غلبهم وسبقهم. قال الطيبي: قوله "بدر" من باب المبالغة، أي بادر أبي القوم فبدرهم أي غلبهم في البدار بالكسر أي المبادرة. وقال العيني: قوله: بادر أي أسرع، وكذا قوله: بدر، يقال بدرت إلى شيء وبادرت، أي أسرعت. (فلما قدم) أي أبي من عند النبي ?. قال الحافظ في الفتح، والعيني في العمدة: هذا يشعر بأنه ما وفد مع أبيه، ولكن لا يمنع أن يكون وفد بعد ذلك. (قال) أي لهم (جئتكم والله من عند النبي حقا) قال الطيبي: هذا حال من الضمير العائد إلى الموصول، أعنى الألف واللام في النبي ? على تأويل الذي نبي حقا- انتهى. أو حال كونه محقا، قاله ابن حجر، أو حق هذا القول حقا، قاله القاري. (فقال).. أي النبي ? قولا من جملته. (فإذا حضرت الصلاة) أي وقتها. (فليؤذن أحدكم) أي خياركم خير لكم. فلا ينافي ما تقدم من حديث ابن عباس: ليؤذن لكم خياركم؛ لأن هذا لبيان لأفضل، وذلك لبيان الأجزاء، قاله القاري. (فليؤمكم) كذا في جميع النسخ الحاضرة أي بالفاء. والذي في البخاري وليؤمكم أي بالواو، وكذا أي بالواو نقله المجد بن تيمية في المنتقى، والزيلعي في نصب الراية، والجزري في جامع الأصول (ج6 ص387). فالظاهر أن ما وقع في المشكاة خطأ من النساخ. (أكثركم قرآنا) ولأبي داود: قالوا يا رسول الله! من يؤمنا؟ قال أكثركم جمعا للقرآن. (فنظروا) أي في الحي. (فلم يكن أحد أكثر) بنصبه قال القاري: وفي نسخه بالرفع، أي فلم يوجد أحد أكثر. (لما كنت أتلقى) أي القرآن من التلقي، وهو التلقن والأخذ. (فقدموني بين أيديهم) أي للإمامة. (وأنا ابن ست أو سبع سنين) وللنسائي: وأنا ابن ثمان سنين. ولأبي داود: وأنا ابن سبع سنين أو ثمان سنين.

(5/118)


(وكانت علي بردة) شمله مخططة. وقيل: كساء أسود مربع فيه صفر تابسه الأعراب. وفي رواية لأبي داود: وعلي بردة لى صغير صفراء. وفي أخرى: كنت أؤمهم في بردة موصلة فيها فتق. (تقلصت عني) بقاف ولام مشددة وصاد مهملة، أي انجمعت
ألا تغطون عنا أست قارئكم؟ فاشتروا، فقطعوا لي قميصا، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص)).
وانضمت وارتفعت عني لقصرها وصغرها وضيقها وفتقها حتى يظهر شيء من عورتي. وفي رواية أبي داود: تكشفت عني. وفي أخرى: خرجت أستى. (ألا) بتخفيف اللام فالهمزة للإنكار. (عنا) أي عن قبلنا أو عن جهتا. (أست قارئكم) بهمزة وصل أي دبره وعجزه، ولأبي داود: فقالت امرأة من النساء واروا عنا عورة قارئكم. قال في لسان العرب: الستة والأست معروفة، وهومن المحذوف المجتبلة له ألف الواصل الجوهري والأست العجز، وقد يراد به حلقة الدبر، وأصله سته على فعل بالتحريك يدل على ذلك أن جمعه أستاه مثل جمل وأجمال. (فاشتروا) مفعوله محذوف أي ثوبا. ولأبي داود: فاشتروا لي قميصا عمانيا بضم العين مخففا نسبه إلى عمان من البحرين. (فرحي) أي مثل فرحي. (بذلك القميص) إما لأجل حصول التستر وعدم تكلف الضبط وخوف الكشف، وإما فرح به كما هو عادة الصغار بالثواب الجديد. وزاد أبوداود في رواية له: قال عمرو بن سلمة فما شهدت مجمعا من جرم إلا كنت إمامهم. والحديث فيه دليل على أن الأحق بالإمامة الأقرأ. وأن المراد بالأقرأ في حديث أبي مسعود وأبي مسعود وأبي سعيد السابقين الأكثر جمعا للقرآن لا الأحسن قراءة والأكثر علما وفقها. وفي تقديم عمرو بن سلمة وهو ابن سبع سنين، أو ثمان سنين، دليل على جواز إمامة الصبي المميز للمكلفين في النافلة والفريضة. وقد اختلف الناس فيه: فممن أجاز ذلك الحسن البصري وإسحاق بن راهوية والبخاري، والشافعي وله في الجمعة قولان: قال في الأم: لا تجوز. وقال في الإملاء: تجوز، وكرهه عطاء والشعبي ومالك والأوزاعي والثوري وأحمد، وإليه

(5/119)


ذهب أصحاب الرأي. قال في المرقاة: في الحديث دليل على جواز إمامة الصبي. وبه قال الشافعي، وعنه في الجمعة قولان: وقال مالك وأحمد لا يجوز إمامة الصبي، وكذا قال أبوحنيفة: واختلف أصحابه في النفل، فجوزه مشائخ بلخ، وعليه العمل عندهم وبمصر والشام، ومنعه غيرهم وعليه العمل بما وراء النهر- انتهى. وقال الحافظ في الفتح: وعن أبي حنيفة وأحمد روايتان، والمشهور عنهما الاجزاء في النوافل دون الفرائض، واستدل من منع إمامة الصبي بأنه متنفل لعدم وجوب الصلاة عليه، ولا يجوز اقتداء المفترض به، أي بالمتنفل؛ لأن صلاة الإمام متضمنة لصلاة المقتدي صحة وفسادا، لقوله عليه السلام: الإمام ضامن. ولا شك أن الشيء يتضمن ما هو دونه لا ما هو فوقه، فلم يجز اقتداء البالغ بالصبي، وأجيب بأن انتفاع وجوب الصلاة على الصبي لا يستلزم عدم صحة إمامته، لما تقدم من صحة صلاة المفترض خلف المتنفل في باب القراءة. وسيأتي أيضا. وأما قوله عليه السلام: "الإمام ضامن" فقد سبق بيان معناه ووجه عدم صحة الاستدلال به على مدعاهم في باب فضل الأذان، واستدلوا أيضا بما روى عن ابن مسعود قال: لا يؤم الغلام حتى تجب عليه الحدود، وعن ابن عباس قال: لا يؤم الغلام حتى يحتلم. أخرجهما الأثرم في سننه، وأثر ابن عباس أخرجه عبدالرزاق عنه

(5/120)


مرفوعا. قال الحافظ في الفتح: اسناده ضعيف وأجيب عنه بأنه من قول الصحابي وللاجتهاد فيه مسرح، فلا يكون حجة سيما وقد ورد ما يدل على خلافه، وهو حديث عمرو بن سلمة الجرمي الذي نحن بصدد شرحه، واحتج ابن حزم على عدم الصحة بأنه ? أمرهم أن يؤمهم أقرأهم. قال: فعلى هذا إنما يؤم من يتوجه إليه الأمر، والصبي ليس بمأمور؛ لأن القلم رفع عنه، فلا يؤم كذا قال، ولا يخفى فساده؛ لأنا نقول: المأمور من يتوجه إليه الأمر من البالغين بأنهم يقدمون من اتصف بكونه أكثر قرآنا فبطل ما احتج به، كذا في الفتح قال الحنيفة: ومن وافقهم حديث عمرو هذا لاحجة فيه على صحة إمامة الصبي؛ لأنه لم يرد أن ذلك كان عن أمره ? ولا عن علمه وتقريره وإنما قدموه باجتهادهم، ورد بأن دليل الجواز وقوع ذلك في زمن الوحي ولا يقرر فيه على فعل ما لا يجوز، سيما في الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام، وقد نبه ? بالوحي على القذى الذي كان في نعله، فلو كان إمامة الصبي لا تصح لنزل الوحي بذلك. وقد استدل أبوسعيد وجابر بأنهم كانوا يعزلون والقرآن ينزل، والوفد الذين قدموا عمرا كانوا جماعة من الصحابة. قال ابن حزم في المحلى (ج4 ص218) بعد رواية الحديث: فهذا فعل عمرو بن سلمة، وطائفة من الصحابة معه لا يعرف لهم من الصحابة مخالف فأين الحنفيون والمالكيون المشنعون بخلاف الصحابة، إذا وافق تقليدهم وهم أترك الناس له لا سيما من قال منهم أن ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع. وقد وجدنا لعمرو هذا صحبة ووفادة على النبي ? مع أبيه- انتهى. وقال الحافظ في الفتح: لم ينصف من قال: إنهم فعلوا ذلك باجتهادهم ولم يطلع النبي ? على ذلك؛ لأنها شهادة نفي، ولأن زمن الوحي لا يقع التقرير فيه على ما لا يجوز، كما استدل أبوسعيد وجابر لجواز العزل، لكونهم فعلوه عهد النبي ?، ولو كان منهيا عنه لنهي عنه في القرآن - انتهى. وأجابوا أيضا بما ذكر الخطابي في المعالم (ج1 ص169) : عن أحمد بن حنبل أنه كان

(5/121)


يضعف أمر عمرو بن سلمة، وأنه قال: مرة دعه ليس بشيء بين، وبأنه لم يخرج البخاري حديث عمرو هذا في باب إمامة العبد والمولى وولد البغي والأعرابي والغلام الذي لم يحتلم، ولم يستدل به على إمامة غير البالغ، بل احتج لذلك بعموم قوله ?: يؤمهم أقرأهم لكتاب الله. والظاهر أنه فعل ذلك؛ لأنه رأى حديث عمرو غير بين في الدلالة على ذلك فتوقف فيه كما توقف أحمد، فقد نقل أيضا عنه أنه قال: "لا أدري ما هذا" فلعله لم يتحقق بلوغ أمر النبي ?، ورد بأن عمرو بن سلمة، هذا صحابي. وقد روى ما يدل على أنه وفد النبي ? كما تقدم، وحديثه هذا صحيح، وظاهر في الدلالة على إمامة الصبي، كما تقدم وجه الاستدلال به، فلا معنى لتضعيف أمره والتوقف في الاستدلال به على جواز إمامة غير البالغ للمكلف. وأجابوا أيضا بأن عمرو بن سلمة كان عند إمامته لقومه بالغا، ثم اختلفوا فقال قائل وهو
رواه البخاري.
1133- (11) وعن ابن عمر، قال: (( لما قدم المهاجرون الألون المدينة، كان يؤمهم

(5/122)


ابن القيم، كما صرح في البدائع (ج4 ص91): أن رواية: "أنه كان له سبع سنين" فيه رجل مجهول، فهو غير صحيح. وقال بعضهم: إن العمر المذكور في الحديث هو لتلقينه القرآن من الركبان لا لإمامته. وقد وقع التقصير من الراوي في التعبير حيث جعله عمر إمامته. قال في فيض الباري (ج2 ص 218) : والجواب عندي إن في القصة تقديما وتأخيرا، فما ذكره من عمره، هو عمر تعلمه القرآن دون عمر إمامته، كما يعلم من مراجعة كتب الرجال. وقال في (ج4 ص113) قوله: "فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين" فيه تصور إذ عمره المذكور عند تحقيق كان لأخذ القرآن لا لإمامته. وهكذا بيعته أيضا كان بعد ما بلغ الحلم. وقد قصر الراوي في التعبير- انتهى بلفظه. ورد بأنه لا دليل على أن عمرو بن سلمة كان قد بلغ الحلم عند إمامته لقومه، بل تبطله الروايات المصرحة بكونه غير بالغ عند تقديم قومه له لإمامة الصلاة، فلا يلتفت إلى قولهم، لكونه دعوى مجردة عن البرهان. وأما قول ابن القيم بأن الرواية المذكورة غير صحيحة، فهو صادر عن الغفلة؛ لأنها مخرجة في صحيح البخاري. وأما ما قال صاحب الفيض: إن القصة وقع فيها تقديم وتأخير وأن العمر المذكور في الحديث كان لأخذه القرآن لا لإمامته. ففيه أنه ادعاء محض. ونسبه الوهم والقصور إلى الراوي من غير حجة وبينة، وقد راجعنا كتب الرجال فلم نجد فيها شيئا يدل على ما ادعاه، ولا يمكن لمن يدعي ذلك أن يأتي عليه بنقل قوي أو ضعيف أبدا. وأما القدح في الحديث بأن فيه كشف العورة في الصلاة، وهو لا يجوز. ففيه أنه يحتمل أن يكون ذلك قبل علمهم بالحكم، فلا يعترض بذلك على من استدل بقصة عمرو هذه على جواز إمامة غير البالغ فتأمل. (رواه البخاري) في غزوة الفتح. وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي.

(5/123)


1133- قوله: (لما قدم) أي من مكة. (المهاجرون الأولون) أي الذين سبقوا بالهجرة إلى المدينة، وقدموا أولا قبل قدوم النبي ? (المدينة) بالنصب على الظرفية، لقوله "قدم" كذا في جميع النسخ للمشكاة. وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج6 ص 378) ونسبه إلى البخاري وأبي داود. والذي في البخاري في إمامة العبد من كتاب الصلاة العصبة موضعا بقباء. وفي رواية أبي داود: لما قدم المهاجرون الأولون نزلوا العصبة. قال الحافظ: أي المكان المسمى بذلك، وهو بإسكان الصاد المهملة بعدها موحدة. واختلف في أوله فقيل: بالفتح. وقيل: بالضم. ثم رأيت في النهاية: ضبطه بعضهم بفتح العين والصاد المهملتين. قال أبوعبيد البكرى: لم يضبطه الأصيلي في روايته، والمعروف المعصب بوزن محمد بالتشديد وهوموضع بقباء. (كان يؤمهم) أي المهاجرين،
سالم مولى أبي حذيفة، وفيهم عمر، وأبوسلمة بن عبدالأسد.

(5/124)


ومن أسلموا من أهل المدينة. (سالم) بالرفع اسم كان. (مولى أبي حذيفة) هو ابن عتبة بن ربيعة بن عبدشمس ابن عبد مناف القرشي، كان من فضلاء الصحابة من المهاجرين الأولين، صلى القبلتين وهاجر الهجرتين جميعا، وكان إسلامه قبل دخول رسول الله ? دار الأرقم للدعاء فيها إلى الإسلام، هاجر مع امرأته سهلة بنت سهل بن عمرو إلى أرض الحبشة، ثم قدم على رسول الله ? وهو بمكة، فأقام بها حتى هاجراإلى المدينة. وشهد بدرا وأحدا والخندق والحديبية والمشاهد كلها، وقتل يوم اليمامة شهيدا، وهو ابن ثلاث أو أربع وخمس سنة. يقال: اسمه مهشم. وقيل: هشيم. وقيل: هاشم. وكان سالم المذكور مولى زوج أبي حذيفة الأنصارية، فأعتقه وكانت إمامته بهم قبل أن يعتق، وإنما قيل له مولى أبي حذيفة؛ لأنه لما أعتقته مولاته زوج أبي حذيفة تولى أبا حذيفة ولازمه وتبناه أبوحذيفة، فلما نهوا عن ذلك قيل له مولاه، واستشهد سالم باليمامة في خلافة أبي بكر. قال الذهبي: سالم مولى أبي حذيفة من كبار البدريين، مشهور كبير القدر. يقال له سالم بن معقل، وكان من أهل فارس من اصطخر. وقيل: إنه من العجم من سبي كرمان، وكان يعد في قريش لتبني أبي حذيفة له، ويعد في العجم لأصله، ويعد في المهاجرين لهجرته، ويعد في الأنصار لأن معتقته أنصارية، ويعد من القراء؛ لأنه كان أقرأهم أي أكثرهم قرآنا. وقال ابن عبدالبر: كان من فضلاء الموالى ومن خيار الصحابة وكبارهم. وههنا في البخاري زيادة لم يذكرها المصنف وهو قوله: "وكان أكثرهم قرآنا"، وفيه إشارة إلى سبب تقديمهم له مع كونهم أشرف منه. وفي رواية للطبراني، كما في مجمع الزوائد (ج2 ص64)؛ لأنه كان أكثرهم قرآنا. (وفيهم) أي وفي الذين كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة. (عمر) بن الخطاب. (وأبوسلمة بن عبد الأسد) هو عبدالله بن عبد الأسد بن هلال بن عبدالله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي زوج أم سلمة قبل النبي ? كان أخا رسول الله ?، وأخا حمزة من

(5/125)


الرضاعة أرضعته ثويبة مولاة أبي لهب أرضعت حمزة، ثم رسول الله ?، ثم أبا سلمة. وأمه برة بنت عبدالمطلب بن هاشم عمة النبي ?، كان ممن هاجر بإمرأته أم سلمة إلى أرض الحبشة، ثم شهد بدرا بعد أن هاجر الهجرتين، وجرح يوم أحد جرحا اندمل، ثم انتقض، فمات منه، وذلك لثلاث مضين من جمادي الآخرة سنة ثلاث من الهجرة، واستخلفه رسول الله ? على المدينة حين خرج إلى غزوة ذي العشيرة، وكانت في السنة الثانية من الهجرة وهو ممن غلبت عليه كنيته، وتزوج رسول الله ? بعده زوجته أم سلمة. وهذه الجملة أىقوله: " وفيهم عمرو أبوسلمة" ليست للبخاري، بل هي لأبي داود. والحديث رواه البخاري في باب استقضاء الموالى واستعمالهم من كتاب الأحكام بلفظ: قال ابن عمر كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين وأصحاب النبي ? في مسجد قباء، فيهم أبوبكر وعمر وأبوسلمة وزيد. (أي ابن حارثة) وعامر بن ربيعة. (أي العنزي مولى عمر). وقد استشكل ذكر أبي بكر الصديق فيهم إذ في الحديث أن ذلك كان قبل مقدم النبي ?
رواه البخاري.
1134- (12) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله ?: ((ثلاثة لا ترفع لهم صلاتهم فوق رؤسهم شبرا: رجل أم قوما وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأخوان

(5/126)


وأبوبكر كان رفيقه وصاحبه في الهجرة. ووجهه البيهقي بأنه يحتمل أن يكون سالم استمر يؤمهم بعد أن تحول النبي ? إلى المدينة، ونزل بدار أبي أيوب قبل بناء مسجده بها، فيحتمل أن يقال فكان أبوبكر يصلي خلفه إذا جاء إلى قباء، واستدل بإمامة سالم بهؤلاء الجماعة على جواز إمامة العبد، ولذلك أورده المصنف في باب الإمامة تبعا للبخاري والمجد بن تيمية. ووجه الدلالة منه إجماع كبار الصحابة القرشيين على تقدم سالم عليهم. ويدل عليه أيضا ما روى الشافعي في مسنده وعبد الرزاق عن ابن أبي ملكية أنه كان يأتي عائشة هو وأبوه وعبيد بن عمير والمسور بن مخرمة وناس كثير فيؤمهم أبوعمر ومولى عائشة، وهو يومئذ غلام لم يعتق. وروى البيهقي عن هشام بن عروة عن أبيه أن أبا عمر وذكوان كان عبدا لعائشة فأعتقه وكان يقوم بها شهر رمضان يؤمها وهو عبد. قال الحافظ: وإلى صحة إمامة العبد ذهب الجمهور، وخالف مالك فقال: لا يؤم الأحرار إلا إن كان قارئا وهم لا يقرؤن فيؤمهم إلا في الجمعة؛ لأنها لا تجب عليه، وخالفه أشهب واحتج بأنها تجزئه إذا حضرها. وقال العيني: قال أصحابنا تكره إمامة العبد لإشتغاله بخدمة مولاه، وأجازها أبوذر وحذيفة وابن مسعود، ومن التابعين ابن سيرين والحسن وشريح والنخعي والشعبي والحكم، ومن الفقهاء الثوري وأبوحنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال مالك: تصح إمامته في غير الجمعة. وفي رواية : لا يؤم إلا إذا كان قارئا، ومن خلفه من الأحرار لا يقرؤن ولا يؤم في جمعة ولا عيد. وفي المبسوط: إن إمامته جائزة وغيره أحب ولو اجتمع عبد فقيه وحر غير فقيه، فثلاثة أوجه: أصحها أنهما سواء، ويترجح قول من قال: العبد الفقيه أولى، لما أن سالما كان يؤم المهاجرين الأولين في مسجد قباء فيهم عمر وغيره؛ لأنه كان أكثرهم قرآنا- انتهى كلام العيني باختصار يسير. وقال القاري في إمامة سالم مع وجود عمر دلالة قوية على مذهب من يقدم الأقرأ على الأفقه. (رواه

(5/127)


البخاري) فيه نظر؛ لأن اللفظ المذكور ليس للبخاري، وقد ذكرنا سياقه الذي في كتاب الأحكام ولفظه: في أبواب الإمامة لما قدم المهاجرون الأولون العصبة موضعا بقباء قبل مقدم رسول الله ? كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة وكان أكثرهم قرآنا. والحديث أخرجه أبوداود والبيهقي أيضا.
1134- قوله: (لا ترفع لهم صلاتهم فوق رؤسهم شبرا) أي قدر شبر، وهوكناية عن عدم القبول كما تقدم. (وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط) لعدم إطاعتها إياه فيما أراد منها، ولهذا قال "باتت"؛ لأن ذلك في العادة يكون في الليل إلا فلا يختص الحكم بالليل، قاله السندي. (وأخوان) بفتحتين أي نسبا أو دينا بأن يكونا
متصارمان)). رواه ابن ماجه.
(27) باب ما على الإمام
?الفصل الأول?
1135- (1) عن أنس، قال: (( ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من النبي ?،
مسلمين. (متصارمين) أي متقاطعان أي فوق ثلاث أو في الباطل. والحاصل أن المراد هو التقاطع الغير الجائز دينا وعد الأخوين ثالثا باعتبار أن المراد بالثلاثة الأنواع الثلاثة لا النفر الثلاثة، فليتأمل، قال الطيبي: متصارمان من الصرم، وهو القطع. وإخوان أعم من أن يكونا من جهة النسب أو الدين، لما ورد: لا يحل لمسلم أن يصارم مسلما فوق ثلاث أي يهجره ويقطع مكالمته- انتهى. (رواه ابن ماجه) قال العراقي: وإسناده حسن. وقال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. وقال ميرك: إسناده حسن. قال النووي. ورواه ابن حبان في صحيحه- انتهىكلام ميرك.

(5/128)


(باب ما على الإمام) أي هذا باب في بيان الحقوق التي للمؤتمين على الإمام، وأهمها التخفيف في الصلاة رعاية لحالهم من المرض والسقم والحاجة وعدم التطويل الذي ينفرهم عن حضور الجماعة. وقال القاري: ما على الإمام أي من مراعاة المأمومين بالتخفيف في الصلاة، قال في اللمعات: ينبغي أن يعلم أنه ليس المراد بالتخفيف وترك التطويل أن يترك سنة القراءة والتسبيحات ويتهاون في أدائها، بل أن يقتصر على قدر الكفاية في ذلك، مثل أن يقتصر على قراءة المفصل بأقسامها على ما عين منها في الصلاة، ويكتفي على ثلاث مرات من التسبيح بأدائها، كما ينبغي مع رعاية القومة والجلسة، وأكثر ما يراد بتخفيف الصلاة الوارد في الأحاديث تخفيف القراءة- انتهى. وسيأتي مزيد بيان لذلك في شرح أحاديث الباب، وما هو الراجح في معنى التخفيف المأمور المطلوب في حق الإمام.
1135- قوله: (ما صليت وراء إمام قط) أي مع طول عمره، فإنه آخر من مات بالبصرة من الصحابة سنة إحدى وتسعين، وله من العمر مائة وثلاث سنين. (أخف) صفة لإمام (صلاة) بالنصب على التمييز. (ولا أتم) عطف على سابقه، يعني صلاته ? كانت خفيفة غير طويلة، ومع خفتها كانت تكون تامة كاملة. فقد روى مسلم من حديث أنس أن رسول الله ? كان من أخف الناس صلاة في تمام، ولهما عن أنس أيضا: كان يوجز في الصلاة ويتم: وقيل. يمكن أن يكون المعنى أنه ? كان يطيل الصلاة حين يرى رغبة الصحابة في التطويل ونشاطهم لذلك ويخفف أخرى عند وجود عذر أو داع يدعوا إلى التخفيف وترك الطويل والظاهر هو

(5/129)


المعنى الأول. قيل: خفة الصلاة عبارة عن عدم تطويل قراءتها فوق ما ورد، وعين في الأحاديث وعن تخفيف القعود وتمامها عبارة عن الإتيان بجميع الأركان والواجبات والسنن وعن إتمام الركوع والسجود، فقد روى النسائي من حديث زيد بن أسلم عن أنس قال: ما صليت وراء إمام أشبه صلاة برسول الله ? من إمامكم هذا. (يعني عمر بن عبدالعزيز) قال زيد: وكان عمر بن عبدالعزيز يتم الركوع والسجود ويخفف القيام والقعود. وروى أبوداود والنسائي من حديث أنس أيضا قال: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله ? أشبه صلاة برسول الله من هذا الفتى، يعني عمر بن عبدالعزيز، فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحات. فقد علم من هذين الحديثين أن المراد بخفة الصلاة تخفيف القيام والقعود، وبتمامها اتمام الركوع والسجود، وعلم أيضا أن من سبح في الركوع والسجود عشر تسبيحات لا يكون فعله مخالفا لما وصف به أنس صلاة رسول الله ? من خفتها مع التمام. وقيل: التخفيف أمر نسبي، فرب طويل يكون قصيرا بالنسبة إلى أطول منه، والقصير يكون طويلا بالنسبة إلى أقصر منه، فكانت صلاته ? خفيفة، ومع خفتها تكون تامة ولا اشكال فيه. وقيل: المراد أن تطويله ? يرى بالنسبة إلى صلاة الآخرين في غاية الخفة، يعني لو كان غيره ? يقرأ مثل هذه القراءة يرى طويلا ويورث الملالة بخلافها عنه ?، فإنه كان يورث ذوقا ونشاطا ولذة وحضور بالاستماع عنه ? من جهة حسن الصوت وجودة الأداء وبروز الأنوار وظهور الأسرار. وأيضا كان في قراءته ? سرعة وطي لسان وزمان يتم في أدنى ساعة كثيرا منها مع كونها مجودة مرتلة مبينة. وقال ابن القيم في كتاب الصلاة بعد ذكر حديث الباب وحديث أنس عند البخاري بلفظ: "كان يوجز الصلاة ويكملها" ما لفظه: فوصف أي أنس صلاته ? بالإيجاز والتمام، والإيجاز هو الذي كان يفعله لا الايجاز الذي يظنه من لم يقف على مقدار صلاته، فان الإيجاز أمر نسبي اضافي راجع إلى السنة لا إلى

(5/130)


شهوة الإمام ومن خلفه، فلما كان يقرأ في الفجر بالستين إلى المائة. (أي آية) كان هذا الايجاز بالنسبة إلى ست مائة إلى ألف ولما قرأ في المغرب بالأعراف كان هذا الايجاز بالنسبة إلى البقرة، ويدل على هذا أن أنسا نفسه قال في الحديث الذي رواه أبوداود والنسائي: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله ? أشبه صلاة برسول الله ? من هذا الفتى، يعني عمر بن عبدالعزيز، فحرزنا في ركوعه عشر تسبيحات الخ. وأنس أيضا هو القائل في الحديث المتفق عليه: إني لا آلو أن أصلي بكم كما كان رسول الله يصلي بنا. قال ثابت كان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى يقول القائل: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى يقول القائل: قد نسي، وأنس هو القائل هذا، وهو القائل: "ما صليت وراء إمام أخف صلاة ولا أتم من صلاة النبي ?"، وحديثه لا يكذب
وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أمه)).

(5/131)


بعضه بعضا- انتهى. (وإن كان) إن هذه هي المخففة من المثقلة، واسمها ضمير الشأن، وكان خبرها أي أنه كان (ليسمع بكاء الصبي) فيه جواز ادخال الصبيان المساجد وإن كان الأولى تنزيه المساجد عمن لا يؤمن حدثه فيها؛ لحديث "جنبوا مساجدنا صبيانكم" الخ. أخرجه ابن ماجه بسند ضعيف جدا. وقال الحافظ: فيه أي في الاستدلال بحديث الباب على جواز إدخال الصبيان المساجد نظر، لاحتمال أن يكون الصبي كان مخلفا في بيت بقرب من المسجد بحيث يسمع بكاءه. (فيخفف) بين مسلم في رواية ثابت عن أنس محل التخفيف ولفظه: "فيقرأ بالسورة القصيرة". وبين أبي شيبة من طريق عبدالرحمن بن سابط مقدارها ولفظه: أنه ? قرأ في الركعة الأولى بسورة طويلة فسمع بكاء صبي فقرأ بالثانية بثلاث آيات، وهذا مرسل، كذا في الفتح. وذكر العيني حديث ابن سابط بلفظ "قرأ في الركعة الأولى بسورة نحو ستين آية فسمع بكاء الصبي" الخ. (مخافة أن تفتن أمه) بضم المثناة الفوقية مبنيا للمفعول من الثلاثي ومن الأفعال والتفعيل أي تلتهى عن صلاتها لاشغال قلبها ببكائه، زاد عبدالرزاق من مرسل عطاء أو تتركه فضيع. وقوله: "مخافة بفتح الميم منصوب على التعليل مضاف إلى أن المصدرية، أي خوفا من افتتان أمه. وفي نسخة أبي ذر من البخاري "أن يفتن" بفتح المثناة التحتية وكسر ثالثه مبنيا للفاعل، وأمه بالنصب على المفعولية. وذكره الجزري في جامع الأصول (ج6 ص374) بلفظ "مخافة أن تفتن أمه" أي من الافتنان، وفي الحديث دلالة على كمال شفقة النبي ? على أصحابه ومراعاة أحوال الكبير مهم والصغير، وعلى مشروعية إيثار تخفيف الصلاة للأمر يحدث. قال السندي: وربما يؤخذ منه أن الإمام يجوز له مراعاة من دخل المسجد بالتطويل ليدرك الركعة كما له أن يخفف لأجلهم ولا يسمى مثله رياء بل هو إعانة على الخير وتخليص عن الشر- انتهى. وقال الخطابي في المعالم (ج1 ص102) : فيه دليل على أن الإمام وهو راكع إذا أحس برجل يريد الصلاة

(5/132)


معه كان له أن ينتظره راكعا ليدرك فضيلة الركعة في الجماعة؛ لأنه إذا كان له أن يحذف من طول الصلاة لحاجة الإنسان في بعض أمور الدنيا كان له أن يريد فيها لعبادة الله، بل هو أحق بذلك وأولى. وتعقبه القرطبي بأن في التطويل ههنا زيادة عمل في الصلاة غير مطلوب بخلاف التخفيف والحذف فإنه مطلوب- انتهى. قال ابن بطال: وممن أجاز ذلك الشعبي والحسن وعبدالرحمن بن أبي ليلى. وقال آخرون: ينظر ما لم يشق على أصحابه، وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثور. وقال مالك: لا ينتظر؛ لأنه يضر من خلفه، وهو قول الأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي، ذكره العيني. وقال الحافظ في هذه المسألة خلاف عند الشافعية وتفصيل. وأطلق النووي عن المذهب استحباب ذلك. وفي التجريد للمحاملى: نقل كراهيته عن الجديد، وبه قال الأوزاعي ومالك وأبوحنيفة وأبويوسف. وقال محمد بن الحسن: أخشى أن يكون شركا- انتهى. قلت: القول بكراهة ذلك لحمله على الرياء وتوهم الشرك فيه غفلة عظيمة من قائله، وتنطع في الدين، وتعمق في الشريعة لا يصح لأهل الورع
متفق عليه.
1136- (2) وعن أبي قتادة، قال: قال رسول الله ? : (( إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها،
فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه)). رواه البخاري.

(5/133)


والتقوى. فالدين يسر، والله تعالى ما كلفنا فوق وسعنا، ونية الإحسان إلى المسلم نية جميلة حسنة يثاب عليها صاحبها لكونها لله تعالى ولا شك أن في مراعاة الإمام من دخل المسجد بالتطويل ليدرك الركعة من غير أن يشق على أصحابه إعانة له على طاعة مع نية التقرب إلى الله تعالى بتطويل الركن، وليس فيه شائبة الرياء والشرك، كيف وقد روى أحمد وأبوداود عن عبدالله بن أبي أوفي أن النبي ? كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم. وقد سكت عنه أبوداود والمنذري، وفيه رجل مجهول، وروى هو أيضا وابن خزيمة وابن حبان عن أبي قتادة أنه قال: (أى في بيان حكمة تويل الركعة الأولى) فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى، فأعدل الأقوال عندنا هو ما ذهب إليه أحمد وإسحاق وأبوثور. والله تعالى أعلم. (متفق عليه) فيه نظر؛ لأن مسلما أخرج القطعة الأولى فقط أي إلى قوله: "ولا أتم الصلاة من النبي ?" وأما القطعة الثانية فهي من أفراد البخاري. أخرجه الإسماعيلي مطولا بتمامه. وروى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه والبيهقي من طريق آخر عن أنس أن النبي ? قال: "إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد اطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتى مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه"، لفظ البخاري.

(5/134)


1136- قوله: (وأنا أريد إطالتها) جملة حالية. (فأسمع بكاء الصبي) قال العيني: البكاء إذا مددت أردت به الصوت الذي يكون معه، وإذا قصرت أردت خروج الدمع. وههنا ممدود لا محالة لقرينة فأسمع، إذ السماع لا يكون إلا في الصوت. (فأتجوز) أي فأخفف. (في صلاتي) قال الطيبي: أي أخفف كأنه تجاوز ما قصده أي ما قصد فعله لو لا بكاء الصبي، قال: ومعنى التجوز أنه قطع قراءة السورة، وأسرع في أفعاله- انتهى. والأظهر أنه شرع في سورة قصيرة بعد ما أراد أن يقرأ سورة طويلة، كما تقدم من حديث أنس عند مسلم. (مما أعلم) "ما" مصدرية أو موصولة، والعائد محذوف. ومن تعليليه للاختصار، أي من أجل ما أعلم. (من شدة وجد أمه) بفتح الواو وسون الجيم، أي حزنها من وجد له يجد ويجد وجدا أي حزن. وقال ابن سيدة في المحكم: وجد يجد وجدا بالسكون والتحريك حزن- انتهى. ومن بيانية لما. (من بكاءه) تعليلية للوجد. قال الحافظ: وكان ذكر الإمام هنا خرج مخرج الغالب، وإلا فمن كان في معناه يلتحق بها. وفي الحديث دلالة على حضور النساء إلى المساجد مع النبي ?. (رواه البخاري) أي عن أبي قتادة، وفيه
1137- (3) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ?: ((إذا صلى أحدكم للناس فليخفف، فإن
فيهم السقيم والضعيف والكبير.

(5/135)


نظر؛ لأن السياق الذي ذكره المصنف إنما هو لحديث أنس كما أسلفنا لا لأبي قتادة، وحديث أبي قتادة أخرجه البخاري في موضعين، رواه أولا في باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي بلفظ: إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتى كراهية أن أشق على أمه، ثم رواه في باب خروج النساء إلى المساجد قبيل كتاب الجمعة بلفظ: إني لأقوم إلى الصلاة وأنا أريد أن أطول فيها، والباقي مثله. وقد ظهر بهذا أن المصنف أخطأ في بيان مخرج الحديث، أي في ذكر الصحابي الذي روى الحديث بسياق الكتاب، فكان عليه أن يقول وعنه. (أى عن أنس) مكان وعن أبي قتادة وحديث أبي قتادة، أخرجه أيضا أبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي.

(5/136)


1137- قوله: (إذا صلى أحدكم للناس) أي إماما لهم فرضا أو نفلا أو اللام بمعنى الباء. وفي رواية لمسلم: إذا أمأحدكم الناس. (فليخفف) التخفيف من الأمور الإضافية، فقد يكون الشيء خفيا بالنسبة إلى عادة قوم طويلا بالنسبة لعادة آخرين، فينبغي أن يقتدي بأضعف قومه بشرط أن لا يبلغ الإخلال في الفرئض والواجبات والسنن، فلا بد من التخفيف مع الكمال. قال الحافظ: أولى ما أخذ حد التخفيف من الحديث الذي أخرجه أبوداود والنسائي عن عثمان بن أبي العاص أن النبي ? قال له: أنت إمام قومك، واقتد أضعفهم، إسناده حسن، وأصله في مسلم- انتهى. وقد تقدم هذا الحديث في باب فضل الآذان. (فإن فيهم السقيم) أي المريض. (والضعيف) أي ضعيف الخلقة. (والكبير) أي في السن. زاد مسلم في رواية: والصغير. وزاد الطبراني من حديث عثمان بن أبي العاص: والحامل والمرضع، وله من حديث عدي بن حاتم: والعابر السبيل. وقوله في حديثي أبي مسعود وعثمان بن أبي العاص الآيتين: ذا الحاجة يشمل الأوصاف المذكورة، وقد وقع أيضا هذا في رواية لمسلم من حديث أبي هريرة وقوله: فإن فيهم الخ تعليل للأمر المذكور. فمقتضاه أنه متى لم يكن فيهم من يتصف بصفة من المذكورات أو كانوا محصورين راضين بالتطويل في مكان لا يدخله غيرهم لم يضر التطويل؛ لانتفاء العلة. لكن قال ابن عبدالبر: إن العلة الموجبة للتخفيف عندي مأمونة؛ لأن الإمام وإن علم قوة من خلفه فإنه لا يدري ما يحدث بهم من حادث شغل، وعارض من حاجة، وآفة من حدث بول أو غيره. وقال اليعمري: الأحكام إنما تناط بالغالب لا بالصورة النادرة، فينبغي للأئمة التخفيف مطلقا، قال وهذا كما شرع القصر في صلاة المسافر، وعلل بالمشقة، وهو مع ذلك يشرع، ولو لم يشق عملا بالغالب؛ لأنه
وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ماشاء )). متفق عليه.
1138- (4) وعمن قيس بن أبي حازم، قال: أخبرني أبومسعود أن رجلا قال: ((والله يا رسول الله!

(5/137)


لا يدري ما يطرأ عليه وهنا كذلك. (فليطول ما شاء) أى في القراءة والركوع والسجود والاعتدال والجلوس بين السجدتين والتشهد. وفي رواية لمسلم: فليصل كيف شاء أي مخففا أومطولا، يعني أنه لا حجر عليه إن شاء طول وإن شاء طول وإن شاء خفف، ولكن لا ينبغي التطويل إلى أن يخرج الوقت أو يدخل في حد الكراهة. وفي مسند السراج: وإذا صلى وحده فليطول إن شاء. والحديث يدل على مشروعية التخفيف للأئمة، وترك التطويل للعلل المذكورة من الضعف والسقم والكبر والحاجة، ويلحق بها ما كان في معناها. واختلفوا في أن الأمر المذكور للوجوب أو الندب. قال القسطلاني: وقد ذهب جماعة كابن حزم وابن عبدالبر وابن بطال إلى الوجوب تمسكا بظاهر الأمر في قوله: فليخفف، وعبارة ابن عبدالبر في هذا الحديث أوضح الدلائل على أن أئمة الجماعة يلزمهم التخفيف لأمره عليه الصلاة والسلام إياهم بذلك، ولا يجوز لهم التطويل؛ لأن في الأمر بالتخفيف نهيا عن التطويل. والمراد بالتخفيف أن يكون بحيث لا يخل بسننها ومقاصدها- انتهى. وقال الشوكاني في النيل: قال ابن عبدالبر: التخفيف لكل إمام أمر مجمع عليه مندوب عند العلماء إليه إلا أن ذلك إنما هو أقل الكمال، وأما الحذف والنقصان فلا لأن رسول الله ? قد نهى عن نقر الغراب، ورأى رجلا يصلي فلم يتم ركوعه، فقال له : إرجع فصل فإنك لم تصل، وقال: لا ينظر الله إلى من لا يقيم صلبه في ركوعه وسجوده، ثم قال: لا أعلم خلافا بين أهل العلم في استحباب التخفيف لكل من أم قوما على ما شرطنا من الإتمام، وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: لا تبغضوا الله إلى عبادة يطول أحدكم في صلاته حتى يشق على من خلفه- انتهى. (متفق عليه) واللفظ البخاري، وأخرجه أيضا أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص115- 117).

(5/138)


1138- قوله: (وعن قيس بن أبي حازم) بالمهملة والزاى. قال في التقريب: قيس بن أبي حازم البجلي أبوعبدالله الكوفي، ثقة من كبار التابعين مخضرم، ويقال له رؤية. وهو الذي يقال: إنه اجتمع له أن يروي عن العشرة، مات بعد التسعين أو قبلها، وقد جاوز المائة وتغير. وقال في التهذيب: أدرك الجاهلية، ورحل إلى النبي ? ليباعه فقبض، وهو في الطريق، وأبوه له صحبة، ويقال: إن لقيس رؤية ولم يثبت. وقد أوضح القول في ذلك في الإصابة (ج3 ص271- 272) فارجع إليه. (أخبرني أبومسعود) عقبة بن عمرو الأنصاري البدري. (أن رجلا) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، ووهم من زعم أنه حزم بن أبي بن كعب؛
إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطبل بنا. فما رأيت رسول الله ? في موعظة أشد غضبا منه يومئذ، ثم قال: إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز،

(5/139)


لأن قصته كانت مع معاذ. (كما روى أبوداود في باب تخفيف الصلاة) لا مع أبي بن كعب. (إني لأتاخر عن الصلاة العداة) أي لا أحضر صلاة الصبح مع الجماعة. وفي رواية للبخاري: عن صلاة الفجر. وإنما خصها بالذكر؛ لأنها تطول فيها القراءة غالبا، ولأن الانصراف منها وقت التوجه لمن له حرفة إليها. (من أجل فلان) يعني إمام مسجد حية أو قبيلته. (مما يطيل بنا) أي من أجل إطالته بنا فما مصدرية، ومن الأولى تعليلية للتأخر والثانية بدل منها. وقال الطيبي: ابتدائية متعلقة بأتأخر، والثانية مع في حيزها بدل منها. والمراد من الإطالة أي في القراءة. وهذه قصة أخرى غير قصة معاذ المتقدمة في باب القراءة في الصلاة. قال الحافظ: أما قصة معاذ فمغايرة لحديث الباب، يعني حديث أبي مسعود هذا؛ لأن قصة معاذ كانت في العشاء وكان الإمام فيها معاذا، وكانت في مسجد بنى سلمة وهذه كانت في الصبح وكانت في مسجد قبا، ووهم من قرأ الإمام المبهم هنا بمعاذ، بل المراد به أبي بن كعب، كما أخرجه أبويعلى بإسناده حسن من رواية عيسى بن جارية عن جابر قال: كان أبي بن كعب يصلي بأهل قبا، فاستفتح سورة طويلة فدخل معه غلام من الأنصار في الصلاة، فلما سمعه استفتحها انفتل من صلاته، فغضب أبي، فأتى النبي ? يشكو الغلام، وأتى الغلام يشكو أبيا، فغضب النبي ?، فعرف الغضب في وجهه، ثم قال إن منكم منفرين، فإذا صليتم فأوجزوا، فإن خلفكم الضعيف والكبير والمريض وذا الحاجة. (أشد) بالنصب على الحال من رسول الله ?. (غضبا) منصوب على التمييز. (منه) أي من رسول الله ?، وهو في صلة أشد. (يومئذ) أي يوم أخبر بذلك أي كان اليوم أشد غضبا منه في الأيام الأخر، والمفضل والمفضل عليه وإن كانا واحدا، وهو الرسول؛ لأن الضمير راجع إليه لكن باعتبارين، فهو مفضل باعتبار يومئذ، ومفضل عليه باعتبار سائر الأيام. وسبب شدة غضبه ?، إما لمخالفة الموعظة لإحتمال تقدم الإعلام بذلك بقصة معاذ، أو

(5/140)


للتقصير في تعلم ما ينبغي تعلمه أو لإرادة الاهتمام بما يليقه على أصحابه ليكونوا من سماعه على بال لئلا يعود من فعل ذلك إلى مثله. (إن منكم) أي بعضكم. (منفرين) بصيغة الجمع من التنفير، أي للناس من الصلاة بالجماعة لتطويلكم المورث للملالة والتضجر. ولم يخاطب المطول على التعيين، بل عمم خوف الخجل عليه لطفا به وشفقة على جمل عادته الكريمة. (فأيكم) أي أى واحد منكم. (ما صلى بالناس) أي متلبسا بهم إماما لهم. وكلمة "ما" زائدة، و"صلى" فعل شرط، وزيادة "ما" مع أي الشرطية كثيرة، وفائدتها التوكيد لمعنى الإبهام، وزيادة التعميم، وقيل: "ما" موصوفة منصوبة المحل على المفعول المطلق، أي أيكم أي صلاة صلى. (فليتجوز) جواب الشرط، أي فليخفف في صلاته بهم، يقال: تجوز في صلاته
فإن فيهم الضعيف، والكبير، وذا الحاجة )). متفق عليه.
1139- (5) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ?: (( يصلون لكم فإن أصابوا
أي خفف. وفي رواية: فمن صلى بالناس فليخفف. وفي أخرى: فمن أم الناس فليتجوز. (فإن فيهم الضعيف والكبير) أي في السن. وفي رواية للبخاري: فإن فيهم المريض والضعيف. وكأن المراد بالضعيف هنا المريض، وفي رواية المذكورة من يكون ضعيفا في خلقته كالنحيف والمسن، وكل في مريض ضعيف من غير عكس. والحديث يدل على جواز التأخر عن صلاة الجماعة إذا علم من عادة الإمام التطويل الكثير، وعلى جواز الغضب لما ينكر من أمور الدين، وعلى تخفيف الصلاة مراعاة لحال المأمومين. وفيه وعيد على من يسعى في تخلف الغير عن الجماعة. (متفق عليه) أخرجه البخاري في العلم والصلاة والأدب والأحكام، ومسلم في الصلاة، واللفظ المذكور للبخاري في باب تخفيف الإمام في القيام، وإتمام الركوع والسجود. والحديث أخرجه أيضا النسائي في العلم من سننه الكبرى وابن ماجه في الصلاة والبيهقي (ج3 ص115).

(5/141)


1139- قوله: (يصلون) أي الأئمة. (لكم) أي لأجلكم. فللام فيه للتعليل. (فإن أصابوا) في الأركان والشرائط والسنن، قاله الكرمانى. وقال العيني: يعني فإن أتموا، يدل عليه حديث عقبة بن عامر الذي أخرجه الحاكم على شرط البخاري عنه مرفوعا بلفظ: من أم الناس فأتم. وفي نسخة: فأصاب فالصلاة له ولهم، ومن انتقص من ذلك شيئا فعليه ولا عليهم. وأعله الطحاوي بانقطاع ما بين عبدالرحمن بن حرملة وأبي علي الهمداني الراوى عن عقبة- انتهى كلام العينى. قلت: حديث عقبة هذا قال الحاكم في المستدرك (ج1 ص210) بعد روايته: حديث صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، وقد أخرجه أيضا أحمد وأبوداود وغيرهما، قال المنذري في الترغيب: عن أبي على المصري. (الهمداني) قال: سافرنا مع عقبة بن عامر فحضرتنا الصلاة فأردنا أن يتقدمنا، فقال إني سمعت رسول الله ? يقول: من أم قوما فإن أتم فله التمام، ولهم التمام، وإن لم يتم فلهم التمام، وعليه الإثم. رواه أحمد واللفظ له وأبوداود وابن ماجه والحاكم وصححه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، ولفظهما: من أم الناس فأصاب الوقت وأتم الصلاة فله ولهم، ومن انتقص من ذلك شيئا فعليه ولا عليهم. قال المنذري: هو عندهم من رواية عبدالرحمن بن حرملة الأسلمي عن أبي علي المصري. وعبدالرحمن قال أبوحاتم: لا يحتج به، وضعفه يحيى القطان. ولينه البخاري. ووثقة ابن معين، وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي: لم أر له حديثا منكرا، انتهى كلام المنذري، قلت: ووثقه أيضا محمد بن عمرو وابن نمير، وقال الساجي: صدوق يهم في الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات. وروى له مسلم حديثا واحدا في متابعة القنوت. وذكر الحافظ في الفتح حديث عقبة هذا نقلا عن أحمد وأبي داود، وسكت عنه وهذا كله
فلكم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم )).

(5/142)


يدل على أن هذا الحديث عند الذهبي والمنذري والحافظ صحيح أو حسن قابل للاحتجاج، وأنهم لم يروا قول الطحاوي: لا يعرف لعبدالرحمن بن حرملة سماع من أبي علي الهمداني قابلا للالتفات، وكيف يلتفت إلى قوله، وقد رواه عبدالرحمن بن حرملة بلفظ الإخبار عند البيهقي (ج3 ص127) حيث قال: أخبرني أبوعلي الهمداني. (فلكم) أي ثواب صلاتكم. قال الحافظ: زاد أحمد. (وكذا البيهقي) ولهم أي ثواب صلاتهم، وهو يغني عن تكلف توجيه حذفها، يشير إلى ما قال المظهر إنما اقتصر على لكم، إذ يفهم من تجاوز ثواب الإصابة إلى غيرهم ثبوته لهم، وقال القاري: أي لكم ولهم على التغليب؛ لأنه مفهوم بالأولى. وقيل: إن الحديث سيق في خطأ الإمام في إصابته وقت الصلاة. والمعنى فإن أصابوا أي الوقت، قاله ابن بطال والطحاوي واستدلا لذلك بما روى النسائي وغيره عن ابن مسعود بسند حسن مرفوعا: ستدركون أقواما يصلون الصلاة لغير وقتها فإن أدركتموهم فصلوا في بيوتكم للوقت الذي تعرفون، ثم صلوا معهم، واجعلوها سبحة. والظاهر أن المراد به ما هو أعم من ترك إصابة الوقت، ففي رواية لأحمد (ج4 ص145) من حديث عقبة بن عامر المذكور: من أم الناس فأصاب الوقت وأتم الصلاة فله ولهم، ومن انتقص من ذلك شيئا فعليه ولا عليهم، وفي رواية له أيضا (ج4 ص147): فإن صلوا الصلاة لوقتها فأتموا الركوع والسجود فهي لكم ولهم، وإن لم يصلوا الصلاة لوقتها ولم يتموا ركوعها ولا سجودها فهي لكم وعليهم. والرواية الأولى أخرجها البيهقي أيضا. (وإن اخطأوا) أي ارتكبوا الخطيئة في صلاتهم ككونهم محدثين مثلا. قال الحافظ: ولم يرد به الخطأ المقابل للعمد؛ لأنه لا إثم فيه. (فلكم) أي ثوابها. (وعليهم) أي عقابها فخطأ الإمام في بعض غير مؤثر في صحة صلاة المأموم إذا أصاب، فلو ظهر بعد الصلاة أن الإمام جنب أو محدث أو في بدنه نجاسة فلا تجب إعادة الصلاة على المؤتم به. قال البغوي في شرح السنة: فيه دليل على أنه إذا صلى

(5/143)


بقوم محدثا إنه تصح صلاة المأمومين خلفه، وعليه الإعادة. ويدل عليه أيضا ما ذكر المجد بن تيمية في المنتقى أنه صح عن عمر أنه صلى بالناس وهو جنب ولم يعلم فأعاد ولم يعيدوا، وكذلك عثمان وروي عن علي من قوله- انتهى. وإليه وذهب الشافعي، فإن المؤتم عنده تبع للإمام في مجرد الموافقة لا في الصحة والفساد، وبه قال مالك وأحمد. وظاهر قوله "أخطأوا" يدل على ما هو أعم مما ذكر البغوي، كالخطأ في الأركان كما قال القاري فإن أصابوا أي أتوا بجميع ما عليهم من الأركان والشرائط، وإن اخطأوا بأن أخلوا ببعض ذلك عمدا أو سهوا- انتهى. فيكون فيه دليل على صحة الائتمام بمن يخل بشيء من الصلاة ركنا كان أوغيره إذا أتم المأموم، وهو وجه للشافعية بشرط أن يكون الإمام هو الخليفة أو نائبه. وحمله الطحاوى وغيره من الحنفية على الخطأ في إصابة الوقت، كما تقدم؛ لأن المؤتم عندهم تبع للإمام مطلقا، يعني في الصحة والفساد فيجب عندهم الإعادة على الإمام والمؤتمين جميعا لو ظهر أنه صلى محدثا أو جنبا، واستدلوا لذلك بقوله
رواه البخاري. وهذا الباب خال عن الفصل الثاني.
?الفصل الثالث?
1140- (6) عن عثمان بن أبي العاص، قال: (( آخر ما عهد إلي رسول الله ?: إذا أممت قوما فأخف بهم الصلاة )). رواه مسلم. وفي رواية له: أن سول الله?، قال له: ((أم قومك، قال: قلت: يا رسول الله ! إني لأجد في نفسي شيئا، قال: ادنه، فأجلسني بين يديه، ثم وضع كفه في صدري

(5/144)


عليه السلام الإمام ضامن، وقد تقدم الكلام على معناه في باب فضل الأذان. والراجح عندي هو ما ذهب إليه الشافعي ومن وافقه من الأئمة قال المهلب: في الحديث جواز الصلاة خلف البر والفاجر إذا خيف منه، يعني إذا كان صاحب شوكة. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا أحمد والبيهقي (ج3 ص127) وابن حبان في صحيحه، ولفظه: سيأتي أو سيكون أقوام يصلون الصلاة، فإن أتموا فلكم وإن انتقصوا فعليهم ولكم. (وهذا الباب خال) أي في المصابيح. (عن الفصل الثاني) أي عن الحسان وهو دفع لوهم الإسقاط ورفع لورود الاعتراض على قوله الفصل الثالث من غير الثاني.

(5/145)


1140- قوله: (آخر ما عهد) بكسر الهاء أي أوصى. (إلي) وأمرني به. (إذا أممت) بالتخفيف. (فأخف) بفتح الفاء المشددة، ويجوز كسرها أمر من الإخفاف. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج4 ص218) وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص116). (وفي رواية له) أي لمسلم. (أن رسول الله ?) بفتح أن. (قال له) أي لعثمان. (أم قومك) أمر على وزن مد. (إني أجد في نفسي شيئا) قال الطيبي: أي أرى في نفسي ما لا أستطيع على شرائط الإمامة وإيفاء حقها لما في صدري من الوساوس، وقلة تحملى القرآن والفقه، فيكون وضع اليد على ظهره وصدره لإزالة ما يمنعه منها، وإثبات ما يقويه على احتمال ما يصلح لها من القرآن والفقه. وقال النووي: قيل: يحتمل أنه أراد الخوف من حصول شيء من الكبر والإعجاب له يتقدمه على الناس، فأذهبه الله تعالى ببركة كف رسول الله ? ودعائه، يحتمل أنه أراد الوسوسة في الصلاة، فإنه كان موسوسا، ولا يصلح للإمامة الموسوس. فقد ذكر مسلم في الصحيح عن عثمان هذا قال: قلت: يا رسول الله! إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتى يلبسها علي، فقال رسول الله ?: ذاك شيطان. يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله، واتفل عن يسارك ثلاثا، ففعلت ذلك فأذهبه الله تعالى- انتهى. وقد تقدم هذا الحديث في باب الوسوسة. (أدنه) الدنو، وهو بهاء السكت لبيان ضم النون. (فأجلسني) من الإجلاس. وفي بعض النسخ من صحيح مسلم: فجلسني أي
بين ثدي، ثم قال: تحول، فوضعها في ظهري بين كتفي، ثم قال: أم قومك فمن أم قوما فليخفف، فإن فيهم الكبير، وإن فيهم المريض، وإن فيهم ذا الحاجة. فإذا صلى أحدكم وحده فليصل كيف شاء)).
1141- (7) وعن ابن عمر، قال: ((كان النبي ? يأمرنا بالتخفيف ، ويؤمنا بالصافات)). رواه النسائي.
(28) باب ما على المأموم من المتابعة وحكم المسبوق
?الفصل الأول?
1142- (1) عن البراء بن عازب، قال: (( كنا نصلي خلف النبي ?، فإذا قال: سمع الله لمن حمده، لم يحن

(5/146)


بتشديد اللام. (بين ثديي) بتشديد الياء على التثنية، وكذا قوله: كتفي. (تحول) أي انقلب. (فوضعها) أي كتفه. (فإن فيهم الكبير) في السن. (وإن فيهم الضعيف) كالصبيان والنسوان أو ضعيفي الأبدان وإن لم يكن مريضا أو كبيرا. (وإن فيهم ذا الحاجة) أي المستعجلة. وفي تكرير "إن" إشارة إلى صلاحية كل للعلة. وهذه الرواية أخرجها أحمد (ج4 ص216، 218) وابن ماجه بنحوها من غير ذكر قصة وضع اليد على الصدر والظهر، وأخرجها البيهقي (ج3 ص118) مع القصة، وأخرجها أبوداود والنسائي وأحمد أيضا (ج4 ص217) بلفظ قال: قلت يا رسول الله ! اجعلني إمام قومي، فقال أنت إمامهم. واقتد بأضعفهم.
1141- قوله: (يأمرنا بالتخفيف) أي بتخفيف الصلاة إذا كنا إماما. والمراد التخفيف في القراءة على ما ذكر وعين منها في الأحاديث. (ويؤمنا بالصافات) لرغبة المقتدين به سماع قراءته، وقوتهم على التطويل بحيث يكون هذا بالنظر إليهم تخفيفا، فرجع الأمر إلى أنه ينبغي له أن يراعي حالهم، قاله السندي. وقال الطيبي: قبل بينهما أي بين أمره بالتخفيف وبين إمامته لهم بالصافات تناف، وأجيب: بأنه إنما يلزم إذا لم يكن لرسول الله ? فضيلة يختص بها، وهو أن يقرأ الآيات الكثيرة في الأزمنة اليسيرة- انتهى. وقيل: يحمل على أنه فعل ذلك أحيانا لبيان الجواز، وإليه إأشار النسائي حيث بوب على هذا الحديث: باب الرخصة للإمام في التطويل بعد: باب ما على الإمام من التخفيف. (رواه النسائي) وكذا البيهقي (ج3 ص118).
(باب ما على المأموم من المتابعة) للإمام. (وحكم المسبوق) بالجر عطف على ما.
1142- قوله: (لم يحن) بفتح التحتانية وسكون المهملة وضم النون وكسرها، يقال حنا يحنو وحنى
أحد منا ظهره حتى يضع النبي ? جبهته على الأرض)). متفق عليه.

(5/147)


1143- (2) وعن أنس، قال: (( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فلما قضى صلاته أقبل علينا بوجهه، فقال: أيها الناس! إني أمامكم فلا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، ولا بالقيام، ولا بالإنصراف،
يحني معا من بابي دعا ورمى، أي لم يقوس من حنيت العود وحنوته، أي عطفته وثنيته. (أحد منا ظهره) أي لم يثنه من القومة قاصدا للسجود. (حتى يضع النبي ? جبهته على الأرض) وفي رواية للبخاري: حتى يقع النبي ? ساجدا ثم نقع سجودا بعده، أي بحيث يتأخر ابتداء فعلهم عن ابتداء فعل النبي ?، ويتقدم ابتداء فعلهم قبل فراغه من السجود، إذ أنه لا يجوز التقدم على الإمام، ولا التخلف عنه. ولا دلالة فيه على أن المأموم لا يشرع في الركن حتى يتمه الإمام خلافا لابن الجوزي. ووقع في حديث عمرو بن حريث عند مسلم: وكان لا يحني رجل منا ظهره حتى يستتم ساجدا، ولأبي يعلى من حديث أنس: حتى يتمكن النبي ? من السجود. قال العيني: معنى هذا كله ظاهر في أن المأموم يشرع في الركن بعد شروع الإمام فيه وقبل الفراغه منه. وقال الحافظ بعد ذكر هذين الحديثين: وهذا أوضح في انتفاء المقارنة- انتهى. قال ابن دقيق العيد: حديث البراء يدل على تأخر الصحابة في الإقتداء عن فعل رسول الله ? حتى يتلبس بالركن الذي ينتقل إليه لا حين يشرع في الهوي إليه. ولفظ الحديث الآخر يدل على ذلك أعني قوله: فإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا فإنه يقتضي تقدم ما يسمى ركوعا وسجودا- انتهى. قلت: أحاديث البراء وعمرو بن حريث وأنس وما في معناها كلها دليل على أنه يجب على المأموم متابعة الإمام في أفعاله، وأن السنة أن يتخلف المأموم في الانتقالات عن الإمام، أي لا يقارن الإمام في الهوي إلى الركن، بل يتأخر عن الشروع في الهوي حتى يشرع الإمام في الركن الذي انتقل إليه، وإليه ذهب الشافعي، وهو الحق. وحمل الحنفية هذه الأحاديث على أنه أمرهم بذلك حين بدن، فخشي أن يتقدموا عليه. وفيه أن

(5/148)


هذا الحمل محتاج إلى دليل. والحديث فيه دليل على جواز النظر إلى الإمام لأجل اتباعه في انتقالاته في الأركان. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب السجود على سبعة أعظم. والحديث أخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج2 ص92).
1143- قوله: (فلما قضى صلاته) أي أداها وفرغ منها. (إني إمامكم) يعني وسمي الإمام إماما ليؤتم به ويقتدي به على وجه المتابعة. (فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالإنصراف) أي لتسليم. وحاصله أن المتابعة واجبة في الأحوال المذكورة. واستدل به بعضهم على جواز المقارنة. ورد بأنه دل منطوقه على منع المسابقة وبمفهومه على طلب المتابعة. وأما المقارنة فمسكوت. قال النووي: المراد بالإنصراف السلام- انتهى.
فإني أراكم أمامي ومن خلفي)). رواه مسلم.
1144- (3) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ?: (( لا تبادروا الإمام: إذا كبر فكبروا، وإذا
قال: ولا الضآلين، فقولوا: آمين، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا:
اللهم لك الحمد)). متفق عليه،

(5/149)


ويحتمل أن يكون المراد النهي عن الانصراف من مكان الصلاة قبل الإمام لفائدة أن يدرك المؤتم الدعاء أو لاحتمال أن يكون الإمام قد حصل له في صلاته سهو، فيذكر وهو في المسجد ويعود له، كما في قصة ذي اليدين، أو لكي تنصرف النساء إلى بيوتهن قبل الرجال، كما قيل في بيان علة النهي في حديث أنس المتقدم في باب الدعاء في التشهد بلفظ: أن النبي ? حضهم على الصلاة، ونهاهم أن ينصرفوا قبل انصرافه من الصلاة. قال الطيبي في شرح حديث الباب: يحتمل أن يراد بالانصراف الفراغ من الصلاة، وأن يراد الخروج من المسجد. قال القاري: الاحتمال الثاني في غاية السقوط لعدم المناسبة بالسابق واللاحق، وأيضا لم يعرف النهي عن الخروج من المسجد قبل خروجه عليه السلام- انتهى. قلت: الاحتمال الثاني يؤيده حديث أنس الذي ذكرناه آنفا، ويؤيده أيضا حديث أم سلمة السابق في باب الدعاء في التشهد بلفظ: أن النساء في عهد رسول الله ? كن إذا سلمن من المكتوبة قمن، وثبت رسول الله ? ومن صلى من الرجال ما شاء الله. فإذا قام رسول الله ? قام الرجال. (أمامي) بفتح الهمزة أي قدامي أي خارج الصلاة. (ومن خلفي) أي داخلها بالمشاهدة على طريق خرق العادة. والمعنى كما أراكم من أمامي أراكم من خلفي. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والبيهقي (ج2 ص91- 92).

(5/150)


1144- قوله: (لا تبادروا الإمام) أي لا تسبقوه بالتكبير والركوع والسجود والرفع منهما والقيام والسلام. (إذا كبر فكبروا) أي للإحرام أو مطلقا فيشمل تكبير النقل. زاد أبوداود: ولا تكبروا حتى يكبر. (وإذا قال: ولا الضآلين) أي فقال آمين. (فقولوا آمين) أي مقارنا لتأمين الإمام لما تقدم أنه ليسن مقارنة تأمينه لتأمين إمامه. (وإذا ركع) أي أخذ في الركوع. (فاركعوا) زاد أبوداود: ولا تركعوا حتى يركع. (أى حتى يأخذ في الركوع لا حتى يفرغ منه، كما يتبادر من اللفظ) وإذا سجد. (أى أخذ في السجود) فاسجدوا ولا تسجدوا حتى يسجد. قال الحافظ: هي زيادة حسنة تنفى احتمال إرادة المقارنة من قوله: إذا كبر فكبروا. وقال العيني والحافظ أيضا: رواية أبي داود هذه صريحة في انتفاء التقدم والمقارنة. (وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد) استدل به من قال: إن وظيفة الإمام التسميع، ووظيفة المأموم التحميد؛ لأن ظاهره التوزيع والتقسيم وهو ينافي الشركة، وقد تقدم الكلام عليه في باب الركوع. (متفق عليه) أي على أصل الحديث. وإلا فاللفظ المذكور لمسلم
إلا أن البخاري لم يذكر: وإذا قال: ولا الضآلين.
1145- (4) وعن أنس: (( أن رسول الله ? ركب فرسا، فصرع عنه، فجحش شقة الأيمن، فصلى صلاة من الصلوات

(5/151)


دون البخاري. وللحديث طرق وألفاظ عند البخاري ومسلم: منها ما أخرجه البخاري في باب إقامة الصف من تمام الصلاة بلفظ: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون. وأقيموا الصف في الصلاة، فإن إقامة الصف من حسن الصلاة، وهو عند مسلم أيضا إلا أنه لم يذكر قوله: وأقيموا الصف الخ، وزاد: فإذا كبر فكبروا. واستدل بقوله: ولا تختلفوا عليه، لأبي حنيفة وموافقيه على منع صلاة المفترض خلف المتنفل؛ لأن اختلاف النيات داخل تحت هذا القول لعمومه إطلاقه. وأجيب عنه بأنه محمول على الاختلاف في الأفعال الظاهرة فقط دون الباطنة، وهى ما لا يطلع المأموم عليه كالنية؛ لأنه ? قد بين وجوه الاختلاف وفصلها بقوله: فإذا كبر فكبروا الخ. ويلحق ما لم يذكر قياسا عليه، ومنها ما أخرجه البخاري أيضا في باب إيجاب التكبير بلفظ: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون. والحديث أخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص92). (إلا أن البخاري لم يذكر: وإذا قال ولا الضآلين) يعني مع قوله: فقولوا آمين. وفيه أنه ليس في طريق من طرقه عند البخاري قوله: لا تبادروا الإمام كما عرفت فهذا اللفظ أيضا من إفراد مسلم.

(5/152)


1145- قوله: (ركب فرسا) أي بالمدينة، كما في حديث جابر عند أبي داود. (فصرع عنه) بضم الصاد وكسر الراء المهملة أي أسقط عن الفرس. قال في القاموس: الصرع ويكسر الطرح على الأرض كالمصرع، وقد صرعه كمنعه. (فجحش) بجيم مضمومة ثم حاء مهملة مكسورة أي خدش، وهو قشر جلد العضو. وقيل: الجحش فوق الخدش. (شقة) بكسر الشين المعجمة أي جانبه (الأيمن) وفي رواية عبدالرزاق: ساقه الأيمن، وليست مصحفة كما زعم بعضهم لما يوافقها رواية البخاري في باب الصلاة في السطوح، والخشب بلفظ: فجحشت ساقه أو كتفه، فيقال: رواية الساق مفسرة لمحل الخدش من الشق الأيمن؛ لأن الخدش لم يستوعبه، ولا ينافي ذلك ما وقع في حديث جابر عند أبي داود: فصرعه على جزم النخلة، فانفكت قدمه، لاحتمال وقوع الأمرين، قال الحافظ: وأفاد ابن حبان أن هذه القصة كانت في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة. (فصلى) أي في مشربة لعائشة كما في حديث جابر (صلاة من الصلوات) أي المكتوبات. قال القاري: وهو ظاهر العبارة. وقيل: من
وهو قاعد، فصلينا وراءه قعودا، فلما انصرف قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به،

(5/153)


النوافل. وفي رواية: فحضرت الصلاة. قال القرطبي: اللام للعهد ظاهرا، والمراد الفرض؛ لأنها التي عرف من عادتهم أنهم يجتمعون لها بخلاف النافلة. وحكى عياض عن ابن القاسم أنها كانت نفلا. وتعقب بأن في رواية جابر عند أبي داود الجزم بأنها فرض. قال الحافظ: لكن لم أقف على تعيينها إلا أن في حديث أنس: فصلى بنا يومئذ فكأنها نهارية الظهر أو العصر. (وهو قاعد) جملة حالية. قال عياض: يحتمل أن يكون أصابه من السقطة رض في الأعضاء منعه من القيام. ورد هذا بأنه ليس كذلك، وإنما كانت قدمه ? انفكت، كما ذكرنا من حديث جابر، وكذا وقع في رواية أنس عند أحمد والإسماعيلي. (فصلينا وراءه قعودا) كذا في هذه الرواية: إنهم صلوا خلفه قاعدين، وهي رواية مالك عن الزهري عن أنس. وظاهرها يخالف ما روى البخاري وغيره من حديث عائشة بلفظ: فصلى جالسا وصلى وراءه قوم قياما، فأشار إليهم أن أجلسوا. والجمع بينهما أن في رواية أنس هذه اختصارا، وكأنه اقتصر على ما آل إليه الحال بعد أمره لهم بالجلوس. ووقع في رواية حميد عن أنس عند البخاري في باب الصلاة في السطوح بلفظ: فصلى بهم جالسا وهم قيام: فلما سلم قال: إنما جعل الإمام الخ. وفيهم أيضا اختصار؛ لأنه لم يذكر قوله: لهم اجلسوا. والجمع بينهما أنهم ابتدؤا الصلاة قياما، فأوما إليهم بأن يقعدوا فقعدوا، فنقل كل من الزهري وحميد أحد الأمرين وجمعتهما عائشة، وكذا جمعهما جابرعند مسلم. وجمع القرطبي بين الحديثين باحتمال أن يكون بعضهم قعد من أول الحال، وهو الذي حكاه أنس، وبعضهم قام حتى أشار إليه بالجلوس، وهذا الذي حكته عائشة. وتعقب باستبعاد قعود بعضهم بغير إذنه ?؛ لأنه يستلزم النسخ بالاجتهاد؛ لأن فرض القادر في الأصل القيام. وجمع آخرون بينهما باحتمال تعدد الواقعة. وفيه بعد؛ لأن حديث أنس إن كانت القصة فيه سابقه لزم منه ما ذكرنا من النسخ بالاجتهاد، وإن كانت متأخرة لم يحتج إلى إعادة قول: إنما جعل

(5/154)


الإمام ليؤتم به الخ؛ لأنهم قد امتثلوا أمره السابق وصلوا قعودا لكونه قاعدا، كذا في الفتح. (فلما انصرف) أي من الصلاة. (إنما جعل) بصيغة المجهول. (الإمام) يحتمل أن يكون جعل بمعنى سمي فيتعدى إلى مفعولين أحدهما الإمام القائم مقام الفاعل، والثاني محذوف أي إنما جعل الإمام إماما، ويحتمل أن يكون بمعنى صار، أي إنما صير الإمام إماما. وقيل: جعل بمعنى نصب واتخذ فلا حاجة إلى التقدير، وكلمة "إنما" تفيد جعل الإمام مقصورا على الإنصاف بكونه مؤتما به لا يتجاوز المؤتم إلى مخالفته. (ليؤتم به) أي ليقتدي به بالوجه المشروع. وقوله: فإذا صلى قائما الخ بيان لذلك والائتمام الاقتداء والاتباع، أي جعل الإمام إماما ليقتدي به ويتبع، ومن شأن التابع أن لا يسبق متبوعه ولا يساويه ولا يتقدم عليه في موقفه بل يراقب أحواله، ويأتي على أثرها بنحو فعله، ومقتضى ذلك أن لا يخالفه في شيء من الأحوال التي فصلها الحديث
فإذا صلى قائما فصلوا قياما، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله
لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون.

(5/155)


ولا في غيرها قياسا، ولكن ذلك مخصوص بالأفعال الظاهرة ولا يشمل الباطنة، وهي ما لا يطلع عليه المأموم كالنية لما سيأتي. وبالجملة الإئتمام يقتضي متابعة المأموم لإمامه في أحوال الصلاة، فتنتفى المقارنة والمسابقة والمخالفة. قال النووي: متابعة الإمام واجبة في الأفعال الظاهرة. وقد نبه عليها في الحديث فذكر الركوع وغيره بخلاف النية، فإنها لم تذكر، وقد خرجت بدليل آخر، وكأنه يعني قصة معاذ المقدمة في باب القراءة وستأتي أيضا في باب من صلى صلاة مرتين. ويمكن أن يستدل بهذا الحديث على عدم دخولها؛ لأنه يقتضي الحصر في الاقتداء به في أفعاله لا في جميع أحواله كما لو كان محدثا أو حامل نجاسة، فإن الصلاة خلفه تصح لمن لم يعلم حاله على الصحيح عند العلماء. ثم مع وجوب المتابعة ليس شيء منها شرطا في صحة القدوة إلا تكبيرة الإحرام. واخنلف في السلام، والمشهور عند المالكية اشتراطه مع الإحرام والقيام من التشهد الأول، وخالف الحنفية فقالوا: تكفي المقارنة، قالوا لأن معنى الإئتمام الامتثال ومن فعل مثل فعل إمامه عد ممتثلا سواء أوقعه معه أو بعده، وسيأتي حديث أبي هريرة الدال على تحريم التقدم على الإمام في الأركان. (فإذا صلى قائما فصلوا قياما) مصدر أي ذوي قيام أو جمع أي قائمين ونصبه على الحالية. (وإذا ركع فاركعوا) وفي رواية للبخاري: فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا فالتكبير هنا مقدر مراد. (وإذا رفع) أي رأسه. (فارفعوا) وفي رواية للبخاري: إذا رفع فارفعوا وإذا سجد فاسجدوا. وهو يتناول الرفع من الركوع والرفع من السجود وجميع السجدات. (ربنا لك الحمد) كذا في جميع النسخ: "لك الحمد" بغير الواو. ووقع في البخاري بإثباتها. قال الحافظ: كذا لجميع الرواة في حديث أنس بإثبات الواو إلا في رواية الليث عن الزهري في باب إيجاب التكبير، فللكشمهينى بحذف الواو، ورجح إثبات الواو بأن فيها معنى زائدا لكونها عاطفة على محذوف، وقد تقدم

(5/156)


الكلام في معناه. (فإذا صلى) أي الإمام (جالسا) أي بعذر. (فصلوا جلوسا) جمع جالس وهو حال بمعنى جالسين. (أجمعون) بالرفع على أنه تأكيد لضمير الفاعل في قوله "صلوا" أو للضمير المستكن في الحال وهو جلوسا. قال الحافظ: كذا في جميع الطرق في الصحيحين بالواو. وقال القسطلاني: ولأبي ذر و أبي الوقت: أجمعين بالنصب على الحال أي من ضمير الفاعل في قوله "صلوا" أو من ضمير"جلوسا"، أي صلوا جالسين مجتمعين، وليس منصوبا على أنه تأكيد لجلوسا؛ لأنه نكرة فلا يؤكد. وقيل: هو منصوب على التأكيد، لكن تأكيد لضمير منصوب مقدر كأنه قال: أعينكم أجمعين. ولا يخفى ما فيه من البعد. والحديث فيه فوائد: منها: وجوب متابعة الإمام، فيكبر للإحرام بعد فراغ الإمام منه، فإن شرع فيه قبل فراغه لم تنعقد؛ لأن الإمام لا يدخل في

(5/157)


الصلاة إلا بالفراغ من التكبير، فالاقتداء به في أثناءه اقتداء بمن ليس في صلاة بخلاف الركوع والسجود ونحوهما، فيركع بعد شروع الإمام في الركوع، فإن قارنه أو سبقه أساء ولا تبطل، وكذافي السجود، ويسلم بعد سلامه، فإن سلم قبله بطلت إلا أن ينوي المفارقة أو معه فلا تبطل؛ لأنه تحلل فلا حاجة فيه للمتابعة بخلاف السبق، فإنه مناف للاقتداءن قاله القسطلاني. ومنها: مشروعية ركوب الخيل والتدرب على أخلاقها والتأسي لمن يحصل له سقوط، ونحوه بما اتفق للنبي ? في هذه الواقعة، وبه الأسوة الحسنة. ومنها: أنه يجوز عليه ? ما يجوز على البشر من الأسقام ونحوها من غير نقص في مقداره بذلك بل ليزداد قدره رفعة ومنصبه جلالة. ومنها: استحباب العيادة عند حصول الخدشة ونحوها. ومنها: جواز الصلاة جالسا عند العجز. ومنها: أنه يجب متابعة الإمام في القعود. وأنه يقعد المأموم مع قدرته على القيام، واختلف الأئمة فيه: فذهب إلى ظاهر الحديث إسحاق والأوزاعي وداود وبقية أهل الظاهر، قالوا: يجب القعود خلف الإمام القاعد ولو كان القوم أصحاء. قال ابن حزم في المحلى (ج3 ص69) : وبهذا نأخذ إلا فيمن يصلي إلى جنب الإمام يذكر الناس ويعلمهم تكبير الإمام، فأنه مخير بين أن يصلي قاعدا وبين أن يصلي قائما، وذهب أحمد إلى التفصيل، فقال: إذا ابتدأ إمام الحي الراتب الصلاة قاعدا لمرض يرجي برءه فحينئذ يصلون وراءه جلوسا ندبا ولو كانوا قادرين على القيام وتصح الصلاة خلفه قياما، فالحديث عنده محمول على القعود الأصلي الغير الطارىء، ومقيد بإمام الحي الراتب المرجو زوال مرضه، والأمر بالجلوس فيه للندب، قال: وإذا ابتدأ الإمام الراتب قائما لزم المأمومين أن يصلوا خلفه قياما سواء طرأ ما يقتضي صلاة إمامهم قاعدا أم لا، كما في الأحاديث التي في مرض موته، فإنه ? لم يأمرهم بالقعود؛ لأنه ابتدأ إمامهم، وهو أبوبكر، صلاته قائما ثم أمهم ? في بقية الصلاة قاعدا بخلاف صلاته

(5/158)


? بهم في مرضه الأول المذكور في حديث أنس، فإنه ابتدأ صلاته قاعدا فأمرهم بالقعود. وذهب الشافعي وأبوحنيفة وأبويوسف إلى أنه لا يجوز للقادر على القيام أن يصلي خلف القاعد إلا قائما، وهو رواية عن مالك فيما رواه الوليد بن مسلم عنه، قالوا: الأمر بالقعود خلف الإمام القاعد للعذر منسوخ، وناسخه صلاة النبي ? بالناس في مرض موته قاعدا وهم قيام، وأبوبكر قائم. هكذا قرره الشافعي، ونقله البخاري عن شيخه الحميدي، وهو تلميذ الشافعي، وسيأتي الجواب عن ادعاء النسخ. وذهب مالك في الرواية المشهورة عنه إلى أنه لا يجوز صلاة القادر على القيام خلف القاعد لا قائما ولا قاعدا، وبه قال محمد فيما حكاه الطحاوي عنه قالت المالكية، إمامة الجالس المعذور بمثله وبالقائم خاص بالنبي ?؛ لأنه ? لا يصح التقدم بين يديه في الصلاة ولا لعذر ولا لغيره، ورد بصلاته ? خلف عبدالرحمن بن عوف وخلف أبي بكر ثم لو سلم أنه لا يجوز أن يؤمه أحد لم يدل ذلك على منع إمامة القاعد، وقد أم قاعدا جماعة من الصحابة بعده ?، منهم أسيد بن حضير
قال الحميدي: قوله: إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا، هو في مرضه القديم، ثم صلى بعد ذلك النبي ?

(5/159)


وجابر وقيس بن قهد وأنس بن مالك، والأسانيد عنهم بذلك صحيحة. أخرجها عبدالرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وغيرهم، بل ادعى ابن حبان وابن حزم إجماع الصحابة على صحة إمامة القاعد. وقال أبوبكر ابن العربي: لا جواب لأصحابنا عن حديث مرض النبي ? يخلص عند السبك، واتباع السنة أولى، والتخصيص لا يثبت بالاحتمال. قال: إلا إني سمعت بعض الأشياخ يقول: الحال أحد وجوه التخصيص، وحال النبي ? والتبرك به وعدم العوض عنه يقتضي الصلاة معه على أي حال كان عليها وليس ذلك لغيره، وأيضا فنقص صلاة القاعد عن القائم لا يتصور في حقه، فلا نقص في صلاته عن القائم، والجواب عن الأول رده بعموم قوله ?: صلوا كما رأيتموني أصلي، وعن الثاني بأن النقص إنما هو في حق القادر في النافلة، وأما المعذور في الفريضة فلا نقص في صلاته عن القائم. وقال ابن دقيق العيد: وقد عرف أن الأصل عدم التخصيص حتى يدل عليه دليل- انتهى. على أنه يقدح في التخصيص ما تقدم من إمامة جماعة من الصحابة قاعدين بعده ?.......... واستدل بعضهم على دعوى التخصيص بما روى الدارقطني (ص153) والبيهقي (ج3 ص80) عن الشعبي مرفوعا: لا يؤمن أحد بعدي جالسا، وأجيب عن ذلك بأن الحديث باطل؛ لأنه من رواية جابر الجعفى عن الشعبي مرسلا وجابر متروك، وروي أيضا من الرواية مجالد عن الشعبي ومجالد ضعفه الجمهور، وحكى عياض عن بعض مشائخهم: أن إمامة القاعد منسوخة جملة بحديث الشعبي المذكور، وتعقب بأن ذلك يحتاج لو صح إلى تاريخ وهو لا يصح كما قدمنا. (قال الحميدي) بضم الحاء المهملة وفتح الميم هو شيخ البخاري وتلميذ الشافعي، واسمه عبدالله بن الزبير بن عيسى أبي عبيدالله بن الزبير بن عبيدالله بن حميد القرشي الأسدي المكي أبوبكر، ثقة فقيه حافظ، أجل أصحاب ابن عيينة. قال الحاكم : كان البخاري إذا وجد الحديث عند الحميدي لا يعدوه إلى غيره من الثقة به. وفي الزهرة: روى عنه البخاري خمسة وسبعين حديثا، وهو

(5/160)


من أفراد البخاري، مات بمكة سنة تسع عشرة ومائتين. وقيل: بعدها وليس هو الحميدي الذي جمع بين الصحيحين. (هو في مرضه القديم) يعني مرضه الذي كان بسبب سقوطه عن الفرس. وقال القاري: أي حين- آلى من نسائه- انتهى. وفيه أن قصة الإيلاء كانت سنة تسع على ما هو المشهور، وواقعه سقوطه عن الفرس المذكورة في حديث أنس وعائشة وجابر كانت سنة خمس على ما أفاد ابن حبان وجزم به العيني والقسطلاني وصاحب تأريخ الخميس. (ثم صلى بعد ذلك) أي في مرض موته. (النبي ?) حال
جالسا والناس خلفه قيام لم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعل النبي ?.

(5/161)


كونه (جالسا والناس خلفه قيام لم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعل النبي ?) يعني أن الذي يجب به العمل هو ما استقر عليه آخر الأمر من النبي ?، ولما كان آخر الأمرين منه ? صلاته قاعدا والناس وراءه قيام دل على أن ما كان قبله من ذلك مرفوع الحكم ومنسوخ، هذا هو الجواب المشهور عن حديث أنس وما في معناه ممن اختار وجوب القيام خلف الإمام القاعد، وإليه يظهر ميل البخاري حيث ذكر قول شيخه الحميدي هذا بعد إخراج الحديث ولم يتعقبه. وقال في كتاب المرضى بعد إخراج حديث عائشة في قصة السقوط عن الفرس: قال الحميدي: هذا الحديث منسوخ. قال أبوعبد الله. (هو البخاري نفسه)؛ لأن النبي ? آخر ما صلى صلى قاعدا والناس خلفه قيام – انتهى. قلت: في هذا الجواب نظر من وجوه: منها: أن حديث أنس وما في معناه قانون كلي وتشريع عام للأمة، وما صدر منه ? في مرض موته واقعة جزئية غير منكشفة الحال، وحكاية حال محتملة لمحامل فلا يدري أنه كان لنسخ الأمر بالقعود خلف الإمام القاعد أو كان لبيان أن الأمر المذكور ليس للوجوب بل للندب، أو كان ذلك لأن إمامهم كان قد ابتدأ الصلاة قائما فأقرهم على القيام إظهارا للفرق بين القعود الأصلي والقعود الطارىء، وبين المرض المرجو الزوال وغير المرجو الزوال، وادعاء النسخ بمثل هذه الواقعة الجزئية لا يخلو عن خفاء بل هو مشكل. قال صاحب فيض الباري: القول بالنسخ لا يعلق بالقلب؛ لأن الحديث مشتمل على أجزاء كثيرة من تشريع عام وضابطة كلية على نحو بيان سنة وسرد معاملة بين الإمام والمأموم، فالقول بنسخ جزء من الأجزاء من البين، وإبقاء المجموع على ما كان ثم بواقعه جزئية تحتمل محامل مما يفضي إلى الاضطبراب ولا يشفي، ولعمرى أنا لو لم نعلم هذه المسألة لما انتقل ذهن أحدنا إلى أن صلاة النبي ? تلك قاعدا كانت لبيان النسخ وإنما حملناها عليه حفظا للمذهب فقط، وإلا فالجمع بين الحديثين يحصل على مذهب أحمد ولا

(5/162)


يحتاج إلى النسخ ألا ترى أن ساداتنا (الحنفية) لما تركوا مسئلة جواز الاستقبال والاستدبار لم يبالوا بوقائع تنقل في هذا وقالوا: إنها وقائع غير منكشفة الحال، وحديث أبي أيوب تشريع عام فلا أدري أنه ما الفرق بين هذين، فذهبوا إلى النسخ ههنا دون هناك- انتهى. ومنها: أن القول بالنسخ مبني على أن النبي ? كان الإمام وأن أبا بكر كان مأموما في تلك الصلاة، وقد وقع في ذلك خلاف. قال السندي في حاشية ابن ماجه: قوله: كان أبوبكر يأتم بالنبي ?. (أى في قصة مرض موته) ظاهره أن النبي ? كان إماما، وقد جاء خلافه أيضا. وبسبب التعارض في روايات هذا الحديث سقط استدلال من استدل به على نسخ حديث: وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا، وقال في حاشية النسائي بعد ذكر الروايات المختلفة في ذلك ما لفظه: وهذا يفيد الاضطراب في هذه لواقعة، فعلى هذا فالحكم بنسخ ذلك الحكم الثابت بهذه الواقعة المضطربة، لا يخلو عن خفاء. وأجيب بأن هذا الاختلاف ليس بقادح؛ لأن روايات إمامة النبي ? أصح وأرجح، لكونها مخرجة في الصحيحين،

(5/163)


فتقدم على روايات إمامة أبي بكر. ويظهر من صنيع الشيخين أن الراجح عندهما هو إمامة النبي ?؛ لأنهما لم يدخلا في صحيحها من طرق حديث عائشة إلا ما فيه إمامة النبي ? مع ثقة رواة الخلاف، وكذا لم يذكرا في صحيحهما حديث أنس المصرح بإمامة أبي بكر، وهو عند أحمد والترمذي والنسائي وأبي داود الطيالسي والطحاوى. وهذا على تقدير اتحاد الواقعة. وأما على ما جزم به ابن حبان وابن حزم والبيهقي والضياء المقدسي وغيرهم من تعدد الواقعة، وأنه ? كان إماما مرة ومأموما أخرى فلا تعارض أصلا. ومنها: أن هذا مبني على أن الصحابة صلوا خلف النبي ? قياما، ولم يثبت ذلك صريحا بطريق صحيح متصل. وأما ما ذكر الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص42) من كتاب المعرفة للبيهقي أن رسول الله ? أمر أبا بكر أن يصلي بالناس في مرضه الذي مات فيه إلى أن قال: فكان عليه السلام بين يدي أبي بكر يصلي قاعدا، وأبوبكر يصلي بصلاته قائما، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، والناس قيام خلف أبي بكر. ففيه أنه لم يذكر إسناده فما لم يعرف حال سنده، وأنه صالح للاحتجاج لا يكون حجة على المخالف. وأما ما قال الحافظ في الفتح نقلا عن الشافعي: إنه أي قيام المأمومين في رواية إبراهيم النخعي عن الأسود عن عائشة وإنه وجد مصرحا به في مصنف عبدالرزاق عن ابن جريج عن عطاء، فذكر الحديث، وفيه فصلى الناس وراءه قياما. ففيه أن رواية عائشة معلقة ورواية عطاء مرسلة. وقد قال أحمد: ليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن وعطاء، فإنهما كانا يأخذان عن كل أحد. وقال ابن المديني: كان عطاء يأخذ عن كل ضرب. وقد نازع أيضا ابن حزم وابن حبان في ثبوت كون الصحابة صلوا خلف النبي ?، وهو قاعد قياما غير أبي بكر، واستدل ابن حبان على ذلك بما رواه من طريق أبي الزبير عن جابر قال: اشتكى رسول الله ? فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبوبكر يسمع الناس تكبيره، قال فالتفت إلينا فرأنا قياما، فأشار إلينا فقعدنا، فلما سلم

(5/164)


قال إن كدتم لتفعلون فعل فارس والروم فلا تفعلوا- الحديث. وهو حديث صحيح أخرجه مسلم والنسائي والطحاوى وابن ماجه. قال ابن حبان: وإسماع أبي بكر التكبير لم يكن إلا في مرض موته؛ لأن صلاته في مرضه الأول كانت في مشربة عائشة، ومعه نفر من أصحابه لا يحتاجون إلى من يسمعهم تكبيره، بخلاف صلاته في مرض موته، فإنها كانت في المسجد يجمع كثير من الصحابة فاحتاج أبوبكر أن يسمعهم التكبير- انتهى. وأجاب عنه الحافظ بحمله على حديث أنس على صلاته في مشربة عائشة في مرضه الأول، قال: وإسماع التكبير في هذا لم يتابع أبا الزبير عليه أحد. وعلى تقدير أنه حفظه فلا مانع أن يسمعهم أبوبكر التكبير في تلك الحالة؛ لأنه يحمل على أن صلاته ? كان خفيا من الوجع، وكان من عادته أن يجهر بالتكبير، فكان أبوبكر يجهر عنه بالتكبير لذلك. نعم وقع في مرسل عطاء المذكور متصلا به بعد قوله: وصلى الناس وراءه قياما، فقال النبي ?:

(5/165)


لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما صليتم إلا قعودا، فصلوا صلاة إمامكم ما كان، إن صلى قائما فصلوا قياما، وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا. وهذه الزيادة تقوي ما قال ابن حبان: إن هذه القصة كانت في مرض موت النبي ? - انتهى. ثم رأيت السندي قد ذكر في حاشية البخاري (ج1 ص88) وجه النظر الثالث، وقرره أحسن تقرير، وبسط الكلام فيه فأجاد حيث قال: لا دلالة فيه أي في حديث عائشة الذي في مرض موته على أن الصحابة كانوا قياما نعم قد ثبت أن أبا بكر كان قائما، ولعله قام لضرورة الإسماع، لا يقال: قد جاء في بعض الروايات أنهم كانوا قائمين؛ لأن مدار النسخ حينئذ على تلك الروايات لا على ما ذكره صاحب الصحيح أو أصحاب الصحاح، فحينئذ ينظر في تلك الروايات هل يقوى شيء منها قوة حديث إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا، وما ذكروا إلا يساوي هذا الحديث، بل ولا يدانيه، فلا يتجه الحكم بنسخ هذا الحديث بتلك الروايات. وما قيل: إنهم ابتدؤو الصلاة مع أبي بكر قياما فلا نزاع فمن ادعى أنهم قعدوا بعد ذلك فعليه البيان ففيه أن المحتاج إلى البيان من يدعى النسخ وأما من يمنعه فيكفيه الاحتمال؛ لأن الأصل عدم النسخ، ولا يثبت بجرد الإحتمال. فقوله فمن ادعى أنهم قعدوا بعد ذلك فعليه البيان خارج عن قواعد البحث، على أنا نقول قعود الصحابة هو الأصل الظاهر عملا بالحكم السابق المعلوم عندهم، وبقاءهم على القيام لا يتصور إلا بعد علمهم بنسخ ذلك الحكم المعلوم، ولا دليل عليه. فالواجب أنهم قعدوا، فمن ادعى خلافه فعليه البيان. وأما القول بأنهم ثبتوا على القيام اتفاقا وإن كان المعلوم عندهم أن الحكم هو القعود إلا أنه وافق النسخ، وعلم ذلك بتقرير النبي ? إياهم على القيام، فمن باب فرض المستحيل عادة، وكذا القول بأنه لم يكن في الحاضرين أحد يعرف الحكم السابق مع أن الحكم السابق كان مشهورا فيما بينهم، وكانوا يعملون به، وكذا القول بأنهم لعلهم عرفوا النسخ قبل هذه

(5/166)


القضية ببيانه ? لهم النسخ، فلذلك ثبتوا القيام، إذ يستبعد جدا أن يكون هناك ناسخ لذلك يعرفه أولئك الحاضرون ثم يخفى بحيث لا يرويه أحد – انتهى كلام السندي. ومنها: أنه إنما يصار إلى النسخ إذا تعذر الجمع، وههنا الجمع ليس بمعتذر، بل هو ممكن، كما نقل عن أحمد أنه جمع بين الحديثين بتنزيلهما على حالتين، وهو واضح مما ذكرنا من مذهبه. وجمع بعضهم بأن الأمر بالجلوس كان للندب وتقريره قيامهم خلفه كان لبيان الجواز. قال الحافظ بعد ذكر رواية عطاء المرسلة المتقدمة: ويستفاد منها نسخ الأمر بوجوب صلاة المأمومين قعودا إذا صلى إمامهم قاعدا؛ لأنه ? لم يأمرهم في هذه المرة الأخيرة بالإعادة، لكن إذا نسخ الوجوب يبقى الجواز، والجواز لا ينافي الاستحباب، فيحمل أمره الأخير بأن يصلوا قعودا على الاستحباب؛ لأن الوجوب قد رفع بتقريره لهم وترك أمرهم بالإعادة، هذا مقتضى الجمع بين الأدلة- انتهى. ومنها: أنه وقع الأمر بالجلوس خلف الإمام القاعد في صلاة مرض موته

(5/167)


عليه السلام أيضا كما تقدم في رواية عطاء، فالاستدلال بصلاة مرض موته على نسخ الأمر بالجلوس خلف القاعد لا يخلو عن إشكال: ومنها: أن الحديث يدل على أن الجلوس عند جلوس الإمام من جملة الائتمام بالإمام، ولا شك أن الاقتداء بالإمام حكم ثابت على الدوام غير منسوخ، وأيضا حديث جابر يدل على أن علة عدم جواز القيام عند قعود الإمام هي أن القيام يصير تعظيما لغير الله فيما شرع تعظيما لله وحده لا شريك له، ولا شك في أن هذه العلة دوامها يقتضى دوام الحكم، فيلزم أن يدوم عدم شرعية القيام خلف الإمام القاعد لوجوب دوام المعلول عند دوام العلة، فالقول بنسخ هذا الحكم لا يخلو عن بعد، قاله السندي في حاشية ابن ماجه، وذكر نحوه أيضا في حاشية الصحيحين. ومنها: أن الأصل عدم النسخ، لا سيما وهو في هذه الحالة يستلزم النسخ مرتين؛ لأن الأصل في حكم القادر على القيام أن لا يصلي قاعدا وقد نسخ إلى القعود في حق من صلى إمامه قاعدا، فدعوى نسخ القعود بعد ذلك تقتضى وقوع النسخ مرتين. وهو بعيد، وأبعد منه ما تقدم من نقل عياض، فإنه يقتضي وقوع النسخ ثلاث مرات. هذا، وقد أجاب أيضا من اختار وجوب القيام خلف القاعد، وكذا من منع صحة إمامة القاعد بأن المراد بالأمر في قوله: "وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا" أن يتقدى به في جلوسه في التشهد وبين السجدتين؛ لأنه ذكر ذلك عقب ذكر الركوع والرفع منه والسجود، قالوا: فيحمل على أنه لما جلس للتشهد قاموا تعظيما له فأمرهم بالجلوس وقد نبه على ذلك بقوله في حديث جابر: إن كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا، فيكون معنى قوله "إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا" أنه إذا كان في حالة الجلوس فاجلسوا ولا تخالفوه بالقيام، وإذا صلى قائما فصلوا قياما أي إذا كان في حالة القيام فقوموا ولا تخالفوه بالقعود، وكذلك في قوله " فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا". وتعقبه ابن دقيق العيد وغيره

(5/168)


بالاستبعاد وبأن سياق طرق الحديث يأباه، وبأنه لو كان المراد الأمر بالجلوس في الركن لقال "وإذا جلس فاجلسوا" ليناسب قوله "وإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا"، فلما عدل عن ذلك إلى قوله "وإذا صلى جالسا" ظهر أن المراد بذلك في جميع الصلاة، ويؤيد ذلك قول أنس: "فصلينا وراءه قعودا"، وإذا عرفت هذا فاعلم أن أولى الأقوال وأرجحها عندي، هو أن يجمع بين القصتين بأن الأمر بالجلوس كان للندب، وتقريره ? قيام الصحابة خلفه لو ثبت كان لبيان الجواز، فمن أم قاعدا لعذر تخير من صلى خلفه بين القيام والقعود، والقعود أولى بالثبوت الأمر الائتمام والاتباع وكثرة الأحاديث الواردة في ذلك، ويؤيد هذا الجمع أنه استمر عليه عمل الصحابة في حياته وبعده، وقد ذكر الحافظ في الفتح (ج3 ص382) قيس بن قهد وأسيد بن حضير وجابر بن عبدالله أنهم صلوا قعودا والناس خلفهم جلوس، وذكر عن أبي هريرة "أنه أفتى بذلك وذكر من أخرج هذه
هذا لفظ البخاري. واتفق مسلم إلى أجمعون. وزاد في رواية: فلا تختلفوا عليه، وإذا سجد فاسجدوا.
1146- (5) وعن عائشة، رضي الله عنها قالت: ((لما ثقل رسول الله ?، جاء بلال يؤذنه بالصلاة

(5/169)


الآثار وصحح أسانيدها. وذكر ابن حزم في المحلى (ج3 ص70) ذلك أيضا وأخرج الدارقطني في (ص52) عن أسيد بن حضير وفي (ص162) عن جابر: أنهما صليا جالسين والمأمون أيضا جلوسا، وادعى ابن حبان: الإجماع على العمل. وكأنه أراد السكوتى؛ لأنه حكاه عن أربعة من الصحابة الذين تقدم ذكرهم. وقال: لا يحفظ عن أحد من الصحابة وغيرهم القول بخلافه، لا من طريق صحيح ولا ضعيف، وكذا قال ابن حزم: أنه لا يحفظ عن أحد من الصحابة خلاف ذلك. وأما ما قال الشافعي: أن ما حكي عن هؤلاء الصحاية: أنهم أموا جالسين ومن خلفهم جلوس. محمول على أنه لم يبلغهم النسخ، ففيه أن كل ما زعموه للنسخ هو حديث عائشة الآتي، ولا يدل على شيء مما أرادوا كما تقدم. وأيضا أن هؤلاء الصحابة لم يتفردوا بذلك، بل وافقهم على ذلك من صلى خلفهم جالسين من الصحابة والتابعين، وبعيد كل البعد أن لا يبلغ النسخ أحدا منهم. (هذا لفظ البخاري) في باب إنما جعل الإمام ليؤتم به. (واتفق مسلم) أي معه في أصل الحديث. (إلى أجمعون. وزاد) أي مسلم. (في رواية فلا تختلفوا عليه) فيه نظر؛ لأن هذا اللفظ ليس في حديث أنس لا في البخاري، ولا في مسلم، نعم هو في حديث أبي هريرة عند الشيخين، فأخرجه البخاري بهذا اللفظ في باب إقامة الصف من تمام الصلاة، ومسلم في باب إئتمام المأموم بالإمام. ومحل هذا اللفظ بعد قوله: إنما جعل الإمام ليؤتم به" متصلا به واستدل به على عدم جواز صلاة المفترض خلف المتنفل، لما فيها من الاختلاف بين الإمام والمأموم نية، وهو ضعيف؛ لأن المراد عدم الاختلاف في الأفعال، بدليل التفسير بقوله " فإذا ركع الخ". كيف ولو كان شاملا للاختلاف نية لما كانت صلاة المتنفل خلف المفترض جائزة مع أنه جائز بالاتفاق. (وإذا سجد فاسجدوا) فيه أن هذه الزيادة عند البخاري أيضا في حديث أنس وليست من أفراد مسلم كما توهم المصنف، واختلفت الروايات في ذكر محلها، وحديث أنس هذا أخرجه أيضا أحمد ومالك

(5/170)


والشافعي في الرسالة وفي الأم وفي اختلاف الحديث، والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
1146- قوله: (لما ثقل رسول الله ?) أي في مرضه الذي توفي فيه بفتح الثاء وضم القاف يقال ثقل الشيء يثقل ثقلا، مثال صغر يصغر صغرا فهو ثقيل ضد خف، والمعنى ههنا اشتد به مرضه وتناهى ضعفه وركد أعضاءه عن خفة الحركات، ويفسره قولها بعده في رواية: واشتد به وجعه. (يؤذنه) بضم الياء وسكون الهمزة من الإيذان، أي يعلمه ويخبره ويجوز إبدال الهمزة واوا. (بالصلاة) أي بحضور وقتها والمراد صلاة العشاء
فقال: مروا أبا بكر أن يصلي بالناس فصلى أبوبكر تلك الأيام. ثم إن النبي ? وجد في
نفسه خفة، فقام يهادى بين رجلين، ورجلاه تخطان في الأرض، حتى دخل المسجد، فلما
سمع أبوبكر حسه ذهب يتأخر، فأومأ إليه رسول الله ? أن لا يتأخر، فجاء حتى جلس
عن يسار أبي بكر،

(5/171)


الآخرة كما سيأتي. (مروا أبا بكر أن يصلي بالناس) استدل به أهل السنة على خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ووجهه أن الإمامة في الصلاة التي هي الإمامة الصغرى كانت من وظائف الإمامة الكبرى، فنصبه ? إياه إماما في الصلاة في تلك الحالة من أقوى إمارات تفويض الإمامة الكبرى إليه، وهذا مثل أن يجلس سلطان زماننا أحد أولاده عند الوفاة على سرير السلطنة، فهل يشك أحد في أنه فوض السلطنة إليه، فهذه دلالة قوية لمن شرح الله تعالى صدره، وليس من باب قياس الإمامة الكبرى على الإمامة الصغرى مع ظهور الفرق، كما زعمه الشيعة. وقولهم: إن الدلالة لو كانت ظاهرة قوية لما حصل الخلاف بينهم في أول الأمر باطل ضرورة أن الوقت حيرة ودهشة، وكم من ظاهر يخفى في مثله. (ثم إن النبي ? وجد في نفسه خفة) أي قوة في بعض تلك الأيام. والظاهر أن ذلك كان عند صلاة الظهر يوم الخميس قبل أن يقبض بخمسة أيام. (فقام يهادى) بضم أوله وفتح الدال على بناء المفعول من المفاعلة. (بين رجلين) أي يمشي بينهما معتمدا عليهما متمايلا في مشيه من شدة ضعفه وإحدى يديه على عاتق أحدهما والأخرى على عاتق الآخر. يقال: جاء فلان يهادى بين اثنين إذا كان يمشي بينهما معتمدا عليهما من ضعفه متمايلا إليهما في مشيه من شدة الضعف. والرجلان: العباس بن عبدالمطلب وعلي بن أبي طالب، كما في الحديث الآتي في الفصل الثالث. وفي رواية ابن حبان: وجد من نفسه خفة فخرج بين بريرة ونوبة. ويجمع كما قال النووي: بأنه خرج من البيت إلى المسجد بين هذين، ومن ثم إلى مقام الصلاة بين العباس وعلي. وقال أبوحاتم: خرج بين الجاريتين إلى الباب ومن الباب أخذه العباس وعلي حتى دخلا به المسجد. وقيل: يحمل على التعدد، ويدل عليه ما في رواية الدارقطني: أنه خرج بين أسامة بن زيد والفضل بن عباس. وأما ما في مسلم أنه خرج بين الفضل بن عباس وعلي، فذلك في حال مجيئه من بيت ميمونة إلى بيت عائشة. (ورجلاه تخطان) بضم

(5/172)


الخاء. (في الأرض) أي تعملان فيها خطا، إذ لا يقدر أن يرفعهما عنها من الضعف. قال النووي: أي لا يستطيع أن يرفعهما ويضعفهما ويعتمد عليهما. (فلما سمع أبوبكر حسه) بكسر الحاء وتشديد السين المهملتين أي نفسه المرك بحس السمع، قاله السندي. وقيل: أي حركته أوصوته الخفي. (ذهب) أي أراد وقصد أو طفق أو شرع. (يتأخر) عن موضعه ليقوم عليه السلام مقامه. (فأومأ) بهمزة في آخره أي أشار. وفي بعض النسخ: فأومأ بالألف وهوخطأ. (أن لا يتأخر) أي بعدم تأخره. (فجاء) أي رسول الله ? (حتى جلس عن يسار أبي بكر) هذا هو مقام الإمام، وفيه تعيين لما أبهم في الرواية الآتية من مكان جلوسه ?، وفيه دلالة على أن النبي ? كان إماما لا مأموما لجعله أبا بكر عن يمينه، وقال العيني: إنما لم يجلس
فكان أبوبكر يصلي قائما، وكان رسول الله ? يصلي قاعدا، يقتدى أبوبكر بصلاة
رسول الله ?، والناس يقتدون بصلاة أبوبكر)).

(5/173)


رسول الله ? عن يمينه؛ لأن اليسار كان من جهة حجرته فكان أخف عليه (يقتدي أبوبكر بصلاة رسول الله ?) فيه رد على من زعم أنه ? كان مقتديا بأبي بكر. (والناس يقتدون بصلاة أبوبكر) أي من حيث أنه كان يسمع الناس تكبيره ?. قال القسطلاني: أي يستدلون بصلاته على صلاة رسول الله ?. وقال القاري: أي يصنعون مثل ما يصنع؛ لأنه ? كان قاعدا وأبوبكر كان بجنبه قائما لا أن أبا بكر كان إمام القوم والنبي ? كان إمامه إذا الاقتداء بالمأموم لا يجوز بل الإمام كان النبي ? وأبوبكر والناس يقتدون به. واعلم أنه قد وقع الاختلاف في حديث عائشة هل كان النبي ? إماما أو مأموما؟ فوقع عند الشيخين، وكذا عند أحمد في مسنده ومالك في باب صلاة الإمام وهو جالس، والنسائي في باب الائتمام بمن يأتم بالإمام، وفي باب الائتمام بالإمام يصلي قاعدا، وابن الجارود في المنتقى في باب تخفيف الصلاة بالناس، والبزار كما قال الحافظ في الفتح وابن حبان كما قال الزيلعي وابن ماجه في باب صلاة رسول الله ? في مرضه ما يفيد أن رسول الله ? كان إماما وأبوبكر مأموما، ووقع عند ابن حبان كما قال الزيلعي، وعند ابن حزم في المحلى (ج3 ص67) وابن الجارود في المنتقى (ص166) وأحمد في مسنده (ج6 ص159) والبيهقي في سننه (ج3 ص82) وابن المنذر وابن خزيمة كما قال الحافظ، والترمذي في باب بعد باب إذا صلى الإمام قاعدا فصلوا قعودا ما يفيد أن أبا بكر كان هو الإمام. وروى ابن خزيمة عن محمد بن بشار عن أبي داود الطيالسي عن شعبة عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: من الناس من يقول كان أبوبكر المقدم بين يدي رسول الله ? في الصف، ومنهم من يقول كان رسول الله ? هو المقدم، وظاهر هذه الرواية أن عائشة لم تشاهد الهيئة المذكورة. قال الحافظ: ولكن تظافرت الروايات عنها بالجزم بما يدل على أن النبي ? كان هو الإمام في تلك الصلاة، منها رواية موسى بن أبي عائشة وهى التي تأتي في الفصل

(5/174)


الثالث، ثم قال بعد أن ذكر الاختلاف فيها: فمن العلماء من سلك الترجيح فقدم الرواية التي فيها أن أبا بكر كان مأموما للجزم بها، ولأن أبا معاوية (الذي روى الحديث بلفظ يقتدي أبوبكر بصلاة رسول الله ? والناس يقتدون بصلاة أبي بكر) أحفظ في حديث الأعمش من غيره. ومنهم من سلك عكس ذلك ورجح أنه كان إماما. ومنهم من سلك الجمع. (كابن حبان والبيهقي وابن حزم) فحمل القصة على التعدد. (يعني أنه كان إماما مرة ومأموما أخرى) ويؤيده اختلاف النقل عن الصحابة غير عائشة، فحديث ابن عباس فيه. أن أبا بكر كان مأموما كما سيأتي في رواية موسى بن أبي عائشة، وكذا في رواية أرقم بن شرحبيل عن ابن عباس

(5/175)


عند ابن ماجه وحديث أنس فيه: أن أبا بكر كان إماما. أخرجه الترمذي والنسائي- انتهى كلام الحافظ. قلت: حديث أرقم عن ابن عباس أخرجه أيضا أحمد (ج1 ص231و 255و 256) والطحاوى في شرح الآثار (ج1 ص235) وفي مشكله (ج2 ص27) وابن سعد في طبقاته (ج2 ص130) والبيهقي في سننه (ج3 ص81). ومدار هذا الحديث عند الجميع على أبي إسحاق السبيعي عن أرقم بن شرحبيل، وأبوإسحاق مدلس واختلط بآخره. وقد رواه بالعنعنة. وقد قال البخاري لا يذكر سماعا من أرقم بن شرحبيل- انتهى. وحديث أنس قد صححه الترمذي، وأخرجه أيضا أحمد (ج3 ص159، 233، وص243). والراجح عندي أن القصة واحدة، وأن الاختلاف في إمامة النبي ? وأبي بكر في صلاة واحدة. وإن هذا الاختلاف من تصرف الرواة فقط، وهو ظاهر من سياق الأحاديث الواردة في الباب وطرقها، ومن صنيع الشيخين حيث لم يخرجا في صحيحيهما من طرق حديث عائشة إلا ما فيه إمامة النبي ? مع ثقة رواة الخلاف، ولم يخرجا حديث أنس أصلا. قال الحافظ: قد صرح الشافعي بأنه ? لم يصل بالناس في مرض موته في المسجد إلا مرة واحدة، وهي هذه التي صلى فيها قاعدا، وكان أبوبكر فيها أولا إماما ثم صار مأموما يسمع الناس التكبير- انتهى. وقال ابن عبدالبر: الآثار الصحاح على أن النبي ? كان الإمام- انتهى. وفي هذه القصة من الفوائد غير ما مضى تقديم أبي بكر وترجيحه على جميع الصحابة، والأدب مع الكبير لهم أبي بكر بالتأخر عن الصف وإكرام الفاضل؛ لأنه أراد أن يتأخر حتى يستوي، فلم يتركه النبي ? يتزحزح عن مقامه وفيه أن الإيماء يقوم مقام النطق واقتصار النبي ? على الإشارة يحتمل أن يكون لضعف صوته، ويحتمل أن يكون للإعلام بأن مخاطبة من يكون في الصلاة بالإيماء أولى من النطق. وفيه تأكيد أمر الجماعة والأخذ فيها بالأشد وإن كان المرض يرخص في تركها، ويحتمل أن يكون فعل ذلك لبيان جواز الأخذ بالأشد وإن كانت الرخصة أولى. وقال الطبري: إنما فعل ذلك لئلا يعذر=

6. مرعاة المفاتيح

أحد من الأئمة بعده في نفسه بأدنى عذر فيتخلف عن الإمامة، ويحتمل أن يكون قصد إفهام الناس أن تقديمه لأبي بكر كان لأهليته لذلك حتى أنه صلى خلفه. واستدل به على جواز استخلاف الإمام لغير ضرورة لصنيع أبي بكر. وعلى جواز مخالفة موقف المأموم للضرورة، كمن قصد أن يبلغ عنه، ويلتحق به من زحم عن الصف، وعلى جواز ائتمام بعض المأمومين ببعض، وهو قول الشعبي واختيار الطبري، وأومأ إليه البخاري كما تقدم. وتعقب بأن أبا بكر إنما كان مبلغا كما سيأتي الآن، وعلى هذا فمعنى الإقتداء اقتداءهم بصوته، ويؤيده أنه ? كان جالسا وكان أبوبكر قائما، فكان بعض أفعاله يخفى على بعض المأمومين، فمن ثم كان أبوبكر كالإمام في حقهم، وتأويله بأن المراد أن أبا بكر كان يراعي في الصلاة حاله ? في القيام والركوع والسجود، فكأنه كان مقتديا به، كما ورد في
متفق عليه. وفي رواية لهما: يسمع أبوبكر الناس التكبير.
1147- (6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أما يخشى

(5/177)


الحديث واقتد بأضعفهم بعيدا جدا، يرده قوله الآتي: يسمع أبوبكر الناس التكبير. واستدل به الطبري على أن للامام أن يقطع الاقتداء به ويقتدى هو بغيره من غير أن يقطع الصلاة، بناء على أن أبا بكر كان دخل في الصلاة ثم قطع القدوة وائتم برسول الله ?. واستدل به على صحة إمامة القاعد المعذور بمثله وبالقائم أيضا خلافا للمالكية. وقد تقدم الكلام فيه مفصلا. (متفق عليه) الحديث أخرجه البخاري في عدة مواضع بألفاظ وطرق مطولا ومختصرا، والسياق المذكور مختصر من حديث طويل أورده البخاري في باب الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم. وفيه فلما دخل (أبوبكر) في الصلاة وجد رسول الله ? في نفسه خفة، بدل قوله: فصلى أبوبكر تلك الأيام، ثم أن النبي ? وجد في نفسه خفة، وأيضا ليس في قوله: أن لا يتأخر. والمراد بقوله: فلما دخل في الصلاة وجد الخ، أي فلما دخل في أن يصلي بالناس أي في منصب الإمامة، وتقرر إماما لهم واستمر على ذلك أياما وجد النبي ? في نفسه خفة في بعض تلك الأيام، أو لما دخل في الصلاة في بعض تلك الأيام وجد ? في نفسه خفة، وليس المراد أنه حين دخل أبوبكر في تلك الصلاة التي جرى في شأنها الكلام وجد ? في أثنائها خفة، فلا تنافي هذه الرواية الرواية الآتية في الفصل الثالث. (وفي رواية لهما يسمع أبوبكر الناس التكبير) أي تكبير النبي ? يعني كان أبوبكر مكبرا لا إماما، وهذه اللفظة مفسرة للمراد بقوله: يقتدى أبوبكر بصلاة رسول الله ? والناس يقتدون بصلاة أبي بكر. وبقوله في رواية: كان أبوبكر يصلي بصلاة النبي ? والناس يصلون بصلاة أبي بكر. وفيه دليل على أنه يجوز رفع الصوت بالتكبير لإسماع المأمومين فيتبعونه، وأنه يجوز للمقتدي اتباع صوت المكبر وصحة صلاة المسمع والسامع، وهذا مذهب الجمهور، وفيه خلاف للمالكية وتفاصيل لا دليل عليها. والحديث أخرجه البيهقي أيضا (ج3 ص81- 93).

(5/178)


1147- قوله: (أما يخشى) كلمة "ما" نافية والهمزة للاستفهام للإنكار. والمقصود الإنكار على ترك الخشية والحث عليها ليرتدع فاعل ذلك الفعل بسبب الخشية من شنيع عاقبته عن ذلك الفعل. والحاصل أن فاعل هذا الفعل في محل المسخ، ويستحق ذلك فحقه أن يخشى هذه العقوبة وليس له أن لا يخشى، وهذا إنما يدل على أن فاعل هذا الفعل يستحق هذا العقاب، ولا يدل على أن من يفعل ذلك يلحق به هذا العقاب قطعا، وكونه لا يلحق به كما ترى فضلا من الله تعالى لا يدل على خلافه، فكم من شيء يستحقه العبد ويعفو عنه الرب تعالى وقد قال: ?ويعفو
الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار)).

(5/179)


عن كثير?. (الذي يرفع رأسه) أي من الركوع والسجود فالحديث نص عام في الركوع والسجود، وأما تخصيص السجدة بالذكر في رواية أبي داود بلفظ: الذي يرفع رأسه والإمام ساجد فمن باب الإكتفاء، وهو ذكر أحد الشيئين المشتركين في الحكم إذا كان للمذكور مزية فاكتفى فيها بذكر حكم السجدة عن ذكر حكم الركوع لكون العلة واحدة وهي السبق على الإمام، كما في قوله تعالى ?سرابيل تقيكم الحر? [16: 81] أي البرد أيضا، ولم يعكس الأمر؛ لأن السجود أعظم من الركوع في إظهار التواضع والتذلل، والعبد أقرب ما يكون إلى الرب وهو ساجد. وأما التقدم على الإمام في الخفض للركوع والسجود، فقد ورد الزجر عنه في حديث أخرجه البزار والطبراني عن أبي هريرة مرفوعا: الذي يخفض ويرفع قبل الإمام إنما ناصيته بيد شيطان. قال الهيثمي في مجمع الزوايد (ج2 ص78): إسناده حسن، وأخرجه مالك وعبدالرزاق عنه موقوفا. قال الحافظ: وهو المحفوظ. (قبل الإمام) أي قبل رفع رأسه. (أن يحول الله) أي من أن يبدل ويغير. (رأسه رأس حمار) وفي رواية مسلم: صورته في صورة حمار. وفي أخرى له: أن يجعل الله وجهه وجه حمار. قال الحافظ: الظاهر أنه من تصرف الرواة. قال عياض: هذه الروايات متفقة؛ لأن الوجه في الرأس ومعظم الصورة فيه. قلت: لفظ الصورة يطلق على الوجه أيضا. وأما الرأس فرواتها أكثر وهى أشمل فهي المعتمدة، وخص وقوع الوعيد عليها؛ لأن بها وقعت الجنابة وهي أشمل- انتهى. وقيل: الظاهر أن الاختلاف حصل من تعدد الواقعة، ويؤيده رواية ابن حبان بلفظ: أن يحول الله رأسه رأس كلب. واختلف في معنى هذا الوعيد: فقيل: يحتمل أن يرجع ذلك إلى أمر معنوي مجازي كالبلادة الموصوف بها الحمار، والمعنى يجعله بليدا كالحمار، فيكون مسخا معنويا مجازيا. قال الطيبي: لعل المأموم لما لم يعمل بما أمر به من الاقتداء بالإمام ومتابعته، ولم يفهم أن معنى الإمام والمأموم ما هو شبه بالحمار في البلادة كقوله تعالى ?مثل

(5/180)


الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا? [62: 5] انتهى. ويرجح هذا المجاز أن التحويل الظاهري لم يقع مع كثرة الفاعلين لذلك. وقيل: هو محمول على ظاهره، وإن المراد تغيير الصورة الظاهرة، إذ لا مانع من وقوع المسخ الحقيقي في هذه الأمة، كما يشهد له حديث أبي مالك الأشعري المروي في المغازي من صحيح البخاري؛ لأن فيه ذكر الخسف، وفي آخره: ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة. ويقوي حمله على ظاهره رواية ابن حبان بلفظ: أن يحول الله رأسه رأس كلب. فهذا يبعد المجاز؛ لأنتفاء المناسبة التي ذكروها من بلادة الحمار، ومما يبعده أيضا يراد الوعيد بالأمر المستقبل وباللفظ الدال على تغيير الهيئة الحاصلة، ولو أريد تشبيهه بالحمار لأجل البلادة لقال: فرأسه رأس حمار، وذلك لأن الصفة المذكورة وهي البلادة حاصلة في فاعل ذلك عند فعله المذكور، فلا يحسن أن يقال له يخشى إذا فعلت ذلك أن تصير بليدا، مع أن فعله المذكور إنما نشأ عن البلادة. وأما ما ما قيل في ترجيح المجاز من أن التحويل الظاهري لم يقع مع
متفق عليه.
?الفصل الثاني?
1148، 1149- (7) عن علي، ومعاذ بن جبل، رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله ?: ((إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام)). رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب.

(5/181)


كثرة الفاعلين لذلك، ففيه أنه ليس في الحديث ما يدل على أن ذلك يقع ولا بد، وإنما يدل على كون فاعله متعرضا لذلك وكون فعله ممكنا؛ لأن يقع عند ذلك الوعيد، ولا يلزم من التعرض للشيء وقوع ذلك الشيء، وقد أوضحنا ذلك في شرح أول الحديث. وظاهر الحديث يقتضي تحريم الرفع قبل الإمام، لكونه توعد عليه بالمسخ وهو أشد العقوبات، وبذلك جزم النووي في شرح المهذب، ومع القول بالتحريم، فالجمهور على أن فاعله يأثم وتجزئ صلاته. وعن ابن عمر تبطل، وبه قال أحمد في رواية، وأهل الظاهر بناء على أن النهي يقتضي الفساد، والوعيد بالمسخ في معناه. وقد ورد التصريح بالنهي في حديث أنس ثاني أحاديث هذا الباب عن السبق بالركوع والسجود والقيام والقعود. وفي المغنى عن أحمد أنه قال في رسالته: ليس لمن سبق الإمام صلاة لهذا الحديث، قال: ولو كانت له صلاة لرجي له الثواب ولم يخش عليه العقاب، وفي الحديث كمال شفقته ? بأمته وبيانه لهم الأحكام وما يترتب عليها من الثواب والعقاب، واستدل به على جواز المقارنة، ولا دلالة فيه؛ لأنه دل بمنطوقه على منع المسابقة وبمفهومه على طلب المتابعة، وأما المقارنة فمسكوت عنها. (متفق عليه) واللفظ لمسلم. وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص93).

(5/182)


1148، 1149- قوله: (والإمام على حال) أي من قيام أو ركوع أو سجود أو قعود. (فليصنع كما يصنع الإمام) أي ليكبر تكبيرة الإحرام، ويوافق الإمام فيما هو من القيام أو الركوع أو غير ذلك، ولا يخالفه بأداء ما سبق من الصلاة بل يدخل معه في الفعل الذي يؤديه، فيتبعه في القيام والقعود والركوع والسجود، ولا ينتظر رجوع الإمام إلى القيام، كما يفعله العوام. والحديث يدل على أنه يجب على من لحق بالإمام أن يدخل معه في أي جزء من أجزاء الصلاة أدركه من غير فرق بين الركوع والسجود والقعود، لظاهر قوله: والإمام على حال. قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم. (رواه الترمذي) في أواخر الصلاة من طريق الحجاج بن أرطاة عن أبي إسحاق السبيعي عن هبيرة بن يريم عن علي، وعن عمرو بن مرة عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل. (وقال: هذا حديث غريب) لا نعلم أحدا أسنده إلا ما روي من هذا الوجه. قال النووي إسناده
1150- (8) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ?: ((إذا جئتم إلى الصلاة، ونحن سجود، فاسجدوا ولا تعدوه شيئا، ومن أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة)).

(5/183)


ضعيف. وقال الحافظ في التلخيص (ص117) فيه ضعف وانقطاع. وقال في بلوغ المرام: رواه الترمذي بإسناد ضعيف، وهذا لأن الحجاج بن أرطاة وأباإسحاق السبيعي مدلسان، ولم يصرحا بالسماع هناد بن أبي ليلى قالوا: لم يسمع من معاذ، لكن له شاهد من حديثه أيضا عند أبي داود والبيهقي (ج3 ص93) يقول: فيه ابن أبي ليلى حدثنا أصحابنا، ثم ذكر الحديث، وفيه فقال معاذ: لا أراه على حال إلا كنت عليها، قال فقال: إن معاذا قد سن لكم سنة كذلك فافعلوا وهذا متصل؛ لأن المراد بأصحابه الصحابة، كما صرح بذلك في رواية ابن أبي شيبة حدثنا أصحاب محمد ?، ويشهد له أيضا ما رواه ابن أبي شيبة عن رجل من الأنصار مرفوعا من وجدني راكعا أو قائما أو ساجدا، فليكن معي على حالى التي أنا عليها. وما أخرجه سعيد بن منصور عن أناس من أهل المدينة مثل لفظ ابن أبي شيبة.

(5/184)


1150- قوله: (ونحن سجود) جمع ساجد والجملة حالية أي والحال إني ومن معي من المقتدين في حالة السجود. (فاسجدوا) أي وافقوه في السجود، وفيه مشروعية السجود مع الإمام لمن أدركه ساجدا. (ولا تعدوه) بضم العين وتشديد الدال أي لا تحسبوا ذلك السجود. وفي أبي داود: لا تعدوها أي بضمير التأنيث، وكذا ذكره المجد ابن تيمية في المنتقى والجزري في جامع الأصول (ج6 ص406). والمعنى: لا تعدوا تلك السجدة. (شيئا) أي معتدا به باعتبار حكم الدنيا من ادراك الركعة؛ لأن مع إدراك السجدة تفوت الركعة ولا يحصل بها إلا ثواب الآخرة. (ومن أدرك ركعة) وفي أبي داود: الركعة أي بالتعريف. (فقد أدرك الصلاة) قيل: المراد بالركعة هنا الركوع، وبالصلاة الركعة. والمعنى من أدرك ركوعا مع الإمام فقد أدرك الركعة، أي صحت له تلك الركعة، وحصل له فضيلتها فيكون الحديث دليلا لما ذهب إليه الجمهور من أن مدرك الإمام راكعا مدرك لتلك الركعة، وتعقب بأن الركعة حقيقة لجميعها، وإطلاقها على الركوع وما بعده مجاز لا يصار إليه إلا لقرينة، كما وقع عند مسلم من حديث البراء بلفظ: فوجدت قيامه فركعته فاعتداله فسجدته، فإن وقوع الركعة في مقابلة القيام والاعتدال والسجود قرينة تدل على أن المراد بها الركوع، وههنا ليست قرينة تصرف عن حقيقة الركعة، فالاستدلال به على أن مدرك الركوع مع الإمام مدرك لتلك الركعة لا يخلو عن خفاء. وقيل: المعنى من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة مع الإمام، يعني يحصل له الثواب الجماعة، ويؤيده حديث أبي هريرة بلفظ: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الفضل. وفي رواية: فقد أدرك الصلاة وفضلها. قال الطيبي: هذا الحكم في الجمعة، ولا يحصل له ثواب الجماعة إن أدرك بعضا من الصلاة قبل السلام. ومذهب مالك أنه
رواه أبوداود.

(5/185)


لا يحصل فضيلة الجماعة إلا بإدراك ركعة تامة سواء في الجمعة وغيرها. وقيل: المعنى من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة، أي حكم صلاة الجماعة من سهو الإمام ولزوم الإتمام وغير ذلك، ويؤيده ما ورد بلفظ: من أدرك ركعة مع الإمام فقد أدرك الصلاة. قلت: ظاهر سياق حديث الكتاب يدل على أن المراد بالركعة الركوع، والقرينة على ذلك قوله: إذا جئتم ونحن سجود فاسجدوا، فذكر السجود أولا ثم ذكر الركعة، يدل على أن المراد بالركعة هنا الركوع، وأيضا في قوله: ولا تعدوها شيئا بيان حكم إدراك السجدة مع الإمام، وأنه لا يعتد به، ويكون مدركه مدركا للركعة وأما حملها على بيان إدراك فضل صلاة الجماعة أو حكمها فبعيد؛ لأنه لا يبقى حينئذ مناسبة بين الجملتين، وأيضا حصول ثواب الجماعة لا يتوقف على إدراك الركعة، بل يحصل ذلك بإدراك جزء من الصلاة جمعة كانت أو غيرها. وأما رواية: فقد أدرك الفضل أو فقد أدرك الصلاة وفضلها فهو حديث آخر لأبي هريرة، ليس فيه الجملة الأولى مع أنها رواية ضعيفة، وعلى هذا فلا خفاء في دلالة حديث الكتاب على كون مدرك الركوع مدركا للركعة، لا سيما على مذهب من يعتبر مفهوم المخالفة، فان الجملة الأولى بمفهومها يدل على أن من أدرك الإمام راكعا يعتد بتلك الركعة، لكن الحديث ضعيف كما ستعرف. ويلزم من يقول أن الصحابي إذا روى حديثا وعمل بخلافه أن العبرة بما عمل أن لا يقول بكون مدرك الركوع مدركا للركعة؛ لأن أبا هريرة أفتى بخلاف ما روى، فقد أخرج البخاري في جزء القراءة (ص39) عنه قال: لا يجزيك إلا أن تدرك الإمام قائما قبل أن يركع. وفي لفظ له (ص64) قال: إذا أدركت القوم ركوعا لم تعتد بتلك الركعة. والحق عندي إن من أدرك الإمام راكعا ودخل معه في الركوع لم تحسب له تلك الركعة، وقد تقدم الكلام فيه مفصلا. (رواه أبوداود) وكذا الحاكم (ج1:ص273، 274) والبيهقي (ج2:ص89) وسكت عنه أبوداود، والمنذري. وفيه يحيى بن

(5/186)


أبي سليمان المدني. قال البخاري في جزء القراءة: يحيى هذا منكر الحديث لم يتبين سماعه من زيد بن أبي العتاب ولا من سعيد بن أبي سعيد المقبري، ولا تقوم به الحجة. وقال البيهقي في المعرفة رواية الحديث من طريق يحيى: تفرد به يحيى بن أبي سليمان هذا وليس بالقوى. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج11:ص228) : قال البخاري إنه منكر الحديث. وقال أبوحاتم: مضطرب الحديث ليس بالقوي يكتب حديثه، وذكره ابن حبان في الثقات. وأخرج إبن خزيمة حديثه في صحيحه وقال: في القلب شيء من هذا الإسناد. قال: لا أعرف يحيى بن سليمان بعدالة ولا جرح، وإنما أخرجت خبره لأنه لم يختلف فيه العلماء. وقال الحاكم في المستدرك: هو من ثقات المصريين. وقال في موضع آخر منه: يحيى مدني سكن مصر لم يذكر
1151- (9) وعن أنس، قال: قال رسول الله ?: (( من صلى لله أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولى، كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق) رواه الترمذي.
بجرح - انتهى. وهذا يدل على أن يحيى هذا لم يعرفه ابن خزيمة والحاكم بعدالة ولا جرح، وهذا هو شأن المستور ورواية المستور لا تكون حجة على القول الصحيح، ولا يعتد بذكر ابن حبان له في ثقاته لما عرف من اصطلاحه، مع أنه قد ضعفه أمير المؤمنين في الحديث محمد بن إسماعيل البخاري. وقال أبوحاتم: مضطرب الحديث ليس بالقوى. ومن المعلوم أن من عرف حجة على من لم يعرف.

(5/187)


1151- قوله: (من صلى لله) أي خالصا. (أربعين يوما) أي ليلة. (في جماعة) متعلق بصلى. (يدرك) حال. (التكبيرة الأولى) أي التكبيرة التحريمة مع الإمام. (براءة من النار) أي خلاص ونجاة. منها يقال برئ من الدين والعيب خلص، ولا يكون الخلاص منها إلا بمغفرة الصغائر والكبائر جميعا. (وبراءة من النفاق) قال الطيبي: أي يؤمنه في الدنيا أن يعمل عمل المنافق ويؤفقه لعمل أهل الإخلاص، وفي الآخرة يؤمنه مما يعذب به المنافق أو يشهد له أنه غير منافق، فإن المنافقين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، وحال هذا بخلافهم. والحديث يدل على فضل إدراك التكبيرة الأولى مع الإمام. قال ابن حجر: إدراك التكبيرة الأولى سنة مؤكدة، وكان السلف إذا فاتتهم عزوا أنفسهم ثلاثة أيام، وإذا فاتتهم الجماعة عزوا أنفسهم سبعة أيام، ذكره القاري. (رواه الترمذي) وقال: قد روى هذا الحديث عن أنس موقوفا ولا أعلم أحدا رفعه إلا ما روى سلم بن قتيبة عن طعمة بن عمرو (عن حبيب بن أبي ثابت عن أنس). وإنما يروى هذا عن حبيب بن أبي حبيب البجلي عن أنس قوله: وكأنه يريد بذلك تضعيف الرفع ولم يبين وجهه، مع أن سلم بن قتيبة وطعمة وبقية رواته كلهم ثقات، على أن هذا مما لا يقال مثله من قبل الرأي والاجتهاد، فالموقوف في حكم المرفوع، مع أنه في فضائل الأعمال. ومن المعلوم أنه يعمل فيها بالضعيف بالشروط المذكورة في أصول الحديث. وقال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذا الحديث: رواه الترمذي من حديث أنس وضعفه، ورواه البزار واستغربه - انتهى. وقد وردت في فضل إدراك التكبيرة الأولى مع الإمام أحاديث أخرى تؤيد حديث أنس، منها: حديث عمر، أخرجه ابن ماجه وسعيد بن منصور، وفيه ضعف وانقطاع. ومنها: حديث عبدالله بن أبي أوفي، أخرجه أبونعيم في الحلية، وفيه الحسن بن عمارة وهو ضعيف. ومنها: حديث أبي كاهل، أخرجه الطبراني في الكبير والعقيلي في الضعفاء والحاكم أبوأحمد في الكنى. قال العقيلي: إسناده

(5/188)


مجهول. ومنها: حديث أبي هريرة، أخرجه البزار والعقيلي، وفيه الحسن بن السكن. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص103): ضعفه أحمد، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال في التخليص: لم يكن الفلاس يرضاه. ومنها: حديث أبي الدرداء أخرجه البزار وابن أبي شيبة، وفيه رجل مجهول. ذكر هذه الأحاديث الحافظ في التلخيص (ص121) مع الكلام عليها.
1152- (10) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ?: (( من توضأ فأحسن الوضوءه، ثم راح فوجد الناس قد صلوا، أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها، لا ينقص من أجورهم شيئا)) رواه أبوداود، والنسائي.
1153- (11) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((جاء رجل وقد صلى رسول الله ?، فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟

(5/189)


1152- قوله: (ثم راح) أي ثم ذهب إلى المسجد أي وقت كان، فالمراد بالرواح مطلق الذهاب، ويؤيده أن في رواية النسائي: ثم خرج عامدا إلى الصلاة. (قد صلوا) أي فرغوا من صلاتهم في الجماعة. (أعطاه) أي الرجل الذي جاء بعد انقطاع صلاة الجماعة. (مثل أجر من صلاها) أي الصلاة في الجماعة. (وحضرها) أي حضر صلاة الجماعة. (لا ينقص ذلك) أي أعطاه الله إياه مثل أجرهم. (من أجورهم) وفي أبي داود: من أجرهم، أي بالإفراد، وكتب على هامش عون المعبود: أجورهم، بعلامة النسخة، يعني أجر المصليين بالجماعة. (شئيا) من الأجر أو النقص بل لهم أجورهم كاملا؛ لأداءهم الصلاة بالجماعة، وله مثل أجر أحدهم لسعيه في تحصيل صلاة الجماعة وإن فاتته. قال السندي: ظاهر الحديث أن إدراك فضل الجماعة يتوقف على أن يسعى لها بوجهه ولا يقصر في ذلك سواء أدركها أم لا، فمن أدرك جزءا منها ولو في التشهد، فهو مدرك بالأولى، وليس الأجر والفضل مما يعرف بالاجتهاد، فلا عبرة بقول من يخالف قوله الحديث في هذا الباب أصلا. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (والنسائي) وأخرجه أيضا الحاكم. وقال: صحيح على شرط مسلم. والبيهقي (ج3:ص69) وفي الباب عن سعيد المسيب عن رجل من الأنصار يقول: سمعت رسول الله ? فذكر الحديث، وفيه: فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له، فإن أتى المسجد وقد صلوا بعضا وبقي بعض صلى ما أدرك وأتم ما بقي كان كذلك، فان أتى المسجد وقد صلوا فأتم الصلاة كان كذلك. أخرجه أبوداود والبيهقي من طريقه وسكت عليه أبوداود والمنذري.

(5/190)


1153- قوله: (جاء رجل) أي المسجد، ففي رواية لأحمد (ج3:ص45) والبيهقي (ج3:ص69) أن رجلا دخل المسجد (وقد صلى رسول الله ?) أي بأصحابه الظهر، كما في مسند أحمد (ج3:ص85) وزاد فيه: قال فدخل رجل من أصحابه فقال له النبي ?: ما حبسك يا فلان عن الصلاة؟ فذكر شيئا اعتل به، قال فقام يصلي فقال رسول الله ?: الخ. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح. (فقال) أي رسول الله ?. (ألا رجل يتصدق على هذا) أي يتفضل عليه ويحسن إليه. (فيصلي معه) ليحصل له بذلك أجر الجماعة، فيكون
فقام رجل فصلى معه)).

(5/191)


كأنه تصدق عليه. قال المظهر: سماه صدقة؛ لأنه يتصدق عليه بثواب ست وعشرين درجة، إذ لو صلى منفردا لم يحصل له إلا ثواب صلاة واحدة. قال الطيبي: قوله "فيصلي" منصوب لوقوعه جواب قوله "ألا رجل" كقولك ألا تنزل بنا فتصيب خيرا. وقيل: الهمزة للاستفهام ولا بمعنى ليس، فعلى هذا "فيصلي" مرفوع عطفا على الخبر، وهذا أولى - انتهى. وقال ابن حجر: بالنصب جواب الاستفهام، ويصح الرفع عطفا على "يتصدق" الوقع خبرا للا التي بمعنى ليس، والمعنى أليس رجل ممن فرغوا من صلاتهم بالجماعة فيتصدق بثواب الجماعة على هذا الرجل الذي فاتته الصلاة مع الإمام فيصلي معه، فيحصل بذلك له ثواب الجماعة، فإنه إذا فعل ذلك فكأنه تصدق عليه. (فقام رجل) أي ممن صلى مع النبي ? وهو أبوبكر الصديق. وفي رواية للبيهقي (ج3:ص70) أن الذي قام فصلى معه أبوبكر رضي الله عنه. (فصلى معه) أي مقتديا به. والحديث يدل على مشروعية الدخول مع من دخل في الصلاة منفردا وإن كان الداخل معه قد صلى في جماعة، وقد استدل الترمذي بهذا الحديث على جواز أن يصلي القوم جماعة في مسجد قد صلى فيه، قال: وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي ? وغيرهم من التابعين، وبه يقول أحمد وإسحاق. وقال آخرون من أهل العلم يصلون فرادى، وبه يقول سفيان ومالك وابن المبارك والشافعي –انتهى. قلت: من ذهب من الأئمة إلى اشتراط الجماعة لصحة الصلاة أو إلى وجوب الجماعة عينا من غير أن يجعلها شرطا أجاز تكرار الجماعة مطلقا، وكل من ذهب إلى عدم وجوبها عينا أو إلى سنيتها كرهها، كما ستعرف وإلى الجواز ذهب ابن مسعود. فقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن سلمة بن كهيل: أن ابن مسعود دخل المسجد وقد صلوا فجمع بعلقمة ومسروق والأسود، وإسناده صحيح، وهو قول أنس بن مالك. قال البخاري في صحيحه: وجاء أنس بن مالك إلى مسجد قد صلي فيه فأذن وأقام وصلى جماعة - انتهى. قال الحافظ: وصله أبويعلى في مسنده، وابن أبي شيبة

(5/192)


والبيهقي –انتهى مختصرا ملخصا. قال ابن حزم في المحلى (ج4:ص238) : هذا ممالا يعرف فيه لأنس مخالف من الصحابة. وقال العيني في شرح البخاري: وهو قول عطاء والحسن في رواية، وإليه ذهب أحمد وإسحاق وأشهب عملا بظاهر قوله ?: صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ... الحديث- انتهى. ومذهب الحنفية في ذلك ما ذكر الشامي في حاشية الدر المختار نقلا عن الخزائن ويكره. (أى تحريما) تكرار الجماعة في مسجد محلة. (يعني المسجد الذي له إمام وجماعة معلومون) بأذان وإقامة إلا إذا صلى بهما فيه أو لا غير أهله، أو أهله لكن بمخافتة الأذان ولو كرر أهله بدونهما أو كان مسجد طريق جاز، كما في مسجد ليس له إمام ومؤذن –انتهى. واستدلوا لذلك بما رواه الطبراني في الكبير والأوسط عن أبي بكرة: أن رسول الله ? أقبل من نواحي المدينة يريد الصلاة فوجد الناس قد صلوا، فمال إلى منزله فجمع أهله فصلى بهم. ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص45) وقال: رجاله ثقات. قال الحنفية: لو كانت

(5/193)


الجماعة الثانية جائزة لما اختار الصلاة في بيته على الجماعة في المسجد. قالوا: وفي إطلاق الإذن تقليل الجماعة معنى، فإنهم لا يجتمعون إذا علموا أنها لا تفوتهم. قلت: في الاستدلال بحديث أبي بكرة على كراهة تكرار الجماعة تنزيها أو تحريما نظر؛ لأنه ليس بنص في أنه ? جمع أهله فصلى بهم في منزله، بل يحتمل أن يكون صلى بهم في المسجد. وكان ميله إلى منزله لجمع أهله لا للصلاة فيه، وحينئذ يكون هذا الحديث دليلا لاستحباب الجماعة في مسجد محلة له إمام ومؤذن وأهل معلومون قد صلى فيه مرة، ولا يكون دليلا لكراهتها، فما لم يدفع هذا الاحتمال كيف يصح الاستدلال. ولو سلم أن رسول الله ? صلى بأهله في منزله لا يثبت منه كراهة تكرار الجماعة في المسجد، بل غاية ما يثبت منه أنه لو جاء رجل في مسجد قد صلى فيه فيجوز له أن لا يصلي فيه بل يخرج منه، فيميل إلى منزله فيصلي به بأهله. وأما أنه لا يجوز له أن يصلي في ذلك المسجد بالجماعة أو يكره له ذلك فلا دلالة الحديث عليه البتة، كما لا يدل الحديث على كراهة أن يصلي فيه منفردا، على أنه لو ثبت من هذا الحديث كراهة تكرار الجماعة، لأجل أنه ? لم يصل في المسجد لثبت منه كراهة الصلاة فرادى أيضا في مسجد قد صلى فيه؛ لأنه ? لم يصلى في المسجد لا منفردا ولا بالجماعة. وأما قولهم: لو كانت الجماعة الثانية جائزة لما اختار الصلاة في منزله على الجماعة في المسجد، ففيه أنه يلزم من هذا التقرير كراهة الصلاة فرادى أيضا في المسجد قد صلى فيه مرة بالجماعة، فإنه يقال لو كانت الصلاة فرادى جائزة في مسجد قد صلى فيه بالجماعة لما اختار الصلاة في بيته على الصلاة في مسجده الذي هو أفضل المساجد بعد مسجد الحرام، وهذا كله على تقدير أن يكون هذا الحديث صحيحا قابلا للاحتجاج، ومن دونه خرط القتاد. وأما قول الهيثمي: "رجاله ثقات" فلا يدل على صحته؛ لأنه لا يلزم من كون رجال الحديث ثقات أن يكون صحيحا، كما هو

(5/194)


مقرر في موضعه مع أن في سنده معاوية بن يحيى أبا مطيع الاطرابلسي، وهو من رجال الميزان متكلم فيه، وثقة أبوزرعة وأبوعلي النيسابوري وهشام بن عمار. وقال: دحيم وابن معين وأبوداود والنسائي: ليس به بأس. وقال أبوحاتم: صدوق مستقيم الحديث. وقال البغوي والدارقطني: ضعيف. وذكره الدارقطني في المتروكين، وقال: هو أكثر مناكير من معاوية بن يحيى الصدفي. وقال ابن عدي: في بعض رواياته ما لا يتابع عليه، كذا في تهذيب التهذيب (ج10 ص221) وقال في التقريب: صدوق له أوهام. وأجاب الحنفية عن حديث أبي سعيد الذي نحن في شرحه بأنه ليس بحجة علينا؛ لأن المختلف فيه ما إذا كان الإمام والمقتدي مفترضين، وفي هذا الحديث كان المقتدي متنفلا، قال الشيخ في شرح الترمذي متعقبا على هذا الجواب ما نصه: إذا ثبت من هذا الحديث حصول ثواب الجماعة بمفترض ومتنفل فحصول ثوابها بمفترضين بالأولى، ومن ادعى الفرق فعليه البيان، على أنه لم يثبت عدم جواز تكرار الجماعة أصلا

(5/195)


لا بمفترضين ولا بمفترض ومتنفل، فالقول بجواز تكرارها بمفترض ومتنقل وعدم جواز تكرارها بمفترضين مما لا يصغى إليه، كيف وقد تقدم أن أنسا جاء في نحو عشرين من فتيانه إلى المسجد قد صلى فيه فصلى بهم جماعة، وظاهر أنه هو وفتيانه كلهم كانوا مفترضين، وكذلك جاء ابن مسعود إلى مسجد قد صلى فيه فجمع بعلقمة ومسروق والأسود، وظاهر أنه هو وهؤلاء الثلاثة كلهم كانوا مفترضين - انتهى. ومذهب الشافعية ما ذكره الشافعي في الأم (ج1:137، 136) وإذا كان للمسجد إمام راتب ففاتت رجلا أو رجالا فيه الصلاة صلوا فرادى ولا أحب أن يصلوا فيه جماعة، فان فعلوا أجزأتهم الجماعة فيه، وإنما كرهت ذلك لهم؛ لأنه ليس مما فعل السلف قبلنا، بل قد عابه بعضهم. قال الشافعي: وأحسب كراهية من كره ذلك منهم إنما كان لتفرق الكلمة وأن يرغب الرجل عن الصلاة خلف إمام جماعة فيختلف هو، ومن أراد عن المسجد في وقت الصلاة فإذا قضيت دخلوا فجمعوا، فيكون في هذا اختلاف وتفرق كلمة وفيهما المكروه، وإنما أكره هذا في كل مسجد له إمام ومؤذن، فأما مسجد بني على ظهر الطريق أو ناحية لا يؤذن فيه مؤذن راتب ولا يكون له إمام معلوم ويصلي فيه السمارة ويستظلون فلا أكره ذلك فيه؛ لأنه ليس فيه المعنى الذي وصفت من تفرق الكلمة، وإن يرغب رجال عن إمامة رجل فيتخذون إماما غيره وإن صلى جماعة في مسجد له إمام ثم صلى فيه آخرون في جماعة بعدهم كرهت ذلك لهم لما وصفت وأجزأتهم صلاتهم - انتهى. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج1:ص431) بعد تصويب قول الشافعي وتحسينه: وهذا المعنى الذي ذهب إليه الشافعي لا يعارض حديث الباب، يعني حديث أبي سعيد الذي نحن في شرحه، فان الرجل الذي فاتته الجماعة لعذر ثم تصدق عليه أخوه من نفس الجماعة بالصلاة معه، وقد سبقه بالصلاة فيها هذا الرجل، يشعر في داخلة نفسه كأنه متحد مع الجماعة قلبا وروحا وكأنه لم تفته الصلاة. وأما الناس الذي يجمعون وحدهم بعد

(5/196)


صلاة جماعة المسلمين فإنما يشعرون أنهم فريق آخر خرجوا وحدهم وصلوا وحدهم إلى آخر ما قال. ومذهب المالكية ما في المدونة (ج1:ص89) قلت: فلو كان رجل هو إمام مسجد قوم ومؤذنهم أذن وأقام فلم يأته أحد فصلى وحده ثم أتى أهل المسجد الذين كانوا يصلون فيه، قال فليصلوا أفذاذا ولا يجمعوا؛ لأن إمامهم قد أذن وصلى، قال: وهو قول مالك. قلت: أرأيت إن أتى هذا الرجل الذي أذن في هذا المسجد وصلى وحده أتى مسجدا فأقيمت الصلاة أيعيد أم لا في جماعة في قول مالك؟ قال: لا أحفظ من مالك فيه شيئا، ولكن لا يعيد؛ لأن مالكا قد جعله وحده جماعة - انتهى. وقال ابن العربي في شرح الترمذي (ج2:ص21): هذا معنى محفوظ في الشريعة عن زيغ المبتدعة لئلا يتخلف عن الجماعة ثم يأتي فيصلي بإمام آخر، فتذهب حكمة الجماعة وسننها، لكن ينبغي إذا أذن الإمام في ذلك أن يجوز، كما في حديث أبي سعيد، وهو قول بعض علماءنا - انتهى. ولعلك عرفت بما ذكرنا من مذاهب العلماء وما استدلوا به عليها أنه لا دليل على كراهة تكرار
رواه الترمذي، وأبوداود.
?الفصل الثالث?
1154- (12) عن عبيدالله بن عبدالله، قال: ((دخلت على عائشة، فقلت: ألا تحدثين عن مرض رسول الله ?؟ قالت: بلى، ثقل النبي ?، فقال: أصلى الناس؟ فقلنا: لا يارسول الله ?! وهم ينتظرونك قال: ضعوا لي ماء في المخضب،

(5/197)


الجماعة، وعدم جواز الجماعة الثانية في مسجد له إمام راتب قد صلى فيه أهله لا من كتاب ولا من سنة صحيحة ثابتة ولا إجماع إلا من رأي معارض لحديث أبي سعيد ومخالف لعمل ابن مسعود وأنس بن مالك رضي الله عنهما، لا يعرف فيه لهما مخالف من الصحابة، فأرجح الأقوال عندنا هو أنه يجوز ويباح لمن أتى مسجدا قد صلي فيه بإمام راتب وهو لم يكن صلاها، وقد فاتته الجماعة لعذر أن يصلي بالجماعة، والله أعلم. (رواه الترمذي) وحسنه. (وأبوداود) وسكت عنه هو، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره، واللفظ المذكور للترمذي إلا قوله: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه، فإن هذا اللفظ لأبي داود، ولفظ الترمذي: أيكم يتجر على هذا. والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج3:ص5و45، 64، 85) والدارمي والحاكم (ج1:ص209) وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وابن حزم في المحلي (ج4:ص238) والبيهقي (ج3:ص69و ج2:ص303) وابن حبان وابن الجارود في المنتقي (ص168) وابن خزيمة. وفي الباب عن أبي أمامة وسلمان وعصمة بن مالك الخطمي وأنس ، ذكر أحاديثهم الزيلعي في نصب الراية (ج2:ص57، 58) والهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص45، 46). هذا، وكان الأنسب إيراد الأحاديث الثلاثة في باب فضيلة الجماعة.

(5/198)


1154- قوله: (عن عبيدالله بن عبدالله) أي ابن عتبة بن مسعود، أحد الفقهاء السبعة من كبار التابعين. (فقلت) لها. (ألا) بتخفيف اللام للعرض والاستفتاح. (تحدثيني عن مرض رسول الله ?) أي مرضه الذي توفى فيه. (قالت بلى) أي نعم أحدثك. (ثقل النبي ?) بضم القاف، اشتد مرضه فحضرت الصلاة. (فقال) صلى الله عليه وسلم. (أصلي الناس) الهمزة فيه للاستفهام والاستخبار. (فقلنا: لا) أي ما صلوا. (وهم ينتظرونك) أي خروجك أو أمرك. قال الطيبي: حال من المقدر أي لم يصلوا والحال أنهم ينتظرونك. (قال) وفي بعض النسخ: "فقال". (ضعوا) أمر من الوضع. (لي) أي لأجلي. (ماء في المخضب) بكسر ميم وسكون خاء وفتح ضاد معجمتين ثم الموحدة هو أجانة تغسل فيها الثياب، ويقال لها المركن، وكان هذا المخضب
(1) وفي نسخة "فقال"
قالت: ففعلنا، فاغتسل، فذهب لينوء، فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله ! قال ضعوا لي ماء في المخضب، قالت: فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء، فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله ! قال: ضعوا لي ماء في المخضب، فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء، فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله ! والناس عكوف في المسجد.

(5/199)


من نحاس، كما في رواية ابن خزيمة. (قالت) أي عائشة. (ففعلنا) ما أمر به. (فاغتسل) وللمتسملى: ففعلنا فقعد فاغتسل قال الحافظ: الماء الذي اغتسل به كان من سبع قرب، يشير إلى رواية البخاري في باب الغسل والوضوء في المخضب بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال بعد ما دخل بيته واشتد وجعه: هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلى أعهد إلى الناس، وأجلس في مخضب لحفصة زوج النبي ? ثم طفقنا نصب عليه تلك، قيل: والحمة في ذلك أن المريض إذا صب عليه الماء البارد ثابت إليه قوته، لكن في مرض يقتضي ذلك والنبي ? علم بذلك، فلذلك طلب الماء ولذلك بعد استعمال الماء قام وخرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم، وأما تعيين العدد بالسبعة فقيل: يحتمل أن يكون ذلك من جهة التبرك بهذا العدد؛ لأن له دخولا في كثير من أمور الشريعة وأصل الخلقة، والحكمة في عدم حل الأوكية، لكونه أبلغ في طهارة الماء وصفائه لعدم مخالطة الأيدي. قال الحافظ وفي رواية للطبراني من آبار شتى، والظاهر أن ذلك للتداوي لقوله في رواية أخرى في الصحيح: لعلي أستريح فأعهد أي أوصى. (فذهب) أي شرع. (لينوء) بنون مضمومة ثم همزة أي لينهض بجهد ومشقة. وقال الكرماني: وينوء كيقوم لفظا ومعنى. (فأغمي عليه) بالبناء للمفعول أي لشدة ما حصل له من تناهي الضعف وفتور الأعضاء عن تمام الحركة. قال في المجمع: أغمي على المريض إذا غشي عليه كأنه ستر عقله - انتهى. وفيه أن الإغماء جائز على الأنبياء؛ لأنه مرض من الأمراض بخلاف الجنون فلم يجز عليهم؛ لأنه نقص وقد كملهم الله تعالى بالكمال التام. قال العيني: العقل في الإغماء يكون مغلوبا، وفي الجنون يكون مسلوبا، والحكمة في جواز المرض عليهم ومصائب الدنيا تكثير أجورهم وتسلية الناس بأحوالهم وأمورهم، لئلا يفتتن الناس بهم ويعبدونهم لما يظهر على أيديهم من المعجزات والآيات البينات. (هم ينتظرونك) جملة اسمية وقعت حالا بلا واو، وهو جائز وقد وقع

(5/200)


في القرآن نحو قوله ?قلنا اهبطو بعضكم لبعض عدو? [36:2] وكذلك هم ينتظرونك الثاني. (فأغمي عليه ثم أفاق) وقع الاغماء والإفاقة ثلاث مرات. قال الأسنوي في المهمات: نقل القاضي حسين أن الاغماء لا يجوز على الأنبياء الا ساعة أو ساعتين، فأما الشهر أو الشهرين فلا يجوز كالجنون. (والناس عكوف)
ينتظرون النبي ? لصلاة العشاء الآخرة، فأرسل النبي ? إلى أبي بكر: بأن يصلي بالناس، فأتاه الرسول، فقال: إن رسول الله ? يأمرك أن تصلي بالناس، فقال أبوبكر – وكان رجلا رقيقا – يا عمر! صل بالناس، فقال له عمر: أنت أحق بذلك، فصلى أبوبكر تلك الأيام، ثم إن النبي ? وجد في نفسه خفة، وخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر، وأبوبكر يصلي بالناس،

(5/201)


بضم العين جمع العاكف، أي مجتمعون مقيمون، وأصل العكف اللبث والحبس واللزوم، ومنه الاعتكاف؛ لأنه لبث في المسجد ولزومه وحبس النفس فيه. (ينتظرون النبي ?) أي خروجه. (لصلاة العشاء الآخرة) قال الحافظ: كذا للأكثر بلام التعليل. وفي رواية المستملي والسرخسي: الصلاة العشاء الآخرة. وتوجيهه أن الراوي كأنه فسر الصلاة المسؤل عنها في قوله ?، أي الصلاة المسؤل عنها هي العشاء الآخرة. (فأتاه الرسول) أي رسول النبي ? وهو بلال المؤذن؛ لأنه هو الذي أعلم بحضور الصلاة كما تقدم فأجيب بذلك. (فقال أبوبكر) أي لعمر بن الخطاب. (وكان رجلا) جملة معترضة مقول عائشة. (رقيقا) أي رقيق القلب كثير الحزن والبكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن. (يا عمر صل بالناس) قال النووي: تأوله بعضهم على أنه قاله تواضعا وليس كذلك بل للعذر المذكور وهو كونه رقيق القلب كثير البكاء، فخشي أن لا يسمع الناس من البكاء. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون رضي الله عنه فهم من الإمامة الصغرى الإمامة العظمى، وعلم ما في تحملها من الخطر، وعلم قوة عمر على ذلك فاختاره، ويؤيده أنه عند البيعة أشار عليهم أن يبايعوه أو يبايعوا أباعبيدة بن الجراح. والظاهر أنه لم يطلع على المراجعة التي وقعت بينه ? وبين عائشة، وفهم من الأمر له بذلك تفويض الأمر له في ذلك، سواء باشر بنفسه أو استخلف - انتهى. وقال السندي: كأن أبا بكر رضي الله عنه رأى أن أمره بذلك كان تكريما منه له، والمقصود أداء الصلاة بإمام لا تعيين أنه الإمام، ولم يدر ما جرى بينه ? وبين بعض أزواجه في ذلك، وإلا لما كان له تفويض الإمامة إلى عمر. (فقال له عمر أنت أحق بذلك) مني أي لفضيلتك أو لأمر الرسول إياك خاصة. (فصلى أبوبكر تلك الأيام) أي التي كان النبي ? فيها مريضا. (وجد في نفسه خفة) أي من المرض، وقوة على الخروج إلى الجماعة. (أحدهما العباس) والآخر علي، كما سيأتي. (لصلاة الظهر) هو صريح في أن الصلاة المذكورة كانت

(5/202)


الظهر، وزعم بعضهم أنها الصبح، مستدلا بقوله في رواية ابن عباس عند ابن ماجه والبيهقي (ج3:ص81): وأخذ رسول الله ? القراءة من حيث بلغ أبوبكر، لكن في الاستدلال به على ذلك نظر. لاحتمال أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم سمع لما قرب من أبي بكر الآية التي كان انتهى إليها خاصة، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يسمع الآية أحيانا في الصلاة السرية على أن حديث ابن عباس هذا في سنده أبوإسحاق السبيعي كان قد
فلما رآه أبوبكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه النبي ? بأن لا يتأخر، قال: أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى جنب أبي بكر، والنبي ? قاعد. وقال عبيدالله: فدخلت على عبدالله بن عباس، فقلت له: ألا أعرض عليك ما حدثني عائشة عن مرض رسول الله ?؟ قال: هات، فعرضت عليه حديثها، فما أنكر منه شيئا، غير أنه قال: أسمت لك الرجل الذي كان مع العباس؟ قلت: لا. قال: هو علي))

(5/203)


اختلط بآخر عمره، وكان مدلسا، وقد رواه بالعنعنة. وقد قال البخاري: لا نذكر لأبي إسحاق سماعا عن أرقم ابن شرجيل. (فلما رأه أبوبكر ذهب ليتأخر) أي أراد أن يتأخر وشرع فيه. (فأومأ) بالألف وفي بعض النسخ بالهمزة أي أشار. (قال) أي للرجلين. (فأجلساه إلى جنب أبي بكر والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قاعد) كذا وقع في جميع النسخ الموجودة عندنا. ولفظ البخاري: فأجلساه إلى جنب أبي بكر، قال: فجعل أبوبكر يصلي، وهو يأتم بصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والناس بصلاة أبي بكر والنبي ? قاعد. ولفظ مسلم: فأجلساه إلى جنيب أبي بكر فكان يصلي أبوبكر وهو قائم بصلاة النبي ? والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي ? قاعد. وذكر الجزري في جامع الأصول (ج11:ص372) لفظ مسلم. والظاهر أنه وقع في نسخ المشكاة ههنا سقط من النساخ حتى صار الكلام مهملا. والعجب من القاري أنه لم يتنبه لذلك ومر عليه كأنه رأى معناه واضحا ليس فيه اختلال ولا إهمال. واستدل بهذا الحديث على أن استخلاف الإمام الراتب إذا اشتكى أولى من صلاته بهم قاعدا؛ لأنه ? استخلف أبابكر ولم يصل بهم قاعدا غير مرة واحدة. وفيه دليل على صحة إمامة القاعد المعذور للقائم خلافا لمالك. وفي الحديث فوائد أخرى غير ما تقدم منها: فضيلة أبي بكر الصديق وترجيحه على جميع الصحابة وتفضيله، وتنبيه على أنه أحق بخلافة رسول الله ? من غيره. ومنها: فضيلة عمر بعد أبي بكر؛ لأن أبابكر لم يعدل إلى غيره. ومنها: أن المفضول إذا عرض عليه الفاضل مرتبة لا يقبلها بل يدعها للفاضل إذا لم يمنع مانع. ومنها: الثناء في الوجه لمن أمن عليه الإعجاب والفتنة، لقوله: أنت أحق بذلك. ومنها: أن الإمام إذا عرض له عذر عن حضور الجماعة وأراد أن يستخلف أحدا فلا يستخلف إلا أفضلهم. (وقال عبيدالله) ابن عبدالله بن عتبة. (ألا أعرض) الهمزة للاستفهام ولا للنفي وليس حرف التنبيه ولا حرف التحضيض، بل هو استفهام للعرض. (عن مرض

(5/204)


رسول الله ?) أي وعن صلاته في تلك الحالة وإنما اقتصر على الأول؛ لأنه المقصود بالسؤال. (قال هات) بكسر التاء مفرد هاتوا بمعنى أحضر. (فعرضت عليه) أي على ابن عباس. (حديثها) هذا. (فما أنكر منه) أي من حديثها. (شيئا) مصدر أي ما أنكر شيئا من الانكار فهو مفعول مطلق. وقيل: مفعول به أي ما انكر شيئا من الأشياء. (قال هو علي) أي ابن أبي طالب قيل: لم تسمه عائشة؛
متفق عليه.
1155- (13) وعن أبي هريرة، أنه كان يقول: ((من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة، ومن فاتته قراءة أم القرآن فقد فاته خير كثير)).
لأنه كان في قلبها منه ما يحصل في قلوب البشر. مما يكون سببا في الإعراض عن ذكر اسمه، ففي رواية للإسماعيلي: ولكن عائشة لا تطيب نفسا له بخير، ولابن إسحاق في المغازي، ولكنها لا تقدر على أن تذكره بخير. قال الحافظ: وفي هذا رد على من تنطع فقال: لا يجوز أن يظن ذلك بعائشة ورد على من زعم أنها أبهمت الثاني، لكونه لم يتعين في جميع المسافة إذ كان تارة يتوكأ على الفضل وتارة على أسامة وتارة على علي. وفي جميع ذلك الرجل الآخر هو العباس، واختص بذلك إكراما له، وهذا توهم ممن قاله، والواقع خلافه؛ لأن ابن عباس في جميع الروايات الصحيحة جازم بأن المبهم علي فهو المعتمد، ودعوى وجود العباس في كل مرة والذي يتبدل غيره مردودة بدليل رواية ابن حبان التي قدمت الإشارة إليها وغيرها صريح في أن العباس لم يكن في مرة ولا مرتين - انتهى كلام الحافظ. فتفكر. (متفق عليه) أخرجه البخاري في باب : إنما جعل الإمام ليؤتم به، وأخرجه أيضا النسائي في باب الإئتمام بالإمام يصلي قاعدا والبيهقي (ج1:ص31 وج3:ص80).

(5/205)


1155- قوله: (أنه كان يقول) الضمير راجع إلى أبي هريرة. ولفظ المؤطا مالك: أنه بلغه أن أباهريرة كان يقول. (من أدرك الركعة) قيل: المراد بالركعة الركوع، ومعنى إدراك الركوع أن يركع المأموم قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع يعني من أدرك الإمام راكعا فكبر وركع قبل رفع الإمام رأسه فقد أدرك الركوع وإذا أدرك الركوع. (فقد أدرك السجدة) بالأولى يعني يعتبر بهذه السجدة إذا أدرك الركوع. وقيل: المراد بالسجدة الركعة، والمعنى من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة أي صحت له تلك الركعة. وقيل: لفظ الركعة محمول على معناه الحقيقي، والمراد بالسجدة الصلاة والمعنى من أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة أي فضيله جماعتها بكمالها. (ومن فاتته قراءة أم القرآن) أي فاتحة الكتاب. (فقد فاته خير كثير) قال الباجي في المنتقي (ج1:ص21) معناه من أدرك الركعة فقد أدرك الاعتداد بالسجدة، وليست فضيلة من أدرك الركعة بدون قراءة كفضيلة من أدرك القراءة من أولها إلى آخرها. وقال الطيبي: أي من أدرك الركوع وفاته قراءة أم الكتاب وإن أدرك الركعة فقد فاته ثواب كثير - انتهى. وهذا بظاهره يدل على أن أباهريرة ذهب إلى أن مدرك الركوع مدرك للركعة، لكن هذا الأثر مما رواه مالك بلاغا، وقد قال بعضهم: يسمى مثل هذا معضلا ولم نقف على من رواه مسندا، ولا يكفي لثبوته وصحته ما نقله القاري عن سفيان إذا قال مالك: بلغني فهو إسناد قوي، ولو سلم فهو معارض لما رواه البخاري في جزء القراءة (ص35) بسنده عن أبي هريرة لا يجزيك إلا أن
رواه مالك.
1156- (14) وعنه، أنه قال: ((الذي يرفع رأسه ويخفضه قبل الإمام، فإنما ناصيته بيد الشيطان))
رواه مالك.

(5/206)


تدرك الإمام قائما قبل أن يركع. وفي رواية (ص64) إذا أدركت القوم ركوعا لم تعتد بتلك الركعة، قال ابن عبدالبر بعد ذكره: في إسناد نظر، ولم يبين وجه النظر، والحق أن إسناد الروايتين صحيح أو حسن، رواته مقبولون موثقون، فإن الأول رواه عن عبيد بن يعيش عن يونس عن محمد بن إسحاق قال: أخبرني الأعرض عن أبي هريرة. والثاني عن معقل بن مالك عن أبي عوانة عن محمد بن إسحاق عن عبدالرحمن الأعرج عنه، وهذا أقوى وأرجح مما رواه مالك بلاغا، فيقدم ذلك على هذا. (رواه مالك) أي بلاغا عن أبي هريرة، ورواه البيهقي (ج2:ص90) من طريق مالك.

(5/207)


1156- قوله: (وعنه) أي عن أبي هريرة. (أنه قال) موقوف. وقد روي مرفوعا، ورجح الحافظ وقفه كما سيأتي. (الذي يرفع رأسه) أي من الركوع والسجود. (ويخفضه) أي الرأس فيهما. (قبل الإمام) أي قبل رفعه وخفضه. (فإنما ناصيته) أي شعر مقدم رأسه. قال في المجمع: هي الشعر المسترسل في مقدم الرأس، وقد يكنى بها عن جميع الذات. وقال في القاموس: الناصية قصاص الشعر. (بيد الشيطان) حقيقة أو مجازا، يعني يقلبه على خلاف رضى الحق، فهو في تصريف الشيطان، وقبول أمره. والمعنى أن المبادرة بالرفع والخفض قبل الإمام من فعل الشيطان بالمبادر. قال الباجي: معناه الوعيد لمن فعل ذلك، وإخبار أن ذلك من فعل الشيطان، وأن فعله هذا انقياد من كانت ناصيته بيده - انتهى. قال صاحب القبس: ليس للتقدم قبل الإمام سبب إلا طلب الاستعجال، ودواؤه أنه يستحضر أنه لا يسلم قبل الإمام فلا يستعجل في هذه الأفعال، ذكره الحافظ في الفتح. (رواه مالك) عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص عن مليح بن عبدالله بن السعدي عن أبي هريرة من قوله قال ابن عبدالبر: رواه مالك موقوفا، ورواه الدراوردي عن محمد بن عمرو عن مليح عن أبي هريرة عن النبي ?. وقال الحافظ في الفتح أخرجه البزار من رواية مليح بن عبدالله السعدي عن أبي هريرة مرفوعا، وأخرجه عبدالرزاق من هذا الوجه موقوفا. وهو المحفوظ - انتهى. قلت: والحديث المرفوع عزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص78) للبزار، والطبراني وقال: وإسناده حسن - انتهى. ومليح بن عبدالله السعدي لم أجد ترجمته في كتب الرجال الموجودة عندي، إلا أنه ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة، فقال: مليح بن عبدالله السعدي روى عن أبي هريرة وروى عنه محمد بن عمرو بن علقمة الليثي - انتهى.
(29) باب من صلى صلاة مرتين
?الفصل الأول?
1157- (1) عن جابر، قال: ((كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي ?، ثم يأتي قومه فيصلي بهم)). متفق عليه.

(5/208)


(باب من صلى) أي فيمن صلى. (صلاة مرتين) أي حقيقة أو صورة وله صور، والمقصود منها ههنا بالنظر إلى أحاديث الباب هو أن يصلي فريضة منفردا في منزله أو في المسجد بالجماعة مأموما ثم يذهب إلى مسجد الجماعة فيصلي بهم إماما أو معهم مأموما.
1157- قوله. (كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي ?) أي العشاء الآخرة، كما في رواية لمسلم فكان العشاء هي التي كان يواظب فيها على الصلاة مرتين. (ثم يأتي قومه) أي مسجد قومه بني سلمة. (فيصلي بهم) أي الصلاة المذكورة، ففي رواية مسلم المتقدمة: فيصلي بهم تلك الصلاة، أي التي صلاها مع النبي ?، وللبخاري في الأدب: فيصلي بهم الصلاة أي المذكورة. وفي هذا رد على من زعم أن الصلاة التي كان يصليها مع النبي ? غير الصلاة التي كان يصليها بقومه، واستدل به لما ذهب إليه الشافعي وأحمد من صحة إقتداء المفترض خلف المتنفل، بناء على أن معاذا كان ينوي بالأولى بالفرض وبالثانية النفل. وأجاب بعض الحنفية بأنه لا حجة فيه لجواز أن يكون كان معاذ يصلي مع النبي ? نافلة، ثم يأتي قومه فيصلي بهم فريضة، ورد هذا الجواب بأن الظاهر من هذا الحديث أن معاذا كان يصلي مع النبي ? فريضة، إذ بعيد من فقاهة معاذ وهو أفقه الصحابة أن يدرك الفرض خلف أفضل الأئمة في مسجده الذي هو أفضل المساجد بعد المسجد الحرم، فيتركه ويضيع حظه منه ويقنع من ذلك بالنفل. قال السندي في حاشية النسائي: دلالة هذا الحديث على جواز إقتداء المفترض واضحة، والجواب عنه مشكل جدا، وأجابوا بما لا يتم، وقد بسطت الكلام فيه في حاشية ابن الهمام-انتهى. قلت: والرواية الآتية نص صريح في صحة اقتداء المفترض خلف المتنفل، وهي صحيحة، كما ستعرف، والحديث يدل على جواز إعادة الصلاة بالجماعة إماما أو مأموما لمن صلى جماعة في مسجد، واختلف فيه. قال ابن رشيد: أكثر الفقهاء على أنه لا يعيد، منهم مالك وأبوحنيفة. وقال بعضهم: يعيد، ومن قال بهذا أحمد وداود وأهل

(5/209)


الظاهر-انتهى. قلت: وبه قال الشافعي، وهو الحق لحديث جابر هذا، وسيأتي مزيد الكلام في ذلك في شرح الأحاديث المذكورة في الباب. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب إذا صلى ثم أم قوما ويمثله أخرجه مسلم إلا أن فيه ثم يأتي مسجد قومه.
1158- (2) وعنه، قال: ((كان معاذ يصلي مع النبي ? العشاء ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم العشاء، وهي له نافلة
وللحديث طرق وألفاظ مطولة ومختصرة، منها ما تقدم في باب القراءة في الصلاة. وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم.

(5/210)


1158- قوله. (ثم يرجع إلى قومه) أي بني سلمة. (فيصلي بهم العشاء) أي التي كان يصليها مع النبي ?، وفي رواية الحميدي عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار: ثم يرجع إلى بني سلمة فيصليها بهم. وفي رواية الشافعي عن ابن عيينة: ثم يرجع فيصليها بقومه في بني سلمة، ولأحمد: ثم يرجع فيؤمنا. (وهي) أي صلاته بقومه. (له) أي لمعاذ. (نافلة) أي تطوع، ولقومه فريضة، ففي رواية للدارقطني. (ص102): ثم ينصرف إلى قومه فيصلي بهم، هي له تطوع، ولهم فريضة، وهذه الزيادة المصرحة أن صلاة معاذ بقومه كانت له تطوعا، دليل واضح على صحة إقتداء المفترض خلف المتنفل خلافا للمالكية والحنفية. وأجاب بعض الحنفية بأن هذه الزيادة فيها كلام، لأنه تفرد بها ابن جريج عن عمرو بن دينار. قال أحمد: أخشى أن لا تكون محفوظة. وقال ابن الجوزي: هذه الزيادة لا تصح. وقال الطحاوي: إن ابن عيينة قد روى هذا الحديث عن عمرو بن دينار كما رواه ابن جريج، وجاء به تاما، وساقه أحسن من سياق ابن جريج غير أنه لم يقل فيه هذا الذي قاله ابن جريج: هي له تطوع ولهم فريضة-انتهى. قلت: الزيادة المذكورة صحيحة ثابتة محفوظة، فإنها زيادة من ثقة حافظ، ليست منافية لرواية من هو أحفظ منه أو أكثر عددا. وأما قول ابن الجوزي والطحاوي فقد رده الحافظ أحسن رد، حيث قال: ويدل عليه. (أى أن معاذ كان ينوي بالأولى الفرض وبالثانية النفل) ما رواه عبد الرزاق والشافعي والطحاوى والدارقطني وغيرهم من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار عن جابر في حديث الباب، زاد هي له تطوع، ولهم فريضة. وهو حديث صحيح، وقد صرح ابن جريج في رواية عبدالرزاق بسماعه فيه، فانتفت تهمة تدليسه. فقول ابن الجوزي: لا يصح، مردود. وتعليل الطحاوي بأن ابن عيينة ساقه عن عمرو أتم من سياق ابن جريج، ولم يذكر هذه الزيادة، ليس بقادح، لأن ابن جريج أسن وأجل من ابن عيينة وأقدم أخذا عن عمرو منه، ولو لم يكن كذلك فهي زيادة من ثقة حافظ ليست

(5/211)


منافية لرواية من هو أحفظ منه ولا أكثر عددا، فلا معنى للتوقف في الحكم بصحتها- انتهى. ودعوى شذوذ هذه الزيادة، كما تفوه بها بعضهم، باطلة جدا، لأنه لا بد لكون الرواية شاذة من أن تكون منافية لرواية من هو أوثق من راويها أو أكثر عددا منه، والأمر ههنا ليس كذلك، كما هو ظاهر جلي. وأجاب الطحاوي عن هذه الزيادة بوجوه: أحدها أن هذه الزيادة ليست من كلام رسول الله?، ولا من كلام معاذ، وهذا ظاهر جدا، فيحتمل أن تكون من قول ابن جريج
. . .

(5/212)


أو من قول عمرو بن دينار، فعلى هذا تكون مدرجة، فلا تقبل. ومع هذا لا تدل على حقيقة فعل معاذ أنه كذلك أم لا. وأجاب الحافظ عنه بأن الأصل عدم الإدراج حتى يثبت التفصيل. فمهما كان مضموما إلى الحديث فهو منه. ومجرد الاحتمال لا يثبت به الإدراج. فرد هذه الزيادة بمجرد احتمال أن تكون مدرجة، باطل جدا. وثانيها أنه يحتمل أن تكون هذه الزيادة من قول جابر، فعلى هذا لا تكون مدرجة، لكن لا تدل على حقيقة فعل معاذ أنه كذلك أم لا، لأنه لم يحك ذلك عن معاذ، بل هو ظن من جابر. وقد يجوز أن يكون في الحقيقة بخلاف ذلك. وأجاب الحافظ عنه بأن قول الطحاوي: هو ظن من جابر، مردود، لأن جابرا كان ممن يصلي مع معاذ، فهو محمول على أنه سمع ذلك منه، ولا يظن بجابر أنه يخبر عن شخص بأمر غير مشاهد إلا بأن يكون ذلك الشخص أطلعه عليه. وثالثها أنه لو ثبت أن هذه الزيادة نقلها جابر عن معاذ وسمعها منه لم يكن في ذلك دليل على أنه كان بأمر رسول الله ?، ولا أن رسول الله ? لو أخبره به لأقره أو غيره، فعلى هذا لا تكون فيها حجة. وأجاب الحافظ عنه بأنهم لا يختلفون في أن رأي الصحابي إذا لم يخالفه غيره حجة، والواقع هنا كذلك، فإن الذين كان يصلي بهم معاذ كلهم صحابة، وفيهم ثلاثون عقبيا وأربعون بدريا، قاله ابن حزم، قال: ولا يحفظ عن غيرهم من الصحابة امتناع ذلك، بل قال معهم بالجواز عمر وابن عمر وأبوالدرداء وأنس وغيرهم- انتهى. قلت: ويمكن أن يجاب بأن النبي ? علم بذلك، وأمر معاذ به. ففي رواية لأحمد أنه قال لمعاذ: لا تكن فتانا، إما أن تصلي معي. وإما أن تخفف على قومك، يعني إما تصلي معي إذا لم تخفف. وإما أن تخفف بقومك فتصلي معي. ورابعها أنه لو سلم أن ذلك كان من أمر رسول الله ? وإذنه لم يكن فيه حجة، لاحتمال أن ذلك كان في الوقت الذي كانت الفريضة فيه تصلى مرتين، فإن ذلك قد كان يفعل في أول الإسلام حتى نهى عنه رسول الله ? ، كما سيأتي في حديث سليمان عن

(5/213)


ابن عمر في آخر الفصل الثالث، يعني فيكون فعل معاذ منسوخا بما روي من النهي. وتعقب ذلك بأنه يتضمن إثبات النسخ بالاحتمال، وهو لا يسوغ. وأما حديث ابن عمر ففي الاستدلال به على تقدير صحته نظر، لاحتمال أن يكون النهي عن أن يصلوا مرتين على أنهما فريضة. وبذلك جزم البيهقي جمعا بين الحديثين، بل لو قال قائل: هذا النهي منسوخ بحديث معاذ لم يكن بعيدا. ولا يقال إن القصة قديمة، لأن صاحبها استشهد بأحد. لأنا نقول كانت أحد في أواخر الثالثة، فلا مانع من أن يكون النهي في الأولى، والإذن في الثالثة مثلا، وقد قال ? للرجلين الذين لم يصليا معه: إذا صليتما في حالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم فإنها لكما نافلة، وكان ذلك في حجة الوداع في أواخر حياة النبي ?. ويدل على الجواز أيضا أمره ? لمن أدرك الأئمة الذين يأتون بعده،
رواه........
((الفصل الثاني))
1159_(3) عن يزيد بن الأسود، قال: ((شهدت مع النبي ? حجته، فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته وانحرف فإذا هو برجلين في آخر القوم لم يصليا معه،

(5/214)


ويؤخرون الصلاة عن ميقاتها، أن صلوها في بيوتكم في الوقت، ثم اجعلوها معهم نافلة. (رواه) بيض له المصنف ليبين روايه ومخرجه، وكان ينبغي تأخيره للفصل الثاني، لأنه ليس في الصحيحين، ولا في أحدهما، ولا في واحد من الكتب الستة، وإنما رواه البيهقي. (ج3 ص86) وغيره. وقد تقدم في كلام الحافظ أنه رواه عبدالرزاق والشافعي والطحاوي والدارقطني وغيرهم. وكأن المصنف ذكره في الفصل الأول تبعا لما في المصابيح، وكان على البغوي أن يؤخره للحسان. قال الطيبي: لم يبين المؤلف روايه من أصحاب السنن، يشير إلى أنه ما وجده في الصحيحين. قال التوربشتي: هذا الحديث أثبت في المصابيح من طريقين: أما الأول فقد رواه الشيخان. وأما الثاني فبالزيادة التي فيه، وهي قوله: نافلة له فلم نجده في أحد الكتابين، فإما أن يكون المؤلف أورده بيانا للحديث الأول، فخفي قصده لإهمال التمييز بينهما أو هو سهو منه، وإما أن يكون مزيدا من خائض افتحم الفضول إلى مهامه لم يعرف طرقها- انتهى. والحديث مع هذه الزيادة صححه البيهقي وغيره. وقال الشافعي في مسنده: هذه زيادة صحيحة. وتقدم قول الحافظ أنه حديث صحيح.

(5/215)


1159- قوله. (عن يزيد بن الأسود) هو أبو جابر يزيد بن الأسود ويقال: ابن أبي الأسود السوائي بضم المهملة وتخفيف الواو والمد، العامري، ويقال الخزاعي، حليف قريش، صحابي، نزل الطائف، ووهم من ذكره في الكوفيين. له هذا الحديث فقط، وروى عنه ابنه جابر بن يزيد الأسود. (شهدت) أي حضرت. (مع النبي ? حجته) أي حجة الوداع. (صلاة الصبح) فيه رد على من زعم من الحنفية بأن هذه القصة كانت في صلاة الظهر. وأما ما وقع في مسند أبي حنيفة بلفظ: أن رجلين صليا الظهر في بيوتهما- الحديث. فلا يعتد به، أو هي قصة أخرى. (في مسجد الخيف) بفتح الخاء المعجمة وإسكان الياء، وهو مسجد مشهور بمنى. قال الطيبي: الخيف ما انحدر من غليظ الجبل. وارتفع عن المسيل، يعني هذا وجه تسميته به. (فلما قضى صلاته) أي أداها وسلم منها. (وانحرف) وفي بعض نسخ الترمذي: "انحرف" بدون الواو، وهكذا نقله الجزرى في جامع الأصول. (ج6ص419) ووقع عند البيهقي. (ج2 ص301): وانحرف بزيادة الواو أي انصرف عنها، والظاهر أن المعنى انحرف عن القبلة. (فإذا هو) أي النبي ?. (برجلين في آخر القوم) كذا في جميع النسخ، أي بالمد في أوله
قال: علي بهما، فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: يا رسول الله ! إنا كنا قد صلينا في رحالنا، قال: فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة)).

(5/216)


وكسر الخاء. والذي في الترمذي: أخرى القوم، أي بضم الهمزة تأنيث آخر بكسر الخاء، ونقله الجزري كذلك. وأخرى القوم من كان في آخرهم، كما في القاموس. (علي) بتشديد الياء، اسم فعل. (بهما) أي ائتوني بهما واحضروهما عندي. (ترعد) بالبناء للمجهول أي تحرك وترجف وتضطرب من الخوف من أرعد الرجل إذا أخذته الرعدة، وهي الفزع والاضطراب. (فرائصهما) بالصاد المهملة جمع فريصة، وهي اللحمة التي بين الجنب والكتف، تهتز وترجف عند الفزع، أي تتحرك وتضطرب. ووجه ارتعاد فرائصهما ما أعطي رسول الله ? من العظمة والمهابة مع كثرة تواضعه. (فقال) أي رسول الله ? (ما منعكما أن تصليا) هذه الصلاة. (معنا) معشر المسلمين. (في رحالنا) أي منازلنا، جمع رحل بفتح الراء وسكون المهملة. (فلا تفعلا) أي ما فعلتما من ترك الصلاة مع الإمام بل (إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة) لفظ أبي داود: إذا صلى أحدكم في رحله، ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه. ولفظ ابن حبان: إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الصلاة فصليا. قال الشوكاني: ظاهر التقييد بقوله: ثم أتيتما مسجد جماعة، إن هذا الحكم مختص بالجماعات التي تقام في المساجد لا التي تقام في غيرها، فيحمل المطلق من ألفاظ حديث الباب كلفظ أبي داود وابن حبان المتقدمين على المقيد بمسجد الجماعة. (فصليا معهم) أي مع أهل المسجد. (فإنها) أي الصلاة الثانية، وهي التي صلياها مع أهل المسجد بعد صلاتهما الفريضة. (لكما نافلة) والفريضة هي الأولى، سواء صليت جماعة أو فرادى لإطلاق الخبر. قال الشوكاني: فيه تصريح بأن الثانية في الصلاة المعادة نافلة. وظاهره عدم الفرق بين أن تكون الأولى جماعة أو فرادى، لأن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال. قال الخطابي في المعالم. (ج1 ص164): في الحديث من الفقه أن من صلى في رحله، ثم صادف جماعة يصلون كان عليه أن يصلي معهم أي صلاة كانت من الصلوات الخمس، وهو

(5/217)


مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق. وكان مالك يكره أن يعيد صلاة المغرب وكان أبوحنيفة لا يرى أن يعيد صلاة العصر والمغرب والفجر- انتهى. قال ابن رشد: من استثنى من ذلك صلاة المغرب فقط فإنه خصص العموم بالقياس الشبه وهو مالك، وذلك أنه زعم أن صلاة المغرب وتر، فلو أعيدت لأشبهت صلاة الشفع، لأنها بمجموع ذلك تكون ست ركعات، فكأنها تنتقل من جنسها إلى جنس صلاة أخرى. وهذا القياس فيه ضعف، لأن السلام قد فصل بين الأوتار- انتهى. وعلل الحنفية استثناء
رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي.

(5/218)


العصر والفجر والمغرب بأن الصلاة الأولى فرض، والثانية نفل، قالوا: فيراعى فيه ما يراعى في التنفل، كالمنع من التطوع بعد فرض العصر والصبح، وعدم مشروعية التطوع وترا. قال الخطابي: وظاهر الحديث حجة على الجماعة من منع عن شيء من الصلوات كلها، ألا تراه يقول: إذا صلى أحدكم في رحله، ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه، ولم يستثن صلاة دون صلاة، فأما نهيه عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب فقد تأولوه على وجهين: أحدهما أن ذلك على معنى إنشاء الصلاة ابتداء من غير سبب. فأما إذا كان لها سبب مثل أن يصادف قوما يصلون جماعة فإنه يعيدها معهم ليحرز الفضيلة. والوجه الآخر أنه منسوخ، وذلك أن حديث يزيد بن الأسود متأخر، لأن في قصته أنه شهد مع رسول الله ? حجة الوداع، ثم ذكر الحديث. وفي قوله: فإنها نافلة دليل على أن صلاة التطوع جائزة بعد الفجر قبل طلوع الشمس إذا كان لها سبب- انتهى. وقال السندي في حاشية النسائي: قوله: فصليا معهم، هذا تصريح في عموم الحكم أوقات الكراهة أيضا، ومانع عن تخصيص الحكم بغير أوقات الكراهة، لاتفاقهم على أنه لا يصح استثناء المورد من العموم، والمورد صلاة الفجر. قال: ولا يمكن أن يتوهم نسخ هذا الحكم لكون ذلك في حجة الوداع. قلت: الحديث نص في رد ما قاله أبوحنيفة للتصريح بأن ذلك كان في صلاة الصبح، فيكون هذا مخصصا لعموم الأحاديث القاضية بكراهة الصلاة بعد صلاة الصبح. ومن جوز التخصيص بالقياس ألحق ما ساواه من أوقات الكراهة. وأما التنفل بالثلاث غير صلاة الوتر فالظاهر أنه يشرع في مثل هذه الصورة لإطلاق حديث يزيد هذا وما وافقه من أحاديث الباب. ولا يعارض هذا حديث ابن عمر الآتي بلفظ: لا تصلوا صلاة في يوم مرتين، لما سنذكره. (رواه الترمذي وأبوداود والنسائي) واللفظ المذكور للترمذي، وأخرجه أيضا أحمد (ج4 ص160) والطيالسي وابن سعد في الطبقات وابن حبان والدارقطني والحاكم (ج1 ص245)

(5/219)


والبيهقي (ج2 ص300- 301)، وصححه ابن السكن والترمذي، وسكت عنه أبوداود ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره، وقد أخرجوه كلهم من طريق يعلى بن عطاء عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه، قال الشافعي في القديم: إسناده مجهول. قال البيهقي: لأن يزيد بن الأسود ليس له راو غير ابنه، ولا لابنه جابر راو غير يعلى. قال الحافظ في التلخيص (ص122): يعلى من رجال مسلم، وجابر وثقة النسائي وغيره، وقد وجدنا لجابر بن يزيد راويا غير يعلى، أخرجه ابن مندة في المعرفة من طريق شيبة عن إبراهيم بن أبي أمامة عن عبدالملك بن عمير عن جابر.
((الفصل الثالث))
1160- (4) عن بسر بن محجن، عن أبيه، ((أنه كان في مجلس مع رسول الله ? فأذن بالصلاة، فقام رسول الله ?

(5/220)


1160- قوله. (عن بسر) بضم الموحدة وسكون المهملة، كذا قال مالك في روايته عن زيد بن أسلم. وأما الثوري فقال: عن زيد بن أسلم عن بشر بكسر الموحدة وبالمعجمة. قال أبونعيم: والصواب ما قال مالك. وقال ابن عبدالبر: الأكثر على ما قال مالك. ونقل الدارقطني أن الثورى رجع عن ذلك. وقال ابن عبدالبر: إن عبدالله بن جعفر والد علي بن المديني رواه عن زيد بن أسلم، فقال بشر بن محجن بالمعجمة. وقال الطحاوي: سمعت إبراهيم البرلسي يقول: سمعت أحمد بن صالح بجامع مصر يقول: سمعت جماعه من ولده ومن رهطه فما اختلف اثنان أنه بشر، كما قال الثوري يعني بالمعجمة. وقال ابن حبان في الثقات: من قال بشر فقد وهم، روى عنه زيد بن أسلم حديثا واحدا. قيل صحابي، والصواب أنه تابعي. ذكره الحافظ في الإصابة في القسم الرابع من حرف الباء، وهو فيمن ذكر في الصحابة على سبيل الوهم والغلط بشرط أن يكون الوهم فيه بينا، فقال: بسر بالضم وإسكان المهملة تابعي مشهور، جزم بذلك البخاري والجمهور. ذكره البغوي وغيره في الصحابة لرواية سقط فيها لفظ عن أبيه، وسنذكرها وقال ابن الأثير في أسد الغابة: لا تصح صحبته، تصح صحبة أبيه محجن. وقال في التقريب: بسر بن محجن. وقيل: بكسر أوله والمعجمة، صدوق من الرابعة أي من الطبقة التي تلي الطبقة الوسطى من التابعين، جل روايتهم عن كبار التابعين. (بن محجن) بكسر الميم وسكون مهملة وفتح جيم آخره نون. (عن أبيه) أي محجن بن أبي محجن الديلى، صحابي قليل الحديث. قال ابن عبدالبر: معدود في أهل المدينة. قال الذهبي في تلخيصه للمستدرك (ج1 ص244): محجن تفرد عنه ابنه – انتهى. ووهم من قال فيه: محجن بن الأدرع، كما في المنتقى لابن تيمية، فإنه صحابي آخر. (أنه) أي أباه. (كان في المجلس) أي داخل المسجد. (فأذن) بصيغة المفعول. (بالصلاة) قيل أي بالصلاة الظهر، لما أخرج البغوي وغيره من طريق ابن إسحاق عن عمران بن أبي أنس عن حنظلة بن علي عن بسر بن

(5/221)


محجن، قال صليت الظهر في منزلي، ثم خرجت بإبل لى لأضربها، فمررت برسول الله ? ، وهو يصلي الظهر في مسجده- الحديث. ذكره الحافظ في الإصابة. وقال قد سقط من الإسناد قوله: عن أبيه، وأخرجه الطحاوي من طريق سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم بلفظ: صليت في بيتي الظهر والعصر- الحديث. وذكر ابن الأثير الجزري في أسد الغابة حديث بسر هذا بلفظ: صلاة الظهر. وروى أحمد عن رجل من بني الديل، قال خرجت بأباعر لي، لأصدرها إلى الراعي، فمررت برسول الله ?، وهو يصلي بالناس الظهر، فمضيت، فلم أصل
فصلى، ورجع، ومحجن في مجلسه، فقال له رسول الله ?: ما منعك أن تصلي مع الناس؟ ألست برجل مسلم؟ فقال: بلى، يا رسول الله ! ولكني كنت قد صليت في أهلي، فقال له رسول الله ?: إذا جئت المسجد، وكنت قد صليت، فأقيمت الصلاة، فصل مع الناس وإن كنت قد صليت)). رواه مالك، والنسائي.

(5/222)


معه- الحديث. (فصلى) أي بعد الإقاومة. (ورجع) وفي الموطأ، وكذا عند النسائي: ثم رجع أي بعد الفراغ من الصلاة (ومحجن في مجلسه) أي مكانه الأول لم يتحرك منه. (ما منعك أن تصلي مع الناس) أي جماعة المسلمين الذين صلوا معي. (ألست برجل مسلم) قال الباجي: يحتمل الاستفهام، ويحتمل التوبيخ، وهو الأظهر. ولا يقتضي أن من لم يصل مع الناس ليس بمسلم، إذ هذا لا يقوله أحد- انتهى. (فقال بلى يا رسول الله ) أنا مسلم حقا. (ولكني كنت قد صليت) وفي الموطأ: ولكني قد صليت أي بدون لفظ: كنت (في أهلي) يعني ما تركت الصلاة، وإنما اكتفيت بصلاتي في أهلي. ولعله سمع قبل ذلك قوله: لا تصلوا صلاة في يوم مرتين. (إذا جئت المسجد وكنت قد صليت فأقيمت الصلاة فصل مع الناس) ولفظ الموطأ والنسائي: إذا جئت فصل مع الناس. ولفظ الكتاب لم أجده إلا في جامع الأصول. وقد نسبه إلى الموطأ والنسائي. وزاد أحمد في رواية له: واجعلها نافلة. (وأن) وصلية أي ولو. (كنت قد صليت) أي في أهلك. قال الطيبي: تكرير تقرير لقوله: وكنت قد صليت، وتحسين للكلام، كما في قوله تعالى. ?ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة، ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم? [16: 119] فقوله: لغفور رحيم، خبر لقوله: إن ربك للذين عملوا السوء، وقوله: إن ربك من بعدها تكرير للتقرير والتحسين –انتهى. والحديث بعمومه وإطلاقه يدل على مشروعية الصلاة مع الإمام إذا وجده يصلي أو سيصلي أي صلاة كانت من الصلوات الخمس لمن كان قد صلى جماعه أو فرادى، والأولى هي الفريضة. والأخرى نافلة، كما صرح به في رواية لأحمد، (رواه مالك) عن زيد بن أسلم عن بسر عن أبيه محجن، والنسائي من طريق مالك، وأخرجه أيضا أحمد (ج4 ص34) من طريق الثوري، ومالك عن زيد بن أسلم. ونسبه الحافظ في الإصابة للبخاري في الأدب المفرد، وابن خزيمة، ونسبه أيضا في التلخيص لابن حبان والحاكم. وأخرجه أيضا الطحاوي والدارقطني

(5/223)


والدارمي والبيهقي (ج2 ص300)، وهو في المستدرك (ج1 ص244). من طريق مالك ومن طريق الشافعي عن عبدالعزيز بن محمد عن زيد بن أسلم، ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح، ومالك بن أنس الحكم في حديث المدنيين، وقد احتج به في الموطأ، وهو من النوع الذي قدمت ذكره أن الصحابي إذا لم يكن له راويان لم يخرجاه- انتهى.
1161- (5) وعن رجل من أسد بن خزيمة، أنه سأل أبا أيوب الأنصاري قال: ((يصلي أحدنا في منزله الصلاة، ثم يأتي المسجد، وتقام الصلاة، فأصلى معهم، فأجد في نفسي شيئا من ذلك. فقال أبوأيوب: سألنا عن ذلك النبي ?، قال: فذلك له سهم جمع)). رواه مالك، وأبوداود.

(5/224)


1161- قوله. (عن رجل من أسد) كذا في جميع النسخ. وكذلك نقله الجزري في جامع الأصول (ج6 ص420). وهكذا وقع في رواية للبيهقي وفي الموطأ وأبي داود: من بني أسد. وهذا الرجل مجهول لم يسم ولم يدر. (أنه سأل أبا أيوب الأنصاري) النجاري الخزرجي البدري من كبار الصحابة. (قال) أي الرجل السائل، وهذا بيان للسؤال. (يصلي أحدنا في منزله الصلاة) أي المكتوبة. (وتقام) وفي بعض النسخ: فتقام. (فأصلي معهم) أي مرة أخرى بعد ما صليت في منزلي. قال الطيبي: فيه التفات من الغيبة إلى الحكاية على سبيل التجريد؛ لأن الأصل أن يقال أصلي في منزلي بدل قوله: يصلي أحدنا- انتهى. قال القاري: والأظهر كان الأصل أن يقال فيصلي معهم فالتفت، وكذا قوله. (فأجد في نفسي) ولفظ الموطأ: فقال إني أصلي في بيتي، ثم آتي المسجد فأجد الإمام يصلي، أفأصلى معه؟. (شيئا) أي شبهة. (من ذلك) أي من إعادة الصلاة. (سألنا عن ذلك) قال الطيبي: المشار إليه بذلك هو المشار إليه بذلك الأول والثالث أي الآتي، وهو ما كان يفعله الرجل من إعادة الصلاة بالجماعة بعد ما صلاها منفردا- انتهى. (قال) وفي بعض النسخ: فقال موافقا لما في أبي داود وجامع الأصول. (فذلك) الظاهر أن المشار إليه هنا هو الرجل خلاف ما ذكره الطيبي أي فذلك الرجل الذي أعاد الصلاة بالجماعة. (له سهم جمع) أي نصيب من ثواب الجماعة. وقال الخطابي في المعالم (ج1 ص165): يريد أنه سهم من الخير، جمع له فيه حظان. وفيه وجه آخر. قال الأخفش: سهم جمع، يريد سهم الجيش. وسهم الجيش هو السهم من الغنيمة، قال: والجمع ههنا هو الجيش، واستدل بقوله تعالى. ?يوم التقى الجمعان? [3: 155، 166]، وبقوله: ?سيهزم الجمع? [54: 45]، وبقوله: ?فلما تراء الجمعان? [26: 61]. وقال ابن عبدالبر: له أجر الغازي في سبيل لله. وقال الباجي: يحتمل عندي أن ثوابه مثل ثواب الجماعة، ويحتمل مثل سهم من بيت بالمزدلفة في الحج؛ لأن جمع اسم المزدلفة، ويحتمل أن له

(5/225)


سهم الجمع بين الصلاتين صلاة الفذ والجماعة، فيكون فيه الإخبار بأنه لا يضيع له أجر الصلاتين- انتهى. قال الطيبي: قوله: فأجد في نفسي، أي أجد في نفسي من فعل ذلك حزازة، هل ذلك لي أو علي؟ فقيل له سهم الجمع أي ذلك لك لا عليك، ويجوز أن يكون المعنى إني أجد من فعل ذلك روحا أو راحة، فقيل ذلك الروح نصيبك من صلاة الجماعة، والأول أوجه- انتهى. (رواه مالك وأبوداود) الحديث عند مالك موقوف، وعند أبي داود مرفوع. وكلام المصنف هذا يدل على أنه مرفوع عندهما جميعا، فكان ينبغي
1162- (6) وعن يزيد بن عامر، قال: ((جئت رسول الله ? وهو في الصلاة، فجلست ولم أدخل معهم في الصلاة، فلما انصرف رسول الله ? رآني جالسا، فقال: ألم تسلم يا يزيد؟ قلت: بلى، يا رسول الله ! قد أسلمت. قال: وما منعك أن تدخل مع الناس في صلاتهم؟ قال: إني كنت فقد صليت في منزلي، أحسب أن قد صليتم. فقال: إذا جئت الصلاة فوجدت الناس، فصل معهم وإن كنت قد صليت،
له أن يقول رواه مالك موقوفا، وأبوداود مرفوعا أو يقول رواه أبوداود، ورواه مالك موقوفا، ورواه البيهقي (ج2 ص300) مرفوعا من طريق أبي داود، وموقوفا من طريق مالك. والحديث في سنده رجل مجهول، كما تقدم.

(5/226)


1162- قوله. (وعن يزيد بن عامر) بن الأسود العامري أبوحاجز السوائي. قال في التقريب: صحابي، له حديث، يعني هذا الحديث. وقال في الإصابة: قال أبوحاتم: له صحبة، روى عن النبي ? في الصلاة. أخرجه أبوداود من طريق نوح بن صعصعة عنه. ثم أخرجه الطبراني من هذا الوجه، وكان شهد حنينا مع المشركين، ثم أسلم (جئت رسول الله ? وهو في الصلاة) وفي أبي داود جئت والنبي ? في الصلاة أي مع الجماعة. ولفظ المشكاة موافق لما في جامع الأصول (ج6 ص420). (فجلست) أي في ناحية من المسجد منفردا عن الصف. (ولم أدخل معهم) أي مع المصلين. (في الصلاة) يعني إذا كنت قد صليت. (فلما انصرف رسول الله ? ) أي عن الصلاة وانحرف عن القبلة. (رآني جالسا) وفي أبي داود: قال فانصرف علينا رسول الله ? ، فرأى يزيد جالسا، أي على غير هيئة الصلاة أو على حدة من الصف. ولفظ المشكاة يوافق لما في جامع الأصول. (ألم تسلم) الهمزة للاستفهام أي أما أسلمت؟ (قلت) وفي بعض النسخ: فقلت: وفي أبي داود: قال أي يزيد. (وما منعك) وفي أبي داود: فما منعك. (أن تدخل مع الناس في صلاتهم) فإنه من علامة الإسلام. (قال) أي يزيد. (إني كنت قد صليت في منزلي أحسب) حال من فاعل صليت. (إن قد صليتم) قال الطيبي: قوله أحسب الخ جملة حالية أي ظانا فراغ صلاتكم- انتهى. قلت: وفي أبي داود وأنا أحسب أي والحال إني كنت قد أحسب أن قد فرغتم من الصلاة. وفيه اعتذار، أن الأول عن عدم الدخول في صلاة الجماعة، وهو بقوله: إني كنت قد صليت. والثاني عن الصلاة في المنزل، وهو بقوله: أحسب أن قد صليتم. (فقال) أي رسول الله ? : (إذا جئت الصلاة) وفي أبي داود إلى الصلاة أي إلى المسجد. وفي جامع الأصول: إذا جئت الصلاة، كما في المشكاة. (فوجدت الناس) أي يصلون. (فصل معهم وإن) وصلية. (كنت قد صليت) في منزلك، أي ليحصل لك ثواب الجماعة وزيادة النافلة.
تكن لك نافلة وهذه مكتوبة)).

(5/227)


(تكن) أي الصلاة الثانية التي صليتها مع الناس. (نافلة) بالنصب أي زائدة على الفرض. (وهذه) أي الصلاة الأولى التي صليتها في منزلك، ويحتمل العكس، لكن حديث يزيد بن الأسود المتقدم، وحديث محجن عند أحمد (ج4 ص338) وحديث أبي ذر السياق في باب تعجيل الصلاة يرجع الاحتمال الأول. (مكتوبة) بالرفع. وقيل: بالنصب. واعلم أنه اختلف في الصلاة التي تصلى مرتين: هل الفريضة الأولى أو الثانية، فقال الشافعي في القديم : إن الفريضة الثانية إذا كانت الأولى فرادى، واستدل له بحديث يزيد بن عامر هذا، لأن ظاهره أن الصلاة الأولى تكون نافلة. والثانية التي يصليها مع الناس مكتوبة، ويقوي ذلك رواية الدارقطني بلفظ: وليجعل التي صلى في بيته نافلة، وذكرها الحافظ في التلخيص (ص122) والزيلعي في نصب الراية (ج2 ص150). والمشهور في مذهب المالكية هو أن يعيدها في الجماعة بنية الفرض مع التفويض لله تعالى في قبول ما شاء من الصلاتين لفرضه. وقال في الشرح الكبير: وندب لمن لم يحصل فضل الجماعة أن يعيد صلاته ولو بوقت ضرورة لا بعده مفوضا أمره لله تعالى في قبول أيهما شاء لفرضه. قال الدسوقي: ما ذكره المصنف من كون المعيد ينوي التفويض. قال الفاكهاني: هو المشهور في المذهب. وقيل: ينوي الفرض. وقيل ينوي النفل. وقيل: ينوي إكمال الفريضة. وقال ابن عبدالبر: أجمع مالك وأصحابه: أن من صلى وحده لا يؤم في تلك الصلاة. وهذا يدل على أن الأولى هي فريضة، ومقتضى قواعد المالكية أنها على وجه الاعتداد بها، وبحسب النظر الفقهي الدنيوى هي الصلاة الأولى، وأما بالاعتبار الأخروي فالأمر مفوض إلى الله تعالى، واستدلوا للتفويض بأثر ابن عمر الذي بعد هذا. وقال الشافعي في الجديد: إن الأولى هي الفريضة، وهو مذهب الحنفية، وهو الحق لحديث يزيد بن الأسود السابق، ولحديث محجن عند أحمد، ولحديث أبي ذر المتقدم في باب تعجيل الصلاة، ولحديث ابن مسعود عند مسلم، وأبي داود في معنى حديث أبي

(5/228)


ذر، وغير ذلك من الأحاديث التي ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص44). وأما حديث يزيد بن عامر الذي استدل به لقول الشافعي في القديم فهو ضعيف، ضعفه النووي، لأن في سنده نوح بن صعصعة، وهو مستور، كما قال الحافظ في التقريب. وقال الدارقطني: حاله مجهولة كما في تهذيب التهذيب. وقال البيهقي: إن حديث يزيد بن الأسود أثبت منه وأولى، مع أن اللفظ المذكور في الكتاب ليس بصريح فيما ذهب إليه الشافعي. وأما الرواية بلفظ: وليجعل التي صلى في بيته نافلة، فهي ضعيفة شاذة، كما صرح به الدارقطني على ما نقله الحافظ عنه في التلخيص (ص122). وقال الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص150): قال الدارقطني والبيهقي إنها رواية ضعيفة شاذة مردودة لمخالفتها الثقات. قال الشوكاني: وعلى فرض صلاحية حديث يزيد بن عامر للاحتجاج به، كما هو مقتضى سكوت أبي داود والمنذري، فالجمع بينه وبين حديث الباب ممكن بحمل حديث يزيد بن الأسود على من صلى الصلاة الأولى في جماعة، وحمل حديث يزيد بن عامر على من صلى منفردا، كما هو الظاهر
رواه أبوداود.
1163- (7) وعن ابن عمر، رضي الله عنهما، ((أن رجلا سأله فقال: إني أصلي في بيتي، ثم أدرك الصلاة في المسجد مع الإمام، أفأصلى معه؟ قال له: نعم. قال الرجل: أيتهما أجعل صلاتي؟ قال ابن عمر: وذلك إليك؟ إنما ذلك إلى الله عزوجل، يجعل أيتهما شاء)).
من سياق الحديثين. وأما أثر ابن عمر الآتي فسيأتي الجواب عنه. (رواه أبوداود) ومن طريقه البيهقي (ج2 ص302). وسكت عنه أبوداود والمنذري. وقد عرفت أن في سنده نوح بن صعصعة، وهو مستور. وقال الدارقطني: حاله مجهولة.

(5/229)


1163- قوله. (إني أصلي في بيتي) أي بالإنفراد أو بالجماعة. (في المسجد) ليس هذا اللفظ في نسخ الموطأ الموجودة وإن كان مرادا ههنا. وزاد الجزري لفظ: في المسجد. والمصنف تبعه في ذكر سياق الحديث. (أفأصلي معه) أي أزيد في صلاتي فأصلي معه، قال الطيبي. أو الفاء للتعقيب وتقديم الهمزة للصدارة. (قال له نعم) وفي الموطأ: فقال عبدالله بن عمر نعم. (أيتهما) قال القاري: بالنصب في أكثر النسخ. وفي نسخة السيد: بالرفع. والأول أظهر أي أية الصلاتين. (أجعل صلاتي) أي أعدهما عن فرضي. (قال) وفي الموطأ فقال له. (وذلك إليك) قال الطيبي: إخبار في معنى الاستفهام بدليل قوله. (إنما ذلك إلى الله) قلت: وقع في الموطأ أو ذلك إليك أي بهمزة الاستفهام، وكذا نقله الجزري عن الموطأ، ووقع عند البيهقي، وذلك كما في المشكاة. (يجعل) الفرض. (أيتهما شاء) يعني الله يعلم التي يتقبلها عن الفريضة إذا صليتهما بنية الفرض، وهذا هو المشهور في مذهب مالك أعني الإعادة بنية الفرض مع التفويض إلى الله في قبول شاء من الصلاتين لفرضه، كما تقدم. وقال ابن حبيب: معناه أن الله يعلم التي يتقبلها، فأما على وجه الاعتداد بها فهي الأولى، ومقتضى هذا أن يصلي الصلاتين بنية الفرض. وقال ابن الماجشون وغيره: أراد به القبول فإن الله تعالى قد يقبل الفريضة دون النافلة وبالعكس. وقال القاري: لأن المدار على القبول، وهو مخفي على العباد، وإن كان جمهور الفقهاء يجعلون الأولى فريضة، وأيضا يمكن أن يقع في الأولى فساد فيحسب الله تعالى نافلته بدلا عن فريضته، فالاعتبار الأخروي غير النظر الفقهي الدنيوي- انتهى. وعلى هذا فلا منافاة بينه وبين قول من قال الفريضة هي الأولى، كما روي عن ابن عمر نفسه أنه سئل عن الرجل يصلي الظهر في بيته ثم يأتي المسجد والناس يصلون فيصلي معهم، فأيتهما صلاته؟ قال: الأولى منهما صلاته. ذكره القاري في شرح مسند أبي حنيفة، وكذا حكاه عنه ابن عبدالبر وقال:

(5/230)


في وجه الجمع بين قوليهما أنه يحتمل أن يكون شك في رواية مالك، ثم إن له أن صلاته هي
1146- (8) وعن سليمان مولى ميمونة، قال: أتينا ابن عمر على البلاط، وهم يصلون فقلت: ألا
نصلي معهم؟ قال: قد صليت، وإني سمعت رسول الله ? يقول: ((لا تصلوا صلاة في يوم
مرتين)).
الأولى فرجع من شكه إلى يقين علمه، ومحال أن يرجع إلى الشك- انتهى. قلت: الأحاديث المرفوعة الصحيحة صريحة في أن صلاته هي الأولى، وأنه يجعل الثانية نافلة والأولى فريضة، فهي مقدمة على أثر ابن عمر هذا. (رواه مالك) عن نافع أن رجلا سأل عبدالله بن عمر فقال الخ. ورواه البيهقي من طريق مالك.

(5/231)


1164- قوله. (عن سليمان) يسار الهلالي المدني. (أتينا ابن عمر) وفي أبي داود: أتيت ابن عمر، والسياق المذكور هنا موافق لما ذكره الجزري (ج6 ص423، 424). (على البلاط) بفتح الباء ضرب من الحجارة يفرش به الأرض. وفي المصباح البلاط كل شيء فرشت به الدار من حجر وغيره. وفي القاموس: البلاط كسحاب الأرض المستوية الملساء والحجارة التي تفرش في الدار وكل أرض فرشت بها أو بالآجر، وهو موضع المدينة. وقال في النيل: هو موضع مفروش بالبلاط بين المسجد والسوق بالمدينة. وقال الحافظ في مقدمة الفتح: هو موضع قريب من مسجد المدينة، اتخذه عمر لمن يتحدث. (وهم) أي أهله. (يصلون) أي على البلاط لا في المسجد، وابن عمر قد صلى قبلهم في المسجد بالجماعة، وهو الذي فهمه النسائي يدل عليه ترجمته على هذا الحديث بلفظ: سقوط الصلاة عمن صلى مع الإمام في المسجد جماعة. (قال: قد صليت) لم يدخل في صلاتهم لأنه صلى جماعة، كما فهمه النسائي. وقال النووي: إنما لم يعدها ابن عمر لأنه كان صلاها في جماعة- انتهى. وقيل: كان الوقت صبحا أو مغربا، فقد روي عنه أنه كان يقول من صلى المغرب أو الصبح ثم أدركهما مع الإمام فلا يعد لهما. وقد ذكره المصنف بعد هذا الحديث، ورواه عبدالرزاق بلفظ: إن كنت قد صليت في أهلك ثم أدركت الصلاة في المسجد مع الإمام فصل معه، غير الصبح والمغرب فإنهما لا تصليان مرتين. (وإني سمعت) وفي أبي داود والنسائي: إني سمعت أي بدون الواو. (لا تصلوا صلاة) أي واحدة. (في يوم) أي في وقت واحد. (مرتين). هذا لفظ أحمد وأبي داود. ولفظ النسائي: لا تعاد الصلاة في يوم مرتين. قال الشوكاني: قد تمسك بهذا الحديث القائلون أن من صلى في جماعة ثم أدرك جماعة لا يصلي معهم، كيف كانت، لأن الإعادة لتحصيل فضيلة الجماعة وقد حصلت له، وهو مروى عن الصيدلاني والغزالى وصاحب المرشد، والحديث يخالف الأحاديث السابقة والذي مر من الأثر من ابن عمر نفسه من افتاء به رجلا

(5/232)


سأله، واختلف في وجه الجمع فقيل: يحمل هذا الحديث على من صلى بالجماعة، والأحاديث الأخر على من صلى منفردا. قال البيهقي (ج2 ص303):
رواه أحمد، وأبوداود، والنسائي.
1165- (9) وعن نافع، قال: إن عبدالله بن عمر كان يقول: ((من صلى المغرب أو الصبح، ثم
أدركهما مع الإمام، فلا يعد لهما)). رواه مالك.
إن صح هذا الحديث يحمل على ما إذا صلاها مع الإمام أي في جماعة، وإلى هذا التوجيه أشار النسائي في ترجمته المتقدمة، وبوب عليه أبوداود بلفظ: إذا صلى جماعة ثم أدرك جماعة هل يعيد الصلاة؟ وقيل: المراد بحديث ابن عمر هذا النهي عن أن يصليهما على وجه الفرض. قال في الاستذكار: اتفق أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه على أن معنى قوله ?: لا تصلوا صلاة في يوم مرتين أن ذلك أن يصلي الرجل صلاة مكتوبة عليه ثم يقوم بعد الفراغ منها فيعيدها على جهة الفرض أيضا. وأما من صلى الثانية مع الجماعة على أنها نافلة إقتداء بالنبي ? في أمره بذلك فليس ذلك من إعادة الصلاة في يوم مرتين، لأن الأولى فريضة والثانية نافلة، فلا إعادة حينئذ- انتهى. وقيل: هو محمول على ما إذا لم تكن عن سبب. قال الخطابي في المعالم (ج1 ص166): هذه صلاة الإيثار والاختيار دون ما كان لها سبب، كالرجل يدرك الجماعة وهم يصلون فيصلي معهم ليدرك فضيلة الجماعة توفيقا بين الإخبار ورفعا للاختلاف بينها- انتهى. (رواه أحمد وأبوداود والنسائي) وأخرجه أيضا الطحاوي وابن حزم في المحلى، وصححه والدارقطني والبيهقي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. قال النووي: إسناده صحيح. وفي سنده عمرو بن شعيب روى عن سليمان بن يسار مولى ميمونة قال في تهذيب التهذيب (ج8 ص49): قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: إذا حدث عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب أو سليمان بن بسار أو عروة فهو ثقة عن هؤلاء. وقال ابن حبان: عمرو بن شعيب في نفسه ثقة يحتج يخبره إذا روى عن غير أبيه.

(5/233)


1165- قوله: (وعن نافع) أي مولى ابن عمر. (قال) أي نافع. (فلا يعد) بفتح الياء وضم العين من العود. (لهما) أي للصبح والمغرب، لأن الصلاة الثانية تكون نافلة والتنفل بعد صلاة الصبح منهي عنه، ولأن النافلة لا تكون وترا، وبه قال النخعي والأوزاعي ولم يذكر ابن عمر النهي عن الصلاة بعد العصر، لأنه كان يحمله على أنه بعد الإصفرار، ومن جوز الإعادة مع كون الوقت وقت كراهة. قال: أحاديث الإعادة مخصصة لعموم أحاديث النهي كما تقدم. (رواه مالك) وأخرجه أيضا عبدالرزاق ولفظه: إن كنت قد صليت في أهلك ثم أدركت الصلاة في المسجد مع الإمام فصل معه غير الصبح والمغرب، فإنهما لا يصليان مرتين. وأما ما ذكره القاري في المرقاة من أن الدارقطني أخرج عن ابن عمر أن النبي ? قال: إذا صليت في أهلك ثم أدركت فصلها إلا الفجر والمغرب، ففيه إني لم أجد هذا الحديث في سنن الدارقطني لا مرفوعا ولا موقوفا. والظاهر أنه وهم من القاري.
(30) باب السنن وفضائلها

(5/234)


(باب السنن) أي المؤكدة والمستحبة. (وفضائلها) قال في اللمعات: أراد بالسنن الصلاة التي تؤدى مع الفرائض في اليوم والليلة، وكان رسول الله ? يواظب عليهما مؤكدة أو غير مؤكدة، وسمى القسم الأول الرواتب مأخوذ من الرتوب وهو الدوام والثبوت، يقال: رتب رتوبا ثبت ولم يتحرك، ومنه الترتيب، ويمكن أن يجعل الرواتب أعم من المؤكد، وقد جعل صاحب سفر السعادة (يعني مجد الدين الفيروز آبادي صاحب القاموس) سنة العصر من الرواتب- انتهى. واختلف الفقهاء في مشروعية الرواتب القبلية والبعدية للفرائض وتحديدها، فذهب الجمهور، ومنهم الأئمة الثلاثة الشافعي وأحمد وأبوحنيفة إلى مشروعيتها، وأنها مؤقته تستحب المواظبة عليها. وذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه لا توقيت في ذلك ولا تحديد حماية للفرائض، لكن لا يمنع من تطوع بما شاء إذا أمن من ذلك. وذهب العراقيون من أصحابه إلى موافقة الجمهور، ففي المدونة: قلت: هل كان مالك يوقت قبل الظهر للنافلة ركعات معلومات أو بعد الظهر أو قبل العصر أو بعد المغرب فيما بين المغرب والعشاء أو بعد العشاء؟ قال: لا وإنما يوقت في هذا أهل العراق- انتهى. وفي الشرح الكبير: لهم ندب نفل في كل وقت يحل فيه، وتأكد الندب بعد صلاة المغرب كبعد ظهر وقبلها كقبل عصر بلا حد يتوقف عليه، بحيث لو نقص عنه أو زاد فات أصل الندب، بل يأتي بركعتين وبأربع وست، وإن كان الأكمل ما ورد من أربع قبل الظهر وأربع بعدها وأربع قبل العصر وست بعد المغرب- انتهى. وفيه أيضا وهي أي صلاة الفجر يعني سنة رغيبة أي رتبتها دون السنة وفوق النافلة تفتقر لنية تخصها وتميزها عن مطلق النافلة، بخلاف غيرها من النوافل المطلقة فيكفي فيه نية الصلاة ، وكذا النوافل التابعة للفرائض بخلاف الفرائض والسنن والرغيبة وليس عندنا رغيبة إلا الفجر – انتهى. قال ابن دقيق العيد في شرح العمدة (ج1 ص170): في تقديم السنن على الفرائض وتأخيرها عنها معنى لطيف مناسب، أما في

(5/235)


تقديم فلأن الإنسان يشتغل بأمور الدنيا وأسبابها، فتتكيف النفس في ذلك بحالة بعيدة عن حضور القلب في العبادة والخشوع فيها الذي هو روحها، فإذا قدمت السنن على الفريضة تأنست النفس بالعبادة وتكيفت بحالة تقرب من الخشوع، فيدخل في الفرائض على حاله حسنة لم يكن يحصل له لو لم تقدم السنة فإن النفس مجبولة على التكيف بما هي فيه، لا سيما إذا كثر أو طال وورود الحالة المنافية لما قبلها قد تمحو أثر الحالة السابقة أو تضعفه. وأما السنن المتأخرة فلما ورد أن النوافل جابرة لنقصان الفرائض، فإذا وقع الفرض مناسب أن يكون بعده ما يجبر خللا فيه إن وقع- انتهى. قلت: يشير بقوله ما ورد إلى ما أخرجه أحمد وأبوداود وابن ماجه والحاكم من حديث تمتم الداري مرفوعا: أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته، فإن كان أتمها كتبت له تامة وإن لم يكن أتمها قال الله لملائكته: أنظروا هل تجدون لعبدي من تطوع فتكملون بها فريضته ثم الزكاة كذلك تؤخذ الأعمال على حسب ذلك- انتهى. وأخرجه الترمذي وأبوداود أيضا من حديث أبي هريرة
?الفصل الأول?
1166- (1) عن أم حبيبة قالت : قال رسول الله ?: ((من صلى في يوم وليلة

(5/236)


قال النووي: تصح النوافل وتقبل، وإن كانت الفريضة ناقصة لهذا الحديث وخبر لا تقبل نافلة المصلى حتى يؤدي الفريضة ضعيف، ولو صح حمل الراتبة البعدية لتوقفها على صحة الفرض- انتهى. قيل: والسنن في حقه ? لزيادة الدرجات. قال القاري: السنة والنفل والتطوع والمندوب والمستحب والمرغب فيه ألفاظ مترادفة معناها واحد، وهو ما رجح الشارع فعله على تركه وجاز تركه وإن كان بعض المسنون آكد من بعض- انتهى. وقال الشامي في حاشيته على الدر المختار (ج1 ص95): المشروعات على أربعة أقسام: فرض، وواجب، وسنة، ونفل، فما كان فعله أولى من تركه مع منع الترك إن ثبت بدليل قطعي ففرض، أو بظني فواجب، وبلا منع الترك إن كان مما واظب عليه الرسول ? أو الخلفاء الراشدون من بعده فسنة، وإلا فمندوب ونفل. والسنة نوعان: سنة الهدى، وتركها يوجب إساءة وكراهية. وسنة الزوائد، وتركها لا يوجب ذلك. سميت بذلك لأنها ليست من مكملات الدين وشعائره بخلاف سنة الهدى، وهي السنن المؤكدة القريبة من الواجب التي يضلل تاركها، لأن تركها استخفاف بالدين. وبخلاف النفل فإنه كما قالوا ما شرع لنا زيادة على الفرض والواجب والسنة بنوعيها، ولذا جعلوه قسما رابعا وجعلوا منه المندوب والمستحب وهو ما ورد به دليل ندب يخصه، فالنفل ما ورد به دليل ندب عموما أو خصوصا ولم يواظب عليه النبي ?، ولذا كان دون سنة الزوائد. وقد يطلق النفل على ما يشمل السنن الرواتب، ومنه قولهم باب الوتر والنوافل، ومنه تسمية الحج نافلة، لأن النفل الزيادة وهو زائد على الفرض مع أنه من شعائر الدين العامة- انتهى مختصرا.

(5/237)


1166- قوله. (عن أم حبيبة) هي أخت معاوية بن أبي سفيان زوجة النبي ? اسمها رملة بفتح راء وسكون ميم وبلام بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية الأموية، أم المؤمنين مشهورة بكنيتها. وقيل: اسمها هند، والمشهور رملة. قال ابن عبدالبر: وهو الصحيح عند جمهور أهل العلم بالنسب والسير والحديث والخبر، وكذلك قال الزبير أسلمت قديما، وأمها صفية بنت أبي العاص بن أمية، وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش الأسدي أسد خزيمة، وتنصر هو هناك، ومات، فتزوجها رسول الله ? ، وهي هناك سنة ست. وقيل: سنة سبع، توفيت سنة اثنتين أو أربع. وقيل: تسع وأربعين. وقيل: وخمسين. (من صلى في يوم وليلة) أي في كل يوم وليلة فهو من عموم النكرة في الإثبات مثل علمت نفس ونحوه، لأن المقصود المواظبة كما يدل عليه قوله الآتي: يصلي لله كل يوم ، وكما يدل عليه حديث عائشة عند الترمذي والنسائي وابن ماجه بلفظ: من ثابر أي واظب ولازم وداوم، وفيه أن الأجر المذكور منوط بالمواظبة على هذه النوافل لا بأن يصلي يوما دون يوم.
ثنتى وعشر ركعة، بني له بيت في الجنة: أربعا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر)). رواه الترمذي.

(5/238)


(ثنتى عشرة) بسكون النون. (ركعة) بسكون الكاف. أي تطوعا غير فريضة كما في الرواية الآتية (بني له) أي بهذه الركعات. (بيت في الجنة) مشتمل على أنواع النعمة. (أربعا) بدل تفصيل. (قبل الظهر) فيه دلالة على أن السنة الراتبة المؤكدة قبل الظهر أربع ركعات، وإليه ذهبت الحنفية. وقال الشافعي وأحمد: الراتبة قبل الظهر ركعتان، واستدل لهما بحديث ابن عمر الآتي، وسيأتي البسط فيه وبيان القول الراجح. ثم إن قوله أربعا المتبادر منه أنها بسلام واحد، ويحتمل كونها بسلامين والأقرب أن إطلاقها يشمل القسمين، قاله السندي. (وركعتين بعدها) فيه أن السنه بعد الظهر ركعتان، ويدل عليه أيضا حديث ابن عمر بعد ذلك، وحديث علي قال: كان النبي ? يصلي قبل الظهر أربعا وبعدها ركعتين. أخرجه الترمذي وحسنه، وحديث كريب المتقدم في باب أوقات النهي، وفيه قوله ?: أتاني ناس من عبدالقيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، ويؤيده حديث عائشة عند الترمذي وابن ماجه مرفوعا بلفظ: من ثابر على ثنتى عشرة ركعة من السنة بنى الله له بيتا في الجنة، أربع ركعات قبل الظهر وركعتين بعدها الخ. وحديث أبي هريرة عند ابن عدي في الكامل، وفيه محمد بن سليمان الأصبهانى، وهو ضعيف، ولا يعارض ذلك مايأتي من حديث أم حبيبة أول أحاديث الفصل الثاني، لأنه يحمل على أن الأمر فيه للتوسع، ويقال ركعتان من الأربع مؤكدة وركعتان مستحبة، وهذا لأنه لم يصح عنه ? في فعل الأربع بعد الظهر شيء غير هذا الحديث الواحد القولى، وقد تكلم فيه بعضهم كما ستعرف. وقيل: الأربع أفضل وآكد. (وكعتين بعد المغرب) الخ قال القاري: كل هذه السنن مؤكدة وآخرها آكدها حتى قيل بوجوبها. قال ابن حجر: وهو صريح في رد قول الحسن البصري، وبعض الحنفية بوجوب ركعتى الفجر. وفي رد قول الحسن البصري أيضا بوجوب الركعتين بعد المغرب- انتهى. قلت: اختلف في ترتيب سنن الرواتب، فقيل: أفضلها سنة الفجر ثم المغرب ثم سنة الظهر

(5/239)


والعشاء سواء في الفضيلة وهذا عند الحنابلة. وقالت: الشافعية: أفضلها بعد الوتر ركعتا الفجر ثم سائر الرواتب ثم التراويح، ثم اختلفوا بعد ذلك هل القبلية أفضل أو البعدية؟ ولهم فيه قولان: أحدهما: أن البعدية أفضل، لأن القبلية كالمقدمة. وتلك تابعة والتابع يشرف بشرف متبوعة. والثاني: أنهما سواء واختلفت أقوال الحنفية في ترتيب الرواتب. فقال في البحر عن القنية اختلف في آكد السنن بعد سنة الفجر، فقيل: كلها سواء والأصح أن الأربع قبل الظهر آكد. وقال في الدر المختار: آكدها سنة الفجر اتفاقا ثم الأربع قبل الظهر في الأصح ثم الكل سواء، وهكذا صححه في العناية والنهاية واستحسنه في فتح القدير. وقد تقدم أن سنة الفجر رغيبة عند المالكية والباقي تطوعات ونوافل. والراجح عندي أن آكد السنن الوتر ثم ركعتا الفجر ثم التي قبل الظهر ثم الكل سواء. والله تعالى أعلم. (رواه الترمذي) وقال:
وفي رواية لمسلم أنها قالت: سمعت رسول الله ? يقول: ((ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم ثنتى وعشرة ركعة تطوعا غير فريضة، إلا بنى الله له بيت في الجنة- أو إلا بني له بيت في الجنة))
1167- (2) وعن ابن عمر، قال: ((صليت مع رسول الله ? ركعتين قبل الظهر،

(5/240)


حديث حسن صحيح، فيه اعتراض على محي السنة صاحب المصابيح حيث ذكره في الصحاح وترك الصحيح الآتي، مع أن هذا اللفظ ليس بتمامه في الصحيحين ولا في أحدهما إنما هو لفظ الترمذي، فكان حق البغوي أن يذكر حديث مسلم الآتي في الصحاح، وحديث الترمذي في الحسان؛ ليكون لإجمال مسلم كالبيان والحديث المذكور، رواه النسائي مفصلا كالترمذي. ولكن قال وركعتين قبل العصر ولم يذكر ركعتين بعد العشاء، وكذلك فسره ابن حبان في صحيحه رواه عن ابن خزيمة بسنده، وكذلك رواه الحاكم في المستدرك (ج1 ص311) وقال: صحيح على شرط مسلم والبيهقي (ج2 ص272، 273)، وجمع الحاكم في لفظ بين الروايتين فقال فيه: ركعتين قبل العصر وركعتين بعد العشاء، وكذلك عند الطبراني في معجمه، كذا في نصب الراية (ج2 ص138). قلت: وكذا وقع إثبات ركعتين قبل العصر وركعتين بعد العشاء في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه وابن عدي في الكامل لكن في سنده محمد بن سليمان الأصبهاني، وهو ضعيف. (وفي رواية لمسلم أنها) أي أم حبيبة (يصلي لله كل يوم) أي وليلة. (تطوعا) وهو ما ليس بفريضة، والمراد هنا السنة، قاله ابن الملك. (غير فريضة) قال الطيبي: تأكيد للتطوع فإن التطوع التبرع من نفسه بفعل من الطاعة، وهي قسمان راتبة وهى التي داوم عليه رسول الله ?، وغير راتبة وهذا من القسم الأول، والرتوب الدوام- انتهى. (إلا بنى الله له بيتا في الجنة) الخ، وهذا الحديث أخرجه أيضا أحمد وأبوداود وابن ماجه والحاكم (ج1 ص312) وأبوداود الطيالسي والبيهقي (ج2 ص472).

(5/241)


1167- قوله: (صليت مع رسول الله ?) قال السندي: الظاهر أنه المراد به المعية في مجرد المكان والزمان لا المشاركة والإقتداء في الصلاة، إذ المشاركة في النوافل الرواتب ما كانت معروفة، ويحتمل على بعد أنه اتفق المشاركة أيضا. وقال القاري: أراد به معية المشاركة لا معية الجماعة، ونظيره قوله تعالى حاكيا: ?وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين? [27: 44] وقال الحافظ: المراد بقوله مع التبعية أي أنهما اشتركا في كون كل منهما صلى صلاة لا التجميع، فلا حجة فيه لمن قال يجمع في رواتب الفرائض، وسيأتي من رواية أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: حفظت من النبي ? عشر ركعات فذكرها- انتهى. وقال العيني: المراد من المعية هذه مجرد المتابعة في العدد، وهو أن ابن عمر صلى ركعتين وحده كما صلى ? ركعتين، لا أنه اقتدى به عليه الصلاة والسلام فيهما. (ركعتين قبل الظهر) هذا متمسك الشافعي في أن السنة قبل الظهر ركعتان، وهو قول الأكثرين من أصحابه، وعد جمع من الشافعية الأربع قبل الظهر من الرواتب، كما هو مذهب الحنفية. وقد روى البخاري في صحيحه عن عائشة: كان

(5/242)


لا يدع أربعا قبل الظهر وركعتين قبل الغداة. واختلف في وجه الجمع بين الحديثين، فقيل: يحتمل أن ابن عمر قد نسي ركعتين من الأربع. ورد بأن هذا الاحتمال بعيد وقيل: هو محمول على أنه كان إذا صلى في بيته صلى أربعا وإذا صلى في المسجد اقتصر على ركعتين. قال ابن القيم في زاد المعاد (ج1 ص80): وهذا أظهر، قلت: ويقوي ذلك ما سيأتي في حديث عبدالله بن شقيق عن عائشة كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعا، ثم يخرج فيصلي بالناس، وقيل: يحمل على حالين، فكان تارة يصلي سنتين، وتارة يصلي أربعا، فحكى كل من ابن عمر وعائشة ما شاهده. وقيل: يحتمل أن يكون يصلي إذا كان في بيته ركعتين ثم يخرج إلى المسجد فيصلي ركعتين، فرأى ابن عمر مافي المسجد دون ما بيته وأطلعت عائشة على الأمرين. وقيل: كان يصلي في بيته أربعا فرأته عائشة، وكان يصلي ركعتين إذا آتي المسجد تحيته فظن ابن عمر أنها سنة الظهر ولم يعلم بالأربع التي صلاها في البيت، وهذا أيضا بعيد مثل الأول. وقيل: يمكن أن يكون مطلعا على الأربع، لكنه ظنها صلاة فيء الزوال لا سنة الظهر. قال ابن القيم في زاد المعاد (ج1 ص80، 81): وقد يقال: إن هذه الأربع لم تكن سنة الظهر، بل هي صلاة مستقلة كان يصليها بعد الزوال، كما (سيأتي) في حديث عبدالله بن السائب. (وفي حديث أبي أيوب) قال فهذه هي الأربع التي أرادت عائشة أنه كان لا يدعهن. وأما سنة الظهر فالركعتان اللتان قال عبدالله بن عمر، قال فتكون هذه الأربع التي قبل الظهر وردا مستقلا سببه انتصاف النهار وزوال الشمس. قال القسطلاني لحديث ثوبان عند البزار: إنه ?كان يستحب أن يصلي بعد نصف النهار، وقال: إنها ساعة تفتح فيه أبواب السماء، وينظر الله إلى خلقه بالرحمة. قلت: وأولى الوجوه عندي هو الوجه الثالث، أعني أن يحمل ذلك لى اختلاف الأحوال، ويقال كان يصلي تارة أربعا وتارة ركعتين، فحكى كل من ابن عمر وعائشة ما رأى، ورجحه الحافظ أيضا، لكن المختار

(5/243)


فعل الأكثر الأكمل. قال ابن جرير الطبري: الأربع كانت في كثير من أحواله، والركعتان في قليلها. قلت: هذا هو الظاهر لكثرة الأحاديث في ذلك: منها حديث أم حبيبة السابق. ومنها حديث عبدالله بن شقيق عن عائشة، وسيأتي. ومنها حديث عائشة أيضا عند الترمذي وابن ماجه، وقد ذكرنا لفظه. ومنها حديث عائشة أيضا في السنن: أن رسول الله ? كان إذا لم يصل أربعا قبل الظهر صلاهن بعدها. ومنها حديث علي عند الترمذي، وحسنه قال: كان النبي ? يصلي قبل الظهر أربعا وبعد ها ركعتين. قال الترمذي بعد روايته: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي ? ومن بعدهم، يختارون أن يصلي الرجل قبل الظهر أربع ركعات، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك وإسحاق. قال القسطلاني: قيل في وجه عند الشافعي: إن الأربع قبل الظهر راتبه عملا بحديث عائشة. قلت: ويؤيده تأكد استحباب الأربع حديث أم حبيبة الآتي، وحديث
وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته

(5/244)


البراء بن عازب عند الطبراني في الأوسط، وسعيد بن منصور في سننه مرفوعا بلفظ: من صلى قبل الظهر أربع ركعات كان كمن تهجد بهن من ليلته الحديث. (وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب في بيته) الظاهر أن قوله: في بيته قيد للأخيرة ويؤيد ذلك قوله. (وركعتين بعد العشاء في بيته) وهذا لفظ البخاري في رواية. وفي لفظ له: فأما المغرب والعشاء ففي بيته. قال الحافظ: استدل به على أن فعل النوافل الليلة في البيوت أفضل من المسجد بخلاف رواتب النهار، وحكي ذلك عن مالك والثوري. وفي الاستدلال به لذلك نظر. والظاهر أن ذلك لم يقع عن عمد، وإنما كان ? يتشاغل بالناس في النهار غالبا، وبالليل يكون في بيته غالبا. وأغرب ابن أبي ليلى، فقال لا تجزئ سنة المغرب في المسجد، حكاه عبدالله بن أحمد عنه عقب روايته لحديث محمود بن لبيد رفعه: أن الركعتين بعد المغرب من صلاة البيوت، وقال: إنه حكى ذلك لأبيه عن أبي ليلى، فاستحسنه- انتهى. قلت: الظاهر أن فعل الركعتين بعد المغرب في البيت أفضل وأن ذلك وقع عن رسول الله ? عن عمد، يدل عليه حديث محمود بن لبيد عند أحمد بلفظ: اركعوا هاتين الركعتين في البيوت، وحديث كعب بن عجزة الآتى، واختلفوا في أن تطوع في المسجد أفضل أو في البيت. قال ابن عبدالبر: قد اختلف الآثار وعلماء السلف في صلاة النافلة في المسجد، فكرهها قوم لهذا الحديث. والذي عليه العلماء أنه لا بأس بالتطوع في المسجد لمن شاء إلا إنهم مجعمون على أن صلاة النافلة في البيوت أفضل لقوله ? : صلاة الرجل في بيته أفضل من صلاته في مسجدى إلا المكتوبة- انتهى. وفرق المالكية بين الرواتب والنفل المطلق، وبين الغرباء وأهل المدينة ففي الشرح الكبير لهم وندب إيقاع نفل بمسجد المدينة بمصلاه? . قال الدسوقي: إن قلت هذا يخالف ما تقرر أن صلاة النافلة في البيوت أفضل من فعلها في المسجد قلت: يحمل كلام المصنف على الرواتب فإن فعلها في المساجد أولى كالفرائض بخلاف النفل

(5/245)


المطلق، فإن فعلها في البيوت أفضل ما لم يكن في البيت ما يشغل عنها، أو يحمل كلامه على من صلاته بمسجده عليه السلام أفضل من صلاته في البيت كالغرباء، فإن صلاتهم النافلة بمسجد النبي ? أفضل من صلاتهم لها في البيوت، سواء كانت النافلة من الرواتب أو كانت نفلا مطلقا بخلاف أهل المدينة، فإن صلاتهم النفل المطلق في بيوتهم أفضل من فعله في المسجد- انتهى. وأما عند الحنفية والحنابلة فالأفضل أداء التطوع في البيت مطلقا، ولا كراهة في المسجد. أما كون البيوت أفضل في حق التطوع مطلقا فللأحاديث التي وردت عن جماعة من الصحابة في الترغيب في صلاة النافلة في البيت. ذكرها المنذري في الترغيب (ج1 ص133)؛ ولأن هديه ? كان فعل عامة السنن والتطوع الذي لا سبب له في البيت وأما إنه لو فعلها في المسجد أجزأت من غير كراهة فلما يأتي من حديث ابن عباس في الفصل الثالث قال: كان رسول الله ? يطيل القراءة في الركعتين بعد المغرب حتى يتفرق أهل المسجد. ولما روى مسلم من حديث أبي هريرة: إذا صليتم بعد الجمعة فصلوا أربعا، زاد في
قال: وحدثني حفصة أن رسول الله ?، كان يصلي ركعتين خفيفتين، حين يطلع الفجر)) متفق عليه.
1168- (3) وعنه قال كان النبي ?: ((لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف، فيصلي

(5/246)


رواية فإن عجل بك شيء فصل ركعتين في المسجد وركعتين إذا رجعت، ولما يأتي من حديث أنس في الفصل الثالث قال: كنا بالمدينة فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السوارى- الحديث، ولما روى الطبراني في الكبير من حديث ابن عمر مرفوعا: من صلى العشاء الآخرة في جماعة، وصلى أربع ركعات قبل أن يخرج من المسجد كان كعدل ليلة القدر، ولأن تقييد ابن عمر سنة المغرب والعشاء والفجر بكونها في البيت، يدل على أن ما عداها كان يفعله في المسجد أي في بعض الأحيان، ولما روي عن حذيفة قال أتيت النبي ?، فصليت معه المغرب، فصلى إلى العشاء، رواه النسائي، قال المنذري: بإسناد جيد، وغير ذلك من الأحاديث، هذا. وقال ابن الملك: قيل: في زماننا إظهار السنة الراتبة أولى ليعلمها الناس. قال القاري: أي ليعلموا عملها أو لئلا ينسبوه إلى البدعة. ولا شك أن متابعة السنة أولى مع عدم الالتفات إلى غير المولى- انتهى. قلت: لا شك أن متابعة السنة أولى، لكن من المعلوم أنه قد يترك بعض المختارات من أجل خوف أن يقع الناس في أشد من ترك ذلك المختار. فالأولى عندي اليوم أداء الرواتب في المسجد لا سيما للخواص من العلماء والمشائخ، فإن الناس تبع لهم فيما يفعلون ويذرون فيتركون أولا فعلها في المسجد في اتباعهم، ثم يتركونها رأسا لوقوع التواني في الأمور الدينية والغفلة عنها سيما التطوعات والنوافل، ولأنه لا يؤمن أن يتهمهم بعض الناس بترك الرواتب وإهمالهما، وقد شاهدنا ذلك في أمر التراويح حيث أنه لما سمع بعض الجهال أن صلاة الليل في البيت في آخر الليل أفضل من أوله في المسجد، ورأوا بعض العلماء أنهم لا يصلونها في أول الليل ترك هؤلاء أيضا للتراويح في المسجد بالجماعة في أول الليل قائلين إنا نقوم في آخر الليل لكنهم يتركونها رأسا فلا يصلونها لا في أول الليل ولا في آخره. (قال) أي ابن عمر. ( وحدثني حفصة) أي أخته بنت عمر زوجة النبي ?. (أن رسول الله ? كان يصلي ركعتين

(5/247)


خفيفتين حين يطلع الفجر) وفي البخاري: بعد ما يطلع الفجر، وزاد وكانت ساعة لا أدخل على النبي ? فيها وفي لفظ له: وركعتين قبل صلاة الفجر، وكانت ساعة لا أدخل على النبي ? فيها، حدثني حفصة أنه كان إذا أذن المؤذن، وطلع الفجر صلى ركعتين قال الحافظ: وهذا يدل على أنه إنما أخذ عن حفصة وقت إيقاع الركعتين قبل الصبح لا أصل مشروعيتها انتهى. (متفق عليه) واللفظ للبخاري: وأخرجه أيضا مالك والترمذي والبيهقي (ج2 ص471- 477) وغيرهم.
1168 – قوله: (كان لا يصلي) أي شيئا. (بعد الجمعة حتى ينصرف) أي حتى يرجع إلى بيته. (فيصلي)
ركعتين في بيته)). متفق عليه.
1169- (4) وعن عبدالله بن شقيق، قال: سئلت عائشة، عن صلاة رسول الله ?، عن تطوعه، فقالت: كان يصلي في بيتى قبل الظهر أربعا، ثم يخرج فيصلي بالناس ثم يدخل فيصلي ركعتين. وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يدخل فيصلي ركعتين. ثم يصلي بالناس العشاء. ويدخل في بيتي فيصلي ركعتين. وكان يصلي من الليل تسع ركعات فيهن

(5/248)


بالرفع. قال الطيبي: عطف من حيث الجملة لا من حيث التشريك على ينصرف، أي لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف، فإذا انصرف يصلي ركعتين. ولا يستقيم أن يكون منصوبا عطفا عليه لما يلزم منه أن يصلي بعد الركعتين الصلاة. وهذا معنى قول ابن حجر: إذ يصير التقدير لا يصلي حتى يصلي، وليس مرادا لفساده. (ركعتين) يريد بهما سنة لجمعة. وفيه دليل على أن السنة بعد الجمعة ركعتان. وبه استدل من قال به. وسيأتي الكلام على ذلك مفصلا في شرح حديث أبي هريرة الآتي في آخر الفصل. (في بيته) عملا بالأفضل. وقال القسطلاني: لأنهما لو صلاهما في المسجد ربما يتوهم أنهما اللتان حذفتا، وصلاة النفل في الخلوة أفضل. وقال الحافظ: الحكمة في ذلك أنه كان يبادر إلى الجمعة ثم ينصرف إلى القائلة بخلاف الظهر، فإنه كان يبرد بها، وكان يقيل قبلها. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص477).

(5/249)


1169- قوله. (وعن عبدالله بن شقيق) من ثقات التابعين. (عن صلاة رسول الله ?) أي ليلا ونهارا ما عدا الفرائض، ولذا قال: (عن تطوعه) قال الطيبي: بدل عن صلاة رسول الله ?، كذا في صحيح مسلم. وهذه العبارة، يعني بلفظ عن أولى مما في المصابيح، وهو قوله من التطوع- انتهى. قلت: وقع عند أبي داود "من التطوع" كما في المصابيح. قال القاري: فتكون "من" بيانية، والأولوية باعتبار الأصحية. (كان يصلي في بيتى قبل الظهر أربعا) فيه دليل على أن المؤكدة قبلها أربع، وهو وجه عند الشافعي. (ثم يخرج) أي إلى المسجد. (فيصلي بالناس) أي الفريضة. (ثم يدخل) أي بيتي. (فيصلي ركعتين) ولعل وجه ترك العصر لأنها بصدد بيان السنن المؤكدة. (وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يدخل) الخ الحديث دليل على استحباب أداء السنة في البيت. (وكان) أي أحيانا. (يصلي من الليل) أي بعض أوقاته. (تسع ركعات) قال ابن حجر: أي تارة، وإحدى عشرة تارة، وأنقص تارة- انتهى. وجاء أنه كان يصلي ثلاث عشر ركعة. كما سيأتي في باب صلاة الليل. (فيهن)
الوتر. وكان يصلي ليلا طويلا قائما، وليلا طويلا قاعدا، وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم. وكان إذا قرأ قاعدا ركع وسجد وهو قاعد. وكان إذا طلع الفجر

(5/250)


أي في جملتهن. (الوتر) وجاء بيان ذلك فيما روى مسلم وغيره عن سعيد بن هشام أنه قال لعائشة: أنبئينى عن وتر رسول الله ?، فقالت: كنا نعد له سواكه وطهوره، فيبعثه الله متى شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ويتوضأ، ويصلي تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليما يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد. فتلك إحدى عشر ركعة يا بني. فلما أسن رسول الله ? ، وأخذه اللحم أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعة الأول. فتلك تسع يا بني الخ. (وكان يصلي ليلا طويلا) أي زمانا طويلا من الليل. (قائما وليلا طويلا قاعدا) قال في لمفتاتيح: يعني يصلي صلاة كثيرة من القيام والقعود أو يصلى ركعات مطولة في بعض الليالي من القيام، وفي بعضها من القعود. (وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم) أي لا يقعد قبل الركوع، قاله ابن حجر. وقال الطيبي: أي ينتفل من القيام إليهما. وكذا التقدير في الذي بعده، أي ينتفل إليهما من القعود. (وكان إذا قرأ قاعدا ركع وسجد وهو قاعد) أي لا يقوم للركوع، كذا في المفاتيح. وفيه دليل على أن المشروع لمن قرأ قائما أن يركع ويسجد من قيام، ومن قرأ قاعدا أن يركع ويسجد من قعود. وفي رواية لمسلم: فإذا افتتح الصلاة قائما ركع قائما، وإذا افتتح الصلاة قاعدا ركع قاعدا. وروى الشيخان وغيرهما عن عائشة أنها لم تر النبي ? يصلي صلاة الليل قاعدا قط حتى أسن، وكان يقرأ قاعدا، حتى إذا أراد أن يركع قام فقرأ نحوا من ثلاثين أو أربعين آية ثم ركع ثم سجد ثم يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك. وهذا يدل على جواز الركوع من قيام لمن قرأ قاعدا. فيحمل على أنه كان يفعل أحيانا هذا وأحيانا ذاك. وبهذا يحصل التوفيق بين الحديثين. قال العراقي: يحمل على أنه كان يفعل مرة كذا، فكان مرة يفتتح قاعدا ويتم

(5/251)


قراءته قاعدا ويركع قاعدا، وكان مرة يفتتح قاعدا ويقرأ بعض قراءته قاعدا وبعضها قائما ويركع قائما، فإن لفظ "كان" لا يقتضي المداومة – انتهى. واعلم أن ههنا أربع صور: الأولى أن ينتفل من القيام إلى الركوع والسجود، والثانية أن ينتقل من القعود إليهما، وهاتان مذكورتان في حديث عبدالله بن شقيق عن عائشة. والثالثة أن يتنفل من القعود إلى القيام ويقرأ بعض القراءة قائما، ثم يتنفل من القيام إلى الركوع والسجود. وهذه مذكورة في حديث عائشة الذي ذكرنا، والرابعة عكس الثالثة، وهي أن يتنفل من القيام إلى القعود فيقرأ بعض القراءة قاعدا، ثم ينتفل من القعود إلى الركوع والسجود، ولم ترو هذه الصورة وعلى هذا فكان ? في صلاة الليل على ثلاث أحوال: قائما في كلها، وقاعدا في كلها، وقاعدا في بعضها ثم قائما. وأما أن يكون قائما في بعضها ثم
صلى ركعتين)). رواه مسلم، وزاد أبوداود، ((ثم يخرج فيصلي بالناس صلاة الفجر)).
1170- (5) وعن عائشة، رضي الله عنها. قالت: ((لم يكن النبي ? على شيء من النوافل أشد
تعاهدا منه على ركعتى الفجر)).

(5/252)


قاعدا، وهي الصورة الرابعة فذهب الجمهور إلى جوازها. قال العينى: جواز الركعة الواحدة بعضها من قيام وبعضها من قعود هو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وعامة العلماء، وسواء في ذلك قام ثم قعد أو قعد ثم قام، ومنعه بعض السلف، وهو غلط. ولو نوى القيام ثم أراد أن يجلس جاز عند الجمهور، وجوزه من المالكية ابن قاسم، ومنعه أشهب- انتهى. وقال الشوكاني في النيل: حديث عائشة الثاني يدل على أنه يجوز فعل بعض الصلاة من قعود، وبعضها من قيام، وبعض الركعة من قعود، وبعضها من قيام. قال العراقي: وهو كذلك، سواء قام ثم قعد أو قعد ثم قام، هو قول جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق. وحكاه النووي عن عامة العلماء. وحكى عن بعض السلف منعه، قال هو غلط. وحكى القاضي عياض عن أبي يوسف ومحمد في آخرين كراهة القعود بعد القيام. ومنع أشهب من المالكية الجلوس بعد أن ينوي القيام. وجوزه ابن القاسم والجمهور- انتهى. (صلى ركعتين) أي خفيفتين، وقد تقدم بيان ما يقرأ فيهما في باب القراءة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص471- 489) مختصرا ومطولا. (وزاد أبوداود) أشار بهذا إلى الاعتراض على الشيخ محي السنة حيث أدرج هذه الجملة في حديث عائشة في الصحاح، مع أنها لم تكن في واحد من الصحيحين. (ثم يخرج) أي إلى المسجد. (فيصلي بالناس) إماما لهم (صلاة الفجر) أي فرض الصبح.

(5/253)


1170- قوله. (لم يكن النبي ? على شيء) أي على تحفظ شيء. (من النوافل) أي الزوائد على الفرائض من السنن. (أشد) قال ابن حجر: خبر لم يكن، أي أكثر. (تعاهدا) أي تفقدا وتحفظا. وفي رواية أبي داود: أشد معاهدة، أي محافظة ومدوامة. وفي رواية لمسلم: ما رأيت رسول الله ? إلى شيء من الخير أسرع منه إلى الركعتين قبل الفجر. زاد ابن خزيمة في هذه الرواية: ولا إلى غنيمة. (منه) أي من تعاهده عليه السلام. (على ركعتي الفجر) قال الطيبي: قولها "على" متعلقة بقولها تعاهدا. ويجوز تقديم معمول التمييز. والظاهر أن خبر لم يكن "على شيء" أي لم يكن يتعاهد على شيء من النوافل، وأشد تعاهدا حال أو مفعول مطلق على تأويل أن يكون التعاهد متعاهدا كقوله: ?أو أشد خشية?- انتهى. وفي الحديث دليل على عظم فضل ركعتى الفجر، وأن المحافظة عليهما أشد من المحافظة على غيرهما، وقد ثبت أنه ? كان لا يتركهما حضرا ولا سفرا، وعلى أنهما
متفق عليه.
1171- (6) وعنها، قالت . قال رسول الله ?: ((ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها)). رواه
مسلم.
1172- (7) وعن عبدالله بن مغفل، قال: قال النبي ?: ((صلوا قبل صلاة المغرب ركعتين، صلوا
قبل صلاة المغرب ركعتين،
سنة ليستا واجبتين، وبه قول جمهور العلماء. وحكى ابن أبي شيبة عن الحسن البصري أنه ذهب إلى وجوبهما. وذكر المرغيناني عن أبي حنيفة: أنها واجبة. وفي جامع المحبوبي روى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: لو صلى سنة الفجر قاعدا بلا عذر لا يجوز. والصواب عدم الوجوب لقولها على شيء من النوافل؛ ولأنه ? ساقها مع سائر السنن في حديث المثابرة. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أبوداود وابن خزيمة والبيهقي (ج2 ص470).

(5/254)


1171- قوله. (ركعتا الفجر) أي سنة الفجر هي المشهورة بهذا الاسم. (خير من الدنيا وما فيها) أي أثاثها ومتاعها، يعني أجرهما خير من أن يعطي تمام الدنيا في سبيل لله تعالى، أو هو على اعتقادهم أن في الدنيا خيرا، وإلا فذرة من الآخرة لا يساويها الدنيا وما فيها، قال الطيبي: إن حمل الدنيا على أعراضها وزهرتها فالخير إما مجرى على زعم من يرى فيها خيرا أو يكون من باب ?أي الفريقين خير مقاما?، وإن حمل على الإنفاق في سبيل لله فتكون هاتان الركعتان أكثر ثوابا منها- انتهى. وقال في حجة الله البالغة: إنما كانتا خيرا منها، لأن الدنيا فانية، ونعيمها لا يخلو عن كدر النصب والتعب، وثوابهما باق غير كدر- انتهى. وقد استدل به على أن ركعتى الفجر أفضل من الوتر، وهو أحد قولي الشافعي، ووجه الدلالة أنه جعل ركعتى الفجر خيرا من الدنيا وما فيها، وجعل الوتر خيرا من حمر النعم، وحمر النعم جزء ما في الدنيا. وأصح القولين عن الشافعي أن الوتر أفضل. وقد استدل لذلك بما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: أفضل الصلاة بعد الفريضة الصلاة في جوف الليل، وبالاختلاف في وجوبه كما سيأتي. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي والنسائي والبيهقي (ج2 ص470). وفي رواية لمسلم: أنه قال في شأن الركعتين عند طلوع الفجر: لهما أحب إلى من الدنيا وما فيها جميعا.
1172- قوله (صلوا قبل صلاة المغرب ركعتين، صلوا قبل صلاة المغرب ركعتين) كذا وقعت هذه الجملة مكررة في بعض النسخ المطبوعة بالهند، وكذا وقعت في المصابيح. وهو موافق لما في سنن أبي داود قال الحافظ: وأعادها الاسماعيلي ثلاث مرات- انتهى. ووقعت في بعض نسخ المشكاة الأخرى مرة فقط، كما في نسخة صاحب أشعة اللمعات شرح المشكاة بالفارسية. وفي النسخة التي على هامش المرقاة، وفي نسخة القاري التي
قال في الثالثة: لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة)). متفق عليه.

(5/255)


صحها على عدة نسخ معتمدة مقروءة مسموعة صحيحة بينها في أول شرحه، وأخذ من مجموعها أصلا اعتمده في الشرح. واختلف النسخ أيضا في ذكر قوله ركعتين فيوجد هذا اللفظ في طبعات الهند، وفي النسخة التي على هامش المرقاة، وكذا هو موجود في المصابيح، وهذا هو موافق لرواية أبي نعيم في المستخرج، ولرواية أبي داود أيضا. ويظهر من كلام صاحب الأشعة والقاري في شرحيهما: أن هذا اللفظ لم يكن في النسخ الموجودة عندهما، حيث لم يذكرا ولم يأخذا ذلك في أصلي شرحهما. ففي أشعة اللمعات (ج1 ص535). (قال رسول الله ?: صلوا قبل صلاة المغرب) نماز بكزاريد بيش از نماز مغرب يعني دو ركعت اين راسه بار مكرر فرمود. وفي المرقاة (ج2 ص112). (قال النبي ?: صلوا قبل صلاة المغرب) أي ركعتين، كما في رواية صحيحة، وكرر ذلك ثلاثا- انتهى. أي كما يدل عليه قول في الثالثة. فعلى ما في نسختى القاري وصاحب الأشعة لا اعتراض على صاحب المشكاة في عزو الحديث للبخاري. وأما على ما في طبعات الهند فيرد عليه أنه كيف نسب هذه الرواية إلى البخاري، مع أنه لم تقع هذه الجملة عنده مكررة، ولا وقع في روايته لفظ ركعتين. ويرد عليه أيضا أنه جعل الحديث متفقا عليه، مع أنه لم يخرجه مسلم أصلا، نعم أخرج مسلم من حديث حديث عبدالله بن مغفل بلفظ: بين كل أذانين صلاة، قالها ثلاثا، قال في الثالثة لمن شاء. وأخرجه البخاري أيضا، وقد تقدم في باب فضل الآذان. والظاهر أن المصنف تبع في ذلك الجزري حيث صرح في جامع الأصول (ج7 ص24) بأنه أخرجه البخاري ومسلم. وقد أخطأ أيضا صاحب المصابيح في ذكر هذه الرواية في الصحاح. والحديث فيه دليل على استحباب الركعتين بين الغروب وصلاة المغرب. وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين، ومن المتأخرين أحمد وإسحاق وأصحاب الحديث. وهو الحق. والقول بأنه منسوخ مما لا التفات إليه لأنه لا دليل عليه. (قال) أي النبي ?. (في) المرة. (الثالثة) أي عقبها. (لمن شاء) يعني

(5/256)


أنه ? ذكر في المرة الثالثة لفظ لمن شاء. قال الطيبي: أي ذلك الأمر لمن شاء- انتهى. وفيه إشارة إلى أن الأمر حقيقة في الوجوب، إلا إذا قامت قرينة تدل على التخيير بين الفعل والترك. فقوله: لمن شاء إشارة إليه، فكان هذا صارفا عن الحمل على الوجوب. قال الطيبي: فيه دليل على أن أمر النبي ? محمول على الوجوب حتى يقوم دليل غيره. ويوضحه قول ابن حجر: سنة أي عزيمة لازمة متمسكين بقوله: صلوا، فإنه أمر والأمر للوجوب، فتعليقه بالمشيئة يدفع حمله على حقيقته، فيكون مندوبا- انتهى. (كراهية) منصوب على التعليل أي قال ذلك لأجل كراهية. (أن يتخذها الناس سنة) أي طريقة لازمة لا يجوز تركها، أو سنة راتبة يكره تركها. قال المحب الطبري: لم يرد نفي استحبابها، لأنه لا يمكن أن يأمر بما لا يستحب، بل هذا الحديث من أقوى الأدلة على استحبابها. ومعنى قوله: سنة أي شريعة وطريقة لازمة. وكان المراد انحطاط مرتبتها عن رواتب الفرائض، ومن ثم لم يذكرها أكثر الشافعية في الرواتب، وقد عدها بعضهم.

(5/257)


وتعقب بأنه لم يثبت أنه ? واظب عليه. قال ابن القيم: الصواب في هاتين الركعتين أنهما مستحبتان مندوب إليهما، وليستا راتبة كسائر السنن الرواتب. قال القسطلاني: والذي صححه النووي أنها سنة للأمر بها في هذا الحديث. وقال مالك بعدم السنية. وقال النووي في المجموع: واستحبابهما قبل الشروع في الإقامة، فإن شرع فيها كره الشروع في غير المكتوبة لحديث: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة. وعن النخعي أنها بدعة، لأنه يؤدي إلى تأخير المغرب عن أول وقتها. وأجيب بأنه خيال فاسد منابذ للسنة، فلا يلتفت إليه، ومع هذا فزمنهما يسير لا تتأخر به الصلاة عن أول وقتها. قال ابن الهمام: وما ذكر من استلزام تأخير المغرب فقد قدمنا عن القنية استثناء القليل، والركعتان لا تزيد على القليل إذا تجوز فيهما- انتهى. قال الحافظ: ومجموع الأدلة يرشد إلى تخفيفهما، كما في ركعتى الفجر- انتهى. وذهب الحنفية إلى عدم استحبابهما، بل قال بعضهم بكراهتها، واستدلوا لنفي الاستحباب بأحاديث منها ما رواه أبوداود ومن طريقة البيهقي عن طاووس قال: سئل ابن عمر عن الركعتين قبل المغرب، فقال: ما رأيت أحدا على عهد رسول الله ? يصليهما، ورخص في الركعتين بعد العصر- انتهى. سكت عنه أبوداود ثم المنذري. قال النووي في الخلاصة: إسناده حسن. وأجيب عنه بأن في سنده شعيبا يباع الطيالسة، وهو وإن كان ممن لا بأس به لكن الظاهر أن الحديث وهم منه، وقد تفرد بروايته عن طاووس، وكيف يصح هذا الحديث، وقد روي في الصحيحين وغيرهما عن أنس وعقبة بن عامر أن الصحابة كانوا يصلون بين الأذان المغرب وإقامته في عهده ? وبحضرته، كما سيأتي، وروي عن عبدالله بن مغفل الأمر بذلك، وأنه ? قد صلاهما، وروى عن جماعة من الصحابة أنهم كانوا يصلونهما بعد وفاته، منهم أنس وعبدالرحمن بن عوف وأبي بن كعب وأبوأيوب الأنصاري وأبوالدرداء وجابر بن عبدالله وأبوموسى وأبويرزة وغيرهم، وكذلك روي عن جماعة من

(5/258)


التابعين أنهم كانوا يصلون قبل فرض المغرب بين الأذان والإقامة. وقال النووي في الخلاصة: وأجاب العلماء عنه بأنه نفي، فتقدم رواية المثبت، ولكونها أصح وأكثر رواة ولما معهم من علم ما لم يعلمه ابن عمر –انتهى. ذكر هذا الجواب الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص140) وأقره، ولم يتكلم عليه بشيء، وتكلم عليه ابن الهمام في فتح القدير بما لا يعبأ به، فإن حاصل كلامه معارضة حديث ابن عمر هذا بأحاديث الصحيحين المثبتة، ثم ترجيح حديث ابن عمر عليها يعمل أكابر الصحابة على وفقه كأبي بكر وعمر، ثم إنكار ترجح حديث أنس وغيره على حديث ابن عمر لكون الأول مثبتا والثاني نافيا بناء على أن النفي ههنا كالإثبات. فإنه لو كان الحال على ما في رواية أنس لم يخف على ابن عمر. قلت: قد حقق وقرر في محله أن حديث غير الصحيحين لا يساوي ولا يعارض حديثهما، وأن حديثهما يقدم على حديث غيرهما عند المخالفة وهذا

(5/259)


مما تمالأ عليه كلمة المحدثين خلفا وسلفا والفقهاء المتقدمين والمتأخرين قاطبة إلا ابن الهمام ومن تبعه من تلامذته وغيرهم. فالشيخ ابن الهمام هو أول من خالف هذا الأصل، وخرق هذا الإجماع. وغرضه من ذلك كما قال الشيخ عبدالحق الدهلوى في مقدمة شرح سفر السعادة بعد ما مشى ممشاه ورضي بما ارتضاه، تأييد مصادمة الفقهاء الحنفية بالمحدثين ومعارضتهم إياهم، قال الشيخ الدهلوى مشيرا إلى الكلام ابن الهمام في مخالفة هذا الأصل. وهذا نافع مفيد في غرضنا من شرح هذا الكتاب يعني السفر، وهو تأييد المذهب الحنفي وهذا صريح في إقرارهم بأن تأييد مذهب الحنفية إنما يتأتى بصيرورة الصحيحين كغيرهما من الصحاح بإبطال الخصوصية منهما صحة وثقة، وأن محاولة هذه المخالفة إنما هو لكون هذا المذهب في الأغلب على خلاف ما في الصحيحين. هذا، وقد أشبع الكلام في الرد على ابن الهمام الشيخ محمد معين الحنفي أحد تلامذه الشاه ولي الله الدهلوى في دراساته، وخص الدراسة (ص277- 322) الحادية عشر لذلك، فعليك أن تطالعها، وإذا كان الأمر كذلك فلا يعارض حديث ابن عمر هذا ما روى الشيخان من الأحاديث المثبتة للصلاة قبل فرض المغرب بين الأذان والإقامة. وأما ترجيحه لحديث ابن عمر على توهم أن عمل أكابر الصحابة على وفقه ففيه أنه لم يثبت عن أحد منهم العمل على خلاف ما في الأحاديث المثبتة، بل يرد ما ادعاه ويبطله حديث أنس عند البخاري في باب الصلاة إلى الأسطوانة. قال: لقد رأيت كبار أصحاب النبي ? يبتدرون السوارى عند المغرب حتى يخرج النبي ?. قال الحافظ: وعند النسائي قام كبار أصحاب رسول الله ? . وأما قوله: لو كان الحال على ما في رواية أنس لم يخف على ابن عمر. ففيه أنه خفي ذلك على ابن عمر، لأنهم لم يكونوا يواظبون عليه كالرواتب. وهذا على تقدير أن يكون حديث ابن عمر صحيحا ومعارضا لحديث أنس وغيره من الصحابة. وأما على ما هو مقرر عند المحدثين والفقهاء من عدم مساواة

(5/260)


حديث غير الصحيحين لحديثهما، وترجيح حديثهما على حديث غيرهما عند المخالفة فلا حاجة إلى هذا الجواب. ومنها: ما رواه الدارقطني ثم البيهقي في سننهما عن حيان بن عبيدالله العدوى ثنا عبدالله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله ?: إن عند كل أذانين ركعتين ما خلا المغرب- انتهى. ورواه البزار في مسنده وقال: لا نعلم. رواه عن ابن بريدة الأحيان ابن عبيدالله، وهو رجل مشهور من أهل البصرة لا بأس به- انتهى. قلت: حيان بن عبيدالله وإن كان صدوقا لكنه اختلط. قال البخاري: ذكر الصلت منه الاختلاط. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص331): قيل اختلط، وذكره ابن عدي في الضعفاء فالحديث ضعيف. وأيضا كان بريدة وابنه عبدالله يصليان قبل صلاة المغرب، فلو كان الاستثناء الذي زاده حبان محفوظا لم يكن مخالفان خبر النبي ?. قال الحافظ في الفتح: رواية حيان شاذة لأنه وإن كان صدوقا عند البزار وغيره، لكنه خالف الحافظ من أصحاب

(5/261)


عبدالله بن بريدة في إسناد الحديث ومتنه وقد وقع في بعض طرقه عند الإسماعيلي. وكان بريدة يصلي ركعتين قبل المغرب، فلو كان الاستثناء محفوظا لم يخالف بريدة رواية- انتهى. وقال البيهقي في المعرفة: أخطأ فيه حبان بن عبيدالله في الإسناد والمتن جميعا. أما السند فأخرجاه في الصحيحين عن سعيد الجريري وكهمس عن عبدالله بن بريدة عن عبدالله بن مغفل عن النبي ? قال: بين كل أذانين صلاة، قال في الثالثة: لمن شاء. وأما المتن فكيف يكون صحيحا. وفي رواية لمبارك عن كهمس في هذا الحديث قال وكان ابن بريدة يصلي قبل المغرب ركعتين. وفي رواية حسين المعلم عن عبدالله بن بريدة عن عبدالله بن مغفل قال: قال رسول الله ?: صلوا قبل المغرب ركعتين، وقال في الثالثة: لمن شاء خشبة أن يتخذها الناس سنة. رواه البخاري في صحيحه- انتهى. ومنها: ما رواه الطبراني في كتاب مسند الشاميين عن جابر قال: سألنا نساء رسول الله ?: هل رأيتن رسول الله ? يصلي ركعتين قبل الغروب؟ فقلن: لا غير أن أم سلمة قالت: صلاهما عندي مرة فسألته ما هذه الصلاة، فقال: نسيت الركعتين قبل العصر الآن- انتهى. قلت: في سنده يحيى بن أبي الحجاج. قال ابن معين والنسائي: ليس بشيء. وقال أبوحاتم: ليس بالقوى. وذكره ابن في الثقات. وقال ابن عدي: لا أرى بحديثه بأسا. وقال الحافظ في التقريب: لين الحديث. وفي سنده أيضا عيسى بن سنان القسملى، ضعفه أحمد والنسائي وأبوزرعة وابن معين، وذكره الساجي والعقيلي في الضعفاء. وقال أبوحاتم: ليس بقوي في الحديث، وقال العجلي: لا بأس به. وقال ابن خراش: صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ: لين الحديث. وعلى تقدير صحة هذا الحديث فجوابه هو ما ذكره الزيلعي نقلا عن النووي من أنه نفي متقدم رواية المثبت الخ. منها:ما رواه محمد بن الحسن في كتاب الآثار أخبرنا أبوحنيفة ثنا حماد بن أبي سليمان أنه سأل إبراهيم النخعي عن الصلاة قبل المغرب قال: فنهاه عنها،

(5/262)


وقال: إن رسول الله ? وأبا بكر وعمر لم يكونوا يصلونها- انتهى. قلت: هذا الحديث معضل فلا يصلح للاستدلال. قال الحافظ في الفتح: هو منقطع ولو ثبت لم يكن فيه دليل على النسخ ولا الكراهة، وسيأتي أن عقبة بن عامر سئل عن الركعتين قبل المغرب فقال: كنا نفعلهما على عهد النبي ?، قيل له فما يمنعك الآن؟ قال الشغل، فلعل غيره أيضا منعه الشغل. وقد روى محمد بن نصر وغيره من طرق قوية عن عبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبي بن كعب وأبي الدرداء وأبي موسى وغيرهم أنهم كانوا يواظبون عليهما. وأما قول ابن العربي اختلف الصحابة ولم يفعلهما أحد بعدهم، فمردود بقول محمد بن نصر. وقد روينا عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يصلون الركعتين قبل المغرب. ثم أخرج ذلك بأسانيد متعددة عن عبدالرحمن بن أبي ليلى وعبدالله بن بريدة ويحيى بن عقيل والأعرج وعامر بن عبدالله بن الزبير وعراك بن
1173- (8) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ? ((من كان منكم مصليا بعد الجمعة، فليصل أربعا)). رواه مسلم. وفي أخرى له، قال: ((إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعا)).

(5/263)


مالك. ومن طريق الحسن البصري أنه سئل عنهما فقال: حسنتين والله جميلتين لمن أراد بهما- انتهى. (متفق عليه) فيه نظر كما أوضحنا ذلك، والحديث أخرجه أبوداود وابن حبان والبيهقي (ج2 ص474) وزاد ابن حبان فيه: وأن النبي ? صلى قبل المغرب ركعتين. قال بعض الحنفية هذا الحديث أخرجه البخاري في الأذان أيضا بلفظ عام: بين كل أذانين صلاة وأخرج ههنا بلفظ المغرب خاصة، وحصل إلى الجزم بأنها رواية المعنى لا رواية بالمعنى، فإن الراوي استنبط المسألة من الحديث بين كل أذانين صلاة، ثم أجرى عمومه في المغرب وترك الصلوات الأربع، ثم عبر عنها بقوله صلوا قبل المغرب، وما حاشى به، لأنه قد تعلمها من الحديث العام وفيه تلك. قلت: هذا القول بعيد عن الحق والصواب بل هو باطل جدا. لأنه تحكم محض وادعاء مجرد وتخرص بحت، ولا يكفي في مثل هذه الأمور فتوى القلب، لا سيما من مثل هذا المقلد، بل لا بد لذلك من دليل قوي أو قرينة ظاهرة، ولا شيء ههنا، ولم يذهب إلى ذلك قبله ذهن ذاهن، لأنه تقول على الراوي من غير برهان ولم يتفكر هذا البعض في هذا الحديث سنين حتى جزم بما جزم إلا لأنه كان مخالفا لمذهبه.

(5/264)


1173- قوله. (من كان منكم مصليا بعد الجمعة فليصل أربعا رواه مسلم) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والبيهقي (ج3 ص240). (وفي أخرى له) أي لمسلم. (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعا) وأخرجها أيضا أحمد (ج2 ص249- 442- 499) وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي. وفي رواية لمسلم: إذا صليتم بعد الجمعة فصلوا أربعا. والرواية الثانية تدل على الأمر بأربع ركعات. وظاهره الوجوب، إلا أنه أخرجه عنه الرواية الأولى، فإنها تدل على أنها ليست بواجبة. قال النووي: نبه ? بقوله: إذا صلى أحدكم بعد الجمعة فليصل بعدها أربعا، على الحث عليها، فأتى بصيغة الأمر، ونبه بقوله: من كان منكم مصليا، على أنها سنة ليست بواجبة- انتهى. وحديث أبي هريرة هذا يدل على أن السنة بعد الجمعة أربع ركعات: وقد تقدم حديث ابن عمر أن النبي ? كان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين، وهذا يدل على أن السنة بعدها ركعتان. قال النووي: في هذا الأحاديث استحباب سنة الجمعة بعدها، والحث عليها وأن أقلها ركعتان وأكملها أربع. قال وذكر الأربع لفضيلتها وفعل الركعتين في أوقات بيانا؛ لأن أقلها ركعتان. وقال إسحاق بن راهوية: إن صلى في المسجد يوم الجمعة صلى أربعا وإن صلى

(5/265)


في بيته صلى ركعتين. وكذا قال ابن تيمية وابن القيم، كما في زاد المعاد (ج1 ص124). وكأنهم جمعوا بذلك بين الحديثين فإن حديث الأربع مطلق وليس مقيدا بكونها في البيت. وأما حديث الركعتين فهو مقيد بكونهما في البيت، فحملوا حديث الركعتين على ما إذا صلى في البيت وحديث الأربع على ما إذا صلى في المسجد. وفيه أنه لو كان الأمر كما قال هؤلاء لما صلى ابن عمر بعد الجمعة في المسجد ركعتين، فإنه هو الذي روى عن النبي ? أنه كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته. قال الترمذي بعد ذكر قول إسحاق بن راهوية ما نصه: وابن عمر هو الذي روى عن النبي ? كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته، وابن عمر بعد النبي ? صلى في المسجد بعد الجمعة ركعتين وصلى بعد الركعتين أربعا، وحمل النسائي حديث ابن عمر على أنه للإمام حيث بوب عليه بلفظ: صلاة الإمام بعد الجمعة وحمل حديث أبي هريرة على أنه لمن يصلي في المسجد فقد بوب له: عدد الصلاة بعد الجمعة في المسجد. ومال الشوكاني إلى أن الأربع للأمة سواء كانت في المسجد أو في البيت لإطلاقه وعدم تقييده بالبيت. وأما الركعتان فللنبي ? خاصة، قال: وفعله لا ينافي مشروعية الأربع لعدم المعارضة بين قوله الخاص بالأمة وفعله الذي لم يقترن بدليل خاص يدل على التأسي به فيه، وذلك لأن تخصيصه للأمة بالأمر يكون مخصصا لأدلة التأسي العامة- انتهى. واختلف العلماء في عدد الراتبة بعد الجمعة فأقلها عند الحنابلة ركعتان وأكثرها ستة، فنقل ابن قدامة في المغني عن أحمد أنه قال: إن شاء صلى بعد الجمعة ركعتين وإن شاء صلى أربعا. وفي رواية عنه: وإن شاء ستا. وأما عند الشافعية فالمؤكدة ركعتان والمستحب أربع ركعات. وحكى الترمذي عن الشافعي وأحمد أنهما قالا بحديث ابن عمر. قال العراقي: لم يرد الشافعي وأحمد بذلك إلا بيان أقل ما يستحب، وإلا فقد استحبا أكثر من ذلك. فنص الشافعي في الأم على أنه يصلي بعد الجمعة أربع ركعات، ذكره في باب

(5/266)


صلاة الجمعة والعيدين. ثم ذكر العراقي ما تقدم من كلام أحمد نقلا عن المغني. وأما المالكية فالمستحب عندهم ركعتان في البيت، لأنه لا رغيبة عندهم إلا للصبح. قال في المدونة: قال ابن القاسم قال مالك: بلغني أن النبي ? كان إذا صلى الجمعة انصرف ولم يركع في المسجد، قال: وإذا دخل بيته ركع ركعتين، قال مالك: وينبغي للأئمة اليوم إذا سلموا من صلاة الجمعة أن يدخل الإمام منزله ويركع ركعتين ولا يركع في المسجد، قال: ومن خلف الإمام إذا سلموا أحب إلى أن ينصرفوا أيضا ولا يركعوا في المسجد، قال: وإن ركعوا فذلك واسع- انتهى. وأما الحنفية فالمؤكد عندهم أربع لحديث أبي هريرة، وأما ما روي من فعله ? فليس فيه ما يدل على المواظبة. وقال أبويوسف يصلي ستا جمعا بين قوله? وفعله، وروي ذلك عن علي وابن عمر وأبي موسى، وهو قول عطاء والثوري إلا أن أبا يوسف استحب أن يقدم الأربع قبل الركعتين كيلا يصير متطوعا بعد صلاة الفرض يمثلها. قال الشيخ في شرح الترمذي: ثبت عنه ? ركعتان بعد الجمعة فعلا وأربع قولا. وأما الست فلم تثبت عنه ?
?الفصل الثاني?
1174- (9) عن أم حبيبة، قالت: سمعت رسول الله ? يقول: ((من حافظ على أربع ركعات قبل
الظهر وأربع بعدها، حرمه الله على النار)). رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي،
وابن ماجه.
بحديث صحيح صريح، نعم ثبتت عن ابن عمر من فعله، وروي عن علي أنه أمر بها. وأما حديث ابن عمر يعني الذي يأتي في آخر الفصل الثالث، فقال العراقي: إنما أراد رفع فعله بالمدينة فحسب، لأنه لم يصح أنه ? صلى الجمعة بمكة- انتهى. والأولى بالعمل عندي أن يصلي الرجل بعد الجمعة أربعا. (سواء كان في المسجد أو في بيته لإطلاق حديث أبي هريرة)، لأنه قد ثبت عنه ? قولا وأمرنا به وحثنا عليه- انتهى.

(5/267)


1174- قوله: (من حافظ) أي داوم وواظب. (على أربع ركعات قبل الظهر) فيه دليل على أن السنة قبل الظهر أربع ركعات وقد تقدم الكلام عليه. (وأربع بعدها) قال القاري: ركعتان منها مؤكدة وركعتان مستحبة، فالأولى بتسليمتين بخلاف الأولى. (حرمه الله على النار) وفي رواية: لم تمسه النار. وفي أخرى: حرم الله لحمه على النار. قال الشوكاني: وقد اختلف في معنى ذلك هل المراد أنه لا يدخل النار أصلا، أو أنه وإن قدر عليه دخولها لا تأكله، أو أنه يحرم على النار أن تستوعب أجزاءه وإن مست بعضه، كما في طرق الحديث عند النسائي بلفظ: فتمس وجهه النار أبدا، وهو موافق لقوله في الحديث الصحيح: وحرم على النار أن تأكل مواضع السجود فيكون قد أطلق الكل وأريد البعض مجازا، والحمل على الحقيقة أولى، وإن الله تعالى يحرم جميعه على النار. وفضل الله أوسع، ورحمته أعم- انتهى. وقال السندي: ظاهره أنه لا يدخل النار أصلا، وقيل: على وجه التأبيد، وحمله على ذلك بعيد، ويكفي في ذلك الإيمان وعلى هذا فلعل من داوم على هذه الفعل يوفقه الله تعالى للخيرات، ويغفر الذنوب كلها- انتهى. (رواه أحمد) الخ للحديث طرق: منها طريق حسان بن عطية عن عنسبة بن أبي سفيان عن أم حبيبة، وهى عند أحمد (ج2 ص325) والنسائي والبيهقي (ج2 ص473). ومنها طريق محمد بن عبدالله الشعيثي عن أبيه عن عنسبة عن أم حبيبة وهي عند أحمد (ج6 ص426) والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقد حسنه الترمذي من هذا الطريق. ومنها طريق القاسم بن عبدالرحمن عن عنسبة عن أم حبيبة، وهي عند الترمذي والنسائي. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، والقاسم بن عبدالرحمن ثقة شامي. ونقل المنذري في الترغيب كلام الترمذي هذا وأقره، وقال في مختصر السنن: وصححه الترمذي من حديث القاسم بن عبدالرحمن، والقاسم هذا اختلف فيه: فمنهم من يضعف روايته، ومنهم من يوثقه- انتهى. قلت: قال الحافظ في التقريب: إنه صدوق. ووثقه ابن

(5/268)


معين والعجلي ويعقوب بن سفيان ويعقوب بن شيبة. وقال أبوحاتم: حديث الثقات عنه مستقيم، لا بأس به، وإنما ينكر عنه الضعفاء. وقال أبوإسحاق
1175- (10) وعن أبي أيوب الأنصاري، قال: قال رسول الله ?: ((أربع قبل الظهر ليس فيهن
تسليم، تفتح لهن أبواب السماء)).
الحربي: كان من ثقات المسلمين. وقال الجوزجاني: كان خيارا فاضلا، أدرك أربعين رجلا من المهاجرين والأنصار. وتكلم فيه أحمد. وقال الغلابي: منكر الحديث. وقال ابن حبان: يروي عن الصحابة المعضلات، كذا في تهذيب التهذيب. ومنها طريق سليمان بن موسى عن مكحول عن مولى لعنسبة بن أبي سفيان عن عنسبة عن أم حبيبة، وهي عند أحمد (ج6 ص326). ومنها طريق سليمان بن موسى والنعمان بن المنذر عن مكحول عن عنسبة عن أم حبيبة. أما طريق سليمان فهي عند النسائي. وأما طريق النعمان فهي عند أبي داود والحاكم والبيهقي (ج2 ص472)، ومن طريق مكحول عن عنسبة عن أم حبيبة أخرج ابن خزيمة في صحيحه، كما في الترغيب. قال البخاري ويحيى بن معين وأبوزرعة وأبوحاتم والنسائي وأبومسهر: إن مكحولا لم يسمع من عنسبة. وخالفهم دحيم وهو أعرف بحديث الشاميين، فأثبت سماع مكحول من عنسبة، قاله الحافظ. ومنها طريق سليمان بن موسى عن محمد بن أبي سفيان عن أم حبيبة، وهي عند النسائي وابن خزيمة، كما في الترغيب. قال النسائي: هذا خطأ، والصواب حديث مروان من حديث سعيد بن عبدالعزيز عن سليمان عن مكحول عن عنسبة. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج9 ص192): وهو الصواب. وهكذا قال غير واحد عن مكحول- انتهى. قلت: الظاهر أن حديث أم حبيبة هذا حسن صحيح من طريق حسان ومحمد بن عبدالله الشعيثي والقاسم بن عبدالرحمن ومكحول كلهم عن عنسبة عن أم حبيبة. فهذه طرق أربع للحديث من بين حسان وصحاح. وأما الطريق الرابع فلعل مكحولا سمع أولا من مولى لعنسبة، ثم لقي عنسبة وسمع منه من غير واسطة، والله أعلم.

(5/269)


1175- قوله. (أربع) أي من الركعات يصليهن الإنسان. (قبل الظهر) أي قبل صلاته. (ليس فيهن) أي بين الركعتين الأوليين والركعتين الأخيرتين. (تسليم) أي فصل بسلام يعني تصلى بتسليمة واحدة. قال القاري: أي الأفضل فيها ذلك. وقد استدل بهذا من جعل صلاة النهار أربعا أربعا، ويمكن أن يقال المراد ليس فيهن تسليم واجب، فلا ينافي أن الأفضل مثنى مثنى ليلا ونهارا لخبر أبي داود وغيره: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. وبه قال الأئمة غير أبي حنيفة، فإنه قال الأفضل أربعا أربعا ليلا ونهارا، ووافقه صاحباه في النهار دون الليل. قال البيجوري في شرح الشمائل. قال القاري: وينبغي أن يكون الخلاف فيما لم يرد فيه تعيين تسليم أو تسليمتين. (تفتح لهن) أي لأجلهن. (أبواب السماء) كناية عن حسن القبول. وهذا لفظ أبي داود ورواه ابن ماجه بلفظ: كان يصلي قبل الظهر أربعا إذا زالت الشمس، لا يفصل بينهن بتسليم، وقال: إن أبواب السماء تفتح إذا زالت الشمس- انتهى. وتسمى
رواه أبوداود، وابن ماجه.

(5/270)


هذه سنة الزوال، وهي غير سنة الظهر. قال ابن القيم: هذه الأربع صلاة مستقلة كان يصليها بعد الزوال، وورد مستقل سببه انتصاف النهار وزوال الشمس. وسر هذا والله تعالى أعلم أن انتصاف النهار مقابل لانتصاف الليل، وأبواب السماء تفتح بعد زوال الشمس ويحصل النزول الإلهي بعد انتصاف الليل، فهما وقتا قرب ورحمة هذا يفتح فيه أبواب السماء، وهذا ينزل فيه الرب تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا- انتهى. وقيل: بل هي سنة الظهر القبلية، والحديث رواه الترمذي في الشمائل بلفظ: أن النبي ? كان يدمن أربع ركعات عند زوال الشمس، فقلت: يا رسول الله ! إنك تدمن هذه الأربع ركعات عند زوال الشمس، فقال: إن أبواب السماء تفتح، فلا ترتج حتى يصلي الظهر، فأحب أن يصعد لي في تلك الساعة خير- الحديث. ورواه الطبراني في الكبير الأوسط بلفظ: لما نزل رسول الله ? على رأيته يديم أربعا قبل الظهر، وقال: إنه إذا زالت الشمس فتحت أبواب السماء، فلا يغلق منها باب حتى يصلى الظهر الخ. وروى البيهقي ونحوه. قال البيجوري: ويبعد الأول أي كون المراد سنة الزوال غير سنة الظهر التعبير بالإدمان المراد به المواظبة، إذ لم يثبت أنه ? واظب على شيء من السنن بعد الزوال إلا على راتبة الظهر- انتهى. (رواه أبوداود وابن ماجه) وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص416) والترمذي في الشمائل والطحاوي (ص196) والبيهقي في السنن (ج2 ص488) كلهم من طريق عبيدة عن إبراهيم عن سهم بن منجاب عن قرثع، وقال بعضهم عن قزعة عن قرثع عن أبي أيوب، وعبيدة هذا هو ابن متعب الضبي الكوفي الضرير. قال في التقريب: ضعيف، واختلط بآخرة، ونقل الزيلعي عن صاحب التنقيح: أنه قال: وروى ابن خزيمة هذا الحديث في مختصر المختصر وضعفه، فقال وعبيدة بن متعب ليس ممن يجوز الاحتجاج بخبره-انتهى. قلت: عبيدة هذا ضعفه أيضا أبوداود وابن معين وأبوحاتم والنسائي وابن عدي. وذكره ابن المبارك فيمن يترك حديثه. وقال عبدالله بن أحمد عن أبيه:

(5/271)


ترك الناس حديثه. وقال يحيى بن سعيد: كان عبيدة سيء الحفظ ضريرا متروك الحديث. وقال الساجي: صدوق سيء الحفظ يضعف عندهم. وقال يعقوب بن سفيان: حديثه لا يسوى شيئا. وقال أبوداود عن شعبة: أخبرني عبيدة قبل أن يتغير كذا في تهذيب التهذيب. قلت: قد روى هذا الحديث أبوداود من طريق شعبة عن عبيدة، وأخرجه الطيالسي أيضا عن شعبة عن عبيدة. كما في الميزان (ج2 ص175) وللحديث طريق أخرى عند أحمد (ج5 ص418) والبيهقي في السنن (ج2 ص489) وابن خزيمة، وهي طريق شريك عن الأعمش عن المسيب بن رافع عن علي بن الصلت عن أبي أيوب، وليس فيه: لا يسلم بينهن، وأخرجه محمد في موطئه عن بكير بن عامر البجلي عن إبراهيم والشعبي عن أبي أيوب. قال الزيلعي. وتكلم الدارقطني في علله، وذكر الاختلاف فيه، ثم قال: وقول أبي معاوية. (يعني عن عبيدة عن إبراهيم عن سهم عن قزعة عن قرثع عن أبي أيوب بذكر هل فيهن تسليم فاصل؟ قال: لا) أشبه بالصواب- انتهى. وحديث أبي معاوية عند الترمذي وأحمد (ج5 ص416)
1176- (11) وعن عبدالله بن السائب، قال: ((كان رسول الله ? يصلي أربعا بعد أن تزول
الشمس قبل الظهر، وقال: إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، فأحب أن يصعد لي فيها
عمل صالح)). رواه الترمذي.
1177- (12) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله ? : ((رحم الله أمرأ صلى قبل العصر أربعا)).
رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود.
واعلم أنه أطلق المنذري عزو حديث أبي أيوب هذا إلى الترمذي في مختصره، وكان عليه أن يقيده بالشمائل.

(5/272)


1176- قوله. (عن عبدالله بن السائب) هو وأبوه صحابي. (كان رسول الله ? يصلي أربعا بعد أن تزول الشمس قبل الظهر) أي قبل فرضه وهل هي سنة الزوال أو سنة الظهر القبلية؟ فيه خلاف علم مما نقدم. قال العراقي: هي غير الأربع التي هي سنة الظهر قبلها، وتسمى هذه سنة الزوال. وقال القاري: تلك الركعات الأربع سنة الظهر التي قبله. كذا قاله بعض الشراح من علمائنا، وأراد به الرد على من زعم أنها غيرها وسماها سنة الزوال- انتهى. (وقال: إنها) أي قطعة الزمن التي بعد الزوال. وقال القاري: أي ما بعد الزوال. وأنثه باعتبار الخبر وهو. (ساعة تفتح) بالتأنيث وبالتخفيف، ويجوز التشديد. (فيها أبواب السماء) لصعود الطاعة ونزول الرحمة. (فأحب أن يصعد) بفتح الياء ويضم. (فيها) أي في تلك الساعة. (عمل صالح) أي إلى السماء. ويستشكل بأن الملائكة الحفظة لا يصعدون إلا بعد صلاة العصر. وبعد صلاة الصبح، ويبعد أن العمل يصعد قبل صعودهم، وقد يرد بالصعود القبول، قاله البيجوري. (رواه الترمذي) في جامعه وفي شمائله وبوب له في جامعة باب الصلاة عند الزوال، وأشار إلى حديث أبي أيوب المتقدم بقوله: وفي الباب عن أبي أيوب. قال الترمذي: حديث عبدالله بن السائب حديث حسن غريب. قلت: بل هو حديث صحيح متصل الإسناد رواته ثقات، وأخرجه أيضا أحمد (ج3 ص411).

(5/273)


1177- قوله: (رحم الله امرأ) أي شخصا. قال العراقي: يحتمل أن يكون دعاء. وأن يكون خبرا (صلى قبل العصر أربعا) أي أربع ركعات تطوع العصر وهي من المستحبات. قال النووي في شرح المذهب: إنها سنة، وإنما الخلاف في المؤكد منه، وقال في شرح مسلم: لا خلاف في استحبابها عند أصحابنا. وممن كان يصليها أربعا من الصحابة علي. وقال إبراهيم النخعي: كانوا يصلون أربعا قبل العصر، ولا يرونها من السنة. وممن كان لا يصلى قبل العصر شيئا سعيد بن المسيب والحسن البصري وسعيد بن منصور وقيس بن أبي حازم وأبوالأحوص- انتهى. (رواه أحمد) (ج2 ص117). (والترمذي) وحسنه. (وأبو داود) وسكت عنه، وأخرجه أيضا الطيالسي
1178- (13) وعن علي قال: ((كان رسول الله ? يصلي قبل العصر أربع ركعات، يفصل بينهن
بالتسليم على الملائكة المقربين، ومن تبعهم من المسلمين والمؤمنين)).

(5/274)


والبيهقي (ج2 ص473) وابن حبان وصححه وكذا شيخه ابن خزيمة. وفيه محمد بن إبراهيم بن مسلم بن مهران بن المثنى، روى عن جده مسلم بن مهران عن ابن عمر. قال الحافظ في التلخيص: محمد بن مهران فيه مقال، لكن وثقه ابن حبان- انتهى. وقال ابن معين: ليس به بأس. وقال الدارقطني: بصري، روى عن جده ولا بأس بهما. وقال الحافظ في ترجمة مسلم بن مهران: قال أبوزرعة: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وفي الباب عن أم حبيبة عند أبي يعلى، وعن أم سلمة عند الطبراني في الكبير، وعن عبدالله بن عمرو بن العاص عند الطبراني في الكبير الأوسط، وعن علي عند الطبراني في الأوسط، ذكر هذه الأحاديث الشوكاني في النيل، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص222)، والمنذري في الترغيب. واعلم أن الحافظ في الفتح والزرقاني في شرح الموطأ تبعا للحافظ قد نسبا حديث ابن عمر هذا إلى أبي هريرة. قال الحافظ: قد ورد في الصلاة قبل العصر حديث لأبي هريرة مرفوع لفظه: رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا. أخرجه أحمد وأبوداود والترمذي وصححه ابن حبان- انتهى. وهو وهم منهما، لأن الحديث من مسند ابن عمر لا أبي هريرة كما لا يخفى، نعم أخرج أبونعيم من حديث الحسن عن أبي هريرة مرفوعا: من صلى قبل العصر أربع ركعات غفر الله عز وجل له مغفرة عزما. والحسن لم يسمع من أبي هريرة. ذكره الشوكاني والعيني.

(5/275)


1178- قوله: (كان رسول الله ? يصلي قبل العصر أربع ركعات) فيه دليل على استحباب أربع ركعات قبل العصر كالحديث السابق، ولا منافاة بينه وبين ما يأتي بعد ذلك من حديث علي أيضا أنه ? كان يصلي قبل العصر ركعتين، لأن المراد أنه ? أحيانا يصلي أربع ركعات وأحيانا ركعتين، فالرجل مخير بين أن يصلي أربعا أو ركعتين، والأربع أفضل. (يفصل بينهن) أي بين الركعتين الأوليين والركعتين الأخيرتين. (بالتسليم) المراد به تسليم التشهد دون تسليم التحلل من الصلاة كما سيأتي. (على الملائكة المقربين) زاد الترمذي في رواية: والنبيين والمرسلين. (ومن تبعهم) أي النبي ين والمرسلين. (من المسلمين) بيان لمن أي المنقادين ظاهرا وباطنا. (والمؤمنين) المصدقين بقلوبهم المقرين بألسنتهم، فلا فرق بينهما إلا في مفهوم اللغة دون عرف الشريعة، قاله القاري. قال الترمذي: اختار إسحاق بن راهوية أن لا يفصل في الأربع قبل العصر، واحتج بهذا الحديث، وقال معنى قوله: يفصل بينهن بالتسليم يعني التشهد. وقال البغوي: المراد بالتسليم التشهد دون السلام. أي وسمي تسليما على من ذكر لاشتماله عليه. قال الطيبي: ويؤيده حديث عبدالله بن مسعود: كنا إذا صلينا قلنا السلام على الله قبل عباده السلام على جبريل، وكان ذلك في التشهد- انتهى. وقيل: المراد به تسليم التحلل من الصلاة حمله على
رواه الترمذي.
1179- (14) وعنه، قال: ((كان رسول الله ? يصلي قبل العصر ركعتين)). رواه أبوداود.
1180- (15) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ? : ((من صلى بعد المغرب ست ركعات لم
يتكلم فيما بينهن

(5/276)


هذا من اختار أن صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. قال العراقي: حمل بعضهم هذا على أن المراد بالفصل بالتسليم الشهد، لأن فيه السلام على النبي ? وعلى عباد الله الصالحين، قاله إسحاق بن إبراهيم، فإنه كان يرى صلاة النهار أربعا، قال وفيما أوله عليه بعد- انتهى كلام العراقي. قال الشيخ في شرح الترمذي: ولا بعد عندي فيما أوله عليه، بل هو الظاهر القريب بل هو المتعين إذ النبي ون والمرسلون لا يحضرون الصلاة حتى ينويهم المصلي بقوله: السلام عليكم فكيف يراد بالتسليم تسليم التحلل من الصلاة- انتهى. قلت: ولقائل أن يقول يكفي للخطاب بقوله السلام: عليكم شهود الأنبياء والمرسلين واستحضارهم في القلب وتصورهم في النفس وإن لم يكونوا حاضرين في الخارج، فلا مانع من أن يراد بالتسليم تسليم التحلل من الصلاة. (رواه الترمذي) أي من طريق أبي إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضمرة عن علي في باب ما جاء في الأربع قبل العصر، وحسنه. ونسبه الحافظ في التلخيص لأحمد (ج1 ص85) والبزار والنسائي أيضا، وهو مختصر من حديث طويل أخرجه الترمذي من الطريق المذكور في باب كيف كان يتطوع النبي ? بالنهار، وذكر هناك أنه روي عن ابن مبارك أنه كان يضعف هذا الحديث، وإنما ضعفه عندنا - والله أعلم من أجل - عاصم بن ضمرة، وعاصم بن ضمرة من ثقة عند بعض أهل الحديث. وقال علي بن المديني قال يحيى بن سعيد القطان قال سفيان: كنا نعرف فضل حديث عاصم بن ضمرة على حديث الحارث-انتهى. قلت: عاصم هذا وثقة يحيى بن معين وابن المديني والعجلي وابن سعد. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال البزار: هو صالح الحديث. وقال أحمد: هو أعلى من الحارث الأعور، وهو عندي حجة. وضعفه ابن حبان وابن عدي والجوزجاني تبعا لابن عدي، وقد رد الحافظ على الجوزجاني في تهذيب التهذيب (ج5 ص45- 46) فارجع إليه.

(5/277)


1179- قوله: (يصلي قبل العصر ركعتين) أي أحيانا فلا ينافي ما تقدم من الأربع. (رواه أبوداود) من طريق أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: عاصم بن ضمرة وثقه يحيى بن معين وغيره وتكلم فيه غير واحد.
1180- قوله: (من صلى بعد المغرب) أي فرضه. (ست ركعات) مع الركعتين الراتبتين أو سواهما، قاله في اللمعات. وقال الطيبي: المفهوم إن الركعتين الراتبتين داخلتان في الست، وكذا في العشرين المذكورة في الحديث الآتي- انتهى. قال القاري: فيصلي المؤكدتين بتسليمة، وفي الباقي بالخيار. (لم يتكلم فيما بينهن)
بسوء، عدلن له بعبادة ثنتى عشرة سنة)). رواه الترمذي. وقال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن أبي خثعم، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: هو منكر الحديث، وضعفه جدا.
1181- (16) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله ?: ((من صلى بعد المغرب عشرين ركعة بنى الله له بيتا في الجنة)) رواه الترمذي.

(5/278)


أي في أثناء أدائهن. وقال ابن حجر إذا سلم من ركعتين. (بسوء) أي بكلام سيء أو بكلام يوجب سوء. (عدلن) بصيغة المجهول. قال الطيبي: يقال عدلت فلانا بفلان إذا سويت بينهما يعني ساوين من جهة الأجر. (له) أي للمصلي. (بعبادة ثنتى عشرة سنة) قال البيضاوي: فإن قلت كيف تعادل العبادة القليلة العبادات الكثيرة فإنه تضييع لما زاد عليها من الأفعال الصالحة. قلت: الفعلان إن اختلفا نوعا فلا إشكال. وإن اتفقا فلعل القليل يكتسي بمقارنة ما يخصه من الأوقات والأحوال ما يرجحه على أمثاله، فلعل القليل في هذا الوقت، والحال يضاعف على الكثير في غيرهما. وقال الطيبي: هذا من باب الحث والتحريض، فيجوز أن يفضل ما لا يعرف فضله على ما يعرف وإن كان أفضل حثا وتحريضا، ونظيره قوله تعالى. ?مما خطيئاتهم أغرقوا? [71: 25] خصت الخطيئات استعظاما لها وتنفيرا من ارتكابها وجعلت علة للإغراق دون الكفر وأنه أغلظ وأصعب. قال التوربشتي: وقيل: يحتمل أن يراد ثواب القليل مضعفا أكثر من ثواب الكثير غير مضعف. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا ابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه كلهم من حديث عمر بن أبي خثعم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة. (لا نعرفه إلا من حديث عمر بن أبي خثعم) بفتح معجمة وسكون مثلثة وفتح مهملة. وعمر هو ابن عبدالله بن أبي خثعم نسب هنا إلى جده. (وسمعت محمد بن إسماعيل) أي البخاري. (يقول هو) أي عمر. (منكر الحديث) هذا من ألفاظ الجرح، وهو في المرتبة الثالثة من مراتب ألفاظ الجرح فيما ذكره العراقي، لكن قد قدمنا في شرح حديث أبي هريرة في الفصل الثالث من باب آداب الخلاء أن البخاري إنما يطلق هذا اللفظ على من لا تحل الرواية عنه على ما صرح به السيوطي في التدريب (ص127). (وضعفه جدا) أي تضعيفا قويا. قال في تهذيب التهذيب: قال الترمذي عن البخاري: ضعيف الحديث ذاهب، ضعفه جدا. وقال البرذعي عن أبي زرعة واهي الحديث حدث عن يحيى بن أبي

(5/279)


كثير ثلاثة أحاديث. (أحدها حديث أبي هريرة هذا) لو كانت في خمسمائة حديث لأفسدتها. وقال ابن عدي: منكر الحديث. وقال في الميزان: له حديثان منكران، فذكرهما، وأحدهما هذا الحديث، ثم قال وهاه أبوزرعة. وقال البخاري: منكر الحديث ذاهب- انتهى.
1181- قوله: (بنى الله له بيتا في الجنة) أي عظما مشتملا على أنواع النعم. (رواه الترمذي) أي ذكره تعليقا
1182- (7) وعنها، قالت: ((ما صلى رسول الله ? العشاء قط فدخل علي، إلا صلى أربع ركعات أو ست ركعات)).

(5/280)


بصيغة التمريض فقال: وقد روى عن عائشة عن النبي ? فذكره. وأخرجه ابن ماجه موصولا من رواية يعقوب ابن الوليد المدائني عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. قال المنذري في الترغيب: ويعقوب كذبه أحمد وغيره- انتهى. قلت: قال الحافظ في تهذيب التهذيب: قال عبدالله بن أحمد عن أبيه: خرقنا حديثه منذ دهر، كان من الكذابين الكبار، وكان يضع الحديث. وقال الغلابي عن ابن معين: كذاب. وقال ابن حبان: يضع الحديث على الثقات، لا يحل كتب حديثه إلا على سبيل التعجب. وقال النسائي: ليس بشيء متروك الحديث، هذا وكان على المصنف أن يقول: علقه الترمذي أو ذكره تعليقا، فإنه لا يقال في مثل هذا: رواه وإنما يقال ذكره، وقد عرفت مما قدمنا أن حديث أبي هريرة وحديث عائشة كليهما ضعيفان جدا، لكن قد ورد في فضل الصلاة بين المغرب والعشاء أحاديث أخرى: منها ما رواه الطبراني في معاجيمه الثلاثة عن عمار بن ياسر قال: رأيت حبيبي ? يصلي بعد المغرب ست ركعات، وقال من صلى بعد المغرب ست ركعات غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر. قال الطبراني: تفرد به صالح بن قطن البخاري. قال الهيثمي: ولم أجد من ترجمه. وقال المنذري: وصالح هذا لا يحضرني الآن فيه جرح ولا تعديل. ومنها ما رواه محمد بن نصر في قيام الليل عن ابن عمر مرفوعا: من صلى ست ركعات بعد المغرب قبل أن يتكلم غفر له بها خمسين سنة. وفي إسناده محمد بن غزوان الدمشقي. قال أبوزرعة: منكر الحديث. وقال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج به. ومنها ما رواه أحمد والترمذي وغيرهما عن حذيفة قال: صليت مع النبي ? المغرب، فلما قضى الصلاة قام يصلي، فلم يزل يصلي حتى صلى العشاء ثم خرج، قال الشوكاني بعد ذكر هذه الأحاديث وغيرهما مما ورد في الباب: الأحاديث المذكورة تدل على مشروعية الاستكثار من الصلاة ما بين المغرب والعشاء. والأحاديث وإن كان أكثرها ضعيفا فهي منتهضة بمجموعها لاسيما في فضائل الأعمال- انتهى.

(5/281)


1182- قوله: (ما صلى رسول الله ? العشاء) أي فرضه. (قط فدخل علي) أي في نوبتي. (إلا صلى أربع ركعات) أي ركعات مؤكدة بتسليمة وركعتان مستحبة، قاله القاري. (أو ست ركعات) يحتمل الشك والتنويع، فركعتان نافلة، قاله القاري. وقال الزرقاني في شرح المواهب: قالت عائشة: ما صلى رسول الله ? العشاء قط فدخل بيتي إلا صلى أربع ركعات، أي تارة أو ست ركعات أي أخرى، فليست أو للشك. وفي مسلم قالت عائشة ثم يصلي بالناس العشاء ويدخل بيتي فيصلي ركعتين. وكذا في حديث ابن عمر عند الشيخين. ومفاد الأحاديث أنه كان يصلي بحسب ما تيسر ركعتين وأربعا وستا إذا دخل بيته بعد العشاء- انتهى. وأما
رواه أبوداود.
1183- (18) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله ?: ((إدبار النجوم الركعتان قبل الفجر،

(5/282)


ما روى محمد بن نصر من حديث ابن عباس أن النبي ? صلى العشاء الآخرة، ثم صلى أربع ركعات حتى لم يبق في المسجد غيري وغيره. وهذا يقتضى أن يكون صلى الأربع في المسجد لا في البيت، فأجيب عنه بأن في سنده المهال بن عمرو، وقد اختلف فيه. وعلى تقدير ثبوته فيكون قد وقع ذلك منه لبيان الجواز أو لضرورة له في المسجد اقتضت ذلك. وأما ما روى الطبراني في الكبير عن ابن عمر مرفوعا: من صلى العشاء الآخرة في جماعة وصلى أربع ركعات قبل أن يخرج من المسجد كان كعدل ليلة القدر، ففيه أنه قال العراقي: لم يصح. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص231): وفيه من ضعف الحديث. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد (ص6/58) والبيهقي (ج2 ص477) من طريق أبي داود، وسكت عنه أبوداود والمنذري. قال الشوكاني. . الحديث رجال إسناده ثقات. ومقاتل بن بشير العجلي. (يعني الراوي عن شريح بن هاني عن عائشة) قد وثقه ابن حبان، وقد أخرجه النسائي أيضا في السنن الكبرى. وفي الباب عن ابن عباس عند البخاري وغيره، قال: بت في بيت خالتي ميمونة- الحديث، وفيه فصلي النبي ? العشاء، ثم جاء إلى منزله فصلى أربع ركعات، ثم نام الخ. والظاهر أن هذه الأربعة سنة العشاء البعدية لكونها وقعت قبل النوم، وعليه حمله محمد بن نصر في قيام الليل، وعن عائشة أنها سئلت عن صلاة رسول الله ? في جوف الليل فقالت: كان يصلي صلاة العشاء في جماعة، ثم يرجع إلى أهله فيركع أربع ركعات، ثم يأوي إلى فراشه- الحديث بطوله. وفي آخره حتى قبض على ذلك، أخرجه أبوداود من طريق زرارة بن أبي أوفي عن عائشة، وأخرجه أيضا من رواية زرارة عن سعد بن هشام عن عائشة. قال المنذري: هذه الرواية هي المحفوظة. وعندي في سماع زرارة من عائشة نظر، فإن أبا حاتم الرازي قال: قد سمع زرارة من عمران بن حصين وأبي هريرة وابن عباس وهذا ما صح له، فظاهر هذا أن زرارة لم يسمع عنده من عائشة- انتهى. وعن عبدالله بن الزبير قال: كان النبي ?

(5/283)


إذا صلى العشاء ركع أربع ركعات، وأوتر بسجدة، ثم تام حتى يصلي بعدها صلاته من الليل. أخرجه أحمد (ج4 ص4) والبزار والطبراني في معجمه، ذكره الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص146). وعن أنس وعن البراء بن عازب، وعن ابن عباس عند الطبراني، ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص230- 231) مع الكلام عليها.
1183- قوله: (إدبار النجوم) بكسر الهمزة ونصب الراء على الحكاية من قوله تعالى: ?وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم? [49: 52] ويجوز الرفع. وعلى الوجهين هو مبتدأ خبره: (الركعتان قبل الفجر) أي فرضه. والإدبار والدبور الذهاب، يعني عقب ذهاب النجوم. وقال ابن كثير : أي عند جنوحها
وأدبار السجود الركعتان بعد المغرب)). رواه الترمذي.
?الفصل الثالث?
1184- (19) عن عمر قال: سمعت رسول الله ? يقول: ((أربع قبل الظهر، بعد الزوال، تحسب
بمثلهن في صلاة السحر.

(5/284)


للغيبوبة وهو سنة الصبح. (وأدبار السجود) بفتح الهمزة وكسرها قراءتان متواترتان في قوله تعالى: ?وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، ومن الليل فسبحه وأدبار السجود? [40: 50] قال الطيبي: صلاة أدبار السجود، وأدبار نصبه بسبح في التنزيل أوقعه مضافا في الحديث على الحكاية- انتهى. والمراد بالسجود فريضة المغرب. (الركعتان بعد المغرب) أي فرضه وهي سنة المغرب البعدية. (رواه الترمذي) في تفسير سورة الطور، وأخرجه أيضا الحاكم وصححه وابن مردويه وابن أبي حاتم كلهم من طريق رشدين بن كريب عن أبيه عن ابن عباس، ورشدين ضعفه ابن المديني وأبوزرعة وابن نمير وأبوحاتم والنسائي. وقال أحمد والبخاري: منكر الحديث. وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء. وقال ابن عدي: أحاديثه مقلوبة، لم أر فيها حديثا منكرا جدا، ومع ضعفه يكتب حديثه. وقال ابن كثير: رشيدين بن كريب ضعيف، ولعل الحديث من كلام ابن عباس موقوفا عليه- انتهى. والحديث أخرجه مسدد في مسنده وابن المنذر وابن مردويه من حديث علي مرفوعا.

(5/285)


1184- قوله: (أربع) أي من الركعات. (قبل الظهر بعد الزوال) صفة لأربع، وخبره قوله: (تحسب) بصيغة المجهول. (بمثلهن) أي الكائن. (في صلاة السحر) بفتح المهملتين. ولفظ الترمذي: بمثلهن من صلاة السحر، أي بمثل أربع ركعات كائنة من صلاة السحر، يعني تعدل في الفضل أربعا مماثلة لهن من جملة صلاة السحر أي التهجد. وذكره المنذري في الترغيب نقلا عن الترمذي بلفظ: بمثلهن في السحر. وقال الطيبي: أي توازي أربعا في الفجر من السنة والفريضة لموافقه المصلي بعد الزوال سائر الكائنات في الخضوع والدخور لبارئها، فإن الشمس أعلى وأعظم منظورا في الكائنات، عند زوالها يظهر هبوطها وانحطاطها وسائر ما يتفيؤ بها ظلاله عن اليمين والشمال- انتهى. وقيل: لا يظهر وجه العدول عن الظاهر، وهو حمل السحر على حقيقته، وتشبيه هذه الأربع بأربع من صلاة الصبح إلا باعتبار كون المشبة به مشهودا بمزيد الفضل- انتهى. يعني قوله تعالى: ?إن قرآن الفجر كان مشهودا? [17: 78] وفيه إشارة إلى أن العدول إنما هو ليكون المشبه به أقوى، إذ ليس التهجد أفضل من سنة الظهر. قال القاري: والأظهر حمل السحر على حقيقته، وهو السدس الأخير من الليل. ويوجه كون المشبه به أقوى بأن العبادة فيه أشق وأتعب، والحمل على الحقيقة مهما أمكن فهو أولى وأحسن. قلت: لا شك أم الحمل على الحقيقة أولى. وعلى هذا فالمراد بصلاة السحر صلاة التهجد. ويؤيده ما روي عن الأسود ومرة
وما من شيء إلا وهو يسبح لله تلك الساعة، ثم قرأ: ? يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل
سجدا لله وهم داخرون?. رواه الترمذي، والبيهقي في شعب الإيمان.
1185- (20) وعن عائشة، قالت: ((ما ترك رسول الله صلى الله وعليه وسلم

(5/286)


مسروق، قالوا قال عبدالله يعني ابن مسعود ليس شيء يعدل صلاة الليل من صلاة النهار إلا أربعا قبل الظهر الخ، رواه الطبراني في الكبير. قال الهيثمي: وفيه بشير بن الوليد الكندي وثقة جماعة، وفيه كلام، وبقية رجاله رجال الصحيح- انتهى. وهذا في حكم المرفوع. ويستأنس بهذا أن المراد بصلاة السحر في حديث عمر: صلاة الليل. قال بعض المشائخ: السر في هذا أن هذين الوقتين زمان تتنزل الرحمة بعد الزوال، فإنه تفتح أبواب الرحمة والقبول بعد انتصاف النهار كما عرفت، وتنزل الرحمة الإلهية في الليل بعد انتصافه إلى وقت السحر، فلما تناسب الوقتان تناسبت الصلاة الواقعة فيهما، ويكون كل منهما عديل الآخر، ولما كان نزول الرحمة في آخر الليل أظهر وأشهر جعل الصلاة وقت الزوال عديلة وشبيهة به. (وما من شيء إلا وهو يسبح لله تلك الساعة) أي يسبحه تسبيحا خاصا تلك الساعة، فلا ينافي قوله تعالى: ?وإن من شيء إلا يسبح بحمده? [17: 44] المقتضى لكونه كذلك في سائر الأوقات، والتسبيح في الآيتين بلسان القال والحال. (ثم قرأ) أي النبي ? أو عمر، قاله القاري. والظاهر هو الأول. (يتفيؤ) أي يميل. (ظلاله) أي ظلال كل شيء. (عن اليمين) أريد به الجنس. (والشمائل) جمع شمال، وفيه تفتن أي جانبيها أول النهار وآخره. (سجدا لله) حال أي خاضعين بما يراد منهم. (وهم) أي الظلال. (داخرون) أي صاغرون، نزلوا منزلة العقلاء. وقيل: المراد بقوله هم الخلق المعبر عنه بما منشيء، وفيه تغليب العقلاء. قال الطيبي: ومعنى الآية بتمامها. ?أولم يروا? [16: 48] بالغيبة والخطاب. ? إلى ما خلق الله من شيء? [16: 48] أي من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن أيمانها وشمائلها كيف تنقاد لله تعالى غير ممتنعة عليه فيما سخرها من التفيؤ، والأجرام في أنفسها داخرة أيضا منقاد صاغرة. والشمس وإن كانت أعظم وأعلى منظورا في هذا العالم. إلا أنها عند الزوال يظهر هبوطها وانحطاطها وأنها آيلة إلى الفناء

(5/287)


والذهاب، فأشار عليه السلام إلى أن المصلي حينئذ موافق لسائر الكائنات في الخضوع لخالقها، فهو وقت خضوع وافتقار، فساوى وقت السحر الذي هو وقت تجلي الحق ومحل الاستغفار. (رواه الترمذي) في تفسير سورة النحل، وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن عاصم عن يحيى البكاء عن عبدالله بن عمر. وعلي بن عاصم هذا. قال الحافظ: صدوق يخطىء ويصر، ويحيى البكاء بتشديد الكاف ضعيف.
1185- قوله: (ما ترك رسول الله ? ) أي من الوقت الذي شغل فيه عن الركعتين بعد الظهر فصلاهما
ركعتين بعد العصر عندي قط)). متفق عليه. وفي رواية للبخاري، قالت: ((والذي ذهب به ما
تركهما حتى لقي الله)).

(5/288)


بعد العصر، ولم ترد أنه كان يصلي بعد ركعتين من أول ما فرضت الصلوات مثلا إلى أخر عمره. وقال النووي: تعني بعد وفود قوم عبد القيس. (ركعتين عد العصر) أي بعد فرضه قضاء أولا، ثم استمرار ثانيا. (عندي)" أي في بيتي. (قط) أي أبدا. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي والبيهقي. (وفي رواية للبخاري) ذكرها في باب ما يصلي بعد العصر من الفوائت ونحوها. (قالت) عائشة. (والذي) قسم. (ذهب به) أي توفاه تعني رسول الله ?. (ما تركهما) أي الركعتين بعد صلاة العصر. (حتى لقي الله) عزوجل، زاد البخاري في هذه الرواية: وكان النبي ? لا يصليهما في المسجد مخافة أن يثقل على أمته، وكان يحب ما يخفف عنهم. وفي رواية لمسلم: صلاتان ما تركهما رسول الله ? في بيتي قط سرا ولا علانية، ركعتين قبل الفجر وركعتين بعد العصر، وفي رواية للبخاري: ما كان النبي ? يأتيني في يوم بعد العصر إلا صلى ركعتين. قيل: هاتان ركعتان ركعتا سنة الظهر البعدية، فاتتا منه? بسبب وفد عبد القيس، فقضاهما بعد العصر، كما تقدم من حديث أم سلمة، ثم داوم عليهما. وروي: أنه أتاه مال فشغله عن الركعتين بعد الظهر فصلاهما بعد العصر. وقيل: هما سنة العصر القبلية، فقد روى مسلم عن أبي سلمة أنه سأل عائشة عن السجدتين اللتين كان رسول الله ? يصليهما بعد العصر، فقالت: كان يصليهما قبل العصر ثم أنه شغل عنهما أو نسيهما، فصلاهما بعد العصر ثم أثبتهما، وكان إذا صلى صلاة أثبتها، تعني دوامها ثم إن هذه الأحاديث يعارضها ما روى النسائي عن أم سلمة أن رسول الله ? صلى في بيتها بعد العصر ركعتين مرة واحدة- الحديث. وفي رواية له عنها: لم أره يصليهما قبل ولا بعد، وما روى الترمذي عن ابن عباس قال: إنما صلى النبي ? الركعتين بعد العصر، لأنه أتاه مال فشغله عن الركعتين بعد الظهر، فصلاهما بعد العصر، ثم لم يعد لهما. قال الترمذي: حديث حسن فيحمل النفي على علم الراوي، فإنه لم

(5/289)


يطلع على ذلك، والمثبت مقدم على النافي. قال الحافظ: يجمع بين الحديثين بأنه ? لم يكن يصليهما إلا في بيته، فلذلك لم يره ابن عباس ولا أم سلمة. ويشير إلى ذلك قول عائشة: وكان لا يصليهما في المسجد مخافة أن تثقل على أمته- انتهى. وقال الشوكاني: قد جمع بين رواية النفي ورواية الإثبات بحمل النفي في المسجد، أي لم يفعلهما في المسجد، والإثبات على البيت. وقد تمسك بحديث عائشة من أجاز قضاء النفل بعد العصر. وأجاب المانعون بأنها من الخصائص. وأجيب بأن الذي اختص به ? المداومة على ذلك لا أصل القضاء. والجمع بين هذا وحديث النهي عن الصلاة بعد العصر، أن ذلك فيما لا سبب له، وهذا سببه قضاء فائتة الظهر كما أمر آنفا. وقد سبق الكلام في هذا مفصلا في باب أوقات النهي.
1186- (21) وعن المختار بن فلفل، قال: سألت أنس بن مالك عن التطوع بعد العصر، فقال:
كان عمر يضرب الأيدي على صلاة بعد العصر.

(5/290)


1186- قوله: (وعن المختار بن فلفل) بفائين مضمومتين ولامين، الأولى ساكنة، المخزومي مولى عمرو بن حريث. وثقه أحمد وابن معين وأبوحاتم والعجلي والنسائي ويعقوب بن سفيان. وقال أبوداود: ليس به بأس. وقال أبوبكر البزار: صالح الحديث، وقد احتمله حديثه. (كان عمر يضرب الأيدي) أي أيدي من عقد الصلاة وأحرم بالتكبير. (على صلاة) أي نافلة. (بعد العصر) أي يمنعهم من التطوع بعد فرض العصر، وضرب عمر الناس على الصلاة بعد العصر ثابت في عدة أحاديث: منها ما رواه البيهقي والإسماعيلي عن أيمن أنه دخل على عائشة، فسألها عن الركعتين بعد العصر، فقالت: والذي ذهب بنفسه، تعني رسول الله ? ، ما تركهما حتى لقي الله، فقال لها أيمن إن عمر كان ينهى عنهما ويضرب عليهما، فقالت: صدقت، ولكن كان النبي ? يصليهما. ومنها ما رواه البخاري في باب إذا كلم وهو يصلي آخر أبواب الصلاة من حديث كريب: أن ابن عباس والمسور بن مخرمة وعبدالرحمن بن أزهر أرسلوه إلى عائشة. فقالوا اقرأ عليها السلام منا جميعا، وسلها عن الركعتين بعد صلاة العصر، وقل لها :إنا أخبرنا أنك تصليهما، وقد بلغنا أن النبي ? نهى عنهما. وقال ابن عباس: قد كنت أضرب الناس مع عمر عليهما- الحديث. ومنها ما رواه مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد أنه رأى عمر بن الخطاب يضرب المنكدر في الصلاة بعد العصر. ومنها ما روى ابن أبي شيبة عن عبدالله بن شقيق قال: رأيت عمر أبصر رجلا يصلي بعد العصر، فضرب حتى سقط وراءه. وقد استدل بهذه الآثار من منع التنفل بعد العصر مطلقا، لكن في الاستدلال بها على ذلك نظر، لأنه يحتمل أن عمر كان يرى أن النهي عن الصلاة بعد العصر إنما هو خشية إيقاع الصلاة عند الغروب الشمس لا مطلقا. قال الحافظ: روى عبدالرزاق من حديث زيد بن خالد سبب ضرب عمر الناس على ذلك، فقال عن زيد بن خالد أن عمر رآه، وهو خليفة، ركع بعد العصر فضربه، فذكر الحديث، وفيه فقال عمر: يا زيد لو لا أني أخشى

(5/291)


أن يتخذهما الناس سلما إلى الصلاة حتى الليل لم أضرب فيهما. ولعل عمر كان يري أن النهي عن الصلاة بعد العصر إنما هو خشية إيقاع الصلاة عند الغروب الشمس. وهذا يوافق قول ابن عمر: أصلي كما رأيت أصحابي يصلون لا أنهى أحدا يصلي بليل أو نهار وما شاء غير أن لا تحروا طلوع الشمس ولا غروبها. ويوافق ما نقلناه عن ابن المنذر وغيره من أنه لا تكره الصلاة بعد الصبح ولا بعد العصر إلا لمن قصد بصلاته طلوع الشمس وغروبها. وقد روى يحيى بن بكير عن الليث عن أبي الأسود عن عروة عن تميم الداري نحو رواية زيد بن خالد وجواب عمر له، وفيه: ولكني أخاف أن يأتي بعدكم قوم يصلون ما بين العصر إلى المغرب حتى يمروا بالساعة التي نهى رسول الله ? أن يصلى
وكنا نصلي على عهد رسول الله ? ركعتين بعد الغروب الشمس قبل صلاة المغرب، فقلت له: أكان رسول الله ? يصليهما؟ قال: يرانا نصليهما فلم يأمرنا ولم ينهنا)). رواه مسلم.
1187- (22) وعن أنس، قال: ((كنا بالمدينة، فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب، ابتدروا السواري،
فركعوا ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد، فيحسب أن الصلاة قد صليت
من كثرة من يصليهما)).

(5/292)


فيها وهذا أيضا يدل لما قلناه- انتهى كلام الحافظ. (فقلت) قول المختار بن فلفل الراوي (له) أي لأنس. (أكان رسول الله ? يصليهما) كذا في جميع النسخ الموجودة، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص23) ولفظ مسلم: صلاهما أي بصيغة الماضي، وكذا نقله المجد بن تيمية في المنتقى. ولفظ أبي داود: أراكم رسول الله ?. (قال) أنس. (كان يرانا نصليهما فلم يأمرنا ولم ينهنا) قال الطيبي: أي لم يأمر من لم يصل ولم ينه من صلى- انتهى. قلت: وتقريره ? لمن يراه يصلي في ذلك الوقت يدل على عدم كراهة الصلاة فيه ولاسيما والفاعل لعله لذلك عدد كثير من الصحابة، وقد ثبت أمره بذلك، لكن لا على سبيل الوجوب، بل على طريق الندب والاستحباب، كما تقدم في شرح حديث عبدالله بن مغفل في الفصل الأول. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أبوداود والبيهقي (ج2 ص475).

(5/293)


1187- قوله: (ابتدروا) أي ناس من الصحابة. (السواري) بتخفيف الياء، جمع سارية، وهي الأسطوانة، أي تسارعوا، واستبقوا إلى الأسطوانات للاستتار بها ممن يمر بين أيديهم لكونهم يصلون فرادى. والمعنى وقف كل من سبق خلف الأسطوانة. (حتى إن الرجل الغريب) بكسر همزة إن، وجوز فتحها. والغريب الأجنبي البعيد عن وطنه. قال ابن حجر: حتى عاطفة لما بعدها على جملة ابتدروا. (فيحسب) بكسر السين وفتحها أي فيظن. (أن الصلاة) أي التي هي فرض المغرب. (قد صليت من كثرة من يصليهما) أي الركعتين. والحديث رواه البخاري في باب كم بين الأذان والإقامة من طريق عمرو بن عامر الأنصاري عن أنس. قال: كان المؤذن إذا أذن قام ناس من أصحاب النبي ? يبتدرون السواري حتى يخرج النبي ?، وهم كذلك يصلون ركعتين قبل المغرب، ورواه في باب الصلاة إلى الأسطوانة بلفظ قال: لقد رأيت كبار أصحاب رسول الله ? يبتدرون السواري عند المغرب. قال القرطبي: ظاهر حديث أنس أن الركعتين بعد أذان المغرب وقبل صلاة المغرب كان أمرا قرر النبي ? أصحابه عليه، وعملوا به حتى كانوا يستبقون إليه. وهذا يدل على الاستحباب. وكان أصله قوله ?: بين كل أذانين صلاة. وأما كونه ? لم يصلهما فلا ينفي الاستحباب بل يدل على أنهما
رواه مسلم.
1188- (23) وعن مرثد بن عبدالله، قال: ((أتيت عقبة الجهني، فقلت: ألا أعجبك من أبي تميم
يركع ركعتين قبل صلاة المغرب؟ فقال عقبة: إنا كنا نفعله على عهد رسول الله ?. قلت:
فما يمنك الآن؟ قال: الشغل)). رواه البخاري.

(5/294)


ليستا من الرواتب. وإلى استحبابهما ذهب أحمد وإسحاق وأصحاب الحديث، كذا في الفتح. قلت: قد ثبت فعله ? من حديث عبدالله بن مغفل عند ابن حبان في صحيحه، كما في نصب الراية (ج2 ص141). وعلى هذا فلا شك في كون الركعتين بعد غروب الشمس وقبل صلاة المغرب مستحبا، لأنه ثبت عن النبي ? فعلا وأمرا وتقريرا. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا البخاري، وتقدم لفظه، وأحمد والنسائي والبيهقي (ج2 ص475).
1188- قوله: (وعن مرثد) بميم مفتوحة وراء ساكنة بعدها مثلثة مفتوحة. (بن عبدالله) اليزني بفتح التحتية والزاي بعدها نون، نسبة إلى يزن، بطن من حمير أبي الخير، المصري، ثقة فقيه. قال في تهذيب التهذيب: كان لا يفارق عقبة بن عامر الجهني، وكان مفتي أهل مصر في زمانه. قال العجلي: مصري تابعي ثقه. وقال ابن سعد: كان ثقة وله فضل وعبادة. وقال ابن شاهين في الثقات: كان عند أهل مصر مثل علقمة عند أهل الكوفة، وكان رجل صدق. ووثقه يعقوب بن سفيان. (أتيت عقبة) بضم العين ابن عامر وإلى مصر. (الجهني) بضم الجيم نسبة إلى جهنية قبيلة. (ألا أعجبك) بضم الهمزة وسكون المهملة. وفي رواية بفتح العين وتشديد الجيم، أي ألا أوقعك في التعجب. (من أبي تميم) بفتح المثناة الفوقية، هو عبدالله بن مالك الجيشاني بفتح الجيم وسكون التحتانية بعدها معجمة المصري، مشهور بكنيته، أصله من اليمن تابعي كبير ثقة مخضرم، أسلم في عهد النبي ?، وقرأ على معاذ بن جبل باليمن، ثم قدم في زمن عمر، فشهد فتح مصر وسكنها. قال ابن يونس: وقد عده جماعة في الصحابة لهذا الإدراك، مات سنة سبع وسبعين. (يركع) أي يصلي. (ركعتين) زاد أحمد والإسماعيلي حين يسمع أذان المغرب. (إنا) أي معشر الصحابة. (كنا نفعله على عهد رسول الله ? ) أي في زمانه وبحضرته، كما تقدم في حديث أنس. (فما يمنعك الآن) أي من صلاتهما. (قال الشغل) بضم الشين وسكون الغين وضمها وهو ضد الفراغ، والحديث دليل على مشروعية صلاة الركعتين قبل

(5/295)


المغرب. وفيه رد على قول القاضي أبي بكر بن العربي: لم يفعلهما أحد بعد الصحابة، لأن أبا تميم تابعي، وقد فعلهما، قاله الحافظ. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا أحمد (ج4 ص155) والبيهقي (ج2 ص475).
1189- (24) وعن كعب بن عجرة، قال: ((إن النبي ? أتى مسجد بنى عبدالأشهل، فصلى فيه
المغرب، فلما قضوا صلاتهم رآهم يسبحون بعدها، فقال: هذه صلاة البيوت)). رواه أبو
داود. وفي رواية الترمذي، والنسائي، ((قام الناس يتنفلون، فقال النبي ?: عليكم بهذه
الصلاة في البيوت)).

(5/296)


1189- قوله: (أتى مسجد بني عبدالأشهل) هم من أنصار الأوس. وعبد الأشهل هو ابن جشم بن الحارث بن الخزرج الأصغر ابن عمرو بن مالك بن الأوس بن حارثة. (فصلى فيه المغرب) أي فرضه. (رآهم يسبحون) أي يصلون نافلة بدليل الرواية الآتية. (بعدها) أي بعد صلاة المغرب. (فقال) رسول الله ? (هذه) أي الصلاة بعد المغرب أو النافلة مطلقا، والأول أقرب. ويلزم منه أن يكون للصلاة التي بعد المغرب زيادة اختصاص بالبيت فوق اختصاص مطلق النافلة به والله تعالى أعلم، قاله السندي: (صلاة البيوت) أي الأفضل أن يصلى بها في البيوت، لأنها أبعد من الرياء، وأقرب إلى الإخلاص لله تعالى. قال القاري: والظاهر أن هذا إنما هو لمن يريد الرجوع إلى بيته بخلاف المعتكف في المسجد، فإنه يصليها فيه، ولا كراهة بالاتفاق. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا الترمذي والنسائي كما صرح به المصنف فيما بعد، والبيهقي (ج2 ص189) وفي سنده إسحاق بن كعب بن عجرة. قال الذهبي في الميزان: إسحاق بن كعب تابعي مستور، تفرد بحديث سنة المغرب، وهو غريب جدا- انتهى. وقال الحافظ في التقريب: مجهول الحال، قتل يوم الحرة سنة 63. وذكره ابن حبان في الثقات. والحديث قد أعله الترمذي بما تقدم من حديث ابن عمر ثاني أحاديث الفصل الأول فقال: والصحيح ما روي عن ابن عمر قال: كان النبي ? يصلي الركعتين بعد المغرب في بيته، وفيه أن هذا تعليل غير جيد، لأن الحديث الفعلي المؤيد للقولي لا يكون علة له، مع أن له شاهدا بإسناده جيد حسن رواه أحمد في المسند (ج5 ص427) من حديث محمود بن لبيد أخي بنى عبدالأشهل، قال: أتانا رسول الله ? فصلى بنا المغرب في مسجدنا، فلما سلم قال: اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم للسبحة يعني بعد المغرب، ذكره الهيثمي، وقال رجاله ثقات، ورواه أحمد مرة أخرى في الصفحة بعدها، ثم قال ابنه عبدالله قلت لأبي: إن رجلا قال من صلى ركعتين بعد المغرب في المسجد لم تجزه إلا أن يصليهما في بيته،

(5/297)


لأن النبي ? قال: إن هذه من صلوات البيوت، قال: من هذا؟ قلت: محمد بن عبدالرحمن. (ابن أبي ليلى)، قال: ما أحسن ما قال، أو ما أحسن ما انتزع- انتهى. قلت: الأمر في حديث محمود بن لبيد هذا محمول على الندب جمعا بينه وبين الأحاديث التي تدل على صلاته ? بعد المغرب في المسجد كحديث ابن عباس الآتي وغيره مما ذكرنا في شرح حديث ابن عمر. (عليكم بهذه الصلاة في بيوت) إرشاد لما هو الأفضل والأولى.
1190- (25) وعن ابن عباس، قال: ((كان رسول الله ? يطيل القراءة في الركعتين بعد المغرب، حتى يتفرق أهل المسجد)). رواه أبوداود.
1191- (26) وعن مكحول يبلغ به، ((أن رسول الله ?، قال: من صلى بعد المغرب قبل أن يتكلم ركعتين)) ـ وفي رواية ـ. ((أربع ركعات))،

(5/298)


1190- قوله: (كان رسول الله ? يطيل القراءة في الركعتين بعد المغرب) أي أحيانا لما تقدم في باب القراءة من حديث ابن مسعود أنه كان يقرأ فيهما الكافرون والإخلاص. (حتى يتفرق أهل المسجد) ظاهره أنه كان يصليهما في المسجد، فيحمل على أن فعلهما فيه لعذر منعه من دخول البيت. والأظهر أنه يحمل على بيان الجواز. قال محمد بن نصر: لعله أن يكون قد فعل هذا مرة. وقيل: يحمل على وقت الاعتكاف. وقيل: يحتمل أنه كان يفعلهما في البيت، وإن ابن عباس علم بذلك، لأن بيته ? كان متصلا بالمسجد، ولم يكن بينهما إلا جدار، وكان في الجدار باب إلى المسجد. (رواه أبوداود) وسكت نه، وأخرجه أيضا محمد بن نصر في قيام الليل والبيهقي (ج2 ص190) وفي سنده يعقوب بن عبدالله الأشعري أبوالحسن القمي بضم القاف وتشديد الميم. قال النسائي: ليس به بأس. وقال أبوالقاسم الطبراني: كان ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الدارقطني:ليس بالقوي. مات سنة أربع وسبعين ومائة. كذا في تهذيب التهذيب. وقال في التقريب: صدوق يهم. خرج له البخاري تعليقا في الطب. وروى الطبراني في الكبير عن ابن عباس أن النبي ? كان يصلي بعد المغرب ركعتين يطيل فيهما القراءة حتى يتصدع أهل المسجد، ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص230)، وقال: فيه يحيى بن عبدالحميد الحماني، وهو ضعيف.

(5/299)


1191- قوله: (وعن مكحول) الشامي الدمشقي أبي عبدالله التابعي المشهور. (يبلغ به) الباء للتعدية أي يبلغ بالحديث إلى النبي ?، ويرفعه إليه. فالحديث مرسل، لأن مكحولا تابعي، وأسقط من السند ذكر الواسطة بينه وبين رسول الله ?. وذكره محمد بن نصر في قيام الليل بلفظك عن مكحول أنه بلغه. (أن رسول الله ? قال من صلى بعد المغرب) أي فرضه. (قبل أن يتكلم) أي بكلام الدنيا. (ركعتين) الظاهر أنهما سنة صلاة المغرب البعدية. (وفي رواية أربع ركعات) ركعتان منها سنتها البعدية، وركعتان من سنة وقت الغفلة، فقد روى الطبراني في الكبير عن الأسود بن يزيد، قال قال عبدالله بن مسعود: نعم ساعة الغفلة، يعني الصلاة فيما بين المغرب والعشاء. قال الهيثمي: فيه جابر الجعفي، وفيه كلام كثير، وعن عبدالرحمن بن يزيد قال: ساعة ما أتيت عبدالله بن مسعود فيها إلا وجدته يصلي ما بين المغرب والعشاء، فسألت عبدالله. (عن ذلك)
رفعت صلاته في عليين))، مرسلا.
1192- (27) وعن حذيفة نحوه، وزاد: فكان يقول: ((عجلوا الركعتين بعد المغرب، فإنها ترفعان
مع المكتوبة)). رواهما رزين،

(5/300)


فقال: إنها ساعة غفلة. قال الهيثمي: وفيه ليث بن أبي سليم، وفيه كلام. وتسمية الصلاة بين العشائين صلاة الغفلة اصطلاح للشافعية سموها في كتبهم أخذا من قول ابن مسعود. قال القاري: والأولى أن يسمى الصلاة ما بين المغرب والعشاء صلاة الأوابين، فقد روى محمد بن نصر عن محمد بن المنكدر مرسلا أن النبي ? قال: من صلى ما بين المغرب والعشاء فإنها من صلاة الأوابين. وهذا لا يعارض ما روي من قوله ?: صلاة الأوابين حين ترمض الفصال، فإنه لا مانع أن يكون كل من الصلاتين صلاة الأوابين. (رفعت صلاته) أي نافلته أو مع فريضته. (في عليين) كناية عن غاية قبولها. وعظيم ثوابها. وعليون جمع علي اسم لمقام في السماء السابعة، تصعد إليه أعمال الصالحين وأرواحهم. والحديث يدل على استحباب تعجيل الركعتين الراتبتين بعد المغرب. ويدل عليه أيضا حديث حذيفة الآتي، وهو الذي فهمه محمد بن نصر حيث بوب عليه: باب تعجيل الركعتين بعد المغرب. (مرسلا) أي يبلغ به حال كون الحديث مرسلا، لأن مكحولا تابعي قال ابن حجر: والإرسال هنا لا يضر، لأن المرسل كالضعيف الذي لم يشتد ضعفه، يعمل بهما في فضائل الأعمال- انتهى.

(5/301)


1192- قوله: (وعن حذيفة) أي مروي عنه. (نحوه) أي نحو حديث مكحول بمعناه دون لفظه. (وزاد) أي حذيفة. (فكان يقول) أي النبي ? : (عجلوا الركعتين بعد المغرب) أي بالمبادرة إليهما. وقيل: بالتخفيف فيهما. وقيل: لا منع من الجمع. والمراد بهما سنته بلا خلاف. (فإنهما ترفعان مع المكتوبة) فإن السنة تابعة للفرض ومكملة له وقت العرض. (رواهما رزين) نقل المنذري في الترغيب حديث مكحول وقال: ذكره رزين ولم أره في الأصول- انتهى. قلت: الحديثان أخرجهما محمد بن نصر في باب تعجيل الركعتين بعد المغرب من كتابه قيام الليل، قال: حدثنا إسحاق أخبرنا بقية حدثني زيد العمى عن أبي العالية عن حذيفة عن النبي ? ، قال: عجلوا الركعتين بعد المغرب، فإنهما ترفعان مع المكتوبة، قال محمد بن نصر: هذا حديث ليس بثابت، وقد روي عن حذيفة من طريق آخر خلاف هذا عن حذيفة، قال: كانوا يحبون تأخير الركعتين بعد المغرب حتى كان بعض الناس تفاجئهم الصلاة ولم يصلوهما، فعجلهما الناس، وهذا أيضا ليس بثابت، قال: وحدثنا محمد بن يحيى أخبرنا أبوصالح حدثني الليث حدثني يحيى بن عبدالله بن سالم بن عبدالله بن عمر عن عمر بن عبدالعزيز عن مكحول أنه حدثه أنه بلغه أن رسول الله ? قال: من صلى بعد المغرب ركعتين قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليين- انتهى. وروى الديلمي في مسند الفردوس عن ابن عباس مرفوعا: من صلى أربع
وروى البيهقي الزيادة عنه نحوها في شعب الإيمان.
1193- (28) وعن عمر بن عطاء قال: ((إن نافع بن جبير أرسله إلى السائب يسأله عن شيء رآه
منه معاوية في الصلاة. فقال: نعم، صليت معه الجمعة في المقصورة، فلما سلم الإمام قمت
في مقامي، فصليت، فلما دخل أرسل إلي،

(5/302)


ركعات بعد المغرب قبل أن يتكلم رفعت له في عليين، وكان كمن أدرك ليلة القدر في المسجد الأقصى، وهي خير من قيام نصف الليلة. قال العراقي: وفي إسناده جهالة ونكارة، وهو أيضا من رواية عبدالله بن أبي سعيد، فإن كان الذي يروي الحسن ويروي عنه يزيد بن هارون فقد جهله أبوحاتم، وذكره ابن حبان في الثقات، وإن كان أبا سعيد المقبري فهو ضعيف، قاله الشوكاني. (وروى البيهقي الزيادة) أي المذكورة. (عنه) أي حذيفة. (نحوها) بدل أي روى نحو زيادة رزين عنه. (في شعب الإيمان) فتتقوى بذلك رواية رزين، قاله ابن حجر. قلت: وقد تقدم أنه روى الحديثين محمد بن نصر، وقال: حديث حذيفة غير ثابت، وسكت عن مرسل مكحول.

(5/303)


1193- قوله: (وعن عمر) بضم العين. (بن عطاء) بن أبي الخوار بضم المعجمة وتخفيف الواو المكي مولى بنى عامر تابعي ثقة. ووقع في النسخ الحاضرة عندنا عمرو أي بفتح أوله، وهو غلط. (أن نافع بن جبير) بضم الجيم مصغرا ابن مطعم النوفلي المدني أبومحمد، ويقال أبوعبدالله ثقة فاضل من الطبقة الوسطى من التابعين، مات سنة تسع وتسعين. (أرسله) أي عمر بن عطاء. (إلى السائب) بن يزيد ابن أخت نمر الصحابي رضي الله عنه. (يسأله) أي يسأل عمر بن عطاء السائب. ( عن أي شيء رآه) أي ذلك الشيء. (منه) أي من السائب. (فقال) أي السائب. (نعم) قال الطيبي: "نعم" حرف إيجاب وتقرير لما سأله نافع من قوله: هل رآى منك معاوية شيئا في الصلاة فأنكر عليك، والمذكور معناه (صليت معه) أي مع معاوية. (الجمعة في المقصورة) أي في مقصورة المسجد. قال القاري: موضع معين في الجامع مقصور للسلاطين. قال النووي: فيه دليل على جواز اتخاذها في المسجد إذا رآها ولي الأمر مصلحة، قالوا: وأول من عملها معاوية بن أبي سفيان حين ضربه الخارجي. قال القاضي: واختلفوا في المقصورة، فأجازها كثيرون من السلف وصلوا فيها، منهم الحسن والقاسم بن محمد وسالم وغيرهم، وكرهها ابن عمرو الشعبي وإسحاق وأحمد، وكان ابن عمر إذا حضرت الصلاة، وهو في المقصورة خرج منها إلى المسجد. قال القاضي: وقيل إنما يصح فيها الجمعة إذا كانت مباحة لكل أحد، فإن كانت مخصوصة ببعض الناس ممنوعة عن غيرهم لم تصح فيها الجمعة لخروجها عن الحكم الجامع. (فلما سلم الإمام) أي خرج عن صلاة الجمعة بالسلام. (قمت في مقامي) أي الذي صليت فيه الجمعة. (فصليت) فيه سنة الجمعة. (فلما دخل) أي معاوية بيته. (أرسل إلي) رجلا
فقال: لا تعد لما فعلت، إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تكلم أو تخرج، فإن رسول الله ? أمرنا بذلك أن لا نوصل بصلاة حتى نتكلم أو نخرج)). رواه مسلم.

(5/304)


1194- (29) وعن عطاء، قال: ((كان ابن عمر إذا صلى الجمعة بمكة تقدم فصلى ركعتين، ثم يتقدم فيصلي أربعا. وإذا كان في المدينة صلى الجمعة، ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين، ولم يصل في المسجد. فقيل له، فقال: كان رسول الله ? يفعله)).
يدعوني فحضرته (فقال لا تعد) من العود. (لما فعلت) من إتيان السنة في مكان فعل الجمعة بلا فصل، أي لا تفعل ذلك مرة أخرى بل. (إذا صليت الجمعة) وفرغت منها. ذكر الجمعة على سبيل المثال، وإلا فالحكم غيرها من الصلاة كذلك كما تقدم. (فلا تصلها) بفتح فكسر وسكون اللام من الوصل أي لا توصلها. (بصلاة) أخرى نافلة أو قضاء. (حتى تكلم) بحذف إحدى التائين أي تتكلم. (أو تخرج) أي من المقام الذي صليت فيه الجمعة. قال القاري: تخرج أي حقيقة أو حكما بأن تتأخر عن ذلك المكان. (أمرنا بذلك) أي بما تقدم وبيانه. (أن لا نوصل بصلاة) كذا في جميع النسخ الحاضرة. ووقع في صحيح مسلم: أن لا نوصل صلاة بصلاة. وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص30) عن مسلم. وفي أبي داود: أن لا توصل صلاة بصلاة. (حتى نتكلم أو نخرج) فيه دليل على أن النافلة الراتبة وغيرها يستحب أن يتحول لها عن موضع الفريضة إلى موضع آخر، وأفضله التحول إلى بيته، وإلا فموضع آخر من المسجد أو غيره ليكثر مواضع سجوده، ولتنفصل صورة النافلة عن صورة الفريضة. وقوله: "حتى نتكلم" دليل على أن الفصل بينهما يحصل بالكلام أيضا، ولكن بالانتقال أفضل لما ذكر، قاله النووي. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أبوداود والبيهقي (ج2 ص191، ج3ص240).

(5/305)


1194- قوله: (عن عطاء) أي ابن أبي رباح. (كان ابن عمر إذا صلى الجمعة بمكة تقدم) أي من مكان صلى فيه، فيكون هذا التقدم بمنزلة الخروج المذكور في حديث معاوية المتقدم. (ثم يتقدم) أي من المكان الذي صلى فيه ركعتي السنة. (فيصلي أربعا) كذا في جميع النسخ الحاضرة، ثم يتقدم فيصلي، أي بلفظ المضارع، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص29). وفي سنن أبي داود: ثم تقدم فصلى أي بلفظ الماضي. وفعل ابن عمر هذا يؤيد قول أبي يوسف: أن سنة الجمعة ست، لكنه يقول إن تقديم الأربع أولى. (فصلى ركعتين) أي في بيته. (ولم يصل في المسجد) هذا تصريح بما علم ضمنا. (فقيل له) أي سئل عن سبب ذلك. (كان رسول الله ? يفعله) يعني وأنا أفعله تبعا له. وظاهر هذا يدل على أنه ? كان يفرق بين الحرمين، فإذا كان بمكة صلى في المسجد بعد الجمعة ست ركعات، وإذا كان بالمدينة رجع بعد الجمعة إلى بيته ثم صلى فيه ركعتين،
رواه أبوداود. وفي روية الترمذي، قال: رأيت ابن عمر صلى بعد الجمعة ركعتين، ثم صلى بعد ذلك أربعا.
(31) باب صلاة الليل
?الفصل الأول?
1195- (1) عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((كان النبي ? يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر

(5/306)


ولم يصل في المسجد، لكن قال العراقي: ليس في ذلك، أي في حديث ابن عمر هذا علم ولا ظن أنه ?كان يفعل بمكة ذلك، وإنما أراد ابن عمر رفع فعله بالمدينة فحسب، لأنه لم يصح أنه صلى الجمعة بمكة، قال: والذي صح من فعله هو صلاة ركعتين في بيته بعد الجمعة. قلت: لا شك أن الست لم تثبت عنه ? بحديث صحيح صريح، نعم ثبتت عن ابن عمر من فعله، وروي عن علي أنه أمر بها. قال الشوكاني: اختلف هل الأفضل فعل سنة الجمعة في البيت أو في المسجد؟ فذهب إلى الأول الشافعي ومالك وأحمد وغيرهم، واستدلوا بقوله ? في الحديث الصحيح: أفضل صلاة المرء في بيته إلا مكتوبة. وأما صلاة ابن عمر في مسجد مكة فقيل لعله كان يريد التأخر في مسجد مكة للطواف بالبيت، فيكره أن يفوته بمضيه إلى منزله لصلاة سنة الجمعة، أو أنه يشق عليه الذهاب إلى منزله ثم الرجوع إلى المسجد للطواف، أو أنه كان يرى النوافل تضاعف بمسجد مكة دون بقية مكة، أو كان له أمر متعلق به- انتهى. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا البيهقي (ج3 ص240- 241) وسكت عنه أبوداود والمنذري. وقال العراقي: إسناده صحيح. (وفي رواية الترمذي) المختصرة. (قال) أي عطاء بن أبي رباح. (ثم صلى بعد ذلك) أي بعدما ذكر من الركعتين. (أربع) أي صلى ست ركعات. وأخرج أبوداود هذه الرواية المختصرة بلفظ: أي عطاء رأى ابن عمر يصلي بعد الجمعة فينماز عن مصلاه الذي صلى فيه الجمعة قليلا غير كثير قال: فيركع ركعتين، قال: ثم يمشي أنفس من ذلك فيركع أربع ركعات. قلت: لعطاء كم رأيت ابن عمر يصنع ذلك؟ قال مرارا- انتهى. وأخرجه أيضا الطحاوي، هذا ولم يذكر البغوي ولا المصنف حديثا ولا أثرا في التطوع والسنة قيل الجمعة. وسيأتي الكلام عليه في شرح حديث سلمان وأبي هريرة من باب التنظيف والتبكير من أبواب الجمعة.

(5/307)


(باب صلاة الليل) قال القاري: أي في قيام الليل من التهجد وغيره- انتهى. واعلم أن صلاة الليل وقيام الليل وصلاة التهجد عبارة عن شيء واحد، واسم لصلاة يبتدأ وقتها من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، فلا فرق بين الألفاظ الثلاثة شرعا. وقيل: صلاة التهجد مختصة بما يكون في آخر الليل بعد النوم. والظاهر هو الأول قال ابن الفارس: المتهجد المصلي ليلا. وقال كراع: التهجد صلاة الليل خاصة.
1195- قوله: (يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر) هذا بظاهره يشمل ما إذا كان بعد
إحدى عشرة ركعة، يسلم من ركعتين، ويوتر بواحدة، فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر،

(5/308)


نوم أم لا. (إحدى عشرة ركعة) أي في غالب أحواله. وقال السندي في حاشية ابن ماجه: قوله إحدى عشرة ركعة وقد جاء ثلاث عشرة ركعة. فيحمل على أن هذا كان أحيانا، أو لعله مبني على عد الركعتين الخفيفتين اللتين يبدأ بهما صلاة الليل من صلاة الليل أحيانا، وتركه أخرى. وعلى كل تقدير فهذه الهيئة لصلاة الليل لا بد من حملها على أنها كانت أحيانا، وإلا فقد جاءت هيئات أخرى في قيام الليل-انتهى. (يسلم من كل ركعتين) فيه أن الأفضل في صلاة الليل أن يسلم من كل ثنتين، ويدل عليه أيضا قوله: صلاة الليل مثنى مثنى. (ويوتر بواحدة) فيه أن أقل الوتر ركعة وأن الركعة الفردة صلاة صحيحة، وهو مذهب الأئمة الثلاثة، وهو الحق. وقال أبوحنيفة: لا يصح الإيتار بواحدة ولا تكون الركعة الواحدة صلاة قط. قال النووي: والأحاديث الصحيحة ترد عليه. قال الحافظ: حمل الطحاوي هذا ومثله على أن الركعة مضمومة إلى الركعتين قبلها، ولم يتمسك في دعوى ذلك إلا بالنهي عن البتيراء، مع احتمال أن يكون المراد بالبتيراء أن يوتر بواحدة فردة ليس قبلها شيء، وهو أعم من أن يكون مع الوصل أو الفصل- انتهى. قلت: حديث النهي عن البتيراء أخرجه ابن عبدالبر في التمهيد، وفيه عثمان بن محمد بن ربيعة، وهو متكلم فيه. قال ابن القطان: الغالب على حديثه الوهم، مع أن قول عائشة: يسلم من كل ركعتين، ظاهر في الفصل فإنه يدخل في الركعتان اللتان قبل الأخيرة، فهو كالنص في موضع النزاع. (فيسجد سجدة من ذلك) الفاء لتفصيل المجمل يعني فيسجد كل واحدة من سجدات تلك الركعات طويلة. (قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية) وفي رواية للبخاري: كان يصلي إحدى عشرة ركعة كانت تلك صلاته تعني بالليل، فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ الخ. وهي ظاهرة في أن المراد بيان طول سجود ركعات صلاة الليل، لا قدر سجدة منفردة بعد الوتر، كما فهم النسائي وغيره. وفي رواية أخرى للبخاري: يسجد السجدة من ذلك أي بغير الفاء. قال

(5/309)


القسطلاني: الألف واللام لتعريف الجنس. فيشمل سجود لإحدى عشرة، والتاء فيه لا تنافي ذلك. والتقدير يسجد سجدات تلك الركعات طويلة قدر ما، أي بقدر ما، ويصح جعله صفا لمصدر محذوف، أي سجودا قدر ما، أو يمكث مكثا قدر ما. (قبل أن يرفع رأسه) من السجدة أي قبل إتمام السجود، وكان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، كما تقدم في باب الركوع من حديث عائشة، وعنها كان ? يقول في صلاة الليل في سجوده: سبحانك لا إله إلا أنت. رواه أحمد في مسنده بإسناد رجاله ثقات. والحديث فيه دليل على استحباب تطويل السجود في قيام الليل، وقد بوب عليه البخاري باب طول السجود في قيام الليل. (فإذا سكت) بالتاء الفوقية. (المؤذن) أي فرغ. (من صلاة الفجر) أي من أذانها. (وتبين له الفجر) أي ظهر وانتشر. قال الطيبي: يدل على أن التبين لم يكن
قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة، فيخرج.
متفق عليه.
1196- (2) وعنها، قالت: ((كان النبي ? إذا صلى ركعتى الفجر، فإن كنت مستيقظة حدثني

(5/310)


في الأذان، وإلا لما كان لذكر التبين فائدة. (قام فركع ركعتين) هما سنة الفجر. (خفيفتين) يقرأ فيهما الكافرون والإخلاص ونحوهما. (ثم اضطجع) أي في بيته للاستراحة عن تعب قيام الليل ليصلي فرضه على نشاط، أو ليفصل بين الفرض والنفل بالضجعة. واستدل به على استحباب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر في البيت دون المسجد. قال الحافظ: ذهب بعض السلف إلى استحبابها أي الضجعة في البيت دون المسجد، وهو محكي عن ابن عمر، وقواه بعض شيوخنا بأنه لم ينقل عن النبي ? أنه فعله في المسجد، وصح عن ابن عمر أنه كان يحصب من يفعله في المسجد. أخرجه ابن أبي شيبة- انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: حديث أبي هريرة يعني الذي يأتي في آخر الفصل الثاني بلفظ: إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه مطلق، فبإطلاقه يثبت استحباب الاضطجاع في البيت وفي المسجد، فحيث يصلي سنة الفجر يضطجع هناك، إن صلى في البيت فيضطجع في البيت، وإن صلى في المسجد ففي المسجد، وإنما لم ينقل عن النبي ? أنه فعله في المسجد، لأنه ? كان يصلي سنة الفجر في البيت فكان يضطجع في البيت- انتهى. (على شقه) أي جنبه (الأيمن) جريا على عادته الشريفة في حبه التيامن في شأنه كله أو للتشريع، لأن النوم على الأيسر يستلزم استغراق النوم في غيره عليه السلام بخلافه هو، لأن عينه تنام ولا ينام قلبه، فعلى الأيمن أسرع للإنتباه بالنسبة لنا، وهو نوم الصالحين. قال القسطلاني: لا يقال حكمته أن لا يستغرق في النوم، لأن القلب في اليسار، ففي النوم عليه راحة له فيستغرق فيه، لأنا نقول: صح أنه عليه الصلاة والسلام كان تنام عينه ولا ينام قلبه، نعم يجوز أن يكون فعله لإرشاد أمته وتعليمهم. (حتى يأتي المؤذن للإقامة) أي يستأذنه فيها لأنها منوطة بنظر الإمام. (فيخرج) أي للصلاة. (متفق عليه) واللفظ لمسلم إلا قوله: فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، فإن البخاري إنفرد به، وإلا

(5/311)


قوله: يسلم من كل ركعتين، فإن لفظ مسلم يسلم بين كل ركعتين، وإلا قوله: فيخرج فإنه ليس في صحيح مسلم بل ولا في البخاري أيضا، وبهذا تعلم أن السياق الذي ذكره المصنف تبعا للبغوي ليس للبخاري ولا لمسلم، ثم رأيت المرقاة قال فيه متفق عليه أي بمجموع الحديث وإن لم يكن بهذا السياق في حديث واحد، كذا نقله ميرك عن التصحيح والحديث أخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص7، 32).
1196- قوله: (إذا صلى ركعتي الفجر) أي سنته. (فإن كنت مستيقظة حدثني) قال الطيبي: الشرط مع الجزاء جزاء الشرط الأول، ويجوز أن يكون جزاء الشرط الأول محذوفا، والفاء تفصيلية، والمعنى إذا
وإلا اضطجع)). رواه مسلم.

(5/312)


صلاهما أتاني، فإن كنت مستيقظة حدثني ولا تضاد بين هذا وبين ما في سنن أبي داود من طريق مالك عن سالم بن أبي النضر عن أبي سلمة عن عائشة أن كلامه عليه الصلاة والسلام لها كان بعد فراغه من صلاة الليل، وقبل أن يصلي ركعتي الفجر، لاحتمال أن يكون كلامه لها كان قبل ركعتي الفجر وبعدهما. (وإلا) أي وإن لم أكن مستيقظة. (اضطجع) للراحة من تعب القيام أو ليفصل بين الفرض والنفل بالحديث أو الاضطجاع. وظاهره أنه كان يضطجع إذا لم يحدثها، وإذا حدثها لم يضطجع، وإلى هذا جنح البخاري، كما سيأتي. وكذا جنح إليه ابن خزيمة حيث ترجم له الرخصة في ترك الاضطجاع بعد ركعتي الفجر. واستدل به بعضهم على عدم استحباب الضجعة بعد ركعتي الفجر. وأجيب بأنه لا يلزم من كونه ربما تركها عدم الاستحباب، بل يدل تركه لها أحيانا على عدم الوجوب، وأن الأمر بها في حديث أبي هريرة المذكور محمول على الندب والإرشاد، وقد بوب البخاري على حديث عائشة هذا الباب: من تحدث بعد ركعتي الفجر ولم يضطجع. قال الحافظ: أشار بهذه الترجمة إلى أنه ? لم يكن يداوم عليها. وبذلك احتج الأئمة على عدم الوجوب، وحملوا الأمر الوارد بذلك في حديث أبي هريرة على الاستحباب. وفائدة ذلك الراحة والنشاط لصلاة الصبح. وعلى هذا فلا يستحب ذلك إلا للمتهجد. وبه جزم ابن العربي. وقيل: إن فائدتها الفصل بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح. وعلى هذا فلا اختصاص- انتهى. ويدل على عدم الاختصاص حديث أبي هريرة، فإنه مطلق يشمل المتهجد وغيره. فالحق أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر مشروع ومستحب مطلقا. وسيأتي مزيد بحث فيه في شرح حديث أبي هريرة. قال النووي: وفيه أي في تحديثه ? لعائشة بعد ركعتي الفجر دليل على إباحة الكلام بعد سنة الفجر وهو مذهبنا ومذهب مالك والجمهور. وقال القاضي: وكره الكوفيون. وروى عن ابن مسعود وبعض السلف: إنه وقت الاستغفار، والصواب الإباحة لفعل النبي ? ، وكونه وقت استحباب الاستغفار لا يمنع

(5/313)


من الكلام- انتهى. وقال القسطلاني: وفيه أنه لا بأس بالكلام المباح بعد ركعتي الفجر. قال ابن العربي: ليس في السكوت في ذلك الوقت فضل مأثور، إنما ذلك بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس-انتهى. قلت: أثر ابن مسعود رواه الطبراني في الكبير عن عطاء عنه، وكذا روي عن أبي عبيدة عنه، هو منقطع، لأن عطاء وأبا عبيدة لم يسمعا من ابن مسعود، وإن صح فيحمل على أن القوم المتحدثين الذين أنكر عليهم ابن مسعود لعلهم كانوا يتكلمون بما لا يجدي نفعا، فنهاهم عن ذلك. والسكوت عن مثل هذا ليس بمختص بهذا الوقت، وإن لم يحتمل على هذا فالتحديث بالكلام المباح ثابت من الشارع. وكلام الصحابي لا يوازن كلام الشارع. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والبيهقي (ج3 ص45) والبخاري ولفظه عن عائشة: أن النبي ? كان إذا صلى. وفي رواية: كان يصلي ركعتين، فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع حتى يؤذن بالصلاة- انتهى. فكان ينبغي للمصنف أن يقول: متفق عليه، واللفظ لمسلم.
1197- (3) وعنها قالت: ((كان النبي ? إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن)) متفق عليه.

(5/314)


1197- قوله: (إذا صلى ركعتي الفجر) أي سنته. (اضطجع) أي حتى يأتيه المؤذن فإذا أتي خرج إلى الصلاة. (على شقه الأيمن) لأنه كان يحب التيامن في شأنه كله أو تشريع لنا، لأن القلب في جهة اليسار، فلو اضطجع عليه لاستغراق نوما لكونه أبلغ في الراحة بخلاف اليمين فيكون معلقا فلا يستغرق. وهذا بخلافه ? : لأن عينه تنام ولا ينام قلبه. وفيه كالحديثين المتقدمين دليل على استحباب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر. وقد ورد فيه أحاديث أخرى: قال ابن حجر: ومن هذه الأحاديث أخذ الشافعي أنه يندب لكل أحد المتهجد وغيره أن يفصل بين سنة الصبح وفرضه بضجعة على شقه الأيمن، ولا يترك الاضطجاع ما أمكنه، بل في حديث صحيح على شرطهما أنه عليه السلام أمر بذلك وأن المشي إلى المسجد لا يجزىء عنه- انتهى. ويشير بذلك إلى ما روى أبوداود عن أبي هريرة مرفوعا: إذا صلى أحدكم الركعتين قبل الصبح فليضطجع على يمينه، فقال له مروان بن الحكم: أما يجزي أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى يضطجع على يمينه؟ قال: لا- انتهى. ولذلك استحب البغوي في شرح السنة الاضطجاع بخصوصه، واختاره في شرح المهذب. قال الحافظ: وأما إنكار ابن مسعود الاضطجاع، وقول إبراهيم النخعي: هي ضجعة الشيطان، كما أخرجه ابن أبي شيبة، فهو محمول على أنه لم يبلغهما الأمر بفعله. وكلام ابن مسعود يدل على أنه إنما أنكر تحتمه، فإنه قال في آخر كلامه إذا سلم فقد فصل. وكذا ما حكي عن ابن عمر أنه بدعة، فإنه شذ بذلك حتى روى عنه أنه أمر بحصيب من اضطجع. وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن أنه كان لا يعجبه الاضطجاع. وأرجح الأقوال مشروعيته للفصل لكنه بعينه- انتهى. وقال السندي: قد جاء الأمر بهذا الاضطجاع فهو أحسن وأولى. وما ورد من إنكاره عن بعض الفقهاء لا وجه له أصلا، ولعلهم ما بلغهم الحديث، وإلا فما وجه إنكارهم- انتهى. (متفق عليه) لم أجد هذا الحديث بهذا السياق في صحيح مسلم. وقد أخرجه أيضا أحمد وابن ماجه والبيهقي.

(5/315)


واعلم أنه اختلفت أحاديث عائشة في ذكر محل الاضطجاع ففي أحاديثها الثلاثة المتقدمة أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر. وروى مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة الاضطجاع قبلهما. وكذا في حديث ابن عباس الآتي الاضطجاع بعد صلاة الليل، وقبل ركعتي الفجر. وقد أشار القاضي عياض وغيره إلى أن رواية الاضطجاع بعدهما مرجوحة، فتقدم رواية الاضطجاع قبلهما. قال الشوكاني: لا نسلم أرجحية رواية الاضطجاع بعد صلاة الليل، وقبل ركعتي الفجر على رواية الاضطجاع بعدهما، بل رواية الاضطجاع بعدهما أرجح. والحديث من رواية عروة عن عائشة. ورواه عن عروة محمد بن عبدالرحمن يتيم عروة والزهري، ففي رواية محمد بن عبدالرحمن إثبات الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، وهي في صحيح البخاري، ولم تختلف الرواية عنه في ذلك، واختلف الرواة عن الزهري، فقال مالك في أكثر الروايات عنه: إنه كان إذا فرغ من صلاة
1198- (4) وعنها، قالت: ((كان النبي ? يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، منها الوتر، وركعتا الفجر)). رواه مسلم.
1199- (5) وعن مسروق، قال:

(5/316)


الليل اضطجع على شقه الأيمن- الحديث، ولم يذكر الاضطجاع بعد ركعتي الفجر. وقال معمر ويونس وعمرو بن الحارث والأوزاعي وابن أبي ذئب وشعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن عروة عن عائشة: كان إذا طلع الفجر صلى ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن. وهذه الرواية اتفق عليها الشيخان، فرواها البخاري من رواية معمر، ومسلم من رواية يونس بن يزيد وعمرو بن الحارث. قال البيهقي (ج3 ص44) عقب ذكرهما : والعدد أولى بالحفظ من الواحد، قال وقد يحتمل أن يكونا محفوظين، فنقل مالك أحدهما ونقل الباقون الآخر، قال وقد اختلف فيه أيضا على ابن عباس، قال: وقد يحتمل مثل ما احتمل في رواية مالك. وقال النووي: إن حديث عائشة وحديث ابن عباس لا يخالفان حديث أبي هريرة، فإنه لا يلزم من الاضطجاع قبلهما أن لا يضطجع بعدهما، ولعله ? ترك الاضطجاع بعدهما في بعض الأوقات بيانا للجواز، ويحتمل أن يكون المراد بالاضطجاع قبلهما نومه ? بين صلاة الليل وصلاة الفجر، كما ذكره الحافظ- انتهى كلام الشوكاني.

(5/317)


1198- قوله: (كان النبي ? يصلي من الليل) أي في الليل. (ثلاث عشرة) بالبناء على الفتح وسكون شين عشرة، كما أجازه الفراء. (ركعة) يسلم من كل ركعتين، كما تقدم. (منها) أي من ثلاث عشرة. (الوتر) أي ركعة. (وركعتا الفجر) أي سنته وهذا لفظ البخاري من طريق حنظلة عن القاسم بن محمد عن عائشة. وفي رواية مسلم من هذا الوجه: كانت صلاته من الليل عشر ركعات، ويوتر بسجدة، ويركع ركعتي الفجر، فتلك ثلاث عشرة. وهذا كان غالب عادته? ، فقد روى البخاري من رواية أبي سلمة عنها ما يدل على أن ذلك كان أكثر ما يصليه في الليل. ولفظه: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة- الحديث قال ابن الملك: وإنما ألحق الوتر ركعتي الفجر بالتهجد، لأن الظاهر أنه عليه السلام كان يصلي الوتر آخر الليل ويبقى مستيقظا إلى الفجر، ويصلي الركعتين أي سنة الفجر متصلا بتهجده ووتره. (رواه مسلم) قلت: بل متفق عليه، واللفظ للبخاري. ففي قوله: رواه مسلم، نظر ظاهر. وأخرجه أيضا البيهقي (ج3 ص6، 7).
1199- قوله: (عن مسروق) هو ابن الأجدع بن مالك الهمداني الوداعي أبوعائشة الكوفي، ثقة فقيه عابد مخضرم من كبار التابعين. قال الشعبي: ما رأيت أطلب للعلم منه، وكان أعلم بالفتوى من شريح، وكان شريح يستشيره، وكان مسروق لا يحتاج إلى شريح. وقال علي بن المديني: ما أقدم على مسروق من أصحاب عبدالله أحدا، صلى خلف أبي بكر، ولقي عمر وعليا، ولم يرو عن عثمان شيئا، مات بالكوفة سنة
سألت عائشة عن صلاة رسول الله ? بالليل، فقالت: سبع، وتسع، وإحدى عشرة ركعة،
سوى ركعتي الفجر)).

(5/318)


ثلاث وستين، وله ثلاث وستون سنة. قال السمعاني: سمي مسروقا، لأنه سرق إنسان في صغره. ثم وجد، وغير عمر اسم أبيه إلى عبدالرحمن. فأثبت في الديوان مسروق بن عبدالرحمن مكان أجدع. وقال في تهذيب التهذيب (ج10 ص110): قال مجالد عن الشعبي عن مسروق قال لي عمر: ما اسمك؟ قلت: مسروق بن الأجدع قال: الأجدع شيطان أنت مسروق بن عبدالرحمن- انتهى. (سألت عائشة عن صلاة رسول الله ? ) أي عن عدد صلاته. (فقالت) تارة. (سبع و) تارة. (تسع و) أخرى. (إحدى عشرة) أي كل مع الوتر. ووقع ذلك منه في أوقات مختلفة بحسب اتساع الوقت وضيقه أو عذر من مرض أو غيره أو كبر سنه. وفي النسائي عنها: أنه كان يصلي من الليل تسعا، فلما أسن صلى سبعا. قال الحافظ: أما ما أجابت به عائشة مسروقا فمرادها أن ذلك وقع منه في أوقات مختلفة، فتارة كان يصلي سبعا وتارة تسعا وتارة إحدى عشرة. وأما حديث القاسم عنها فمحمول على أن ذلك كان غالب حاله- انتهى. (ركعة) كذا وقع في جميع النسخ، وكذا وقع في جامع الأصول (ج6 ص63) تمييز لإحدى عشرة. وفي البخاري: إحدى عشرة أي بدون لفظ ركعة. (سوى ركعتي الفجر) فالمجموع ثلاث عشرة ركعة. وأما ما رواه الزهري عن عروة عنها عند البخاري في باب ما يقرأ في ركعتي الفجر بلفظ: كان يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلي إذا سمع النداء للصبح ركعتين خفيفتين الخ. وظاهره يخالف ما ذكر، فأجيب باحتمال أن يكون أضافت إلى صلاة الليل سنة العشاء لكونه كان يصليها في بيته، أو ما كان يفتتح به صلاة الليل، كما سيأتي. قال الحافظ: وهذا أرجح في نظري، لأن رواية أبي سلمة التي دلت على الحصر في إحدى عشرة جاء في صفتها عند البخاري وغيره: يصلي أربعا ثم يصلي أربعا ثم يصلي ثلاثا، فدل على أنها لم تعرض للركعتين الخفيفتين، وتعرضت لهما في رواية الزهري، والزيادة من الحافظ مقبولة، وسيأتي في باب الوتر حديث عبدالله بن أبي قيس عن عائشة بلفظ: كان يوتر بأربع وثلاث،

(5/319)


وست وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأنقص من سبع ولا بأكثر من ثلاث عشرة. قال الحافظ: وهذا أصح ما وقفت عليه من ذلك، وبه يجتمع بين ما اختلف عن عائشة من ذلك، والله أعلم. قال القرطبي: أشكلت روايات عائشة على كثير من أهل العلم حتى نسب بعضهم حديثها إلى الاضطراب، وهذا إنما يتم لو كان الراوي عنها واحدا أو أخبرت عن وقت واحد. والصواب أن كل شيء ذكرته من ذلك محمول على أوقات متعددة وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز- انتهى. وقال النووي: نقلا عن القاضي عياض بعد ذكر رواياتها المختلفة في ذلك يحتمل أن إخبارها بإحدى عشرة هو الأغلب،
رواه البخاري.
1200- (6) وعن عائشة، قالت: ((كان النبي ? إذا قام من الليل ليصلي افتتح صلاته بركعتين
خفيفتين)). رواه مسلم.

(5/320)


وباقي رواياتها إخبار عنها بما كان يقع نادرا في بعض الأوقات، فأكثر خمس عشرة بركعتي الفجر، وأقله سبع، وذلك بحسب ما كان يحصل من اتساع الوقت أو ضيقه بطول قرأة أو لنوم أو عذر مرض وغيره، أو في بعض الأوقات عند كبر السن كما قالت: فلما أسن صلى سبع ركعات، أو تارة تعد الركعتين الخفيفتين في أول قيام الليل وتعد ركعتي الفجر تارة وتحذفهما تارة، أو تعد أحدهما، وقد تكون عدت راتبة العشاء مع ذلك تارة، وحذفتها تارة. قال القاضي: ولا خلاف أنه ليس لذلك حد لا يزاد عليه ولا ينقص منه، وأن صلاة الليل من الطاعات التي كلما زاد فيها زاد الأجر، وإنما الخلاف في فعل النبي ?، وما اختاره لنفسه- انتهى. وقال الباجي بعد ذكر رواية عائشة أنه كان يصلي ثلاث عشرة ركعة غير ركعتي الفجر، وروايتها أنه كان لا يزيد على إحدى عشرة ركعة ما لفظه: ورواية عائشة في ذلك تحتمل وجهين: أحدهما أنه كان ? تختلف صلاته بالليل، لأنه لا حد صلاة الليل، فمرة كانت تخبر بما شاهدت منه في وقت ما، ومرة تخبر بما شاهدت منه ? في غيره، وإنما قالت: إنه ? لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة، تريد صلاته المعتادة الغالبة وإن كان ربما يزيد في بعض الأوقات على ذلك، فقصدت في تلك الرواية الإخبار عن غالب صلاته ?، وذكرت في هذه الرواية أكثر ما كان تنتهي إليه صلاته ? في الأغلب. والوجه الثاني أن تكون رضي الله عنها تقصد في بعض الأوقات الإخبار عن جميع صلاته في ليلة، وتقصد في وقت ثان إلى ذكر نوع من صلاته في الليل. وجميع صلاته النبي ? بالليل في رواية عائشة خمس عشرة مع الركعتين الخفيفتين وركعتي الفجر، فعائشة كانت تخبر بالأمر على وجوه شتى، ولعله أن يكون ذلك على قدر أسباب السؤال- انتهى. (رواه البخاري) في باب كيف كان صلاة النبي ? من أبواب التهجد.

(5/321)


1200- قوله: (إذا قام من الليل ليصلي) أي التهجد. (افتتح صلاته بركعتين خفيفتين) قال الطيبي: ليحصل بهما نشاط الصلاة ويعتاد بهما، ثم يزيد عليهما بعد ذلك- انتهى. وفي حديث أبي هريرة الآتي الأمر بذلك. وهذا دليل على استحباب افتتاح صلاة الليل بركعتين خفيفتين لينشط بهما لما بعدهما. والظاهر أن الركعتين من جملة التهجد، وقد تقدم أن هاتين الركعتين هما اللتان إذا ضمتهما عائشة قالت في حكايتها لصلاته ? بالليل: إنها ثلاث عشرة، وإذا لم تضمهما قالت إحدى عشرة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والبيهقي (ج3ص5، 6).
1201- (7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ?: ((إذا قام أحدكم من الليل، فليفتتح الصلاة بركعتين خفيفتين)). رواه مسلم.
1202- (8) وعن ابن عباس، قال: ((بت عند خالتي ميمونة ليلة، والنبي ? عندها، فتحدث رسول الله ? مع أهله ساعة، ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر أو بعضه قعد، فنظر إلى السماء فقرأ: ?إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار
1201- قوله: (فليفتتح) من الافتتاح أي فليبدأ. وفي بعض النسخ: فليفتح أي من الفتح. والأول هو الصواب، لأنه موافق لما في المصابيح وصحيح مسلم، وكذا نقله المجد ابن تيمية في المنتقى، والجزري في جامع الأصول (ج7 ص72) وكذا وقع عند البيهقي (ج3 ص6). (الصلاة) كذا وقع في جميع النسخ، وهكذا نقله الجزري. وفي المصابيح وصحيح مسلم والمنتقى صلاته أي بالإضافة إلى الضمير. (بركعتين خفيفتين) زاد أبوداود في رواية: ثم ليطول بعد ما شاء. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والبيهقي (ج3 ص6).

(5/322)


1202- قوله: (بت) بكسر الباء وتشديد التاء على صيغة المتكلم من البيتوتة. (عند خالتي ميمونة) بنت الحارث أم المؤمنين زوج النبي ?. (والنبي ? عندها) أي في نوبتها. (فتحدث رسول الله ? مع أهله ساعة) فيه جواز الكلام المباح مصلحة بعد العشاء، وإذا جاز في المباح ففي المستحب كالموعظة والعلم من طريق الأولى. (ثم رقد) أي نام. وفي رواية: فاضطجعت في عرض الوسادة أي المخدة أو الفراش، واضطجع رسول الله ? وأهله في طولها. (فلما كان) أي بقي فكان تامة. (ثلث الليل الآخر) بالرفع على أنه صفة ثلاث أي جميعه. (أو بعضه) أي بعض الثلث أي أقل منه. (قعد) أي فمسح النوم عن وجهه بيده. وفي رواية: فنام حتى انتصف الليل أو قريبا منه، فاستيقظ وهذه الرواية، كما ترى، مخالفة لرواية الكتاب. قال الحافظ: يجمع بينهما بأن الاستيقاظ وقع مرتين: ففي الأولى نظر إلى السماء، ثم تلا الآيات، ثم عاد لمضجعه فنام. وفي الثانية أعاد ذلك ثم توضأ وصلى، وقد بين ذلك محمد بن الوليد عن كريب عن ابن عباس عند محمد بن نصر. وفي رواية في الصحيحين: فقام رسول الله ? من الليل، فأتى حاجته ثم غسل وجهه ويديه، ثم نام ثم قام فأتى قربة- الحديث. وفي رواية لمسلم: ثم قام قومه أخرى. (فنظر إلى السماء) يتفكر في عجائب الملكوت. (فقرأ إن في خلق السماوات والأرض) أي في خلقتهما من ارتفاع السماوات واتساعها وانخفاض الأرض وكثافتها واتضاعها، أو في الخلق الكائن فيهما من الكواكب المختلفة وغيرها في السماوات والبحار والجبال والقفار والأشجار والأنهار والزروع
لآيات لأولي الألباب?. حتى ختم السورة، ثم قام إلى القربة فأطلق شناقها، ثم صب في الجفنة، ثم توضأ وضوء حسنا بين الوضوئين، لم يكثر وقد أبلغ، فقام فصلى، فقمت وتوضأت،

(5/323)


والثمار والحيوان والمعادن وغيرها من العجائب في الأرض. (واختلاف الليل والنهار) أي في تعاقبهما، أو طولا وقصرا أو ظلمة ونورا وحرا وبردا (لآيات لأولى الألباب) أي دلالات واضحات على وجود الصانع ووحدته وعلمه وكمال قدرته لذوي العقول الخالصة الصافية، الذين يفتحون بصائرهم للنظر والاستدلال والاعتبار، لا ينظرون إليها نظر البهائم، غافلين عما فيها من عجائب مخلوقاته وغرائب مبدعاته، وقد ورد ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها. رواه ابن مردويه وابن حبان في صحيحه. (حتى ختم السورة) فإن فيها لطائف عظيمة وعوارف جسيمة لمن تأمل في مبانيها وظهر له بعض معانيها. قال الباجي: يحتمل أن يفعل ذلك ليبتدئ يقظته بذكر الله كما ختمها بذكره عند نومه، ويحتمل أنه فعل ذلك ليتذكر ما ندب إليه من العبادة، وما وعد على ذلك من الثواب، فإن هذه الآية جامعة لكثير من ذلك، فيكون ذلك تنشيطا له على العبادة- انتهى. (ثم قام) أي قصد. (إلى القربة) بكسر القاف وسكون الراء وفي رواية: إلى شن معلق بفتح الشين المعجمة وتشديد النون، وهي القربة الخلقة الصغيرة من أدم. (فأطلق) أي حل. (شناقها) بكسر المعجمة وتخفيف النون ثم قاف، خيطها الذي يشد به فمها أو السير الذي تعلق به القربة. قال في الفتح: هو رباط القربة يشد عنقها فشبه بما يشنق به. وقيل: هو ما تعلق به، ورجح أبوعبيد الأول. (ثم صب) أي أراق الماء منها. (في الجفنة) بفتح الجيم وسكون الفاء ثم نون، القصعة الكبيرة. واستعمال "ثم" للترتيب والتراخي في الذكر أو للإشارة إلى أن أفعاله ? كانت واقعة بالتؤدة والوقار من غير استعجال. (ثم توضأ) أي من الجفنة. (وضوء حسنا بين الوضوئين) أي من غير إسراف ولا تقتير. وقيل: أي توضأ مرتين مرتين. (لم يكثر) أي صب الماء. قال القاري: هو بيان للوضوء الحسن، وهو إيماء إلى عدم الإفراط. (وقد أبلغ) أي أوصل الماء إلى ما يجب إيصاله إليه إشارة إلى عدم التفريط. وقال الحافظ: قد فسر

(5/324)


قوله: وضوء بين وضوئين بقوله: لم يكثر وقد أبلغ، وهو يحتمل أن يكون قلل من الماء مع التثليث، أو اقتصر على دون الثلث في الغسل. وفي رواية لمسلم: فأسبغ الوضوء ولم يمس من الماء إلا قليلا. والحاصل أنه أتى بمندوبات الوضوء مع التخفيف الماء. وبذلك يجمع بين ما وقع في رواية: فأسبغ الوضوء، وبين قوله في رواية: فتوضأ وضوءا خفيفا. (فقام فصلى) أي فشرع في الصلاة. (فقمت) أي من مضجعي وقصدت إلى القربة. (وتوضأت) أي نحو مما توضأ، كما في رواية للبخاري. وفي رواية: فقمت فصنعت مثل ما صنع، وهو محمول على الأغلب. ولا يلزم من إطلاق المثلية المساواة من كل جهة، فيحمل
فقمت عن يساره، فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه، فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة، ثم
اضطجع فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ،

(5/325)


على الوضوء فقط، ويحتمل أنه صنع جميع ما ذكر من النظر والقول والوضوء والسواك وغير ذلك. (فقمت) أي للصلاة في إقتدائه. (عن يساره) لعدم العلم. (فأخذ بأذني) بالضم وبضمتين. وفي رواية: فوضع يده اليمنى على رأسي، وأخذ بأذني يفتلها. قال ابن حجر: وضعها أولا ليتمكن من مسك الأذن، أو لأنها لم تقع إلا عليه، أو لينزل بركتها به ليعي جميع أفعاله عليه السلام في ذلك المجلس وغيره، قال: وفتلها إما لينبهه على مخالفة السنة أو ليزداد تيقظه لحفظ تلك الأفعال، أو ليزيل ما عنده من النعاس، لرواية مسلم: فجعلت إذا أغفيت أخذ بشحمة أذني. وفي هذا رد على من زعم أن أخذ الأذن إنما كان في حالة إدارته له من اليسار إلى اليمين متمسكا بقوله: فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه، وهو لفظ البخاري في الدعوات، لكن لا يلزم من إدارته على هذه الصفة أن لا يعود إلى مسك أذنه لتأنيسه وإيقاظه. فالحق أنه أخذ بأذنه أولا لإدارته من اليسار إلى اليمين، ثم أخذ بها أيضا لتأنيسه لكون ذلك في ظلمة الليل أو لإيقاظه أو لإظهار محبته، لأن حاله كانت تقتضي ذلك لصغر سنه. (فأدارني عن يمينه) قال ابن الملك: "عن" هنا بمعنى الجانب أي أدارني عن جانب يساره إلى جانب يمينه. (فتتامت) بمثناتين وتشديد الميم. قال الطيبي: أي صارت تامة تفاعل من تم، وهو لا يجيء إلا لازما- انتهى. أي تكاملت، وهي رواية شعبة عن كريب عند مسلم (صلاته ثلاث عشرة ركعة) أي مع ركعة الوتر، يسلم من كل ركعتين، ففي رواية للشيخين: ثم صلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن، فقام فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى الصبح. قال الحافظ: ظاهره أنه فصل بين كل ركعتين. ووقع التصريح بذلك في رواية طلحة بن نافع عند ابن خزيمة حيث قال فيها: يسلم من كل ركعتين. ولمسلم من رواية علي بن عبدالله بن عباس التصريح بالفصل أيضا، وأنه استاك بين كل ركعتين إلى غير ذلك، كما

(5/326)


سيأتي. ومقتضى التصريح بذكر الركعتين ست مرات، وقوله بعد ذلك ثم أوتر أنه صلى في هذه الليلة ثلاث عشرة ركعة مع الوتر، كما وقع التصريح بذلك في رواية الكتاب. وظاهره أنه أوتر بركعة واحدة مفصولة، لأنه إذا صلى ركعتين ركعتين ست مرات مع الفصل بين كل ركعتين صارت الجملة اثنتى عشرة ركعة غير ركعة الوتر، وكانت جميع صلاته ? ثلاث عشرة ركعة، فلم يبق الوتر إلا ركعة واحدة. وأما رواية مسلم الآتية بلفظ: ثم أوتر بثلاث ففي كونها محفوظة الكلام. ولعل ذلك من حبيب بن أبي ثابت الراوي عن علي بن عبدالله بن عباس، فإن فيه مقالا، وقد اختلف عليه في إسناده ومتنه اختلافا. (ثم اضطجع فنام حتى نفخ) أي تنفس بصوت حتى يسمع منه صوت النفخ بالفم كما يسمع من النائم. (وكان إذا نام نفخ) وفي رواية مسلم: ثم نام حتى نفخ، وكنا
فآذنه بلال بالصلاة، فصلى، ولم يتوضأ.

(5/327)


نعرفه إذا نام بنفخه (فآذنه) بالمد أي أعلمه. (بالصلاة) أي بصلاة الصبح. (فصلى) أي ركعتي الفجر ثم خرج إلى المسجد فصلى الصبح بالجماعة. (ولم يتوضأ) قيل: إنما لم يتوضأ وقد نام حتى نفخ، لأن النوم لا ينقض الطهر بنفسه، بل لأنه مظنة خروج الخارج. ولما كان قلبه عليه السلام يقظان لا ينام، ولم يكن نومه مظنة في حقه فلا يؤثر. ولعله أحس بتيقيظ قلبه بقاء طهوره. وهذا من خصائصه عليه السلام. قال الطيبي: فيقظة قلبه تمنعه من الحدث، وما منع النوم إلا ليعي الوحي إذا أوحي إليه في منامه، فالوضوء الأول إما لنقض آخر أو لتجديد وتنشيط. واعلم أن قوله: فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة الخ يدل على أنه ? صلى تلك الليلة ثلاث عشرة ركعة غير ركعتي الفجر، وهي رواية الثوري عن سلمة بن كهيل عن كريب عن ابن عباس عند البخاري في الدعوات، وأخرجها أيضا مسلم. وقد اختلف على كريب أصحابه في بيان العدد، لكن اتفق أكثرهم على أنه ? صلى تلك الليلة ثلاث عشرة ركعة وركعتي الفجر. وفي رواية شريك بن أبي النمر عنه عند البخاري في التفسير: فصلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال فصلى ركعتين. ونحوه في رواية الضحاك بن عثمان عن مخرمة عن كريب عند مسلم، فخالف شريك الأكثر، وروايتهم مقدمة على روايته لما معهم من الزيادة، ولكونهم أحفظ منه. وحمل بعضهم الزيادة على سنة العشاء، ولا يخفي بعده لاسيما مع رواية الكتاب هذا. وقد ورد عن ابن عباس في حكاية صلاته ? بالليل الذي بات فيه عنده أحاديث كثيرة بروايات مختلفة رواها عنه علي بن عبدالله بن عباس وعطاء وأبوجمرة وسعيد بن جبير ويحيى بن الجزاز وغيرهم. قال الحافظ بعد ذكر الاختلاف في رواية كريب، وفي رواية سعيد بن جبير ما لفظه: وأكثر الرواة عنه لم يذكروا عددا، ومن ذكر العدد منهم لم يزد على ثلاث عشرة، ولم ينقص عن إحدى عشرة، إلا أن في رواية علي بن عبدالله بن عباس عند مسلم ما يخالفه، فإن فيه فصلى ركعتين أطال فيهما، ثم انصرف

(5/328)


فنام حتى نفخ، ففعل ذلك ثلاث مرات بست ركعات، كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ هؤلاء الآيات، يعني آخر آل عمران ثم أوتر بثلاث، فأذن المؤذن فخرج إلى الصلاة- انتهى. فزاد على الرواية تكرار الوضوء وما معه ونقص عنه ركعتين أو أربعا. ولم يذكر ركعتي الفجر أيضا، وأظن ذلك من الراوي عنه حبيب بن أبي ثابت، فإن فيه مقالا، وقد اختلف عليه فيه في إسناده ومتنه اختلافا، ويحتمل أنه لم يذكر الأربع الأول. وأما سنة الفجر فقد ثبت ذكرها في طريق أخرى عن على بن عبدالله بن عباس عند أبي داود. والحاصل أن قصة مبيت ابن عباس يغلب على الظن عدم تعددها، فلهذا ينبغي الاعتناء بالجمع بين مختلف الروايات، ولا شك أن الأخذ بما اتفق عليه الأكثر والأحفظ أولى مما خالفهم فيه من هو دونهم، ولاسيما إن زاد أو نقص. والمحقق من عدد صلاته تلك الليلة إحدى عشرة. وأما رواية ثلاث عشرة فيحتمل أن يكون منها ست العشاء- انتهى. ويعكر على هذا الجمع رواية الثوري
وكان في دعائه: اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي بصري نورا، وفي سمعي نورا، وعن يميني
نورا، وعن يساري نورا، وفوقي نورا، وتحتي نورا، وأمامي نورا، وخلفي نورا،

(5/329)


عن سلمة عن كريب، وقد ذكرنا سياقها. وأما لحمل قوله صلى ركعتين ثم ركعتين أي قبل أن ينام، ويكون منها سنة العشاء، وقوله ثم ركعتين الخ أي بعد أن قام، فبعيد يأباه ظاهر السياق. وجمع الكرماني بين ما اختلف من روايات قصة ابن عباس هذه باحتمال أن يكون بعض رواته ذكر القدر الذي اقتدى ابن عباس به وفصله عما لم يقتد به فيه، وبعضهم ذكر الجميع مجملا- انتهى. (وكان في دعائه) أي في جملة دعائه تلك الليلة. قال الحافظ: فيه إشارة إلى أن الدعائه حينئذ كان كثيرا أو كان هذا من جملته، وقد ذكر في ثاني حديثي الباب. (أي باب الدعاء إذا انتبه من الليل من كتاب الدعوات من صحيح البخاري) قوله: اللهم أنت نور السماوات والأرض الخ. (يعني المذكور في حديث ابن عباس الآتي في باب ما يقول إذا قام من الليل). واختلف الرواة في تعيين محل هذا الدعاء أي قوله: اللهم اجعل في قلبي نورا الخ، فوقع في رواية شعبة عن سلمة عن كريب عند مسلم ثم خرج إلى الصلاة فصلى، فجعل يقول في صلاته أو في سجوده اللهم الخ، ووقع عند مسلم أيضا في رواية حبيب بن أبي ثابت عن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس عن أبيه أنه قال هذا الدعاء، وهو ذاهب إلى صلاة الصبح ولفظه: فأذن المؤذن فخرج إلى الصلاة، وهو يقول اللهم اجعل الخ. ويمكن أن يجمع بأنه قال هذا الدعاء حين خروجه إلى صلاة الصبح، ثم قاله في صلاته أيضا. وروى الترمذي هذا الدعاء في الدعوات من طريق داود بن علي بن عبدالله بن عباس عن أبيه عن جده، وفي روايته زيادة طويلة في هذا الدعاء، وفيها أنه ? قال ذلك حين فرغ من صلاته. ووقع عند البخاري في الأدب المفرد من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس: كان رسول الله ? إذا قام من الليل يصلي فقضى صلاته، يثني على الله بما هو أهله، ثم يكون آخر كلامه اللهم اجعل في قلبي نورا- الحديث. قال الحافظ: ويجمع بأنه كان يقول ذلك عند القرب من فراغه- انتهى. أو يقال: إنه كان يقول ذلك الدعاء بعد

(5/330)


الفراغ من الصلاة أيضا. (اللهم اجعل في قلبي نورا) قيل: هو ما يتبين به الشيء ويظهر. قال الكرماني: التنوين للتعظيم أي نورا عظيما، وقدم القلب، لأنه المضغة التي إذا صلحت صلح سائر البدن، وإذا فسدت فسد سائر البدن، ولأن القلب إذا نور فاض نوره على البدن جميعا، ومن لازم تنوير هذه الأعضاء حلول الهداية، لأن النور يقشع ظلمات الذنوب، ويرفع سدفات الآثام. (وفي بصري نورا، وفي سمعي نورا، وعن يميني نورا، وعن يساري نورا) أي في جانبي أو في جارحتي. (وفوقي نورا، وتحتي نورا، وأمامي) أي قدامي. (نورا) يسعى بين يدي. (وخلفي نورا) أي ليتبعني أتباعي ويقتدي بي أشياعي. والمعنى اجعل النور يحفى من جميع الجهات الست. قيل: أراد بالنور بيان الحق وضياءه كأنه قال: اللهم استعمل هذه الأعضاء
واجعل لي نورا ـ وزاد بعضهم ـ: وفي لساني نورا. ـ وذكر ـ: وعصبي ولحمي
ودمي وشعري وبشري)).

(5/331)


مني في الحق، واجعل تصرفي وتقلبي فيها على سبيل الصواب حتى لا يزيغ شيء منها عنه. وقال القسطلاني: قد سأل ? النور في أعضائه وجهاته ليزاد في أفعاله وتصرفاته ومنقلباته نورا على نور، فهو دعاء بدوام ذلك، فإنه كان حاصلا له لا محالة، أو هو إرشاد وتعليم لأمته. وقال القرطبي: هذه الأنوار التي دعا بها رسول الله ? يمكن حملها على ظاهرها، فيكون سأل الله تعالى أن يجعل له في كل عضو من أعضاءه نورا يستضيء به يوم القيامة في تلك الظلم هو ومن تبعه أو من شاء الله منهم، قال: والأولى أن يقال هي مستعارة للعلم والهداية، كما قال تعالى: ?فهو على نور من ربه? [39: 23]، وقوله تعالى: ?وجعلنا له نورا يمشي به في الناس? [6: 122] ثم قال والتحقيق في معناه أن النور مظهر ما نسب إليه وهو يختلف بحسبه، فنور السمع مظهر للمسموعات، ونور البصر كاشف للمبصرات، ونور القلب كاشف عن المعلومات، ونور الجوارح ما يبدو عليها من أعمال الطاعات. وقال الطيبي: معنى طلب النور للأعضاء عضوا عضوا أن يتحلى كل عضو بأنوار المعرفة والطاعات، ويتعرى عما عداهما، فإن الشياطين تحيط بالجهات الست بالوسواس والشبهات، ولا مخلص من ذلك إلا بالأنوار السادة لتلك الجهات، قال: وكل هذه الأمور راجعة إلى الهداية والبيان وضياء الحق. وإلى ذلك يرشد قوله تعالى: ?الله نور السماوات والأرض? إلى قوله تعالى: ?نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء? [24: 35]- انتهى مخلصا. (واجعل لي نورا) عطف عام على خاص أي اجعل لي نورا عظيما جامعا للأنوار كلها يعني التي ذكرها ههنا والتي لم يذكرها. وقال الطيبي: أجمل به ما فصله، فذلكة لذلك وتأكيدا له. ولمسلم في رواية غندر عن شعبة عن سلمة عن كريب: واجعل لي نورا، أو قال واجعلني نورا، وفي رواية النضر عن شعبة: واجعلني نورا، ولم يشك وهذا أبلغ من الكل. ولمسلم في رواية الكتاب بعد قوله: وخلفي نورا وعظم لي نورا بتشديد الظاء المعجمة، ولم

(5/332)


يذكر قوله واجعل لي نورا. وفي رواية سعيد بن مسروق وعقيل بن خالد عن سلمة عن كريب عند مسلم أيضا: وأعظم لي نورا أي من الأعظام. (وزاد بعضهم) أي بعض الرواة، وهو عقيل بن خالد عن سلمة عن كريب، وحبيب بن أبي ثابت عن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس. (وفي لساني نورا) أي بعد قوله في قلبي نورا، وهذه الزيادة عند مسلم فقط. (وذكر) أي بعض ولد العباس، كما يظهر من سياق رواية الشيخين، فعند البخاري بعد قوله: واجعل لي نورا قال كريب: وسبع. (أي من الكلمات أو الأنوار) في التابوت. (أي في صحيفة في تابوت عند ولد العباس)، فلقيت رجلا من ولد العباس. (قال القسطلاني: هو علي بن عبدالله بن عباس)، فحدثني بهن فذكر عصبي الخ. (وعصبي) بفتح المهملتين بعدهما موحدة أطناب المفاصل. (وشعري) بفتح العين وسكونها. (وبشري) بفتح الموحدة والمعجمة،
متفق عليه. وفي رواية لهماـ: واجعل في نفسي نورا، وأعظم لي نورا. وفي أخرى لمسلم: اللهم أعطني نورا)).
1203- (9) وعنه، أنه رقد عند رسول الله ?، فاستيقظ، فتسوك، وتوضأ وهو يقول: ?إن في خلق السماوات والأرض?. حتى ختم السورة، ثم قام فصلى ركعتين

(5/333)


ظاهر جلده. (متفق عليه) فيه أن لفظ الحديث بهذا السياق ليس لهما ولا لأحدهما، بل هو مجموع من مجموع ما فيهما، لأن حديث ابن عباس في حكايته لصلاته ? في الليلة التي بات فيها عند خالته ميمونة رواه البخاري في ثمانية عشر بابا من صحيحه، ومسلم في باب صلاة النبي ? ودعائه بالليل، وفي الطهارة بألفاظ مختلفة مختصرا ومطولا، وليس السياق المذكور ههنا أحدها وبالجملة لم يتفق الشيخان على السياق المذكور بعينه وبخصوصه، ففي قوله متفق عليه نظر. (وفي رواية لهما) أي للشيخين وفيه نظر كما ستعرف. (واجعل في نفسي نورا، وأعظم لي نورا) بفتح الهمزة من باب الإفعال. وهذه الرواية من إفراد مسلم، وليست عند البخاري، رواها مسلم من طريق عقيل بن خالد عن سلمة عن كريب قال: ودعا رسول الله ? ليلتئذ تسع عشرة كلمة، قال سلمة حدثنيها كريب، فحفظت منها ثنتي عشرة كلمة ونسيت ما بقي، فذكر ما تقدم إلى قوله: واجعل لي نورا، وزاد: في لساني نورا بعد قوله في قلبي، وقال في آخره: واجعل لي في نفسي نورا، وأعظم لي نورا. (وفي أخرى لمسلم اللهم أعطني نورا) وهي رواية حبيب بن أبي ثابت عن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس عن أبيه عن عبدالله بن عباس. وفي رواية الترمذي التي أشهرت إليها قال ابن عباس: سمعت رسول الله ? يقول ليلة حين فرغ من صلاته: اللهم إني أسألك رحمة من عندك، فساق الدعاء بطوله، وفيه اللهم اجعل لي في قلبي ونورا في قبري، ثم ذكر الجهات الست والسمع والبصر ثم الشعر والبشر ثم اللحم والدم والعظام، ثم قال في آخره اللهم أعظم لي نورا، وأعطني نورا واجعل لي نورا، ونقله الحافظ والقسطلاني بلفظ: واجعلني نورا. قال الترمذي: غريب وقد روى شعبة وسفيان عن سلمة عن كريب بعض هذا الحديث، ولم يذكره بطوله- انتهى. وعند ابن أبي عاصم في كتاب الدعاء من طريق عبدالحميد بن عبدالرحمن عن كريب في آخر الحديث، وهب لي نورا على نور. ويجمع من اختلاف الروايات، كما قال

(5/334)


ابن العربي، خمس وعشرون خصلة هذا، وفي حديث ابن عباس فوائد وأحكام كثيرة، ذكرها النووي والحافظ والعيني وغيرهم. والحديث أخرجه أيضا أحمد والنسائي والبيهقي.
1203- قوله: (وعنه) أي ابن عباس. (أنه رقد عند رسول الله ? ) قال الطيبي: هذا معنى ما قاله ابن عباس لا حكاية لفظه. والتقدير أنه قال رقدت في بيت خالتي ميمونة، ورقد رسول الله ? . (وهو يقول) أي يقرأ، وهو يخالف الرواية السابقة بظاهره حيث قال فقرأ ثم توضأ إلا أن يحمل على تعدد القراءة أو الواقعة،
أطال فيهما القيام والركوع، والسجود، ثم انصرف فنام حتى نفخ، ثم فعل ذلك ثلاث مرات ست ركعات، كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ هؤلاء الآيات، ثم أوتر بثلاث)). رواه مسلم.
1204- (10) وعن زيد بن خالد الجهني أنه قال: ((لأرمقن صلاة رسول الله ?

(5/335)


أو تحمل "ثم" ثمة على أنها لمجرد العطف أو للتراخي الرتبي، قاله القاري. وقد تقدم في كلام الحافظ التنبيه على ما في هذه الرواية من الزيادة والاختلاف على الروايات الأخرى. (أطال فيهما القيام والركوع والسجود) أي بالنسبة إلى العادة. (ثم انصرف) أي عن الصلاة. (ثم) أي أعلم أنه. (فعل ذلك) أي المذكور من قوله فتسوك إلى قوله حتى نفخ. (ثلاث مرات ست ركعات) قال الطيبي: يدل من ثلاث مرات أي فعل ذلك في ست ركعات- انتهى. وقيل: منصوب بإضمار أعني أو بيان لثلاث وكذلك. (كل ذلك) بالنصب بيان له أيضا، أي كل مرة من المرات، ويجوز أن يكون مفعول. (يستاك) وقال الطيبي: كل ذلك يتعلق بيستاك، أي في كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ ويصلي. "وثم" في قوله "ثم فعل ذلك" لتراخي الإخبار تقديرا وتأكيدا لا لمجرد العطف لئلا يلزم منه أنه فعل ذلك أربع مرات. (ثم أوتر بثلاث) وبعده فأذن المؤذن فخرج إلى الصلاة، وهو يقول: اللهم اجعل في قلبي نورا الخ. قال النووي: هذه الرواية، وهي رواية حبيب بن أبي ثابت عن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس عن أبيه عن ابن عباس، مخالفة لباقي الروايات في تخليل النوم بين الركعات، وفي عدد الركعات، فإنه لم يذكر في باقي الروايات تخلل النوم، وذكر الركعات ثلاث عشرة. قال القاضي: هذه الرواية مما استدركه الدارقطني على مسلم لاضطرابها واختلاف الرواة، قال الدارقطني: وروى عنه على سبعة أوجه. وخالف فيه الجمهور. قال النووي: ولا يقدح هذا في مسلم، فإنه لم يذكر هذه الرواية متأصلة مستقلة بل متابعة، والمتابعات يحتمل فيها ما لا يحتمل في الأصول. قال القاضي: ويحتمل أنه لم يعد في هذه الصلاة الركعتين الأوليين الخفيفتين اللتين كان النبي ? يستفتح صلاة الليل بهما، ولهذا قال: صلى ركعتين فأطال فيهما، فدل على أنهما بعد الخفيفتين، فتكون الخفيفتان ثم الطويلتان ثم الست المذكورات ثم ثلاث بعدها، كما ذكر، فصارت الجملة ثلاث عشرة، كما في باقي

(5/336)


الروايات. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي.
1204- قوله: (عن زيد بن خالد الجهني) بضم الجيم وفتح الهاء، نسبه إلى جهينة، المدني الصحابي الشهير. (أنه) أي زيد بن خالد. (لأرمقن) بضم الجيم وفتح القاف ونون التوكيد الثقيلة من باب نصر، أي لأنظرن وأراقين وأحافظن من الرمق بفتح وسكون أو بفتحتين، وهو النظر إلى الشيء على وجه المراقبة والمحافظة. وأكد باللام والنون مبالغة في طلب تحصيل معرفة ذلك وضبطه (صلاة رسول الله ?) أي صلاته النافلة من الليل.
الليلة، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين
وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما
دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما،

(5/337)


قال الطيبي: عدل عن الماضي إلى المضارع فلم يقل رمقت استحضارا لتلك الحالة الماضية؛ ليقررها في ذهن السامع أبلغ تقرير. (الليلة) أي في هذه الليلة حتى أرى كم يصلي. وقال ابن حجر: والظاهر أنه قال ذلك لأصحابة نهارا ثم رمقه، وحينئذ فالمضارع على حاله. قال القاري: ولا يستقيم ذلك إلا على تقديرات كثيرة، كما لا يخفى، قال ويمكن أن يكون هذا القول من زيد قبل العلم والعمل. وقيل: إن ذلك حين سمعه ? قام يصلي لا قبل ذلك، لأنه من التجسس المنهي عنه. وأما ترقبه للصلاة فمحمود- انتهى. زاد في رواية الموطأ وأبي داود وابن ماجه والشمائل للترمذي، قال أي زيد: فتوسدت عتبته أو فسطاطه، والعتبة محركة أسكفة الباب، أي جعلت عتبة بابه كالوسادة بوضع الرأس عليها. والفسطاط مثلثة الفاء بيت من شعر. والمراد من توسد الفسطاط توسد عتبة الفسطاط، فهو على تقدير مضاف، وهذا شك من الراوي عن زيد أنه قال: توسد عتبة بيته أو عتبة فسطاطه. قيل: والظاهر الثاني، لأنه ? في الحضر يكون عند نسائه، فلا يمكن أن يتوسد زيد عتبة بيته ليرمقه بخلاف السفر، فإنه خال عن الأزواج المطهرات، فيمكنه أن يتوسد عتبة فسطاطه. قال القاري في جمع الوسائل: فالترديد إنما هو في العبارة، وإلا فالمقصود عن عتبته أيضا عتبة فسطاطه في الحقيقة لا شك فيه- انتهى. والمراد بعتبة الفسطاط بابه، أي محل دخوله يعني أرقد عند باب خيمته. (فصلى) رسول الله ?. (ركعتين خفيفتين) أي ابتداء، وإنما خفف فيهما، لأنهما عقب كسل من أثر النوم وليدخل في صلاة التهجد بنشاط. (ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين) التكرار للتأكيد، وليس المراد بكل طويلتين ركعتين. كذا في المفاتيح. قال الطيبي: كرر ثلاث مرات إرادة لغاية الطول، ثم تنزل شيئا فشيئا- انتهى. وإنما بولغ في تطويلهما، لأن النشاط في أول الصلاة يكون أقوى، والخشوع يكون أتم، ومن ثم سن تطويل الركعة الأولى على الثانية من الفريضة. قال الباجي: ومعنى

(5/338)


ذلك أن آخر الصلاة مبني على التخفيف عما تقدم، ولذا شرع هذا المعنى في الفرائض. (ثم صلى ركعتين وهما) أي الركعتان. (دون اللتين قبلهما) أي في الطول، وإنما كانتا دون الركعتين اللتين قبلهما، لأنه إذا استوفى الغاية في النشاط والخشوع أخذ في النقص شيئا فشيئا، فيخفف من التطويل على سبيل التدريج. (ثم) ثانيا (صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما) في الطول. (ثم) ثالثا (صلى ركعتين، وهما دون التين قبلهما ثم) رابعا (صلى ركعتين، وهما دون) الركعتين. (اللتين قبلهما) قال الطيبي: أربع مرات، فعلى هذا لا تدخل الركعتان الخفيفتان تحت ما أجمله بقوله: فذلك ثلاث عشرة ركعة، أو يكون الوتر ركعة
ثم أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعة))، رواه مسلم. قوله: ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين
قبلهما أربع مرات، هكذا في صحيح مسلم، وأفراده من كتاب الحميدي، وموطأ مالك،
وسنن أبي داود، وجامع الأصول.
1205- (11) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((لما بدن رسول الله ? وثقل

(5/339)


واحدة ولعل ناسخ المصابيح لما رأى المجمل جعل الخفيفتين من جملة المفصل فكتب قوله: ثم صلى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما ثلاث مرات. ومن ذهب إلى أن الوتر ثلاث ركعات حمل قوله: ثم أوتر على ثلاث ركعات، فعليه أن يخرج الركعتين الخفيفتين من البين. (ثم أوتر) أي بواحدة على أن الركعتين الخفيفتين داخلتان في المجمل. (فذلك) أي المجموع مع الوتر. (ثلاث عشرة ركعة) فيه أن صلاته ? في الليل ثلاث عشرة ركعة بدون ركعتي الفجر. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد ومالك وأبوداود والترمذي في الشمائل وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص8) قال المصنف: (قوله) أي قول زيد. (ثم صلى ركعتين، وهما اللتين قبلهما أربع مرات) بالنصب، أي وقع هذا القول أربع. (هكذا) أي أربع مرات. ( في صحيح مسلم) أي متنه. (وأفراده) بفتح الهمزة أي أفراد مسلم. (من كتاب الحميدي) الجامع بين الصحيحين. والأحاديث فيه على ثلاثة أنواع: الأول ما اتفق عليه الشيخان. والثاني ما انفرد به البخاري ويعبر عنه بأفراد البخاري. والثالث ما انفرد به مسلم، وهو المراد بأفراد مسلم. والحاصل أن الجملة المذكورة وقعت في متن صحيح مسلم أربع مرات، وكذا وقعت في أفراد مسلم من كتاب الجمع بين الصحيحين للحميدي. (وموطأ مالك) أي في موطئه. (وسنن أبي داود) السجستاني. (وجامع الأصول) الستة لابن الأثير الجزري (ج7 ص53)، وكذا وقع في سنن ابن ماجه والشمائل للترمذي والسنن الكبرى للبيهقي أربع مرات. ومقصود المصنف من هذا الكلام الاعتراض على البغوي حيث ذكره في المصابيح ثلاث مرات. وقد يقال في توجيه ما في المصابيح إن قوله: طويلتين ثلاث مرات محمول على ست ركعات بحذف حرف العطف، والركعتان الخفيفتان خارجتان، والوتر ركعة. والأظهر أن التكرير للمبالغة في الطول.

(5/340)


1205- قوله: (لما بدن) بتشديد الدال من التبدين، وهو الكبر والضعف أي مسه الكبر وأسن. (وثقل) بضم القاف أي عن الحركة وضعف عنها لدخوله في السن، ويروى بدن بضم الدال المخففة أي كثر لحمه وثقل أي ضعف لكبر سنه وكثرة لحمه، وذلك قبل موته بسنة. قال التوربشتي: اختلف الرواة في قوله بدن: فمنهم من يرويه مخففا بضم الدال، من قولهم بدن يبدن بدانة وبدن. بفتح الدال يبدن بدنا، وهو السمن والاكتناز.
كان أكثر صلاته جالسا)). متفق عليه.
1206- (12) وعن عبدالله بن مسعود، قال: ((لقد عرفت النظائر التي كان النبي ?

(5/341)


ومنهم من يرويه بفتح الدال وتشديدها من التبدين وهو السن والكبر، وهذه الرواية هي التي يرتضيها أهل العلم بالرواية، لأن النبي ? لم يوصف بالسمن فيما يوصف به، نقله الأبهري. وقال عياض: قال أبوعبيد في تفسير هذا الحديث: بدن الرجل بفتح الدال المشددة تبدينا إذا أسن، قال ومن رواه بدن بضم الدال المخففة فليس له معنى هنا، لأن معناه كثر لحمه، وهو خلاف صفته ?. قال عياض: روايتنا في مسلم عن جمهورهم بدن بالضم، وعن العذري بالتشديد، قال وأراه إصلاحا، قال ولا ينكر اللفظان في حقه ? فقد قالت عائشة في صحيح مسلم: فلما أسن رسول الله ? وأخذه اللحم أوتر بسبع. وفي حديث آخر ولحم، وفي آخر أسن وكثر لحمه. وقول ابن أبي هالة في وصفه: بادن متماسك. قال النووي: والذي ضبطناه ووقع في أكثر أصول بلادنا بالتشديد- انتهى. قلت: روى البخاري في تفسير سورة الفتح من حديث عائشة قالت: إن النبي ?كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا. فلما كثر لحمه صلى جالسا، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع- انتهى. قال الحافظ: أنكر الداودي قوله: فلما كثر لحمه، وقال: المحفوظ فلما بدن أي كبر، فكان الراوي تأويله على كثرة اللحم- انتهى. وقال ابن الجوزي أحسب بعض الرواة لما رأى بدن ظنه أي كثر لحمه وليس كذلك، وإنما هو بدن تبدينا، أي أسن- انتهى. وهو خلاف الظاهر. وفي حديث مسلم عن عائشة قالت: لما بدن رسول الله ? وثقل كان أكثر صلاته جالسا، لكن يمكن تأويل قوله: ثقل أي ثقل عليه حمل لحمه، وإن كان قليلا لدخوله في السن- انتهى مختصرا. وقيل: رواية كثر لحمه محمولة على استرخاء لحم بدنه كما يقتضيه كبر سنه. (كان أكثر صلاته) أي النافلة (جالسا) وفي رواية أبي سلمة عن عائشة: لم يمت حتى كان كثير من صلاته جالسا. وفي حديث حفصة: ما رأيت رسول الله ? يصلي

(5/342)


في سبحته جالسا حتى إذا كان قبل موته بعام وكان يصلي في سبحته جالسا، أخرجهما مسلم. والحديث يدل على جواز التنفل قاعدا مع القدرة على القيام. قال النووي: وهو إجماع العلماء. قال ابن حجر: ومن خصائصه عليه السلام أن ثواب تطوعه جالسا كهو قائما، سواء جلوسه يكون بعذر أو بغير عذر. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، ولم يقل البخاري: أكثر.
1206- قوله: (لقد عرفت النظائر) جمع نظيرة، وهي المثل والشبه أي السور المتشابهة والمتقاربة في الطول والقصر. قال الحافظ في الفتح: أي السور المتماثلة في المعاني كالموعظة أو الحكم أو القصص، لا المتماثلة في عدد الآي لما سيظهر عند تعيينها. قال المحب الطبري: كنت أظن أن المراد أنها متساوية في العد حتى اعتبرتها
يقرن بينهن، فذكر عشرين سورة من أول المفصل، على تأليف ابن مسعود

(5/343)


فلم أجد فيها شيئا متساويا. (يقرن) بضم الراء ويجوز كسرها أي يجمع. (بينهن) أي بين سورتين منهن في ركعة. (فذكر) أي ابن مسعود. (عشرين سورة من أول المفصل) وهي الرحمن والنجم في ركعة، واقتربت والحاقة في ركعة، والطور والذاريات في ركعة، وإذا وقعت ونون في ركعة، وسأل سائل والنازعات في ركعة، وويل للمطففين وعبس في ركعة، والمدثر والمزمل في ركعة، وهل آتي ولا أقسم بيوم القيامة في ركعة، وعم يتسآءلون والمرسلات في ركعة، والدخان وإذا الشمس كورت في ركعة. رواه أبوداود، وقال هذا تأليف ابن مسعود أي ترتيب السور المذكورة في الحديث، وهو الترتيب الذي ألف عليه ابن مسعود السور في مصحفه. (على تأليف) مصحف (ابن مسعود) أي جمعه وترتيبه. قال الحافظ: فيد دلالة على أن تأليف ابن مسعود على غير تأليف العثماني، وكان أوله الفاتحة ثم البقرة ثم النساء ثم آل عمران، ولم يكن على ترتيب النزول. ويقال: إن مصحف على كان ترتيب النزول، أوله إقرأ ثم المدثر ثم ن والقلم ثم المزمل ثم تبت ثم التكوير ثم سبح وهكذا إلى آخر المكي ثم المدني، والله أعلم. وأما ترتيب المصحف على ما هو عليه الآن فقال القاضي أبوبكر الباقلاني: يحتمل أن يكون النبي ? هو الذي أمر بترتيبه هكذا، ويحتمل أن يكون من اجتهاد الصحابة، ثم رجح الأول بما روى البخاري عن أبي هريرة أنه كان النبي ? يعارض به جبريل في كل سنة، فالذي يظهر أنه عارضه به هكذا على هذا الترتيب، وبه جزم ابن الأنباري. ومما يدل على أن ترتيب المصحف كان توقيفا ما أخرجه أحمد وأبوداود وغيرهما عن أوس بن حذيفة الثقفي، قال: كنت في الوفد الذين أسلموا من ثقيف، فذكر الحديث، وفيه فقال لنا رسول الله ?: طرأ على حزبي من القرآن فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه، قال: فسألنا أصحاب رسول الله ? ، قلنا كيف تحزبون القرآن؟ قلنا نحزبه ثلاث سور وخمس سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشرة، وحزب المفصل من ق حتى تختم. قال الحافظ: فهذا يدل

(5/344)


على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان في عهد النبي ?. ويستفاد من هذا الحديث حديث أوس أن الراجح في المفصل أنه من أول سورة ق إلى آخر القرآن، لكنه مبني على أن الفاتحة لم تعد في الثلاث الأول، فإنه يلزم من عدها أن يكون أول المفصل من الحجرات، وبه جزم جماعة من الأئمة- انتهى. وقيل: ترتيب جميع السور توقيفي إلا ترتيب براءة والأنفال، فهو من اجتهاد عثمان، كما يدل عليه حديث ابن عباس عند أحمد وأصحاب السنن، وصححه ابن حبان والحاكم، وقد ذكره المصنف في الباب الذي قبل كتاب الدعوات، وسيأتي الكلام في ذلك هناك. قال الجزري: اختلف في ترتيب السور هل هو توقيفي من النبي ? أو إجماع من الصحابة، أو بعضه توقيف وبعضه إجماع من الصحابة؟ وأجمعوا على أنه لم ينزل مرتبا هكذا، وعلى أنه لا يقرأ إلا هكذا، كما هو مرتب اليوم، وإنما يصح للصغار أن يقرؤا من أسفل لضرورة التعليم، ولو قرأ في الصلاة غير مرتب، فهو غير أولى. وقيل: يكره، ولو قرأ في
سورتين في ركعة آخرهن حم الدخان، وعم يتساءلون)). متفق عليه.

(5/345)


أول ركعة سورة الناس، فماذا يقرأ في الثانية؟ قال أبوحنيفة: يعيدها. وقال الشافعي: يبدأ من أول البقرة أي إلى المفلحون. وهو رواية عن أبي حنيفة، وهو الأظهر، لأن الإفادة أولى من الإعادة. (سورتين) أي كل سورتين من العشرين. (في ركعة آخرهن) أي آخر العشرين مبتدأ، يعني آخر الثنتين من العشرين. (حم الدخان) يحتمل الحركات الثلاث في "حم" والفتح أشهر، وكذلك في الدخان، والجر أشهر. (وعم يتساءلون) هذا يخالف ظاهره ما تقدم من رواية أبي داود، إلا أن يقال: التقدير أخرهن أي آخر العشرين "حم الدخان" ونظيرتها إذا الشمس كورت، وعم يتساءلون، ونظيرتها والمرسلات، قاله القاري. وقال الحافظ: قوله أخرهن حم الدخان، وعم يتساءلون مشكل، لأن حم الدخان آخرهن في جميع الروايات. وأما عم، فهي في رواية ابن خزيمة السابعة عشرة. وفي رواية أبي داود: الثامنة عشرة، فكان فيه تجوزا، لأن عم وقعت في الركعتين الأخيرتين في الجملة- انتهى. ووقع في رواية البخاري في باب الجمع بين السورتين في ركعة من أبواب الصلاة، فذكر عشرين سورة من المفصل، واستشكل عد الدخان من المفصل، لأنها ليست منه. وأجيب بأن ذكرها معهن فيه تجوز، ولذلك فصلها من المفصل في رواية البخاري في باب الترتيل في القراءة ولفظها: وإني لأحفظ القرناء التي كان يقرأ بهن النبي ? ثمان عشرة سورة من المفصل وسورتين من آل حم، لكن يرد رواية البخاري هذه أن الروايات لم تختلف أنه ليس في العشرين من الحواميم غير الدخان. قال الحافظ: فتحمل على التغليب أو فيها حذف كأنه قال: وسورتين إحداهما من آل حم- انتهى. ولذكر ابن مسعود هذا الحديث سبب وهو أن رجلا وهو نهيك بن سنان جاء إلى ابن مسعود فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة فقال: (أي ابن مسعود) هذا كهذ الشعر لقد عرفت النظائر الخ. قال الحافظ: وفي الحديث من الفوائد كراهة الإفراط في سرعة التلاوة، لأنه ينافي المطلوب من التدبر والتفكر في معاني القرآن،

(5/346)


ولا خلاف في جواز السرد بدون تدبر لكن القراءة بالتدبر أعظم أجرا وفيه جواز تطويل الركعة الأخيرة على ما قبلها، وفيه الجمع بين السورتين في ركعة، ويستدل بع على الجمع بين السور، لأنه إذا جمع بين السورتين ساغ الجمع بين الثلاث فصاعدا. وقد روى أبوداود، وصححه ابن خزيمة من طريق عبدالله بن شقيق قال سألت عائشة: أكان رسول الله ? يجمع بين السور؟ قالت نعم من المفصل. ولا يخالف هذا ما سيأتي في التهجد أنه جمع بين البقرة وغيرها من الطوال لأنه يحمل على النادر. وقال عياض في حديث ابن مسعود: هذا يدل على أن هذا القدر كان قدر قراءته غالبا. وأما تطويله فإنما كان في التدبر والترتيل. وما ورد غير ذلك من قراءة البقرة وغيرها في ركعة، فكان نادرا. قال الحافظ: لكن ليس في حديث ابن مسعود ما يدل على المواظبة، بل فيه أنه كان يقرن بين هذه السور المعينان إذا قرأ من المفصل، وفيه موافقة لقول عائشة وابن عباس إن صلاته بالليل كانت عشر ركعات غير الوتر. (متفق عليه)
?الفصل الثاني?
1207-(13) عن حذيفة: ((أنه رأى النبي ? يصلي من الليل، وكان يقول: الله أكبر، ثلاثا، ذو
الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة، ثم استفتح فقرأ البقرة، ثم ركع، فكان ركوعه نحوا
من قيامه، فكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثم رفع رأسه من الركوع،
فيه أن هذه الألفاظ لم يتفقا عليها، بل الحديث في الصحيحين بألفاظ مختلفة، ولفظ الكتاب بهذا السياق ليس لهما ولا لأحدهما، بل هو مجموع من مجموع ما فيهما. والحديث أخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن خزيمة والبيهقي (ج2 ص9).

(5/347)


1207- قوله: (يصلي من الليل) أي التهجد. (وكان) وفي بعض النسخ "فكان" موافقا لما في سنن أبي داود. قال الطيبي: الفاء للتفصيل. (يقول: الله أكبر ثلاثا) ليس في رواية النسائي ثلاثا. (ذو الملكوت) بفتحتين أي صاحب الملك والعزة ظاهرا وباطنا، والصيغة للمبالغة في الملك. (والجبروت) بفتحتين أيضا مبالغة في الجبر بمعنى القهر والغلبة. (والكبرياء والعظمة) قيل: الكبرياء الترفع عن جميع الخلق مع انقيادهم له التنزه عن كل نقص، والعظمة تجاوز القدر عن الإحاطة به. وقيل: الكبرياء عبارة عن كمال الذات. والعظمة عبارة عن جمال الصفات، ولا بوصف بهذين الوصفين إلا الله تعالى. (ثم استفتح) أي قرأ الثناء فإنه يسمى دعاء الاستفتاح أو استفتح بالقراءة أي بدأ بها من غير الإتيان بالثناء لبيان الجواز، أو بعد الثناء جمعا بين الروايات، وحملا على أكمل الحالات، قاله القاري. وقال ابن حجر: أي يقوله في صلاته في محل دعاء للافتتاح ثم استفتح القراءة- انتهى. قلت: يؤيد ما قاله ابن حجر رواية أحمد والترمذي في شمائله عن حذيفة أنه صلى مع النبي ? من الليل قال: فلما دخل في الصلاة قال: الله أكبر ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة، قال: ثم قرأ البقرة الخ، فقوله لما دخل أي بتكبيرة الإحرام وقوله الله أكبر الخ ظاهر أنه قال: ذلك بعد تكبيرة الإحرام بدليل زيادة الكلمات المذكورة، فيكون هذا صيغة من صيغ دعاء الافتتاح الواردة. (فقرأ) في الركعة الأولى. (البقرة) أي بكمالها بعد الفاتحة وإن لم يذكرها اعتمادا على ما هو معلوم من أنه ? لم يخل صلاة عن الفاتحة. (فكان ركوعه) أي طوله. (نحوا من قيامه) أي قريبا منه فيكون قد طول الركوع قريبا من هذا القيام الطويل يدل عليه رواية النسائي في صلاته التهجد، فلما ركع مكث قدر سورة البقرة ويقول في ركوعه: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، وكان مقروا فيها أيضا سورة البقرة. (فكان يقول) حكاية

(5/348)


للحال الماضية استحضارا. قاله ابن حجر: وفي سنن أبي داود "وكان يقول". (في ركوعه سبحان ربي العظيم) بفتح الياء، وتسكن، والمراد أنه كان يكرر هذه الكلمة ما دام
فكان قيامه نحوا من ركوعه، يقول: لربي الحمد، ثم سجد، فكان سجوده نحوا من قيامه، فكان يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى. ثم يرفع رأسه من السجود، وكان يقعد فيما بين السجدتين نحوا من سجوده، وكان يقول: رب اغفر لي رب اغفر لي. فصلى أربع ركعات قرأ فيهن البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة أو الأنعام))، شك شعبة رواه أبوداود.

(5/349)


راكعا (فكان قيامه) بعد الركوع أي اعتداله. (نحوا من ركوعه) أي قريبا منه، وفيه دليل على أن الاعتدال ركن طويل خلافا للشافعية فإنه ركن قصير عندهم. واختار النووي أنه طويل أخذا بهذا الحديث وأمثاله. (يقول) أي بعد سمع الله لمن حمده(لربي الحمد) أي كان يكرر ذلك مادام في الاعتدال. (فكان سجوده نحوا من قيامه) من الركوع للاعتدال. قال ابن حجر: أي من اعتداله. (فكان يقول في سجوده سبحان ربي الأعلى) أي كان يكرر ذلك مادام ساجدا. (ثم رفع رأسه من السجود) أي السجود الأول إلى الجلوس بين السجدتين. (وكان يقعد فيما بين السجدتين نحوا من سجوده) أي سجوده الأول. وفي مسند أحمد والشمائل فكان فيما بين السجدتين نحوا من السجود، وفيه دليل على أن الجلوس بين السجدتين ركن طويل خلافا للشافعية. (وكان يقول) أي في جلوسه بين السجدتين. (رب اغفر لي رب اغفر لي) أي وهكذا، فالمرتان المراد منهما التكرار مرارا كثيرة لا خصوص المرتين على حد قوله تعالى: ?ثم ارجع البصر كرتين? [67: 4]، فكان يكرر هذه الكلمة مادام جالسا، ولم يذكر السجود الثاني ولا تطويله ولا ما قاله فيه لعلمه بالمقايسة على السجود الأول. (قرأ) وفي أبي داود "فقرأ". (فيهن) أي في الركعات الأربع. (البقرة) في الركعة الأولى. (وآل عمران) في الثانية. (والنساء) في الثالثة. (والمائدة أو الأنعام) بالشك أي في الرابعة. (شك شعبة) راوي الحديث المذكور في السند، أي في السورة التي قرأها في الرابعة هل هي المائدة أو الأنعام؟ قال القاري: والأظهر الأول مراعاة للترتيب المقرر، مع أن الصحيح أن الترتيب في جميع السور توقيفي، وهو ما عليه الآن مصاحف الزمان، كما ذكره السيوطي في الإتقان في علوم القرآن- انتهى. والحديث يدل على مشروعية طلب المغفرة في الاعتدال بين السجدتين، وعلى استحباب تطويل صلاة النافلة والقراءة فيها بالسور الطويلة وتطويل أركانها جميعا. وفيه رد على من ذهب إلى كراهة

(5/350)


تطويل الاعتدال من الركوع والجلسة بين السجدتين. قال النووي: والجواب عن هذا الحديث صعب، ذكره الشوكاني في النيل. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص398) والنسائي والترمذي في الشمائل، كلهم من طريق أبي حمزة مولى الأنصار عن رجل من بني عبس عن حذيفة. قال الترمذي: أبوحمزة اسمه طلحة بن زيد. وقال النسائي: هو طلحة بن يزيد، وهذا الرجل المبهم يشبه أن يكون صلة بني زفر. قال
1208-(14) وعن عبدالله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله ? : ((من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين)).
المنذري: طلحة بن يزيد أبوحمزة الأنصاري مولاهم الكوفي، احتج به البخاري في صحيحه، وصلة بن زفر العبسي احتج به البخاري ومسلم- انتهى. والحديث أصله في صحيح مسلم.

(5/351)


1208- قوله: (من قام بعشر آيات) أي أخذها بقوة وعزم من غير فتور ولا توان، من قولهم قام بالأمر، فهو كناية عن حفظها والدوام على قراءتها والتفكر في معانيها والعمل بمقتضاها، وإليه الإشارة بقوله: لم يكتب من الغافلين، ولا شك أن قراءة القرآن في كل وقت لها مزايا وفضائل، وأعلاها أن يكون في الصلاة لاسيما في الليل قال تعالى: ?إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا? [73: 6] ومن ثم أورد محي السنة الحديث في باب صلاة الليل، قاله الطيبي. وحاصله أن الحديث مطلق غير مقيد لا بصلاة ولا بليل، فينبغي أن يحمل على أدنى مراتبه، ويدل عليه قوله لم يكتب من الغافلين، وإنما ذكره البغوي في محل الأكمل. وقال ابن حجر: أي يقرأها في ركعتين أو أكثر، وظاهر السياق أن المراد غير الفاتحة- انتهى. قلت: تفسير قام يصلي أي بالقراءة في الصلاة بالليل في هذا المقام هو الظاهر بل هو المتعين، لما روى ابن خزيمة في صحيحه والحاكم (ج1 ص309) عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: من صلى في ليلة بمائة آية لم يكتب من الغافلين، ومن صلى في ليلة بمائتى آية فإنه يكتب من القانتين المخلصين. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وأخرجه أيضا البزار، لكن في سنده يوسف بن خالد السمتي، وهو ضعيف، قاله الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص267). (لم يكتب من الغافلين) أي لم يثبت اسمه في صحيفة الغافلين. وقيل: أي خرج من زمرة الغفلة من العامة ودخل في زمرة ?رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله?. (ومن قام بمائة آية كتب من القانتين) القنوت يرد بمعنان: كالطاعة والقيام والخشوع والعبادة والسكوت والصلاة، فيصرف في كل واحد من هذه المعاني إلى ما يحتمله لفظ الحديث الوارد فيه، والمراد هنا القيام أو الطاعة أي كتب عند الله من الثابتين على طاعته أو من القائمين بالليل. وقال الطيبي: أي من الذين قاموا بأمر الله ولزموا طاعته وخضعوا له. (ومن قام بألف آية)

(5/352)


قال المنذري من الملك إلى آخر القرآن ألف آية. (كتب من المقنطرين) بكسر الطاء أي من المكثرين من الأجر والثواب، مأخوذ من القنطار، وهو المال الكثير. قال الطيبي: أي من الذين بلغوا في حيازة المثوبات مبلغ المنقطرين في حيازة الأموال. قال أبوعبيد: لا تجد العرب تعرف وزن القنطار، وما نقل عن العرب المقدار المعول عليه. قيل: أربعة آلاف دينار، فإذا قالوا: قناطير مقنطرة فهي اثنا عشرة ألف دينار.
رواه أبوداود.
1209- (15) وعن أبي هريرة، قال: ((كانت قراءة النبي ? بالليل يرفع طورا ويخفض طورا)). رواه أبوداود.
1210- (16) وعن ابن عباس، قال: ((كانت قراءة النبي ? على قدر ما يسمعه من في الحجرة

(5/353)


وقيل: القنطار ملأ جلد ثور ذهبا. وقيل: هو جملة كثيرة مجهولة من المال- انتهى. قلت: روى ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة مرفوعا: القنطار اثنا عشر ألف أوقية، الأوقية خير مما بين السماء والأرض، ذكره المنذري. وروى الطبراني في الكبير بسند ضعيف عن أبي أمامة في أثناء حديث: ومن قرأ ألف آية أصبح، وله قنطار ألف ومائتا أوقية، الأوقية خير مما بين السماء والأرض، أو قال: خير مما طلعت عليه الشمس. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما إلا أن في رواية ابن حبان: ومن قام بمائتى آية كتب من المقنطرين، أخرجوه من طريق أبي سوية عن ابن حجيرة عن عبدالله بن عمرو، وقد سكت عنه أبوداود والمنذري في تلخيص السنن. ونقل في الترغيب عن ابن خزيمة أنه قال: إن صح الخبر، فإني لا أعرف أبا سوية بعدالة ولا جرح- انتهى. قلت: أبوسوية هذا اسمه عبيد بن سوية. وقيل: عبيد بن حميد. وقيل: كنيته أبوسويد بدال مصغرا. قال في التقريب: والصواب أبوسوية صدوق. وقال في تهذيب التهذيب: قال ابن ماكولا: أنه كان فاضلا. وقال ابن حبان: ثقة مصري. وقال ابن يونس: كان رجلا صالحا- انتهى. وفي الباب عن فضالة بن عبيد وتميم الداري وأبي هريرة وأبي أمامة وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وأبي سعيد، ذكر أحاديثهم الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص267، 268) مع الكلام فيها.

(5/354)


1209- قوله: (كانت قراءة النبي ? بالليل) في الأزهار يعني في الصلاة، ويحتمل في غيرها أيضا، والخبر محذوف وهو مختلفة. (يرفع) أي صوته رفعا متوسطا. (طورا) أي مرة أو حالة إن كان خاليا. (ويخفض) بكسر الفاء المعجمة من ضرب أخرى، إن كان هناك نائم أو بحسب حاله المناسب لكل منهما. وقال الطيبي: يرفع خبر كان والعائد محذوف، أي يرفع عليه السلام فيها طورا صوته، والحديث يدل على أن الجهر والأسرار جائزان في قراءة صلاة الليل. (رواه أبوداود) وكذا في البيهقي (ج3 ص12، 13) وسكت عليه أبوداود والمنذري.
1210- قوله: (كانت قراءة النبي ?) أي رفع صوت قراءته في الصلاة بالليل. (على قدر ما يسمعه) أي مقدار قراءة يسمعها. وقال ابن حجر: أي صوت أو رفع يسمعه. (من في الحجرة) أي في صحن
وهو في البيت. رواه أبوداود.
1211-(17) وعن أبي قتادة، قال: ((إن رسول الله ? خرج ليلة فإذا هو بأبي بكر يصلي يخفض من صوته، ومر بعمر وهو يصلي رافعا صوته، قال: فلما اجتمعا عند النبي ? قال: يا أبا بكر! مررت بك وأنت تصلي تخفض صوتك. قال: قد أسمعت من ناجيت يا رسول الله ! وقال لعمر: مررت بك وأنت تصلي رافعا صوتك. فقال: يا رسول الله ! أوقظ الوسنان

(5/355)


البيت، وهي الأرض المحجورة أي الممنوعة بحائط محوط عليها. (وهو في البيت) أي والحال أنه ? في بيته، ويحتمل أن يقال المراد بالبيت هو الحجرة نفسها، أي يسمع من في الحجرة، وهو فيها. وقيل: الحجرة أخص من البيت، يعني أنه ? كان لا يرفع صوته كثيرا، ولا يسر بحيث لا يسمعه أحد، بل كانت قراءته بين الجهر والإسرار، فكان إذا قرأ في بيته سمع قراءته من في الحجرة من أهله، ولا يتجاوز صوته إلى ما وراء الحجرة، وهذا إذا كان يصلي ليلا، وأما في المسجد، فكان يرفع صوته فيها كثيرا، وفي قيام الليل لمحمد بن نصر المروزي: سئل ابن عباس عن جهر النبي ? بالقراءة بالليل، فقال: كان يقرأ في حجرته قراءة لو أراد أن يحفظها حافظ فعل. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا الترمذي في الشمائل بلفظ: كان قراءة النبي ? ربما يسمعه من في الحجرة، وهو في البيت. والحديث سكت عنه أبوداود. وقال المنذري: وفي سنده ابن أبي الزناد، واسمه عبدالرحمن بن عبدالله ابن ذكوان، وفيه مقال، وقد استشهد به البخاري في مواضع- انتهى. قلت: ضعفه ابن معين وعلي بن المديني والنسائي وغيرهم، ووثقه الترمذي والعجلي، وصح الترمذي عدة من أحاديثه. وقال في اللباس: ثقة حافظ. وقال ابن عدي: هو ممن يكتب حديثه. وقال ابن المديني والساجي وعمرو بن علي: ما حدث به بالمدينة فهو مقارب، وما حدث به العراق فهو مضطرب، وقال الحافظ في التقريب: صدوق تغير لما قدم بغداد، وكان فقيها. وللبيهقي (ج3 ص11) من طريق آخر بلفظ: كان يقرأ في بعض حجره، فيسمع قراءته من كان خارجا.

(5/356)


1211- قوله: (فإذا هو بأبي بكر) قال الطيبي: أي مار بأبي بكر. (يصلي) حال عنه. (يخفض) حال عن ضمير يصلي. (من صوته) "من" زائدة أو تبعيضية أو بعض صوته. (قال) أي أبوقتادة. (فلما إجتمعا عند النبي ? قال) أي النبي ? . (وأنت تصلي) وفي رواية الترمذي: وأنت تقرأ وهي جملة حالية. (تخفض صوتك) بدل أو حال. وفي بعض النسخ أبي داود: تخفض من صوتك. (قال) أبوبكر. (قد أسمعت من ناجيت) جواب متضمن لعلة الخفض، أي أنا أناجي ربي وهو يسمع لا يحتاج إلى رفع الصوت. (أوقظ) أي أنبه. (الوسنان) أي النائم الذي ليس بمستغرق في نومه، من وسن يوسن وسنا وسنة أخذه ثقل النوم
وأطرد الشيطان. فقال النبي ?: يا أبا بكر! ارفع من صوتك شيئا، وقال لعمر: اخفض من صوتك شيئا)). رواه أبوداود، وروى الترمذي ونحوه.
1212-(18) وعن أبي ذر، قال: ((قام رسول الله ? حتى أصبح بآية، والآية: ?إن تعذبهم فإنهم
عبادك. وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم?.

(5/357)


أو اشتد نعاسه. (وأطرد) أي أبعد. (الشيطان) ووسوسته بالغفلة عن ذكر الله (يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئا) أي قليلا لينتفع بك سامع ويتعظ مهتد. (وقال لعمر: اخفض من صوتك شيئا) أي قليلا لئلا يتشوش بك نحو مصل أو نائم معذور. قال الطيبي: نظيره قوله تعالى: ?ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ? [17: 110] كأنه قال للصديق أنزل من مناجاتك ربك شيأ قليلا واجعل للخلق من قراءتك نصيبا، وقال للفاروق ارتفع من الخلق هونا، واجعل لنفسك من مناجاة ربك نصيبا، وفيه هداية للأمر الوسط الذي هو خير الأمور وتصرف بتغيير ما هما وذلك من دأب المرشدين. (رواه أبوداود) مسندا ومرسلا، وكذا البيهقي (ج3 ص11). (روى الترمذي نحوه) أي بمعناه. وقال: حديث غريب. وإنما أسنده يحيى بن إسحاق عن حماد بن سلمة وأكثر الناس إنما رووا هذا الحديث عن ثابت عن عبدالله بن رباح مرسلا- انتهى. قال العلامة أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج2 ص330) هذا التعليل لا يؤثر في صحة الحديث، فإن يحيى بن إسحق ثقة صدوق، كما قال أحمد. وقال ابن سعد: كان ثقة حافظا لحديثه، ووصل الحديث زيادة يجب قبولها، والحديث قد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري بعد نقل كلام الترمذي: يحيى بن إسحاق هذا هو البجلي السيلحيني، وقد احتج به مسلم في صحيحه- انتهى. وفي الباب عن علي عند أحمد برجال ثقات، وعن عمار بن ياسر عند الطبراني في الكبير، وفي سنده أيوب بن جابر، وثقه أحمد وعمرو بن علي، وضعفه ابن المديني وابن معين، وعن أبي هريرة عند أبي داود، وقد سكت عنه هو والمنذري.

(5/358)


1212- قوله: (قام رسول الله ? ) أي في صلاته ليلا. (بآية) متعلق "بقام" أي أخذ يقرأها من لدن قيامه ويتفكر في معانيها مرة بعد أخرى، قاله الطيبي. وفي رواية لأحمد (ج5 ص149) قال: قال صلى رسول الله ? ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها. وفي فضائل القرآن لأبي عبيد: قام مصطفى ? ليلة فقرأ آية واحدة الليل كله حتى أصبح بها يقوم وبها يركع، والمعنى أنه ? قد استمر يكررها ليلته كلها في ركعات تهجده، فلم يقرأ فيها بغيرها. (والآية) أي المعهودة. (إن تعذبهم فإنهم عبادك) أي لا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل في ملكه. (وإن تغفر لهم) أي مع كفرهم. (فإنك أنت العزيز الحكيم) أي القوي القادر على الثواب والعقاب لا
رواه النسائي وابن ماجه.
1213-(19) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ?: ((إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه)).

(5/359)


تثيب ولا تعاقب إلا عن حكمة. وقيل: المعنى أن تعذبهم أي من أقام على الكفر منهم، فإنهم عبادك أي تصنع بهم ما شئت وتحكم فيهم بما تريد، لا اعتراض عليك وإن تغفر لهم أي لمن آمن منهم، فإنك أنت العزيز أي القادر على ذلك الحكيم في أفعاله، وإنما كررها ? حتى أصبح لما اعتراه عند قراءتها من هول ما ابتدئت به ومن حلاوة ما اختتمت به، والآية من قول عيسى عليه السلام في حق قومه، وكأنه عرض ? حال أمته على الله سبحانه وتعالى واستغفر لهم، يدل على ذلك ما زاد أحمد في روايته: فلما أصبح قلت: يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها، وتسجد بها قال: إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها، وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئا- انتهى. والحديث يدل على جواز تكرار الآية في الصلاة، ولعل ذلك كان قبل النهي عن القراءة في الركوع والسجود، أو أنه كان يقرأ بها في الركوع والسجود بنية الدعاء لا بنية القراءة والتلاوة، والله أعلم. (رواه النسائي) أي في سننه الكبرى. (وابن ماجه) قال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات، ثم قال: رواه النسائي في الكبرى وأحمد في المسند (ج5 ص149، 156) وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم- انتهى. وهو في المستدرك (ج1ص241) ووافقه الذهبي على تصحيحه، ورواه بقصة مطولة المروزي في قيام الليل (ص59) وذكره السيوطي في الدر المنثور مطولا بألفاظ مختلفة (ج2 ص249، 250) ونسبه أيضا لابن أبي شيبة وابن مردويه والبيهقي، وهو في السنن الكبرى من طريقين (ج3 ص13، 14). وفي الباب عن عائشة قالت: قام النبي ? بآية من القرآن ليلة. أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب.

(5/360)


1213- قوله: (إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر) يعني سنة الفجر، كما يشهد له حديث عائشة أول الفصل الأول. (فليضطجع) أي ندبا واستحبابا لما تقدم في شرح عائشة في الفصل الأول. (على يمينه) ولفظ الترمذي: على شقه الأيمن أي جنبه الأيمن، وهذا نص صريح في مشروعية الاضطجاع بعد سنة الفجر لكل أحد المتهجد وغيره، والمصلي ركعتي الفجر في المسجد وفي البيت، لأن الحديث مطلق، ولا دليل على تقييده بالمتهجد وبالمصلي في البيت. وللعلماء في هذا الاضطجاع أقوال: أحدها أنه سنة، وإليه ذهب الشافعي وأصحابه. وقال النووي في شرح مسلم: والصحيح أو الصواب أن الاضطجاع بعد سنة الفجر سنة. الثاني أنه مستحب، وروي ذلك عن جماعة من الصحابة، وهم أبوموسى الأشعري ورافع بن خديج وأنس بن مالك وأبوهريرة، ذكرهم

(5/361)


ابن القيم في زاد المعاد والعراقي والعيني. وممن قال به من التابعين: محمد بن سيرين وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وأبوبكر بن عبدالرحمن وخارجة بن زيد بن ثابت وعبيدالله بن عبدالله بن عتبة وسليمان بن يسار، كان هؤلاء الصحابة والتابعون يضطجعون على أيمانهم بيت ركعتي الفجر وصلاة الصبح، ويأمرون بذلك. الثالث أنه واجب مفترض لا بد من الإتيان وهو قول أبي محمد علي بن حزم الظاهري فقال في المحلى (ج3 ص196): كل من ركعتي الفجر لم تجزه صلاة الصبح إلا بأن يضطجع على شقه الأيمن بين سلامه من ركعتي الفجر وبين تكبيرة لصلاة الصبح، وسواء عندنا ترك الضجعة عمدا أو نسيانا، وسواء صلاها في وقتها أو صلاها قاضيا لها من نسيان أو عمد نومه، فإنه لم يصل ركعتي الفجر لم يلزمه أن يضطجع، فإن عجز عن الضجعة على اليمين لخوف أو مرض أو غير ذلك أشار إلى ذلك حسب طاقته، واستدل لذلك بحديث أبي هريرة، قال: وقد أوضحنا أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كله على فرض حتى يأتي نص آخر أو إجماع متيقن على أنه ندب فنقف عنده، وإذا تنازع الصحابة فالرد إلى كلام الله تعالى وكلام رسوله ?- انتهى. قلت: هذا إفراط من ابن حزم في هذه المسألة وغلو جدا، وقول لم يسبقه إليه أحد ولا ينصره فيه أي دليل، فقد عرفت في شرح حديث عائشة ثاني أحاديث الفصل الأول أن الأمر الوارد في حديث أبي هريرة هذا محمول على الاستحباب، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يداوم على الاضطجاع، فلا يكون واجبا فضلا عن أن يكون شرطا لصحة صلاة الصبح، ولو سلمنا أن الأمر فيه للوجوب. فمن أن يخلص له أن الوجوب معناه الشرطية، وأن من لم يضطجع لم تجزئه صلاة الصبح، وما كل واجب شرط. الرابع أن هذا الاضطجاع بدعة ومكروه، وممن قال به من الصحابة: ابن مسعود وابن عمر على اختلاف عنه، وقد تقدم الجواب عن ذلك في شرح حديث عائشة ثالث أحاديث الفصل الأول. الخامس أنه خلاف الأولى، روى ابن أبي

(5/362)


شيبة في مصنفه عن الحسن أنه كان لا يعجبه الاضطجاع بعد ركعتي الفجر. السادس أنه ليس مقصودا لذاته، وإنما المقصود الفصل بين ركعتي الفجر وبين الفريضة، إما باضطجاع أو حدث أو بالتحول من ذلك المكان إلى غيره أو غير ذلك. والاضطجاع غير متعين في ذلك، وهو محكي عن الشافعي، لكن قال البغوي والنووي والحافظ: المختار الاضطجاع بخصوصه لظاهر حديث أبي هريرة. السابع التفرقة بين من يقوم بالليل، فيستحب له ذلك للاستراحة وبين غيره، فلا يشرع له، واختاره ابن العربي وقال: لا يضطجع بعد ركعتي الفجر لانتظار الصلاة إلا أن يكون قام الليل فيضطجع استجماما لصلاة الصبح فلا بأس، ويشهد لهذا ما رواه الطبراني وعبدالرزاق عن عائشة: أنها كانت تقول أن النبي ? لم يضطجع لسنة، ولكنه كان يدأب ليلة فيستريح، وهذا لا تقوم به حجة. أما أولا فلأن في إسناده روايا لم يسم، كما قال الحافظ. وأما ثانيا فلأن ذلك منها ظن وتخمين وليس بحجة، وقد روت أنه كان يفعله، والحجة في فعله، وقد ثبت أمره به، فتأكدت بذلك مشروعية الثامن

(5/363)


التفرقة بين البيت فيستحب فيه وبين المسجد فلا يستحب فيه، ذهب إليه بعض السلف، وهو محكي عن ابن عمر وقد تقدم الجواب عنه. والراجح عندي هو القول الثاني يعني أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر مشروع على طريق الاستحباب لكل أحد أي المتهجد وغيره من المصلي سنة الفجر في المسجد وفي البيت، والله أعلم. وقد أجاب من لم ير مشروعية الاضطجاع عن حديث أبي هريرة هذا بأجوبة: أحدها أنه من رواية عبدالواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، وقد تكلم فيه بسبب ذلك يحيى بن سعيد القطان وأبوداود الطيالسي. قال يحيى بن سعيد: ما رأيته يطلب حديثا بالبصرة ولا بالكوفة قط، وكنت أجلس على بابه يوم الجمعة بعد الصلاة إذا كره بحديث الأعمش لا يعرف منه حرفا. وقال الفلاس: سمعت أبا داود يقول: عمد عبدالواحد إلى أحاديث كان يرسلها الأعمش فوصلها، يقول: حدثنا الأعمش حدثنا مجاهد في كذا وكذا، وهذا روايته عن الأعمش: وقال عثمان بن سعيد الدارمي عن يحيى بن معين: أن عبدالواحد ليس بشيء. والجواب عن هذا الجواب أن عبدالواحد بن زياد قد احتج به الأئمة الستة، ووثقه أحمد بن حنبل وأبوزرعة وأبوداود وابن القطان وابن سعد وأبوحاتم والنسائي والعجلي والدارقطني وابن حبان. وقد روى عن ابن معين ما يعارض قوله السابق فيه من طريق من روي عنه التضعيف له، وهو عثمان بن سعيد المتقدم، فروي عنه أنه قال ثقة. وقال العراقي: وما روي عنه من أنه ليس بثقة، فلعله اشتبه على ناقله بعبدالواحد بن زيد، وكلاهما بصري. وقال الحافظ في مقدمة الفتح: قال ابن معين: أثبت أصحاب الأعمش شعبة وسفيان ثم أبومعاوية ثم عبدالواحد بن زياد، وعبدالواحد ثقة وأبوعوانه أحب إلي منه، ووثقه أبوزرعة وأبوحاتم وابن سعد والنسائي وأبوداود والعجلي والدارقطني، حتى قال ابن عبدالبر لا خلاف بينهم أنه ثقة ثبت- انتهى. وأما قول يحيى بن سعيد: ما رأيته يطلب حديثا الخ، فقال الحافظ: هذا غير قادح، لأنه صاحب

(5/364)


كتاب، وقد احتج به الجماعة. وأما قول الفلاس ففيه أن هذا الحديث من روايته عن الأعمش عن أبي صالح لا عن مجاهد. الثاني أن الأعمش مدلس، وقد رواه عن أبي صالح بالعنعنة، والجواب عنه أن عنعنة الأعمش عن أبي صالح محمولة على الاتصال. قال الذهبي في الميزان: هو أي الأعمش يدلس، وربما دلس عن ضعيف ولا يدري به، فمتى قال: نا فلان، فلا كلام، ومتى قال: عن، تطرق إليه احتمال التدليس، إلا في شيوخ له أكثر عنهم كإبراهيم وأبي وائل وأبي صالح السمان، فإنه روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال- انتهى. الثالث أن رواية أبي صالح عن أبي هريرة معلولة لم يسمعه أبوصالح عن أبي هريرة، وبين الأعمش وأبي صالح كلام، نسب هذا القول إلى ابن العربي. وقال الأثرم: قلت لأحمد حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: رواه بعضهم مرسلا. والجواب عنه أن عبدالواحد قد رواه موصولا، وهو ثقة ثبت قد
رواه الترمذي وأبوداود.
?الفصل الثالث?
1214-(20) عن مسروق، قال: ((سألت عائشة: أي العمل كان أحب إلى رسول الله ?؟ قالت:
الدائم.

(5/365)


احتج به الأئمة الستة، وهو من أثبت أصحاب الأعمش، فتقبل وصله، لأنها زيادة ثقة، ولا يضره إرسال من أرسله. وأما دعوى عدم سماع أبي صالح من أبي هريرة، فمردودة، لأنه ادعاء محض، ويرده أيضا تصحيح الترمذي لهذا الحديث، وهو من أئمة الشأن. وسكوت أبي داود ثم المنذري، وقول النووي: أسانيده صحيحة. الرابع أنه اختلف في حديث أبي هريرة هذا هل من أمر النبي ? أو من فعله؟ فقد روى الترمذي وأبوداود وغيرهما من أمره. وروى ابن ماجه من فعله. وقد قال البيهقي: أن كونه من فعله أولى أن يكون محفوظا. وقال ابن تيمية: حديث أبي هريرة ليس بصحيح، وإنما الصحيح عنه الفعل لا الأمر بها، والأمر تفرد به عبدالواحد ابن زياد وغلط فيه- انتهى. والجواب عنه أن وروده من فعله ? لا ينافي كونه وروده من قوله، فيكون عند أبي هريرة حديثان حديث الأمر به، وحديث ثبوته من فعله، على أن الكل يفيد ثبوت أصل الشرعية، فيرد القول بكراهته ونفي مشروعيته. الخامس أن ابن عمر لما سمع أبا هريرة يروي حديث الأمر به قال: أكثر أبوهريرة على نفسه. والجواب عنه أن ابن عمر سئل هل تنكر شيئا مما يقول أبوهريرة؟ قال: لا، وأن أبا هريرة قال: فما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا، وقد ثبت أن النبي ? دعا له بالحفظ هذا. وقد أفاض القول في هذا المبحث العلامة العظيم آبادي في أعلام أهل العصر بأحكام ركعتي الفجر (ص14- 20) فارجع إليه. (رواه الترمذي) وصححه. (وأبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. وقال النووي في شرح مسلم والشيخ زكريا الأنصاري في فتح العلام: إسناده على شرط الشيخين، وقال النووي في رياض الصالحين (426): أسانيده صحيحه. وقال الشوكاني: رجاله رجال الصحيح. وقد أفرط ابن تيمية في الرد على ابن حزم حتى زعم أن حديث أبي هريرة هذا باطل، وليس بصحيح لتفرد عبدالواحد بن زياد به، وفي حفظه مقال. قال الحافظ بعد ذكره: والحق أنه تقوم به حجة- انتهى. قلت: قول ابن تيمية هذا غلو منه وبعيد عن الصواب.

(5/366)


والحق أن الحديث صحيح سندا ومتنا، وعبد الواحد ثقة ثبت فلا يضر تفرده به، والله أعلم. والحديث أخرجه أيضا أحمد وابن حزم في المحلي، وابن حبان، والبيهقي.
1214- قوله: (أي العمل) بالرفع. وفي رواية النسائي أي الأعمال. (كان أحب) بالنصب. (قالت: الدائم) بالرفع، لأنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو الدائم. وقيل: بالنصب. قال الطيبي: أي العمل الذي يدوم عليه صاحبه ويستقر عليه عامله، ومن ثم أدخل حرف التراخي في قوله تعالى: ?إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا? [41: 30)
قلت: فأي حين كان يقوم من الليل؟ قالت: كان يقوم إذا سمع الصارخ)). متفق عليه.
1215- (21) وعن أنس، قال: ((ما كنا نشاء أن نرى رسول الله ? في الليل مصليا إلا رأيناه، ولا نشاء أن نراه نائما إلا رأيناه)).

(5/367)


والمراد بالدوام الملازمة العرفية لا شمول الأزمنة، لأنه متعذر (فأي حين) بالنصب. وقيل: بالرفع. (كان يقوم) أي فيه. (من الليل) أي من أحيانه وأوقاته، ولم أجد هذا اللفظ أي قوله: من الليل في الصحيحين. وفي بعض النسخ للبخاري "في" أي حين كان يقوم. (قالت كان يقوم) أي فيصلي، ففي رواية: كان إذا سمع الصارخ قام فصلى. (إذا سمع الصارخ) أي الديك. قال النووي: هو المراد هنا باتفاق العلماء، وسمي بذلك لكثرة صياخه. وفي سيرة الحافظ العراقي المنظومة: أنه كان عند النبي ? ديك أبيض. قال: كان عند النبي الديك أبيض له. كذا المحب الطبري نقله. قال الحافظ في الفتح: وقع في مسند في الطيالسي في هذا الحديث. الصارخ الديك، والصرخة الصحيحة الشديدة، وجرت العادة بأن الديك يصيح عند نصف الليل غالبا، قاله محمد بن ناصر. قال ابن التين: وهو موافق لقول ابن عباس نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل. وقال ابن بطال: الصارخ يصرخ عند ثلث الليل الأخير. والمراد بالدوام قيامه كل ليلة في ذلك الوقت لا الدوام المطلق- انتهى. قلت: لعل صراخ الديك في الليل يختلف باختلاف البلاد، وفي بلادنا يصيح في الثلث الأخير، بل في السدس الأخير. وروى أحمد وأبوداود وابن ماجه عن زيد بن خالد الجهني مرفوعا: لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة، وإسناده جيد. وفي لفظ: فإنه يدعوا إلى الصلاة، وليس المراد أن يقول بصراخه حقيقة الصلاة، بل العادة جرت أنه يصرخ صرخات متتابعة عند طلوع الفجر، وعند الزوال فطرة فطره الله عليها، فيذكر الناس بصراخة الصلاة، قاله القسطلاني. وفي الحديث الحث على المداومة على العمل وإن قل. وفيه الاقتصاد في العبادة وترك التعمق فيها؛ لأن ذلك أنشط والقلب به أشد انشراحا. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في الرقاق، إلا قوله "من الليل" فلم أجده عنده ولا عند مسلم. والظاهر أن المصنف نسب هذا اللفظ إلى الشيخين تبعا للجزري. والحديث أخرجه أيضا أبوداود والنسائي

(5/368)


والبيهقي (ج3 ص3، 17).
1215- قوله: (ما كنا) ما نافية. (نشاء أن نرى) أي نبصر. (في الليل) أي في وقت من أجزاء الليل. (مصليا) حال من المفعول. (إلا رأيناه) أي مصليا. (ولا نشاء أن نراه نائما) أي في الليل. (إلا رأيناه) أي نائما. قال الطيبي: المعنى ما كنا أردنا أمرا منهما إلا وجدنا عليه يعني أن أمره كان قصدا لا إفراطا ولا تفريطا- انتهى. يعني ينام بالليل ويقوم، ولا يقوم الليل كله ولا ينام فيه كله هذا، ويحتمل أن يكون المراد أنه كان ? يقوم
رواه النسائي.
1216-(22) وعن حميد بن عبدالرحمن بن عوف، قال: ((إن رجلا من أصحاب النبي ? قال: قلت وأنا في سفر مع رسول الله ? : والله لأرقبن رسول الله ? للصلاة حتى أرى فعله، فلما صلى صلاة العشاء، وهي العتمة، اضطجع هويا من الليل، ثم استيقظ فنظر في الأفق، فقال:

(5/369)


تارة وينام أخرى، يفعل ذلك المرات في الليل، فمنهم من يتفق رؤيته مصليا، ومنهم من يتفق رؤيته نائما، قالوا كان صلاته نصف الليل ونومه نصفه، كذا في اللمعات. وقال السندي في حاشية النسائي: أي أن صلاته ونومه ما كان مخصوصين بوقت دون وقت، بل كانا مختلفين في الأوقات، وكل وقت صلى فيه أحيانا نام فيه أحيانا-انتهى. يعني أنه ما كان يعين بعض الليل للصلاة وبعضه للنوم، بل وقت صلاته في بعض الليالي وقت نومه في بعض آخر وعكسه، فكان لا يرتب لتهجده وقتا معينا بل بحسب ما تيسر له من القيام. قال الحافظ: يعني أنس أن حاله في التطوع بالقيام كان يختلف، فكان تارة يقوم من أول الليل وتارة في وسطه وتارة من آخره، فكان من أراد أن يراه في وقت من أوقات الليل قائما فراقبه المرة بعد المرة، فلا بد أن يصادفه قام على وفق ما أراد أن يراه، هذا معنى الخبر وليس المراد أنه كان يستوعب الليل قياما- انتهى. ولا يشكل عليه قول عائشة كان إذا صلى صلاة دوام عليها. وقولها: كان عمله ديمة، لأن اختلاف وقت التهجد تارة في أول الليل وأخرى في آخره لا ينافي مداومة العمل، كما أن صلاة الفرض تارة تكون في أول الوقت وتارة في آخره مع صدق المدوامة عليه، ولا يشكل عليه أيضا قول عائشة: إذا سمع الصارخ قام فصلى، فإن عائشة تخبر عما لها عليه إطلاع، وذلك أن صلاة الليل كانت تقع منه غالبا في البيت، فخبر أنس محمول على ما وراء ذلك. (رواه النسائي) وأخرجه البخاري مطولا وسيأتي في باب القصد في العمل والبيهقي (ج3 ص17).

(5/370)


1216- قوله: (عن حميد) بضم الحاء المهملة مصغرا. (بن عبدالرحمن بن عوف) الزهري المدني، ثقة من كبار التابعين، توفي سنة 95 وهو ابن 73 سنة. وقيل: مات سنة 105. (أن رجلا من أصحاب النبي ? ) الظاهر أنه هو زيد بن خالد الجهني المتقدم فلا تضر جهالته، لأن الصحابة كلهم عدول. (قال) أي رجل. (قلت) في نفسي أو لبعض أصحابي. (وأنا في سفر) من غزوة أو عمرة أو حجة. (لأرقبن) أي لأنظرن وأحفظن. (رسول الله ? ) أي وقت قيامه في الليل. (للصلاة) أي لأجلها. (حتى أرى فعله) وأقتدي به. قال الطيبي: أي لأرقبن وقت صلاته في الليل فأنظر ماذا يفعل فيه، فاللام في الصلاة، كما في قوله: ?قدمت لحياتي?. (اضطجع) أي رقد. (هويا) بفتح الهاء وتشديد الياء التحتانية أي زمانا طويلا. (فنظر في الأفق) أي نواحي السماء. (فقال) أي قرأ
?ربنا ما خلقت هذا باطلا? حتى بلغ إلى: ?إنك لا تخلف الميعاد? ثم أهوى رسول الله ? إلى فراشه، فاستل منه سواكا، ثم أفرغ في قدح من إداوة عنده ماء، فاستن، ثم قام، فصلى، حتى قلت: قد صلى قدر ما نام ثم اضطجع حتى قلت قد نام قدر ما صلى، ثم استيقظ، ففعل كما فعل أول مرة، وقال مثل ما قال، ففعل رسول الله ? ثلاث مرات قبل الفجر)). رواه النسائي.
1217- (23) وعن يعلى بن مملك، أنه سأل أم سلمة

(5/371)


(ربنا ما خلقت هذا) أي مرئينا من السماء والأرض. (باطلا) أي خلقا عبثا بل خلقته بالحق والحكمة. والظاهر أنه عليه السلام قرأ ما قبله من قوله تعالى: ?إن في خلق السماوات والأرض? [3: 190] إلى آخر السورة، كما تقدم. وإنما سمع الراوي هذا المقدار. (حتى بلغ إلى أنك لا تخلف الميعاد) أي البعث بعد الموت، كما صح عن ابن عباس أن الميعاد البعث بعد الموت، وعدم إخلاف الميعاد بإثابة المطيع وعقاب العاصي، وقيل: أي وعدك للعباد في يوم المعاد، ويحتمل أنه عليه السلام وقف على هذا المقدار وتلك الليلة، ويحتمل أن السامع لم يسمع ما بعده، فيوافق ما سبق عن ابن عباس أنه قرأ إلى آخر السورة. (ثم أهوى رسول الله ?) أي مد يده أو قصد بيده أو مال. (إلى فراشه) بكسر الفاء. (فاستل منه) أي استخرج من تحت فراشه. (سواكا) قال الطيبي: أي انتزاع السواك من الفراش برفق وتأن وتدريج. (ثم أفرغ) أي صب. (في قدح) بفتحتين. (من إداوة) أي مطهرة كائنة. (عنده) والاداوة بكسر الهمزة إناء صغير من جلد. (ماء) مفعول صب. قال ابن حجر: أي ماء بل السواك منه، كما هو السنة- انتهى. ويحتمل أنه صب الماء فيه تهيئة للوضوء. (فاستن) بتشديد النون أي استعمل السواك في الأسنان، وهو افتعال من الأسنان، لأنه يمره عليها. (ثم قام فصلى) أي بوضوء مجدد أو بوضوء السابق. (حتى قلت) أي في ظني. (قد نام) أي رقد أو استراح. (ثم استيقظ) أي استنبه من النوم أو رفع جنبه عن الأرض أي فقام. (ففعل كما فعل أول مرة) أي من الاستياك والصلاة. (وقال مثل ما قال) من قراءة الآيات. والواو لمطلق الجمع. (ففعل رسول الله ?) أي ما ذكر من القول والفعل أو من النوم واليقظة. (قبل الفجر) أي قبل طلوعه. (رواه النسائي) برجال ثقات إلا أن في رواية يونس بن يزيد الأيلي عن الزهري وهما قليلا. وهذا الحديث من رواية يونس عن الزهري عن حميد بن عبدالرحمن بن عوف.

(5/372)


1217- قوله: (عن يعلى) بفتح الياء وسكون العين المهملة وفتح اللام. (بن مملك) بفتح الميم الأولى وسكون الثانية وفتح اللام بعدها كاف بوزن جعفر، ذكره ابن حبان في الثقات. وقال في التقريب: مقبول
زوج النبي ? عن قراءة النبي ? وصلاته؟ فقالت: وما لكم وصلاته؟ كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح، ثم نعتت قراءته، فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا)). رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي.

(5/373)


(زوج النبي ? ) بدل أو عطف بيان. (عن قراءة النبي ? ) أي عن صفتها من الترتيل والمد والوقف وغير ذلك. (وصلاته) أي في الليل. (وما لكم وصلاته) بالنصب، فإن الواو بمعنى مع أي ما تصنعون بصلاته، والحال أنكم لا طاقة لكم أن تصلوا مثلها، ففيه نوع استغراب. وقال الطيبي: "وما لكم" عطف على مقدر، أي مالكم وقراءته وما لكم وصلاته، والواو في قوله "وصلاته" بمعنى مع، أي ما تصنعون مع قراءته وصلاته، ذكرتها تحسرا وتلهفا على ما تذكرت من أحوال رسول الله ?، لا أنها أنكرت السؤال على السائل- انتهى. قال القاري: أو معناه أي شيء يحصل لكم مع وصف قراءته وصلاته، وأنتم لا تستطيعون أن تفعلوا مثله، ففيه نوع تعجب، ونظيره قول عائشة: وأيكم يطيق ما كان رسول الله ? يطيق. ووقع في رواية أحمد (ج6 ص294): ما لكم ولصلاته ولقراءته، أي بحذف الواو في الأول وزيادة اللام الجارة في الصلاة. (كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى ثم يصلي قدر ما نام ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح) أي كان يستمر حاله هذا من القيام والنيام إلى أن يصبح. وفي رواية للنسائي: قالت أي أم سلمة: كان يصلي العتمة ثم يسبح ثم يصلي بعدها ما شاء الله من الليل ثم ينصرف فيرقد مثل ما صلى ثم يستيقظ من نومه ذلك فيصلي مثل ما نام وصلاته تلك الآخرة تكون إلى الصبح. (ثم نعتت قراءته) أي وصفت قراءته ?. (فإذا هي) أي أم سلمة. (تنعت قراءة مفسرة) بفتح السين المشددة أو كسرها من الفسر وهو البيان أي مبينة. (حرفا حرفا) أي كان يقرأ بحيث يمكن عد حروف ما يقرأ، والمراد أن قراءته كانت مرتلة ومجودة ومميزة غير مخالطة، ونعتها لقراءته ? يحتمل وجهين: أحدهما أنها قالت كانت قراءته كذا وكذا. وثانيهما أنها قرأت قراءة مرتلة ومبينة، وقالت: كان النبي ? يقرأ مثل هذه القراءة، وحرفا حرفا حال أي حال كونها مفصولة الحروف. قال أبوالبقاء: نصبهما على الحال أي مرتلة نحو أدخلتهم رجلا رجلا أي مفردين. . . . . (رواه

(5/374)


أبوداود) في أواخر الصلاة. (والترمذي) في أواخر فضائل القرآن. وقال: حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث الليث بن سعد عن ابن أبي ملكية عن أم سلمة- انتهى. والليث بن سعد ثقة ثبت فقيه إمام مشهور، أخرج عنه الجماعة فلا يضر تفرد به، وقد سكت عنه أبوداود، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. (والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد (ج6 ص294، 300) والبيهقي (ج3 ص13).
(32) باب ما يقول إذا قام من الليل
?الفصل الأول?
1218-(1) عن ابن عباس قال:((كان النبي ? إذا قام من الليل يتهجد قال: اللهم لك الحمد أنت
قيم السماوات والأرض
(باب ما يقول إذا قام من الليل) من الأدعية والأذكار.

(5/375)


1218- قوله: (كان النبي ? إذا قام من الليل يتهجد) أي يصلي صلاة الليل، وهو حال من فاعل "قام" وأصل التهجد ترك الهجود، وهو النوم. وقال ابن فارس: المتهجد المصلي ليلا، ذكره القسطلاني. وقال الحافظ: تفسير التهجد بالسهر معروف في اللغة، وهو من الأضداد يقال: تهجد إذا سهر وتهجد إذا نام، حكاه الجوهري وغيره، ومنهم من فرق بينهما فقال: هجدت نمت وتهجدت سهرت، حكاه أبوعبيدة وصاحب العين، فعلى هذا أصل الهجود النوم، ومعنى تهجدت طرحت عني النوم. وقال الطبري: التهجد السهر بعد نومة ثم ساقه عن جماعة من السلف. وقال ابن فارس: المتهجد المصلي ليلا، وقال فرا: التهجد صلاة الليل خاصة- انتهى. وقال الفخر الرازي في تفسيره: قال الأزهري المعروف في كلام العرب أن الهاجد هو النائم، ثم أن في الشرع يقال لمن قام من النوم إلى الصلاة أنه متهجد، فوجب أن يحمل على أنه سمى متهجدا لا لقاءه الهجود عن نفسه، كما قيل للعابد متحنث لا لقاءه الحنث عن نفسه وهو الإثم، ويقال: فلان رجل متحرج ومتأثم ومتحوب أي يلقي الحرج والإثم والحوب عن نفسه- انتهى. (قال) في موضع نصب خبر "كان" و"إذا" المجرد الظرفية، أي كان عليه السلام عند قيامه من الليل متهجدا يقول. وقال الطيبي: الظاهر أن "قال" جواب "إذا". والشرطية خبر كان- انتهى. وفي رواية مالك ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن كان يقول: إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل. قال الحافظ: ظاهر السياق أنه كان يقوله أول ما يقوم إلى الصلاة، وترجم عليه ابن خزيمة الدليل على أن النبي ? كان يقول هذا التحميد بعد أن يكبر، ثم ساقه من طريق قيس بن سعد عن طاووس عن ابن عباس قال: كان رسول الله ? إذا قام للتهجد قال بعد ما يكبر اللهم لك الحمد- انتهى. قلت: ولأبي داود من هذا الطريق أن رسول الله ? كان في التهجد يقول بعد ما يقول الله أكبر. (اللهم لك الحمد) تقديم الخبر للدلالة على التخصيص. (أنت قيم السماوات والأرض) أي القائم بأمره

(5/376)


وتدبيره السماوات والأرض وغيرها. وفي رواية: قيام وفي أخرى قيوم، وهي من أبنية المبالغة، وهي من صفات الله تعالى، ومعناه واحد. وقيل: القيم معناه القائم بأمور الخلق ومدبر العالم في جميع أحواله والقيام القائم بنفسه بتدبير خلقه المقيم لغيره، والقيوم من أسماء الله
ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك
السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك الحق،
تعالى المعدودة، وهو القائم بنفسه مطلقا لا بغيره وهو مع ذلك يقوم به كل موجود، حتى لا يتصور وجود شيء ولا دوام وجوده إلا به، وأصل هذه الألفاظ من الواو قيوم وقيوام وقيووم بوزن فيعل فيعال فيعول، وكأنه قيل: لم خصصتني بالحمد؟ فقال لأنك أنت الذي تقوم بحفظ المخلوقات وتراعيها وتؤتي كل شيء ما به قوامه وما به ينتفع إلى غير ذلك. وتكرير الحمد المخصص للاهتمام بشأنه وليناط به كل مرة معنى آخر. (ومن) غلب فيه العقلاء. (فيهن) أي في السماوات والأرض. (أنت نور السماوات والأرض) أي منورها وخالق نورهما، يعني أن كل شيء استنار منهما وأضاء فبقدرتك وجودك والأجرام النيرة بدائع فطرتك والعقول والحواس خلقك وعطيتك. قيل: وسمي بالنور لما اختص به من إشراق الجمال وسبحات العظمة والجلال التي تضمحل الأنوار دونها، ولما هيأ للعالم من النور ليهتدوا به عالم الخلق، فهذا الاسم على هذا المعنى لا استحقاق لغيره فيه، بل هو المستحق له المدعو به. وقيل: المعنى منزه في السماوات والأرض من كل عيب ومبرأ من كل ريبة، يقال: فلان منور أي مبرأ من العيب. وقيل: هو اسم مدح، يقال: فلان نور البلد أي مزينه. قال في الملمعات: وعند أهل التحقيق هو محمول على ظاهره، والنور عندهم الظاهر بنفسه المظهر لغيره. (أنت ملك السماوات والأرض ) بكسر اللام أي المتصرف فيهما تصرفا كليا ملكيا وملكيا ظاهريا وباطنيا، لا نزاع في ملكه ولا شريك له في ملكه. وفي رواية: أنت رب

(5/377)


السماوات والأرض. (ومن فيهن) عبر بمن تغليبا للعقلاء لشرفهم وإلا فهو رب كل شيء وملكيه. (أنت الحق) أي المتحقق الوجود الثابت بلا شك فيه. قال القرطبي: هذا الوصف له سبحانه وتعالى بالحقيقة خاص به، لا ينبغي لغيره إذ وجوده بذاته لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم، ومن عداه ممن عداه يقال فيه ذلك فهو بخلافه. وقيل: يحتمل أن يكون معناه أنت الحق بالنسبة إلى من يدعى فيه أنه إله أو بمعنى أن من سماك إلها فقد قال الحق. (ووعدك الحق) أي صادق لا يمكن التخلف فيه، والظاهر أن تعريف الخبر فيه، وفي قوله أنت الحق ليس للقصر، وإنما هو لإفادة أن الحكم به ظاهر مسلم لا منازع فيه، كما قال علماء المعاني في قوله: ووالدك العبد، وذلك لأن مرجع هذا الكلام إلى أنه تعالى موجود صادق الوعد، وهذا أمر يقوله المؤمن والكافر. قال تعالى: ?ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله? [31: 25] ولم يعرف في ذلك منازع يعتد به، وكأنه لهذا عدل إلى التنكير في البقية حيث وجد المنازع فيها بقي أن المناسب لذلك أن يقال وقولك الحق، كما في رواية مسلم:، فكان التنكير في رواية البخاري للمشاكلة، قاله السندي. وقال الطيبي: عرف الخبر فيهما ونكر في البواقي، لأنه لا منكر خلفا وسلفا أن الله هو الثابت الدائم الباقي، وما سواه في معرض الزوال. قال لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل. وكذا وعده مختص بالإنجاز دون وعد غيره، إما قصدا وإما عجزا، تعالى الله عنهما، والتنكير في البواقي للتفخيم- انتهى.
ولقاءك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبي ون حق ومحمد حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي

(5/378)


وقال القاري: فإن قلت لم عرف الحق في الأوليين ونكر في البواقي؟ قلت: المعرف بلام الجنس، والنكرة المسافة بينهما قريبة، بل صرحوا بأن مؤداهما واحد لا فرق بينهما، إلا بأن في المعرفة إشارة إلى أن الماهية التي دخل عليها اللام معلومة للسامع، وفي النكرة لا إشارة إليها وإن لم تكن إلا معلومة. وفي صحيح مسلم: قولك الحق بالتعريف أيضا. وقال الخطابي: عرفهما للحصر، وذكر ما قاله الطيبي- انتهى. (ولقاءك حق) أي المصير إلى الآخرة. وقيل: رؤيتك في الدار الآخرة حيث لا مانع. وقيل: لقاء جزائك لأهل السعادة والشقاوة، وهو وما ذكر بعده داخل تحت الوعد. لكن الوعد مصدر، وما ذكر بعده هو الموعود به، ويحتمل أن يكون من الخاص بعد العام كما أن ذكر القول بعد الوعد من العام بعد الخاص، وقد يراد باللقاء الموت لكونه وسيلة إلى اللقاء، وأبطله النووي. (وقولك حق) أي مدلوله ثابت. وقد تقدم أن في رواية مسلم: وقولك الحق بالتعريف. (والجنة حق والنار حق) أي كل منهما موجود. (ومحمد حق) خص محمدا ? من بين النبي ين بالذكر تعظيما له، وعطفه عليهم إيذانا بالتغاير، وأنه فائق عليهم عليهم بأوصاف مختصة به، فإن تغاير الوصف ينزل منزلة تغاير الذات، ثم حكم عليه استقلالا بأنه حق وجوده عن ذاته كأنه غيره وأوجب عليه الإيمان به وتصديقه مبالغة في إثبات نبوته كما في التشهد. وقال السندي: قوله: محمد حق التأخير للتواضع وهو أنسب بمقام الدعاء، وذكره على الإفراد لذلك وليتوسل بكونه نبيا حقا إلى إجابة الدعاء. وقيل: هو من عطف الخاص على العام تعظيما له ومقام الدعاء يأبى ذلك- انتهى. (والساعة حق) أي يوم القيامة. وأصل الساعة الجزء القليل من اليوم أو الليلة ثم استعير للوقت الذي تقام فيه القيامة، يريد أنها ساعة حقيقة يحدث فيها أمر عظيم. وإطلاق اسم الحق على ما ذكر من الأمور معناه أنه لا بد من كونها، وأنها مما يجب أن يصدق بها. وتكرار لفظ حق للمبالغة في

(5/379)


التأكيد. (لك أسلمت) أي انقدت وخضعت. (وبك آمنت) أي صدقت. (وعليك توكلت) أي فوضت الأمر إليك تاركا للنظر في الأسباب العادية. (وإليك أنبت) أي رجعت إليك مقبلا بقلبي إليك. قيل: التوبة والإنابة كلاهما بمعنى الرجوع، ومقام الإنابة أعلى وأرفع. (وبك خاصمت) أي بما أعطيتني من البراهين وبما لقنتني من الحجج خاصمت من خاصمني من أعدائك بتأئيدك ونصرتك قاتلت. (وإليك حاكمت) أي رفعت أمري إليك. والمحاكمة رفع الأمر إلى القاضي. قال الحافظ: أي كل من جحد الحق حاكمته إليك وجعلتك الحكم بيني وبينه لا غير مما كانت تحاكم إليه الجاهلية وغيرهم من كاهن ونحوه، فلا أرضى إلا يحكمك ولا أعتمد غيره. وقدم مجموع صلات هذه الأفعال عليها إشعارا بالتخصيص وإفادة للحصر. وقال السندي: الظاهر أن تقديم الجار للقصر بالنظر إلى سائر ما عبد من دون الله تعالى. (فاغفر لي) قال
ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت
المؤخر، لا إله إلا أنت، ولا إله غيرك)). متفق عليه.
1219-(2) عن عائشة، قالت: ((كان النبي ? إذا قام من الليل افتتح صلاته فقال: اللهم رب جبريل

(5/380)


ذلك مع كونه مغفورا له إما على سبيل التواضع والهضم لنفسه إجلالا وتعظيما لربه، أو على سبيل التعليم لأمته لتقتدي به (ما قدمت) أي قبل هذا الوقت. (وما أخرت) أي وما سأفعل أو ما فعلت وما تركت. (وما أسررت وما أعلنت) أي أخفيت وأظهرت أو ما حدثت به نفسي وما تحرك به لساني. (وما أنت أعلم به مني) هذا من ذكر العام بعد الخاص. (أنت المقدم وأنت المؤخر) قال المهلب: أشار بذلك إلى نفسه، لأنه المقدم في البعث في الآخرة والمؤخر في البعث في الدنيا. وقال عياض: قيل: معناه المنزل للأشياء منازلها يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء، وجعل عباده بعضهم فوق بعض درجات. وقيل: هو بمعنى الأول والآخر، إذ كل متقدم على متقدم فهو قبله، وكل مؤخر على متأخره فهو بعده، ويكون المقدم والمؤخر بمعنى الهادي والمضل قدم من يشاء لطاعته لكرامته، وأخر من شاء بقضائه لشقاوته- انتهى. قال الكرماني: هذا الحديث من جوامع الكلم، لأن لفظ القيم إشارة إلى أن وجود الجواهر وقوامها منه، وبالنور إلى أن الأعراض أيضا منه، وبالملك إلى أن حاكم عليها إيجادا وإعداما، يفعل ما يشاء كل ذلك من نعم الله تعالى على عباده، فلهذا قرن كلا منها بالحمد وخصص الحمد به، ثم قوله: أنت الحق إشارة إلى أنه المبدئ للفعل والقول ونحوه إلى المعاش والساعة، ونحوها إشارة إلى المعاد، وفيه الإشارة إلى النبوة وإلى الجزاء ثوابا وعقابا، ووجوب الإسلام والإيمان والتوكل والإنابة والتضرع إلى الله تعالى والخضوع له- انتهى. وفيه زيادة معرفة النبي ? بعظمة ربه وعظيم قدرته ومواظبته في الليل على الذكر والدعاء والاعتراف له بحقوقه والإقرار بصدق وعده ووعيده وغير ذلك. وفيه استحباب تقديم الثناء على المسألة عند كل مطلوب إقتداء به ?. (لا إله إلا أنت ولا إله غيرك) قال القاري: وفي نسخة "أو" بدل الواو. قال ميرك: كذا في البخاري بلفظ: "أو" -انتهى. (متفق عليه) واللفظ للبخاري

(5/381)


في باب التهجد بالليل إلا قوله: "وما أنت أعلم به مني"، فإنه أخرج الحديث بهذه الزيادة في التوحيد، وزاد في الدعوات: أنت إلهي لا إله غيرك. والحديث أخرجه أيضا مالك في الصلاة، والترمذي في الدعوات، وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي في الصلاة.
1219- قوله: (افتتح صلاته) أي التهجد. (اللهم رب جبريل) منصوب على أنه منادى بتقدير حرف النداء، أو بدل من"اللهم" لا وصف له، لأن لحوق الميم المشددة مانع من التوصيف عند سيبويه، نعم جوز
وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين
عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء
إلى صراط مستقيم)). رواه مسلم.

(5/382)


الزجاج التوصيف أيضا. قال القاري: قيل لا يجوز نصب "رب" على الصفة، لأن الميم المشددة بمنزلة الأصوات، فلا يوصف بما اتصل به، فالتقدير: يا رب جبريل. قال الزجاج: هذا قول سيبوية. وعندي: أنه صفة فكما لا تمتنع الصفة مع ياء لا تمتنع مع الميم. قال أبوعلي: قول سيبوية عندي أصح، لأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد اللهم، ولذلك خالف سائر الأسماء، ودخل في حيز ما لا يوصف، نحو حيهل فإنها صارا بمنزلة صوت مضموم إلى اسم، فلم يوصف، ذكر الطيبي (جبريل) بالهمزة، وكذا وقع في جامع الترمذي والنسائي وابن ماجه بالهمز. قال ابن ماجه: قال عبدالرحمن بن عمر. (يعني شيخه) أحفظوه جبريل مهموزة، فإنه كذا عن النبي ? - انتهى. وفي بعض نسخ المشكاة: جبريل أي بغير الهمزة، وكذا وقع في نسخ مسلم وأبي داود، وفي المصابيح والسنن البيهقي وجامع الأصول. (وميكائيل وإسرافيل) تخصيص هؤلاء الثلاثة بالإضافة مع أنه تعالى رب كل شيء لتشريفهم وتفضيلهم على غيرهم، والمقام مقام وصفه تعالى بالملك والبقاء والإيجاد. وهذه الصفات لا تعلق بعزرائيل فلم يتعرض له بالذكر مع كونه أحد الملائكة العظام. قال النووي: قال العلماء خصهم بالذكر وإن كان الله تعالى رب كل مخلوقات، كما تقرر في القرآن والسنة من نظائره من الإضافة إلى كل عظيم المرتبة وكبير الشأن دون ما يستحقر ويستصغر، فيقال له تعالى: ?رب السماوات ورب الأرض، رب العرش الكريم، ورب الملائكة، والروح، رب المشرقين، ورب المغربين، رب الناس، ملك الناس، إله الناس، رب العالمين?. فكل ذلك وشبهة وصف له سبحانه بدلائل العظمة وعظيم القدرة والملك ولم يستعمل ذلك فيما يحتقر ويستصغر فلا يقال رب الحشرات وخالق القردة والخنازير. وشبه ذلك على الأفراد وإنما يقال خالق المخلوقات، وخالق كل شيء. وحينئذ تدخل هذه في العموم- انتهى. (فاطر السماوات والأرض) أي مبدعهما ومخترعهما. (عالم الغيب والشهادة) أي بما غاب وظهر عند غيره. .

(5/383)


(أنت تحكم بين عبادك) يوم القيامة بالتمييز بين المحق والمبطل بالثواب والعقاب. (فيما كانوا فيه يختلفون) أي من أمر الدين. (اهدني) أي زدني هدى أو ثبتني، فليس المطلوب تحصيل الحاصل. (لما اختلف) على بناء المفعول. (فيه) أي للذي اختلف فيه عند مجيء الأنبياء، وهو الطريق المستقيم الذي دعوا إليه، فاختلفوا فيه. (من الحق) بيان لما". (بإذنك) أي بتوفيقك وتيسيرك. (إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) جملة استئنافية متضمنة للتعليل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الترمذي في الدعوات وأبوداود والنسائي وابن ماجه في الصلاة وابن حبان والبيهقي (ج3 ص5).
1220- (3) وعن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله ?: ((من تعار من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: رب اغفر لي، أو قال: ثم دعا، أستجيب له،

(5/384)


1220- قوله: (من تعار) بفتح المثناة الفوقية والعين لمهملة وبعد الألف راء مشددة، أي انتبه واستيقظ من النوم. (من الليل) أي في الليل. قال التوربشتي: أن تعار يتعار يستعمل في انتباه معه صوت يقال: تعار الرجل إذا هب من نومه مع صوت، وأرى استعمال هذا اللفظ في هذا الموضع دون الهبوب والانتباه والاستيقاظ وما في معناه لزيادة معنى، وهو أنه أراد أن يخبر بأن من هب من نومه ذاكرا لله تعالى مع الهبوب فيسأل الله خيرا أعطاه، فأوجز في اللفظ وأعرض في المعنى وأتى من جوامع الكلم التي أوتيها تعار ليدل على المعنيين وأراه مثل قوله تعالى: ?يخرون للأذقان سجدا? [17: 107] فإن معنى خر سقط سقوطا يسمع منه خرير، ففي استعمال الخرور في هذا الموضع تنبيه على اجتماع الأمرين السقوط وحصول الصوت منهم بالتسبيح، وكذلك في قوله تعار تنبيه على الجمع بين الانتباه والذكر، وإنما يوجد ذلك عند من تعود الذكر فاستأنس به وغلب عليه حتى صار حديث نفسه في نومه ويقظته- انتهى. وقال ابن التين: ظاهر الحديث أن معنى تعار استيقظ، لأنه قال من تعار فقال فعطف القول على التعار- انتهى. قال الحافظ: يحتمل أن يكون الفاء تفسيرية لما صوت به المستيقظ، لأنه قد يصوت بغير ذكر، فخص الفضل المذكور لمن صوت بما ذكر من ذكر الله تعالى وهذا هو السر في اختيار تعار دون استيقظ وانتبه. (له الملك وله الحمد) زاد أبونعيم في الحلية: يحيى ويميت. (وسبحان الله والحمد لله) كذا وقع بتقديم التسبيح على الحمد في جميع النسخ موافقا لما في المصابيح، وكذا وقع عند الترمذي وأبي داود وابن ماجه، ووقع في البخاري بتقديم الحمد على التسبيح، وكذا نقله الجزري (ج5 ص 79) قال الحافظ: لم تختلف الروايات في البخاري على تقديم الحمد على التسبيح ، لكن عند الإسماعيلي بالعكس، والظاهر أنه من تصرف الرواة، لأن الواو لا تستلزم الترتيب- انتهى. (ولا حول قوة إلا بالله) زاد النسائي وابن ماجه وابن السني:

(5/385)


العلي العظيم. (ثم قال رب اغفر لي) قال القاري: وفي نسخة اللهم اغفر لي. قلت: وهكذا وقع في جامع الأصول. (أو قال ثم دعا) في البخاري ثم قال اللهم اغفر لي أو دعا. قال الحافظ: "أو" للشك، ويحتمل أن تكون للتنويع، ويؤيد الأول ما عند الإسماعيلي بلفظ: ثم قال رب اغفر لي غفر له أو قال فدعا. استجيب له شك الوليد. (راوي الحديث) واقتصر النسائي على الشق الأول. (أستجيب له) قال ابن الملك
فإن توضأ وصلى قبلت صلاته)). رواه البخاري.
?الفصل الثاني?
1221- (4) عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((كان رسول الله ? إذا استيقظ من الليل قال: لا
إله إلا أنت، سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمتك، اللهم زدني علما،
ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك
المراد بها الاستجابة اليقينية، لأن الاحتمالية ثابتة في غير هذا الدعاء. وقال بعض أهل العلم: استجابة الدعاء في هذا الموطن، وكذا مقبولية الصلاة فيه أرجى منهما في غيره . (فإن توضأ وصلى) قال الطيبي: الفاء للعطف على دعا أو على قوله: قال لا إله إلا الله. والأول أظهر. وقال القاري: الظاهر هو الثاني. (قبلت صلاته) قال ابن الملك: وهذه المقبولية اليقينية على الصلاة المتعقبة على الدعوة الحقيقية كما قبلها. قال ابن بطال: وعد الله على لسان نبيه أن من استيقظ من نومه لهجا لسانه بتوحيد ربه والإذعان له بالملك والاعتراف بنعمة يحمده عليها وينزهه عما لا يليق به بتسبيحه والخضوع له بالتكبير والتسليم له بالعجز عن القدرة إلا بعونه أنه إذا دعاه أجابه وإذا صلى قبلت صلاته، فينبغي لمن بلغه هذا الحديث يغتنم العمل ويخلص نيته لربه سبحانه وتعالى. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا الترمذي في الدعوات وأبوداود في الأدب والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه في الدعاء والبيهقي (ج3 ص5).

(5/386)


1221- قوله: (إذا استيقظ من الليل) أي انتبه من نومه. (وبحمدك) لم أجد هذا اللفظ في نسخ أبي داود، ولا في المصابيح، نعم نقله الجزري في جامع الأصول (ج5 ص78) والظاهر أن المصنف ذكره تبعا للجزري، والله أعلم. (أستغفرك ذنبي) أراد تعليم أمته أو تعظيم ربه وجلالته، أو سمي ترك الأفضل لضرورة بيان الجواز أو غير ذلك ذنبا على مقتضى كمال طاعته. (اللهم زدني علما) التنكير للتفخيم. (ولا تزغ قلبي) أي لا تجعل قلبي مائلا عن الحق إلى الباطل، من أزاغ أي أمال عن الحق إلى الباطل وزاغ عن الطريق عدل عنه. قال الطيبي: أي لا تبلني ببلاء يزيغ فيه قلبي. (بعد إذا هديتني) أي أرشدتني إلى الحق وأقمتني عليه بل ثبتني عليه، "وبعد" منصوب بلا تزغ على الظرف، و"إذ" في محل بإضافة بعد إليه خارج عن الظرفية، أي بعد وقت هدايتك إيانا. وقيل: إنها بمعنى أن. (وهب لي من لدنك) متعلق بهب، ولدن ظرف، وهي لأول غاية زمان أو مكان أو غيرهما من الذوات نحو من لدن زيد، فليست مرادفة لعند، بل قد تكون بمعناها، وأكثر ما تضاف إلى المفردات، وقد تضاف إلى أن وصلتها لأنها في تأويل المفرد، وقد تضاف إلى الجملة الاسمية أو الفعلية "ومن"
رحمة إنك أنت الوهاب)). رواه أبوداود.
1222-(5) وعن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله ?: ((ما من مسلم يبيت على ذكر طاهرا فيتعار من الليل، فيسأل الله خيرا إلا أعطاه الله إياه)). رواه أحمد وأبوداود.
1223-(6) وعن شريق الهوزني، قال: ((دخلت على عائشة فسألتها: بما كان رسول الله ? يفتتح إذا هب من الليل؟ فقالت: سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، كان إذا هب من الليل كبر عشرا، وحمد الله

(5/387)


لابتداء الغاية أي أعطني رحمة كائنة من عندك فضلا وكرما منك. (رحمة) التنكير والتعظيم أي رحمة عظيمة واسعة تزلفني إليك وأفوز بها عندك، أو توفيقا للثبات على الإيمان والحق. (إنك أنت الوهاب) أي لكل مسؤل تعليل للسؤال أو لإعطاء المسؤل. قال ابن الملك: وهذا تعليم للأمة ليعلموا أن لا يجوز لهم الأمن من مكر الله وزال نعمته. (رواه أبوداود) في الأدب. وأخرجه أيضا النسائي وابن حبان والحاكم وصححه، وابن مردويه وابن السني في عمل اليوم والليلة.
1222- قوله: (يبيت) أي يرقد في الليل. (على ذكر) من الأذكار المستحبة عند النوم، أو مطلق الأذكار حال كونه. (طاهرا) أي متوضئا (فيتعار) بتشديد الراء أي يستيقظ من النوم. (فيسأل الله خيرا) كذا في جميع النسخ، وكذا في المصابيح. ولفظ أحمد: فيسأل الله خيرا من أمر الدنيا والآخرة. وفي رواية له: خيرا من خير الدنيا والآخرة. وفي أخرى له أيضا: ولأبي داود: خيرا من الدنيا والآخرة، ولابن ماجه: فسأل الله شيئا من أمر الدنيا أو من أمر الآخرة. (رواه أحمد) (ج5 ص235، 241، 244). (وأبو داود) في الأدب وسكت عليه هو والمنذري. وأخرجه أيضا النسائي في اليوم والليلة وابن ماجه في الدعاء، وفي الباب عن ابن عمر وابن عباس وأبي أمامة، ذكر أحاديثهم المنذري في باب الترغيب في أن ينام الإنسان طاهرا.
1223- قوله: (وعن شريق) بفتح الشين المعجمة وكسر الراء المهملة بعدها قاف. (الهوزني) بفتح الهاء والزاي نسبة إلى هوزن بن عوف حي من اليمن، وشريق هذا تابعي حمصي. قال في التقريب: مقبول. وذكره ابن حبان في الثقات. (بم كان) أي بأي شيء كان. (يفتتح) أي يبتدأ من الأذكار. (إذا هب) أي استيقظ. (من الليل) قال الطيبي: أي من نوم الليل والإضافة بمعنى في. (فقالت سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك) كأنها رضي الله عنها حمدت السائل على سؤاله. (كبر عشرا) أي قال الله أكبر عشر مرات. (وحمد الله عشرا) أي

(5/388)


عشرا، وقال: سبحان الله وبحمده عشرا، وقال: سبحان الملك القدوس عشرا، واستغفر الله عشرا، وهلل الله عشرا، ثم قال: اللهم إني أعوذ بك من ضيق الدنيا وضيق يوم القيامة عشرا، ثم يفتتح الصلاة)). رواه أبوداود.
?الفصل الثالث?
1224-(7) عن أبي سعيد، قال: ((كان رسول الله ?، إذا قام من الليل كبر، ثم يقول: سبحانك
اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، ثم يقول: الله أكبر كبيرا، ثم
يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
قال الحمد لله (عشرا) أي عشر مرات (سبحان الملك القدوس) أي المنزه عن كل عيب وآفة. (واستغفر الله عشرا) اعترافا بالتقصير وتعليما للأمة. (وهلل الله) أي قال لا إله إلا الله. (من ضيق الدنيا) أي مكارهها التي يضيق الصدر ويزيغ القلب. وقال القاري: أي شدائدها، لأن من به مشقة من مرض أو دين أو ظلم صارت الأرض عليه بعينه ضيقة. (وضيق يوم القيامة) أي شدائد أحوالها وسكرات أهوالها. (عشرا) فصار المجموع سبعين المعبر عنه بالكثرة. (ثم يفتتح الصلاة) أي صلاة التهجد. (رواه أبوداود) في الأدب، وسكت عنه. وقال المنذري: وأخرجه النسائي، وفي سنده بقية بن الوليد، وفيه مقال- انتهى. قلت: بقية هذا صدوق كثير التدليس، لكن قد صرح بالتحديث في روايته عند ابن السني (ص244) وروى أبوداود والنسائي وابن ماجه كلهم في الصلاة عن عاصم بن حميد قال: سألت عائشة بأي شيء كان يفتتح رسول الله ? قيام الليل فقالت: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، كان إذا قام كبر عشرا وحمد الله عشرا وسبح عشرا وهلل عشرا واستغفر عشرا وقال اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة.

(5/389)


1224- قوله: (عن أبي سعيد) أي الخدري. (إذا قام من الليل) أي لصلاة التهجد. (كبر) للتحريمة. (ثم يقول) قال الطيبي: قوله كبر ثم يقول في المواضع الثلاث بالمضارع عطفا على الماضي للدلالة على استحضار تلك المقالات في ذهن السامع، وثم لتراخي الإخبار، ويجوز أن يكون لتراخي الأقوال في ساعات الليل. (سبحانك اللهم وبحمدك) أي أنزهك تنزيها مقرونا بحمدك. (وتبارك اسمك) أي تكاثر خير فضلا عن مسماه. (وتعالى جدك) أي ارتفع عظمتك فوق كل عظمة تتصور أو تعالى غناك عن أن يحتاج لأحد. (ثم يقول الله أكبر) بالسكون ويضم، قاله القاري. (كبيرا) حال مؤكدة. وقيل: منصوب على القطع من اسم الله. وقيل: بإضمار
من همزه ونفخه ونفثه)). رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، وزاد أبوداود بعد قوله:
غيرك: ثم يقول لا إله إلا الله ثلاثا: وفي آخر الحديث. ثم يقرأ.

(5/390)


أكبر. وقيل: صفة لمحذوف أي تكبيرا كبيرا. (من همزه) بدل اشتمال أي من نخزه يعني وسوسته وإغواءه، وفسر أيضا بالجنون. (ونفخه) أي كبره وعجبه. (ونفثه) أي سحره وشعره، وكل من الثلاثة بفتح فسكون، وقد تقدم الكلام في معانيها بالبسط في باب ما يقرأ بعد التكبير. (رواه الترمذي وأبوداود والنسائي) قال ابن حجر والحاكم وابن حبان في صحيحه- انتهى. وأخرجه أيضا أحمد (ج3 ص50) والبيهقي (ج2 ص34) مطولا وابن ماجه مختصرا. (وزاد أبوداود بعد قوله ثم يقول لا إله إلا الله ثلاثا) أي ثلاث مرات، وزاد أيضا لفظ ثلاثا بعد قول الله أكبر كبيرا. (وفي آخر الحديث) أي بعد الاستعاذة. (ثم يقرأ) أي يشرع في قراءة الفاتحة. والحديث أخرجوه كلهم من طريق جعفر بن سليمان الضبعي عن علي بن علي الرفاعي عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد، وقد تكلم فيه أبوداود والترمذي وصرح أحمد بعدم صحته. أما أبوداود فقال هذا الحديث يقولون ( أي المحدثون) هو عن علي بن علي عن الحسن مرسلا، الوهم من جعفر. (يعني وهم جعفر بن سليمان، فرواه موصولا عن علي بن علي عن أبي المتوكل عن أبي سعيد، وإنما هو عن علي عن الحسن البصري مرسل) وأما الترمذي فقال: حديث أبي سعيد أشهر حديث في هذا الباب، وقال: وقد تكلم في إسناد حديث أبي سعيد كان يحيى بن سعيد يتكلم في علي بن علي. وقال أحمد: لا يصح هذا الحديث- انتهى: قلت: الظاهر أن هذا الحديث صحيح لا حجة لمن تكلم فيه، وجعفر بن سليمان المذكور ثقة، وثقة ابن معين وابن المديني وابن سعد. وقال أحمد: لا بأس به. وقال أبوأحمد: حسن الحديث معروف بالتشيع، وهو عندي ممن يجب أن يقبل حديثه. وقال ابن شاهين في المختلف فيهم: إنما تكلم فيه لعلة المذهب، وما رأيت من طعن في حديثه إلا ابن عمار بقوله: جعفر بن سليمان ضعيف. وقال البزار: لم نسمع أحدا يطعن عليه في الحديث ولا في خطأ فيه، إنما ذكرت عنه شيعيته. وأما حديثه فمستقيم. وقال ابن حبان: كان من

(5/391)


الثقات في الروايات، غير أنه كان ينتحل الميل إلى أهل البيت ولم يكن بداعية إلى مذهبه، وليس بين أهل الحديث من أئمتنا خلاف أن الصدوق المتقن إذا كانت فيه بدعة ولم يكن يدعو إليها الاحتجاج بخبره جائز- انتهى. وأما علي بن علي الرفاعي اليشكري فهن أيضا ثقة، وثقه وكيع وابن معين وأبوزرعة وابن عمار. وقال أحمد وأبوبكر البزار والنسائي: ليس به بأس. وقال شعبة اذهبوا بنا إلى سيدنا وابن سيدنا علي بن علي الرفاعي. وقال الآجري: أثني عليه أبوداود. وقال الفضل بن دكين وعفان: كان يشبه النبي ?. وأما أحمد بن حنبل فقال: لا يصح هذا الحديث، كما تقدم، ولم يبين وجه عدم صحته.
1225-(8) وعن ربيعة بن كعب الأسلمي، قال: ((كنت أبيت عند حجرة النبي ? فكنت أسمعه إذا قام من الليل يقول: سبحان رب العالمين الهوي، ثم يقول: سبحان الله وبحمده الهوي)). رواه النسائي. وللترمذي نحوه، وقال: حديث حسن صحيح.
(33) باب التحريض على قيام الليل
?الفصل الأول?
1226-(1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ?: ((يعقد الشيطان

(5/392)


1225- قوله: (عن ربيعة بن كعب) بن مالك. (الأسلمي) صحابي من أهل الصفة، خدم النبي ?، فروى أحمد (ج4 ص59) عن نعيم بن مجمر عن ربيعة قال: كنت أخدم رسول الله ? وأقوم له في حوائجه نهاري أجمع حتى يصلي رسول الله ? العشاء الآخرة فأجلس ببابه إذا دخل بيته أقول: لعلها أن تحدث لرسول الله ? حاجة الخ. (كنت أبيت) وفي رواية لأحمد: كنت أنام. (عند حجرة النبي ?) أي عند باب الحجرة فيها النبي ?. (فكنت أسمعه) بصيغة المتكلم والضمير المنصوب للنبي?. (إذا قام من الليل) يصلي. (يقول سبحان رب العالمين الهوي) بفتح الهاء وكسر الواو ونصب الياء المشددة. قال في النهاية: الحين الطويل من الزمان. وقيل: هو مختص بالليل، فإن قلت مالفرق بين قوله هويا منكرا في حديث حميد بن عبدالرحمن في الفصل الثالث من باب صلاة الليل وبين الهوي ههنا معرفا؟ قلت: التعريف لاستغراق الحين الطويل بالذكر بحيث لا يفتر عنه في بعضه، والتنكير لا يفيده نصا، كما تقول قام زيد اليوم أي كله أو يوما أي بعضه، ومنه قوله تعالى: ?سبحان الذي أسرى بعبده ليلا? [17: 1] أي بعضا من الليل، قاله الطيبي: (ثم يقول سبحان الله وبحمده الهوي) وفي رواية لأحمد: فكنت أسمعه إذا قام من الليل يصلي الحمد لله رب العالمين الهوي، قال: ثم يقول سبحان الله العظيم وبحمده الهوي. وفي رواية له أيضا: كنت أبيت عند باب رسول الله ? أعطيه وضوءه فأسمعه بعد هوي الليل يقول سمع الله لمن حمده، وأسمعه بعد الهوي من الليل يقول الحمد لله رب العالمين. (رواه النسائي) أي بهذا اللفظ في باب ذكر ما يستفتح به القيام من كتاب قيام الليل. (وللترمذي نحوه) أي بمعناه أخرجه في باب الدعاء إذا انتبه من الليل من أبواب الدعوات، وأخرجه أيضا أحمد (ج4 ص57، 58) وابن ماجه في باب ما يدعو به إذا انتبه من الليل من أبواب الدعاء والبيهقي (ج2 ص486).
(باب التحريض) أي الترغيب والتحثيث. (على قيام الليل) أي صلاة التهجد.

(5/393)


1226- قوله: (يعقد) بكسر القاف أي يشد ويربط. (الشيطان) المراد به الجنس، ويكون فاعل ذلك
على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: عليك طويل فارقد،
القرين أو غيره من أعوان الشيطان، ويحتمل أن يراد به رأس الشياطين وهو إبليس، وتجوز نسبة ذلك إليه، لكونه الآمر لأعوانه بذلك الداعي إليه (على فاقية رأس أحدكم) أي مؤخره، وقفاه وقافية كل شيء آخره، ومنه قافية الشعر، لأنه آخره. وظاهر قوله "أحدكم" التعميم في المخاطبين، ومن في معناهم، ويمكن أن يخص منه من ورد في حقه أنه يحفظ من الشيطان كالأنبياء ومن يتناوله قوله: ?إن عبادي ليس لك عليهم سلطان?، وكمن قرأ آية الكرسي عند نومه لطرد الشيطان، فقد ثبت أنه يحفظ من الشيطان حتى يصبح. (إذا هو نام) أي حين نام. قال الحافظ: كذا للأكثر، وللحموي والمستملي: إذا هو نائم بوزن فاعل، والأول أصوب، وهو الذي في الموطأ- انتهى. وقيل: بل الظاهر أن رواية المستملي أصوب، لأنها جملة اسمية والخبر فيها اسم. (ثلاث عقد) كلام إضافي منصوب، لأنه مفعول، والعقد بضم العين وفتح القاف جمع عقدة بسكون القاف، والتقييد بالثلاث. إما للتأكيد أو لأنه يريد أن يقطعه عن ثلاثة أشياء الذكر والوضوء والصلاة، فكأنه منع من كل واحدة منها بعقدة عقدها على مؤخر رأسه، وكان تخصيص القفا بذلك، ولكونه محل الواهمة ومحل تصرفها، وهو أطوع القوى للشيطان وأسرع إجابة لدعوته. (على كل عقدة) متعلق بيضرب، وللمستلي: على مكان عقدة، والكشمهيني: عند يلقي مكان كل عقدة. وقوله: يضرب أي بيده على العقدة تأكيدا وأحكاما لها قائلا: عليك ليل طويل. وقيل: معناه يلقي الشيطان في نفس النائم هذا القول ويسوله واقعا ومستوليا على كل عقدة يعقدها من ضرب الشبكة على الطائر ألقاها عليه. وقيل ومعناه يحجب الحس عن النائم حتى لا يستيقظ، ومنه قوله تعالى: ?وضربنا على آذانهم? [18: 11] أي حجبنا الحس أن يلج في آذانهم فينتبهوا، وفي

(5/394)


حديث أبي سعيد: ما ينام أحد إلا ضرب على سماخه بجرير معقود. أخرجه المخلص في فوائده. والسماخ بكسر السين المهملة وآخره معجمة، ويقال بالصاد المهملة بدل السين. (عليك ليل طويل فارقد) أي يضرب على كل عقدة قائلا عليك ليل طويل الخ. فالجملة مفعول للقول المحذوف، وارتفاع ليل بالابتداء وعليك خبره مقدما، أي باق عليك ليل طويل، ويجوز أن يكون ارتفاع ليل بفعل محذوف، أي بقي عليك ليل طويل، وعلى هذا كان الفاء في قوله "فارقد" رابطة شرط مقدر، أي وإذا كان كذلك فارقد ولا تعجل بالقيام ففي الوقت متسع. وقيل: قوله عليك اغراء أي عليك بالنوم أمامك ليل طويل، فالكلام جملتان، والثانية مستأنفة كالتعليل للجملة الأولى. وفي رواية مسلم: عليك ليلا طويلا. قال عياض رواية الأكثرين عن مسلم بالنصب على الإغراء. قال القرطبي: الرفع أولى من جهة المعنى، لأنه الأمكن في الغرور من حيث أنه يخبره عن طويل الليل ثم يأمره بالرقاد بقوله "فارقد". وإذا نصب على الإغراء لم يكن فيه إلا الأمر بملازمة طول الرقاد، وحينئذ يكون قوله "فارقد" ضائعا، ومقصود الشيطان بذلك تسويفه بالقيام والإلباس عليه. وقد اختلف في هذا العقد: فقيل هو على الحقيقة، وأنه كما يعقد الساحر من يسحره، وأكثر من يفعله النساء تأخذ إحداهن
فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة،

(5/395)


الخيط فتعقد منه عقدة، وتتكلم عليها بالكلمات السحرية، فيتأثر المسحور عند ذلك، ومنه قوله تعالى. ?ومن شر النفاثات في العقد? [4:113] وعلى هذا فالمعقود شيء عند قافية الرأس لا قافية نفسها، وهل العقد في شعر الرأس أو في غيره؟ الأقرب الثاني إذ ليس لكل أحد شعر، ويؤيده رواية ابن ماجه بلفظ: يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم بالليل بحبل فيه ثلاث عقد، ولأحمد: إذا نام أحدكم عقد على رأسه بجرير، ولابن خزيمة وابن حبان من حديث جابر: ما من ذكر ولا أنثى إلا على رأسه جرير معقود حين يرقد-الحديث. والجرير بفتح الجيم هو الحبل وقيل: هو على المجاز كأنه شبه فعل الشيطان بالنائم من منعه من الذكر والصلاة بفعل الساحر بالمسحور بجامع المنع من التصرف، فلما كان الساحر يمنع بعقده ذلك تصرف من يحاول عقده كان هذا مثله من الشيطان للنائم الذي لا يقوم من نومه إلى ما يحب من ذكر الله والصلاة، وقيل: المراد به عقد القلب وتصميمه على الشيء كأنه يوسوس له، بأنه بقي من الليل قطعة طويلة فيتأخر عن القيام، وانحلال العقد كناية عن علمه بكذبه فيما وسوس به. وقيل: العقد كناية عن تثبيط الشيطان وتعويقه للنائم من قيام الليل بالقول المذكور، ومنه عقدت فلانا عن امرأته أي منعته عنها، أو عن تثقيله عليه النوم وإطالته، كأنه قد سد عليه سدا وعقد عليه عقدا. قال البيضاوي: عقد الشيطان على قافيته استعارة عن تسويل الشيطان وتحبيبه النوم إليه والدعة والاستراحة، يعني أن الشيطان يحبب إليه النوم ويزين له الدعة والاستراحة، ويسول كلما انتبه أنه لم يستوف حظه من النوم، فيوثقه عن القيام إلى العبادة ويبطئه بتلك التسويلات عن النهوض إليها. (فإن استيقظ) أي من نوم الغفلة. (فذكر الله) بأي ذكر كان، لكن المأثور أفضل. قال الحافظ: لا يتعين للذكر شيء مخصوص لا يجزئ غيره بل كل ما صدق عليه ذكر الله أجزأ ويدخل فيه تلاوة القرآن وقراءة الحديث النبوي والاشتغال بالعلم الشرعي،

(5/396)


وأولى ما يذكر به ما تقدم في الباب الذي قبله من حديث عبادة بن الصامت. (انحلت) أي انفتحت. (عقدة) واحدة من الثلاث. (فان توضأ) خص الوضوء بالذكر، لأنه الغالب، وإلا فالجنب لا تنحل عقدته إلا بالاغتسال والتيمم، يقوم مقام الوضوء والغسل، ويجزئ عنهما لمن ساغ له ذلك، ولا شك أن في معاناة الوضوء عونا كبيرا على طرد النوم لا يظهر مثله في التيمم. (انحلت عقدة) أخرى ثانية. (فإن صلى) أي النافلة ولو ركعتين. قال العراقي في شرح الترمذي: السر في استفتاح الصلاة بركعتين خفيفتين المبادرة إلى حل عقد الشيطان، وبناه على أن الحل لا يتم إلا بتمام الصلاة. قال الحافظ: وهو واضح، وقد وقع عند ابن خزيمة عن أبي هريرة في آخر الحديث: فحلوا عقد الشيطان ولو بركعتين. وفعله ? مع كونه محفوظا ومنزها عن عقد الشيطان تعليما للأمة وإرشادا لهم إلى ما يحفظهم من الشيطان. (انحلت عقدة) كذا في جميع النسخ الموجودة عندنا بلفظ الإفراد، وكذا وقع في المصابيح. قال الحافظ في الفتح قوله: انحلت عقده بلفظ الجمع بغير اختلاف في البخاري، ووقع لبعض رواة الموطأ بالإفراد-انتهى. قال
فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس، كسلان))

(5/397)


القاري: فينبغي أن يكون في المشكاة بلفظ الجمع لقوله في آخره: متفق عليه، لكن في جميع النسخ الحاضرة بلفظ الإفراد، ذكره ميرك-انتهى. قلت: وقع في نسخ البخاري الموجودة الحاضرة عندنا من طبعات الهند ومصر: انحلت عقدة أي بالإفراد. وقال القسطلاني قوله: عقده ضبطها في اليونينية بلفظ الجمع والإفراد، كما ترى. قال ابن قرقول في مطالعة كعياض في مشارقه: لا خلاف في الأولى، والثانية أنه بالإفراد، واختلف في الثالثة فقط فوقع في الموطأ لابن وضاح على الجمع، وكذا ضبطناه في البخاري، وكلاهما يعني الجمع والإفراد صحيح والجمع أوجه. لاسيما وقد جاء في رواية مسلم في الأولى عقدة، وفي الثانية عقدتان، وفي الثالثة العقد-انتهى. قال الحافظ: ويؤيد الإفراد رواية أحمد بلفظ: فإن ذكر الله انحلت عقدة واحدة، وإن قام فتوضأ أطلقت الثانية، فإن صلى أطلقت الثالثة، وكأنه محمول على الغالب، وهو من ينام مضطجعا فيحتاج إلى الوضوء إذا انتبه، فيكون لكل فعل عقدة يحلها، ويؤيد الأول أي الجمع ما في بدء الخلق عند البخاري بلفظ: عقده كلها. ولمسلم: انحلت العقد. وظاهر رواية الجمع أن العقد تنحل كلها بالصلاة خاصة، وهو كذلك في حق من لم يحتج إلى الطهارة كمن نام متمكنا غير متكئ مثلا، ثم انتبه فصلى من قبل أن يذكر أو يتطهر، فإن الصلاة يجزئه في حل العقد كلها، لأنها تستلزم الطهارة وتتضمن الذكر، وعلى هذا فيكون معنى قوله: فإذا صلى انحلت عقده كلها، إن كان المراد به من لا يحتاج إلى الوضوء، فظاهر على ما قررناه، وإن كان من يحتاج إليه، فالمعنى انحلت بكل عقده أو انحلت عقده كلها بانحلال الأخيرة التي بها يتم انحلال العقد-انتهى. (فأصبح) أي دخل في الصباح أو صار. (نشيطا) أي لسروره بما وفقه الله له من الطاعة، وبما وعده من الثواب، وما زال عنه من عقد الشيطان. (طيب النفس) لما بارك الله له في نفسه من هذا التصرف الحسن، كذا قيل. قال الحافظ: والظاهر أن في صلاة الليل

(5/398)


سرا في طيب النفس وإن لم يستحضر المصلي شيئا مما ذكر. (وإلا) أي وإن لم يفعل كذلك بل ترك الذكر والوضوء والصلاة. (أصبح خبيث النفس) أي محزون القلب كثير الهم. قيل: هذا الحديث يعارض قوله ?: لا يقولن أحدكم خبثت نفسي. قال ابن عبدالبر: وليس كذلك، لأن النهي إنما ورد عن إضافة المرء ذلك إلى نفسه كراهة لتلك الكلمة، وهذا الحديث وقع ذما لفعله، ولكل من الحديثين وجه. وقال الباجي: ليس بين الحديثين اختلاف؛ لأنه نهى عن إضافة ذلك إلى النفس؛ لكون الخبث بمعنى فساد الدين، ووصف بعض الأفعال بذلك تحذيرا منها وتنفيرا. قال الحافظ: تقرير الأشكال أنه ? نهى عن إضافة ذلك إلى النفس فكل ما نهى المؤمن أن يضيفه إلى نفسه نهى أن يضيفه إلى أخيه المؤمن وقد وصف ? هذا المرء بهذه الصفة، فيلزم جواز وصفنا له بذلك لمحل التأسي، ويحصل الانفصال فيما يظهر بأن النهي محمول على ما إذا لم يكن هناك حامل على الوصف بذلك كالتنفير والتحذير-انتهى. (كسلان) لبقاء أثر تثبيط الشيطان ولشؤم تفريطه وظفر الشيطان
متفق عليه.
1227- (2) وعن المغيرة، قال: ((قام النبي ? حتى تورمت قدماه، فقيل له: لم تصنع هذا وقد غفر
لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا))
به بتفويته الحظ الأوفر من قيام الليل، فلا يكاد يخف عليه صلاة ولا غيرها من القربات والطاعات. وكسلان غير منصرف للوصف، وزيادة اللألف والنون مذكر كسلى، ومقتضى قوله وإلا أصبح أنه إن لم يجمع الأمور الثلاثة دخل تحت من يصبح خبيثا كسلان وإن آتي ببعضها، لكن يختلف ذلك بالقوة والخفة، فمن ذكر الله مثلا كان في ذلك أخف ممن لم يذكر أصلا. وهذا الذم مختص بمن لم يقم إلى الصلاة وضيعها، أما من كانت له عادة فغلبته عينه، فقد ثبت أن الله يكتب له أجر صلاته ونومه عليه صدقة، ذكره ابن عبدالبر. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد ومالك وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2:ص51 وج3:ص15) وغيرهم.

(5/399)


1227- قوله: (قام النبي ?) أي في صلاة الليل. وقال ابن حجر: أي صلى ليلا طويلا. وقيل: التقدير قام بصلاة الليل على وجه الإطالة والإدامة. (حتى تورمت) بتشديد الراء أي انتفخت من طول القيام. (قدماه) مرفوع، لأنه فاعل تورمت. وفي رواية البخاري: كان يصلي حتى ترم أو تنتفخ قدماه. وفي أخرى له: إن كان ليقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه. وفي حديث عائشة عند البخاري: كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه. وفي حديث أبي هريرة عند النسائي: حتى تزلع، يعني تشقق قدماه. ولا إختلاف بين هذه الروايات فإنه إذا حصل الورم أو الانتفاخ حصل الزلع والتشقق. (فقيل له) لم يبين القائل من هو. وفي حديث عائشة فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله ? الخ. (لم تصنع هذا) لم أجد هذه الجملة في رواية المغيرة عند أحد ممن خرج حديثه، نعم هي في حديث عائشة، كما تقدم. وفي رواية لمسلم من حديث المغيرة: أتكلف هذا، والمعنى أتلزم نفسك بهذه الكلفة والمشقة. وفي حديث أبي هريرة عند البزار: أتفعل هذا وقد جاءك من الله أن غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. قيل: الاستفهام للتعجب. (وقد غفر لك) بصيغة المجهول. وفي البخاري: قد غفر الله لك. (ما تقدم من ذنبك وما تأخر) أي جميع ما فرط منك مما يصح أن تعاتب عليه. قيل: هو محمول على ترك الأولى، وسمي ذنبا لعظم قدره ?، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. قيل: المراد لو وقع منك ذنب لكان مغفورا، ولا يلزم من فرض ذلك وقوعه، والله أعلم. (أفلا أكون عبدا شكورا) تقديره أ أترك عبادة ربي لما غفر لي، فلا أكون شاكرا على نعمة المغفرة وغيرها مما لا تعد ولا تحصى من خير الدارين، والعبادة لا تحصر في مغفرة الذنوب، بل إنما وجبت شكرا لنعم المولى تعالى. قال الطيبي: الفاء مسبب عن محذوف أي أ أترك قيامي وتهجدي
متفق عليه.

(5/400)


1228- (3) وعن ابن مسعود، قال: ((ذكر عند النبي ? رجل، فقيل له: ما زال نائما حتى أصبح، ما قام إلى الصلاة،
لما غفر لي، فلا أكون عبدا شكورا، يعني أن غفران الله إياي سبب، لأن أقوم وأتهجد شكرا له، فكيف أتركه أي كيف لا أشكره وقد أنعم علي، وخصني بخير الدارين، فإن الشكور من أبنية المبالغة يقتضي بنعمة خطيرة، وتخصيص العبد بالذكر مشعر بغاية الإكرام والقرب من الله تعالى، ومن ثم وصفه به في مقام الإسراء، ولأن العبودية تقتضي صحة النسبة وليست إلا بالعبادة، والعبادة عين الشكر. وقال القرطبي: ظن من سأله عن سبب تحمله المشقة في العبادة، أنه إنما يعبد الله خوفا من الذنوب وطلبا للمغفرة وإيصال النعمة لمن لا يستحق عليه فيها شيئا فيتعين كثرة الشكر على ذلك، والشكر الاعتراف بالنعمة والقيام بالخدمة، فمن كثر ذلك منه سمي شكورا، ومن ثم قال سبحانه وتعالى. ?وقليل من عبادي الشكور? [13:34] قال ابن بطال في هذا الحديث أخذ الإنسان على نفسه بالشدة في العبادة وإن أضر ذلك ببدنه، لأنه ? إذا فعل ذلك مع علمه بما سبق له فكيف بمن لم يعلم بذلك فضلا عمن لم يأمن أنه استحق النار-انتهى. قال الحافظ: ومحل ذلك إذا لم يفض إلى الملال، لأن حال النبي ? كانت أكمل الأحوال، فكان لا يمل من عبادة ربه وإن أضر ذلك ببدنه، بل صح أنه قال: وجعلت قرة عيني في الصلاة، كما أخرجه النسائي من حديث أنس، فأما غيره ? فإذا خشي الملل لا ينبغي له أن يكره نفسه وعليه، يحمل قوله ?: خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا. وفي الحديث مشروعية الصلاة للشكر، وفيه أن الشكر يكون بالعمل كما يكون باللسان، كما قال الله تعالى. ?اعملوا آل داود شكرا? [13:34]. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في تفسير سورة الفتح إلا قوله "لم تصنع هذا" فإنه ليس عند البخاري بل ولا عند غيره من مخرجي هذا الحديث. وأخرجه مسلم في أواخر الكتاب في باب إكثار الأعمال والإجتهاد في

(5/401)


العبادة والترمذي والنسائي وابن ماجه في الصلاة.
1228- قوله: (ذكر) بضم الذال على بناء المفعول. (رجل) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، لكن أخرج سعيد بن منصور عن عبدالرحمن بن يزيد النخعي عن ابن مسعود ما يؤخذ منه أنه هو ولفظه بعد سياق الحديث بنحوه: وأيم الله لقد بال في أذن صاحبكم ليلة يعني نفسه. (فقيل) أي قال رجل من الحاضرين. (له) ليس هذا اللفظ في الصحيحين ولا في المصابيح ولا في جامع الأصول (ج7:ص46). (مازال) أي الرجل المذكور. (نائما حتى أصبح) وفي رواية للبخاري: ذكر رجل نام ليلة حتى أصبح. (ما قام إلى الصلاة) اللام للجنس، ويحتمل
قال: ذلك رجل بال الشيطان في أذنه، أو قال: في أذنيه)) متفق عليه.

(5/402)


العهد، ويراد به صلاة الليل أو المكتوبة أي العشاء أو الصبح. ويدل لكون المراد المكتوبة قول سفيان فيما أخرجه ابن حبان في صحيحه: هذا عندنا نام عن الفريضة، وظاهر صنيع مسلم والنسائي وابن ماجه يدل على كون المراد صلاة الليل. قال الطيبي: يحتمل أن يكون أصبح تامة، وما قام في محل النصب حالا من الفاعل، أي أصبح وحاله أنه غير قائم إلى الصلاة، ويحتمل أن تكون ناقصة وما قام خبرها، ويحتمل أن تكون ما قام جملة مستأنفة مبنية للجملة الأولى أو مؤكدة مقررة لها. (قال) صلى الله عليه وآله وسلم. (ذلك رجل) وفي الصحيحين: ذاك رجل. وكذا نقله الجزري. (بال الشيطان في أذنه) بالإفراد للجنس، وهو بضم الهمزة والذال وسكونها. (أو قال في أذنيه) بالتثنية للمبالغة وأو للشك من الراوي، وهي رواية جرير عن منصور عن أبي وائل عن ابن مسعود. وفي رواية أبي الأحوص عن منصور، عند البخاري: بال في أذنه أي بالإفراد فقط، واختلف في بول الشيطان، فقيل: هو على حقيقته. قال القرطبي وغيره: لا مانع من ذلك إذ لا إحالة فيه، لأنه ثبت أن الشيطان يأكل ويشرب ويضرط وينكح، فلا مانع من أن يبول. وقد يتأول بتأويلات مناسبة: منها أنه تمثيل شبه تثاقل نومه وإغفاله عن الصلاة وعدم سماعه صوت المؤذن وعدم انتباهه بصياح الديك ونحوه، بحال من وقع البول في أذنه فثقل سمعه وأفسد حسه والبول ضار مفسد، قاله الخطابي: قال الحافظ: والعرب تكنى عن الفساد بالبول. قال الراجز: بال سهيل في الفضيخ ففسد. وكنى بذلك عن طلوعه، لأنه وقت إفساد الفضيخ فعبر عنه بالبول. ومنها أن المراد أن الشيطان ملأ سمعه بالأباطيل وبأحاديث اللغو، فأحدث ذلك في أذنه وقرا عن استماعه دعوة الحق، قاله التوربشتي. ومنها أنه كناية عن استهانة الشيطان والاستخفاف والازدراء به، يعني أن الشيطان استولى عليه واستخف به حتى اتخذه كالكنيف المعد للبول، إذ من عادة المستخف بالشيء غاية الاستخفاف أن يبول عليه. ومنها أنه كناية

(5/403)


عن سد الشيطان أذن الذي ينام عن الصلاة حتى لا يسمع الذكر. ومنها أنه استعارة عن تحكمه فيه وجعله مسخرا ومطيعا ومنقادا للشيطان، يقبل ما يأمره من ترك الصلاة وغيرها. قال الطيبي: خص الأذن بالذكر والعين أنسب بالنوم إشارة إلى ثقل النوم، فإن المسامع هي موارد الإنتباه بالأصوات ونداء حي على الصلاة. قال الله تعالى. ?فضربنا على آذانهم في الكهف? [11:18] أي أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات، وخص البول من الأخبثين، لأنه مع خباثته أسهل مدخلا في تجاويف الخروق وأوسع نفوذا في العروق، فيورث الكسل في جميع الأعضاء. (متفق عليه) أخرجه البخاري في التهجد من طريق أبي الأحوص. وفي صفة إبليس من بدأ الخلق من طريق جرير. وأخرجه مسلم من طريق جرير فقط، والسياق المذكور إلى قوله: ما قام إلى الصلاة لأبي الأحوص وما بعده من رواية جرير. والحديث أخرجه أيضا النسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي (ج3:ص15).
1229- (4) وعن أم سلمة، قالت: ((استيقظ رسول الله ? ليلة فزعا، يقول: سبحان الله ! ماذا
أنزل الليلة من الخزائن؟ ! وماذا أنزل من الفتن؟! من يوقظ صواحب الحجرات – يريد
أزواجه – لكي يصلين؟ رب كاسية في الدنيا

(5/404)


1229- قوله: (عن أم سلمة) أم المؤمنين. (استيقظ) أي تيقظ فالسين ليست هنا للطلب، أي انتبه من النوم. (ليلة) أي من لياليها. (فزعا) بكسر الزاى حال أي خائفا مضطربا مما شاهده. (يقول) حال أيضا. (سبحان الله) وفي رواية: فقال سبحان الله. وفي أخرى: استيقظ من الليل وهو يقول: لا إله إلا الله. وقوله: سبحان الله بالنصب على المصدرية بفعل لازم الحذف، قاله تعجبا واستعظاما، والعرب قد تستعمله في مقام التعجب والتعظيم. وقوله: (ما ذا أنزل الليلة) كالتقرير والبيان، لأن ما استفهامية متضمنة لمعنى التعجب والتعظيم. وأنزل بضم الهمزة وكسر الزاي، والليلة بالنصب على الظرفية. وهذه رواية أبي ذر عن الكشمهيني. وفي رواية غيره: ما ذا أنزل الله بإظهار الفاعل. (من الخزائن وماذا أنزل من الفتن) عبر عن الرحمة بالخزائن كقوله تعالى. ?خزائن رحمة ربك? [9:38] وقوله: ?خزائن رحمة ربي? [100:17] وعبر عن العذاب بالفتن، لأنها أسباب مؤدية إلى العذاب، وجمعهما لسعتهما وكثرتهما، واستعمل المجاز في الإنزال، والمراد إعلام الملائكة بالأمر المقدور، وكأنه ? رأى في المنام أنه سيقع بعده فتن. وتفتح لهم الخزائن، أو أوحى الله تعالى إليه ذلك قبل النوم، فعبر عنه بالإنزال، وهو من المعجزات، فقد فتحت خزائن فارس والروم وغيرهما كما أخبر عليه السلام، ووقعت الفتن بعده كما هو المشهور. (من يوقظ) أي من ينتدب فيوقظ. قال ابن الملك: استفهام أي هل أحد يوقظ؟ قال الحافظ: أراد بقوله: من يوقظ بعض خدمه، كما قال يوم الخندق: من يأتيني بخبر القوم؟ وأراد أصحابه، لكن هناك عرف الذي انتدب، وهنا لم يذكر (صواحب الحجرات) كلام إضافي مفعول لقوله: يوقظ. وصواحب جمع صاحبة. والحجرات بضم الحاء المهملة وفتح الجيم. قال القسطلاني: والذي في اليونينية بضم الجيم أيضا جمع حجرة، وهي منازل أزواج النبي ?. (يريد أزواجه) أي يعني ? بصواحب الحجرات أزواجه الطاهرات. (لكي يصلين) ويستعذن

(5/405)


مما أراه الله من الفتن النازلة كي يوافقن المرجو فيه الإجابة. وفي رواية: حتى يصلين، وإنما خصهن بالإيقاظ، لأنهن الحاضرات حينئذ، أومن باب: إبدأ بنفسك ثم بمن تعول. وهذا يدل على أن المراد بالايقاظ: الإيقاظ لصلاة الليل، لا لمجرد الإخبار بما أنزل، لأنه لو كان لمجرد الإخبار لكان يمكن تأخيره إلى النهار، لأنه لا يفوت. وبهذا ظهرت مطابقة الحديث للباب، وأن فيه التحريض على صلاة الليل. ويؤخذ منه أنها ليست بواجبة، لأنه ترك إلزامهن بذلك، وقد ترجم البخاري لهذا الحديث: باب تحريض النبي ? على قيام الليل من غير إيجاب. (رب كاسية) وفي رواية : "فرب " زيادة فاء في أوله. وفي رواية "يا رب كاسية"
عارية في الآخرة)). رواه البخاري.
1230-(5) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا

(5/406)


بزيادة حرف النداء في أوله، أي يا قوم أو يا سامعين، فالمنادى فيه محذوف.وفي رواية: "كم من كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة، وهي تدل على أن "رب" ههنا للتكثير، لأن معنى كم الخبرية التكثير بلا خلاف، ولأنه ليس مراده أن ذلك قليل، بل المتصف بذلك من النساء كثير. (عارية) بتخفيف الياء. قال الحافظ: وهي مجرورة في أكثر الروايات على النعت. قال السهيلي: إنه الأحسن عند سيبوية، لأن رب عنده حرف جر يلزم صدر الكلام، قال: ويجوز الرفع على إضمار مبتدأ، والجملة في موضع النعت أي هي عارية، والفعل الذي تتعلق به رب محذوف، أي رب كاسية هي عارية عرفتها-انتهى. واختار الكسائي أن تكون رب اسما مبتدأ، والمرفوع خبرها. واختلف في المراد بقوله: كاسية وعارية على أوجه: أحدها رب امرأة أو نسمة أو نفس كاسية في الدنيا بالثياب لوجود الغنى، عارية في الآخرة من الثواب لعدم العمل في الدنيا. ثانيها: كاسية بالثياب، لكنها رقيقة لا تمنع إدراك البشرة، شفافة لا تستر العورة، عارية في الآخرة جزاء على ذلك، أي معاقبة في الآخرة بفضيحة التعري، ففيه نهي عن لبس ما يشف من الثياب. ثالثها: كاسية من نعم الله، عارية من الشكر الذي تظهر ثمرته في الآخرة بالثواب. رابعها: كاسية جسدها، لكنها تشد به خمارها من ورائها، فيبدو صدرها، فتصير عارية، فتعاقب في الآخرة. خامسها: كاسية من خلعة التزوج بالرجل الصالح، عارية في الآخرة من العمل، فلا ينفعها صلاح زوجها، كما قال تعالى: ?فلا أنساب بينهم? [23: 101]. قال الطيبي: قوله: "رب كاسية" كالبيان لموجب استيقاظ الأزواج للصلاة، أي لا ينبغي لهن أن يتغافلن عن العبادة، ويعتمدن على كونهن أهالي رسول الله ?، كاسيات خلعة نسبة أزواجه، متشرفات في الدنيا بها، فهي عاريات في الآخرة، إذ لا أنساب فيها، وهذا وإن ورد في أمهات المؤمنين، لكن الحكم عام لهن ولغيرهن، فإن العبرة بعموم اللفظ، لا لخصوص السبب والمورد. قال ابن بطال: في هذا

(5/407)


الحديث أن المفتوح في الخزائن تنشأ عنه فتنة المال، بأن يتنافس فيه فيقع القتال بسببه، وأن يبخل به فيمنع الحق أو يبطر صاحبه فيسرف، فأراد ? تحذير أزواجه من ذلك كله وكذا غيرهن ممن بلغه ذلك. وفي الحديث الندب إلى الدعاء والتضرع عند نزول الفتنة، ولا سيما في الليل لرجاء وقت الإجابة، فتكشف أو يسلم الداعي أو من دعا له. وفيه جواز قول سبحان الله عند التعجب وندبية ذكر الله بعد الاستيقاظ، وإيقاظ الرجل أهله بالليل للعبادة لا سيما عند آية تحدث. (رواه البخاري) في موضع بألفاظ متقاربة، واللفظ المذكور له في الفتن. وأخرجه أيضا أحمد (ج6:ص297) ومالك في كتاب الجامع من الموطأ مرسلا، والترمذي في الفتن.
1230- قوله: (ينزل ربنا) أي نزولا يليق بجنابة المقدس. والحاصل أن التفويض والتسليم أسلم،

(5/408)


والقدر الذي قصد إفهامه معلوم، وهو أن الثلث الأخير وقت استجابة وعموم رحمة ووفور مغفرة، فينبغي لطالب الخير أن يدركه ولا يفوته، فعلى الإنسان أن يقتصر على هذا القدر، ولا يتجاوز عنه، إذ لا يتعلق بأزيد منه غرض، قاله السندي. واعلم أنه اختلف في ضبط قوله "ينزل"، فقيل: بضم الياء من الإنزال. قال أبوبكر بن فورك: ضبط لنا بعض أهل النقل هذا الخبر عن النبي ? بضم الياء من ينزل يعني من الإنزال، وذكر أنه ضبط عمن سمع منه من الثقات الضابطين. وكذا قال القرطبي: قد قيده بعض الناس بذلك، فيكون معديا إلى مفعول محذوف، أي ينزل الله ملكا، قال: ويقويه ما رواه النسائي من حديث الأغر عن أبي سعيد وأبي هريرة بلفظ: أن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر مناديا يقول: هل من داع فيستجاب له-الحديث. وصححه عبدالحق. وفي حديث عثمان بن أبي العاص عند أحمد: ينادي مناد هل من داع يستجاب له-الحديث. وعلى هذا فلا إشكال في الحديث. وأما على ما هو المشهور في ضبطه، وهو فتح الياء من النزول، فالحديث مشكل، لأن النزول انتقال الجسم من فوق إلى تحت، والله تعالى منزه عن ذلك. ويؤيد هذا الضبط رواية مسلم بلفظ: يتنزل ربنا بزيادة تاء بعد ياء المضارعة، وعلى هذا فالحديث من المتشابهات. والعلماء فيه على قسمين: الأول المفوضة أجروه على ما ورد مؤمنين به على طريق الإجمال، منزهين الله تعالى عن الكيفية والتشبيه، وهم جمهور السلف، ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والأوزاعي والليث وابن المبارك والزهري ومكحول وغيرهم. والثاني: المؤلة فأولوه بتأويلين: أحدهما أن معنى ينزل ربنا ينزل أمره لبعض ملائكته، أو ينزل ملكه بأمره، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. والثاني: أنه استعارة، ومعناه الإقبال على الداعي بالإجابة واللطف والرحمة وقبول المعذرة، كما هو ديدن الملوك الكرماء والسادة الرحماء إذا نزلوا بقرب قوم محتاجين ملهوفين فقراء

(5/409)


مستضعفين. قال البيضاوي: لما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع أعلى إلى ما هو أخفض منه، فالمراد: وفور رحمته أي ينتقل من مقتضي صفات الجلال التي تقتضي الأزفة من الأرذال وقهر الأعداء والانتقام من العصاة إلى مقتضى صفات الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة والعفو-انتهى. هذا، وقد أفرط بعضهم في التأويل حتىكاد أن يخرج إلى نوع من التحريف، وحمله بعضهم على ظاهره وحقيقته، وهم المشبهة تعالى الله عن قولهم، وأنكر بعضهم صحة الأحاديث الواردة في ذلك جملة، وهم الخوارج والمعتزلة، وهو مكابرة. والعجب أنهم أولوا ما في القرآن من نحو ذلك، وأنكروا ما في الحديث إما جهلا وإما عنادا. قلت: الحق عندنا هو قول جمهور السف، فنؤمن بما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة على طريق الإجمال، وننزه الله سبحانه وتعالى عن الكيف والشبه بخلقه، ونذهب إلى ما وسع سلفنا الصالح من السكوت عن التأويل، ونقول ما قال البيهقي: وأسلمها الإيمان بلا كيف
تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر،

(5/410)


والسكوت عن المراد، إلا أن يرد ذلك عن الصادق فيصار إليه، نقله الحافظ في الفتح، وقال: من الدليل على ذلك اتفاقهم على أن التأويل المعين غير واجب، فحينئذ التفويض أسلم هذا، وقد أطال الكلام في مسألة النزول وأشباهها من أحاديث الصفات الأئمة المتقدمون كشيخ الإسلام والمسلمين الإمام ابن تيمية وتلميذيه الإمام ابن القيم والحافظ الذهبي وغيرهم، فعليك أن ترجع إلى ما ألفوا في ذلك من الكتب. (تبارك وتعالى) جملتان معترضتان بين الفعل وظرفه وهو قوله: (كل ليلة) أي في وقت خاص. (إلى السماء الدنيا) وفي حديث أبي الخطاب: رجل من أصحاب النبي ?: أن الله يهبط من السماء العليا إلى السماء الدنيا – الحديث. أخرجه عبدالله بن أحمد في كتاب السنة بإسناده. (حين يبقى ثلث) بضم لام وسكونه. (الليل) بالجر. (الآخر) بكسر الخاء المعجمة وضم الراء المهملة صفة ثلث، وتخصيصه بالليل وبالثلث الأخير منه، لأنه وقت التهجد وغفلة الناس عمن يتعرض لنفحات رحمة الله تعالى، وعند ذلك تكون النية خالصة، والرغبة إلى الله وافرة. وذلك مظنة القبول والإجابة، ولكن اختلف الروايات في تعيين الوقت على ستة أقوال: الأولى هي التي ههنا، وهي حين يبقى ثلث الليل الآخر، قال الترمذي: هذا أصح الروايات في ذلك. وقال العراقي: أصحها ما صححه الترمذي. وقال الحافظ: ويقوي ذلك أن الروايات المخالفة له اختلف فيها على رواتها. والثانية: حين يمضي الثلث الأول، وهي عند الترمذي ومسلم. والثالثة: حين يبقى نصف الليل الآخر. وفي لفظ: إذا كان شطر الليل. وفي آخر: إذا مضى شطر الليل. الرابعة: ينزل الله تعالى شطر الليل أو ثلث الليل الآخر على الشك أو التنويع. الخامسة: إذا مضى نصف الليل أو ثلث الليل أي الأول. وفي لفظ: إذا ذهب ثلث الليل أو نصفه. والسادسة: الإطلاق ولا تعارض بين رواية من عين الوقت ومن لم يعين، كما هو ظاهر جلي، فالروايات المطلقة تحمل على المقيدة. وأما من عين الوقت، واختلفت

(5/411)


ظواهر رواياتهم، فقد صار بعض العلماء إلى الترجيح كالترمذي على ما تقدم، إلا أنه عبر بالأصح، فلا يقتضي تضعيف غير تلك الرواية. وأما القاضي عياض فعبر في الترجيح بالصحيح، فاقتضى ضعف الرواية الأخرى، ورده النووي بأن مسلما رواها في صحيحه بإسناد لا يطعن فيه عن صحابيين، فكيف يضعفها؟ وإذا أمكن الجمع ولو على وجه فلا يصار إلى التضعيف. قال النووي: ويحتمل أن يكون النبي ? أعلم بأحد الأمرين في وقت فأخبر به، ثم أعلم بالآخر في وقت فأعلم به، وسمع أبوهريرة الخبرين جميعا فنقلهما، وسمع أبوسعيد الخدري خبر الثلث الأول فقط فأخبر به-انتهى. وقال الحافظ: أما الرواية التي بأو، فإن كانت أو للشك فالمجزوم به مقدم على المشكوك فيه، وإن كانت للتردد بين حالين فيجمع بين الروايات بأن ذلك يقع بحسب اختلاف الأحوال، لكون أوقات الليل تختلف في الزمان، وفي الآفاق باختلاف تقدم دخول الليل عند قوم، وتأخره عند قوم. وقال بعضهم : يحتمل أن يكون النزول يقع في الثلث الأول، والقول يقع في النصف وفي الثلث الثاني. وقيل: يحتمل على أن ذلك يقع في
يقول من يدعوني فأستجب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟)) متفق عليه.

(5/412)


جميع الأوقات التي وردت بها الأخبار، ويحمل على أن النبي ? أعلم بأحد الأمور في وقت فأخبر به، ثم أعلم به في وقت آخر فأخبر به، فنقل الصحابة ذلك عنه-انتهى كلام الحافظ. وقال القاري: لا تنافي بين الروايات، لأنه يحتمل أن يكون النزول في بعض الليالي هكذا وفي بعضها هكذا، كذا قاله ابن حبان. وقال ابن حجر: ويحتمل أن يتكرر النزول عند الثلث الأول والنصف والثلث الأخير، واختص بزيادة الفضل لحثه على الاستغفار بالأسحار، ولإتفاق الصحيحين على روايته-انتهى. (من يدعوني فاستجب له) بالنصب على جواب الاستفهام، وبالرفع على تقدير مبتدأ، أي فأنا أستجيب له، وكذلك حكم فأعطيه فأغفر له. وقال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج2:ص308): ضبطت هي وما بعدها في النسخة اليونينية من البخاري (ج2:ص53) بالنصب فقط، ولكن قال الحافظ في الفتح: بالنصب على جواب الاستفهام، وبالرفع على الاستئناف. وكذا قوله: فأعطيه وأغفرله. وقد قرئ بهما في قوله تعالى. ?من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له? [245:2] الآية وليست السين في قوله تعالى: فأستجيب للطلب بل أستجيب بمعنى أجيب. (من يسألني فأعطيه) بفتح الياء وضم الهاء وبسكون الياء وكسر الهاء. (من يستغفرني فأغفر له) قيل: الثلاثة المذكورة، وهي الدعاء والسؤال والاستغفار، بمعنى واحد وإن اختلف اللفظ، يعني أن المقصود واحد، واختلاف العبارات لتحقيق القضية وتأكيدها. وقيل: الفرق بين الثلاثة أن المطلوب إما لدفع المضار أو جلب المسار، والثاني إما ديني وإما دنيوي، ففي الاستغفار إشارة إلى الأول، وفي السؤال إشارة إلى الثاني، وفي الدعاء إشارة إلى الثالث. وزاد في رواية عند النسائي: هل من تائب فأتوبه عليه؟ وزاد في رواية عنده أيضا: من ذا الذي يسترزقني فأرزقه؟، من ذا الذي يستكشف الضر فأكشفه عنه. وزاد في رواية: ألا سقيم يستشفي فيشفى؟ ومعانيها داخلة في ما تقدم. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد ومالك

(5/413)


والترمذي في الصلاة، وفي الدعوات، وأبوداود في الصلاة، والنسائي في النعوت، وفي اليوم والليلة، وابن ماجه في الصلاة، والبيهقي (ج3:ص2). وفي الباب عن علي بن أبي طالب وأبي سعيد ورفاعة الجهني وجبير بن مطعم وابن مسعود وأبي الدرداء وعثمان بن أبي العاص وجابر بن عبدالله وعبادة بن الصامت وعقبة بن عامر وعمرو بن عبسة وأبي الخطاب وأبي بكر الصديق وأنس بن مالك وأبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل وأبي ثعلبة الخشني وعائشة وابن عباس ونواس بن سمعان وأم سلمة وجد عبدالحميد بن سلمة، سرد أسماءهم العيني في شرح البخاري (ج7:ص197، 198) مع تخريج أحاديثهم، وإنما أشرت إلى كثرة الروايات في ذلك، لأن بعض الناس يستنكفون عن مثل هذا، وينكرون صحة الأحاديث الواردة في هذا الباب؛ لقلة فهمهم وكثرة جهلهم أو لعنادهم، كما تقدم عن الخوارج والمعتزلة، وذكر ابن حبان في كتاب السنة عن أبي زرعة قال: هذه الأحاديث المتواترة عن رسول الله ? أن الله ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا. قد رواه عدة من أصحاب رسول الله ?،
وفي رواية لمسلم: ((ثم يبسط يديه ويقول: من يقرض غير عدوم ولا ظلوم؟ حتى ينفجر الفجر)).
1231- (6) وعن جابر قال: سمعت النبي ? يقول: ((إن في الليل لساعة

(5/414)


وهي عندنا صحاح قوية، قال رسول الله ?: ينزل ولم يقل كيف ينزل، فلا نقول كيف ينزل، نقول كما قال رسول الله ?. وروى البيهقي في كتاب الأسماء والصفات عن أبي محمد أحمد بن عبدالله المزني يقول: حديث النزول قد ثبت عن رسول الله ? من وجوه صحيحة، وورد في التنزيل ما يصدقه، وهو قوله. ?وجاء ربك والملك صفا صفا? [22:90] انتهى. وذكر البيهقي عنه مثل هذا في السنن الكبرى (ج3:ص3) أيضا. (وفي رواية لمسلم: ثم يبسط يديه) قال النووي: هو إشارة إلى نشر رحمته، وكثرة عطائه، وإجابته، وإسباغ نعمته. (ويقول) أي بذاته، أو على لسان ملك من خواص ملائكته. (من يقرض) بضم الياء من الإقراض. والمراد بالقرض عمل الطاعة، سواء فيه الصدقة والصلاة والصوم والذكر وغيرها من الطاعات، وسماه قرضا ملاطفة للعباد، وتحريضا لهم على المبادرة إلى الطاعة، فإن القرض إنما يكون ممن يعرفه المقترض، وبينه وبينه موانسة ومحبة، فحين يتعرض للقرض يبادر المطلوب منه بإجابته لفرحه بتأهيله للاقتراض منه، وإدلاله عليه، وذكره له. والمعنى من يعطي العبادة البدنية والمالية على سبيل القرض وأخذ العوض. (غير عدوم) أي ربا غنيا غير فقير عاجز عن العطاء. (ولا ظلوم) بعدم وفاء دينه أو بنقصه أو بتأخير أدائه عن وقته. وإنما خص نفي هاتين الصفتين، لأنهما المانعان غالبا عن الإقراض، فوصف الله تعالى ذاته بنفي هذا المانع. وحاصل المعنى من يعمل خيرا في الدنيا يجد جزاءه كاملا في العقبى، فشبه هذا المعنى بالإقراض. وفيه تحريض على عمل الطاعة، وإشارة إلى جزيل الثواب عليها. (حتى ينفجر الفجر) أي ينشق أو يطلع ويظهر الصبح وهي غاية للبسط والقول، أي لا يزال يقول ذلك حتى يضيء الفجر. وفيه دليل على امتداد وقت الرحمة واللطف التام إلى إضاءة الفجر. وزاد في رواية للدارقطني في آخر الحديث: ولذلك كانوا يفضلون صلاة آخر الليل على أوله، وله من رواية ابن سمعان عن الزهري ما يشير إلى أن قائل ذلك

(5/415)


هو الزهري. وبهذه الزيادة تظهر وتتضح مناسبة ذكر الحديث في باب التحريض على قيام الليل. وفي الحديث من الفوائد تفضيل صلاة آخر الليل على أوله، وتفضيل تأخير الوتر، لكن ذلك في حق من طمع أن ينتبه، وأن آخر الليل أفضل للدعاء والاستغفار. ويشهد له قوله تعالى، وإن الدعاء في ذلك الوقت مجاب. ولا يعترض على ذلك بتخلفه عن بعض الداعين، لأن سبب التخلف وقوع الخلل في شرط من شروط الدعاء، كالاحتراز في المطعم والمشرب والملبس، أو لاستعجال الداعي أو بأن يكون الدعاء باثم أو قطعية رحم أو تحصل الإجابة، ويتأخر وجود المطلوب لمصلحة العبد أو لأمر يريده الله تعالى.
1231- قوله: (إن في الليل لساعة) بلام التأكيد، أي مبهمة كساعة الجمعة، وليلة القدر، وأبهمت
لا يوافقها رجل مسلم، يسأل الله فيها خيرا من أمر الدنيا والآخرة، إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة)) رواه مسلم
1232-(7) وعن عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله ?: ((أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه،

(5/416)


لأجل أن يجتهد الشخص جميع الليل، ولا يقتصر على العبادة في وقت دون وقت، وسيأتي مزيد الكلام فيه. (لا يوافقها رجل مسلم) وكذا امرأة مسلمة. وهذه الجملة صفة لساعة أي ساعة من شأنها أن يترقب لها ويغتنم الفرصة لإدراكها؛ لأنها من نفحات رب رؤوف رحيم، وهي كالبرق الخاطف، فمن وافقها أي تعرض لها واستغرق أوقاته مترقبا للمعاتها فوافقها قضى وطره. (يسأل الله) أي فيها، والجملة صفة ثانية أو حال. (خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه) أي حقيقة أو حكما. (وذلك) أي المذكور من ساعة الإجابة. (كل ليلة) بالنصب على الظرفية، وهو خبر ذلك أي ثابت في كل ليلة، يعني وجود تلك الساعة، لا يتقيد بليلة مخصوصة، أي لا يختص ببعض الليالي دون بعض، فينبغي تحري تلك الساعة ما أمكن كل ليلة. قال النووي: فيه إثبات ساعة الإجابة في كل ليلة، ويتضمن الحث على الدعاء في جميع ساعات الليل رجاء مصادفتها-انتهى. وقال العزيزي: قال الشيخ: ظاهر الرواية التعميم في كل الليل، لكن من المعلوم أن الجوف أفضله، فعلى كل حال ساعة أول النصف الثاني والتي بعدها أفضل، نعم من لم يقم فيها فالأخيرة لرواية الحاكم: أنه لا يزال ينادي إلا إلا إلا، وفي أخرى: هل من تائب هل من مستغفر الخ. حتى يطلع الفجر-انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد.

(5/417)


1232- قوله: (أحب الصلاة) أي أكثر ما يكون محبوبا من جهة شرف الوقت وزيادة المشقة على النفس. (إلى الله) أي من النوافل. (صلاة داود) عليه السلام. (وأحب الصيام) أي أكثر ما يكون محبوبا. (إلى الله صيام داود) وفي رواية: وأحب الصوم إلى الله صوم داود. واستعمال أحب بمعنى محبوب قليل؛ لأن الأكثر في أفعل التفضيل أن يكون بمعنى الفاعل. ونسبة المحبة فيهما إلى الله تعالى على معنى إرادة الخير لفاعلهما. (كان) استئناف مبين للجملتين السابقتين. وفي بعض النسخ: وكان بزيادة الواو. (ينام) أي داود. (نصف الليل) أي نصفه الأول، والظاهر أن المراد كان ينام من الوقت الذي يعتاد فيه النوم إلى نصف الليل، أو المراد بالليل ما سوى الوقت الذي لا يعتاد فيه النوم من أول. والقول بأنه ينام من أول الغروب لا يخلو عن بعد. (ويقوم) أي بعد ذلك، ففي رواية لمسلم: كان يرقد شطر الليل ثم يقوم ثلث الليل بعد شطره. (ثلثه) أي في الوقت الذي ينادي فيه الرب تعالى
وينام سدسه، ويصوم يوما، ويفطر يوما))

(5/418)


هل من سائل هل من مستغفر؟. (وينام سدسه) بضم الدال ويسكن أي سدسه الأخير، ثم يقوم عند الصبح، وكان ينام السدس الأخير ليستريح من نصب القيام في بقية الليل، وإنما صارت هذه الطريقة أحب إلى الله تعالى؛ لأنه أخذ بالرفق التي يخشى منها السآمة التي هي سبب ترك العبادة، والله تعالى يحب أن يديم فضله ويوالى إحسانه، قاله الكرماني. وإنما كان ذلك أرفق؛ لأن النوم بعد القيام يريح البدن ويذهب ضرر السهر وذبول الجسم، بخلاف السهر إلى الصباح. وفيه من المصلحة أيضا استقبال صلاة الصبح، وأذكار النهار بنشاط وإقبال، ولأنه أقرب إلى عدم الرياء؛ لأن من نام السدس الأخير أصبح ظاهر اللون سليم القوى، فهو أقرب إلى أن يخفى عمله الماضي على من يراه، أشار إليه ابن دقيق العيد. قال في اللمعات: قيل: الحديث يشكل بأنه لم يكن عمل نبينا ? دائما على هذا الوجه، فالجواب أن صيغة التفضيل إما بمعنى أصل الفعل أو الأحبية إضافية محمولة على بعض الوجوه، لكونه أقرب إلى الاعتدال وحفظ صحته، ولما قيل في نوم السدس الأخير من دفع الكلفة والملال- انتهى. وقال القاري: ولعله ? ما التزم هذا النوم، ليكون قيامه جامعا سائر الأنبياء، وليهون على أمته في القيام بوظيفة الإحياء. (ويصوم) أي داود. (يوما ويفطر يوما) قال ابن المنير: كان داود عليه السلام يقسم ليله ونهاره لحق ربه وحق نفسه، فأما الليل فاستقام له ذلك في كل ليلة، وأما النهار فلما تعذر عليه أن يجزئه بالصيام؛ لأنه لا يتبعض، جعل عوضا من ذلك أن يصوم يوما ويفطر يوما، فيتنزل ذلك منزلة التجزئه في شخص اليوم، قيل: وهو أشد الصيام على النفس، فإنه لا يعتاد الصوم ولا الإفطار، فيصعب عليه كل منهما. وظاهر قوله: أحب الصيام يقتضي ثبوت الأفضلية مطلقا، ووقع في بعض الروايات أفضل الصيام صيام داود، ومقتضاه أن تكون الزيادة عليه كصوم يومين وإفطار يوم، وكصيام الدهر بلا صيام أيام الكراهة مفضولة، وإنما كان ذلك أعدل

(5/419)


الصيام وأحبه إلى الله؛ لأن فاعله يؤدي حق نفسه وأهله وزائر أيام فطره، بخلاف من يصوم الدهر أي يتابع الصوم ويسرده، فإنه قد يفوت بعض الحقوق وقد لا يشق باعتياده، فلا يحصل المقصود من قمع النفس، نظير ما قاله الأطباء: من أن المرض إذا تعود عليه البدن لم يحتج إلى دواء، ولم يلتزم النبي ? الوصف المذكور في صيامه لما قيل: إن فعله كان مختلفا يتضمن مصالح راجعة إلى أمته أقوياءهم وضعفاءهم، وكان يفعل العبادات بحسب ما يظهر له من الحكمة في أوقات الطاعات دون الحالات المألوفات والعادات. وقد روى البخاري وغيره عن عائشة قالت: كان رسول الله ? ليدع العمل بالشيء، وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم، زاد في رواية قالت: وكان يحب ما خف على الناس. قال الشوكاني: الحديث يدل على أن صوم يوم وإفطار يوم أحب إلى الله من غيره، وإن كان أكثر منه، وما كان أحب إلى الله عزوجل فهو أفضل، والاشتغال به أولى، وفي رواية لمسلم: أن عبد الله بن عمرو قال للنبي ? : إني أطيق أفضل من ذلك فقال ? :
متفق عليه.
1233-(8) وعن عائشة، قالت: ((كان - تعني رسول الله ?- ينام أول الليل، ويحيي آخره، ثم إن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته ثم نام، فإن كان عند النداء الأول جنبا، وثب فأفاض عليه الماء،
لا أفضل من ذلك. ويدل على أفضليته قيام ثلث الليل بعد نوم نصفه، وتعقيب قيام ذلك الثلث بنوم السدس الآخر. (متفق عليه) أخرجه البخاري في قيام الليل، وفي كتاب الأنبياء، ومسلم في الصيام، وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود في الصوم، والنسائي فيه وفي الصلاة، وابن ماجه في الصوم، والبيهقي. (ج3 ص3) وأخرج الترمذي فضل الصوم فقط.

(5/420)


1233- قوله: (تعني) تفسير لضمير كان. قال ابن الملك: أي تريد عائشة بذلك. (رسول الله ?) بالنصب وهو مفعول تعني في الظاهر، واسم كان في المعنى. (ينام أول الليل) أي إلى تمام نصفه الأول ومعلوم أنه كان لا ينام إلا بعد فعل العشاء"؛ لأنه يكره النوم قبلها. (ويحيي أخره) أي بالصلاة. قال السندي: من الإحياء، وإحياء الليل تعميره بالعبادة، وجعله من الحياة على تشبيه النوم بالموت، وضده بالحياة لا يخلو عن سوء أدب- انتهى. وهذا لفظ مسلم. ولفظ البخاري: كان ينام أوله ويقوم آخره فيصلي. (أي في السدس الرابع والخامس)، ثم يرجع إلى فراشه. (أي لينام السدس السادس ليقوم لصلاة الصبح بنشاط). (ثم) أي بعد صلاته وفراغه من ورده. (إن كانت له حاجة إلى أهله) المراد مباشرة زوجته. (قضى حاجته) أي فعلها. وفي رواية النسائي: فإذا كان له حاجة ألم بأهله أي قرب من زوجته، وهو كناية عن الجماع. وكلمة ثم بابها، كما تقدمت الإشارة إليه، فيؤخذ منه أنه ? كان يقدم التهجد ثم يقضي بعد إحياء الليل حاجته من نساءه، فإن الجدير به أداء العبادة قبل قضاء الشهوة. وقيل: يمكن أن ثم ههنا لتراخي الإخبار أخبرت أولا أن عادته ? كانت مستمرة بنوم أول الليل وإحياء أخره. ثم أن اتفق له احتياج إلى أهله يقضي حاجته، ثم ينام في كلتا الحالتين. قال ابن حجر: وتأخير الوطأ إلى آخر الليل أولى؛ لأن أول الليل قد يكون ممتلئا، والجماع على الامتلاء مضر بالإجماع. (ثم ينام) أي السدس الأخير ليستريح. (فإن كان عند النداء الأول) تعني الأذان المتعارف عند تبيين الصبح. (جنبا وثب) بواو ومثلثة وموحدة مفتوحات أي قام بنهجه وشدة وسرعة. (فأفاض عليه الماء) أي أسال على جميع بدنه الماء يعني اغتسل. هكذا في جميع النسخ للمشكاة، وكذا في المصابيح أي فإن عند النداء الأول جنبا وثب فأفاض عليه الماء. ولفظ مسلم: فإذا كانت عند النداء الأول قالت وثب ولا والله ما قالت:

(5/421)


وإن لم يكن جنبا توضأ للصلاة، ثم صلى ركعتين)). متفق عليه.
((الفصل الثاني]
1234-(9) عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله ?: ((عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين
قبلكم، وهو قربة لكم إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم)) .
قام فأفاض عليه الماء، ولا والله ما قالت اغتسل وأنا أعلم ما تريد، ولفظ البخاري: فإذا أذن المؤذن وثب، فإن كانت به حاجة. (أي أثر حاجة أو المراد بالحاجة هي الجنابة لكونها أثرا لها، أو المراد حاجة الاغتسال بقرينة الجزاء) اغتسل، وإلا توضأ وخرج. وهذا يدل على أن بعض الرواة ذكره بالمعنى، وحافظ بعضهم على اللفظ. ولفظ النسائي: فإذا سمع الأذان وثب، فإن كان جنبا أفاض عليه من الماء وإلا توضأ، ثم خرج إلى الصلاة أي بعد أن صلى ركعتي الفجر. (وإن لم يكن جنبا توضأ للصلاة) وفي مسلم: توضأ وضوء الرجل للصلاة أي إما للتجديد؛ لأن نومه ? لا ينقض الوضوء، أو لحصول ناقض آخر غير النوم. (ثم صلى ركعتين) وفي مسلم: ثم صلى الركعتين، أي سنة الصبح في بيته، ثم خرج إلى المسجد لصلاة الصبح. ويؤخذ من الحديث أنه ينبغي الاهتمام بالعبادة، وعدم التكاسل بالنوم والإقبال عليها بالنشاط. (متفق عليه) ولفظه لمسلم. وأخرجه أيضا النسائي والترمذي في الشمائل، وأخرجه أيضا النسائي وابن ماجه مختصرا بلفظ: كان ينام أول الليل ويحيي آخره.

(5/422)


1234- قوله: (عليكم بقيام الليل) أي التهجد فيه. (فإنه دأب الصالحين قبلكم) بسكون الهمزة ويحرك أي عادتهم. قال الطيبي: الدأب العادة والشأن، وقد يحرك، وأصله من دأب في العمل إذا جد وتعب، أي هي عادة قديمة واظب عليها الأنبياء والأولياء السابقون. (وهو) أي مع كونه إقتداء بسيرة الصالحين. (قربة لكم إلى ربكم) أي مما تتقربون به إلى الله تعالى. (ومكفرة) بفتح الميم وسكون القاف مصدر ميمي بمعنى اسم فاعل من الكفر وهو الستر. (للسيئات) أي خصلة ساترة ماحية لذنوبكم، والحسنات كلها تكفير للسيئات، كما قال تعالى:. ?إن الحسنات يذهبن السيئات? [11: 114]، وقيام الليل يزيد عليها لكونه (منهاة) بفتح الميم وسكون النون مصدر ميمي أيضا بمعنى اسم فاعل من النهي. (عن الإثم) كذا في جميع النسخ، وكذا في المصابيح، وهكذا عند البيهقي، وكذا نقله الجزري (ج10 ص266). ولفظ الترمذي في حديث أبي أمامة: للإثم أي بلام الجر بدل عن، نعم وقع في رواية بلال عند الترمذي: عن الإثم. والمعنى ناهية عن ارتكاب ما يوجب الإثم. قال تعالى:. ?إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر? [29: 45] وقال الجزري في النهاية: منهاة عن الإثم أي حالة من شأنها أن تنهى الإثم أو هي مكان مختص بذلك، وهي مفعلة من النهي،
رواه الترمذي.
1235-(10) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله ?: ((ثلاثة يضحك الله إليهم:

(5/423)


والميم زائدة. زاد في رواية بلال عند الترمذي والبيهقي، وفي رواية سلمان الفارسي عند الطبراني في الكبير: ومطردة للداء عن الجسد أي طارد ومبعد للداء عن البدن، أو حالة من شأنها إبعاد الداء، أو مكان مختص به، ومعنى الحديث أن قيام الليل قربة تقربكم إلى ربكم، وخصلة تكفر سيئاتكم، وتنهاكم عن المحرمات، وتطرد الداء عن أجسادكم. (رواه الترمذي) في الدعوات، وأخرجه أيضا ابن أبي الدنيا في كتاب التهجد، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم وابن عدي في الكامل، والطبراني في الكبير الأوسط والبيهقي في السنن (ج2 ص502) كلهم من رواية عبدالله بن صالح كاتب الليث. قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري. قال الشوكاني: عبدالله بن صالح كاتب الليث مختلف فيه- انتهى. وقال الهيثمي في مجمع الزائد (ج2 ص251): قال عبدالملك بن شعيب بن الليث: ثقة مأمون، وضعفه جماعة من الأئمة. وقال في التقريب في ترجمته: صدوق كثير الغلط ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة- انتهى. وفي الباب عن بلال عند الترمذي وغيره بإسناد ضعيف، وعن سلمان الفارسي عند الطبراني وغيره. وفيه عبدالرحمن بن سليمان بن أبي الجون، وثقة دحيم وابن حبان وابن عدي، وضعفه أبوداود وأبوحاتم.

(5/424)


1235- قوله: (ثلاثة) أي ثلاث رجال، قاله الطيبي: والأولى أشخاص، ويراد بها الأنواع ليلائم القوم، ولذا قال ابن حجر: أصناف. وقيل: ثلاثة نفر. (يضحك الله) قيل الضحك من الله الرضا والإرادة الخير. وقيل: بسط الرحمة بالإقبال وبالإحسان، أو بمعنى يأمر الملائكة بالضحك ويأذن لهم فيه، كما يقال السلطان قتله، إذا أمر بقتله. قال ابن حبان في صحيحه: هو من نسبة الفعل إلى الآمر. وهو في كلام العرب كثير. وقيل: إن الضحك وأمثاله مما هو من قبيل الانفعال إذا نسب إلى الله يراد به غايته. وقيل: بل المراد إيجاد الانفعال في الغير، فالمراد ههنا الإضحاك. ومذهب أهل التحقيق أنه صفة سميعة يلزم إثباتها مع نفي التشبيه وكمال التنزيه، كما أشار إلى ذلك مالك، وقد سئل عن الاستواء فقال: الاستواء معلوم، والكيف غير معلوم، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. (إليهم) قبل عدي الضحك بإلى لتضمينه معنى الإقبال. وقال الطيبي: الضحك مستعار للرضى، وفي إلى معنى الدنو كأنه قيل إن الله يرضى عنهم ويدنو إليهم برحمته ورأفته، ويجوز أن يضمن الضحك معنى النظر، ويعدي بإلى. فالمعنى أنه تعالى ينظر إليهم ضاحكا أي راضيا عنهم مستعطفا عليهم؛ لأن الملك إذا نظر إلى رعيته بعين الرضى لا يدع شيئا من الأنعام إلا فعله، وفي عكسه قوله تعالى: ?ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة? [3: 77] - انتهى. قلت: قد تقدم أن مذهب أهل التحقيق إثبات الضحك لله
الرجل إذا قام بالليل يصلي، والقوم إذا صفوا في الصلاة، والقوم إذا صفوا في قتال العدو)) .
رواه في شرح السنة.
1236- وعن عمرو بن عبسة، قال: قال رسول الله ?: ((أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل

(5/425)


تعالى من غير تأويل ولا تكييف ولا تشبيه، وهو الحق عندنا، فالتفويض والتسليم أسلم وأصوب (الرجل) خص ذكره نظر الغالب الأحوال. (إذا قام بالليل يصلي) نفلا وهو التهجد، ولعله لم يقل القوم إذا قاموا مع أنه المطابق لما بعده من المتعاطفين لئلا يوهم قيد الجماعة والاجتماع. قال الطيبي: إذا المجرد الظرفية، وهو بدل عن الرجل كقوله تعالى: ?واذكر في الكتاب مريم إذا انتبذت? [19: 16] أي ثلاثة رجال يضحك الله منهم وقت قيام الرجل بالليل. وفي إبدال الظرف مبالغة، كما في قوله: أخطب ما يكون الأمير قائما- انتهى. (والقوم إذا صفوا) يحتمل البناء للفاعل وللمفعول. (للصلاة) وسووا صفوفهم على سمت واحد، وتراصوا كما أمروا به. (والقوم) المسلمون (إذا صفوا في قتال العدو) أي لقتال الكفار بقصد إعلاء كلمة الله تعالى. (رواه) أي البغوي. (في شرح السنة) ونسبه السيوطي في الجامع الصغير إلى أحمد وأبي يعلى، وأخرجه ابن ماجه في باب ما أنكرت الجهمية من كتاب السنة بلفظ: إن الله ليضحك على الثلاثة: للصف في الصلاة. وللرجل يصلي في جوف الليل. وللرجل يقاتل أراه خلف الكتيبة. وفي سنده عبدالله بن إسماعيل عن مجالد بن سعيد، وعبدالله بن إسماعيل هذا قال فيه أبوحاتم والذهبي في الكاشف: مجهول، ومجالد قال في التقريب في ترجمته: ليس بالقوى، وقد تغير في آخر عمره- انتهى. وأخرج له مسلم في صحيحه، لكن مقرونا بغيره، وأخرجه البزار بغير هذين السياقين، وفيه محمد بن أبي ليلى، وفيه كلام كثير لسوء حفظه لا لكذبه.

(5/426)


1236- قوله: (عن عمرو بن عبسة) بفتح العين المهملة والباء الموحدة. (أقرب ما يكون الرب من العبد) أي الإنسان حرا كان أو رقيقا. (في جوف الليل) خبر أقرب أي أقربيته تعالى من عباده كائنة في الليل. قال الطيبي: إما حال من الرب أي قائلا في جوف الليل من يدعوني فاستجيب له؟- الحديث، سدت مسد الخبر، أو من العبد أي قائما في جوف الليل داعيا مستغفرا، ويحتمل أن يكون خبر الأقرب، ومعناه سبق في باب السجود مستقصى. فإن قلت المذكور ههنا أقرب ما يكون الرب من العبد، وهناك أقرب ما يكون العبد من ربه، فما الفرق؟ أجيب بأنه قد علم مما سبق في حديث أبي هريرة من قوله. ينزل ربنا الخ أي رحمته سابقة، فقرب رحمة الله من المحسنين سابق على إحسانهم، فإذا سجدوا قربوا من ربهم بإحسانهم، كما قال تعالى: ?واسجد واقترب? [96: 19]
الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة، فكن)). رواه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب إسنادا.

(5/427)


وفيه أن لطف الله وتوفيقه سابق على عمل العبد وسبب له، ولولاه لم يصدر من العبد خير قط- انتهى. وقال ميرك: فإن قلت ما الفرق بين هذا القول، وقوله: فيما تقدم في باب السجود: أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد؟ قلت: المراد ههنا بيان وقت كون الرب أقرب من العبد، وهو جوف الليل، والمراد هناك بيان أقربية أحوال العبد من الرب، وهو حال السجود، تأمل- انتهى. يعني فإنه دقيق بالتأمل حقيق وتوضيحه أن هذا وقت تجل خاص بوقت، لا يتوقف على فعل من العبد لوجوده لا عن سبب، ثم كل من أدركه أدرك ثمرته، ومن لا فلا، غايته أنه مع العبادة أتم منفعة ونتيجة. وأما القرب الناشئ من السجود فمتوقف على فعل العبد وخاص به، فناسب كل محل ما ذكر فيه، كذا في المرقاة. (الآخر) صفة لجوف الليل على أنه ينصف الليل، ويجعل لكل نصف جوفا، والقرب يحصل في جوف النصف الثاني، فابتداؤه يكون من الثلث الأخير، وهو وقت القيام للتهجد، قاله الطيبي. وقال القاري: ولا يبعد أن يكون ابتداءه من أول النصف الأخير. (فإن استطعت) أي قدرت ووفقت. (أن تكون ممن يذكر الله) في ضمن صلاة أو غيرها. (في تلك الساعة) إشارة إلى لطفها. (فكن) أي اجتهد أن تكون من جملتهم. وهذا أبلغ مما لو قيل: إن استطعت أن تكون ذاكرا فكن؛ لأن الأولى فيها صفة عموم شامل للأنبياء والأولياء، فيكون داخلا في جملتهم ولأحقابهم، بخلاف الثانية. قال الطيبي: في قوله: فإن استطعت إشارة إلى تعظيم شأن الأمر وتفخيمه، وفوز من يستعد به، ومن ثمة قال أن تكون ممن يذكر الله، أي تنخرط في زمرة الذاكرين الله، ويكون لك مساهمة فيهم، وهو أبلغ من أن يقال: إن استطعت أن تكون ذاكرا- انتهى. (رواه الترمذي) في الدعوات. (وقال هذا حديث صحيح حسن غريب إسنادا) تمييز عن غريب سندا لا متنا. واعلم أن المراد بالحديث الغريب من حيث الإسناد فقط حديث يعرف متنه عن جماعة من الصحابة، وانفرد واحد برايته عن الصحابي آخر. قال السيوطي في

(5/428)


التدريب (ص192): وينقسم الغريب أيضا إلى غريب متنا وإسنادا، كما لو انفرد بمتنه راو واحد وإلى غريب إسنادا لا متنا كحديث معروف روى متنه جماعة من الصحابة انفرد واحد بروايته عن صحابي آخر، وفيه يقول الترمذي غريب من هذا الوجه- انتهى. وقال الزرقاني في شرح البيقونية (ص92): ثم الحديث قد يغرب متنا وإسنادا كحديث انفرد بروايته واحد، وقد يغرب إسنادا فقط كأن يكون معروفا برواية جماعة من الصحابة فينفرد به راو من حديث صحابي آخر، فهو من جهته غريب مع أن متنه غير غريب. قال ابن الصلاح: ومن ذلك غرائب الشيوخ في أسانيد المتون الصحيحة، قال: وهذا الذي يقول الترمذي في غريب من هذا الوجه، قال ولا أرى
1237-(12) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ?: ((رحم الله رجلا قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها

(5/429)


هذا النوع، يعني غريب الإسناد فقط، ينعكس، فلا يوجد أبدأ ما هو غريب متنا وليس غريبا إسنادا إلا إذا اشتهر الحديث الفرد عمن انفرد به، فرواه عنه عدد كثير، فإنه يصير غريبا مشهورا وغريبا متنا لا إسنادا، لكن بالنظر إلى أحد طرفي الإسناد، فإن إسناده غريب في طرفه الأول، مشهور في طرفه الآخر، كحديث: إنما الأعمال بالنيات، فإن الشهرة إنما طرأت له من عند يحيى بن سعيد، وما ذكره من أن غريب الإسناد لا ينعكس هو بالنظر إلى الوجود كما قال، وإلا فالقسمة العقلية تقتضي العكس، ومن ثم قال ابن سيد الناس، فيما شرحه من الترمذي الغريب أقسام: غريب سندا ومتنا، أو متنا لا سندا، أو سندا لا متنا، وغريب بعض السند، وغريب بعض المتن، فالأول واضح، والثاني هو الذي أطلقه، ولم يذكر له مثالا لعدم وجوده، ثم ذكر الزرقاني أمثلة الأقسام الثلاثة الباقية، ولا تنافي بين الغرابة والصحة، كما بين في علم الأصول. قال الزرقاني: الغرابة تجامع الصحة والضعف، فالغريب الصحيح كأفراد الصحيح وهي كثيرة، والغريب الذي ليس بصحيح هو الغالب على الغريب- انتهى مختصرا. وحديث عمرو بن عبسة هذا أخرجه ابن خزيمة في صحيحة والحاكم والبيهقي، وله حديث آخر مطول أخرجه أحمد (ج4 ص114) وفيه: فقلت هل من ساعة أقرب إلى الله تعالى؟ قال جوف الليل الآخر- الحديث.

(5/430)


1237- قوله: (رحم الله رجلا) خبر عن استحقاقه الرحمة واستجابة لها، أو دعاء له ومدح له بحسن ما فعل. وقال العلقمي: هو ماض بمعنى الطلب. (قام من الليل) أي بعضه. (فصلى) أي التهجد. (وأيقظ امرأته) وفي حديث أبي سعيد وأبي هريرة الآتي: إذا أيقظ الرجل أهله، وهو أعم لشموله الولد والأقارب. (فصلت) ما كتب الله لها ولو ركعتين. (فإن أبت) أن تستيقظ. وقيل: أي امتنعت عن القيام لغلبة النوم، وكثرة الكسل. (نضح) وفي رواية ابن ماجه: رش. (في وجهها الماء) ليزول عنها النوم. والمراد التلطف معها، والسعي في قيامها لطاعة ربها مهما أمكن. قال تعالى: ?وتعانوا على البر والتقوى? [5 :2]. وفيه أن أصاب خيرا ينبغي له أن يتحرى إصابة الغير، وأن يحب له ما يحب لنفسه، فيأخذ بالأقرب فالأقرب. وقوله: "رحم الله" تنبيه للأمة بمنزلة رش الماء على الوجه لاستيقاظ النائم، وذلك أنه ? لما نال بالتهجد ما نال من الكرامة والمقام المحمود أراد أن يحصل لأمته نصيب وافر، فحثهم على ذلك بألطف وجه. قيل: خص الوجه بالنصح؛ لأنه أفضل الأعضاء وأشرفها، وبه يذهب النوم والنعاس أكثر من بقية الأعضاء، وهو أول الأعضاء المفروضة غسلا، وفيه العينان وهما آلة النوم. (رحم الله امرأة قامت من الليل) أي وقفت بالسبق. (فصلت) صلاة التهجد. (وأيقظت زوجها)
فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء )). رواه أبوداود، والنسائي.
1238-(13) وعن أبي أمامة، قال: ((قيل: يا رسول الله ! أي الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل
الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات )). رواه الترمذي.
1239-(14) وعن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله ?: ((إن في الجنة غرفا

(5/431)


الواو لمطلق الجمع. وفي الترتيب الذكري إشارة لا تخفى، قاله القاري. (فصلى) أي بسببها. (فإن أبى) أن يقوم لغلبة النوم. (نضحت) أي رشت. (في وجهه الماء) ليزول عنه النوم وينتبه. وفي الحديث الدعاء بالرحمة للحي كما يدعى بها للميت، وفيه فضيلة صلاة الليل وفضيلة مشروعية إيقاظ النائم للتنفل كما يشرع للفرض، وهو من المعاونة على البر والتقوى. وفيه بيان حسن المعاشرة وكمال الملاطفة والموافقة. وفيه إشارة إلى أن الرجل أحق بأن يكون مسابقا بالقيام وإيقاظ امرأته، وإلى أن فضل الله لا يختص بأحد، فقد يكون المرأة سابقة على الرجل. (رواه أبوداود والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والبيهقي (ج2 ص501) والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، وسكت عنه أبوداود، وكذا المنذري في الترغيب، وصحح النووي سنده في رياض الصالحين (ص442). وقال المنذري في مختصر السنن: في سنده محمد بن عجلان، وقد ثقة أحمد وابن معين وأبوحاتم الرازي، واستشهد به البخاري، وأخرج له مسلم في المتابعة، وتكلم فيه بعضهم- انتهى. وفي الباب عن أبي مالك الأشعري، رواه الطبراني في الكبير، وفيه محمد بن إسماعيل بن عياش، وهو ضعيف، قاله الهيثمي.

(5/432)


1238- قوله: (أي الدعاء أسمع) أي أقرب إلى أن يسمعه الله أي يقبله. قال الطيبي: أي أرجى للإجابة؛ لأن المسموع على الحقيقة ما يقترن بالقبول ولا بد من مقدر، إما في السؤال أي، أي أوقات الدعاء أقرب إلى الإجابة؟ وإما في الجواب أي دعاءه في جوف الليل. (قال جوف الليل) بالرفع على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، أي دعاء جوف الليل. وروي بالنصب على الظرفية أي الدعاء في جوف الليل. (الآخر) صفة للجوف، فيتبعه في الإعراب. قال الخطابي: المراد ثلث الليل الآخر، وهو الخامس من أسداس الليل. (ودبر الصلوات المكتوبات) برفع دبر ونصبه. (رواه الترمذي) في الدعوات. وقد تقدم الحديث مع شرحه في الفصل الثاني من باب الذكر بعد الصلاة، أعاده هنا؛ لأنه من أدلة استحباب الدعاء في ضمن الصلاة وغيرها في ثلث الليل الآخر، ومن أدلة أنه وقت الإجابة.
1239- قوله: (إن في الجنة غرفا) بضم الغين المعجمة وفتح الراء المهملة، جمع غرفة بالضم، وهي العلية،
يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام،
وتابع الصيام، وصلي بالليل والناس نيام)). رواه البيهقي في شعب الإيمان.
1240-(15) وروى الترمذي عن علي نحوه، وفي روايته: ((لمن أطاب الكلام.

(5/433)


أي البيت فوق البيت أي علالي في غاية من اللطافة ونهاية من الصفاء والنظافة. (يرى) بالبناء للمفعول. (ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها) لكونها شفافة لا تحجب ما وراءها. (أعدها الله) أي هيأها. (لمن ألان) أي أطاب كما في رواية. (الكلام) أي بمداراة الناس، واستعطافهم. قال الطيبي: جعل جزاء من تلطف في الكلام الغرفة، كما في قوله تعالى: ?أولئك يجزون الغرفة? [25: 75] بعد قوله: ?وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما? [25: 63]. وفيه تلويح على أن لين الكلام من صفات عباد الله الصالحين الذين خضعوا لبارئهم، وعاملوا الخلق بالرفق في القول والفعل، وكذا جعلت جزاء من أطعم، كما في قوله: ?والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا? [25: 67]، وكذا جعلت جزاء من صلى بالليل، كما في قوله: ?والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما? [25: 64]. ولم يذكر في التنزيل الصيام استغناء بقوله بما صبروا؛ لأن الصيام صبر كله. (وأطعم الطعام) للعيال والفقراء والأضياف ونحو ذلك، قاله المناوي. وقيل: يكفي في إطعام الطعام أهله ومن يمونه، وهذا إذا قصد الاحتساب. وقيل: المراد بالطعام الزائد على ما يحتاجه لنفسه وعياله. (وتابع الصيام) أي أكثر منه بعد الفريضة بحيث تابع بعضها بعضا، ولا يقطعها رأسا، قاله ابن الملك. وقيل: يكفي في متابعة الصوم مثل حال أبي هريرة وابن عمر وغيرهما من صوم ثلاثة أيام من كل شهر أوله، ومثلها من أوسطه وآخره، والاثنين، والخميس، ويوم عرفة وعاشوراء وعشر ذي الحجة. وفي رواية: أدام الصيام. والمراد به الكثرة، لا المواصلة، ولا صوم الدهر. (وصلى بالليل) أي تهجد لله تعالى. (والناس) أي غالبهم. (نيام) بكسر النون. جمع نائم أي لا يتهجدون. وإن لم يكونوا نائمين. والأوصاف الثلاثة أي لين الكلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل إشارة إلى استجماع صفة الجود والتواضع والعبادة المتعدية واللازمة. (رواه

(5/434)


البيهقي في شعب الإيمان) وأخرجه أيضا أحمد وابن حبان في صحيحة، والطبراني في الكبير. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص254) بعد عزوه إلى الطبراني: رجاله ثقات.
1240- (وروى الترمذي عن علي) أي ابن أبي طالب. (نحوه) في باب قول المعروف من أبواب البر والصلة، وفي باب صفة غرف الجنة من أبواب صفة الجنة. ولفظه: إن في الجنة غرفا، ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فقام أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله ؟ فقال: لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام،
?الفصل الثالث?
1241-(16) عن عبدالله بن عمرو بن العاص، قال: قال لي رسول الله ?: ((يا عبدالله! لا تكن
مثل فلان، كان يقوم من الليل فترك قيام الليل)). متفق عليه.
وأدام الصيام، وصلى بالليل، والناس نيام. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبدالرحمن بن إسحاق- انتهى. وعبدالرحمن بن إسحاق هذا. قال الحافظ في التقريب في ترجمته: ضعيف، ولكن له شاهد قوي من حديث عبدالله بن عمرو عند أحمد والطبراني في الكبير والحاكم. قال المنذري. والهيثمي: إسناده حسن. وقال الحاكم: صحيح على شرطهما.

(5/435)


1241- قوله: (لا تكن مثل فلان) أي في هذه الخصلة التي أذكرها لك وهي أنه (كان يقوم من الليل) أي فيه كإذا نودي للصلاة من يوم الجمعة أي في يوم الجمعة. وقال الحافظ: أي بعض الليل وسقط لفظ "من" من رواية الأكثر، وهي مرادة- انتهى. وقال العيني: ليس في رواية الأكثرين لفظ من موجودا، بل اللفظ كان يقوم الليل أي في الليل، والمراد في جزء من أجزائه. وقال القسطلاني: يقوم الليل أي بعضه- انتهى. ونقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص46) بذكر لفظ "من". ووقع عند البيهقي بحذفه. (فترك قيام الليل) أي لا عن عذر، بل دعة ورفاهية، فلم يكن من الموفين بعهدهم إذا عاهدوا. قال ابن العربي: في هذا الحديث دليل على أن قيام الليل ليس بواجب، إذ لو واجبا لم يكتف لتاركه بهذا القدر، بل كان يذمه أبلغ الذم. وفيه استحباب الدوام على ما اعتاده المرء من الخير من غير تفريط. وفيه الإشارة إلى كراهة قطع العبادة وإن لم تكن واجبة. وقيل: معنى قوله "كان يقوم الليل" أي غالبه أو كله "فترك قيام الليل" أصلا حين ثقل عليه، أي فلا تزد أنت في القيام أيضا فإنه يؤدي إلى ترك رأسا. قال السندي: يريد أن الإكثار في قيام الليل قد يؤدي إلى تركه رأسا، كما فعل فعلان، فلا تفعل أنت ذاك، بل خذ فيه التوسط والقصد أي؛ لأن التشديد في العبادة قد يؤدي إلى تركها وهو مذموم. وقال في اللمعات: فيه تنبيه على منعه من كثرة قيام الليل والإفراط فيه، بحيث يورث الملالة والسآمة- انتهى. وقوله: مثل فلان قال الحافظ: لم أقف على تسميته في شيء من الطرق، وكان إبهام هذا لقصد الستر عليه كالذي تقدم قريبا في الذي نام حتى أصبح. قال ابن حبان: فيه جواز ذكر الشخص بما فيه من عيب إذا قصد بذلك التحذير من صنيعة. (متفق عليه) أخرجه البخاري في قيام الليل، ومسلم في الصوم. وأخرجه أيضا النسائي وابن ماجه كلاهما في الصلاة والبيهقي (ج3 ص14) .

(5/436)


1242-(17) وعن عثمان بن أبي العاص، قال: سمعت رسول الله ? يقول: ((كان لداود عليه
السلام من الليل ساعة يوقظ فيها أهله يقول: يا آل داود: قوموا فصلوا، فإن هذه ساعة
يستجيب الله عز وجل فيها الدعاء إلا لساحر أو عشار)) .
1242- قوله(كان لداود) نبي الله. (عليه السلام من الليل ساعة) بالرفع اسم كان و"من" بيانية متقدمة، قاله القاري، ويفسر هذه الساعة المبهمة ما تقدم في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص: كان أي داود ينام نصف الليل ويقوم ثلثه- الحديث. فوقت إيقاظه لأهله هو وقت قيامه وهو وقت الإجابة، كما سبق. (يوقظ فيها أهله) لقوله تعالى: ?اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور? [34: 13] أي القائم بالليل. ويناسبه قوله تعالى: ?كانوا قليلا من الليل ما يهجعون? [51: 17]. (يقول) وفي المسند فيقول بزيادة الفاء. (فصلوا) أي من الليل ولو قليلا. (فإن هذه ساعة يستجيب الله فيها الدعاء) أي يقبله، والصلاة نفسها دعاء؛ لأن الثناء والقيام في خدمة المولى تعرض للعطاء، أو لاشتمالها على الدعاء المحفوف بالذكر والثناء. (إلا لساحر) أي لمخالفته الخالق. (أو عشار) بفتح العين المهملة وتشديد الشين المعجمة أي آخذ العشور من أموال الناس على عادة أهل الجاهلية، وذلك لكونه ترك فرض الله، وهو ربع العشر ولمضرته الخلق، يقال: عشرت المال عشرا وعشورا فإن عاشر من باب قتل وعشرته، فإن معشر وعشار إذا أخذت عشرة، وعشرت القوم عشرا عشورا، من باب قتل وعشرتهم إذا أخذت عشر أموالهم، وأما من يعشر الناس على ما فرض الله فحسن جميل محتسب ما لم يتعد فيأثم بالتعدي والظلم، وقد عشر جماعة من الصحابة للنبي ? وللخلفاء بعده، وسمي هذا عاشرا للإضافة ما يأخذه إلى العشر كربع العشر ونصفه، وهو يأخذ العشر جميعه فيما سقته الماء والعيون وعشر أموال أهل الذمة في التجارات. وقيل: المراد بالعشار في الحديث المكاس والماكس، وهو الذي يأخذ من التجار إذا مروا به مكسا

(5/437)


باسم العشر، والمكس الضربية أي دراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في أسواق الجاهلية. وقيل: هو ما يأخذه أعوان الدولة عن أشياء معينة عند بيعها أو عند إدخالها في البلاد والمدن. قال رسول الله ? : ليس على المسلمين عشورا، أي ليس عليهم غير الزكاة من الضرائب والمكس ونحوهما. وقال القاري: قوله: أو عشار أي آخذ العشر، وهو المكاس وإن أقل من العشر؛ لأن ذلك باعتبار غالب أحوال المكاسين، وذلك لمضرته الخلق، وأو للتنويع لا للشك- انتهى. وبالجملة ليس المراد بالعشار المذكور في الحديث العاشر أي الساعي الذي يأخذ الصدقة من المسلمين على ما فرض الله من ربع العشر أو نصفه أو العشر جميعه، ولا من يأخذ العشر أو نصفه أو نحوه من أهل الذمة إذا مروا بأموال التجارة. وقيل: المكس النقصان والماكس من العمال من ينقص من حقوق المساكين
رواه أحمد.
1243-(18) وعن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله ? يقول: ((أفضل الصلاة بعد المفروضة صلاة في جوف الليل)) .

(5/438)


ولا يعطيها بتمامها، قاله البيهقي. قال الطيبي: استثنى من جميع خلق الله تعالى الساحر والعشار تشديدا عليهم وتغليظا وأنهم كالآئسين من رحمة الله تعالى العامة للخلائق كلها، وتنبيها على استجابة دعاء الخلق كائنا من كان سواهما-انتهى. يعني فإنهم وإن قاموا ودعوا لم يستجب لهم لغلظ معصيتهم وصعوبة توبتهم، أو المعنى أنهم ما يوفقون لهذا الخير لما ابتلوا به من الشر الكثير، فالاستثناء على الأول متصل، وعلى الثاني منفصل. قاله القاري. (رواه أحمد) (ج4:ص22) من طريق علي بن زيد وهو ابن جدعان عن الحسن. (البصري) قال مر عثمان بن أبي العاص على كلاب بن أمية، وهو جالس على مجلس العاشر بالبصرة، فقال: ما يجلسك ههنا؟ قال: استعملني هذا على هذا، يعني زيادا، فقال عثمان: ألا أحدثك حديثا سمعته من رسول الله ?؟ قال: بلى ، فقال عثمان: سمعت رسول الله ? يقول: كان لداود نبي الله-الحديث. وفي آخره: فركب كلاب بن أمية سفينته فأتى زيادا فاستضعفاه فأعفاه-انتهى. والحسن البصري كان يرسل كثيرا ويدلس، ولم يصرح ههنا بسماعه عن عثمان بن أبي العاص، بل المفهوم من كلام الحافظ أنه لم يسمع منه شيئا حيث قال في تهذيب التهذيب (ج2:ص223، 224): روى الحسن عن أبي بن كعب وسعد بن عبادة وعمر بن الخطاب ولم يدركهم، وعن ثوبان وعمار بن ياسر وأبي هريرة وعثمان بن أبي العاص ومعقل بن سنان ولم يسمع منهم-انتهى.

(5/439)


1243- قوله: (أفضل الصلاة بعد المفروضة صلاة في جوف الليل) أي سدسه الرابع والخامس. وهذه الأفضلية باعتبار الزمان، فالصلاة في البيت أفضل باعتبار المكان. وفي الحديث دليل لما اتفق عليه العلماء أن النفل المطلق في الليل أفضل منه في النهار، وذلك؛ لأن الخشوع فيه أوفر، وفيه حجة لأبي إسحاق المروزي ومن وافقه من الشافعية: أن صلاة الليل أفضل من السنن الرواتب. وقال أكثر العلماء: الرواتب أفضل؛ لأنها تشبه الفرائض. قال النووي: والأول أقوى وأوفق لنص هذا الحديث. قال الطيبي: ولعمري أن صلاة التهجد لو لم يكن فيها فضل سوى قوله تعالى: ?ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا? [17: 79] وقوله تعالى: ?تتجافى جنوبهم عن المضاجع? إلى قوله تعالى: ?فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين? [32: 16- 17] وغيرهما من الآيات لكفاه مزية-انتهى. قال ميرك: وقد يجاب عن هذا الحديث بأن معناه من أفضل الصلاة وهو خلاف سياق الحديث-انتهى. وقيل: يحمل الحديث على أن المراد بقوله "بعد المفروضة" أي بعد الفرائض وما يتبعها من السنن، وقد يقال التهجد أفضل من حيث زيادة مشقته على النفس، وبعده عن الرياء
رواه أحمد.
1244-(19) وعنه، قال: ((جاء رجل إلى النبي ? فقال: إن فلانا يصلي بالليل، فإذا أصبح سرق، فقال: إنه سينهاه ما تقول)). رواه أحمد، والبيهقي في شعب الإيمان.
1245، 1246-(20، 21) وعن أبي سعيد، وأبي هريرة، قالا: قال رسول الله ?: ((إذا أيقظ الرجل أهله من الليل،
والرواتب أفضل من حيث الآكدية في المتابعة للمفروضة فلا منافاة. (رواه أحمد) أصل هذا الحديث عند مسلم. والترمذي وأبي داود والنسائي وابن خزيمة في صحيحه بألفاظ متقاربة، وسيأتي في الفصل الأول من باب صيام التطوع.

(5/440)


1244- قوله: (جاء رجل) لم أقف على تسميته. (فقال: إن فلانا) أي رجلا معينا، ولم يدر من هو. (فإذا أصبح) أي قارب الصبح. (سرق) أو المراد سرق بالنهار. ولو بالتطفيف ونحوه، وهو بفتح الراء من باب ضرب. (فقال إنه) أي الشأن. (سينهاه) من النهي. (ما تقول) قال الطيبي: هو فافعل سينهاه يعني أن قولك يدل على أنه محافظ على الصلوات، فإن من لا يدع الصلاة بالليل لا يدعها بالنهار، فمثل تلك الصلاة سينهي عن الفحشاء والمنكر فيتوب عن السرقة. ومعنى السين التأكيد في الإثبات أي بالنسبة إلى عدمها، كما أن لن للتأكيد في النفي أي بالنسبة إلى لا. وقال ابن حجر: فمثل هذه الصلاة لا محالة تنهاه فيتوب عن السرقة قريبا، فالسين على أصلها من التنفيس، إذ لا بد مزاولة الصلاة زمنا حتى يجد منها حالة في قلبه تمنعه من الإثم- انتهى. وفي بعض النسخ: ستنهاه أي بالمثناة الفوقية، فالفاعل إما ضمير فيه عائد إلى الصلاة أي هي تنهاه عما تقول، أو ما في قوله ما تقول؛ لأنها عبارة عن الصلاة. ووقع في بعض النسخ "ما يقول" أي بالغيبة أي الرجل الأول، والصحيح ما تقول بالخطاب، قاله القاري: وفي الحديث إيماء إلى قوله تعالى: ?إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر? [29: 45] أي أن مواظبتها تحمل على ترك ذلك. (رواه أحمد الخ) وأخرجه أيضا البزار. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص258) بعد عزوه لأحمد والبزار: ورجاله رجال الصحيح. وأخرج البزار أيضا مثله عن جابر. قال الهيثمي: ورجاله ثقات- انتهى. قلت: قد وقع الاختلاف في سند هذا الحديث فرواه غير واحد، ومنهم وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، ورواه قيس عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر. وقال جرير بن عبدالحميد، وزياد بن عبدالله عن الأعمش عن أبي صالح عن جابر، نقله ابن كثير في تفسيره (ج7 ص296) عن البزار.
1245، 1246- قوله: (إذا أيقظ الرجل أهله) أي امرأته. وقيل: نساءه وأولاده وأقاربه. (من الليل)

(5/441)


فصليا أو صلى ركعتين جميعا، كتبا في الذاكرين والذاكرات)). رواه أبوداود، وابن ماجه.
1247-(22) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله ? : ((أشراف أمتي حملة القرآن، وأصحاب
الليل)) .
أي في بعض أجزاء الليل. (فصليا) أي الرجل والمرأة، أو الرجل وأهله. (أو صلى) أي كل واحد منهما. وأو للشك من الراوي بين الإفراد والتثنية. (ركعتين جميعا) تأكيد لضمير صليا "أو صلى" لما تقرر أن المراد كل واحد منهما. وفي رواية لأبي داود: من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين جميعا. (من غير شك). ولفظ ابن ماجه: إذا استيقظ الرجل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين. قال السندي: قوله إذا استيقظ الرجل أي مثلا، وكذا العكس فلا مفهوم لاسم الرجل، كما يدل عليه حديث أبي هريرة (السابق في الفصل الثاني) والمقصود إذا استيقظ أحدهما وأيقظ الآخر، والله أعلم، بل الظاهر أنه لا مفهوم للشرط أيضا. والمقصود أنهما إذا صليا من الليل ولو ركعتين كتبا الخ. وإنما خرج هذا الشرط مخرج العادة. وفيه تنبيه على أن شأن الرجل أن يستيقظ أولا ويأمر امرأته بالخير. وفيه أنه يجوز الإيقاظ للنوافل، كما يجوز للفرائض، ولا يخفى تقييده بما إذا علم من حال النائم أنه يفرح بذلك أو لم يثقل عليه ذلك. (كتبا) أي الصنفان من الرجال والنساء. (في الذاكرين والذاكرات) أي كتب الرجل في الذاكرين الله كثيرا والمرأة في الذاكرات كذلك، أي ومن كتب كذلك فله أجر عظيم، كما في قوله تعالى: ?والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما? [33: 35] ففي الحديث إشارة إلى تفسير القرآن. (رواه أبوداود وابن ماجه) وأخرجه أيضا النسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم وألفاظهم متقاربة. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، كذا في الترغيب. وأخرجه أيضا البيهقي (ج2 ص501) وقال النووي في رياض الصالحين رواه أبوداود بإسناد صحيح. والحديث ذكر أبوداود والبيهقي. الاختلاف في رفعه ووقفه. وقال المنذري

(5/442)


في مختصر السنن: رواه النسائي، وابن ماجه مسندا أي مرفوعا، وهذا يشير إلى أنه لم ير هذا الاختلاف شيئا، وهذا؛ لأن الرفع زيادة الثقة فتقبل.
1247- قوله: (أشراف أمتي) جمع شريف. (حملة القرآن) جمع حامل أي حفظته، المداومون على تلاوته، العاملون بأحكامه فإنهم الحملة الحقيقة. (وأصحاب الليل) أي الملازمون لإحياء الليل بصلاة أو ذكر أو نحو ذلك. وإنما قلنا الملازمون؛ لأن صاحب الشيء، وابن الشيء الملازم له، كقولهم ابن السبيل أي الملازم له. قال الطيبي: المراد بقوله حملة القرآن من حفظه وعمل بمقتضاه وإلا كان في زمرة من قيل في حقهم: ?كمثل الحمار يحمل أسفارا?، وإضافة الأصحاب إلى الليل تنبيه على كثرة الصلاة فيه، كما يقال: ابن السبيل لمن يواظب على السلوك فيه- انتهى أي وكما يقال: ابن الوقت لمن يحافظ أوقاته ويراعي ساعاته ليرتب طاعاته. والحديث من أدلة فضل أهل صلاة
رواه البيهقي في شعب الإيمان.
1248-(23) وعن ابن عمر، أن أباه عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ((كان يصلي من الليل ما
شاء الله، حتى إذا كان من آخر الليل أيقظ أهله للصلاة، يقول لهم: الصلاة، ثم يتلو هذه
الآية: ?وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك
الليل وفضل أهل القرآن. (رواه البيهقي) وأخرجه أيضا ابن أبي الدنيا. والطبراني في الكبير. والحديث سنده ضعيف؛ لأن المنذري صدره في الترغيب بلفظة: روي وأهمل الكلام في آخره. وهذه علامة الإسناد الضعيف، كما صرح بذلك في بدء الكتاب.

(5/443)


1248- قوله: (وعن ابن عمر أن أباه عمر بن الخطاب) كذا في جميع النسخ للمشكاة، وكذا وقع في جامع الأصول (ج7 ص45). والظاهر أنه وهم من الجزري، وتبعه المصنف في ذلك، فإن الحديث في جميع نسخ الموطأ من رواية زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب، وكذا حكاه السيوطي في الدر المنثور عن موطأ مالك. وهكذا أخرجه محمد في موطئه عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه، وكذا ذكر السيوطي في الدر المنثور عن البيهقي، وكذا روى ابن أبي حاتم بسنده عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب. (كان يصلي من الليل) وفي موطأ محمد: كان يصلي كل ليلة. (ما شاء الله) أي من عدد الركعات، أو من استيفاء الأوقات. وفي الموطأ محمد: ما شاء الله أن يصلي. (حتى إذا كان من آخر الليل) عند السحر. (أيقظ أهله للصلاة) أي لإدراك شيء من صلاة التهجد. وقيل: يحتمل أن يكون إيقاظه لصلاة الفجر، والأول أظهر بل هو المتعين يعني أنه لم يكلف أهله منه ما كان هو يفعله بل يوقظهم في آخر الوقت ليصلوا تخفيفا لهم. (يقول لهم) أي عند الاستيقاظ. (الصلاة) كذا وقعت في جميع النسخ مرة. وفي الموطأ وقعت مكررة، وهي منصوبة بتقدير أقيموا أو صلوا. ويجوز الرفع بمعنى حضرت الصلاة، قاله القاري. (ثم يتلو هذه الآية) التي في آخر سورة طه. (وأمر أهلك بالصلاة) وهي بعمومها تشمل صلاة الليل، والمعنى استنقذهم من عذاب الله بأمر إقامة الصلاة. (واصطبر عليها) أي اصبر أنت على محافظتها، كما قال تعالى: ?قوا أنفسكم وأهليكم نارا? [66: 6] وقيل: المعنى اصبر عليها فعلا فإن الوعظ بلسان الفعل أبلغ منه بلسان القول. وقال القاري: أي بالغ في الصبر على تحمل مشقاتها ومشاق أمر أهلك بها، فاقبل أنت معهم على عبادة الله تعالى ولا تهتم بأمر الرزق، وفرغ قلبك لأمر الآخرة؛ لأنا لعظمتنا وقدرتنا على رزق العباد. (لا نسألك) أي لا نكلفك. (رزقا) أي تحصيل رزق لنفسك ولا لغيرك بل نسألك العبادة. (نحن نرزقك) كما نرزق غيرك.

(5/444)


قال ابن كثير: يعني إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب، كما
والعاقبة للتقوى? . رواه مالك.
(34) باب القصد في العمل
قال تعالى: ?ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب? [65: 2، 3] وقال تعالى: ?وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق? [51: 56، 57] الآية. وقد أخرج أحمد والبيهقي وغيرهما عن ثابت قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابت أهله خصاصة نادى أهله: يا أهلاه صلوا صلوا. قال ثابت وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة. (والعاقبة) أي المحمودة أو حسن العاقبة في الدنيا والآخرة وهي الجنة. (للتقوى) أي لأهل التقوى على حذف المضاف، روى ابن النجار وابن عساكر وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآية كان النبي ? يجيء إلى باب على صلاة الغداة ثمانية أشهر يقول: الصلاة رحمكم الله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا. قال الباجي: يحتمل أن عمر رضي الله عنه يوقظهم امتثالا لأمر الباري تعالى، فيتلو هذه الآية عند امتثالها ليتأكد قصده لذلك. ويحتمل أن يقرأ ذلك على سبيل الاعتذار من إيقاظهم- انتهى. (رواه مالك) في موطئه عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب الخ، لا عن ابن عمر عن عمر، كما وقع في المشكاة وجامع الأصول.

(5/445)


(باب القصد) بفتح القاف وسكون الصاد المهملة، هو سلوك الطريق المعتدلة والتوسط بين الإفراط والتفريط: والمراد باب استحباب ذلك، وأصل القصد الاستقامة في الطريق، كقوله تعالى: ?وعلى الله قصد السبيل? [16: 9] ?ومنها جائر? أي على الله بيان الطريق المستقيم، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف. والمعنى على الله بيان السبيل القصد وهو الإسلام، والقصد مصدر يوصف به فهو بمعنى قاصد، يقال سبيل قصد وقاصد أي مستقيم كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه، ثم استعير للتوسط في الأمور. ومنه قوله ?: القصد القصد. رواه البخاري في حديث طويل، والمعنى ألزموا الطريق الوسط المعتدل. ومنه قوله في حديث جابر عند ابن ماجه: أيها الناس عليكم القصد عليكم القصد، أي من الأمور في القول والفعل والتوسط بين طريق الإفراط والتفريط. ومنه قوله في حديث جابر عند مسلم: كانت خطبته قصدا، أي لا طويلة ولا قصيرة. ومنه قوله: عليكم هديا قاصدا الخ. أخرجه أحمد والحاكم من حديث بريدة، والمعنى طريقا معتدلا. ومنه قوله: ما عال من اقتصد. أخرجه أحمد عن ابن مسعود أي ما افتقر من لا يسرف في الإنفاق ولا يقتر. (في العمل) أي الصالح. وقال القاري: أي عمل النوافل.
?الفصل الأول?
1249-(1) عن أنس، قال: ((كان رسول الله ? يفطر من الشهر حتى يظن أن لا يصوم منه شيئا،
ويصوم حتى يظن أن لا يفطر منه شيئا، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليا إلا رأيته،
ولا نائما إلا رأيته)). رواه البخاري.
1250-(2) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله ? : ((أحب الأعمال إلى الله أدومها

(5/446)


1249- قوله: (يفطر من الشهر) أي أياما كثيرة. وقيل: أي يكثر الفطر في الشهر. (حتى نظن) بنون الجمع التي للمتكلم وبالياء التحتانية على البناء للمجهول، ويجوز بالمثناة الفوقية التي للمخاطب مبنيا للفاعل، قال الحافظ: ويؤيده قوله بعد ذلك: إلا رأيته، فإنه روى بالضم والفتح معا. (أن لا يصوم) بفتح الهمزة، ويجوز في يصوم النصب على كون أن مصدرية، والرفع على كونها مخففة من الثقيلة، فيوافق ما في رواية أنه. (منه) أي من الشهر. (شيئا) يعني يكثر الفطر في الشهر حتى نظن أنه لا يريد أن يصوم منه شيئا ثم يصوم باقية. (ويصوم) أي ويكثر الصوم في الشهر. (حتى نظن) بالوجوه الثلاثة. (أن لا يفطر) بالإعرابين. (منه) أي من الشهر. (شيئا) أي ثم يفطر باقية. (وكان) أي رسول الله ?. وفي الشمائل: كنت. (لا تشاء) قال المظهر: لا بمعنى ليس، أو بمعنى لم، أي لست تشاء، أو لم تكن تشاء، أو لا زمان تشاء، أو لا من زمان تشاء. (أن تراه) أي رؤيته فيه. (من الليل مصليا إلا رأيته) أي مصليا (ولا) تشاء أن تراه من الليل. (نائما إلا رأيته) أي نائما. قال الطيبي: هذا التركيب من باب الاستثناء على البدل، وتقديره على الإثبات أن يقال: إن تشاء رؤيته متهجدا رأيته متهجدا، وإن تشاء رؤيته نائما رأيته نائما، أي كان أمره قصدا لا إسراف فيه ولا تقصير، ينام في وقت النوم وهو أول الليل، ويتهجد في وقته وهو آخره. وعلى هذا حكاية الصوم ويشهد له حديث ثلاثة رهط على ما روى أنس قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا. وقال الآخر: أصوم النهار أبدا ولا أفطر، فقال رسول الله ?: أما أنا فأصلي وأنام وأصوم وافطر، فمن رغب عن سنتي فليس مني- انتهى. وفي رواية للبخاري: قال حميد: سألت أنسا عن صيام النبي ? فقال: ما كنت أحب أن أراه من الشهر صائما إلا رأيته ولا مفطرا إلا رأيته ولا من الليل قائما إلا رأيته ولا نائما إلا رأيته– الحديث. يعني أنه كان يصوم ويفطر ولا

(5/447)


يصوم الشهر كله، وكذا كان يصلي وينام ولا يصلي الليل كله، فكان عمله التوسط بين الإفراط والتفريط، وهذا هو المراد من القصد في العمل. (رواه البخاري) في قيام الليل، وفي الصوم. وأخرجه أيضا أحمد والنسائي والترمذي في الشمائل والبيهقي (ج3 ص17).
1250- قوله: (أحب الأعمال إلى الله أدومها) خرج هذا جواب سؤال، ففي رواية للشيخين قالت،
وإن قل)). متفق عليه.
1251- (3) وعنها، قالت: قال رسول الله ?: ((خذوا من الأعمال

(5/448)


أي عائشة: سئل النبي ? أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومه. قال ابن العربي: معنى المحبة من الله تعلق الإرادة بالثواب أي أكثر الأعمال ثوابا أدومها. (وإن قل) أي ولو قل العمل، والحاصل أن العمل القليل مع المداومة والمواظبة خير من العمل الكثير مع ترك المراعاة والمحافظة؛ لأن العمل القليل يصل إلى الأكثر من الكثير الذي يفعل مرة أو مرتين ثم يترك ويترك العزم على العمل الصالح مما يثاب عليه، وأيضا أن العمل الذي يداوم عليه هو المشروع، وأن ما توغل فيه بعنف ثم قطع فإنه غير مشروع، قاله الباجي. قال النووي: في الحديث الحث على المداومة على العمل، وإن قليلة الدائم خير من كثير ينقطع، وإنما كان كذلك؛ لأن بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والنية والإخلاص والإقبال على الخالق سبحانه وتعالى، بخلاف الكثير المنقطع، ويثمر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافا كثيرة. وقال ابن الجوزي: إنما أحب الدائم لمعنيين: أحدهما: أن التارك للعمل بعد الدخول فيه كالمعرض بعد الوصل، وهو متعرض للذم، ولذا ورد الوعيد في حق من حفظ آية ثم نسيها وإن كان قبل حفظها لا يتعين عليه. والثاني: أن مداوم الخير ملازم للخدمة، وليس من لازم الباب في كل يوم وقتا ما كمن لازم يوما كاملا ثم انقطع- انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في باب القصد والمداومة على العمل من كتاب الرقاق. ومسلم في الصلاة. وأخرجه أيضا مالك والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص485) بألفاظ متقاربة. قال في الأزهار: هذا الحديث من إفراد مسلم. قال الأبهري: لعل المصنف جعله متفقا عليه، لما روى البخاري عن مسروق قال: سألت عائشة أي الأعمال أحب إلى النبي ?؟: قالت: الدائم- انتهى. فتكون رواية البخاري نحو رواية مسلم في المعنى، ويكون الحديث متفق عليه بتفاوت يسير في اللفظ، والمصنف قد لا يلتفت إليه. قلت الحديث بهذا السياق موجود في البخاري، فقد روي من طريق أبي سلمة عن

(5/449)


عائشة أن رسول الله ? قال: سددوا وقاربوا- الحديث، وفيه: أن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قل. وفي رواية: قالت: سئل النبي ? أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومه وإن قل. وقال أكلفوا من الأعمال ما تطيقون.
1251- قوله: (خذوا من الأعمال) أي من أعمال البر صلاة وغيرها، وحمله الباجي وغيره على الصلاة خاصة؛ لأن الحديث ورد فيها. لما روى مسلم عن عائشة أن الحولاء بنت تويت مرت بها وعندها رسول الله ?، فقلت: هذه الحولاء بنت تويت زعموا أنها لا تنام الليل. وفي رواية: لا تنام تصلي، فقال رسول الله ?: لا تنام الليل خذوا من العمل الخ. وحمله على جميع العبادات أولى؛ لأن العبرة لعموم اللفظ. وقال عياض: يحتمل أن يكون هذا خاصا بصلاة الليل، ويحتمل أن
ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا))

(5/450)


يكون عاما في الأعمال الشرعية. قال الحافظ: سبب وروده خاص بالصلاة، ولكن اللفظ عام، وهو المعتبر وعدل عن خطاب النساء إلى الرجال تعميما للحكم، فغلب الذكور على الإناث في الذكر. (ما تطيقون) أي الذي تطيقون المداومة عليه، وحذف العائد للعلم به. قال الحافظ: أي اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه، فمنطوقة يقتضي الأمر بالاقتصار على ما يطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلف ما لا يطاق. (فإن الله لا يمل حتى تملوا) بفتح الميم فيها. قال البيضاوي: الملال فتور يعرض للنفس من كثرة مزاولة شيء، فيوجب الكلال في الفعل والإعراض عنه، وأمثال ذلك على الحقيقة إنما تصدق في حق من يعتريه التغير والإنكسار، فأما من تنزه عن ذلك فيستحيل تصور هذا المعنى في حقه، فإذا أسند إليه أول بما هو منتهاه وغايته كإسناد الحياء وغيره إلى الله تعالى، فالمعنى والله أعلم، اعملوا حسب وسعكم وطاقتكم فإن الله لا يعرض عنكم إعراض الملول عن الشيء، ولا ينقص ثواب أعمالكم ما بقي لكم نشاط، فإذا فترتم فاقعدوا فإنكم إذا مللتم عن العبادة وأتيتم بها على وجه كلال وفتور، كان معاملة الله معكم حينئذ معاملة ملول عنكم. وقال التوربشتي: إسناد الملال إلى الله تعالى على طريقة المشاكلة والإزدواج، وهو أن تكون إحدى اللفظتين موافقة للأخرى وإن خالفتها معنى، والعرب تفعل ذلك إذا جعلو ما جوابا وجزاء لها، وإن كانت مخالفة في المعنى، فمعنى الحديث لا يقطع ثواب عملكم حتى تتركوا العمل ملالا وسأمة من كثرته وثقله فعبر عن ترك الإثابة وقطع الجزاء بالملال؛ لأنه بحذائه وجواب له فهو لفظ خرج على مثال لفظ كقول الله تعالى: ?وجزاء سيئة سيئة مثلها? [42: 40] ومنه قول عمرو بن أبي كلثوم التغلبي: ألا لا يجهلن أحد علينا- فنجهل فوق جهل الجاهلينا. ومن المستبعد أن يفتخر ذو عقل بجهل، وإنما فنجازية لجهله ونعاقبه على سوء صنيعة. والحاصل أنه أطلق لفظ الملال على الله

(5/451)


على جهة المقابلة اللفظية مجازا. قال القرطبي: وجه مجازه أنه تعالى لما كان يقطع ثوابه عمن يقطع العمل ملالا عبر عن ذلك بالملال من باب تسمية الشيء باسم سببة. وقال الهروي: معناه لا يقطع عنكم فضله حتى تملوا سؤاله، فتزهدوا في الرغبة إليه. وقيل: معناه لا يتناهى حقه عليكم في الطاعة حتى يتناهى جهدكم، وهذا كله بناء على أن حتى على بابها في انتهاء الغاية وما يترتب عليها من المفهوم. وجنح بعضهم إلى تأويلها، فقيل: معناه لا يمل الله إذا مللتم أو لا يمل أبدا وإن مللتم، وهو مستعمل في كلام العرب، ومنه قولهم في البليغ لا ينقطع حتى تنقطع خصومه، أي لا ينقطع بعد انقطاع خصومه، بل يكون على ما كان عليه قبل ذلك، فإنه لو انقطع حين ينقطعون لم يكن له عليهم مزية. وقيل: إن "حتى" بمعنى الواو فيكون التقدير لا يمل وأنتم تملون، فنفي عنه الملل وأثبته لهم. وقيل: حتى بمعنى حين لا يمل حين تملون. قال الحافظ: كونه على طريق المشاكلة والإزدواج أولى وأجرى على القواعد، وأنه من باب المقابلة اللفظية، ويؤيده ما وقع في بعض طرق حديث عائشة: فإن الله لا يمل من
متفق عليه.
1252-(4) وعن أنس، قال: قال رسول الله ?: ((ليصل أحدكم نشاطه، وإذا فتر فليقعد)).
متفق عليه.
1253-(5) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله ?: ((إذا نعس أحدكم
الثواب حتى تملوا من العمل، لكن في سنده موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف. وأخذ بظاهر الحديث جماعة من الأئمة فقالوا: يكره قيام جميع الليل، وبه قال مالك مرة ثم رجع عنه، وقال: لا بأس به ما لم يضر بالصلاة الصبح، فإن كان يأتي وهو ناعس فلا يفعل، وإن كان إنما يدركه كسل وفتور فلا بأس به. وكذا قال الشافعي: لا أكرهه إلا لمن خشي أن يضر بصلاة الصبح، قاله الزرقاني. (متفق عليه) واللفظ لمسلم. وآخره أيضا مالك وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص17).

(5/452)


1252- قوله: (ليصل) بكسر اللام. (نشاطه) بفتح النون أي قدر نشاطه أو مدة نشاطه وزمان انبساطه، فنصبه على الظرفية، أو صلاته التي ينشط لها. (فإذا فتر) بفتح التاء المثناة فوق، أي ضعف وكسل في أثناء القيام. (فليقعد) أي ويتم صلاته قاعدا، أو إذا فتر بعد فراغ بعض التسليمات فليقعد لإيقاع ما بقي من نوافله قاعدا، أو إذا فتر بعد انقضاء البعض فليترك بقية النوافل جملة إلى أن يحدث له نشاط، أو إذا فتر بعد الدخول فيها فليقطعها، خلافا للمالكية حيث منعوا من قطع النافلة بعد التلبس بها، ذكره القسطلاني. والحديث طرف من حديث طويل. أخرجه الشيخان وغيرهما، ذكر في أوله سبب هذا القول وهو أنه قال أنس: دخل النبي ? المسجد، فإذا حبل ممدود بين ساريتين أي من سواري المسجد فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا هذا حبل لزينب أي ابنة جحش أم المؤمنين، فإذا فترت تعلقت، فقال النبي ?: لأحلوه أحدكم الخ. قال الحافظ: والحديث فيه الحث على الاقتصاد في العبادة والنهي عن التعمق فيها والأمر بالإقبال عليها بنشاط، وفيه إزالة المنكر باليد واللسان، وجواز تنفل النساء في المسجد، واستدل به على كراهة التعلق في الحبل في الصلاة- انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص18).
1253- قوله: (إذا نعس) بفتح العين من بابي فتح ونصر. (أحدكم) أي أخذته فترة في حواسه، فقارب النوم والنعاس بضم العين فترة في الحواس أو مقاربة النوم أو الوسن، وأول النوم وهي ريح لطيفة تأتي من قبل الدماغ تغطي العين ولا تصل إلى القلب، فإذا وصلته كان نوما، وفي العين والمحكم النعاس النوم. وقيل: مقاربته. قال الحافظ: المشهور التفرقة بينهم،ا وإن من قرت حواسه بحيث يسمع كلام جليسه ولا يفهم معناه، فهو ناعس، وإن زاد على
وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله
يستغفر فيسب نفسه)).

(5/453)


ذلك فهو نائم. ومن علامات النوم الرؤيا طالت أو قصرت. (وهو يصلي) جملة اسمية في موضع الحال. وفي رواية أبي داود: وهو في الصلاة. قيل المراد في صلاة الليل؛ لأنها محل النوم غالبا، وهذا عند مالك وجماعة. وقال النووي: الجمهور على عمومها الفرض والنفل ليلا أو نهارا لكن لا يخرج فريضة عن وقتها. (فليرقد) بضم القاف من باب نصر أي فلينم احتياطا؛ لأنه علل بأمر محتمل، كما سيأتي، والأمر للندب، قاله الزرقاني. وفي حديث أنس عند البخاري: فلينم. وعند محمد بن نصر في قيام الليل: فلينصرف فليرقد. وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود وغيره: إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه، فلم يدر ما يقول فليضطجع. وفي رواية عائشة عند النسائي: فلينصرف أي بعد أن يتم صلاته مع تخفيف، لا أنه يقطع الصلاة بمجرد النعاس، خلافا للمهلب حيث حمله على ظاهره، فقال إنما أمر بقطع الصلاة لغلبة النوم، فدل على أنه إذا كان نعاس أقل من ذلك عفي عنه- انتهى. وقد تقدم أن هذا الحديث حمله مالك وطائفة على نفل الليل خلافا للجمهور. قال المهلب: إنما هذا في صلاة الليل؛ لأن الفريضة ليست في أوقات النوم، ولا فيها من التطويل ما يوجب ذلك- انتهى. قال الحافظ: قد قدمنا أن الحديث جاء على سبب، لكن العبرة بعموم اللفظ، فيعمل به أيضا في الفرائض ما أمن بقاء الوقت- انتهى. قلت: أشار الحافظ بقوله قدمنا أنه جاء على سبب إلى ما روى محمد بن نصر في قيام الليل (ص77) عن عائشة قالت: مرت برسول الله ? الحولاء بنت تويت فقيل له: يا رسول الله إنها تصلي بالليل صلاة كثيرة، فإذا غلبها النوم ارتبطت بحبل فتعلقت به، فقال رسول الله ?: بل تصلي ما قويت على الصلاة فإذا نعست فلتنم. (حتى يذهب عنه النوم) أي ثقله فالنعاس سبب للأمر بالنوم. (فإن أحدكم) علة للرقاد وترك الصلاة. (إذا صلى وهو ناعس) جملة حالية يريد أنه إذا صلى في حال غلبة النوم. (لا يدري) أي ما يفعل فحذف المفعول للعلم

(5/454)


به واستأنف بيانا قوله (لعله يستغفر) بالرفع يريد أن يدعو ويستغفر لنفسه. (فيسب نفسه) أي يدعو عليها، وقد صرح به النسائي في روايته: والمعنى يريد ويقصد أن يستغفر له فيسب نفسه، أي يدعو عليها من حيث لا يدري، مثلا يريد أن يقول اللهم اغفر لي فيقول اللهم اعفر لي، والعفر هو التراب فيكون دعاء عليه بالذل والهوان، وهو تمثيل وإلا فلا يشترط التصحيف. وقوله: فيسب بالنصب جوابا للعل، والرفع عطفا على يستغفر، وجعل ابن أبي جمرة علة النهي خشية أن يوافق ساعة للإجابة. قال القسطلاني: والترجي في لعل عائد إلى المصلي لا إلى المتكلم به، أي لا يدري أمستغفر أم ساب مترجيا للاستغفار، وهو في الواقع بضد ذلك، وغاير بين لفظي النعاس في الأول نعس بلفظ الماضي، وهنا بلفظ اسم الفاعل تنبيها على أنه لا يكفي تجدد أدنى نعاس وتقضيه في الحال، بل لا بد من ثبوته
متفق عليه.
1254-(6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ?: ((إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد

(5/455)


بحيث يفضي إلى عدم درايته بما يقول وعدم علمه بما يقرأ- انتهى. وقال الطيبي: الفاء في "فيسب" للسببية كاللام في قوله تعالى: ?فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا? [28: 8]. قال المالكي: يجوز في "فيسب" الرفع باعتبار عطف الفعل على الفعل، والنصب باعتبار جعل فيسب جوابا للعل، فإنها مثل ليت في اقتضائها جوابا منصوبا، ونظيره قوله تعالى: ?لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى? [80: 4] نصبه عاصم ورفعه الباقون- انتهى كلامه. قال الطيبي: النصب أولى لما مر، ولأن المعنى لعله يطلب من الله لذنبه الغفران ليصير مزكي فيتكلم بما يجلب الذنب فيزيد العصيان، فكأنه سب نفسه- انتهى. والحديث يدل على أن النعاس لا ينقض الوضوء، إذ لو كان ناقضا الوضوء لما منع الشارع عن الصلاة بخشية أن يدعو على نفسه، بل وجب أن يذكر الشارع أنه لا تصح صلاته مع النعاس، أو نحوه؛ لانتقاض وضوءه، وفيه الحث على الإقبال على الصلاة بخشوع وفراغ قلب ونشاط، وفيه أمر الناعس بالنوم أو نحوه مما يذهب عنه النعاس، وفيه اجتناب المكروهات في الطاعات، وجواز الدعاء في الصلاة من غير تقييد بشيء معين. (متفق عليه) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص16).

(5/456)


1254- قوله: (إن الدين) وفي رواية النسائي: إن هذا الدين أي دين الإسلام. (يسر) بضم الياء التحتية وسكون السين أي مبني على اليسر والسهولة، فلا تشددوا على أنفسكم على دأب الرهبانية، وقيل: يسر مصدر وضع موضع المفعول مبالغة، ذكره الطيبي. وقال القسطلاني: أي ذو يسر، وذلك لأن الإلتئام بين الموضوع والمحمول شرط، وفي مثل هذا لا يكون إلا بالتأويل، أو هو اليسر نفسه، كقول بعضهم في النبي ? إنه عين الرحمة مستدلا بقوله تعالى: ?وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين? [21: 107] كأنه لكثرة الرحمة المودعة فيه صار نفسها، والتأكيد بأن فيه رد على منكر يسر هذا الدين، فإما أن يكون المخاطب به منكرا أو على تقدير تنزيله منزلته أو على تقدير المنكرين غير المخاطبين، أو لكون القصة مما يهتم بها. قال تعالى: ?ما جعل عليكم في الدين من حرج? [22: 78]. وقال: ?يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر? [2: 185]. وسماه يسرا بالنسبة إلى ذاته أو بالنسبة إلى سائر الأديان؛ لأن الله تعالى رفع عن هذه الأمة الإصر الذي كان على من قبلهم. ومن أوضح الأمثلة له أن توبتهم كانت بقتل أنفسهم وتوبة هذه الأمة بالإقلاع والعزم والندم. (ولن يشاد الدين أحد) بضم الياء وتشديد الدال للمغالبة من الشدة، وهو منصوب بلن. والدين منصوب على المفعولية، وأصله لا يقاوم
إلا غلبة، فسددوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)).

(5/457)


الدين ولا يقابله أحد بالشدة ولا يجزى بين الدين وبينه معاملة بأن يشدد كل منهما على صاحبه (إلا غلبة) الدين ويعجزه عن العمل، والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز. وانقطع عن عمله كله أو بعضه فيغلب. والمقصود أنه لا يفرط أحد فيه ولا يخرج عن حد الاعتدال. قال ابن المنير: في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع أي منفرد ومتعمق في الدين ينقطع، وليس المراد منه منع طلب الأكمل في العبادة، فإنه من الأمور المحمودة بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته، كمن بات يصلي طول الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشمس، فخرج وقت الفريضة. وفي حديث محجن بن الأدرع عند أحمد: لن تنالوا هذا الأمر بالمبالغة وخير دينكم اليسرة. وقد يستفاد من هذا الإشارة إلى الأخذ بالرخصة الشرعية، فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة تنطع، كمن يترك التيم عند العجز عن استعمال الماء فيفضي به استعماله إلى حصول الضرر. (فسددوا) بالمهملة من السداد، وهو القصد والتوسط في العمل، أي ألزموا السداد أي الصواب من غير إفراط ولا تفريط. (وقاربوا) في العبادة وهو بالموحدة أي إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه. قال الطيبي: الفاء جواب شرط محذوف يعني إذا بينت لكم ما في المشادة من الوهن فسددوا أي أطلبوا السداد، وهو القصد المستقيم الذي لا ميل فيه وقاربوا تأكيد للتسديد من حيث المعنى. يقال: قارب فلان في أموره إذا اقتصد. (وأبشروا) بقطع الهمزة من الإبشار. وفي لغة: بضم الشين من البشرى بمعنى الإبشار أي أبشروا بالثواب الجزيل على العمل الدائم وإن قل. والمراد تبشير من عجز عن العمل بالأكمل بأن العجز إذا لم يكن من صنيعة لا يستلزم نقص

(5/458)


أجره، وأبهم المبشر به تعظيما له وتفخيما. (واستعينوا) على المداومة العبادة من بين الأوقات. (بالغدوة) بفتح أوله وضمه وسكون الثانية سير أول النهار إلى الزوال، أو ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس. وقال الطيبي: الغدوة بالضم ما بين صلاة الغدوة إلى طلوع الشمس، وبالفتح المرة من الغدو وهو سير أول النهار، نقيض الرواح. (والروحة) بالفتح اسم للوقت من زوال الشمس إلى الليل. وقيل: السير بعد الزوال. (وشيء) أي واستعينوا بشيء ولو قليل، وفي تنكير شيء الدال على القلة إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يترك القيام بالليل ولو يسيرا، فإن الإكثار فيه يتعب الجسد ويضر بالمزاج. (من الدلجة) بضم أوله وفتحه وإسكان اللام، سير آخر الليل. وقيل: سير الليل كله، ولهذا عبر فيه بالتبعيض، ولأن عمل الليل أشق من عمل النهار. وهذه الأوقات الثلاثة أطيب أوقات المسافر. والمعنى استيعنوا على مدوامة العبادة بإيقاعها في الأوقات المنشطة، وفيه تشبه للسفر إلى الله تعالى بالسفر الحسي،
رواه البخاري.
1255-(7) وعن عمر، قال: قال رسول الله ?: ((من نام عن حزبه أو عن شيء منه، فقرأه فيما
بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل)).

(5/459)


ومعلوم أن المسافر إذا استمر على السير انقطع وعجز وإذا أخذ الأوقات المنشطة نال المقصد بالمداومة. قال القسطلاني: في هذا استعارة الغدوة والروحة وشيء من الدلجة لأوقات النشاط وفراغ القلب للطاعة، فإن هذه الأوقات أطيب أوقات المسافر، فكأنه ? خاطب مسافرا إلى مقصده، فنبهه على أوقات نشاطه فإن المسافر إذا سافر الليل والنهار جميعا عجز وانقطع، وإذا تحرى السير في هذه الأوقات المنشطة أمكنته المداومة من غير مشقة، وحسن هذه الاستعارة إن الدنيا في الحقيقة دار نقله إلى الآخرة، وأن هذه الأوقات بخصوصها أروح ما يكون فيها البدن للعبادة. (رواه البخاري) في كتاب الإيمان. وأخرجه أيضا النسائي فيه وأحمد وابن حبان والبيهقي (ج3 ص18) كلهم من طريق عمر بن علي المقدمي عن معن بن محمد الغفاري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة وعمر بن علي، هذا بصري ثقة لكنه مدلس شديد التدليس، وصفه بذلك ابن سعد وغيره. وهذا الحديث من أفراد البخاري عن مسلم، وصححه وإن كان من رواية مدلس بالعنعنة لتصريحة فيه بالسماع من طريق أخرى، فقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق أحمد بن المقدام أحد شيوخ البخاري عن عمر بن علي المذكور قال: سمعت معن بن محمد، فذكره، وهو من أفراد معن بن محمد، وهو ثقة قليل الحديث، لكن تابعه على شقه الثاني ابن أبي ذئب عن سعيد. أخرجه البخاري في كتاب الرقاق بمعناه، ولفظه: سددوا وقاربوا وزاد في آخره: والقصد القصد تبلغوا، ولم يذكر شقه الأول. ومن شواهد حديث عروة الفقيمي عن النبي ? قال: إن دين الله يسر. ومنها حديث بريرة قال: قال رسول الله ?: عليكم هديا قاصدا، فإنه من يشاد الدين يغلبه. رواهما أحمد وإسناد كل منهما حسن، كذا في الفتح.

(5/460)


1255- قوله: (من نام عن حزبه) بكسر الحاء المهملة وسكون الزاي المعجمة وبالموحدة، هو ما يجعله الإنسان وظيفة له من صلاة أو قراءة أو غيرهما. وقال السيوطي: الحزب هو الجزء من القرآن يصلي به. وقال العراقي: هل المراد به صلاة الليل أو قراءة القرآن في صلاة أو غير صلاة، يحتمل كلا من الأمرين- انتهى. والمعنى من فاته ورده كله في الليل لغلبة النوم. والحمل على الليل بقرينة النوم ويشهد له آخر الحديث، وهو قوله: ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، ويؤيده قوله في رواية النسائي: من نام عن حزبه أو قال: عن جزءه من الليل. (أو عن شيء منه) أي من حزبه أي فاته بعض ورده. (كتب له) جواب الشرط. (كأنما قرأه من الليل) صفة
رواه مسلم.
1256-(8) وعن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله ?: ((صل

(5/461)


مصدر محذوف أي أثبت أجره في صحيفة عمله إثباتا مثل إثباته حين قرأه من الليل. وقوله: كتب له الخ. قال القرطبي: هذا تفضل من الله تعالى، وهذه الفضيلة إنما تحصل لمن غلبه نوم أو عذر منعه من القيام مع أن نيته القيام، وظاهره أن له أجره مكملا مضاعفا، وذلك لحسن نيته وصدق تلهفه وتأسفه، وهو قول بعض شيوخنا. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون غير مضاعف إذا التي يصليها أكمل وأفضل، والظاهر هو الأول، قلت: بل هو المتعين وإلا فأصل الأجر يكتب بالنية. قال الشوكاني: الحديث يدل على مشروعية اتخاذ ورد في الليل، وعلى مشروعية قضاءه إذا قات لنوم أو عذر من الأعذار، وأن من فعله ما بين صلاة الفجر إلى صلاة الظهر كان كمن فعله في الليل. وقد ثبت من حديث عائشة عند مسلم والترمذي وغيرهما: أن النبي ? كان إذا منعه من قيام الليل نوم أو وضع صلى من النهار ثنتى عشرة ركعة، وفيه استحباب قضاء التهجد إذا فاته من الليل- انتهى. وفي الحديث إشارة إلى قوله تعالى: ?وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا? [25: 62] قال الفاضي: أي ذوي خلفة يخلف كل منهما الآخر يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه من فاته ورده في أحدهما تداركه في الآخر- انتهى. وهو منقول عن كثير من السلف كابن عباس وقتادة والحسن وسلمان، كما ذكره السيوطي في الدر، فتخصيصه بما قبل الزوال مع شمول الآية النهار بالكمال إشارة إلى المبادرة بقضاء الفوت قبل إتيان الموت، أو لأن ما قارب الشيء يعطى حكمه رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه، وأخرجه مالك موقوفا على عمر من قوله، والبيهقي مرفوعا وموقوفا (ج2 ص485). والحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم، وزعم أنه معلل بأن جماعة رووه هكذا مرفوعا وجماعة رووه موقوفا. قال النووي: وهذا التعليل فاسد. والحديث صحيح، وإسناده صحيح أيضا، لما بينا أن الصحيح، بل الصواب الذي عليه الفقهاء والأصوليون

(5/462)


ومحققوا المحدثين إذا روى الحديث مرفوعا وموقوفا أو موصولا ومرسلا حكم بالرفع والوصل؛ لأنها زيادة ثقة. وسواء كان الرافع والواصل أكثر أو أقل في الحفظ والعدد.
1256- قوله: (وعن عمران بن حصين) مصغرا (صل) أي الفرض، والحديث خرج جوابا عن سؤال، كما يدل عليه أوله قال عمران بن حصين: كانت بي بواسير فسألت رسول الله ? عن الصلاة فقال: صل قائما. والبواسير جمع باسور، يقال بالموحدة وبالنون، والذي بالموحدة ورم في باطن المقعدة. وقيل: علة في المقعدة يسببها تمدد عروق المقعدة، ويحدث فيها نزف دم. وقيل: هو في عرف الأطباء نفاطات تحدث على نفس المقعدة ينزل منها كل وقت مادة، والذي بالنون قرحة فاسدة في البدن لا تقبل البرأ ما دام فيها ذلك الفساد.
قائما، فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم يستطع فعلى جنب)).

(5/463)


والمراد بقوله عن الصلاة أي عن صلاة المريض بدليل قوله: كانت بي بواسير. وفي رواية الترمذي: سألت عن صلاة المريض. (قائما) هذا صريح في وجوب القيام في الفرض في حق المستطيع، إذ السؤال كان فيه دون النوافل، فراكب السفينة يجب له القيام إن استطاعه كما عليه الجمهور. ومن يجوز القعود له يجعل مظنة عدم الاستطاعة بمنزلة عدم الاستطاعة. (فإن لم تستطع) أي القيام. (فقاعدا) أي فصل حال كونك قاعدا، واستدل به من قال: لا ينتقل المريض إلى القعود إلا بعد عدم القدرة على القيام. وقد حكاه عياض عن الشافعي، وعن مالك وأحمد وإسحاق: لا يشترط العدم بل وجود المشقة، ويدل لذلك حديث ابن عباس عن النبي ? قال: يصلي المريض قائما، فإن نالته مشقة صلى جالسا، فإن نالته مشقة صلى نائما يؤمئ برأسه. أخرجه الطبراني في الأوسط. وقال: لم يروه عن ابن جريج إلا حلس بن محمد الضبعي. قال الهيثمي: ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله ثقات- انتهى. قال الحافظ: والمعروف عند الشافعية أن المراد بنفي الاستطاعة وجود المشقة الشديدة بالقيام أو خوف زيادة المرض أو الهلاك، ولا يكتفي بأدنى مشقة، ومن المشقة الشديدة دوران الرأس في حق راكب السفينة، وخوف الغرق لو صلى قائما فيها. قلت: ويدل لذلك حديث جعفر بن أبي طالب: أن النبي ? أمره أن يصلي في السفينة قائما إلا أن يخشى الغرق. أخرجه البزار، وفيه رجل لم يسم، وبقية رجاله ثقات، وسنده متصل، قاله الهيثمي. قال الحافظ: ولم يبين كيفية القعود، فيؤخذ من إطلاق قوله: فقاعدا أنه يجوز أن يكون القعود على أي صفة شاء المصلي، وهو مقتضى كلام الشافعي في البويطي. وقد اختلف في الأفضل: فعن الأئمة الثلاثة: يصلي متربعا واضعا ليديه على ركبتيه. وقيل: يجلس مفترشا، وهو موافق لقول الشافعي في مختصر المزني. وصححه الرافعي ومن تبعه. وقيل: متوركا. في كل منها أحاديث- انتهى. (فإن لم تستطع) أي القعود للمشقة. (فعلى جنب) أي فصل على جنبك.

(5/464)


قال المجد بن تيمية في المنتقى: وزاد النسائي فإن لم تستطع فمستلقيا، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها- انتهى. والمراد الجنب الأيمن متوجها إلى القبلة، ففي حديث علي عند الدارقطني مرفوعا بإسناد ضعيف: يصلي المريض قائما إن استطاع، فإن لم يستطع صلى قاعدا، فإن لم يستطع أن يسجد أومأ برأسه، وجعل سجوده أخفض من ركوعه، فإن لم يستطع أن يصلي قاعدا صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه الأيمن صلى مستقليا رجلاه مما يلي القبلة، وهو حجة للجمهور في الانتقال من القعود إلى الصلاة على الجنب الأيمن قالوا: ويكون كتوجه الميت في القبر. وعن الحنفية وبعض الشافعية يستلقي على ظهره، ويجعل رجليه إلى القبلة، وحديثا عمران وعلى يردان عليهم؛ لأن الشارع قدم فيهما الصلاة على الجنب على الاستلقاء، وصرح بأن حالة الاستلقاء تكون عند العجز عن حالة الاضطجاع. قال ابن الهمام: لا ينتهض حديث عمران حجة على العموم، فإنه خطاب له، وكان مرضه البواسير وهو يمنع الاستلقاء، فلا يكون خطابه خطابا للأمة- انتهى. قلت:
رواه البخاري.
1257-(9) وعنه، ((أنه سأل النبي ? عن صلاة الرجل قاعدا، قال: إن صلى قائما فهو أفضل، ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد)).

(5/465)


يرد عليه حديث على المذكور، فإنه خرج على وجه بيان الحكم لكل مريض من غير تخصيص برجل دون رجل ومرض دون مرض. واستدل بقوله: فإن لم تستطع فمستلقيا على أنه لا ينتقل المريض بعد عجزه عن الاستلقاء إلى حالة أخرى، كإشارة بالرأس ثم الإيماء بالطرف ثم إجراء القرآن والذكر على اللسان ثم على القلب؛ لكون جميع ذلك لم يذكر في الحديث، وهو قول الحنفية والمالكية وبعض الشافعية. وقال بعض الشافعية بالترتيب المذكور. لما كانت القدرة شرطا في الفرض وسقط بالضرر، ففي النفل أولى، ففيه تنبيه على نوع مناسبة للباب. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود وابن ماجه وغيرهم.

(5/466)


1257- قوله: (وعنه) أي عمران بن حصين وهذا حديث آخر لعمران غير الحديث المتقدم، لا أنهما روايتان في حديث واحد، كما توهم بعضهم، وهما حديثان صحيحان، وكل منها مشتمل على حكم غير الحكم الذي اشتمل عليه الآخر. (أنه سأل) أي عمران. (النبي ? عن صلاة الرجل) حال كونه. (قاعدا) سؤال عمران عن الرجل خرج مخرج الغالب. فلا مفهوم له، بل الرجل والمرأة في ذلك سواء، والنساء شقائق الرجال. (قال) وفي البخاري: فقال النبي ?. (إن صلى) حال كونه. (قائما فهو أفضل) قال الخطابي: إنما هو في التطوع دون الفرض؛ لأن الفرض لا جواز له قاعدا والمصلي يقدر على القيام، وإذا لم يكن له جواز لم يكن لشيء من الأجر ثبات- انتهى. وقال الحافظ: حكى ابن التين وغيره عن أبي عبيد وابن الماجشون وإسماعيل القاضي وابن شعبان والإسماعيلي والداودي وغيرهم: أنهم حملوا حديث عمران على المتنفل، وكذا نقله الترمذي عن الثوري، قال: وأما المعذور إذا صلى جالسا، فله مثل أجر القائم. وقد روي في بعض الحديث مثل قول سفيان الثوري يشير إلى ما أخرجه البخاري من حديث أبي موسى رفعه: إذا مرض العبد أو سافر كتب له صالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم، ولهذا الحديث شواهد كثيرة. (ومن صلى) أي نفلا حال كونه. (قاعدا) أي بغير عذر. (فله نصف أجر القائم) قال النووي في الخلاصة: قال العلماء هذا صلاة في النافلة أي مع القدرة على القيام. وأما الفرض فلا يجوز القعود فيه مع القدرة على القيام بالإجماع، فإن عجز لم ينقص ثوابه- انتهى. (ومن صلى) حال كونه (نائما) أي مضطجعا على هيئة النائم مع القدرة على القيام والقعود. (فله نصف أجر القاعد) يستثني من عمومه النبي ? فإن صلاته قاعدا لا ينقص أجرها عن صلاته قائما؛ لحديث عبدالله بن عمرو الآتي في الفصل

(5/467)


الثالث وقد عد الشافعية هذه المسألة من خصائصه ?. والحديث يدل على أن يتطوع مضطجعا على الجنب لغير عذر، أي مع القدرة على القيام والقعود. قال ابن حجر: فيه أبلغ حجة على من حرم الاضطجاع في صلاة النفل مع القدرة على القعود. وقال الطيبي: وهل يجوز أن يصلي التطوع نائما مع القدرة على القيام أو القعود، فذهب بعض إلى أنه لا يجوز، وذهب قوم إلى جوازه، وأجره نصف القاعد، وهو قول الحسن، وهو الأصح والأولى لثبوته في السنة- انتهى. قلت: اختلف شراح الحديث في هذا الحديث هل هو محمول على التطوع أو على الفرض في حق غير القادر؟ فحمله الجمهور على المتطوع القادر كما تقدم، وحمله آخرون، ومنهم: الخطابي على المفترض الذي يمكنه أن يتحامل، فيقوم مع مشقة وزيادة ألم فجعل أجره على النصف من أجر القائم ترغيبا له في القيام لزيادة الأجر وإن كان يجوز قاعدا، وكذا في الاضطجاع. قال الخطابي في المعالم (ج1 ص225): أما قوله صلاته نائما على النصف من صلاته قاعدا فإني لا أعلم أني سمعته إلا في هذا الحديث، ولا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه رخص في صلاة التطوع نائما، كما رخصوا فيها قاعدا، فإن صحت هذه اللفظة عن النبي ? ولم تكن من كلام بعض الرواة أدرجه في الحديث وقاسه على صلاة القاعد أو اعتبره بصلاة المريض نائما إذا لم يقدر على القعود، فإن التطوع مضطجعا للقادر على القعود جائز، كما يجوز أيضا للمسافر إذا تطوع على راحلته، فأما من جهة القياس، فلا يجوز له أن يصلي مضطجعا، كما يجوز له أن يصلي قاعدا؛ لأن القعود شكل من أشكال الصلاة، وليس الاضطجاع في شيء من أشكال الصلاة- انتهى. وقد لخص الحافظ في الفتح كلام الخطابي، ثم نقل عنه أنه قال: وقد رأيت الآن أن المراد بحديث عمران المريض المفترض الذي يمكنه أن يتحامل فيقوم مع مشقة، فجعل أجر القاعد على النصف من أجر القائم ترغيبا له في القيام مع جوازه قعوده- انتهى. قال الحافظ: وهو حمل متجه قال:

(5/468)


فمن صلى فرضا قاعدا وكان يشق عليه القيام أجزأه، وكان هو ومن صلى قائما سواء. فلو تحامل هذا المعذور وتكلف القيام ولو شق عليه كان أفضل لمزيد أجر تكلف القيام، فلا يمتنع أن يكون أجره على ذلك نظير أجره على أصل الصلاة، فيصح أن أجر القاعد على النصف من أجر القائم. ومن صلى النفل قاعدا مع القدرة على القيام أجزأه، وكان أجره على النصف من أجر القائم بغير إشكال، قال: ولا يلزم من اقتصار العلماء في حمل الحديث على صلاة النافلة أن لا تراد الصورة التي ذكرها الخطابي. وقد ورد في الحديث ما يشهد لها، فعند أحمد من طريق ابن جريج عن ابن شهاب عن أنس قال: قدم النبي ? المدينة وهي محمة فحم الناس، فدخل النبي ? المسجد والناس يصلون من قعود، فقال: صلاة القاعد نصف صلاة القائم، رجاله ثقات، وعند النسائي متابع له من وجه آخر، وهو وارد في المعذور، فيحمل على من تكلف القيام مع مشقته عليه، كما بحثه الخطابي- انتهى كلام الحافظ مختصرا. قال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج2 ص210) بعد نقل كلام الخطابي ما لفظه: وكل هذا تكلف وتمحل من الخطابي، بناء على زعمه أنه لم يرخص أحد من أهل العلم في
رواه البخاري.
?الفصل الثاني?
1258-(10) عن أبي أمامة، قال: سمعت النبي ? يقول: ((من أوى إلى فراشه طاهرا، وذكر الله حتى يدركه النعاس، لم يتقلب ساعة من الليل يسأل الله فيها خيرا من خير الدنيا والآخرة، إلا أعطاه إياه))

(5/469)


صلاة التطوع نائما، فحاول تأول الحديث ليخرجه عن معناه أو التشكيك في صحة اللفظ في النائم، والحديث حجة على أقوال العلماء، وليست أقوالهم حجة على الحديث، ومع ذلك فإن ما لم يعلمه الخطابي من أقوال العلماء في هذا علمه غيره، فقد نقل الشوكاني عن الحافظ العراقي قال: أما نفي الخطابي وابن بطال للخلاف في صحة التطوع مضطجعا للقادر فمردود، فإن في مذهب الشافعية وجهين: الأصح منهما الصحة. وعند المالكية فيه ثلاثة أوجه: حكاها القاضي عياض في الإكمال. أحدها الجواز مطلقا في الاضطرار، والاختيار للصحيح والمريض بظاهر الحديث، وهو الذي به صدر القاضي كلامه. وقد روى الترمذي بإسناده عن الحسن البصري جوازه، فكيف يدعي مع هذا الخلاف القديم والحديث الإتفاق-انتهى. قلت: الظاهر عندي هو قول الجمهور، فالحديث محمول على المتطوع القادر، والراجح أنه يجوز صلاة التطوع مضطجعا مع القدرة على القيام أو القعود لظاهر الحديث، والله أعلم. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2:ص308-491).

(5/470)


1258- قوله: (من أوى) بالقصر ويمد. (إلى فراشه) أي أتاه لينام، في النهاية. أوى وآوى بمعنى واحد يقال: أويت إلى المنزل وآويت إليه وأويت غيري وآويته. وأنكر بعضهم المقصور المتعدي. وقال الأزهري: هي لغة فصيحة.وقال النووي: إذا أوى إلى فراشه فمقصور. وأما آوانا فممدود. هذا هو الصحيح المشهور الفصيح. وحكى القصر فيهما وحكي المد فيهما، كذا في المرقاة. (طاهرا) أي متوضئا. (وذكر الله) بلسانه أي نوع من الأذكار.ولفظ الترمذي: يذكر الله، وهي جملة حالية. (حتى يدركه النعاس) بضم النون يعني حتى ينام. (لم يتقلب) من التقلب أي من جنب إلى جنب. وقال القاري: أي لم يتردد ذلك الرجل على فراشه، وفي عمل اليوم والليلة لم ينقلب أي من الانقلاب، قيل: المراد من الانقلاب هنا الاستيقاظ والانتباه من النوم. (ساعة) بالنصب أي في ساعة. (يسأل الله) حال من فاعل "يتقلب". (فيها) أي في تلك الساعة. (خيرا) الخير هنا ضد الشر. (من خير الدنيا والآخرة) المراد من الخير الثاني الجنس، والتنوين في الأول للتنكير. (إلا أعطاء إياه). قال الطيبي:
ذكره النووي في كتاب الأذكار برواية ابن سني.
1259- (11) وعن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول الله ?: ((عجب ربنا من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين حبه وأهله إلى صلاته، فيقول

(5/471)


هو أيضا حال من يسأل، وجاز لأن الكلام في سياق النفي، يعني لا يكون للسائل حال من الأحوال في أي زمان من الليل إلا كونه معطي إياه، أي ما طلب فلا يخيب. (ذكره النووي) وفي بعض النسخ: النووي، بالألف. (في كتاب الأذكار) (ص75) في باب ما يقوله إذا أراد النوم واضطجع على فراشه. (برواية ابن السني) هو الإمام الحافظ الثقة أبوبكر أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن أسباط الدينوري، مولى جعفر بن أبي طالب الهاشمي المعروف بابن السني، بضم السين المهملة.وتشديد النون المكسورة. قيل: نسبة إلى العمل بالنسبة، وهو صاحب كتاب عمل اليوم والليلة. وراوي سنن النسائي، سمع النسائي وأبا خليفة الجمعي وزكريا الساجي وغيرهم، وأكثر الترحال. روى عنه خلق كثير كان دينا خيرا صدوقا عاش بضعا وثمانين سنة. قال القاضي: أبوزرعة روح بن محمد سبط ابن السني سمعت عمي علي بن أحمد بن محمد يقول: كان أبي يكتب الحديث، فوضع القلم في أنبوبة المحبرة ورفع يديه يدعوا الله تعالى فمات، وذلك في آخر سنة أربع وستين وثلاث مائة. وروى ابن السني هذا الحديث في آخر عمل اليوم والليلة في باب ما يقول: إذا أخذ مضجعة (ص229) من طريق شهر بن حوشب عن أبي أمامة، ومن هذا الطريق أخرجه الترمذي في الدعوات، وقال: حديث حسن. وقد روي هذا أيضا عن شهر بن حوشب عن أبي ظبية عن عمرو بن عبسة عن النبي ?-انتهى. قال المنذري في كتابه عمل اليوم والليلة: صنف العلماء في عمل اليوم والليلة والدعوات كتبا كثيرة، ومن أحسنها للإمام أبي عبدالرحمن النسائي، وأحسن منه لصاحبه الحافظ أحمد بن محمد المعروف بابن السني الدينوري، المتوفى سنة أربع وستين وثلاثمائة، وهو أجمع الكتب في هذا الفن لكنها مطولة قال: فحذفت الأسانيد لضعف همم الطالبين-انتهى. وقد ورد في الباب أحاديث، ذكرها ابن السني والمنذري والهيثمي.

(5/472)


1259- قوله: (عجب ربنا) قيل: العجب روعة تعترى الإنسان عند استعظام الشيء، والعجب لله بمعنى مجرد الاستعظام. قال الطيبي: أي عظم ذلك عنده وكبر لديه. وقيل: عجب ربنا أي رضي وأثاب، والأول أوجه لقوله: أنظروا إلى عبدي على وجه المباهاة-انتهى. (من رجلين) قال القاري: أي رضي واستحسن فعلهما. (رجل) بالجر، بدل، وجوز الرفع، فالتقدير أحدهما أو منهما أو هما رجل. (ثار) أي قام على سرعة بهمة ونشاط ورغبة. (عن وطائه) بكسر الواو أي فراشه اللين. (ولحافه) بكسر اللام أي ثوبه الذي فوقه. قيل: اللحاف كل ما يلتحف به أي يتغطى واللباس الذي فوق ما سواه. (من بين حبه) بكسر الحاء المهملة أي محبوبه. (فيقول
الله لملائكته: أنظروا إلى عبدي، ثار عن فراشه ووطائه من بين حبه وأهله إلى صلاته، رغبة فيما عندي، وشفقا مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله فانهزم مع أصحابه، فعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع، رجع حتى هريق دمه، فيقول الله لملائكته: أنظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي، وشفقا مما عندي حتى هريق دمه) رواه في شرح السنة.
?الفصل الثالث?
1260- (12) وعن عبدالله بن عمرو، قال: حدثت أن رسول الله ? قال: ((صلاة الرجل قاعدا نصف الصلاة.

(5/473)


الله لملائكته) أي مباهاة لعبده. (انظروا إلى عبدي) أي نظر الرحمة المترتب عليه الاستغفار له والشفاعة، والإضافة للتشريف، وأي تشريف أو تفكروا في قيامه من مقام الراحة. (رغبة) أي لا رياء وسمعة بل ميلا (فيما عندي) من الجنة والثواب، أو من الرضاء واللقاء يوم المآب. (وشفقا) أي حذرا وخوفا. (مما عندي) من الجحيم وأنواع العذاب، أو من السخط والحجاب. (ورجل) بالوجهين. (غزا في سبيل الله) أي مخلصا لوجه الله. (فانهزم) أي غلب وهرب. (فعلم ما عليه) أي من الإثم أو من العذاب. (في الانهزام) إذا كان بغير عذر له في المقام. (وما له) أي وعلم ما له من الثواب والجزاء. (في الرجوع) أي في الإقبال على محاربة الكفار ولو كانوا أكثر منه في العدد وأقوى عنه في العدد. (فرجع) أي حسبة لله وجاهد. (حتى هريق) أي صب، والهاء يدل من الهمزة. (دمه) يعني قتل واستشهد. والحديث من أدلة استحباب قيام الليل وفضيلته. (رواه) صاحب المصابيح (في شرح السنة) أي بإسناده. وأخرجه أيضا أحمد وأبويعلى والطبراني وابن حبان في صحيحه. قال العراقي: وإسناده جيد. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص255) إسناده حسن، ونقل القاري عن الجزري أنه قال: رواه أحمد بإسناد صحيح، فيه عطاء بن السائب، وروى له الأربعة، والبخاري متابعة، ورواه الطبراني-انتهى.
1260- قوله: (حدثت) بصيغة المجهول أي حدثني ناس من الصحابة (صلاة الرجل قاعدا نصف الصلاة) أي قائما، والمعنى صلاة القاعد لغير عذر فيها نصف ثواب صلاة القائم، فيتضمن صحة صلاة القاعد ونقصان أجرها. قال النووي: هذا الحديث محمول على صلاة النفل قاعدا مع القدرة على القيام، فهذا له نصف ثواب القائم. وأما إذا صلى النفل قاعدا لعجزه عن القيام فلا ينقص ثوابه بل يكون كثوابه قائما. وأما الفرض فإن صلاته قاعدا مع القدرة على القيام لم يصح، فلا يكون فيه ثواب بل يأثم وإن صلى الفرض قاعدا لعجزه عن

(5/474)


قال: فأتيته فوجدته يصلي جالسا، فوضعت يدي على رأسه. فقال: ما لك يا عبدالله بن عمرو؟ قلت: حدثت يا رسول الله ! أنك قلت: صلاة الرجل قاعدا على نصف الصلاة، وأنت تصلي قاعدا. قال: أجل، ولكني لست كأحد منكم)) رواه مسلم.
1261- (13) وعن سالم بن أبي الجعد، قال: قال رجل من خزاعة: ليتني صليت فاسترحت،
القيام أو مضطجعا لعجزه عن القيام والقعود فثوابه كثوابه قائما لا ينقص، فيتعين حمل الحديث في تنصيف الثواب على من صلى النفل قاعدا مع قدرته على القيام، هذا تفصيل مذهبنا، وبه قال الجمهور في تفسير هذا الحديث وحكاه عياض عن جماعة، منهم الثوري وابن الماجشون-انتهى مختصرا. (فوضعت يدي) الظاهر أنه فعل ذلك بعد فراغه صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة، إذا ما يظن به ذلك قبله. (على رأسه) أي ليتوجه إليه، وكأنه كان هناك مانع من أن يحضر بين يديه، ومثل هذا لا يسمى خلاف الأدب عند طائفة العرب لعدم تكلفهم وكمال تألفهم، قاله القاري. وقيل: هذا على عادة العرب فيما يعتنون به. وقيل: كان ذلك في عادتهم فيما يستغربونه ويتعجبون منه، كقول المستغرب للشيء المتعجب من وقوعه مع من استغرب منه. ونظيره أن بعض العرب كان ربما لمس لحيته الشريفة عند مفاوضته معه. وقيل: صدر ذلك عنه من غير قصد منه استغرابا وتعجبا. (فقال ما لك) أي ما شأنك وما عرض لك. (على نصف صلاة القائم) أي يقاس صلاة الرجل قاعدا على نصف صلاته قائما في الثواب. (وأنت تصلي قاعدا) أي فكيف اخترت نقصان الأجر مع شدة حرصك على تكثيره!. (قال أجل) أي نعم قد قلت ذلك. (ولكني لست كأحد منكم) أي ذلك الذي ذكرت من أن صلاة الرجل قاعدا على نصف صلاته قائما هو حكم غيري من الأمة فهو مختص بهم. وأما أنا فخارج عن هذا الحكم، ويقبل ربي مني صلاتي قاعدا مقدار صلاتي قائما، فصلاتي النافلة قاعدا مع القدرة على القيام في تمام الأجر وكمال الثواب كصلاتي قائما، أو ذلك من خصائصي لما اختص به من

(5/475)


غاية التوجه والحضور والمعرفة والقرب، فلا تقيسوني على أحد ولا تقيسوا أحدا علي. قال النووي: هذا من خصائصه ? فجعلت نافلته قاعدا مع القدرة على القيام كنافلته قائما تشريفا له، كما خص بأشياء معروفة وفي كتب أصحابنا وغيرهم وقد استقصيتها في أول كتاب تهذيب الأسماء واللغات. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي.
1261- قوله: (وعن سالم بن أبي الجعد) الغطفاني الأشجعي، مولاهم الكوفي، ثقة من أوساط التابعين، مات سنة سبع، أو ثمان وتسعين، وقيل: مائة أو بعد ذلك. (من خزاعة) بضم الخاء المعجمة وبالزاي، قبيلة، وهو صفة رجل. (ليتني صليت فاسترحت) أي بالاشتغال بالصلاة لكونها مناجاة مع الرب تعالى، أو بالفراغ
فكأنهم عابوا ذلك عليه، فقال: سمعت رسول الله ? يقول: ((أقم الصلاة يا بلال! أرحنا بها)). رواه أبوداود.
(35) باب الوتر

(5/476)


منها لاشتغال الذمة بها قبل الفراغ عنها. (فكأنهم) أي بعض الحاضرين. (عابوا ذلك عليه)؛ لأن ظاهر كلامه يدل على أن الصلاة ثقيلة وشاقة عليه فيطلب الاستراحة بعد رفعها. قال في اللمعات: عابوا ذلك عليه لما تبادر إلى أفهامهم من طريان الكسل والثقل، كأنه قال يا ليتني صليت فاسترحت ونمت فإني لم أطق انتظارها، وقال الطيبي: أي عابوا تمنيه الاستراحة في الصلاة وهي شاقة على النفس وثقيلة عليها، ولعلهم نسوا قوله تعالى: ?وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين? [2: 45]. (فقال) أي الرجل الخزاعي. (سمعت رسول الله ? يقول أقم الصلاة يا بلال أرحنا بها) أي ليست أريد ما فهمتم حاشا ذلك، بل أردت ما أراده رسول الله ? بقوله يا بلال أرحنا بها فسكتوا، واعلم أنه ذكر في معنى قوله?: أرحنا بها يا بلال وجهان: أحدهما أن أذن بالصلاة حتى نستريح بأدائها من شغل القلب فيها. وثانيهما أنه كان اشتغاله ? بالصلاة راحة له، فإنه كان يعد غيرها من الأعمال الدنيوية تعبا، فكان يستريح بالصلاة لما فيها من مناجاة الله تعالى، ولذا قال: وجعلت قرة عين لي في الصلاة. وما أقرب الراحة من قرة العين. وهذان المعنيان مذكوران في النهاية، والفرق بينهما أن الراحة في الأول بخلاص الذمة بالأداء عن تعب الاشتغال بالصلاة، وتعلق القلب بها. وفي الثاني الراحة بوجود الصلاة، ولذة المناجاة وشهود الحق الذي كان يحصل فيها، ولا شك أن الحمل على المعنى الثاني أنسب وأليق بمقامه ?. (رواه أبوداود) في كتاب الأدب، وسكت عليه هو والمنذري.

(5/477)


(باب الوتر) أي صلاة الوتر، وبيان وقته، وعدد ركعاته، وقراءته، وقضاءه، وقنوته. وكونه واجبا أو سنة وغير ذلك مما يشتمل عليه أحاديث الباب من الأمور المتعلقة بالوتر، كمشروعية الركعتين بعده جالسا، وما يقال بعد الفراغ منه من التسبيح، والوتر بكسر الواو الفرد أو ما لم يتشفع من العدد وبفتحها الثأر، وفي لغة مترادفان. قال ابن التين: أخلف في الوتر في سبعة أشياء: في وجوبه، وعدده ، واشتراط النية فيه، واختصاصه بقراءة، واشتراط شفع قبله، وفي آخره وقته، وصلاته في السفر على الدابة. قال الحافظ: وفي قضائه، والقنوت فيه، وفي محل القنوت منه، وفيما يقال فيه وفي فصله ووصله، وهل تسن ركعتان بعده، وفي صلاته من قعود، وفي أول وقته، وفي كونه أفضل صلاة التطوع أو الرواتب أفضل منه، أو خصوص ركعتي الفجر- انتهى. وقد ذكر المصنف من الأحاديث ما يجيء في شرحها بيان أكثر هذه الأشياء.
?الفصل الأول?
1262-(1) عن ابن عمر، قال: قال رسول الله ?: ((صلاة الليل مثنى مثنى،
1262- قوله: (صلاة الليل) الحديث خرج جوابا لسؤال، ففي رواية للبخاري: أن رجلا جاء

(5/478)


إلى النبي ? وهو يخطب فقال: كيف صلاة الليل؟ فقال: مثنى مثنى. قال الحافظ: وقد تبين من الجواب أن السؤال وقع عن عددها أو عن الفصل الوصل. وفي رواية محمد بن نصر قال: قال رجل: يا رسول الله كيف تأمرنا أن نصلي من الليل. وقيل: جوابه بقوله "مثنى" يدل على أنه فهم من السائل طلب كيفية العدد لا مطلق الكيفية. قال الحافظ: فيه نظر، وأولى ما فسر به الحديث من الحديث. (مثنى) بلا تنوين؛ لأنه غير منصرف لتكرار العدل فيه، قاله صاحب الكشاف. وقال آخرون: ومنهم سيبوية: للعدل والوصف يفيد التكرار؛ لأنه بمعنى اثنتين اثنتين. وأما إعادة مثنى الثاني فللمبالغة في التأكيد، وإلا فالتكرار يكفي في إفادته مثنى الأول، وهو خبر لفظا، لكن معناه الأمر والندب. والمقصود أنه ينبغي للمصلي أن يصليها ركعتين ركعتين. قال الحافظ: وقد فسره ابن عمر راوي الحديث فعند مسلم من طريق عقبة بن حريث قال: قلت: لابن عمر ما معنى مثنى مثنى. قال تسلم من كل ركعتين. وفيه رد على من زعم من الحنفية أن معنى مثنى أن يتشهد بين كل ركعتين؛ لأن راوي الحديث أعلم بالمراد به، وما فسره به هو المتبادر إلى الفهم؛ لأنه لا يقال في الرباعية مثلا أنها مثنى – انتهى. قلت: ويؤيد حمله على الفصل بالسلام بين كل ركعتين حديث المطلب بن ربيعة مرفوعا عند أحمد بلفظ: الصلاة مثنى مثنى وتشهد وتسلم في كل ركعتين الخ. ويؤيده أيضا ما تقدم من حديث عائشة في باب صلاة الليل: كان يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين. ويؤيده أيضا حديث ابن عباس عند ابن خزيمة في قصة مبيته في بيت خالته ميمونة حيث وقع فيه التصريح بالفصل، ولفظه: يسلم من كل ركعتين. وحديث أبي أيوب عند أحمد أن رسول الله ? كان إذا قام يصلي من الليل صلى أربع ركعات لا يتكلم ولا يأمر بشيء ويسلم بين كل ركعتين. وأما حديث عائشة عند البخاري وغيره يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم

(5/479)


يصلي أربعا فلا تسأل عن حسهن وطولهن، فليس فيه دليل على الوصل، وقد اعترف بذلك الشيخ محمد أنور حيث قال: لا دليل فيه للحنفية في مسألة أفضلية الأربع، فإن الإنصاف خير الأوصاف، وذلك لأن الأربع هذه لم تكن بسلام واحد، بل جمع الراوي بين الشفعين لتناسب بينهما نحو كونهما في سلسلة واحدة بدون جلسة في البين كالترويحة في التراويح، فإنها تكون بعد أربع ركعات، هكذا شرح به أبوعمر في التمهيد- انتهى. واستدل بالحديث على تعين الفصل بين كل ركعتين من صلاة الليل. قال ابن دقيق العيد في شرح العمدة (ج2 ص83): أخذ به مالك في أنه لا يزاد في صلاة النفل على ركعتين، هو ظاهر هذا اللفظ في صلاة الليل، وقد

(5/480)


ورد حديث آخر صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، وإنما قلنا إنه ظاهر اللفظ؛ لأن المبتدأ محصور في الخبر، فيقتضي ذلك حصر صلاة الليل فيما هو مثنى، وذلك هو المقصود إذ هو ينافي الزيادة لما انحصرت صلاة الليل في المثنى- انتهى. وقال الأمير اليماني: قال مالك لا تجوز الزيادة على اثنين؛ لأن مفهوم الحديث الحصر؛ لأنه في قوة ما صلاة الليل إلا مثنى مثنى؛ لأن تعريف المبتدأ قد يفيد ذلك على الأغلب- انتهى. ويجوز الزيادة على الركعتين عند الشافعي وأحمد وأبي حنيفة، لما صح وثبت عن النبي ? أنه صلى النافلة أكثر من ركعتين، ومحمل الحديث عند الشافعي وأحمد على أنه لبيان الأفضل، لما صح من فعله ? يخالف ذلك، ويحتمل أن يكون للإرشاد إلى الأخف، إذ السلام بين كل ركعتين أخف على المصلي من الأربع فما فوقها لما فيه الراحة غالبا وقضاء ما يعرض من أمر مهم، ومحمله عند الحنفية الحصر في الإشفاع، يعني لا يجوز الجلوس على الأكثر أو الأقل من ركعتين. قال في الهداية: ومعنى ما رواه شفعا لا وترا، وقد تقدم الرد عليه في كلام الحافظ. واستدل به أيضا على عدم النقصان عن ركعتين في النافلة ما عدا الوتر، واختلفوا فيه أيضا فقال مالك وأبوحنيفة: التطوع بركعة واحدة باطل، إلا أنهما اختلفا في الوتر فقال مالك بالجواز، وأبوحنيفة بالمنع. وذهب الشافعي وأحمد إلى جواز التطوع بركعة فردة، واستدل بعض الشافعية للجواز بعموم قوله: الصلاة خير موضوع فمن شاء استكثر ومن شاء استقل، صححه ابن حبان وقد اختلف من رأى الزيادة على الركعتين في النافلة في الفصل والوصل أيهما أفضل، فذهب الشافعي وأحمد إلى أن الفصل في صلاة الليل والنهار أفضل، واستدل لهما بما رواه الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه من حديث ابن عمر مرفوعا: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. وتعقب بأن أكثر أئمة الحديث أعلوا زيادة قوله والنهار وضعفوها؛ لأنها من طريق علي الأزدي البارقي عن ابن عمر، وهو ضعيف عند

(5/481)


ابن معين. روى محمد بن نصر في سؤالاته وابن عبدالبر في التمهيد عن يحيى بن معين أنه قال صلاة النهار أربع لا تفصل بينهن، فقيل له إن ابن حنبل يقول: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، فقال: بأي حديث؟ فقيل له: بحديث الأذري عن ابن عمر، فقال: ومن على الأذري؟ حتى أقبل هذا منه وأدع يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع عن ابن عمر أنه كان يتطوع بالنهار أربعا لا يفصل بينهن، لو كان حديث الأذري صحيحا لم يخالفه ابن عمر يعني مع شدة إتباعه. وقال الترمذي: وروى الثقات عن ابن عمر عن النبي ?، ولم يذكروا فيه صلاة النهار وحكم النسائي على راويها بأنه أخطأ فيها. وقال الدارقطني في العلل: إنها وهم. وقال الحافظ: روى ابن وهب بإسناد قوي عن ابن عمر قال: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى موقوف. أخرجه ابن عبدالبر من طريقة فلعل الأذري اختلط عليه الموقوف بالمرفوع، فلا تكون هذه الزيادة صحيحة على طريقة من يشترط في الصحيح أن لا يكون شاذا- انتهى. قلت: قد صححها ابن خزيمة وابن حبان والحاكم في المستدرك وقال: رواتها ثقات. وقال الخطابي: إن سبيل الزيادة
فإذا خشي أحدكم الصبح، صلى ركعة واحدة، توتر له ما قد صلى)).

(5/482)


من الثقة أن تقبل. وقال البيهقي: هذا حديث صحيح، وقد صححه البخاري لما سئل عنه، ثم روى ذلك بسنده إليه قال: وقد روى عن محمد بن سيرين عن ابن عمر مرفوعا بإسناد كلهم ثقات- انتهى كلام البيهقي، وله طرق وشواهد، وقد ذكر بعض ذلك الحافظ في التلخيص. وذهب أبوحنيفة إلى أن الأفضل فيهما أربع أربع ولم أر حديثا صحيحا صريحا يدل على أفضلية ذلك في الليل والنهار. وذهب بعضهم إلى أن الأفضل في صلاة الليل مثنى مثنى، وأما في صلاة النهار فأربع أربع، وهو قول الثوري وابن المبارك وإسحاق وأبي يوسف ومحمد، واستدل لهم بمفهوم حديث ابن عمر: صلاة الليل مثنى مثنى، قالوا: إنه يدل بمفهومه على أن الأفضل في صلاة النهار أن تكون أربعا وتعقب بأنه مفهوم لقب وليس بحجة على الراجح، وعلى تقدير الأخذ به فليس بمنحصر في أربع، وبأنه خرج جوابا للسؤال عن صلاة الليل فقيد الجواب بذلك مطابقة للسؤال، واستدلوا أيضا بما تقدم من حديث أبي أيوب مرفوعا: أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم، وقد أسلفنا الكلام فيه مع الجواب عن هذا الاستدلال، والأولى عندي أن تكون صلاة الليل مثنى مثنى، لكونه أجاب به السائل، ولكون أحاديث الفصل أثبت وأكثر طرقا، وأما صلاة النهار فإن شاء صلى أربعا بسلام واحد أو بسلامين لحديث على الأذري، ولحديث أبي أيوب وقد عرفت ما فيها من الكلام. (فإذا خشي أحدكم الصبح) أي فوت الوتر بطلوع الفجر وظهوره (صلى بركعة واحدة توتر) أي هذه الركعة الفردة. (له) أي لأحدكم. (ما قد صلى) أي تجعل تمام ما صلى وترا، فإن تلك الواحدة كما أنها بذاتها وتر، كذلك يصير بها جميع صلاة الليل وترا، قال ابن الملك: أي تجعل هذه الركعة الصلاة التي صلاها في الليل وترا بعد أن كانت شفعا، والحديث حجة للشافعي في قوله: الوتر ركعة واحدة، وتعقبه القاري بما نقله عن ابن الهمام أن نحو هذا كان قبل أن يستقر أمر الوتر، وفيه أنه لا دليل على أن هذا كان قبل استقرار أمر

(5/483)


الوتر، ولا على أن الوتر محصور في ثلاث ركعات، فهو مردود على ابن الهمام. قال السندي: في حاشية النسائي قوله: فإذا خشيت الصبح فواحدة، ظاهر الحديث مع أحاديث آخر يفيد جواز الوتر بركعة واحدة، كما هو مذهب الجمهور، والقول بأنه كان ثم نسخ إثباته مشكل- انتهى. ووقع في رواية للبخاري: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة توتر لك ما صليت. وفيه رد على من ادعى من الحنفية أن الوتر بواحدة مختص بمن خشي طلوع الفجر؛ لأنه علقه بإرادة الإنصراف، وهو أعم من أن يكون لخشية طلوع الفجر أو غير ذلك. واعلم أنه مذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد إلى صحة الإيتار بركعة واحدة، إلا أن مالكا اشترط تقدم الشفع قبلها، فكان الوتر عنده ثلاث ركعات بتسليمتين وجوبا، فيفي المدونة قال مالك: لا ينبغي لأحد أن يوتر بواحدة ليس قبلاها شيء لا في حضر ولا سفر، لكن يصلي ركعتين ثم يسلم ثم يوتر بواحدة- انتهى. قال

(5/484)


الحافظ: واستدل بقوله: توتر له ما قد صلى على تعين الشفع قبل الوتر، وهو عن المالكية بناء على أن قوله: ما قد صلى أي من النفل، وحمله لا يشترط سبق الشفع على ما هو أعم من النفل والفرض، وقالوا: أن سبق الشفع شرط في الكمال لا في الصحة، ويؤيده حديث أبي أيوب مرفوعا: الوتر حق فمن شاء أوتر بخمس ومن شاء بثلاث ومن شاء بواحدة. أخرجه أبوداود والنسائي، وصححه ابن حبان والحاكم، وصح عن جماعة من الصحابة أنهم أوتروا بواحدة من غير تقدم نفل قبلها، ففي كتاب محمد بن نصر وغيره بإسناد صحيح عن السائب بن يزيد أن عثمان قرأ القرآن ليلة في ركعة لم يصل غيرها، وسيأتي في الدعوات أي عند البخاري حديث عبدالله بن ثعلبة أن سعدا أوتر بركعة، وسيأتي في المناقب عن معاوية أنه أوتر بركعة، وأن ابن عباس استصوبه، وفي كل ذلك رد على ابن التين في قوله: إن الفقهاء لم يأخذوا بعمل معاوية في ذلك، وكأنه أراد فقهاءهم- انتهى كلام الحافظ. وقد ذكر محمد بن نصر في قيام الليل آثارا كثيرة عن السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم في الوتر بركعة من أحب الوقوف عليها رجع إليه. قال الشوكاني في النيل نقلا عن الحافظ العراقي: وممن كان يوتر بركعة من الصحابة الخلفاء الأربعة وسعد بن أبي وقاص ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وأبوموسى الأشعري وأبوالدرداء وحذيفة وابن مسعود وابن عمر وابن عباس ومعاوية وتميم الداري وأبوأيوب الأنصاري وأبوهريرة وفضالة بن عبيد وعبدالله بن الزبير ومعاذ بن الحارث القاري، وهو مختلف في صحبته. وقد روي عن عمر وعلي وأبي وابن مسعود الإيتار بثلاث متصلة، وممن أوتر بركعة سالم بن عبدالله بن عمر وعبدالله بن عياش بن أبي ربيعة والحسن البصري ومحمد بن سيرين وعطاء بن أبي أرباح وعقبة بن عبدالغافر وسعيد بن جبير ونافع بن جبير بن مطعم وجابر بن زيد والزهري وربيعة بن أبي عبدالرحمن وغيرهم، ومن الأئمة مالك والشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبوثور وداود وابن

(5/485)


حزم- انتهى. واستدل لهم فيما قالوا من جواز الإيتار بركعة واحدة فردة، بحديث ابن عمر هذا، وبحديثه الآتي بعد ذلك، وبحديث عائشة السابق في باب صلاة الليل يسلم من كل ركعتين ويوتر بواحدة، فإنه يدخل فيه الركعتان اللتان قبل الأخيرة، فهو كالنص في موضع النزاع، وبحديث أبي أيوب الآتي في الفصل الثاني، وبحديث ابن عباس عند مسلم: الوتر ركعة من آخر الليل، وبحديث القاسم بن محمد عن عائشة أن النبي ? أوتر بركعة. رواه الدارقطني وإسناده صحيح، وبما روى الطحاوي من طريق سالم بن عبدالله بن عمر عن أبيه أنه كان يفصل بين شفعه ووتره بتسليمة، وأخبر أن النبي ? كان يفعله. قال الحافظ في الفتح: وإسناده قوي، ذ1كره في التلخيص (ص117) بلفظ: أن النبي ? كان يفصل بين الشفع والوتر، ثم قال رواه أحمد وابن حبان وابن السكن في صحيحهما، والطبراني من حديث إبراهيم الصائغ عن نافع عن ابن عمر به، وقواه أحمد. قال في الفتح: ولم يعتذر الطحاوي عنه إلا باحتمال أن يكون المراد بقوله بتسليمة أي التسليمة

(5/486)


التي في التشهد، ولا يخفى بعد هذا التأويل- انتهى. وحديث ابن عباس أن النبي ? أوتر بركعة، رواه ابن حبان من طريق كريب، ذكره في التلخيص، وفي هذه الأحاديث رد على ابن الصلاح فيما قال: لا نعلم في روايات الوتر مع كثرتها أنه عليه السلام أوتر بواحدة فحسب، وذهب أبوحنيفة إلى أن الوتر ثلاث ركعات موصولة بتشهدين وتسليمة واحدة لا أقل منها ولا أكثر، فالوتر عنده كصلاة المغرب يجلس في الثانية ثم يقوم دون تسليم ويأتي بالثالثة ثم يجلس ويتشهد ويسلم. واستدل له بالأحاديث التي تدل على الإيتار بثلاث ركعات، كحديث عائشة أن رسول الله ? كان لا يسلم في ركعتي الوتر. أخرجه النسائي والحاكم (ج1 ص304) والدارقطني والبيهقي (ج3 ص31) بإسناد حسن، وكحديث أبي بن كعب عند النسائي بلفظ: يوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد، لا يسلم إلا في آخرهن. وقد بين في عدة طرق أن السور الثلاث بثلاث ركعات، وكحديث ابن أبزى عند النسائي أيضا نحوه. وفيه أن هذه الأحاديث ليس فيها ما يدل على الحصر في الإيتار بالثلاث، وأنه لا يجوز أقل منها ولا أكثر، وليس فيها تصريح الجلوس في الركعة الثانية، بل في رواية عائشة عند الحاكم (ج1 ص304) على ما نقله الحافظ في الفتح والتلخيص، والزرقاني في شرح المواهب اللدنية، والذهبي في تلخيص المستدرك، وقد صوب ذكرها النيموني في تعليق التعليق، وذكرها أيضا البيهقي (ج3 ص31) نفي الجلوس في الثانية. ولفظها: كان النبي ? يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن، وكذا ينفيه حديث النهي عن التشبه بصلاة المغرب، ولم أجد حديثا مرفوعا صحيحا صريحا في إثبات الجلوس في الركعة الثانية عند الإيتار بثلاث. واستدل له أيضا بحديث النهي عن البتيراء، وسيأتي الجواب عنه. قال الحافظ في الفتح: وحمل الطحاوي قول عائشة: يسلم من كل ركعتين ويوتر ركعتين ويوتر بواحدة ومثله على أن الركعة مضمومة إلى الركعتين قبلها ولم يتمسك في دعوى

(5/487)


ذلك إلا بالنهي عن البتيراء. أخرجه ابن عبدالبر في التمهيد عن عبدالله بن محمد يوسف نا أحمد بن محمد بن إسماعيل بن الفرج نا أبي نا الحسن بن سليمان قبطية نا عثمان بن محمد بن ربيعة بن أبي عبدالرحمن نا عبدالعزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد أن النبي ? نهى عن البتيراء أن يصلي الرجل واحدة يوتر بها. وأجيب عنه بوجوده: أحدها أنه حديث ضعيف، فإن في سنده عثمان ابن محمد. قال عبدالحق في أحكامه بعد ذكره من جهة ابن عبدالبر: الغالب على حديث عثمان بن محمد بن ربيعة الوهم. وقال ابن قطان في كتاب الوهم والإيهام: هذا حديث شاذ لا يعرج عليه ما لم يعرف العدالة رواته، وعثمان بن محمد بن ربيعة الغالب على حديثه الوهم. والثاني أن معارض بما رواه ابن ماجه والطحاوي ومحمد بن نصر من طريق الأوزاعي عن المطلب بن عبدالله المخزومي أن رجلا سأل ابن عمر عن الوتر، فأمره بثلاث يفصل بين شفعه ووتره
متفق عليه.
1263-(2) وعنه، قال: قال رسول الله ?: ((الوتر ركعة من آخر الليل)). رواه مسلم.
1264-(3) وعن عائشة، قالت ((كان رسول الله ? يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من
ذلك بخمس،

(5/488)


بتسليمة، فقال الرجل: إني أخاف أن يقول الناس هي البتيراء، فقال ابن عمر: هذه سنة الله ورسوله، فهذا يدل على أن الوتر بركعة بعد ركعتين قد وجد من النبي ?. والثالث أنه معارض بحديث أبي أيوب الآتي بلفظ: من أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل. والرابع أن البتيراء فسره ابن عمر بعدم إتمام الركوع والسجود، هكذا أخرجه البيهقي في المعرفة بسنده عن محمد بن إسحاق عن زيد بن أبي حبيب عن أبي منصور مولى سعد بن أبي وقاص قال: سألت عبدالله بن عمر عن وتر الليل فقال: يا بني هل تعرف وتر النهار؟ قلت: نعم، هو المغرب، قال: صدقت، ووتر الليل بواحدة، بذلك أمر رسول الله ? فقلت: يا أبا عبدالرحمن، إن الناس يقولون هي البتيراء؟ قال: يا بني ليست تلك البتيراء، إنما البتيراء أن يصلي الرجل الركعة، يتم ركوعها وسجودها وقيامها، ثم يقوم في الأخرى ولا يتم لها ركوعا ولا سجودا ولا قياما فتلك البتيراء- انتهى. وقال ابن حزم في المحلى (ج3 ص48): ولم يصح عن النبي ? نهي عن البتيراء ولا في الحديث على سقوطه بيان ماهي البتيراء، وقد روينا من طريق عبدالرزاق عن سفيان بن عيينة عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: الثلاث بتيراء، يعني في الوتر، فعادت البتيراء على المحتج بالخبر الكاذب فيها- انتهى. وقال النووي في الخلاصة: حديث محمد بن كعب القرظي في النهي عن البتيراء ضعيف ومرسل- انتهى. والحق عندي أن الأمر في ذلك واسع، فيجوز الإيتار بركعة واحدة فردة، وبثلاث مفصولة وموصولة، لكن بقعدة واحدة، وبخمس وبسبع وبتسع، وكل ذلك ثابت بالأحاديث الصحيحة الثابتة، وارجع إلى المحلى (ج3 ص42- 48). (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص21، 22) وغيرهم.

(5/489)


1263- قوله: (الوتر ركعة) هذا نص في مشروعية الإيتار بركعة واحدة، وأن أقل الوتر ركعة. قال الطيبي: أي منشأة. (من آخر الليل) يعني آخر وقتها آخر الليل أو وقتها المختار بعض أجزاء آخر الليل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص22) وأخرجه ابن ماجه بلفظ: ركعة قبل الصبح.
1264- قوله: (يصلي من الليل) أي بعضه، كما قاله الطيبي. (ثلاث عشرة ركعة) ثمان ركعات منها بأربع تسليمات. (يوتر من ذلك) أي من مجموع ثلاث عشرة أو من ذلك العدد المذكور. (بخمس) أي يصلي خمس ركعات
لا يجلس في شيء إلا في آخرها)).

(5/490)


بنية الوتر. (لا يجلس في شيء) أي للتشهد. (إلا في آخرها) أي لا يجلس في ركعة من الركعات الخمس إلا في آخرهن، وفيه دليل على مشروعية الإيتار بخمس ركعات بقعدة واحدة، وهذا أحد أنواع إيتاره ?، كما أن الإيتار بواحدة أحدها كما أفاده حديثها السابق في باب صلاة الليل، وعلى أن القعود على آخر كل ركعتين غير واجب، ففيه رد على من قال بتعيين الثلاث، وبوجوب القعود بعد كل من الركعتين. قال الترمذي: وقد رأى بعض أهل العلم من أصحاب النبي ? وغيرهم الوتر بخمس، وقالوا لا يجلس في شيء منهن إلا في آخرهن، وروى محمد بن نصر في قيام الليل عن إسماعيل بن زيد أن زيد بن ثابت كان يوتر بخمس ركعات لا ينصرف فيها. (أي لا يسلم). وقال الشيخ سراج أحمد السر هندي في شرح الترمذي: وهو مذهب سفيان الثوري، وبعض الأئمة- انتهى. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: وهو الظاهر من كلام الشافعي ومذهبه، فقد حكى الربيع بن سليمان في (اختلاف مالك والشافعي) الملحق بكتاب الأم (ج7 ص189) أنه سأل الشافعي عن الوتر بواحدة ليس قبلها شيء فقال الشافعي/ نعم، والذي اختار أن أصلي عشر ركعات ثم أوتر بواحدة. ثم حكى الحجة عنه في ذلك، ثم قال قال الشافعي: وقد أخبرنا عبدالمجيد عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي ? كان يوتر بخمس ركعات لا يجلس ولا يسلم إلا في الآخرة منهن. فقلت للشافعي: فما معنى هذا؟ قال: هذه نافلة يسع أن يوتر بواحدة وأكثر، ونختار ما وصفت من غير أن نضيق غيره، وانظر المجموع للنووي (ج4 ص12، 13) فقد رجح جواز هذا لدلالة الأحاديث الصحيحة عليه- انتهى. والحديث مشكل على الحنفية جدا، فإنهم قالوا بوجوب القعود والتشهد بعد كل من الركعتين في الفرض والنفل جميعا، وأجابوا عنه بوجوه كلها مردودة باطلة، أحدها: أن المعنى لا يجلس في شيء للسلام بخلاف ما قبله من الركعات، ذكره القاري. وقد رده صاحب البذل حيث قال: وفيه نظر؛ لأن الحنفية قائلون

(5/491)


بأن الوتر ثلاث لا يجوز الزيادة عليها، فإذا صلى خمس ركعات، فإن نوى الوتر في أول التحريمة لا يجوز ذلك؛ لأن الزيادة على الثلاث ممنوعة، وإن نوى النفل في أول التحريمة لا يؤدي الوتر بنية النفل، وإن قيل: إنها كانت في ابتداء الإسلام ثم استقر الأمر على أن الوتر ثلاث ركعات فينافيه ما سيأتي من حديث زرارة بن أوفي عند داود: فلم تزل تلك صلاة رسول الله ? حتى بدن، فنقص من التسع ثنتين، فجعلها إلى الست والسبع وركعتيه وهو قاعد حتى قبض على ذلك. وثانيها: أن المنفي جلسة الفراغ والاستراحة أي لا يجلس في شيء من الخمس جلسة الفراغ والاستراحة إلا في آخرها أي بعد الركعة الآخرة، يعني بعد الفراغ منها، وكانت الركعتان نافلتي الوضوء أو غيرها والثلاثة وترا. وفيه أن تخصيص الجلوس المنفي بجلوس الاستراحة
وفي نسخة "الأخيرة"
متفق عليه.
1265-(4) وعن سعد بن هشام،

(5/492)


والفراغ يحتاج إلى دليل، وإذ لا دليل على ذلك فهو مردود على قائله، على أن قوله: إلا في آخرهن يدل على وجود الجلوس في آخر الركعات الخمس، بناء على أن "في" للظرفية، وهي تقتضي تحقق الجلوس داخل الصلاة لا خارجها، وعلى أن الأصل في الاستثناء الاتصال، وهذا ينافي كون المراد بالجلوس المنفي جلسة الفراغ. وثالثها: أن المعنى لم يكن يصلي من تلك الخمس جالسا إذ قد ورد أنه كان يصلي قائما وقاعدا، وعلى هذا فالمنفي من الجلوس هو الجلوس مقام، والاستثناء في قوله: إلا في آخرهن منقطع، كما في الوجه الثاني والمعنى لا يصلي جالسا إلا بعد أن يفرغ من الخمس. وهذا أيضا مردود لما تقدم آنفا. ورابعها: أن المراد بقوله: آخرهن الركعتان الأخيرتان، فالثلاثة الأول من الخمس وتر والركعتان بعده هما اللتان كان يصليهما النبي ? جالسا بعد الوتر، والمعنى لم يكن يصلي شيئا من تلك الخمس جالسا إلا الركعتين الأخيرتين منها، وعلى هذا فالاستثناء متصل. وفيه أن هذا يرده قوله: يوتر من ذلك بخمس؛ لأنه يدل على أن الركعات الخمس كلها ركعات الوتر، ويبطله أيضا رواية الشافعي بلفظ: كان يوتر بخمس ركعات لا يجلس ولا يسلم إلا في الآخرة منها، ورواية أبي داود: يوتر منها بخمس لا يجلس في شيء من الخمس حتى يجلس في الآخرة فيسلم، وهذا ظاهر. وخامسها: أن المراد بآخرهن الركعة الأخيرة والمنفي بالجلوس الجلوس الخاص وهو الذي فيه تشهد بلا تسليم، فالمعنى لا يجلس بهذه المثابة إلا في ابتداء الركعة الأخيرة. وأما الجلوس بعد الركعتين فهو على المعروف المتبادر يعني مع التسليم. وهذا أيضا مردود يرده رواية الشافعي وأبي داود، كما لا يخفي، وهذه الوجوه كلها تحريف للحديث الصحيح وإبطال لمؤاده، واستهزاء بالسنة الثابتة الظاهرة وتحيل لدفعها، وهي تدل على شدة تعصب أصحابها وغلوهم في تقليد غير المعصوم، بل على بغضهم للسنة، ذكرناها مع كونها أضاحيك ليعتبر بها أولوا الألباب

(5/493)


والبصائر. (متفق عليه) فيه نظر؛ لأن قوله: يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها، ليس عند البخاري، بل هو من أفراد مسلم، وكان المصنف قلد في ذلك الجزري وصاحب المنتقى والمنذري حيث نسبوا هذا السياق إلى الشيخين، والعجب من الحافظ أنه قال بعد ذكره في بلوغ المرام: متفق عليه مع أنه عزاه في التلخيص (ص116) لمسلم فقط، اللهم إلا أن يقال: إنهم أرادوا بذلك أن أصل الحديث متفق عليه لا السياق المذكور بتمامه، ولا يخفى ما فيه، والحديث أخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص27، 28) وغيرهم، وفي الإيتار بخمس أحاديث كثيرة، ذكرها الشوكاني في النيل.
1265- قوله: (وعن سعد) بسكون عين مهملة. (بن هشام) بن عامر الأنصاري المدني، ابن عم أنس
قال: انطلقت إلى عائشة، فقلت: يا أم المؤمنين! أنبئيني عن خلق رسول الله ? قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قالت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن. قلت: يا أم المؤمنين! أنبئيني عن وتر رسول الله ?. فقالت: كنا نعد له سواكه وطهوره، فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك، ويتوضأ، ويصلي تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله، ويحمده، ويدعوه، ثم ينهض، ولا يسلم، فيصلي التاسعة، ثم يقعد، فيذكر الله، ويحمده، ويدعوه، ثم يسلم تسليما يسمعنا،

(5/494)


ثقة من أوساط التابعين. قال في التقريب: استشهد بأرض الهند. وفي تهذيب التهذيب ذكر البخاري: أنه قتل بأرض مكران على أحسن أحواله. قال أبوبكر الحازمي: مكران بضم الميم، بلدة بالهند. وذكره ابن حبان في الثقات: وقال قتل بأرض مكران غازيا. (أنبئيني) وقال في رواية: حدثيني، يعني أخبريني. (عن خلق رسول الله ?) بضمتين، وقد يسكن الثاني أي أخلاقه وشمائله وعاداته. (فإن خلق نبي الله ? كان القرآن) أي كان متمسكا بآدابه وأوامره ونواهيه ومحاسنه، ويوضحه أن جميع ما فصل في كتاب الله من مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب مما قصه عن نبي أو ولي أو حث عليه أو ندب إليه أو ذكر بالوصف الأتم والنعت الأكمل كان ? متحليا به ومتوليا له ومتخلقا به وبالغا فيه من المراتب أقصاها، حتى جمع له من ذلك ما تفرق في سائر الخلائق، وكل ما نهى الله تعالى عنه فيه ونزه كان ? لا يحوم حوله، ويبين ذلك قوله ?: بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. قال النووي: معناه العمل بالقرآن والوقوف عند حدود والتأدب بآدابه والاعتبار بأمثاله وقصصه وتدبره وحسن تلاوته-انتهى. وفيه إشارة إلى قوله تعالى. ?إنك لعلى خلق عظيم? [4:68]. (عن وتر رسول الله) أي عن وقته وكيفيته وعدد ركعاته. (كنا نعد) من الإعداد أي نهيئ. (له سواكه وطهوره) بالفتح أي ماء وضوئه، وفيه استحباب ذلك والتأهب بأسباب العبادة قبل وقتها والاعتناء بها. (فيبعثه الله) أي يوقظه. (ما شاء أن يبعثه) أي في الوقت المقدر الذي شاء بعثه فيه. وفي رواية: فيبعثه الله متى شاء أن يبعثه من الليل. (من الليل) أي من ساعات الليل وأوقاته، فمن تبعيضية، وقيل: بيانيه. (فيتسوك) أولا. (ويتوضأ) فيه استحباب السواك عند القيام من النوم. (ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة) الخ. فيه مشروعية الإيتار بتسع ركعات متصلة لا يسلم إلا في آخرها، ويقعد في الثامنة ولا يسلم. (فيذكر الله) أي يقرأ التشهد. (ويحمده) أي يثني عليه. قال

(5/495)


الطيبي: أي يتشهد، فالحمد إذا لمطلق الثناء، إذ ليس في التحيات لفظ الحمد. (ويدعوه) أي الدعاء المتعارف. (ثم ينهض) أي يقوم. (ثم يسلم تسليما يسمعنا) من الإسماع أي يرفع صوته بالتسليم بحيث نسمعه، وفيه دليل على
ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني! فلما أسن صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ اللحم، أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعه في الأولى، فتلك تسع يا بني! وكان نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها،

(5/496)


عدم وجوب الجلسة عند الركعتين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي ثمانيا متصلا بلا تخلل جلسات بينها على الشفعات، وهذا مخالف للحنفية لما تقدم أنهم قالوا بوجوب الجلسة للتشهد عند كل ركعتين، وأجابوا بأن المراد بالجلسة المنفية الجلسة الخالية عن السلام، قالوا: فالوتر منها ثلاث ركعات ست قبله من النفل. قال العيني وهذا اقتصار منها على بيان جلوس الوتر وسلامه؛ لأن السائل إنما سأل عن حقيقة الوتر ولم يسأل عن غيره، فأجابت مبينة بما في الوتر من الجلوس على الثانية بدون سلام، والجلوس أيضا على الثالثة بسلام، وسكتت عن جلوس الركعات التي قبلها وعن السلام فيها، كما أن السؤال لم يقع عنها فجوابها قد طابق سؤال السائل-انتهى. ولا يخفى ما فيه فإنه لا دليل على حمل الجلوس المنفي على الجلسة الخالية عن السلام. فالحديث ظاهر بل هو كالنص في نفي الجلوس قبل الثامنة، ونفي السلام قبل التاسعة مطلقا، وأنها كانت كلها بجلستين وسلام واحد، وهذا أحد أنواع إيتاره صلى الله عليه وسلم. (ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد) فيه مشروعية ركعتين بعد الوتر عن جلوس، ويدل عليه أيضا حديث أم سلمة وحديث أبي أمامة الآتيان في الفصل الثالث. وقد ذهب إليه بعض أهل العلم: وجعل الأمر في قوله الآتي: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا. مختصا بمن أوتر آخر الليل. وحمله النووي على أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لبيان جواز النفل بعد الوتر وجواز التنفل جالسا، يعني أن الأمر فيه أمر ندب لا إيجاب، فلا تعارض بينهما. وقال الشوكاني: لا يحتاج إلى الجمع بينهما باعتبار الأمة؛ لأن الأمر يجعل آخر صلاة الليل وترا مختص بهم، وأن فعله ? لا يعارض القول الخاص بالأمة، لاختصاص فعله للركعتين بعد الوتر بذاته ?، وأما الجمع باعتباره ? فهو أن يقال: إنه كان يصلي الركعتين بعد الوتر تارة ويدعهما تارة-انتهى. والراجح عندي ما ذهب إليه النووي أن الأمر في قوله اجعلوا الخ. للندب

(5/497)


لا للإيجاب. (فلما أسن) أي كبر. (وأخذ اللحم) وفي بعض نسخ مسلم: أخذه اللحم. قيل: أي السمن. وقال ابن الملك: أي ضعف قال ابن حجر: إنما كان في آخر حياته قبل موته بنحو سنة. (أوتر بسبع وصنع في الركعتين مثل صنعيه في الأولى) يعني صلاهما قاعدا، كما كان يصنع قبل أن يسن. وفي رواية: فلما أسن وأخذه اللحم أوتر بسبع ركعات لم يجلس إلا في السادسة والسابعة ولم يسلم إلا في السابعة. (فتلك تسع) فنقص ركعتين من التسع لأجل الضعف. (وكان نبي الله ? إذا صلى صلاة) أي من النوافل. (أحب أن يداوم عليها)؛ لأن أحب الأعمال عنده صلى الله عليه وسلم
وكان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل، صلى من النهار ثنتى عشرة ركعة، ولا أعلم نبي الله ? قرأ القرآن كله في ليلة، ولا صلى ليلة إلى الصبح، ولا صام شهرا كاملا غير رمضان)) رواه مسلم.
1266- (5) وعن ابن عمر، عن النبي ?، قال: ((اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا))
أدومها. (وكان إذا غلبه نوم أو وجع) أي منعه مرض أو ألم. (عن قيام الليل صلى بالنهار) أي في أوله ما بين طلوع الشمس إلى الزوال. (ثنتي عشرة ركعة) قيل: ثمان منها صلاة الليل وأربع صلاة الضحى، وفيه استحباب المحافظة على الأوراد وإنها إذا فاتت تقضى. (ولا صلى ليلة) تامة من أولها إلى آخرها. (إلى الصبح) قيل: هذا محمول على علمها، وإلا فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم أحيا ليلة كله صلى فيه حتى الفجر، فقد أخرج النسائي في باب إحياء الليل عن خباب بن الأرت أنه راقب رسول الله ? في ليلة صلاها رسول الله ? كلها حتى كان مع الفجر-الحديث. (ولا صام شهرا كاملا غير رمضان) لا ينافيه ما روى أنه ? كان يصوم شعبان كله؛ لأن المراد أنه كان يصوم أكثره. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص30، ج2: ص500).

(5/498)


1266- قوله: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل) أي تهجدكم فيه. (وترا) أي اجعلوا صلاة الوتر في آخرها واستدل به على أنه لا صلاة بعد الوتر. وقد اختلف السلف في ذلك في موضعين: أحدهما في مشروعية ركعتين بعد الوتر جالسا، والثاني فيمن أوتر ثم أراد أن يتنفل في الليل، هل يكتفي بوتره الأول وليتنفل ما شاء، أو يشفع وتره بركعة ثم يتنفل ثم إذا فعل ذلك يحتاج إلى وتر آخر أولا، فأما الأول فقد تقدم الكلام فيه. وأما الثاني فذهب الأكثر وهم الأئمة الأربعة، والثوري وابن المبارك وغيرهم إلى أنه يصلي شفعا ما أراد ولا ينقض وتره عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: لا وتران في ليلة، وهو حديث حسن. أخرجه أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان من حديث طلق بن علي، وجعل هؤلاء الأمر في حديث ابن عمر للندب، وذهب بعض أهل العلم إلى جواز نقض الوتر، وقالوا: يضيف إليها أخرى ويصلي ما بدأ له، ثم يوتر في آخر صلاته، والأول هو الراجح عندي. قال الترمذي: واختلف أهل العلم في الذي يوتر من أول الليل ثم يقوم من آخره، فرأى بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم نقض الوتر، وقالوا يضيف إليها ركعة ويصلي ما بدا له ثم يوتر في آخر صلاته؛ لأنه لا وتران في ليلة، وهو الذي ذهب إليه إسحاق، وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي ? وغيرهم: إذا أوتر من أول الليل ثم نام ثم قام من
رواه مسلم.
1267- (6) وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((بادروا الصبح بالوتر))

(5/499)


آخره أنه يصلي ما بدا له ولا ينقض وتره، ويدع وتره على ما كان، وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس وأحمد وابن المبارك، وهذا أصح؛ لأنه قد روي من غير وجه أن النبي ? قد صلى بعد الوتر-انتهى. وقد بسط الشيخ الكلام في هذه المسألة في شرح الترمذي وقال: هذا أي عدم نقض الوتر هو المختار عندي، ولم أجد حديثا مرفوعا صحيحا يدل على ثبوت نقض الوتر-انتهى. واستدل بهذا الحديث لأبي حنيفة على وجوب الوتر بأن اجعلوا صيغة الأمر، وأصل الأمر للوجوب وأجيب عنه من ثلاثة وجوه. الوجه الأول: أن أصل الأمر وإن كان للوجوب. لكنه إذا وجدت قرينة صارفة عن الوجوب يحمل على غير الوجوب، وقد صرح علماء الحنفية بأن صيغة "اجعلوا" في هذا الحديث ليست للوجوب. قال القاري: في المرقاة. اجعلوا أمر ندب، وكذا قال صاحب البذل (ج2:ص332) ولو سلم أن "اجعلوا" في هذا الحديث للوجوب فهو إنما يدل على وجوب جعل الوتر آخر صلاة الليل، أي إذا صليتم بالليل فعليكم أن تصلوا الوتر في آخر صلاة الليل لا في أولها ولا في وسطها، والحاصل أنه يدل على وجوب جعل آخر الصلاة بالليل وترا، لا على وجوب نفس الوتر، والمطلوب هذا لا ذاك، فالاستدلال به على وجوب الوتر غير صحيح. الوجه الثاني: أن صلاة الليل ليست بواجبة، فكذا آخرها. قال الحافظ في الفتح: قد استدل به بعض من قال بوجوبه، وتعقب بأن صلاة الليل ليست واجبة، فكذا آخرها، وبأن الأصل عدم الوجوب حتى يقول دليله-انتهى. الوجه الثالث: أنه لو ثبت من هذا الحديث وجوب الوتر لقال به ابن عمر، وأفتى به من غير تأمل وتردد، لكنه لما استفتى عنه لم يزد في فتياه على أن يقول: أوتر رسول الله ? وأوتر المسلمون، كما سيأتي. (رواه مسلم) الحديث ليس من أفراد مسلم بل هو متفق عليه، فقد أخرجه البخاري في باب ليجعل آخر صلاته وترا من أبواب الوتر. وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3:ص34).

(5/500)


1267- قوله: (بادروا الصبح بالوتر) أي عجلوا بأداء الوتر قبل طلوع الصبح. قال الطيبي: بادروا أي سارعوا كان الصبح مسافر يقدم إليك طالبا منك الوتر وأنت تستقبله مسرعا بمطلوبه وإيصاله إلى بغيته. وفي حديث أبي سعيد عند مسلم وغيره: أوتروا قبل أن تصبحوا أي تدخلوا في الصبح، وهو دليل على أن الوتر قبل الصبح وأنه إذا طلع الفجر خرج وقت الوتر، وسيأتي الكلام فيه، وقد استدل بهذا الحديث على وجوب الوتر. قال القاري في شرحه: أي أسرعوا بأداء الوتر قبل الصبح، والأمر للوجوب عندنا-انتهى. وأجيب عنه بأنه إنما
رواه مسلم.
1268- (7) وعن جابر، قال: قال رسول الله ?: ((من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر
أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك
أفضل)) رواه مسلم.
1269- (8) وعن عائشة، قالت: ((من كل الليل أوتر رسول الله ?: من أول الليل، وأوسطه
وآخره،
يدل على وجوب الإيتار قبل طلوع الصبح لا على وجوب نفس الإيتار، والمطلوب هذا لا ذاك، فالاستدلال به على وجوب الوتر باطل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الترمذي وأبودواد ومحمد بن نصر والحاكم (ج1: ص301) والبيهقي (ج1: ص478).

(6/1)


1268- قوله: (من خاف أن لا يقوم من آخر الليل) قال ابن الملك: "من" فيه للتبعيض أو بمعنى في. وفي رواية: من خشي منكم أن لا يستيقظ من آخر الليل. (فليوتر أوله) أن ليصل الوتر في أول الليل. (ومن طمع أن يقوم آخره) بالنصب على نزع الخافض، أي في آخره بأن يثق بالانتباه. وفي رواية: ومن وثق بقيام من آخر الليل. (فان صلاة آخر الليل مشهودة) أي محضورة تحضره ملائكة الرحمة. وقال الطيبي: أي يشهدها ملائكة الليل والنهار. (وذلك) أي الإيتار في آخر الليل. (أفضل) فثوابه أكمل. وفي رواية: فإن قراءة القرآن في آخر الليل محضورة وهي. (أي قراءة القرآن في آخر الليل) أفضل. وفي الحديث دلالة على أن تأخير الوتر أفضل، ولكن إن خاف أن لا يقوم قدمه لئلا يفوته فعلا، وقد ذهب جماعة من السلف إلى هذا وإلى هذا وفعل كل بالحالين، ويحمل الأحاديث المطلقة التي فيها الوصية بالوتر قبل النوم والأمر به على من خاف النوم عنه. قال النووي: فيه دليل صريح على أن تأخير الوتر إلى آخر الليل أفضل لمن وثق بالاستيقاظ آخر الليل، وأن من لا يثق بذلك فالتقديم له أفضل، وهذا هو الصواب، ويحمل باقي الأحاديث المطلقة على هذا التفصيل الصحيح الصريح-انتهى. وقد استدل بهذا الحديث على وجوب الوتر. قال القاري: أمره بالإتيان عند خوف الفوت يدل على وجوبه-انتهى. وأجيب بأنه يحتمل أن يكون أمره بالإتيان عند خوف الفوت لمزيد تأكده لا لوجوبه، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص35).
1269- قوله: (من كل الليل) قال الطيبي: "من" ابتدائية منصوبة بقوله: (أوتر) أي أوتر من كل أجزاء الليل. وقيل: "من" بمعنى في، أي في جميع أوقات الليل أوتر وقولها: (من أول الليل وأوسطه وآخره)
وانتهى وتره إلى السحر)) متفق عليه.

(6/2)


يدل أو بيان، والمراد أجزاء كل من الثلاثة الأقسام المستغرقة لليل فساوت ما قبلها، ثم المراد بأول الليل بعد صلاة العشاء، كما سيأتي. (وانتهى وتره) زاد أبوداود والترمذي حين مات أي قبل وفاته ?. (إلى السحر) بفتح السين، وهو قبيل الصبح، وحكي الماوردي أنه السدس الأخير من الليل. وقيل: أوله الفجر الأول يعني اختار آخر العمر الوتر في آخر الليل، فهو أحب. قال النووي: معناه كان آخر أمره الإيتار في السحر، والمراد به آخر الليل كما قالت في الروايات الأخرى، ففيه استحباب الإيتار آخر الليل، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة عليه. قال: وفيه جواز الإيتار في جميع أوقات الليل بعد دخول وقته-انتهى. ويدل عليه أيضا حديث جابر وحديث ابن عمر السابقان وحديث علي عند ابن ماجه بنحو حديث عائشة، وحديث أبي مسعود عند أحمد والطبراني بلفظ: إن النبي ? كان يوتر من أول الليل وأوسطه وآخره. قال العراقي: إسناده صحيح. وقال الهيثمي: رجاله ثقات. وحديث عبدالله بن قيس عند أبي داود، وحديث أبي موسى وعقبة بن عمرو عند الطبراني في الكبير، وحديث أبي قتادة عند أبي داود، وحديث أبي هريرة عند البزار والطبراني، وحديث عقبة بن عامر عند الطبراني أيضا، وهذه الأحاديث كلها بيان لوقت الوتر وأنه الليل كله لكن بعد مغيب الشفق من بعد صلاة العشاء إذ لم ينقل أنه ? أوتر في الوقت الذي قبل صلاة العشاء، وقد دل عليه صريحا حديث خارجة بن حذافة الآتي حيث قال: الوتر جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر. قال الشوكاني: أحاديث الباب تدل على أن جميع الليل وقت الوتر إلا الوقت الذي قبل صلاة العشاء، ولم يخالف في ذلك أحد لا أهل الظاهر ولا غيرهم، إلا ما ذكر في وجه لأصحاب الشافعي أنه يصح قبل العشاء، وهو وجه ضعيف صرح بذلك العراقي وغيره، وقد حكي صاحب المفهم الإجماع على أنه لا يدخل وقت الوتر إلا بعد صلاة العشاء-انتهى. وقال الحافظ: أجمعوا على أن ابتداء وقت

(6/3)


الوتر مغيب الشفق بعد صلاة العشاء، كذا نقله ابن المنذر لكن أطلق بعضهم (يعني أبا حنيفة فإن أول وقت الوتر عنده وقت العشاء إلا أنه لا يقدم عليه عند التذكر. وقال النووي: وفي وجه في مذهبنا أنه يدخل بدخول وقت العشاء) أنه يدخل بدخول العشاء قالوا ويظهر أثر الخلاث فيمن صلى العشاء، بأن أنه كان بغير طهارة ثم صلى الوتر متطهرا أوظن أنه صلى العشاء فصلى الوتر فإنه يجزئ على هذا القول دون الأول-انتهى. قلت: واختلفوا فيمن صلى العشاء قبل وقته في جمع التقديم هل يجوز له الوتر قبل مغيب الشفق أم لا؟ فقال الشافعية والحنابلية: يصح وتره، كما صرح به أصحاب فروعهم. وقالت المالكية: لا يصح بل يكون لغوا، كما صرح به في الشرح الكبير من فروع المالكية. وأما عند الحنفية فلا يصح العشاء بجمع التقديم فالوتر أولى أن لا يصح عندهم. وأما آخر وقت الوتر فهو إلى طلوع الفجر الثاني، وبعد طلوع الفجر يكون قضاء، وهو المشهور المرجح الصحيح عند الأئمة
1270- (9) وعن أبي هريرة، قال: ((أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام))

(6/4)


الثلاثة الشافعي وأحمد وأبي حنيفة، وعند المالكية للوتر وقتان: وقت اختيار، وهو إلى طلوع الفجر، ووقت ضرورة، وهو إلى تمام صلاة الصبح. ويكره تأخيره لوقت الضرورة بلا عذر، ويندب قطع صلاة الصبح للوتر لفذ لا لمؤتم، وفي الإمام روايتان. قال الحافظ: وحكى ابن المنذر عن جماعة من السلف أن الذي يخرج بالفجر وقته الاختياري، ويبقى وقت الضرورة إلى قيام صلاة الصبح، وحكاه القرطبي عن مالك والشافعي وأحمد، وإنما قاله الشافعي في القديم-انتهى. والقوال الراجح عندي أن ابتداء وقته مغيب الشفق بعد صلاة العشاء إلا في جمع التقديم، فيصح قبل الشفق بعد العشاء، وينتهي لطلوع الفجر الثاني، وبعد طلوع الفجر يكون قضاء لا أداء كما يدل الأحاديث التي أشرنا إليها. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، لكن عنده "قد أوتر" أي بزيادة قد قبل أوتر، وأيضا عنده "فانتهى" بدل وانتهى. والحديث أخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص35).

(6/5)


1270- قوله: (أوصاني) أي عهد إلي وأمرني أمرا مؤكدا. (خليلي) يعني رسول الله ?، والخليل الصديق الخالص الذي تخللت محبته القلب فصارت في خلاله أي في باطنه. واختلف هل الخلة أرفع من المحبة أو بالعكس، وقول أبي هريرة هذا لا يعارضه قوله ?: لو كنت متخذا خليلا غير بي لأتخذت أبابكر؛ لأن الممتنع هو أن يتخذ هو ? غيره تعالى خليلا، ولا يمتنع إتخاذ الصحابي وغيره النبي ? خليلا. (بثلاث) أي خصال زاد في رواية: لا أدعهن حتى أموت. ولفظ أبي داود: لا أدعهن في فر ولا حضر (صيام ثلاثة أيام) أي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر. (من كل شهر) يعني أيام البيض هذا هو الظاهر. وقيل: يوما من أوله، ويوما من وسطه، ويوما من آخره. وقيل: كل يوم أول كل عشر، وصيام بالجر يدل من ثلاث. (وركعتي الضحى) أي في كل يوم كما زاده أحمد وهما أقلها، ويجزئان عن الصدقة التي تصبح على مفاصل الإنسان في كل يوم، وهي ثلاثمائة وستون مفصلا كما في حديث مسلم عن أبي ذر وقال فيه: ويجزئ عن ذلك ركعتا الضحى، وفيه استحباب الضحى، وأن أقلها ركعتان وعدم مواظبة النبي ? على فعلها لا ينافي استحبابها؛ لأن حاصل بدلالة القول وليس من شرط الحكم أن تتظافر عليه أدلة القول والفعل، لكن ما واظب النبي ? على فعله مرجح على ما لم يواظب عليه. (وأن أوتر قبل أن أنام) وفي رواية: ونوم على وتر، أي يكون النوم عقب الوتر لا قبله، لا أنه لا بد من نوم بعده، ولعله أوصاه بذلك؛ لأنه خاف عليه الفوت بالنوم، ففيه أن من خاف فوات الوتر
متفق عليه.
?الفصل الثاني?
1271- (10) عن غضيف بن الحارث، قال. ((قلت لعائشة: أرأيت رسول الله ? كان يغتسل من الجنابة في أول الليل أم في آخره؟ قالت: ربما اغتسل في أول الليل، وربما اغتسل في آخره، قلت: الله أكبر! الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة،

(6/6)


فالأفضل له التقديم ومن لا فالتأخير في حقه أفضل. قال الحافظ: لا معارضة بين وصية أبي هريرة بالوتر قبل النوم وبين قول عائشة: وانتهى وتره إلى السحر؛ لأن الأول لإرادة الاحتياط والآخر لمن علم من نفسه قوة، كما ورد في حديث جابر عند مسلم-انتهى. قال القسطلاني: وقد روي أن أبا هريرة كان يختار درس الحديث بالليل على التهجد، فأمره بالضحى بدلا عن قيام الليل، ولهذا عليه السلام أن لا ينام إلا على وتر، ولم يأمر بذلك أبا بكر ولا عمر ولا غيرهما من الصحابة، لكن قد وردت وصيته عليه الصلاة والسلام بالثلاث أيضا لأبي الدرداء، كما عند مسلم ولأبي ذر، كما عند النسائي، فقيل: خصصهم بذلك لكونهم فقراء لا مال لهم، فوصاهم بما يليق بهم وهو الصوم والصلاة، وهما من أشرف العبادات البدنية. وقال الحافظ: والحكمة في الوصية على المحافظة على ذلك تمرين النفس على جنس الصلاة والصيام، ليدخل في الواجب منهما بانشراح، ولنجبر ما لعله يقع فيه من نقص، وليثاب ثواب صوم الدهر بانضمام ذلك لصوم رمضان، إذ الحسنة بعشر أمثالها. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص36) وأخرجه الترمذي مختصرا بلفظ: أمرني رسول الله ? أن أوتر قبل أن أنام.

(6/7)


1271- قوله: (عن غضيف) بضم الغين وفتح ضاد معجمتين وياء ساكنة وآخره فاء. (بن الحارث) بن زنيم الثمالي، يكن أبا أسماء الحمصي تقدم ترجمته. قال المؤلف: أدرك النبي ?، وقد اختلف في صحبته وسمع أباذر وعمر وعائشة. (أرأيت) بكسر التاء أي أخبرني. (كان يغتسل) بتقدير حرف الاستفهام أي هل كان يغتسل. وقيل: معنى أرأيت على الاستفهام سواء كانت الرؤية بصرية أو علمية أي هل رأيت. (من الجنابة في أول الليل) أي على الفور بعد الفراغ من الجنابة أي دائما. (أم في آخره) أي يغتسل في آخر الليل يعني يؤخر الغسل إلى آخر الليل. (قالت) أي عائشة كانت له حالات مختلفة. (وربما اغتسل في آخره) أي جامع أوله واغتسل آخره تيسيرا على الأمة ولبيان الجواز. (قلت الله أكبر) استعظاما لشفقته على الأمة وتعجبا. (الحمد لله الذي جعل في الأمر) أي في أمر الشرع أو في هذا الأمر. (سعة) بفتح السين المهملة يعني جعل في الاغتسال سعة، بأن يغتسل متى شاء من الليل ولم يضيق عليه فيه بأن يغتسل على الفور، بل أباح لنا الأمرين وبين لنا نبيه ? ذلك بتقديم الغسل مرة وتأخيره أخرى. قال الطبي: دل على أن السعة من الله تعالى في التكاليف نعمة يجب تلقيها بالشكر، والله أكبر دل على أن تلك
قلت: كان يوتر أول الليل أم في آخره؟ قالت: ربما أوتر في أول الليل، وربما أوتر في آخره.
قلت: الله أكبر! الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، قلت: كان يجهر بالقراءة أم يخفت؟ قالت:
ربما جهر به، وربما خفت. قلت: الله أكبر! الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة)). رواه أبوداود.
وروى ابن ماجه الفصل الأخير.
1272-(11) وعن عبدالله بن أبي قيس، قال: ((سألت عائشة: بكم كان رسول الله ? يوتر؟ قالت: كان يوتر بأربع وثلاث، وست وثلاث، وثمان ثلاث، وعشر وثلاث،

(6/8)


النعمة عظيمة خطيرة لما فيه من معنى التعجب (قلت كان يوتر) أي أكان يوتر؟ وفي أبي داود: قلت أرأيت رسول الله ? كان يوتر. (أول الليل) أي في أوله. (ربما أوتر) أي صلى الوتر. (في أول الليل) وهو القليل الأسهل. (وربما أوتر في آخره) وهو الكثير الأفضل بحسب ما رأى فيه مصلحة الوقت، وتقدم قولها أنه انتهى وتره إلى السحر. (قلت كان) أي أكان. (يجهر بالقراءة) أي في صلاة الليل. وفي أبي داود: قلت: أرأيت رسول الله ? كان يجهر بالقرآن. (أم يخفت) أي يسر بها. (ربما جهر به، وربما خفت) أي في ليلتين أو في ليلة بحسب ما يناسب المقام والحال. وفيه دليل على أن المرء مخير في صلاة الليل، يجهر بالقراءة أو يسر. (رواه أبوداود) في باب الجنب يؤخر الغسل من كتاب الطهارة، وسكت عنه هو والمنذري. ورواه النسائي في الطهارة مقتصرا على الفصل الأول وكذا البيهقي (ج1 ص199). (وروى ابن ماجه الفصل الأخير) أي الفقرة الأخيرة من فقرات الحديث، وهو قوله: قلت أكان رسول الله ? يجهر بالقرآن؟ الخ. وأخرجه الترمذي وأبوداود والبيهقي أيضا عن عبدالله بن أبي قيس عن عائشة مطولا.
1272- قوله: (وعن عبدالله بن أبي قيس) ويقال ابن قيس، ويقال ابن موسى، والأول أصح، يكنى أبا الأسود النصري الحمصي مولى عطية بن عازب، ويقال ابن عفيف، روى عن مولاه وابن عمر وعائشة وغيرهم. قال في التقريب: ثقة مخضرم. وقال العجلي: تابعي ثقة. (بكم) أي ركعات. (كان رسول الله ? يوتر) أي يصلي صلاة الليل مع الوتر. (كان يوتر بأربع) أي ركعات بتسليمة أو بتسليمتين. (وثلاث) أي بتسليمة، كما هو الظاهر، فيكون سبعا، أربع منها صلاة الليل، وثلاث الوتر. (وست) أي وبست ركعات بتسليمتين أو بثلاث. (وثلاث) فيكون تسعا، ست منها صلاة الليل، وثلاث الوتر. (وثمان وثلاث) فيكون إحدى عشرة ركعة. (وعشر وثلاث) فيكون ثلاث عشرة ركعة. واعلم أن عائشة أطلقت في هذه الرواية على جميع صلاته ?

(6/9)


ولم يكن يوتر بأنقص من سبع، ولا بأكثر من ثلاث عشرة))، رواه أبوداود.
1273-(12) وعن أبي أيوب، قال: قال رسول الله ?: ((الوتر حق على كل مسلم،
في الليل التي كان فيها الوتر، وترا. وقد أطلقه غيرها أيضا. قال الترمذي بعد روايته حديث أم سلمة بلفظ: كان النبي ?يوتر بثلاث عشرة، فلما كبر وضعف أوتر بسبع، ما لفظه: وقد روي عن النبي ? الوتر بثلاث عشرة وإحدى عشرة وتسع وسبع وخمس وثلاث وواحدة. قال إسحاق بن إبراهيم. (يعني ابن راهوية): معنى ما روى أن النبي ? كان يوتر بثلاث عشرة، قال إنما معناه أنه كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة مع الوتر، فنسبت صلاة الليل إلى الوتر. (أي أطلق على صلاة الليل مع الوتر لفظ الوتر فمعنى يوتر بثلاث عشرة أي يصلي صلاة الليل مع الوتر ثلاث عشرة ركعة) وروي في ذلك حديثا. (كأنه يشير إلى حديث عبدالله بن أبي قيس هذا) ، واحتج بما روى عن النبي ? قال: أوتروا يا أهل القرآن، قال إنما عنى به قيام الليل يقول إنما قيام الليل، على أصحاب القرآن- انتهى. قلت: في إتيان عائشة بثلاث في كل عدد دلالة ظاهرة بأن الوتر في هذه الرواية في الحقيقة هو الثلاث، وما وقع قبله من مقدماته المسمى بصلاة التهجد. فالمراد بالوتر هنا صلاة الليل كلها. ويؤيده ما تقدم من حديث ابن عمر: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا. (ولم يكن يوتر) أي يصلي صلاة الليل مع الوتر. (بأنقص من سبع، ولا بأكثر من ثلاث عشرة) أي غالبا، وإلا فقد ثبت أنه أوتر بخمس عشرة. وهذا الاختلاف بحسب ما كان يحصل من اتساع الوقت وضيقه وطول القراءة، كما جاء في حديث حذيفة وابن مسعود، أو من نوم، أو من مرض وغيرهما، أوفي بعض الأوقات عند كبر السن، كما قالت: فلما أسن صلى أربع ركعات. والحاصل أن ذلك محمول على أوقات متعددة وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز، وبهذا يجمع بين ما اختلف الروايات عن عائشة. (رواه أبوداود) ومن طريقة البيهقي (ج3 ص28) ، وسكت عنه أبوداود

(6/10)


والمنذري، وأخرجه أيضا أحمد والطحاوي (ج1 ص168) وإسناده حسن.
1273- قوله: (الوتر حق) قال الطيبي: الحق يجيء بمعنى الثبوت والوجوب. فذهب أبوحنيفة إلى الثاني، والشافعي إلى الأول أي ثابت في الشرح والسنة. وفيه نوع تأكيد- انتهى. وقال السندي: قد يستدل به من يقول بوجوب الوتر بناء على أن الحق هو اللازم الثابت على الذمة. ويجيب من لا يرى الوجوب بأن معنى حق أنه مشروع ثابت-انتهى. وذكر المجد بن تيمية في المنتقى أن ابن منذر روى هذا الحديث بلفظ: الوتر حق، وليس بواجب. وهذا صريح في أن لفظ حق هنا بمعنى الثابت في الشرع لا الواجب، ولو سلم أنه بمعنى
فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة
فليفعل)).

(6/11)


واجب، بل ولو ورد لفظ واجب صريحا، لم يكن فيه حجة لمن يقول بوجوب الوتر؛ لأنه يكون مصروفا إلى معنى المسنون المؤكد للأدلة الصريحة على الدالة على عدم الوجوب. والواجب قد يطلق على المسنون تأكيدا، كما سلف تأويل الجمهور في غسل الجمعة. واعلم أنه ذهب الجمهور إلى أن الوتر غير واجب، وخالف الإمام أباحنيفة صاحباه الإمام يوسف والإمام محمد، فذهبا أيضا إلى ما ذهب إليه الجمهور، وقالا بعدم وجوب الوتر، ولم يوافق أباحنيفة إلا عدة من أهل العلم. قال الحافظ: قد بالغ الشيخ أبوحامد فادعى أن أباحنيفة قال بوجوب الوتر، ولم يوافقه صاحباه، مع أن ابن أبي شيبة أخرج عن سعيد بن المسيب وأبي عبيدة ابن عبدالله بن مسعود والضحاك ما يدل على وجوبه عندهم. وعنده عن مجاهد الوتر واجب، ولم يثبت. ونقله ابن العربي عن أصبغ من المالكية، ووافقه سحنون، وكأنه أخذه من قول مالك: من تركه ادب، وكان جرحة في شهادته- انتهى. قلت: والقول الراجح المنصور هو ما قال به لجمهور. قال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة (ج2 ص13): والحق أن الوتر سنة، هو أوكد السنن، بينه علي وابن عمر وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم. (فمن أحب أن يوتر بخمس فلفعل) بأن لا يجلس إلا في آخرهن كما تقدم من حديث عائشة. ويحتمل على بعد أن يصلي ركعتين، ثم يصلي ثلاثا، كما هو مذهب أبي حنيفة. (ومن أحب أن يوتر بثلاث) أي موصولة بتسليمة وبتشهد، فلا يجلس إلا في آخرها، هذا هو الظاهر. ويؤيده حديث عائشة كان رسول الله ? يوتر بثلاث، لا يقعد إلا في آخرهن. أخرجه الحاكم والبيهقي. وقيل: مفصولة بتسليمتين، والكل واسع، والخلاف في الأفضل. (فليفعل) في دليل على الإيتار بثلاث موصولة. ولا يعارضه ما روي عن أبي هريرة مرفوعا: لا توتروا بثلاث تشبهوا بالمغرب، ولكن أوتروا بخمس أو بسبع أو بتسع أو بإحدى عشرة أو أكثر من ذلك. أخرجه محمد بن نصر والبيهقي وغيرهما؛ لأنه يجمع بينهما بأن النهي عن

(6/12)


الثلاث إذا كان يقعد للتشهد الأوسط؛ لأنه يشبه المغرب. وأما إذا لم يقعد إلا في آخرها فلا يشبه المغرب. قال الأمير اليماني في السبل (ج2 ص9): وهو جمع حسن. وقال الحافظ في الفتح: وجه الجمع أن يحمل النهي على صلاة الثلاث بتشهدين، وقد فعله السلف، يعني الإيتار بثلاث بتشهد واحد، فروى محمد بن نصر من طريق الحسن أن عمر كان ينهض في الثانية من الوتر بالتكبير، ومن طريق المسور بن مخرمة أن عمر أوتر بثلاث، لم يسلم إلا في آخرهن، ومن طريق ابن طاووس عن أبيه أنه كان يوتر بثلاث، لا يقعد بينهن، ومن طريق قيس بن سعد عن عطاء وحماد بن زيد عن أيوب مثله. وروى محمد بن نصر عن ابن مسعود وأنس وأبي العالية أنهم أوتروا بثلاث
(1) وفي نسخة " بعض"
رواه أبوداود، والنسائي وابن ماجه.
1274- (13) وعن علي، قال: قال رسول الله ?: ((إن الله وتر
______________________________________________________________________________________________________________________

(6/13)


كالمغرب، وكأنهم لم يبلغهم النهي المذكور- انتهى كلام الحافظ. قلت: ويؤيد هذا الجمع ما قدمنا من حديث عائشة قالت: كان رسول الله ?يوتر بثلاث، لا يقعد إلا في آخرهن، وهو حديث حسن أو صحيح. وقال: بعض الحنفية في تأويل قوله: "لا توتروا بثلاث تشبهوا بالمغرب" الخ. إن معنى أنه لا يترك تطوعا قبل الإيتار بثلاث، فرقا بينه وبين المغرب، فكره إفراد الوتر حتى تكون معه شفع، فمحط النهي هو جعل الوتر ثلاثا بحيث لم يتقدمهن شيء. فأما إذا قدم عليهن شفعا فلا يكره لعدم المشابهة بينه وبين المغرب حينئذ؛ لأنه لا يندب الصلاة قبل الفرض المغرب. وفيه أن هذا التأويل سخيف جدا بل هو باطل؛ لأنه يلزم منه أن يكون التطوع قبل الإيتار بثلاث، وتقديم الشفع عليه واجبا، واللازم باطل، فالملزوم مثله، ولأن التطوع قبل فرض المغرب سنة ثابتة ندب إليها النبي ? قولا وفعلا وتقريرا، كما ذكرنا مفصلا، وحينئذ لا يرتفع المشابهة بينه والمغرب على هذا التأويل، فتفكر. ولبطلانه وجوه أخرى لا تخفى على المتأمل، وارجع إلى تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي (ج1 ص339، 340). (ومن أحب أن يوتر بواحدة) ظاهره مقتصرا عليها. قال النووي: فيه دليل على أن أقل الوتر ركعة، وأن الركعة الواحدة صحيحة. وهو مذهبنا ومذهب الجمهور وقال أبوحنيفة: لا يصح الإيتار بواحدة، ولا تكون الركعة الواحدة صلاة، والأحاديث الصحيحة ترد عليه. (رواه أبوداود والنسائي وابن ماجه) وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص418) وابن حبان والدارمي والطحاوي (ص172) والطيالسي (ص81) والدارقطني (ص171) والحاكم (ج1 ص303) والبيهقي (ج3 ص23، 24، 27) وسكت عنه أبوداود. وقال الحاكم: على شرطهما. وقال المنذري: وقد وقفه بعضهم ولم يرفعه إلى رسول الله ?. وأخرجه أبوداود والنسائي وابن ماجه مرفوعا من رواية بكر بن وائل عن الزهري، وتابعه على رفعه الإمام أبوعمرو الأوزاعي وسفيان بن حسين ومحمد بن أبي حفصة وغيرهم. ويحتمل أن

(6/14)


يكون يرويه مرة فتياه ومرة من روايته- انتهى. وقال الحافظ في التلخيص (ص116): وصحح أبوحاتم والذهلي والدارقطني في العلل، والبيهقي وغير واحد وقفه، وهو الصواب، وقال في بلوغ المرام: رجح النسائي وقفه. وقال الأمير اليماني: وله حكم الرفع، إذ لا مسرح للاجتهاد فيه أي في المقادير. وقال النووي: إسناده صحيح، ورجح ابن قطان الرفع، وقال: لا حفظ من لم يحفظه.
1274- قوله: (إن الله وتر) قال الجزري: الوتر الفرد وتكسر واؤه وتفتح، فالله واحد في ذاته لا يقبل الانقسام والتجزئة، واحد في صفاته فلا شبه له ولا مثل، واحد في أفعاله فلا شريك له ولا معين.
يحب الوتر، فأوتروا يا أهل القرآن)). رواه الترمذي، أبوداود، والنسائي.

(6/15)


(يحب الوتر) أي يثيب عليه ويقبله من عامله. قال القاضي: كل ما يناسب الشيء أدنى مناسبة كان أحب إليه مما لم يكن له تلك المناسبة. (فأوتروا) أمر بصلاة الوتر، وهو أن يصلي مثنى مثنى، ثم يصلي في آخرها ركعة مفردة أو يضيفها إلى ما قبلها من الركعات. كذا في النهاية. وقال الطيبي: يريد بالوتر في هذا الحديث قيام الليل، فإن الوتر يطلق عليه، كما يفهم من الأحاديث، فلذلك خص الخطاب بأهل القرآن- انتهى. قال ابن الملك: الفاء تؤذن بشرط مقدر، كأنه قال: إذا اهتديتم إلى أن الله يحب الوتر فأوتروا- انتهى. والأمر للندب. (يا أهل القرآن) يعني المؤمنين المصدقين به، أو المتولين بحفظه وتلاوته. وقال القاري: أي أيها المؤمنون به، فإن الأهلية عامة شاملة لمن آمن به سواء قرأ أو لم يقرأ وإن كان الأكمل منهم من قرأ وحفظ، وعلم وعمل ممن تولى قيام تلاوته ومراعاة حدود وأحكامه- انتهى. وقال الخطابي في المعالم (ج1 ص285) تخصيصه أهل القرآن بالأمر فيه يدل على أن الوتر غير واجب، ولو كان واجبا لكان عاما، وأهل القرآن في عرف الناس هم القراء والحفاظ دون العوام. ويدل على ذلك أيضا قوله للأعرابي: ليس لك ولأصحابك- انتهى. (رواه الترمذي وأبوداود والنسائي) وأخرجه أيضا ابن ماجه كلهم من رواية عاصم بن ضمرة عن علي. وفي رواية الترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي عن علي رضي الله عنه قال: الوتر ليس بحتم، ولا كصلاتكم المكتوبة. وفي بعضها: ولكنه سنة سنها رسول الله ? ، قال إن الله تعالى وتر الخ. وهذا ظاهر، بل نص في عدم وجوب الوتر، كما عليه الجمهور، ويدل عليه أيضا ما روي عن ابن مسعود عن النبي ? بمعنى حديث علي زاد: فقال أعرابي: ما يقول رسول الله ? قال ليس لك ولأصحابك. أخرجه أبوداود وابن ماجه والبيهقي من طريق أبي عبيدة عن عبدالله بن مسعود. وأبوعبيدة لم يسمع من أبيه ابن مسعود. قال السندي: قوله: "ليس لك ولا لأصحابك" أي ممن ليس بأهل القرآن ظاهره الرفع

(6/16)


لا الوقف. وهذا ينافي وجوب الوتر عموما أو استنانه، إذا قلنا المراد بالوتر في هذا الحديث صلاة الليل، نعم ينبغي أن تكون صلاة الليل مخصوصة بأهل القرآن، فيمكن أن يكون التأكيد في حقهم، ويكون في حق الغير ندبا بلا تأكيد- انتهى. ويدل عليه أيضا ما روي عن ابن عباس مرفوعا: ثلاث على الفرائض، وهي لكم تطوع: النحر والوتر وركعتا الفجر. أخرجه أحمد والدارقطني والطبراني والبيهقي والحاكم، وقال البيهقي في روايته: ركعتا الضحى بدل ركعتي الفجر، وهو حديث ضعيف، كما بينه الحافظ في التلخيص. ويدل عليه أيضا ما أخرجه الحاكم والبيهقي عن عبادة بن الصامت بلفظ: قال الوتر حسن جميل عمل به النبي ? ومن بعده. وليس بواجب، ورواته ثقات، قاله البيهقي. ويدل أيضا عليه ما روي عن ابن عمر أن رسول الله ? أوتر على بعيره. أخرجه الجماعة، فهو ظاهر في عدم الوجوب؛
1275-(14) وعن خارجة بن حذفة قال: ((خرج علينا رسول الله ?، قال: إن الله أمدكم بصلاة
لأن الفريضة لا تصلى على الراحلة. وأجاب الحنفية عنه بأن هذا كان قبل وجوب الوتر. وفيه أن لم يقم دليل على وجوبه حتى يحمل على أنه كان ذلك قبل الوجوب. وقد روى عبدالرزاق عن ابن عمر أنه كان يوتر على راحلته، وربما نزل فأوتر بالأرض. ويدل أيضا عليه ما علم من الدين بالضرورة أن الصلوات المفروضة في اليوم والليلة خمس، فلو كان الوتر واجبا لصار المفروض ست صلوات في كل يوم وليلة، ولا فرق بين الواجب والفرض في لزوم الأداء عملا، مع أن حديث طلحة بن عبيد الله عند الشيخين يدل على أنه لا يلزم العبد صلاة في اليوم والليلة غير الصلوات الخمس إلا أن يتطوع، ففيه قال رسول الله ? : خمس صلوات في اليوم والليلة. قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع. وفي الباب أحاديث وآثار تدل على عدم وجوب الوتر، ذكرها محمد بن نصر في قيام الليل. وفي ما ذكرنا كفاية.

(6/17)


1275- قوله: (وعن خارجة بن حذافة) بحاء مهملة مضمومة وخفة ذال معجمة وفاء بعد الألف، ابن غانم القرشي العدوي. صحابي من مسلمة الفتح، وكان أحد فرسان قريش، يقال: كان يعدل بألف فارس، روي أن عمرو بن العاص استمد من عمر بثلاثة آلاف فارس، فأمده بخارجة بن حذافة هذا والزبير بن العوام والمقداد بن الأسود. سكن خارجة مصر واختلط بها، وكان قاضيا لعمرو بن العاص بمصر. وقيل: كان على شرطته وعداده في أهل مصر؛ لأنه شهد فتح مصر، ولم يزل فيها إلى أن قتل بها، قتله أحد الخوارج الثلاثة الذين كانوا انتدبوا لقتل علي ومعاوية وعمرو، فأراد الخارجي قتل عمرو فقتل خارجة هذا، وهو يظنه عمرا. وذلك أنه كان استخلفه عمرو على صلاة الصبح ذلك اليوم، فلما قتله أخذ وأدخل على عمرو. فقال الخارجي: أردت عمرا وأراد الله خارجة، فذهبت مثلا. وكان قتله سنة أربعين ليلة قتل علي بن أبي طالب. وليس له غير هذا الحديث الواحد. (إن الله أمدكم بصلاة) أي زادكم كما في بعض الروايات، قاله الطيبي. وقال محمد طاهر الفتني في مجمع البحار: هو من أمد الجيش. إذا ألحق به ما يقويه، أي فرض عليكم الفرائض ليوجركم بها ولم يكتف به، فشرع صلاة التهجد والوتر ليزيدكم إحسانا على إحسان- انتهى. وقال القاري: أي جعلها زيادة لكم في أعمالكم من مد الجيش وأمده أي زاده. قال الخطابي في المعالم (ج1 ص285): قوله "أمدكم بصلاة" يدل على أنها غير لازمة لهم، ولو كانت واجبة لخرج الكلام فيه على صيغة الإلزام، فيقول ألزمكم. أو فرض عليكم، أو نحو ذلك من الكلام. وقد روي أيضا في هذا الحديث: أن الله قد زادكم صلاة. ومعناه الزيادة في النوافل. وذلك أن نوافل الصلوات شفع لا وتر فيها، فقيل: أمدكم بصلاة وزادكم بصلاة لم تكونوا تصلونها قبل على تلك الهيئة
هي خير لكم من حمر النعم. الوتر جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر)).
رواه الترمذي، وأبوداود.

(6/18)


والصورة، وهي الوتر- انتهى. (هي خير لكم من حمر النعم) بضم الحاء وسكون الميم، جمع أحمر. والنعم هنا الإبل، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، وإنما قال ذلك ترغيبا للعرب فيها؛ لأن حمر النعم أعز أموال العرب عندهم، فكانت كناية عن أنها خير من الدنيا كلها؛ لأنها ذخيرة الآخرة التي هي خير وأبقى. وقيل: المراد إنها خير لكم من أن تتصدقوا بها، وهو اعتقادهم الخيرية فيها، وإلا فذرة من الآخرة خير من الدنيا وما فيها. (الوتر) بالجر بدل من صلاة بدل المعرفة من النكرة، وبالرفع خبر مبتدأ محذوف بتقدير هي الوتر. وجوز النصب بتقدير أعني (جعله الله لكم) أي وقت الوتر. (فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر) فيه دليل على أن أول وقت الوتر يدخل بالفراغ من صلاة العشاء، ويمتد إلى طلوع الفجر، كما قالت عائشة: وانتهى وتره إلى السحر. قال المجد بن تيمية في المنتقى: فيه دليل على أنه لا يعتد به قبل العشاء بحال. واستدل الحنفية بهذا الحديث على وجوب الوتر. وذلك بوجوه: الأول أنه أضاف الزيادة إلى الله تعالى، والسنن إنما تضاف إلى النبي ?. والثاني: أن الزيادة إنما تتحقق في الواجبات؛ لأنها محصورة العدد، لا في النوافل؛ لأنها لا نهاية لها. والثالث: أن الزيادة على الشيء لا تتصور إلا إذا كان من جنس المزيد عليه. والرابع: أنه جعل له وقتا معينا، وهو من أمارات الوجوب. وقد رد عليهم ابن العربي في شرح الترمذي، حيث قال به احتج علماء أبي حنيفة، فقالوا: إن الزيادة لا تكون إلا من جنس المزيد عليه، وهذه دعوى، بل تكون الزيادة من غير جنس المزيد، كما لو ابتاع بدرهم، فلما قضاه زاده ثمنا أو ربحا إحسانا، كزيادة النبي ? لجابر في ثمن الجمل، فإنها زيادة، وليست بواجبة. وليس في هذا الباب حديث صحيح يتعللون به- انتهى. وقال الحافظ الدارية: ليس في قوله: "زادكم" دلالة على وجوب الوتر؛ لأنه لا يلزم أن يكون المزاد من جنس المزيد، فقد روى محمد بن نصر

(6/19)


المروزي في الصلاة من حديث أبي سعيد رفعه: أن الله زادكم صلاة إلى صلاتكم، هي خير لكم من حمر النعم، ألا وهي الركعتان قبل الفجر، وأخرجه البيهقي (ج2 ص469) ونقل عن ابن خزيمة أنه قال: لو أمكنني لرحلت في هذا الحديث- انتهى. قلت: حديث أبي سعيد هذا يرد على جميع وجوه استدلالهم المتقدمة، ويقطع جميع ما ذكره صاحب البدائع من وجوه الاستدلال، وهو حديث مشكل على الحنفية جدا. وقد ذكر ابن الهمام في فتح القدير على الهداية هذا الإشكال، ثم قال: فالأولى التمسك بما في أبي داود عن بريدة مرفوعا: الوتر حق، فمن لم يوتر فليس مني الخ. قلت: يريد به ما سيأتي في الفصل الثالث من حديث بريدة بلفظ: الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا الخ. وسيأتي هناك الجواب عنه. (رواه الترمذي وأبوداود) وأخرجه أيضا الطحاوي (ج1 ص250)
1276-(15) وعن زيد بن أسلم، قال: قال: رسول الله ?: ((من نام عن وتره فليصل إذا أصبح)).

(6/20)


والحاكم (ج1 ص306) وقال: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه لتفرد التابعي عن الصحابي، ووافقه الذهبي، وأخرجه ابن سعد في الطبقات (ج4 ق1 ص139) والبيهقي (ج2 ص469و 478) والدارقطني (ص274) والطبراني وابن عدي في الكامل وابن عبدالحكم في فتوح مصر (ص259،260) كلهم من طريق عبدالله بن راشد الزوفي أبي الضحاك عن عبدالله بن أبي مرة عن خارجه بن حذافة. وعبدالله بن راشد. قال الحافظ في التقريب: مستور. وقال الذهبي في الميزان في ترجمته: روى عن عبدالله بن أبي مرة الزوفي عن خارجة بحديث الوتر، رواه عنه يزيد بن أبي حبيب، وخالد بن يزيد قيل: لا يعرف سماعه من ابن أبي مرة. قلت: ولا هو بالمعروف. وذكره ابن حبان في الثقات- انتهى. قال الحافظ في التهذيب: وقال أي ابن حبان يروى عن عبدالله بن أبي مرة أن كان سمع منه، ومن اعتمده فقد اعتمده فقد اعتمد إسنادا مشوشا- انتهى. وأما عبدالله بن أبي مرة فقال الحافظ في التقريب: صدوق. أشار البخاري إلى أن روايته عن خارجة منقطعة. وقال في التهذيب: لا يعرف سماعه من ابن أبي مرة. قلت: نقل ابن عدي في الكامل عن البخاري أنه قال لا يعرف سماع بعض هؤلاء من بعض. وقال ابن حبان: إسناد منقطع ومتن باطل- انتهى. لكن الحديث له شواهد: منها حديث عمرو بن العاص وعقبة بن عامر، أخرجه ابن راهويه والطبراني في الكبير والأوسط. وفيه سويد بن عبدالعزيز، وهو متروك، قاله الهيثمي (ج2 ص340). ومنها حديث ابن عباس، أخرجه الدارقطني والطبراني، وفي سنده النضر أبوعمر الخزار، وهو ضعيف، ومنها حديث أبي بصرة أخرجه أحمد والحاكم والطبراني. وبعض أسانيده صحيح. ومنها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أخرجه الدارقطني. وفي سنده محمد بن عبيدالله العزرمي، وهو متروك، وأخرجه أيضا أحمد. وفي سنده الحجاج ابن أرطاة، وهو غير ثقة. ومنها حديث ابن عمر أخرجه الدارقطني في غرائب مالك. وفيه حميد بن أبي الجون، وهو ضعيف. ومنها حديث أبي سعيد أخرجه

(6/21)


الطبراني في مسند الشاميين. قال الحافظ في الدراية (ص112): بإسناد حسن.
1276- قوله: (وعن زيد بن أسلم) من ثقات التابعين المشهورين، وهو مولى عمر. (من نام عن وتره) أي عن أدائه. (فليصل إذا أصبح) أي فليقض الوتر بعد الصبح متى اتفق، وكذا من نسي الوتر فليصله إذا ذكر. ففيه دليل على أن من نام عن وتره أو نسيه فحكمه حكم من نام عن الفريضة أو نسيها أنه يأتي بها عند الاستيقاظ أو الذكر. وهذا يدل على مشروعية قضاء الوتر. واختلف فيه العلماء: فذهب مالك إلى أن الوتر يصلي إلى تمام صلاة الصبح أداء، ولا قضاء له بعد ذلك، يعني أنه لا يقضي بعد صلاة الصبح. وذهب الشافعي وأحمد إلى سنية القضاء، وقالا: إنه يقضى أبدا ليلا ونهارا. وذهب أبوحنيفة وصاحباه إلى وجوب القضاء. واستشكل قول الصاحبين؛ لأن وجوب القضاء فرع لوجوب الأداء، وقد قالا بسنية الوتر لا بوجوبه. وأجيب بأنهما لما ثبت
رواه الترمذي مرسلا.
1277 -(16) وعن عبدالعزيز بن جريج، قال: سألنا عائشة: بأي شيء كان يوتر رسول الله ?؟

(6/22)


عندهما دليل السنية ذهبا إليه، ولما ثبت دليل وجوب القضاء قالا به اتباعا للنص وإن خالف القياس. والراجح عندي ما ذهب إليه الشافعي وأحمد من أن الوتر يقضى أبدا ليلا ونهارا، لكن ندبا لا وجوبا، خلافا لمالك، فإنه قال بعدم مشروعية القضاء، وخلافا للأئمة الحنفية، فإنهم ذهبوا إلى وجوب القضاء. وذهب بعض العلماء إلى التفرقة بين أن يتركه نوما أو نسيانا، وبين أن يتركه عمدا، فيقضيه في الأول إذا استيقظ أو إذا ذكر في أي وقت كان ليلا أو نهارا. قال الشوكاني: وهو ظاهر الحديث. واختاره ابن حزم، واستدل بعموم قوله ?: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، قال: وهذا عموم يدخل فيه كل صلاة فرض أو نافلة، وهو في الفرض أمر فرض، وفي النفل أمر ندب، قال: ومن تعمد تركه حتى دخل الفجر فلا يقدر على قضائه أبدا، قال فلو نسيه أحببنا له أن يقضيه أبدا متى ذكره ولو بعد أعوام. وقد استدل بالأمر بقضاء الوتر على وجوبه. وحمله الجمهور على الندب. ويكون المعنى أن المندوب يقضى كالواجب لكن ندبا لا وجوبا، وقد جاء قضاء المندوب. (رواه الترمذي مرسلا) من طريق عبدالله بن زيد بن أسلم عن أبيه زيد بن أسلم. وأخرجه أيضا هو وابن ماجه ومحمد بن نصر موصولا من طريق عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد، وسيأتي في الفصل الثالث. قال الترمذي: والمرسل أصح من الموصول أي؛ لأن عبدالرحمن ابن زيد ضعيف، وأخوه عبدالله ابن زيد أحسن حالا منه وأمثل وأثبت، وثقه أحمد ومعن بن عيسى القزاز. وقال أبوحاتم ليس به بأس. وقال الحافظ: صدوق فيه لين، ولكن الحديث صحيح من طريق أخرى فقد رواه أبوداود في السنن والدارقطني (ص171) والحاكم (ج1 ص302) والبيهقي (ج2 ص480) كلهم من طريق أبي غسان محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد. قال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه أيضا الحافظ العراقي. قال

(6/23)


الشوكاني: وإسناد الطريق التي أخرجه منها أبوداود صحيح، كما قال العراقي.
1277- قوله: (وعن بد العزيز بن جريج) بضم الجيم الأولى وفتح الراء وسكون الياء، تابعي لين. قال العجلي: لم يسمع من عائشة، وأخطأ خصيف. (راوي هذا الحديث عنه) فصرح بسماعه، كذا في التقريب. وقال البخاري والعقيلي: لا يتابع في حديثه. وذكره ابن حبان في الثقات. (قال: سألنا عائشة) هذا لفظ الترمذي. وفي رواية أبي داود قال: سألت عائشة. (بأي شيء) أي من السور. (كان يوتر) أي يصلي الوتر وقال ابن حجر أي بأي
قالت: كان يقرأ في الأولى بـ?سبح اسم ربك الأعلى? وفي الثانية بـ?قل يأيها
الكافرون? وفي الثالثة بـ?قل هو الله أحد? والمعوذتين)) رواه الترمذي، وأبوداود.
____________________________________________

(6/24)


شيء من القرآن يقرأ في وتره؟ (كان يقرأ في الأولى) أي من الثلاث بـ?سبح اسم ربك الأعلى? أي بعد الفاتحة. (وفي الثالثة) فيه إشارة إلى أن الثلاث بسلام واحد. قال الزيلعي في نصب الراية (ج2:ص119): ظاهر الحديث أن الثالثة متصلة غير منفصلة، وإلا لقال: وفي ركعة الوتر أو الركعة المفردة أو نحو ذلك. ولكن يعكر عليه في لفظه للدارقطني (ص172) والطحاوي (ص168) والحاكم (ج2:ص305) والبيهقي (ج3:ص37) عن عائشة أيضا: أن النبي ? كان يقرأ في الركعتين اللتين يوتر بعدهما بـ?سبح اسم ربك الأعلى? و ?قل يا أيها الكافرون? ويقرأ في الوتر بـ?قل هو الله أحد? و ?قل أعوذ برب الفلق? و ?قل أعوذ برب الناس? انتهى. وقال الحافظ في الدراية بعد ذكر هذه الرواية: وهو يرد استدلال الطحاوي بأنه لو كان مفصولا لقال: وركعة الوتر أو الركعة المفردة أو نحو ذلك-انتهى. وقال الحاكم في المستدرك بعد روايته. وسعيد بن عفير. (يعني الذي روى عن يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة) إمام أهل مصر بلا مدافعة، وقد أتى بالحديث مفسرا مصلحا دالا على أن الركعة التي هي الوتر ثانية غير الركعتين اللتين قبلهما-انتهى. أي فيحمل ما أجمله غيره كسعيد بن الحكم بن أبي مريم وغيره على هذا المفصل. (والمعوذتين) بكسر الواو، وتفتح. وفي الحديث دليل على مشروعية قراءة ثلاث سور الإخلاص والمعوذتين في الركعة الثالثة من الوتر، لكن اختار أكثر أهل العلم قراءة الإخلاص فقط.؛ لأن حديث عائشة فيه كلام، وحديث أبي بن كعب وابن عباس بإسقاط المعوذتين أصح. وقال ابن الجوزي: أنكر أحمد وابن معين زيادة المعوذتين. (رواه الترمذي وأبوداود) وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص38)، وسكت عنه أبوداود وحسنه الترمذي، لكن قال شيخنا في شرح الترمذي: في كونه حسنا نظر، فإن عبدالعزيز بن جريج لم يسمع من عائشة. (كما قال العجلي وابن حبان والدارقطني) وأيضا فيه خصيف، وهو قد خلط بآخره، ولا

(6/25)


يدرى أن محمد بن سلمة رواه عنه قبل الاختلاط أو بعده، والله أعلم، نعم يعتضد برواية عمرة عن عائشة التي أشار إليها الترمذي يعني التي تقدم لفظها في كلام الزيلعي. وقال العلامة أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي متعقبا على كلام الشيخ ما لفظه: وليس هذا بشيء. أما خصيف فإنه ثقة. تكلم بعضهم في حفظه، كما سبق، وعبدالعزيز بن جريج قديم؛ لأن ابنه عبدالملك مات في أول عشر ذي الحجة سنة 150 عن 76 سنة فكأنه ولد سنة 74، بل قال بعضهم: إنه جاز المائة، فكأنه ولد حول سنة 50، وعائشة ماتت 58، فأبوه عبدالعزيز أدرك عائشة يقينا. ثم قد تأيد الحديث برواية عمرة عن عائشة التي أشار إليها الترمذي. وحديثها رواه الحاكم في المستدرك (ج1:ص305) من طريق سعيد بن عفير وسعيد بن أبي مريم عن يحيى بن أيوب عن عمرة، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. ويحيى بن
1278- (17) ورواه النسائي عن عبدالرحمن بن أبزى.
1279- (18) ورواه أحمد عن أبي بن كعب.
1280- (19) والدارمي عن ابن عباس،
___________________________________
أيوب الغافقي ثقه حافظ، ولا حجة لمن تكلم فيه، ورواه أيضا ابن حبان والدارقطني والطحاوي فيما حكاه الحافظ في التلخيص-انتهى. قلت: ويؤيده أيضا ما روى الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة بزيادة المعوذتين، وفيه المقدام بن داود، وهو ضعيف، وما روى ابن السكن من حديث عبدالله بن سرجس بإسناد غريب، كما في التلخيص. فالظاهر أن حديث عائشة حسن لشواهده. وأما من جهة سنده ففي كونه حسنا كلام لما تقدم أن فيه خصيفا وهو سيء الحفظ، وقد خلط بآخره. والله أعلم.

(6/26)


1278- (ورواه النسائي) وكذا أحمد (ج3:ص407، 406) قال الحافظ في التلخيص (ص118): وإسناده حسن. (عن عبدالرحمن بن أبزى) بفتح الهمزة وسكون الموحدة بعدها زاي مقصور، الخزاعي مولاهم، مختلف في صحبته، فذكره ابن حبان في ثقات التابعين. وقال البخاري: له صحبة. وذكره غير واحد في الصحابة. وقال أبوحاتم: أدرك النبي ? وصلى خلفه. وقال ابن عبدالبر: استعمله علي رضي الله عنه على خراسان. وذكره ابن سعد فيمن مات رسول الله ?، وهم أحداث الأسنان. وممن جزم بأن له صحبة: خليفة بن خياط والترمذي ويعقوب بن سفيان وأبوعروبة والدارقطني والبرقي وبقي بن مخلد وغيرهم، كذا في تهذيب التهذيب. وقال في التقريب: إنه صحابي صغير، وكان في عهد عمر رجلا، وكان على خراسان لعلي-انتهى. قلت: ويدل على كونه صحابيا أنه روى ابن سعد والطحاوي وأبوداود وأحمد من حديثه أنه صلى مع النبي ?. وفي رواية: خلف النبي ?، فالراجح أنه صحابي. وقد اختلفوا هل هذا الحديث من روايته عن النبي ?، أو من روايته عن أبي بن كعب عن النبي ?؟ قال الترمذي: روي عن عبدالرحمن بن أبزى عن أبي بن كعب، ويروي أيضا عن عبدالرحمن بن أبزى عن النبي ?، هكذا روى بعضهم فلم يذكر عن أبي، وذكر بعضهم عن عبدالرحمن ابن أبزى عن أبي-انتهى. والظاهر أن له في القراءة في الوتر روايتين: إحداهما روايته عن أبي بن كعب عن النبي ?. وثانيتهما روايته عن النبي ? من غير واسطة، وقد قال العراقي: كلاهما عند النسائي بإسناد صحيح، كما في النيل.
1279- (ورواه أحمد عن أبي بن كعب) وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي وابن ماجه والطحاوي وابن حبان والحاكم والبيهقي. وزاد النسائي في رواية: ولا يسلم إلا في آخرهن.
1280- (والدارمي عن ابن عباس) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والطحاوي
ولم يذكرا: والمعوذتين.
1281- (20) وعن الحسن بن علي، قال: ((علمني رسول الله ? كلمات أقولهن في قنوت الوتر:

(6/27)


_________________________________
والبيهقي (ج3:ص38). (ولم يذكرا) أي أحمد والدارمي أو أبي بن كعب وابن عباس. (والمعوذتين) وتقدم حديث أبي وابن عباس بإسقاط المعوذتين أصح، ولذلك اختاره أكثر أهل العلم.
1281- قوله: (وعن الحسن بن علي) بن أبي طالب الهاشمي سبط رسول الله ?، وريحانته من الدنيا، وأحد سيدي شباب أهل الجنة أمير المؤمنين أبومحمد، ولد في النصف من رمضان سنة ثلاث من الهجرة، وهو أصح ما قيل في ولادته، ومات سنة 49، وهو ابن سبع وأربعين. وقيل: مات سنة 50. وقيل بعدها، ودفن بالبقيع، ويقال: إنه مات مسموما، وقد صحب النبي ? وحفظ عنه. قال الخرزجي: له ثلاثة عشر حديثا. وقال البرقي: جاء عنه نحو من عشرة أحاديث، روى عنه ابنه الحسن وأبوهريرة وعائشة أم المؤمنين وجماعة كثيرة. ولما قتل أبوه علي بن أبي طالب بالكوفة بايعه الناس على الموت أكثر من أربعين ألفا، ثم كره سفك الدماء، فسلم الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان وانخلع، وبايعه في النصف من جمادى الأولى سنة 41، فكانت ولايته سبعة أشهر وأحد عشر يوما، ويقال أربعة أشهر. ومناقبه وفضائله كثيرة جدا. (أقولهن) أي أدعو بهن. (في قنوت الوتر) وفي رواية: في الوتر. والقنوت يطلق على معان، والمراد به ههنا الدعاء في صلاة الوتر في محل مخصوص من القيام. قال السندي في حاشية النسائي: الظاهر أن المراد علمني أن أقولهن في الوتر بتقدير أن، أو باستعمال الفعل موضع المصدر مجازا، ثم جعله بدلا من كلمات، إذ يستبعد أنه علمه الكلمات مطلقا، ثم هو من نفسه وضعهن في الوتر. ويحتمل أن قوله أقولهن صفة كلمات، كما هو الظاهر، لكن يؤخذ منه أنه علمه أن يقول تلك الكلمات في الوتر، لا أنه علمه نفس تلك الكلمات مطلقا-انتهى. قلت: ويؤيد ذلك ما وقع في بعض روايات أحمد: وعلمه أن يقول في الوتر، وما في رواية للنسائي: علمني رسول الله ? هؤلاء الكلمات في الوتر، وما في رواية ابن الجارود: علمه هذه

(6/28)


الكلمات ليقول في قنوت الوتر. ثم ظاهر الحديث الإطلاق في جميع السنة، كما هو مذهب الحنفية والحنابلة وهو وجه للشافعية، والمشهور من مذهبهم تخصيص القنوت في الوتر بالنصف الأخير من رمضان، وهو رواية عن مالك والمشهور المعتمد عند المالكية نفي القنوت في الوتر جملة، وهي رواية ابن القاسم، قال في المدونة: لا يقنت في رمضان لا في أوله ولا في آخره ولا في غير رمضان ولا في الوتر أصلا-انتهى. والراجح عندنا: هو أن القنوت في الوتر مستحب في جميع السنة؛ لأنه ذكر يشرع في الوتر فيشرع في جميع السنة كسائر الأذكار، ولإطلاق لفظ الوتر في هذا الحديث. وإليه ذهب ابن مسعود وغيره من أصحاب النبي ?.
اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت))
____________________________________________________________

(6/29)


أصحاب النبي ?. قال السندي: ثم قد أطلق الوتر فيشمل الوتر طول السنة، فصار الحديث دليلا قويا لمن يقول بالقنوت في الوتر طول السنة-انتهى. (اللهم اهدني) أي ثبتني على الهداية، أو زدني من أسباب الهداية. (فيمن هديت) أي في جملة من هديتهم، أو هديته من الأنبياء والأولياء، كما قال سليمان: ?وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين?. وقال ابن الملك: أي اجعلني ممن هديتهم إلى الصراط المستقيم. وقال الطيبي: أي اجعل لي نصيبا وافرا من الاهتداء معدودا في زمره المهتدين من الأنبياء والأولياء وقيل: "في" فيه وفيما بعده بمعنى مع قال تعالى. ?فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم? [69:4]. (وعافني) أمر من المعافاة التي هي دفع السوء. (وتولني) أي تول أمري وأصلحه. (فيمن توليت) أمورهم ولا تكلني إلى نفسي. وقال المظهر: أمر مخاطب من تولى إذا أحب عبدا وقام بحفظه وحفظ أموره. (وبارك) أي أكثر الخير. (لي) أي لمنفعتي. (فيما أعطيت) أي فيما أعطيتني من العمر والمال والعلوم والأعمال. وقال الطيبي: أي أوقع البركة فيما أعطيتني من خير الدارين. (وقني) أي احفظني. (شر ما قضيت) أي شر ما قضيته أي قدرته لي، أو شر قضائك. قيل: سؤال الوقاية وطلب الحفظ عما قضاه الله وقدره للعبد مما يسوءه، إنما هو باعتبار ظاهر الأسباب والآلات التي يرتبط بها وقوع المقضيات، ويجري فيها المحو والإثبات فيما لا يزال. (فإنك) وفي رواية: إنك بغير فاء. (تقضي) أي تقدر أو تحكم بكل ما أردت. (ولا يقضى عليك) بصيغة المجهول، أي لا يقع حكم أحد عليك، فلا معقب لحكمك ولا يجب عليك شيء إلا ما أوجبته عليك بمقتضى وعدك. (إنه) أي الشأن. وفي بعض الروايات: وإنه بزيادة الواو. (لا يذل) بفتح فكسر، أي لا يصير ذليلا. (من واليت) الموالاة ضد المعاداة. وهذا في مقابلة لا يعز من عاديت، كما جاء في بعض الروايات. قال ابن حجر: أي لا يذل من واليت من عبادك في الآخرة أو مطلقا وإن ابتلي بما ابتلي به،

(6/30)


وسلط عليه من أهانه وأذله باعتبار الظاهر؛ لأن ذلك غاية الرفعة والعزة عند الله وعند أوليائه، ولا عبرة إلا بهم. ومن ثم وقع للأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الامتحانات العجيبة ما هو مشهور. وزاد البيهقي، وكذا الطبراني من عدة طرق: ولا يعز من عاديت، أي لا يعز في الآخرة أو مطلقا وإن أعطي من نعيم الدنيا وملكها ما أعطي، لكونه لم يمتثل أوامرك، ولم يجتنب نواهيك. (تباركت) أي تكاثر خيرك في الدارين. (ربنا) بالنصب أي يا ربنا. (وتعاليت) أي ارتفع عظمتك وظهر قهرك وقدرتك على من في الكونين. وقال ابن الملك: أي ارتفعت عن مشابهة كل شيء. وزاد النسائي في رواية: وصلى الله على النبي. قال النووي في شرح المهذب: إنها
رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي.

(6/31)


زيادة بسند صحيح أو حسن. وتعقبه الحافظ بأنه منقطع، فإن عبدالله بن علي، وهو ابن الحسين بن علي، لم يلحق الحسن بن علي- انتهى. ورواه ابن أبي عاصم وزاد: ونستغفرك ونتوب إليك. وقال القاري في شرح الحصن: وفي رواية ابن حبان زيادة: نستغفرك ونتوب إليك، وهو موجود في أصل الأصيل-انتهى. والظاهر أن هذه الزيادة قبل زيادة الصلاة على ما يفهم من الحصن. والحديث يدل على مشروعية القنوت بهذا الدعاء، وهو مختار الشافعية والحنابلة، واختار الحنفية القنوت في الوتر بسورة الخلع وسورة الحقد، أي اللهم إنا نستعينك، ونستغفرك، ونؤمن بك، ونخضع لك، ونخلع ونترك من يكفرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحقد، نرجو رحمتك ونخاف عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق. أخرجه أبوداود في المراسيل والبيهقي في السنن (ج2 ص210) عن خالد بن أبي عمران مرفوعا مرسلا، وأخرجه ابن أبي شيبة موقوفا على ابن مسعود، وابن السني موقوفا على ابن عمر، وأخرجه محمد بن نصر والطحاوي والبيهقي في السنن عن عمر بن الخطاب. قال الحنفية: هما سورتان من القرآن في مصحف أبي، كما ذكر السيوطي في الدر المنثور، وابن قدامة في المغني (ج2 ص153) قلت: الأولى عندي أن يدعو في الوتر بالقنوت المروي في حديث الحسن ابن علي؛ لأنه حديث صحيح أو حسن مرفوع متصل، ولو قرأ ما هو مختار الحنفية جاز من غير شك، ومن لا يحسن شيئا من ذلك يدعو بما يحفظ من الدعاء المأثور، أو يستغفر من ذنوبه ويكرر ذلك. (رواه الترمذي) وحسنه، وقال: لا نعرف عن النبي ? في القنوت في الوتر شيئا أحسن من هذا. (وأبوداود) الخ وأخرجه أيضا أحمد (ج1 ص199 و200) وابن الجارود (ص142) ومحمد بن نصر المرزوي والحاكم في المستدرك (ج3 ص172) والبيهقي (ج2 ص209 و498) وإسحاق بن راهويه وأبوداود الطيالسي (ص163) وابن حبان وابن خزيمة والدارقطني وأبويعلى والطبراني في الكبير، وسعيد بن منصور في سننه. وقد أطال الكلام عليه

(6/32)


الحافظ في التلخيص (ص94 و95) وأخرجه ابن حزم في المحلى (ج4 ص147) من طريق أبي داود، وضعفه حيث قال بعد روايته: وهذا الأثر وإن لم يكن مما يحتج بمثله فلم نجد فيه عن رسول الله ? غيره، وقد قال أحمد: ضعيف الحديث أحب إلينا من الرأي- انتهى. ونقل الحافظ في تهذيب التهذيب (ج3 ص256) كلام ابن حزم هذا، ولم يتعقبه بشيء، وضعفه أيضا ابن حبان، كما قال الشوكاني في النيل، وقال في تحفة الذاكرين (ص128): قد ضعفه بعض الحفاظ، وصححه آخرون. وأقل أحوله إذا لم يكن صحيحا أن يكون حسنا- انتهى. قلت: الحق أن هذا الحديث لا ينحط عن درجة الحسن، بل هو صحيح، ولا حجة لمن ضعفه، وقد رجح صحته علامة أحمد شاكر في تعليقه على المحلى (ج4 ص147، 148). تنبيه حديث الحسن هذا رواه الحاكم

(6/33)


(ج3 ص172) والبيهقي (ج3 ص39) من طريق أبي بكر بن شيبة الحزامي عن ابن أبي فديك عن إسماعيل ابن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى بن عقبة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن الحسن بن علي، قال: علمني رسول الله ? في وتري إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود، اللهم اهدني فيمن هديت إلى آخره. قال البيهقي: تفرد بهذا اللفظ أبوبكر بن شيبة الحزامي. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين إلا أن إسماعيل بن إبراهيم خالفه، محمد بن جعفر بن أبي كثير في إسناده، ثم أخرجه عن محمد بن جعفر بن أبي كثير عن موسى بن عقبة عن أبي إسحاق عن يزيد بن أبي مريم به بسند السنن ومتنه وسكت عنه. قال الحافظ في الدراية: هو. (أي طريق محمد بن جعفر) الصواب- انتهى. وقال في التلخيص (ص94): ينبغي أن يتأمل قوله في هذا الطريق: إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود، فقد رأيت في الجزء الثاني من فوائد أبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران الأصبهاني تخريج الحاكم له، قال: ثنا محمد بن يونس المقري، قال: ثنا الفضل بن محمد البيهقي، ثنا أبوبكر شيبة المدني الحزامي ثنا ابن أبي فديك عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة بسنده. ولفظه: علمني رسول الله ? أن أقوال في الوتر قبل الركوع فذكره- انتهى. وهذا كله يدل على أن رواية الحاكم بلفظ: إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود، ليست بمحفوظة عند الحافظ والبيهقي، ولذلك لم يعتمد عليها البيهقي في محل قنوت الوتر بعد الركوع، بل اعتمد على قياس قنوت الوتر على قنوت الصبح. ومال الشوكاني إلى تقويتها حيث قال بعد ذكر كلام البيهقي: وقد روى عنه أي عن أبي بكر بن شيبة الحزامي البخاري في صحيحة. وذكره ابن حبان في الثقات، فلا يضر تفرده. وقواها أيضا الشيخ أحمد محمد شاكر حيث قال في تعليقه على المحلى (ج4 ص148) بعد ذكر الاختلاف في السند على موسى بن عقبة: ويظهر أن موسى روى عن هؤلاء الثلاثة. (أي علي بن عبدالله عند النسائي وهشام بن عروة عند الحاكم وأبي إسحاق

(6/34)


عند الحاكم وغيره) وابن أخيه إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ثقة، روى له البخاري. وبهذه الطرق كلها ظهر أن الحديث صحيح- انتهى. وعندي في كون رواية الحاكم المذكورة محفوظة تأمل، ولا يطمئن قلبي بما ذكره الشوكاني والشيخ أحمد شاكر لتقويتها. وأبوبكر بن شيبة وإن روى عنه البخاري لكن لم يحتج به، كما صرح به الحافظ في مقدمة الفتح. واعلم أنه اختلف في أن القنوت في الوتر قبل الركوع أو بعده، فاختار الحنفية الأول، والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه الثاني، واستدل لهم بما روى محمد بن نصر عن أنس: أن رسول الله ? كان يقنت بعد الركعة وأبوبكر وعمر حتى كان عثمان، فقنت قبل الركعة ليدرك الناس. قال العراقي: إسناده جيد. وبما ذكرنا من حديث الحسن بن علي برواية الحاكم بلفظ: إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود، وقد عرفت حالها، واستدل لهم أيضا بآثار بعض الصحابة، وبالقياس على قنوت صلاة الصبح بعد الركوع، واستدل الحنفية بما روى البخاري (ج1 ص136) من طريق عاصم الأحول
1282-(21) وعن أبي بن كعب، قال: ((كان رسول الله ?، إذا سلم في الوتر قال: سبحان الملك
القدوس)). رواه أبوداود،

(6/35)


عن أنس أن القنوت قبل الركوع، ذكره الحافظ في التلخيص (ص94)، وبما روى النسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص39، 40) عن أبي بن كعب أن رسول الله ? كان يوتر، فيقنت قبل الركوع. لفظ ابن ماجه. وللنسائي: كان يوتر بثلاث يقرأ في الأولى ?سبح اسم ربك الأعلى? ، وفي الثانية. ?قل يآيها الكافرون?، وفي الثالثة. ?قل هو الله أحد? ويقنت قبل الركوع. وذكره أبوداود معلقا مختصرا، وضعف ذكر القنوت فيه، وتبعه البيهقي حيث حكى كلامه ولم يتعقب عليه. وقد أجاب عنه ابن التركماني في الجوهر النقي، وحقق كون ذكر القنوت فيه محفوظا. وهذا هو الصواب عندي. فحديث أبي بذكر القنوت صحيح أو حسن حجة. قال الشوكاني: وضعف أبوداود ذكر القنوت فيه أي في حديث أبي، ولكنه ثابت عند النسائي وابن ماجه من حديثه: أن النبي ? كان يقنت قبل الركوع. واستدل لهم أيضا بما روى ابن أبي شيبة والدارقطني (ص175) والبيهقي (ج3 ص41) عن ابن مسعود أن النبي ? قنت في الوتر قبل الركوع. وفيه أبان بن عياش وهو متروك، قاله الدارقطني. وبما روى الخطيب في كتاب القنوت عن ابن مسعود أيضا بنحوه. قال الحافظ في الدراية: حديث ضعيف، وبما روى أبونعيم في الحلية عن عطاء بن مسلم عن العلاء ابن المسيب عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس. قال: أوتر النبي ? بثلاث، فقنت فيها قبل الركوع. قال أبونعيم: غريب من حديث حبيب، والعلاء تفرد به عطاء بن مسلم. وقال البيهقي: تفرد به عطاء وهو ضعيف. وبما روى الطبراني في الأوسط عن ابن عمر أن النبي ? كان يوتر بثلاث ركعات، ويجعل القنوت قبل الركوع. قال الحافظ في الدراية (ص115): إسناده ضعيف. وبما روى ابن أبي شيبة عن علقمة أن ابن مسعود وأصحاب النبي ? كانوا يقنتون في الوتر قبل الركوع. قال الحافظ في الدراية (ص115): إسناده حسن. قلت: يجوز القنوت في الوتر قبل الركوع وبعده. والأولى عندي أن يكون قبل الركوع لكثرة الأحاديث في ذلك، وبعضها جيد الإسناد، ولا حاجة إلى

(6/36)


قياس قنوت الوتر على قنوت الصبح مع وجود الأحاديث المروية في الوتر من الطرق المصرحة بكون القنوت فيه قبل الركوع، وكيف يقاس الوتر على الصبح وليس بينهما معنى مؤثر يجمع به بينهما. وسيأتي شيء من الكلام فيه في باب القنوت.
1281- قوله: (إذا سلم في الوتر) أي في آخره. (قال سبحان الملك القدوس) أي البالغ أقصى النزاهة عن كل وصف، ليس فيه غاية الكمال المطلق. قال الطيبي: هو الطاهر المنزه عن العيوب والنقائص، وفعول بالضم من أبنية المبالغة. فيه مشروعية هذا التسبيح بعد الفراغ من الوتر. (رواه أبوداود) ومن طريقة البيهقي
والنسائي، وزاد: ثلاث مرات يطيل.
1283-(22) وفي رواية للنسائي، عن عبدالرحمن بن أبزى، عن أبيه، قال: ((كان يقوم إذا سلم:
سبحان الملك القدوس ثلاثا، ويرفع صوته بالثالثة)).
(ج3 ص41، 42). (والنسائي) واللفظ لأبي داود، وهو حديث مختصر. ولفظ النسائي: أن رسول الله ? كان يوتر بثلاث ركعات، كان يقرأ في الأولى بـ?سبح اسم ربك الأعلى? وفي الثانية بـ?قل يأيها الكافرون? وفي الثالثة بـ?قل هو الله أحد? ويقنت قبل الركوع، فإذا فرغ قال عند فراغه. سبحان الملك القوس ثلاث مرات، يطيل في آخرهن. والحديث أخرجه أيضا أحمد وابن أبي شيبة والدارقطني، وإسناده صحيح. (وزاد) أي النسائي في روايته. (ثلاث مرات يطيل) أي في آخرهن. والمعنى يمد في المرة الثالثة صوته. وزاد الدارقطني (ص174) والبيهقي (ج3 ص40) في روايتهما: رب الملائكة والروح.

(6/37)


1283- قوله: (وفي رواية للنسائي عن عبدالرحمن بن أبزى عن أبيه) هذا خطأ، والصواب عن ابن عبدالرحمن بن أبزى عن أبيه، هكذا وقع في مسند أحمد والنسائي؛ لأن أبزى الخزاعي والد عبدالرحمن لم يرو عنه إلا حديث واحد، وهو غير هذا الحديث. قال ابن السكن: ذكره البخاري في الواحدان، وروى عنه حديث واحد، إسناده صالح فذكره. وقال ابن مندة وأبونعيم وابن الأثير: لا تصح لأبزى رؤية ولا رواية. وقال الذهبي في التجريد: أبزى والد عبدالرحمن خزاعي، لا يصح صحبة إلا من طريق ضعيفة. وابنه أي عبدالرحمن صحابي- انتهى. وابن عبدالرحمن بن أبزى هو سعيد بن عبدالرحمن بن أبزى الخزاعي مولاهم الكوفي تابعي، وثقة النسائي وابن حبان. وقال أحمد: هو حسن الحديث، روى عن أبيه وابن عباس وواثلة. (قال كان) أي النبي ?. (ويرفع صوته بالثالثة) أي في المرتبة الثالثة. وأخرجه أيضا الطحاوي وأحمد (ج3 ص406، 407) وعبد بن حميد والبيهقي (ج3 ص41) وإسناده صحيح. قال العراقي: حديث أبي بن كعب وعبدالرحمن بن أبزى كلاهما عند النسائي بإسناد صحيح. والحديث فيه سنية الجهر بهذا الذكر في المرة الثالثة، هكذا في كل ما ثبت عنه ? الجهر فيه، نعم الإسرار أفضل حيث لم ينقل عنه الجهر فيه. قال المظهر: هذا يدل على جواز الذكر برفع الصوت، بل على الاستحباب إذا اجتنب الرياء إظهار للجدين، وتعليما للسامعين، وإيقاظا لهم من رقدة الغفلة، وإيصالا لبركة الذكر إلى مقدار ما يبلغ الصوت إليه من الحيوان والشجر والحجر والمدر، وطلبا لاقتداء الغير بالخير، وليشهد له كل رطب ويابس سمع صوته.
1284-(23) وعن علي، قال: ((أن النبي ? كان يقول في آخر وتره: اللهم إني أعوذ برضاك من
سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت
على نفسك)). رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
?الفصل الثالث?
1285-(24) عن ابن عباس، قيل له: هل لك في أمير المؤمنين معاوية

(6/38)


1284- قوله: (كان يقول في آخر وتره) أي بعد السلام منه، كما في رواية: ففي الحديث بيان الذكر المشروع بعد الفراغ من صلاة الوتر. قال ميرك: وفي إحدى روايات النسائي كان يقول ذلك إذا فرغ من صلاته وتبوأ مضجعه، ذكره القاري قال ابن القيم في زاد المعاد (ج1 ص89) والشوكاني في تحفة الذاكرين (ص129) وهذا يرد ما قال السندي في حاشية النسائي: يحتمل أنه كان يقول في آخر القيام، فصار هو من القنوت، كما هو مقتضى كلام المصنف. (النسائي) ويحتمل أنه كان يقول في قعود التشهد- انتهى. وكأنه لم يقف على رواية النسائي التي ذكرها ميرك وابن القيم والشوكاني، ولعلها في السنن الكبرى. وقد تقدم في باب السجود من حديث عائشة أنه قال ذلك في السجود. قال ابن القيم: فلعله قاله في الصلاة وبعدها. (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك) وفي رواية النسائي التي ذكرها ميرك وغيره: لا أحصي ثناء عليك وهو لو حرصت، ولكن أنت كما أثنيت على نفسك. وقد قدمنا شرح ألفاظ الحديث في باب السجود. (رواه أبوداود) في باب القنوت في الوتر من الصلاة. (والترمذي) في باب الدعاء الوتر من أبواب الدعوات وحسنه. (والنسائي) في باب الدعاء في الوتر من الصلاة. (وابن ماجه) في باب ما جاء في القنوت في الوتر. وأخرجه أيضا أحمد والحاكم (ج1 ص306) وصححه، والبيهقي (ج3 ص42) والطبراني في الأوسط وابن أبي شيبة مقيدا بالوتر. قال الشوكاني: وأخرجه الدارمي وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان، وليس فيه ذكر الوتر.

(6/39)


1285- قوله: (عن ابن عباس قيل له) وفي البخاري عن ابن أبي ملكية قيل لابن عباس الخ. ولا أدري ما وجه تغيير هذا السياق مع كون ابن أبي ملكية قد شهد القصة، وهو الراوي لها، والقائل هو كريب مولى ابن عباس. وقيل: علي بن عبدالله بن عباس. (هل لك) أي جواب أو إفتاء. (في أمير المؤمنين معاوية) أي في فعله. وقال الطيبي: يقال: هلك لك في كذا، وهل لك إلى كذا؟ أي هل ترغب فيه، وهل ترغب إليه؟ فالاستفهام في
ما أوتر إلا بواحدة؟ قال: أصاب إنه فقيه. وفي رواية: قال ابن أبي ملكية: أوتر معاوية بعد العشاء بركعة، وعنده مولى لابن عباس، فأتي ابن عباس فأخبره. فقال: دعه فإنه قد صحب النبي ?.
__________________________________________________________

(6/40)


الحديث بمعنى الإنكار، أي هل لك رغبة في معاوية وهو مرتكب هذا المنكر. ومن ثم أجاب دعه، فإنه قد صحب النبي ?، فلا يفعل إلا ما رآه منه، وهو فقيه أصاب في اجتهاده- انتهى. وقال الشيخ عبدالحق: أي هل لك رغبة وميل ومحبة لمعاوية مع صدور أمر غير مشروع منه؟. (ما أوتر) وفي رواية: فإنه ما أوتر. (إلا بواحدة) أي اكتفى بركعة واحدة فردة بعد صلاة العشاء من غير أن يقدم عليها شفعا. هذا هو الظاهر. قال الشيخ عبدالحق ظاهره أن هذا القائل لم يكن يعلم بمشروعية الإيتار بركعة واحدة. (قال) أي ابن عباس. (أصاب) أي فعل الحق وأتى بالصواب. (إنه فقيه) أي عالم بالشريعة مجتهد، فيمكن أن يكون الذي فعله قد استنبطه من موارد السنة. (وفي رواية قال ابن أبي ملكية) بضم الميم مصغرا، هو عبدالله بن عبيد الله بن عبدالله بن أبي ملكية بن عبدالله بن جدعان. يقال: اسم أبي ملكية زهير التيمي القرشي، من مشاهير ثقات التابعين وعلماءهم. قال الحافظ: أدرك ثلاثين من أصحاب النبي ?، ثقة فقيه من أوساط التابعين. وقال ابن حبان في الثقات: رأى ثمانين من الصحابة روى عن العبادلة الأربعة وغيرهم، وكان قاضيا لابن الزبير على الطائف، مات سنة (117) ، وقيل: (118). (أوتر معاوية بعد) صلاة. (العشاء بركعة) واحدة. (وعنده مولى لابن عباس) هو كريب روى ذلك محمد بن نصر المرزوي في كتاب الوتر له من طريق ابن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد عن كريب، وأخرج من طريق علي بن عبدالله بن عباس، قال: بت مع أبي عند معاوية، فرأيته أوتر بركعة، فذكرت ذلك لأبي. فقال يا بني هو أعلم. (فأتى) أي مولاه كريب. (فأخبره) بذلك. (فقال) ابن عباس. (دعه) وفي البخاري: فأتى ابن عباس فقال دعه أي ليس عنده لفظ فأخبره. قال الحافظ: قوله: "دعه" فيه حذف يدل عليه السياق، تقديره فأتى ابن عباس، فحكى له ذلك، فقال له: دعه أي أترك القول في معاوية والإنكار عليه. ونقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص35) عن البخاري

(6/41)


بذكر لفظ: فأخبره، وكذا رواه البيهقي (ج3 ص27). (فإنه) عارف بالفقه عالم بالشريعة؛ لأنه (قد صحب النبي ?) وتعلم منه، أي فلم يفعل شيئا إلا بمستند. وقال الطيبي: أي فلا يفعل إلا ما رآه. وفي فعل معاوية واستصوب ابن عباس له دليل على مشروعية الإيتار بركعة واحدة، وأنه لا يحب تقدم نفل قبلها. وقد ورد فيه عدة أحاديث، كما سبق. وفعله أيضا كثير من الصحابة: منهم سعد بن أبي وقاص، أخرجه البخاري في الدعوات، والبيهقي في المعرفة والطحاوي. ومنهم عثمان بن عفان، أخرجه الطحاوي والدارقطني ومحمد بن نصر المروزي، ومنهم عمر بن الخطاب، أخرجه البيهقي في المعرفة وفي السنن، ومنهم أبوالدرداء وفضالة بن عبيد ومعاذ بن جبل، أخرجه الطحاوي، ومنهم أبوأمامة، أخرجه الدارقطني. وفي كل ذلك رد على من لم يقل بمشروعية
رواه البخاري.
1286-(25) وعن بريدة، قال: قال سمعت رسول الله ? يقول: ((الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا، الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا)). رواه أبوداود.
___________________________________________________
الإيتار بركعة، أو قال بوجوب تقدم الشفع عليها. قال الحافظ: ولا التفات إلى قول ابن التين: إن الوتر بركعة لم به الفقهاء؛ لأن الذي نفاه قول الأكثر، وثبت فيه عدة أحاديث، نعم الأفضل أن يتقدمها شفع، وأقله ركعتان. واختلف أيهما الأفضل، وصلهما بها أو فصلهما. وذهب الكوفيون إلى شرطية وصلهما، وأن الوتر بركعة لا تجزيء- انتهى. وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلا. (رواه البخاري) في ذكر معاوية من أبواب المناقب.

(6/42)


1286- قوله: (الوتر حق) أي ثابت في الشرع ومؤكد. (فمن لم يوتر فليس منا) أي ليس على سنتنا وطريقتنا. قال الطيبي: "من" فيه اتصالية، كما قوله تعالى: ?المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض? [9: 67] وقوله عليه السلام: فإني لست منك ولست مني. والمعنى فمن لم يوتر فليس بمتصل بنا وبهدينا وبطريقتنا، أي إنه ثابت في الشرع وسنة مؤكدة، والتكرير لمزيد تقرير حقيقته وإثباته- انتهى. واستدل به الحنفية على وجوب الوتر بناء على أن الحق هو الواجب الثابت على الذمة. ويؤيد ذلك كونه مقرونا بالوعيد على تاركه. وأجيب عنه بأن الحق بمعنى الثابت في الشرع كما تقدم في كلام الطيبي. ومعنى ليس منا، أي ليس من سنتنا وعلى طريقتنا، أو المراد من لم يوتر رغبة عن السنة فليس منا. فالحديث محمول على تأكيد السنية للوتر جمعا بينه وبين الأحاديث الدالة على عدم الوجوب. وقال الحافظ في الفتح: يحتاج من احتج به على الوجوب إلى أن يثبت أن لفظ حق بمعنى واجب في عرف الشارع، وأن لفظ واجب بمعنى ما ثبت من طريق الآحاد- انتهى. (رواه أبوداود) قال الحافظ في الدراية وبلوغ المرام بسند لين، وسكت عنه أبوداود. وقال الحافظ في الفتح: في سنده أبوالمنيب، وفيه ضعف وقال المنذري: في إسناده عبيدالله بن عبدالله أبوالمنيب العتكي المروزي، وقد وثقه ابن معين. وقال أبوحاتم الرازي: صالح الحديث. وتكلم فيه البخاري والنسائي وغيرهما- انتهى. قلت: أراد بغيرهما ابن حبان والعقيلي، فإنهما أيضا تكلما فيه. وأخرجه الحاكم (ج1 ص306) والبيهقي (ج2 ص470) ولم يكررا لفظه. قال الحاكم: حديث صحيح، وأبوالمنيب ثقة. وقال الذهبي في التلخيص: قلت: قال البخاري: عنده مناكير- انتهى. وقال الحاكم أبوأحمد ليس بالقوي عندهم. وقال البيهقي: لا يحتج به. وهذا كله يدل على أن فيه ضعفا، ولذلك لين الحافظ سند حديثه، وقد أصاب. وللحديث شاهد ضعيف أحمد (ج3 ص443) من طريق خليل بن مرة عن معاوية بن قرة عن أبي هريرة

(6/43)


مرفوعا بلفظ: من لم يوتر فليس منا، وهو منقطع؛ لأن معاوية بن قرة لم يسمع من أبي هريرة شيئا ولا لقيه. قاله أحمد. والخليل بن مرة ضعفه يحيى والنسائي. وقال لبخاري: منكر الحديث.
1287-(26) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله ?: ((من نام عن الوتر أو نسيه فليصل إذا ذكر وإذا استيقظ)). رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه.
1288-(27) وعن مالك، بلغه ((أن رجلا سأل ابن عمر عن الوتر: أواجب هو؟ فقال عبدالله: قد
أوتر رسول الله ?، وأوتر المسلمون، فجعل الرجل يردد عليه، وعبدالله يقول: أوتر رسول
الله?، وأوتر المسلمون)).
1287- قوله: (من نام عن الوتر) أي عن أدائه. (أو نسيه) فلم يصله. (فليصل) أي قضاء. (إذا ذكر) راجع إلى النسيان. (وإذا استيقظ) راجع إلى النوم، فالواو بمعنى أو، والترتيب مفوض إلى رأي السامع. وفيه دليل على مشروعية قضاء الوتر إذا فات. وأما ما روى ابن خزيمة في صحيحة، والحاكم (ج1 ص301، 302) والبيهقي (ج2 ص478) من طريق قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد مرفوعا: من أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له، فمحمول على التعمد أو على أنه لا يقع أداء جمعا بين الحديثين، لا أنه لا يجوز له القضاء. وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلا. (رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجه) واللفظ للترمذي. ولفظ ابن ماجه: فليصل إذا أصبح أو ذكره. وفي سندهما عبدالرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف. وأخرجه أبوداود من طريق أخرى صحيحة بلفظ: من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره، ولم يقل: إذا أصبح. قال العراقي: سنده صحيح. وأخرجه أيضا الحاكم وصححه الدارقطني والبيهقي كما سبق في تخريج حديث زيد بن أسلم.

(6/44)


1288- قوله: (وعن مالك) بن أنس، إمام دار الهجرة، صاحب المذهب المشهور. (بلغه) وفي الموطأ: أنه بلغه. وقد تقدم قول ابن عبدالبر أن جميع ما في الموطأ من قول مالك: بلغني، ومن قوله: عن الثقة عندي مما لم يسنده كله مسند من غير طريق مالك إلا أربعة أحاديث، فذكرها، وهذا البلاغ ليس منها، فيكون مسندا. وسيأتي ذكر من وصله وأسنده. (أواجب هو) أي أو هو سنة؟. (فقال عبدالله) بن عمر في جوابه. (قد أوتر رسول الله ?، وأوتر المسلمون) قال القاري: اكتفى ابن عمر بالدليل عن المدلول، فكأنه قال: إنه واجب بدليل مواظبته عليه الصلاة والسلام وإجماع أهل الإسلام- انتهى. قلت: المواظبة إنما يكون دليلا على الوجوب حيث لم يرو ما يصرفها إلى الندب، وههنا قد صح ما يدل على عدم وجوب الوتر. والظاهر أن ابن عمر نبه بهذا الجواب على أن الوتر سنة معمول بها وطريقة مسلوكة. ولو كان واجبا عنده لأفصح للرجل بوجوبه. (فجعل الرجل يردد عليه) أي يكرر السؤال، ويطلب الصريح. (وعبد الله) يردد عليه جوابه السابق. (ويقول) في كل مرة: (أوتر رسول الله ?، وأوتر المسلمون) قال الباجي: يحتمل أن عبدالله بن عمر
رواه في الموطأ.

(6/45)


قد علم أنه غير واجب، ولم ير الرجل لهذا المقدار من العلم، وكان يخبره بما هو يحتاج إليه من أنه ? أوتر، وأوتر المسلمون بعده، وطوى عنه ما لا يحتاج هو إليه. ويحتمل أن ابن عمر لم يتبين له حكم ما سأل عنه، فأجاب بما كان، وترك ما أشكل عليه- انتهى. وقال الطيبي: وتلخيص الجواب أن لا أقطع بالقول بوجوبه ولا بعدم وجوبه؛ لأني إذا نظرت إلى أن رسول الله ? وأصحابه رضي الله عنهم واظبوا عليه ذهبت إلى الوجوب، وإذا فتشت نصا دالا عليه نكصت عنه، أي رجعت وأحجمت. قلت: لا شك أنه لم يرو حديث صحيح صريح في وجوب الوتر، بل قد ثبت وصح ما يدل على استحبابه. وهو قرينة واضحة على أن الوتر سنة لا واجب، نعم هو سنة مؤكدة أوكد من سائر السنن، وعلى أن مواظبته ? والصحابة بعده على الوتر كالمواظبة على بعض السنن المؤكدة الأخر. (رواه) أي مالك. (في الموطأ) بالهمزة وقيل بالألف. وسبق الاعتراض على هذا التعبير، فتذكر. وهذا الحديث أخرجه أحمد موصولا (ج2 ص29) قال: حدثنا معاذ حدثنا ابن عون عن مسلم مولى لعبد القيس- قال معاذ: كان شعبة يقول القرى- قال: قال رجل لابن عمر أرأيت الوتر أسنة هو؟ قال ما سنة أوتر رسول الله ? وأوتر المسلمون بعده. قال: لا أسنة هو؟ قال: مه، أتعقل أوتر رسول الله ? وأوتر المسلمون. قال الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند (ج7 ص36): إسناده صحيح، مسلم مولى عبدالقيس هو مسلم بن مخراق القرى، وهو مولى بنى قرة حي من عبدالقيس، كما ذكره البخاري في الكبير. تابعي ثقة، وثقه النسائي والعجلي وغيرهما. وهذا الحديث رواه مالك في الموطأ بنحوه بلاغا غير متصل فذكره، ثم قال: والظاهر لي أن الحفاظ القدماء لم يجدوا وصل هذا البلاغ، فذكره ابن عبدالبر في التقصي رقم (808) ولم يذكر شيئا في وصله، وكذلك صنع السيوطي في شرح الموطأ، وكذلك الزرقاني في شرحه (ج1 232) وها هو ذا موصول في المسند. وقد ذكره الحافظ المروزي في كتاب الوتر (ص114) ولكنه ذكره

(6/46)


معلقا عن مسلم القرى كرواية المسند هنا، ولم يذكر إسناده إلى مسلم القرى- انتهى. وأخرجه أحمد في (ج2 ص58) مختصرا قال: حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن عمرو بن محمد عن نافع سأل رجل ابن عمر عن الوتر أواجب هو؟ فقال: أوتر رسول الله ? والمسلمون. قال الشارح: إسناده صحيح، سفيان هو الثوري عمر بن محمد بن زيد بن عبدالله بن عمر بن الخطاب المدني نزيل عسقلان، ثقه، وثقه أحمد وابن معين والعجلي وأبوداود وغيرهم، قال: وهذا الحديث مختصرا لحديث الذي رواه مالك في الموطأ بلاغا عن ابن عمر، ولم يذكر المتقدمون ممن كتبوا على الموطأ طريق وصله. وقد مضى نحوه موصولا من طريق مسلم القرى عن ابن عمر، ولكن السؤال هناك "أسنة هو" وما هنا أواجب هو؟ وهذا اللفظ يوافق السؤال في رواية مالك، فقد وجدنا وصل هذا البلاغ من طريقتين صحيحين في المسند والحمد لله- انتهى.
1289-(28) وعن علي قال: ((كان رسول الله ? يوتر بثلاث، يقرأ فيهن بتسع سور من المفصل، يقرأ في كل ركعة بثلاث سور آخرهن: ?قل هو الله أحد?)). رواه الترمذي.
1290-(29) وعن نافع، قال: كنت مع ابن عمر بمكة، والسماء مغيمة،
___________________________________________________

(6/47)


1289- قوله: (كان رسول الله ? يوتر بثلاث) أي بثلاث ركعات. (يقرأ فيهن بتسع سور المفصل) أي من قصارة، كما سيأتي. (آخرهن) أي آخر السور. (قل هو الله أحد) الحديث أخرجه أيضا أحمد ولفظه: كان رسول الله ? يوتر بتسع سور من المفصل يقرأ في الركعة الأولى: ?ألهاكم التكاثر? و?إنا أنزلناه في ليلة القدر? و?إذا زلزلت الأرض?، وفي الركعة الثانية: ?والعصر? و?إذا جاء نصر الله والفتح? و?إنا أعطيناك الكوثر?، وفي الركعة الثالثة: ?قل ياأيها الكافرون? و?تبت يدا أبي لهب? و?قل هو اله أحد?- انتهى. والحديث يدل على مشروعية قراءة هذه السور في الوتر، لكنه حديث ضعيف، كما ستعرف. وروى محمد بن نصر عن سعيد بن جبير قال: لما أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب أن يقوم الناس في رمضان كان يوتر بهم فيقرأ في الركعة الأولى: ?إنا أنزلناه في ليلة القدر?، وفي الثانية بـ?قل يآيها الكافرون?، وفي الثالثة بـ?قل هو الله أحد? قلت: والمختار عندي أن يقرأ في الوتر بـ?سبح اسم ربك الأعلى? و?قل يآيها الكافرون? و?قل هو الله أحد? لما صح ذلك عن أبي بن كعب، وابن عباس مرفوعا، وهو الذي اختاره أكثر أهل العلم، كما سبق، ولو زاد المعوذتين في الثالثة أو قرأ بما ورد في حديث علي أو بما روي عن عمر من فعله أحيانا لم يكن فيه بأس. (رواه الترمذي) من طريق أبي بكر ابن عياش عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي، وأخرجه أحمد (ج1 ص89) ومحمد بن نصر من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق، وأخرجه أيضا أحمد بن إبراهيم الدورقي في مسند علي له، كما في التلخيص (ص118).

(6/48)


1290- قوله: (وعن نافع) مولى عبدالله بن عمر. (كنت مع ابن عمر) ذات ليلة (بمكة) وفي بعض نسخ الموطأ: بطريق مكة. (والسماء مغيمة) أي مغطاة بالغيم يعني محيط بها السحاب، كذا وقع في أكثر النسخ الموجودة عندنا بتقديم الياء على الميم الثانية من التغييم أو الإغامة، وكذا وقع في جامع الأصول (ج7 ص42)، وهكذا وقع في الموطأ. قال الشيخ سلام الله في المحلى شرح الموطأ: على زنة المفعول أو الفاعل من التغييم أو بكسر الغين وسكون الياء من الإغامة. قال عياض: كذا ضبطناه في الموطأ عن شيوخنا، وكله صحيح- انتهى. وفي أصل القاري الذي أخذه في شرح المشكاة: مغمية: بتقديم الميم الثانية على الياء، قال القاري: كذا في نسخ المصححة بضم الميم الأولى وكسر الثانية، وفي نسخة: مغيمة: بكسر الياء المشددة، وقيل بفتحها. وفي نسخة بضم
فخشي الصبح، فأوتر بواحدة، ثم انكشف، فرأى أن عليه ليلا، فشفع بواحدة، ثم صلى
ركعتين ركعتين، فلما خشي الصبح أوتر بواحدة)). رواه مالك.
___________________________________________________

(6/49)


الميم وكسر الياء مغيمة وقيل بكسر الغين أي مغيمة وفي نسخة مغماة مشددة ومخففة، وفي نسخة كمرضية، ومآل الكل إلى معنى واحد. قال الطيبي: أي مغطاة بالغيم. وقال الجزري في النهاية: يقال غامت السماء وأغامت وتغيمت كله بمعنى- انتهى. زاد في الصحاح والقاموس: وأغيمت وتغيمت تغيما، وقال ابن حجر: يقال غيمت الشيء إذا غطيته وأغمي وغمي، وغمي بتشديد الميم وتخفيفها الكل بمعنى- انتهى. وفي التاج: التغييم والإغامة الدخول في الغيم، والإغماء تستر الشيء على الشخص ويعدى بعلى، والتغمية التغطية. قال شجاع: فعلى هذه الأقوال يجوز لغة مغيمة بكسر الياء والتشديد من التفعيل من الأجوف ومغمية من الناقص الثلاثي على وزن مرمية، ومغماة اسم مفعول من التغمية أو الإغماء- انتهى. ووقع في الموطأ للإمام محمد متغيمة من التغيم. (فخشي) عبدالله بن عمر. (الصبح) أي طلوع الفجر فيفوت وتره. (فأوتر بواحدة) أي بركعة فردة من غير أن يضمها إلى شفع قبلها. (ثم انكشف) وفي الموطأ ثم انكشف الغيم أي ارتفع السحاب. (فرأى أن عليه ليلا) أي باق عليه الفجر لم يطلع بعد. (فشفع) وتره. (بواحدة) قال الباجي يحتمل أنه لم يسلم من الواحدة فشفعها بأخرى على رأي من قال: لا يحتاج في نية أول الصلاة إلى اعتبار عدد الركعات والاعتبار وتر وشفع، ويحتمل أنه سلم- انتهى. والثاني هو الظاهر بل هو المتعين؛ لأن ابن عمر قائل بنقض الوتر، فقد روى أحمد في مسنده عن ابن عمر أنه كان إذا سئل عن الوتر قال: أما أنا فلو أوترت قبل أن أنام ثم أردت أن أصلي بالليل شفعت بواحدة ما مضى من وتري ثم صليت مثنى، فإذا قضيت صلاتي أوترت بواحدة؛ لأن رسول الله ? أمرنا أن نجعل آخر صلاة الليل الوتر. قلت: وما فعله ابن عمر من نقض الوتر هو من رأي منه واجتهاد، وليس عنده في هذه رواية عن النبي ?، كما روى ذلك محمد بن نصر عنه، ولا دليل على ذلك في الأمر يجعل الوتر آخر صلاة الليل، فإنه ليس للإيجاب

(6/50)


بل هو للندب، كما تقدم. وارجع إلى كتاب الوتر لمحمد بن نصر (ص127، 128). (ثم صلى) بعد ذلك. (ركعتين ركعتين) للتهجد. (فلما خشي الصبح) بعد ذلك (أوتر بواحدة). روي مثله عن علي وعثمان وابن مسعود وأسامة وعروة ومكحول وعمرو بن ميمون، وهذه مسألة يعرفها أهل العلم بنقض الوتر، وخالف في ذلك جماعة منهم أبوبكر كان يوتر قبل أن ينام ثم أن قام صلى ولم يعد الوتر، وروي مثله عن أبي هريرة وعمار وعائشة وكانت تقول: أوتر أن في ليلة إنكارا لذلك، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة والأوزاعي وأبي ثور وغيرهم، وقد تقدم شيء من الكلام في هذه المسألة في شرح حديث: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا. (رواه مالك) لم أقف على من أخرجه من غيره.
1291-(30) وعن عائشة ((أن رسول الله ? كان يصلي جالسا، فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين أو أربعين آية، قام وقرأ وهو قائم، ثم ركع، ثم سجد، ثم يفعل في
الركعة الثانية مثل ذلك)).

(6/51)


1291- قوله: (إن رسول الله ? كان) أي في آخر حياته لما أسن وكبر، ففي رواية قالت: ما رأيت النبي ? يقرأ في شيء من صلاة الليل جالسا حتى إذا كبر قرأ جالسا، فإذا بقي عليه من السورة ثلاثون أو أربعون آية قام- الحديث. قال الحافظ: بينت حفصة أن ذلك كان قبل موته بعام. (يصلي) أي النوافل في الليل (جالسا) حال. (فيقرأ) فيها القرآن بقدر ما شاء. (فإذا بقي من قراءته) أي مما أراد من قراءته، وفيه إشارة إلى أن الذي كان يقرأه قبل أن يقوم أكثر؛ لأن البقية تطلق في الغالب على الأقل. (قدر ما يكون ثلاثين أو أربعين آية) اكتفى بهذا التمييز عن تمييز الأول، وأو قيل للشك من الراوي، وقيل للتنويع باعتبار اختلاف الأوقات. (قام وقرأ) هذه الآيات. (وهو قائم ثم ركع) فيه دليل على أن من لم يطق أن يقوم في جميع صلاته جاز له أن يقوم فيما أمكنه منه. قال الباجي: ولا خلاف نعلمه في جواز ذلك في النافلة، وفيه أيضا دليل على أن الأفضل أن يقوم فيقرأ شيئا ثم يركع ليكون موافقا للسنة ولو لم يقرأ ولكنه استوى قائما ثم ركع جاز. (ثم يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك) المذكور من قراءته أولا جالسا ثم قائما، والحديث يدل على جواز الركوع من قيام لمن قرأ قاعدا. وقد روي عن عائشة أيضا أن النبي ?كان يصلي ليلا طويلا قائما وليلا طويلا قاعدا، وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم وإذا قرأ قاعدا ركع وسجد وهو قاعد. أخرجه الجماعة إلا البخاري، وهذا بظاهره يخالف حديثها الأول؛ لأنه يدل على أن المشروع لمن قرأ قائما أن يركع ويسجد من قيام، ومن قرأ قاعدا أن يركع ويسجد من قعود. وفي بعض طرق هذا الحديث عند مسلم: فإذا افتتح الصلاة قائما ركع قائما وإذا افتتح الصلاة قاعدا ركع قاعدا وهذا يدل على أن من افتتح النافلة قاعدا يركع قاعدا أو قائما يركع قائما، ويجمع بين هذه الروايات بأنه كان يفعل كلا من ذلك بحسب النشاط وعدمه. وقال العراقي:

(6/52)


فيحمل على أنه كان يفعل مرة كذا، ومرة كذا، فكان مرة يفتتح قاعدا ويتم قراءته قاعدا ويركع قاعدا، وكان مرة يفتتح قاعدا ويقرأ بعض قراءته قاعدا وبعضها قائما ويركع قائما، فإن لفظ كان لا يقضي المداومة. قال الشوكاني والحديث يدل على أنه يجوز فعل بعض الصلاة من قعود، وبعضها من قيام وبعض الركعة من قعود، وبعضها من قيام . قال العراقي: وهو كذلك سواء قام ثم قعد أو قعد ثم قام، وهو قول جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وحكاه النووي عن عامة العلماء، وحكي عن بعض السلف منعه. قال: وهو غلط، وحكى القاضي عياض عن أبي يوسف
رواه مسلم.
1292-(31) وعن أم سلمة، ((أن النبي ? كان يصلي بعد الوتر ركعتين)). رواه الترمذي، وزاد ابن ماجه: خفيفتين وهو جالس.
1293-(32) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((كان رسول الله ? يوتر بواحدة، ثم يركع
ركعتين يقرأ فيهما وهو جالس، فإذا أراد أن يركع. قام فركع)). رواه ابن ماجه.
ومحمد في آخرين كراهة القعود بعد القيام، ومنع أشهب من المالكية الجلوس بعد أن ينوي القيام، وجوزه ابن القاسم والجمهور- انتهى. (رواه مسلم) بل أخرجه الجماعة، وله ألفاظ هذا أحدها، قال القاري: ولا يظهر وجه مناسبته للباب، اللهم إلا أن يقال: أن الحديث ساكت عن الركعة الثالثة، أو ذكر هذا الشفع؛ لأنه مقدمة الوتر، أو يحمل هذا الشفع على ما بعد الوتر، فكان حقه أن يذكره في آخر الباب- انتهى.

(6/53)


1292- قوله: (وعن أم سلمة) أم المؤمنين. (كان يصلي بعد الوتر ركعتين) أي جالسا كما سيأتي. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا أحمد (ج6 ص298، 299) والدارقطني (ص177) ومحمد بن نصر والبيهقي (ج3 ص32) كلهم من حديث ميمون بن موسى المرئي عن الحسن عن أمه عن أم سلمة. (وزاد ابن ماجه خفيفتين وهو جالس) وزاده أيضا الدارقطني ومحمد بن نصر، والحديث لم يحكم الترمذي عليه بشيء، وصححه الدارقطني في سننه، ثبت ذلك في رواية محمد بن عبدالملك بن بشران عنه، وليس في رواية أبي طاهر محمد بن أحمد بن عبدالرحيم عن الدارقطني تصحيح له، قاله العراقي. قلت: في سنده ميمون بن موسى المرئي، وهو صدوق، لكنه مدلس، وروى عن الحسن بالعنعنة. قال أحمد كان يدلس لا يقول: حدثنا الحسن ما رأى به بأسا. وقال الفلاس: صدوق لكنه يدلس، وقال النسائي وأبوأحمد الحاكم: ليس بالقوى. وقال أبوداود: ليس به بأس. وقال البيهقي: ميمون هذا بصري، ولا بأس به، إلا أنه كان يدلس، قاله أحمد بن حنبل وغيره، وروي عن زكريا بن حكيم عن الحسن، وخالفهما هشام، فرواه عن الحسن عن سعد بن هشام عن عائشة. قال البخاري: وهذا أصح.
1293- قوله: (يوتر بواحدة) أي بركعة واحدة فردة. (ثم يركع) أي يصلي (ركعتين هو جالس فإذا أراد أن يركع قام فركع) قال ابن حجر: لا ينافي ما قبله؛ لأنه كان تارة يصليهما في جلوس من غير قيام، وتارة يقوم عند إرادة الركوع- انتهى. (رواه ابن ماجه) وكذا البيهقي (ج3 ص32) كلاهما من طريق الأوزاعي
1294-(33) وعن ثوبان، عن النبي ? قال: ((إن هذا السهر جهد وثقل، فإذا أوتر أحدكم فليركع ركعتين، فإن لم قام من الليل، وإلا كانتا له)). رواه الدارمي.
___________________________________________________

(6/54)


عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عائشة، قال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات- انتهى. قلت: أصل الحديث عند مسلم من طريق هشام عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عائشة قالت: سألت عائشة عن صلاة رسول الله ? فقالت: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، يصلي ثمان ركعات ثم يوتر، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع- الحديث.
1294- قوله: (إن هذا السهر) أي الذي تسهرونه في طاعة الله. والسهر بفتحتين عدم النوم، وروى الدارقطني والبيهقي (ج3 ص33) بلفظ: أن هذا السفر أي بالفاء بدل الهاء، وكذا ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص246) نقلا عن معجم الطبراني، وكتب على هامش سنن الدارمي، طبعه الهند هذه العبارة، وعليها علامة النسخة، ويقال هذا السفر وأنا أقول السهر، والظاهر أنها مقولة الدارمي، ويؤيد لفظ السفر كون القصة وقعت في حالة السفر، ففي رواية الدارقطني والبيهقي والطبراني عن ثوبان، قال: كنا مع رسول الله ? في سفر فقال: إن السفر جهد وثقل الخ. (جهد) بالفتح وبالضم أيضا المشقة. (وثقل) بكسر المثلثة وسكون القاف وفتحها أي شاق، وثقيل على النفوس البشرية بحكم العادة الطبيعة. (فإذا أوتر أحدكم) أي قبل النوم في أول الليل لعدم الوثوق بالاستيقاظ في آخر الليل. (فليركع) أي فليصل. (ركعتين) قال البيهقي: يحتمل أن يكون المراد به ركعتان بعد الوتر، ويحتمل أن يكون أراد، فإذا أراد أن يوتر فليركع ركعتين قبل الوتر. (فإن قام من الليل) وصلى فيه فيها أي أتى بالخصلة الحميدة ويكون نورا على نور. (وإلا) أي وإن لم يقم أي من الليل لغلبة النوم له. (كانتا) أي الركعتان (له) أي كافيتين له من قيام الليل، والمعنى من قام بعد الركعتين وصلى التهجد. فهو الأفضل وإن لم يقم ولم يصل كانتا مجزئتين عن أصل ثواب التهجد في السفر؛ لأن الحديث كان في حالة السفر، كما تقدم. قال ابن حجر: هذا لا ينافي خبر: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا، أما لأن

(6/55)


أوتر هنا بمعنى أراد أي إذا أراد أن يوتر فليركع ركعتين فليوتر أي بواحدة أو بثلاث فيكون الركعتان قبل الوتر نافلة قائمة مقام التهجد، أو لأن الأمر بالركعتين هنا لبيان الجواز نظير ما مر من تأويل فعله ? لهما بعد الوتر بذلك، وهذا الأخير هو الذي فهمه الدارمي والدارقطني حيث أورداه في باب الركعتين بعد الوتر. وقال القاري: والأخير غير صحيح إذا لم يعرف ورود الأمر لبيان الجواز فيتعين التأويل الأول- انتهى. (رواه الدارمي) بسند جيد، وأخرجه أيضا الطحاوي والدارقطني (ص177) والطبراني في الكبير الأوسط والبيهقي (ج3 ص33). وفي سند الثلاثة عبدالله بن صالح أبوصالح كاتب الليث بن سعد، وفيه كلام.
1295-(34) وعن أبي أمامة: ((أن النبي ? كان يصليهما بعد الوتر وهو جالس، يقرأ فيهما، . ?إذا زلزلت? و?قل يآيها الكافرون?)). رواه أحمد.
(36) باب القنوت
1295- قوله: (إن النبي ?كان) أي أحيانا. (يصليهما) أي الركعتين. (يقرأ فيهما) أي في الركعتين. ?إذا زلزلت? في الأولى و?قل يآيها الكافرون? في الثانية. (رواه أحمد) (ج5 ص260) قال الهيثمي: رجاله ثقات، وأخرجه أيضا الطحاوي والبيهقي (ج3 ص33) والطبراني في الكبير ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الوتر، وروى الدارقطني والبيهقي نحوه من حديث أنس.
(باب القنوت) القنوت ورد في معان كثيرة، ذكر ابن العربي في شرح الترمذي: أن له عشرة معان، وقد نظمها في البيتين:
دعاء خشوع والعبادة طاعة إقامتها إقراره بالعبودية
سكوت صلاة والقيام وطوله كذاك دوام الطاعة الرابح النية

(6/56)


والمراد هنا الدعاء في الصلاة في محل مخصوص من القيام واعلم أن ههنا عدة مسائل خلافية: إحداها أنه يقنت في الوتر أم لا. والثانية أنه إذا قنت في الوتر يقنت قبل الركوع أو بعده. والثالثة أن القنوت في الوتر في جميع السنة أو في النصف الأخير من رمضان. والرابعة ألفاظ قنوت الوتر، وقد سبق الكلام في هذه المسائل، وتعيين ما هو الراجح في ذلك، وسيأتي شيء من الكلام في الثانية والثالثة. وأما مسألة التكبير عند إرادة القنوت في الوتر ورفع اليدين عند تكبير القنوت فيه كرفعهما عند التحريمة، كما يفعله الحنفية فلم يصح فيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، نعم ورد فيهما آثار عن بعض الصحابة، فقد ذكر محمد بن نصر المروزي في كتاب الوتر عن عمر وعلي وابن مسعود والبراء أنهم كبروا عند القنوت في الوتر قبل الركوع. قال شيخنا في شرح الترمذي: لم أقف على حديث مرفوع في التكبير للقنوت، ولم أقف على أسانيد هذه الآثار. وأما رفع اليدين في قنوت الوتر أي كرفعهما عند التحريمة، فلم أقف على حديث مرفوع فيه أيضا، نعم جاء فيه عن ابن مسعود من فعله، فذكره نقلا عن جزء رفع اليدين للبخاري، وعن كتاب الوتر للمروزي، وذكر أيضا في ذلك آثارا عن عمر وأبي هريرة وأبي قلابة ومكحول عن كتابة المروزي، ثم قال: وفي الاستدلال بها على رفع اليدين في قنوت الوتر كرفعهما عند التحريمة نظر، إذ ليس فيها ما يدل على هذا، بل الظاهر منها ثبوت رفع اليدين كرفعهما في الدعاء، فإن القنوت دعاء- انتهى. قلت: الأمر كما قال الشيخ فليس في هذه الآثار دلالة على مطلوبهم، بل هي ظاهرة في رفع اليدين في القنوت حال الدعاء، كما يرفع الدعي فيجوز أن ترفع اليدان حال الدعاء في قنوت الوتر عملا بتلك الآثار كما

(6/57)


ترفعان في قنوت النازلة في غير الوتر لثبوته عن النبي ?، كما سيأتي. قال شيخ مشائخنا الشيخ حسين بن محسن الأنصاري في مجموعة فتاواه (ص160): قد ثبت الرفع من فعله ? في قنوت غير الوتر، فالوتر مثله لعدم الفارق بين القنوتين إذ هما دعاءان، ولهذا قال أبويوسف أنه يرفعهما في قنوت الوتر إلى صدره ويجعل بطونهما إلى السماء، واختاره الطحاوي والكرخي. قال الشامي: والظاهر أنه يبقيهما كذلك إلى تمام الدعاء على هذه الرواية- انتهى. قال: والحاصل أن رفع اليدين في قنوت الوتر. (كرفع الداعي) ثبت من فعل ابن مسعود وعمر وأنس وأبي هريرة، كما ذكره الحافظ في التلخيص، وكفى بهم أسوة وثبت من فعل النبي ?في غير الوتر- انتهى. والمسألة الخامسة: هل يشرع القنوت في غير الوتر من غير سبب أو لا يشرع؟ فذهب جماعة، ومنهم أبوحنيفة وأحمد إلى عدم مشروعيته قالوا: لا يسن القنوت من غير سبب في صلاة الصبح، ولا في غيرها من الصلوات سوى الوتر، وذهب جماعة ومنهم مالك والشافعي إلى أنه يسن القنوت في صلاة الصبح في جميع الزمان، وهذا يدل على أنهم اتفقوا على ترك القنوت في أربع صلوات من غير سبب، وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء، واختلفوا في صلاة الصبح فقال مالك والشافعي باستمرار شرعيته في الصبح، وذهب أحمد وأبوحنيفة إلى عدم شرعيته وأنه مختص بالنوازل، واحتج المثبتون بما روى الدارقطني (ص118) وعبدالرزاق وأحمد (ج3 ص162) وأبونعيم والطحاوي (ج1 ص143) والبيهقي في المعرفة وفي السنن (ج2 ص201) والحاكم وصححه من حديث أنس قال: ما زال رسول الله ? يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا. وأجاب النافون بأنه لو صح لكان قاطعا للنزاع، ولكنه من طريق أبي جعفر الرازي، وثقه غير واحد، ولينه جماعة. قال: فيه عبدالله بن أحمد، عن أبيه والنسائي والعجلي: ليس بالقوي. وقال ابن المديني: أنه يخلط. وقال أبوزرعة: يهم كثيرا. وقال ابن خراش والفلاس: صدوق سيء الحفظ. وقال ابن معين: ثقة لكنه

(6/58)


يخطيء. وقال الدوري: ثقة ولكنه يغلط. وقال الساجي: صدوق ليس بمتقن. وقال ابن القيم: هو صاحب مناكير، لا يحتج بما انفرد به أحد من أهل الحديث البتة. وقال ابن حبان: كان ينفرد عن المشاهير بالمناكير. وقال ابن الجوزي في التحقيق، وفي العلل المتناهية: هذا حديث لا يصح، ثم ذكر الكلام في أبي جعفر الرازي. وقال صاحب التنقيح: وإن صح فهو محمول على أنه ما زال يقنت في النوازل أو على أنه ما زال يطول في الصلاة، فإن القنوت لفظ مشترك بين الطاعة والقيام والخشوع والسكوت وغير ذلك. وقال ابن القيم: ولو صح لم يكن فيه دليل على هذا القنوت المعين البتة، فإنه ليس فيه أن القنوت هذا الدعاء، فإن القنوت يطلق على القيام والسكوت ودوام العبادة والدعاء والتسبيح والخضوع، وحمل قول أنس على إطالة القيام بعد الركوع، وأجاب عن تخصيصه بالفجر بأنه وقع بحسب سؤال السائل، فإنه إنما سأل عن قنوت الفجر فأجابه

(6/59)


عما سأله عنه، وبأنه ? كان يطيل صلاة الفجر دون سائر الصلوات، قال: ومعلوم أنه كان يدعو ربه ويثني عليه ويمجده في هذه الاعتدال، وهذا قنوت منه بلا ريب، فنحن لا نشك ولا نرتاب أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا، إلى آخر ما بسط الكلام فيه. قال الشوكاني: وهو على فرض صلاحية حديث أنس للاحتجاج وعدم اختلافه واضطرابه محمل حسن- انتهى. وأجابوا أيضا بمعارضته بما روى الخطيب من طريق قيس بن الربيع عن عاصم بن سليمان قلنا؛ لأنس أن قوما يزعمون أن النبي ? لم يزل يقنت في الفجر فقال كذبوا إنما قنت شهرا واحدا يدعو على حي من أحياء المشركين، وقيس وإن كان ضعيفا، لكنه لم يتهم بكذب، وروى ابن خزيمة في صحيحة، والخطيب في كتاب القنوت من طريق سعيد عن قتادة عن أنس أن النبي ? لم يقنت إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم. قال الحافظ في الدارية: سنده صحيح، وكذا قال صاحب التنقيح، فاختلفت الروايات عن أنس واضطربت فلا يقوم بمثل هذا حجة، واحتج هؤلاء على عدم مشروعية القنوت في غير الوتر من غير سبب بحديث أبي مالك الأشجعي في الفصل الثاني، وسيأتي الكلام فيه هناك. واحتجوا أيضا بأحاديث مرفوعة صحيحة غير صريحة، أو صريحة غير صحيحة، وبآثار الصحابة، ذكرها النيموي في آثار السنن وغيره في غيره. والراجح عندي ما ذهب إليه أبوحنيفة وأحمد أنه لا يسن القنوت في غير الوتر من غير سبب لا في صلاة الصبح ولا في غيرها من الصلوات، وأنه مختص بالنوازل؛ لأنه لم يرد في ثبوته في غير الوتر من غير سبب حديث مرفوع صحيح خال عن الكلام، صريح في الدلالة على ما ذهب إليه مالك والشافعي، بل قد صح عنه ? ما يدل على خلاف ما قالا به كما ستقف عليه. والمسألة السادسة: أنه إذا حدث سبب أي نزل بالمسلمين نازلة أي شدة وبليه مثل الوباء والقحط والعدو ونحو ذلك، فهل يشرع القنوت في غير الوتر أم لا؟ وإذا شرع فهل يختص بصلاة الفجر أو الجهرية أو يعم الصلوات الخمس؟ فذهب جمهور أهل

(6/60)


الحديث والشافعي إلى أن ذلك مشروع ومطلوب في الصلوات الخمس، وذهب الحنابلة إلى تخصيصه بصلاة الفجر فقط، وهو مذهب الحنفية على القول المفتى به، وإلا فلهم في المسألة قولان، أحدهما أنه يختص بالصلوات الجهرية. قال في البناية شرح الهداية: وبه قال الأكثرون، والآخر أنه يختص بصلاة الفجر فقط. والراجح عندي هو ما ذهب إليه الشافعي وجمهور أهل الحديث؛ لأن الأحاديث الصحيحة صريحة في طلب القنوت في الصلوات الخمس، ولم يجئ حديث مرفوع صحيح أو ضعيف في تخصيصه بالجهرية أو الصبح فقط. قال الشوكاني: الحق ما ذهب إليه من قال: أن القنوت مختص بالنوازل، وأنه ينبغي عند نزول النازلة أن لا تخص به بصلاة دون صلاة. وقد ورد ما يدل على اختصاصه بالنازلة من حديث أنس عند ابن خزيمة في صحيحة، وقد تقدم، ومن حديث أبي هريرة عند ابن حبان بلفظ: كان لا يقنت إلا أن يدعو لقوم أو على
?الفصل الأول?
1296-(1) عن أبي هريرة، ((أن رسول الله ? كان إذا أراد أن يدعو على أحد، أو يدعو لأحد،

(6/61)


قوم- انتهى. قال الحافظ في الدارية (ص117) وصاحب التنقيح: سند كل من حديث أنس عند ابن خزيمة، وحديث أبي هريرة عند ابن حبان صحيح. وقال ابن القيم ما معناه: الإنصاف الذي يرتضيه العالم المصنف أنه ? قنت وترك وكان تركه للقنوت أكثر من فعله فإنه إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم وللدعاء على آخرين ثم تركه لما قدم من دعا لهم، وخلصوا من الأسر، وأسلم من دعى عليهم، وجاؤوا تائبين، وكان قنوته لعارض، فلما زال ترك القنوت- انتهى. والمسألة السابعة: أنه إذا قنت في النازلة هل يقنت قبل الركوع أو بعده؟ فذهب الشافعي وأحمد إلى أنه بعد الركوع، واختلفت الحنفية فيه، قال في رد المحتار (ج1 ص628): وهل القنوت هنا قبل الركوع أو بعده؟ لم أره، والذي يظهر لي أن المقتدي يتابع إمامه إلا إذا جهر فيؤمن، وأنه يقنت بعد الركوع لا قبله، بدليل أن ما استدل به الشافعي على قنوت الفجر، وفيه التصريح بالقنوت بعد الركوع حمله علماؤنا على القنوت للنازلة، ثم رأيت الشرنبلالي في مراقي الفلاح صرح بأنه بعده واستظهر الحموي أنه قبله، والأظهر ما قلنا- انتهى. وقال النيموي في تعليق التعليق (ج2 ص21): والذي يظهر لي أنه يقنت للنازلة قبل الركوع أو بعده كلاهما جائز، لما روى عن غير واحد من الصحابة أنهم قنتوا في صلاة الصبح قبل الركوع، ثم ذكر حديث أنس الآتي في آخر الباب، وقال: ورواه ابن المنذر عن حميد عن أنس بلفظ: أن بعض أصحاب النبي ? قنتوا في صلاة الفجر قبل الركوع وبعضهم بعد الركوع- انتهى. قال: ولكن الأفضل أن يقنت بعد الركوع؛ لأنه ? قنت في النازلة بعد ما رفع رأسه من الركوع- انتهى كلام النيموي. قلت: والمختار عندي أن القنوت في النازلة بعد الركوع؛ لأنه لم يثبت عنه ? غير ذلك، لكن لو قنت قبل الركوع جاز لما جاء عن بعض الصحابة أنهم قنتوا في صلاة الفجر قبل الركوع. واعلم أنه لم يثبت في الدعاء في قنوت النازلة عن النبي ?، ولا عن السلف والخلف دعاء مخصوص متعين

(6/62)


كقنوت الوتر؛ لأنه من المعلوم أن الصحابة كانوا يقنتون في النوازل، وهذا يدل على أنهم ما كانوا يحافظون على قنوت راتب، ولذلك قال العلماء: أنه ينبغي الدعاء في ذلك بما يناسب الحال، كما صرح به فقهاء الشافعية والعلامة الأمير اليماني في شرح بلوغ المرام، فبأي دعاء وقع كفى وحصل به المقصود.
1296- قوله: (كان إذا أراد أن يدعو) أي في صلاته. (على أحد) أي لضرره. (أو يدعو لأحد) أي
قنت بعد الركوع، فربما قال إذا قال: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة،
___________________________________________________

(6/63)


لنفعه (قنت بعد الركوع) قال القاري: هو يحتمل التخصيص بالصبح، أو تعميم الصلوات، وهو الأظهر- انتهى. قلت: بل هو المتعين؛ لأنه لا دليل على التخصيص، بل يبطله حديث ابن عباس الآتي وغيره، والحديث يدل بمفهومه على أن القنوت في المكتوبة إنما يكون عند إرادة الدعاء على قوم أو لقوم، ويؤيده ما قدمنا من حديث أنس عند ابن خزيمة، وحديث أبي هريرة عند ابن حبان، وأخذ منه الشافعي، وجمهور أهل الحديث أنه يسن القنوت في أخيرة سائر المكتوبات النازلة أي الشدة التي تنزل بالمسلمين عامة كوباء وقحط وخوف وعدو، أو خاصة ببعضهم كأسر العالم أو الشجاع ممن تعدى نفعه، وفيه رد على ما قال الطحاوي في شرح الآثار (ص149): فثبت بما ذكرنا أنه لا ينبغي القنوت في الفجر في حال الحرب وغيره قياسا ونظرا على ما ذكرنا من ذلك، ورد عليه أيضا فيما قال: "إن القنوت في الصلوات كلها للنوازل لم يقل به إلا الشافعي"، "فربما قال" أي النبي ?. (اللهم أنج) بفتح الهمزة أمر من الإنجاء أي أخلص. (الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة) هذا مثال الدعاء لأحد كما أن قوله: اللهم اشدد وطأتك الخ مثال للدعاء على أحد، وكان هؤلاء الصحابة الذين دعا لهم بالإنجاء أسراء في أيدي الكفار بمكة. أما الوليد بن الوليد فهو أخو خالد بن الوليد المخزومي القرشي، شهد بدرا مشركا فأسره عبدالله بن جحش فقدم في فداءه أخواه خالد وهشام وكان هشام أخا الوليد لأبيه وأمه فافتكاه بأربعة الآلف درهم، فلما اقتدى وذهبا به أسلم، فقيل له: هلا أسلمت قبل أن تفتدي وأنت مع المسلمين؟ قال: كرهت أن تظنوا بي إني جزعت من الإسار، فحبسوه بمكة فكان رسول الله ? يدعو له في القنوت بالنجاة فيمن يدعو لهم من المستضعفين ثم أفلت من أسارهم، ولحق برسول الله ? وشهد معه عمرة القضية. وقال الحافظ في الفتح: كان ممن شهد بدرا مع المشركين وأسر وفدى نفسه، ثم أسلم فحبس بمكة، ثم تواعد هو وسلمة وعياش

(6/64)


المذكورون معه، وهربوا من المشركين، فعلم النبي ? بمخرجهم فدعا لهم حتى قدموا فترك الدعاء لهم. قال: ومات الوليد لما قدم على النبي ?. وأما سلمة فهو سلمة بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي كان من مهاجري الحبشة، وكان من خيار الصحابة وفضلائهم، وهو أخو أبي جهل بن هشام، وابن عم خالد بن الوليد، وكان قديم الإسلام حبس بمكة وعذب في الله عزوجل ومنع من الهجرة إلى المدينة ولم يشهد بدرا لذلك، فكان رسول الله ? يدعو له في القنوت، فأفلت ولحق برسول الله ? ولم يزل بالمدينة حتى توفي رسول الله ?
اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها سنين كسني يوسف، يجهر بذلك.

(6/65)


فخرج إلى الشام مجاهدا حين بعث أبوبكر الجيوش إلى الشام، فقتل بمرج الصفر في المحرم سنة (14)، وقيل: بأجنادين. وأما عياش بتشديد التحتية بعد العين المهملة المفتوحة وآخره معجمة، فهو ابن أبي ربيعة عمرو بن المغيرة المخزومي، وهو أخو أبي جهل لأمه أسلم قديما قبل دخول النبي ? دار الأرقم، وهاجر الهجرتين، ثم خدعه أبوجهل، فإنه لما قدم عياش إلى المدينة قدم عليه أبوجهل والحارث ابنا هشام فذكرا له أن أمه حلفت أن لا تدخل رأسها دهنا ولا تستظل حتى تراه، فرجع معهما فأوثقاه وحبساه بمكة، فكان رسول الله ? يدعو له، ثم تخلص وفر مع رفيقه المذكورين، وعاش على خلافة عمر، فمات سنة (15) وقيل: قبل ذلك. وزاد في رواية: اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، وهو تعميم بعد تخصيص. (اللهم اشدد وطأتك) بفتح الواو وسكون الطاء المهملة وهمزة مفتوحة، وأصلها الدوس بالقدم سمي بها الإهلاك؛ لأن من يطأ على شيء برجله فقد استقصى في إهلاكه، والمعنى خذهم أخذا شديدا، ذكره السيوطي. قال السندي: الأقرب أن المراد ههنا العقوبة والبأس، كما يدل عليه آخر الكلام لا الإهلاك كما يدل عليه أوله. (على مضر) بميم مضمومة وفتح ضاد معجمة، وترك صرف بن نزار بن معد بن عدنان، وهو شعب عظيم، فيه قبائل كثيرة كقريش وهذيل وأسد وتميم ومزينة وغيرهم، والمراد كفار أولاد مضر. (واجعلها) الضمير للوطأة أو السنين أو للأيام وإن لم يجر لها ذكر لما يدل عليه المفعول الثاني وهو (سنين) جمع سنة، وهو القحط. (كسني يوسف) أي كسني أيام يوسف عليه السلام من القحط العام في سبعة أعوام، فالمراد بسني يوسف ما وقع في السنين السبع، كما وقع في قوله تعالى: ?ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد? [12: 48] وقد بين ذلك في حديث ابن مسعود عند البخاري حيث قال: سبعا كسبع يوسف، وأضيفت إليه لكونه الذي أنذر بها أو لكونه الذي قام بأمور الناس فيها، وشبه بها لتشديد القحط واستمراره زمانا. وإجراء سنين مجرى

(6/66)


المذكر السالم في الإعرابي بالواو والياء وسقوط النون بالإضافة شائع. وقال القسطلاني: فيه شذوذان تغيير مفرده من الفتح إلى الكسر، وكونه جمعا لغير عاقل، وحكمه أيضا مخالف لجموع السلامة في جواز إعرابه كمسلمين، وبالحركات على النون وكونه منونا وغير منون منصرفا وغير منصرف- انتهى. (يجهر بذلك) أي بالدعاء المذكور. وفي حديث جواز الدعاء في قنوت غير الوتر لضعفة المسلمين بتلخيصهم من الأسر، ويقاس عليه جواز الدعاء لهم بالنجاة من كل ورطة يقعون فيها من غير فرق بين المستضعفين وغيرهم، وفيه جواز الدعاء على الكفار بالجدب والبلاء، وفيه مشروعية الجهر بالقنوت للنازلة، وفيه أن الدعاء لقوم بأسمائهم وأسماء آباءهم لا يقطع الصلاة، وأن الدعاء على الكفار والظلمة
وكان يقول في بعض صلاته: اللهم العن فلانا وفلانا، لأحياء من العرب، حتى أنزل الله
?ليس لك من الأمر شيء? الآية. متفق عليه.
1297-(2) وعن عاصم الأحول، قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت في الصلاة، كان قبل
الركوع أو بعده؟ قال

(6/67)


لا يفسدها (وكان يقول في بعض صلاته) زاد في رواية للبخاري: في صلاة الفجر، وهو بيان لقوله في بعض صلاته. قال الحافظ: فيه إشارة إلى أنه كان لا يداوم على ذلك. (اللهم العن فلانا فلانا لأحياء) أي لقبائل جمع حي بمعنى القبيلة. (من العرب) أي أبعدهم وأطردهم عن رحمتك، وهذا لا يستلزم الدعاء بالإماتة على الكفرة وسوء الخاتمة، وأراد بفلانا وفلانا القبائل نفسها لا إعلاما خاصة لما وقع تسميتهم في رواية يونس عن الزهري عند مسلم بلفظ: اللهم العن رعلا وذكوان وعصية، وكذا وقع تسميتهم بذلك في حديث ابن عباس الآتي، وسنذكره قصتهم في شرح حديث أنس. (حتى أنزل الله ليس لك من الأمر شيء) المعنى أن الله مالك أمرهم. فأما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم أن أسلموا أو يعذبهم أن أصروا على الكفر وماتوا عليه وليس لك من أمرهم شيء إنما أنت مبعوث؛ لأنذارهم ومجاهدتهم، فليس لك من الأمر إلا التفويض والرضى بما قضى. (الآية) بتثليثها وتمامها أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون واستشكل هذا بأن قصة رعل وذكوان كانت بعد أحد ونزول ليس لك من الأمر من شيء في قصة أحد، كما بينه في حديث أنس عند مسلم وأحمد والترمذي وغيرهم، وفي حديث ابن عمر عند البخاري وغيره فكيف يتأخر السبب عن النزول وأجاب في الفتح بأن قوله: حتى أنزل الله. منقطع من رواية الزهري عمن بلغه، كما بين ذلك مسلم في رواية يونس المذكورة فقال هنا قال يعني الزهري ثم أنه ترك ذلك لما نزلت، قال: وهذا البلاغ لا يصح وقصة رعل وذكوان أجنبية عن قصة أحد ويحتمل أن كان محفوظا أن يقال إن قصتهم كانت عقب ذلك وتأخر نزول الآية عن سببها قليلا ثم نزلت في جميع ذلك. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والنسائي وغيرهما واللفظ المذكور للبخاري في تفسير آل عمران.

(6/68)


1297- قوله: (وعن عاصم الأحول) هو عاصم بن سليمان الأحول أبوعبد الرحمن البصري، ثقة تابعي، لم يتكلم فيه إلا قطان، وكأنه بسبب دخوله في الولاية، مات سنة. (140) وقيل. (141) وقيل. (142) وقيل. (143) قال ابن سعد: كان من أهل البصرة، وكان يتولى الولايات، فكان بالكوفة على الحسبة في المكائيل والأوزان، وكان قاضيا بالمدائن لأبي جعفر. (سألت أنس بن مالك عن القنوت في الصلاة) أي في صلاة الوتر هذا، هو الظاهر عندي. وقيل: المراد في الصلاة المكتوبة عند النازلة. (كان) أي محله. (قبل الركوع أو بعده قال)
قبله، إنما قنت رسول الله ? بعد الركوع شهرا، إنه كان بعث أناسا يقال لهم: القراء، سبعون رجلا، فأصيبوا، فقنت رسول الله ? بعد الركوع شهرا يدعو عليهم)). متفق عليه.
?الفصل الثاني?
1298-(3) عن ابن عباس، قال: ((قنت رسول الله ? شهرا متتابعا في الظهر
___________________________________________________

(6/69)


أي أنس. (قبله) أي كان محل القنوت في الوتر قبل الركوع، والمتن وقع في اختصار من البغوي وسياقه عند البخاري قال أي عاصم: سألت أنس بن مالك عن القنوت فقال: كذب إنما قنت رسول الله ? الخ. وقد وافق عاصما على روايته هذه عبدالعزيز بن صهيب عن أنس، كما وقع في المغازي للبخاري بلفظ: سأل رجل أنسا عن القنوت بعد الركوع أو عند الفراغ من القراءة، قال: لا بل عند الفراغ من القراءة. (إنما قنت رسول الله ? بعد الركوع) أي في المكتوبة عند النازلة. (شهرا) فقط، وأما في غير المكتوبة أي في الوتر فقنت قبله، يعني فمن حكى أن القنوت دائما بعد الركوع فقد أخطأ فإنه ? إنما قنت بعد الركوع شهرا فقط. (إنه) بالكسر استئناف مبين للتعليل للتحديد في الشهر. (كان بعث) أي أرسل. (أناس) أي جماعة من أهل الصفة. (يقال لهم القراء) لكثرة قراءتهم وحفظهم للقرآن وتعليمهم لغيرهم. (سبعون) أي هم سبعون (رجلا) وكانوا من أوزاع الناس ينزلون الصفة يتفقهون العلم ويتعلمون القرآن، وكانوا ردءا للمسلمين إذا نزلت بهم نازلة وكانوا حقا عمار المسجد وليوث الملاحم، بعثهم رسول الله ? إلى أهل نجد من بني عامر ليدعوهم على الإسلام ويقرؤا عليهم القرآن، فلما نزلوا بئر معونة قصدهم عامر بن الطفيل في أحياء من بني سليم، وهو رعل وذكوان وعصية فقاتلوهم. (فأصيبوا) أي فقتلوا جميعا. قيل: ولم ينج منهم إلا كعب بن زيد الأنصاري، فإنه تخلص وبه رمق وظنوا أنه مات، فعاش حتى استشهد يوم الخندق وأسر عمرو بن أمية الصغرى، وكان ذلك في السنة الرابعة من الهجرة أي في صفر على رأس أربعة أشهر من أحد، فحزن رسول الله ? حزنا شديدا، قال أنس: ما رأيت رسول الله ? وجد على أحد ما وجد عليهم. (فقنت رسول الله ?) أي في الصلوات الخمس. (بعد الركوع شهرا يدعو عليهم) أي على قاتليهم. والحديث يدل على مشروعية القنوت في النازلة، وعلى أن القنوت في النازلة بعد الركوع. وأن قنوته ? في المكتوبة لهذه

(6/70)


النازلة كان محصورا على الشهر بعد الركوع، وأنه لم يقنت بعد ذلك الشهر لعدم وقوع نازلة تستدعي القنوت بعده، وأنه لم يقنت في المكتوبة لغير النازلة قط لا قبل الركوع ولا بعده، كما دل عليه حديث أنس عند ابن خزيمة وحديث أبي هريرة عند ابن حبان، وقد تقدما. (متفق عليه) للحديث ألفاظ في الصحيحين وغيرهما، وأخرجه البخاري في مواضع مطولا ومختصرا.
1298- قوله: (شهرا متتابعا) أي مواليا أيامه يعني قنت في كل يوم منه لم يتركه في وقت. (في الظهر
والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح، إذا قال: سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة، يدعو
على أحياء من بنى سليم: على رعل وذكوان وعصية، ويؤمن من خلفه)). رواه أبوداود.
1299-(4) وعن أنس، ((أن النبي ? قنت شهرا ثم تركه)). رواه أبوداود، والنسائي.
1300-(5) وعن أبي مالك الأشجعي،
___________________________________________________

(6/71)


(والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح) في أبي داود بعده في دبر كل صلاة، وفيه دليل على أن القنوت للنوازل لا يختص ببعض الصلوات، فهو يرد على من خصصه بالجهرية أو بصلاة الفجر عندها. (إذا قال سمع الله لمن حمده) أي وقال ربنا لك الحمد، كما ثبت ذلك في حديث ابن عمر عند البخاري وأحمد. وفيه أن القنوت للنازلة بعد الركوع. (من بني سليم) مصغر. (على رعل) بدل بإعادة الجار، وهو بكسر الراء وسكون المهملة، قبيلة من بني سليم. (وذكوان) بفتح الذال المعجمة، قبيلة من بني سليم أيضا. (وعصية) كسمية تصغير عصا، قبيلة أيضا من بني سليم فالأول هو رعل بن خالد بن عوف بن امرىء القيس بن بهثه بن سليم، والثاني هو ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم. والثالث عصية بن خفاف بن امرىء القيس بن بهثة بن سليم، فالثلاثة قبائل من سليم. (ويؤمن من خلفه) أي يقول آمين من خلفه من المأمومين. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد والحاكم (ج1 ص225 -226) والبيهقي (ج2 ص200، 212) من طريق الحاكم وأبي داود. وزاد الحاكم: أرسل إليهم يدعوهم إلى الإسلام فقتلوهم. والحديث سكت عنه أبوداود، وصححه الحاكم، وذكره الحافظ في التلخيص من غير كلام فيه. وقال المنذري: في إسناده هلال بن خباب أبوالعلاء العبدي، وقد وثقه أحمد وابن معين وأبوحاتم الرازي. وقال أبوحاتم: وكان يقال تغير قبل موته من كبر السن. وقال العقيلي: في حديثه وهم تغير بآخرة. وقال ابن حبان: اختلط في آخر عمره فكان يحدث بالشيء على التوهم لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد- انتهى. وقال الحافظ: أنه صدوق تغير بأخرة.

(6/72)


1299- قوله: (قنت) أي في المكتوبة. (شهرا) أي بعد الركوع. (ثم تركه) أي القنوت في الفرض؛ لأنه قنت في نازلة. كما تقدم، فلما زالت وارتفعت تركه. وقال الشافعي ومن وافقه: معناه تركه في الصلوات الأربع ولم يتركه في الصبح أو ترك اللعن والدعاء على القبائل، ولا يخفى ما فيه. (رواه أبوداود والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد ومسلم ولفظه: قنت شهرا يدعو على أحياء العرب ثم تركه، وأخرج بهذا اللفظ أحمد والنسائي والبيهقي (ج2 ص201) أيضا.
1300- قوله: (وعن أبي مالك الأشجعي) اسمه سعد بن طارق الكوفي من ثقات التابعين، روى عن
قال: قلت لأبي: يا آبت! إنك قد صليت خلف رسول الله ?، وأبي بكر، وعمر، وعثمان،
وعلي، ههنا بالكوفة نحوا من خمس سنين، أكانوا يقنتون؟ قال: أي بني! محدث )). رواه
الترمذي، والنسائي، وابن ماجه.

(6/73)


أبيه وأنس وعبدالله بن أبي أوفي وغيرهم، مات في حدود الأربعين ومائة، ووالده طارق بن أشيم بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة وفتح الياء التحتية على وزن أحمر ابن مسعود الكوفي، صحابي، قليل الحديث، لم يرو عنه إلا ابنه سعد أبومالك، وأحاديثه في مسند أحمد (ج3 ص472 وج6 ص394- 395). (يا أبت) بكسر التاء. (وأبي بكر وعمر وعثمان) أي بالمدينة. (وعلي) أي وصليت خلف علي. (ههنا بالكوفة) هما ظرفان متعلقان بصليت خلف علي المحذوف. (نحوا) أي قريبا. (من خمس سنين) هذا أيضا متعلق بصليت خلف علي المحذوف. (أكانوا يقنتون) بإثبات همزة الاستفهام. وفي نسخ المصابيح بإسقاطها. واختلفت نسخ الترمذي في ذلك، فبعضها بحذفها وبعضها بإثباتها. وفي رواية ابن ماجه: فكانوا يقنتون في الفجر، فالسؤال مقدر. (قال) أي أبي. (أي بني محدث) بفتح الدال أي القنوت في المكتوبة أو في الفجر بدعة، والمراد الدوام والاستمرار عليه لا القنوت مطلقا جمعا بين الأحاديث، فهذا يدل على أن القنوت في المكتوبة كان مخصوصا بأيام المهام والنوازل والوقائع. وقال البيهقي (ج2 ص213): لم يحفظ طارق بن أشيم القنوت عمن صلى خلفه فرآه محدثا وقد حفظه غيره، فالحكم لمن حفظ دون من لم يحفظه- انتهى. وقال غيره: ليس في هذا الحديث دليل على أنهم ما قنتوا قط، بل اتفق أن طارقا صلى خلف كل منهم وأخذ بما رأى. ومن المعلوم أنهم كانوا يقنتون في النوازل. وهذا الحديث يدل على أنهم ما كانوا يحافظون على قنوت راتب، كذا في نصب الراية (ج2 ص131). وقال الطيبي: لا يلزم من نفي هذا الصحابي نفي القنوت؛ لأنه شهادة بالنفي، وقد شهد جماعة بالإثبات مثل الحسن وأبي هريرة وابن عباس- انتهى. يعني أن المثبت مقدم على المنفي. ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. (رواه الترمذي) وقال: حديث حسن صحيح. وقال في التلخيص (ص93): إسناده حسن. (والنسائي) ولفظه عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: صليت خلف رسول الله ? فلم يقنت، وصليت

(6/74)


خلف أبي بكر فلم يقنت، وصليت خلف عمر فلم يقنت، وصليت خلف عثمان فلم يقنت، وصليت خلف علي فلن يقنت، ثم قال يا بني إنها بدعة. (أي المداومة على القنوت بدعة، وتأنيث الضمير باعتبار الخبر). (وابن ماجه) وأخرجه أيضا أحمد (ج3 ص472 وج6 ص394) والبيهقي (ج2 ص213) والطحاوي (ج1 ص146).
?الفصل الثالث?
1301-(6) عن الحسن، أن عمر بن الخطاب جمع الناس على أبي بن كعب، فكان يصلي بهم عشرين ليلة، ولا يقنت بهم إلا في النصف الباقي، فإذا كانت العشر الأواخر يتخلف فصلى
في بيته، فكانوا يقولون: أبق أبي. رواه أبوداود.

(6/75)


1301- قوله: (عن الحسن) أي البصري. (أن عمر بن الخطاب جمع الناس على أبي بن كعب) أي كان الناس قبل ذلك يصلون في المسجد في رمضان أوزعا متفرقين، كما سيأتي في الفصل الثالث، من الباب الذي يلي هذا الفصل. فجمعهم عمر على أبي. (فكان) أي أبي. (يصلي بهم) أي صلاة التراويح. (عشرين ليلة) يعني من رمضان. (ولا يقنت بهم) أي في الوتر. (إلا في النصف الباقي) أي الأخير، وذكره الزيلعي عن أبي داود بلفظ الثاني، وهو الظاهر. (يتخلف) أي أبي عن المسجد. وفي بعض النسخ: تخلف بالماضي، موافقا لما في أبي داود والبيهقي وجامع الأصول (ج6 ص262). (فكانوا يقولون أبق) بفتح الباء من باب ضرب ونصر. (أبي) أي هرب عنا، يعني لم يدخل المسجد ليصلي بهم التراويح. قال الطيبي: في قولهم أبق إظهار كراهة تخلفه، فشبهوه بالعبد الآبق، كما في قوله تعالى: ?إذا أبق إلى الفلك المشحون? [37: 140] سمي هرب يونس بغير إذن ربه إباقا مجازا، ولعل تخلف أبي كان تأسيا برسول الله ? حيث صلاها بالقوم ثم تخلف، كما سيأتي، والأولى أن يحمل تخلفه على عذر من الأعذار. قال ابن حجر: وكان عذره أنه كان يؤثر التخلي في هذا العشر الذي لا أفضل منه، ليعود عليه من الكمال في خلوته فيه ما لا يعود عليه في جلوته عندهم. والحديث استدل به للشافعية على تخصيص القنوت في الوتر بالنصف الأخير من رمضان، لكنه حديث ضعيف؛ لأنه منقطع، فإن الحسن لم يدرك عمر؛ لأنه ولد لسنتين بقيتا من خلافته، ويضعفه أيضا أن الحسن كان يقنت في جميع السنة، كما ذكره محمد بن نصر المروزي في كتاب الوتر (ص32)، ثم هو فعل الصحابي مع أن القنوت في حديث الباب يحتمل كونه طول القيام، فإنه يقال عليه تخصيصا للنصف الأخير بزيادة الاجتهاد، ولم يرو حديث مرفوع صحيح أو حسن في تخصيص قنوت الوتر برمضان، وقد تقدم في باب الوتر ما يدل على مشروعيته في جميع السنة، فهو الراجح المعول عليه. (رواه أبوداود) ومن طريقة البيهقي (ج2

(6/76)


ص498) وهو منقطع، كما تقدم، وأخرجه أيضا محمد بن نصر بمعناه، وأصل جمع عمر الناس على أبي في صحيح البخاري دون القنوت، كما سيأتي. وأخرج أيضا أبوداود والبيهقي من طريقه عن هشام عن محمد بن سيرين عن بعض أصحابه أن أبي بن كعب أمهم يعني في رمضان وكان يقنت في النصف الأخير من رمضان، وفيه مجهول. وقال النووي في الخلاصة: الطريقان ضعيفان. قال أبوداود: وهذان الحديثان يدلان على ضعف
1302-(7) وسئل أنس بن مالك عن القنوت: فقال: ((قنت رسول الله ? بعد الركوع)). وفي رواية: ((قبل الركوع وبعده)). رواه ابن ماجه.
(37) باب قيام شهر رمضان
حديث أبي بن كعب أن النبي ? قنت في الوتر- انتهى. يشير إلى ما قدمنا من حديث أبي بن كعب نقلا عن النسائي وابن ماجه في إثبات قنوت الوتر قبل الركوع. قلت: ولا دلالة في هذين الحديثين على ضعف حديث أبي؛ لأنهما ضعيفان، كما تقدم.

(6/77)


1302- قوله: (وسئل) بصيغة المجهول. (أنس بن مالك) والسائل هو محمد بن سيرين، كما ستعرف. (عن القنوت) أي عن محله في المكتوبة، أو في الصبح عند النازلة. (فقال: قنت رسول الله ? بعد الركوع) أي شهرا فقط، يعني في المكتوبة، أو في الصبح حين دعاء على رعل وذكوان وعصية كما تقدم من حديث عاصم الأحول عن أنس. وأصل هذا الحديث عند الشيخين أخرجاه من طريق أيوب عن محمد بن سيرين قال: سئل أنس بن مالك: أقنت النبي ? في الصبح؟ قال: نعم. فقيل: أو قنت قبل الركوع. (أو بعد الركوع) ؟ قال: بعد الركوع يسيرا. لفظ البخاري ولمسلم عن أيوب عن محمد قال: قلت؛ لأنس هل قنت رسول الله ? في صلاة الصبح؟ قال نعم بعد الركوع يسيرا. (وفي رواية) هذا حديث آخر، أخرجه ابن ماجه من طريق حميد عن أنس قال: سئل عن القنوت في صلاة الصبح فقال: كنا نقنت قبل الركوع وبعده، والرواية الأولى أخرجها من طريق أيوب عن محمد. (ابن سيرين) قال: سألت أنس بن مالك عن قنوت فقال: قنت رسول الله ? بعد الركوع، وبهذا ظهر أن الرواية الثانية موقوفة. (قبل الركوع وبعده) أي في الصبح وقت قنوت النازلة. ورواه ابن المنذر عن حميد عن أنس بلفظ: إن بعض أصحاب النبي ? قنتوا في صلاة الفجر قبل الركوع، وبعضهم بعد الركوع، وهذا كله يدل على اختلاف عمل الصحابة في محل القنوت المكتوبة فقنت بعضهم قبل الركوع وبعضهم بعده، وأما النبي ? فلم يثبت عنه القنوت في المكتوبة إلا عند النازلة، ولم يقنت في النازلة إلا بعد الركوع، هذا ما تحقق لي، والله أعلم. (رواه ابن ماجه). الرواية الثانية صححها أبوموسى المديني، كما في التلخيص (ص94). وقال في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات.

(6/78)


(باب قيام شهر رمضان) أي قيام لياليه وإحياءها بالعبادة من صلاة التراويح وتلاوة القرآن وغيرهما، وذكر النووي أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح. قال الحافظ: يعني أنه يحصل بها المطلوب من القيام، لا أن قيام رمضان لا يكون إلا بها. وقال الكرماني: اتفقوا على أن المراد بقيامه صلاة التراويح، وبه جزم النووي
?الفصل الأول?
1303-(1) وعن زيد بن ثابت، ((أن النبي ? اتخذ حجرة في المسجد
وغيره، وذكر في الباب قيام ليلة النصف من شعبان تبعا. والتراويح جمع ترويحة، وهي المرة الواحدة من الراحة، كتسليمة من السلام، سميت الصلاة في الجماعة في ليالي رمضان التراويح؛ لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين، كذا في الفتح. وقال المجد في القاموس: ترويحة شهر رمضان سميت بها لاستراحة بعد كل أربع ركعات- انتهى. وروى البيهقي في السنن (ج2 ص497) عن عائشة قالت: كان رسول الله ? يصلي أربع ركعات في الليل ثم يتروح فأطال حتى رحمته فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. قال: أفلا أكون عبدا شكورا. قال البيهقي: قوله ثم يتروح إن ثبت فهو أصل في تروح الإمام في صلاة التراويح، وفي سنده المغيرة بن زياد الموصلى. قال البيهقي: قد تفرد به، وهو ليس بالقوي صاحب مناكير. وقال أحمد: مضطرب الحديث منكر الحديث أحاديثه مناكير. وقال أبوحاتم وأبوزرعة: لا يحتج به. وقال النسائي والدارقطني: ليس بالقوي، ووثقه ابن معين والعجلي وابن عمار ويعقوب بن سفيان. وقال أبوداود: صالح. وقال الحافظ: صدوق له أوهام. واعلم أن التراويح وقيام رمضان وصلاة الليل وصلاة التهجد في رمضان عبارة عن شيء واحد واسم لصلاة واحدة، وليس التهجد في رمضان غير التراويح؛ لأنه لم يثبت من رواية صحيحة ولا ضعيفة أن النبي ? صلى في ليالي رمضان صلاتين إحداهما التراويح، والأخرى التهجد، فالتهجد في غير رمضان هو التراويح في رمضان، كما يدل عليه ==

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج3.كتاب المزهر في معرفة اللغة للسيوطي الجزء الثالث والاخير{من النوع الحادي والأربعون معرفة آداب اللغوي الي الخاتمة}

  النوع الحادي والأربعون معرفة آداب اللغوي  أول ما يلزمه الإخلاص وتصحيح النية لقوله ﷺ: « الأعمال بالنيات » ثم التحري في الأخذ عن الثقات لق...