الخميس، 1 سبتمبر 2022

ج5.وج6.مرعاة المفاتيح

 

5. مرعاة المفاتيح

آثارا استدلا بها، وبأنه سلم في مسجد مكة أن المضاعفة لا تخصتص بما كان موجودا في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، وبأن الإشارة في الحديث إنما هي لإخراج غيره من المساجد المنسوبة إليه - صلى الله عليه وسلم -، وبأن الإمام مالكا سئل عن ذلك فأجاب بعدم الخصوصية وقال: لأنه عليه السلام أخبر بما يكون بعده، وزويت له الأرض، فعلم بما يحدث بعده، ولولا هذا ما استجاز الخلفاء الراشدون أن
خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام))

(4/254)


يستزيدوا فيه بحضرة الصحابة ولم ينكر ذلك عليهم، وبما في تاريخ المدينة عن عمر رضي الله عنه أنه لما فرغ من الزيادة قال لو انتهى إلى الجبانة – وفي رواية إلى ذي الحليفة – لكان الكل مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبما روي عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لو زيد في هذا المسجد ما زيد كان الكل مسجدي. وفي رواية: لو بني هذا المسجد إلى صنعا كان مسجدي. هذا خلاصة ما ذكره ابن حجر في الجوهر المنظم-انتهى مافي المرقاة. قلت: لو كان حديث أبي هريرة: لو زيد في هذا المسجد، الخ. قابلا للإحتجاج لكان قاطعا للنزاع، لكنه ضعيف بجميع طرقه لا يصلح بمجموعها للاستدلال، قال في تمييز الطيب من الخبيث (ص119): حديث صلاة في مسجدي هذا ولو وسع إلى صنعاء اليمن بألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام. أخرجه ابن أبي شيبة في أخبار المدينة عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ "لو مد مسجدي هذا إلى صنعاء كان مسجدي"، وفي سنده ضعف، وله شواهد لا تقوم الحجة بمجموعها فضلا عن أفرادها، ولذا خصص النووي اختصاص التضعيف بمسجده الشريف عملا بالإشارة في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة-انتهى. وقال ابن عابدين: وأما حديث: لو مد مسجدي هذا إلى صنعاء كان مسجدي. فقد اشتد ضعف طرقه فلا يعمل به في فضائل الأعمال كما ذكره السخاوي في المقاصد الحسنة-انتهى. (خير) أي من جهة الثواب لا من جهة الإجزاء فالتضعيف يرجع إلى الثواب ولا يتعدى إلى الإجزاء بإتفاق العلماء كما نقله النووي وغيره، فلو كان عليه صلاتان فصلى في أحد المسجدين صلاة لم تجزه إلا عن واحدة، وهذا مع قطع النظر عن التضعيف بالجماعة، فإنها تزيد سبعا وعشرين درجة كما سيأتي في فضل الجماعة لكن هل يجتمع التضعيفان أو لا؟ محل بحث. (من ألف صلاة) تصلي. (فيما سواه) من المساجد. (إلا المسجد الحرام) بالنصب على الاستثناء ويجوز الجر على أن إلا بمعنى غير أي فإن الصلاة فيه

(4/255)


خير من الصلاة في مسجدي، ويدل له حديث عبدالله بن الزبير أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان من طريق عطاء عن عبدالله بن الزبير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا. وفي رواية ابن حبان: وصلاة في ذلك أفضل من مائة صلاة في مسجد المدينة. قال ابن عبدالبر: اختلف على ابن الزبير في رفعه ووقفه، ومن رفعه أحفظ وأثبت، ومثله لا يقال بالرأي. ويدل له أيضا حديث جابر أخرجه ابن ماجه مرفوعا، وفيه: وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه. قال الحافظ: وفي بعض النسخ "من مائة صلاة فيما سواه"، فعلى الأول معناه في ما سواه إلا مسجد المدينة، وعلى الثاني معناه من مائة صلاة في مسجد المدينة. ورجال إسناده ثقات، لكنه من رواية عطاء في ذلك عنه قال ابن عبدالبر: جائز أن يكون عند عطاء في ذلك عنهما، وعلى ذلك يحمله أهل الحديث، ويؤيده أن عطاء إمام واسع الرواية، معروف بالرواية عن جابر وابن الزبير، ويدل لذلك أيضا حديث أبي الدرداء، أخرجه البزار والطبراني
متفق عليه.
698- (5) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام،

(4/256)


مرفوعا: الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمس مائة صلاة. قال الحافظ في الفتح: قال البزار: إسناده حسن، ففي هذه الأحاديث الثلاثة دلالة واضحة على أن المراد بالاستثناء في حديث أبي هريرة تفضيل المسجد الحرام، ورد صريح على من حمل الاستثناء على المساواة، أو على أن المراد أن الصلاة في مسجدي لا تفضل الصلاة في المسجد الحرام بألف بل بدونها. قال القاري: لا تنافي بين الروايات المختلفة في التضعيف لاحتمال أن حديث الأقل قبل حديث الأكثر، ثم تفضل الله تعالى بالأكثر شيئا بعد شيء، ويحتمل أن يكون تفاوت الأعداد لتفاوت الأحوال لما جاء: أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعين إلى سبعمائة إلى غير نهاية-انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضا الترمذي وابن ماجه في الصلاة والنسائي في المناسك، وفي الباب عن جماعة من الصحابة ذكر أحاديثهم الحافظ المنذري والعيني.

(4/257)


قوله. (لا تشد الرحال) بضم التاء على البناء للمفعول بلفظ النفي، والمراد النهي عن المسافرة إلى غيرها، قال الطيبي: وهو أبلغ مما لو قيل: لا تسافر لأنه صور حالة المسافرة وتهيئة أسبابها من الراكب وفعل الشد، ثم أخرج النهي مخرج الإخبار، أي لا ينبغي ولا يستقيم أنيقصد الزيارة بالرحلة إلا إلى هذه البقاع الشريفة لاختصاصها بالمزايا والفضائل؛ لأن إحداها بيت الله وقبلتهم، رفع قواعدها الخليل عليه السلام، والثانية قبلة الأمم السالفة، عمرها سليمان عليه السلام، والثالثة أسست على التقوى، عمرها خير البريه، فكأن المسافرة إليها وفادة إلى بانيها – انتهى. والرحال – بكسر الراء – جمع رحل بالفتح وهو للبعير كالسرج للفرس، وهو أصغر من القتب، وشده كناية عن السفر لأنه لازمه، والتعبير بشدها خرج مخرج الغالب في ركوبها للمسافر في بلاد العرب إذ ذاك، فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والبغال والحمير والقطار الحديدي، والسيارات والدراجات والعربات في البر، والسفن والبواخر في البحر، والطيارات في الجو، والمشي على الأقدام في هذا المعنى، ويدل لذلك قوله في بعض طرقه: إنما يسافره. أخره مسلم. (إلا إلى ثلاثة مساجد) الاستثناء مفرغ، والتقدير لا تشد الرحال إلى موضع. ولازمه منع السفر إلى كل موضع غيرها؛ لأن المستثنى منه في المفرغ مقدر بأعم العام، لكن يمكن أن يكون المراد بالعموم ههنا الموضع المخصوص وهو المسجد، قاله الحافظ. (مسجد الحرام) بإضافة الموصوف إلى الصفة، والحرام بمعنى المحرم كالكتاب بمعنى المكتوب. والمسجد - يخفض الدال- بدل من ثلاثة، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أى هي المسجد الحرام، والتاليان عطف عليه، ويجوز النصب بتقدير أعني، قيل: المراد به جميع الحرم، وقيل: يختص بالموضع الذي يصلي
والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا))

(4/258)


فيه دون البيوت وغيرها من أجزاء الحرم. (والمسجد الأقصى) أي بيت المقدس وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة عند الكوفيين كقوله تعالى: ?وماكنت بجانب الغربي? [28: 44]. والبصريون يؤولونه بإضمار المكان، الذي بجانب المكان الغربي ومسجد المكان الأقصى، وسمي به لبعده عن مسجد مكة في المسافة، أو لأنه لم يكن وراءه مسجد. (ومسجدي هذا) أي مسجد المدينة، وفي رواية مسجد الرسول. وفي الحديث مزية هذه المساجد وفضيلتها على غيرها لكونها مساجد الأنبياء، ولأن الأول قبلة الناس وإليه حجهم، والثاني كان قبلة الأمم الماضية، والثالث أسس على التقوى واختلف في شد الرحال إلى غيرها كالذهاب إلى زيارة الصالحين أحياء وأمواتا، وإلى الموضع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها، فقال الشيخ أبومحمد الجويني: يحرم شد الرحال إلى غيرها عملا بظاهر هذا الحديث، وأشار القاضي حسين إلى اختياره، وبه قال عياض وطائفة، ويدل عليه ما رواه أصحاب السنن من إنكار بصرة الغفاري على أبي هريرة خروجه إلى الطور، وقال له: لو أدركت قبل أن تخرج ما خرجت. واستدل بهذا الحديث، فدل على أنه يرى حمل الحديث على عمومه، ووافقه أبوهريرة. والصحيح عند إمام الحرمين وغيره من الشافعية أنه لا يحرم، وأجابوا عن الحديث بأجوبة لا يخلو واحد منها عن النظر، وأحسنها وأقواها عندهم أن المراد حكم المساجد فقط، وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد للصلاة فيه غير هذه الثلاثة، وأما قصد غير المساجد لزيارة صالح أو قبر أو طلب علم أو تجارة أو نزهة فلا يدخل في النهي، وقد ورد ذلك مصرحا في بعض طرق الحديث في مسند أحمد برواية أبي سعيد الخدري، وذكر عنده صلاة في الطور فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا ينبغي للمصلى أن يشد رحاله إلى مسجد يبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا، وفي سنده شهر بن حوشب وهو حسن الحديث وإن كان فيه بعض الضعف، وقال بعضهم: قوله: إلا

(4/259)


إلى ثلاثة مساجد. المستثنى منه محذوف، فإما أن يقدر عاما فيصير: لا تشد الرحال إلى مكان في أي أمر كان إلا إلى الثلاثة. أو أخص من ذلك، لا سبيل إلى الأول لإفضائه إلى سد باب السفر للتجارة وصلة الرحم وطلب العلم وغيرها فتعين الثاني، والأولى أن يقدر ما هو أكثر مناسبة، وهو لا تشد الرحال إلى مسجد للصلاة فيه إلا إلى الثلاثة. قال شيخنا في شرح الترمذي بعد ذكر هذا الجواب: إن قولهم: المراد حكم المساجد فقط وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد... الخ، غير مسلم، بل ظاهر الحديث العموم وأن المراد لا تشد الرحال إلى موضع إلا إلى ثلاثة مساجد، فإن الاستثناء مفرغ، والمستثنى منه في المفرغ يقدر بأعم العام، نعم لو صح رواية أحمد بلفظ: لا ينبغي للمصلي أن يشد رحاله إلى مسجد... الخ. لاستقام هذا الجواب، لكنه تفرد بهذا اللفظ شهر بن حوشب ولم يزد لفظ "مسجد" أحد غيره فيما أعلم، وهو كثير الأوهام كما صرح به الحافظ في التقريب، ففي ثبوت لفظ "مسجد" في هذا الحديث كلام، فظاهر الحديث هو العموم وأن المراد: لا يجوز السفر إلى موضع للتبرك به والصلاة فيه إلا إلى ثلاثة
متفق عليه.
699- (6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة،
ومنبري على حوضي))

(4/260)


مساجد، وأما السفر إلى موضع للتجارة أو لطلب العلم أو لغرض آخر صحيح مما ثبت جوازه بأدلة أخرى فهو مستثنى من حكم هذا الحديث- انتهى كلام الشيخ. وقال الشاه عبدالعزيز الدهلوي في تعليقه على البخاري في شرح هذا الحديث: المستثنى منه المحذوف في هذا الحديث إما جنس قريب أو جنس بعيد، فعلى الأول تقدير الكلام: لا تشد الرحال إلى المساجد إلا إلى ثلاثة مساجد. وحينئذ ما سوى المساجد مسكوت عنه، وعلى الوجه الثاني، لا تشد الرحال إلى موضع يتقرب به إلا إلى ثلاثة مساجد، فحينئذ شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة المعظمة منهي عنه بظاهر سياق الحديث، ويؤيده ما روى أبوهريرة عن بصرة الغفاري حين رجح عن الطور، وتمامه في الموطأ. وهذا الوجه قوي من جهة مدلول حديث بصرة انتهى، كذا في عون المعبود. وقال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله (ج1: ص153) : كان أهل الجاهلية يقصدون مواضع معظمة بزعمهم يزورونها ويتبركون بها، وفيه من التحريف والفساد ما لا يخفى، فسد النبي - صلى الله عليه وسلم - الفساد بهذا الحديث لئلا يلتحق غير الشعائر بالشعائر، ولئلا يصير ذريعة لعبادة غير الله، والحق عندي أن القبر ومحل عبادة ولي من أولياء الله والطور كل ذلك سواء في النهي-انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضا الترمذي وابن ماجه في الصلاة.

(4/261)


699- قوله: (ما بين بيتي ومنبري) الموصول مبتدأ وخبره قوله: روضة... الخ. والمراد بالبيت البيت المعهود وهو بيت عائشة الذي صار فيه قبره - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية الطبراني: ما بين المنبر وبيت عائشة. وفي حديث سعد بن أبي وقاص عند البزار بسند رجاله ثقات، وعند الطبراني من حديث ابن عمر بلفظ: ما بين قبري ومنبري. (روضة) بفتح الراء، أرض مخضرة بأنواع النباتات، وروضات الجنة أطيب بقاعها وأنزهها. (من رياض الجنة) اختلف في تأويله فقيل: المعنى أن العبادة فيه تؤدي إلى الجنة، فهو مجاز باعتبار المآل كقوله: الجنة تحت ظلال السيوف. أي الجهاد مآله الجنة. وقيل: المعنى أي كروضة الجنة في نزول الرحمة وحصول السعادة بما يحصل من ملازمة حلق الذكر لا سيما في عهده - صلى الله عليه وسلم -، فيكون تشبيها بغير أداة، وهذا القول لا يخلو عن بعد؛ لأنه خلاف الظاهر يشترك فيه سائر المساجد وبقاع الخير. وقال أهل التحقيق: إن الكلام محمول على الحقيقة بأن ينقل هذا المكان يوم القيامة إلى الفردوس الأعلى، ولا يفنى ولا يهلك مثل سائر البقاع. ويحتمل أن يكون عين هذه البقعة روضة من رياض الجنة أنزلت منها إلى المسجد كما ورد في الحجر الأسود ومقام إبراهيم، وبعد قيام الساعة ينقل إلى مقامه الأصلي. (ومنبري على حوضي) أي على حافته والمراد بالحوض نهر الكوثر الكائن داخل الجنة لا حوضه الذي خارجها بجانبها المستمد من الكوثر. قيل: هذا إخبار
متفق عليه.
700- (7) وعن ابن عمر، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي مسجد قباء كل سبت ماشيا وراكبا، ويصلي
فيه ركعتين)) متفق عليه.

(4/262)


عن المنبر الذي يكون له - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة، يوضع عليه بأمر ربه، يدعو الناس عليه إليه، لا هذا المنبر في المسجد الشريف، وهذا القول بعيد من سياق الحديث. والراجح ما قال به الأكثر من أن المراد منبره بعينه الذي قال هذه المقالة وهو فوقه. فينقله الله بعينه ويضعه عليه، ويؤيده حديث أم سلمة عند النسائي مرفوعا: إن قوائم منبري هذا رواتب في الجنة. وقيل: معناه أن قصد منبره والحضور عنده لملازمة الأعمال الصالحة يورد صاحبه إلى الحوض، ويقتضي شربه منه. ونقل ابن زبالة أن ذرع ما بين المنبر والبيت الذي فيه القبر الآن ثلاث وخمسون ذراعا، وقيل: أربع وخمسون وسدس. وقيل: خمسون إلا ثلثي ذراع، وهو الآن كذلك، فكأنه نقص لما أدخل من الحجرة في الجدار. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة، وفي أواخر الحج، وفي الحوض، والاعتصام، ومسلم في الحج.

(4/263)


700- قوله: (مسجد قباء) بضم القاف ممدودا وقد يقصر، ويذكر على أنه اسم موضع، ويؤنث على أنه اسم بقعة، وبينه وبين المدينة ثلاثة أميال أو ميلان على يسار قاصد مكة، وهو من عوالى المدينة وسمي باسم بئر هناك، والمسجد المذكور هو مسجد بني عمرو بن عوف وهو أول مسجد أسسه رسول الله- صلى الله عليه وسلم -. (كل سبت) خص السبت لأجل مواصلته لأهل قباء، وتفقد حال من تأخر منهم عن حضور الجمعة معه في مسجده بالمدينة، وفيه دلالة على جواز تخصيص بعض الأيام ببعض الأعمال الصالحة والمداومة على ذلك. (ماشيا) تارة. (وراكبا) أخرى بحسب ما تيسر، والواو بمعنى أو (ويصلي فيه ركعتين) ادعى الطحاوي أن هذه الزيادة مدرجة، قالها أحد الرواة من عنده لعلمه أنه عليه الصلاة والسلام كان من عادته أنه لا يجلس حتى يصلي، وقد روى النسائي من حديث سهل بن حنيف مرفوعا: من خرج حتى يأتي مسجد قباء فيصلي فيه كان له عدل عمرة. وعند الترمذي من حديث أسيد بن حضير رفعه: الصلاة في مسجد قباء كعمرة. وعند عمر بن شبة في أخبار المدينة بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص قال: لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إلى من أن آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل. وفي هذه الأحاديث مع حديث الباب دلالة على فضل قباء، وفضل مسجده، وفضل الصلاة فيه، لكن لم يثبت في ذلك تضعيف بخلاف المساجد الثلاثة. قال بعضهم حديث ابن عمر يدل على أن النهي عن شد الرحال لغير المساجد الثلاثة ليس على التحريم لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي قباء ماشيا وراكبا، وتعقب بأن مجيئه - صلى الله عليه وسلم - إلى قباء إنما كان بلا سفر، فهو غير مخالف لحديث النهي، فلا يكون قرينة على كون النهي فيه للتنزيه. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة، ومسلم في الحج، وأخرجه أيضا أبوداود في الحج.

(4/264)


701- (8) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها)) رواه مسلم.
702- (9) وعن عثمان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من بنى لله مسجدا، بنى الله له بيتا في الجنة)) متفق عليه.
701- قوله: (أحب البلاد) أي أحب أماكن البلاد وبقاعها، ويمكن أن يراد بالبلد مأوى الإنسان فلا تقدير. (إلى الله مساجدها)؛ لأنها بيوت الطاعة، وأساس التقوى، ومحل تنزل الرحمة، وموضع التقرب إلى الله تعالى. (وأبغض البلاد إلى الله أسواقها)؛ لأنها محل أفعال الشياطين من الحرص والطمع والخيانة والغش والخداع والربا والأيمان الكاذبة، وإخلاف الوعد، والفتن والغفلة، فالمراد محبة وبغض ما يقع فيهما. وقيل: المعنى أي من يمكث في المساجد أحب إلى الله ممن يمكث في غيرها إذ المحبة الإثابة، ولا معنى لإثابة نفس المساجد، فالمراد الماكث فيها لذكر الله أو اعتكاف أو نحوهما. وكذا المراد بغض من في الأسواق لتعاطيه الأيمان الكاذبة، والغش، والأعراض الفانية لا بغض نفس الأسواق، نظير ما ورد في مدح الدنيا وذمها، فالمراد مدح من قام بحقوق الله تعالى فيها وذم ضده. وقال النووي: الحب والبغض من الله تعالى إرادته الخير والشر، أو فعله ذلك بمن أسعده أو أشقاه. والمساجد محل نزول الرحمة والأسواق ضدها، وهي جمع سوق سمى به لأن الأشياء تساق للبيع، أو لأن الناس تمشي فيه للبيع والشراء على سوقها جمع ساق. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا ابن حبان وأخرجه أحمد والحاكم عن جبير بن مطعم.

(4/265)


702- قوله: (من بنى) حقيقة أو مجازا. (لله) أي يبتغي به وجه الله لا رياء وسمعة. قال ابن الجوزي: من كتب اسمه على المسجد الذي يبنيه كان بعيدا من الإخلاص- انتهى. ومن بناه بالأجرة لا يحصل له هذا الوعد المخصوص لعدم الإخلاص وإن كان يؤجر في الجملة، وهل يحصل الثواب المذكور لمن جعل بقعة من الأرض مسجدا بأن يكتفي بتحويطها من غير بناء؟ وكذا من عمد إلى بناء كان يملكه فوقفه مسجدا؟ وإن وقفنا مع ظاهر اللفظ فلا، وإن نظرنا إلى المعنى فنعم، وهو المتجه. وكذا قوله "بنى" حقيقة في المباشرة بشرطها لكن المعنى يقتضي دخول الأمر بذلك أيضا، قاله الحافظ. (مسجدا) أي كبيرا كان أو صغيرا، فقد رواه الترمذي عن أنس مرفوعا بزيادة لفظ "صغيرا كان أو كبيرا"، ويدل لذلك رواية "كمفحص قطاة"، وهي مرفوعة ثابتة عند ابن أبي شيبة عن عثمان، وابن حبان والبزار عن أبي ذر، وأبي مسلم الكجي من حديث ابن عباس، والطبراني عن أبي بكر، وابن خزيمة عن جابر. وحمل ذلك العلماء على المبالغة وقيل: هي على ظاهرها. (بنى الله) إسناد البناء إلى الله تعالى مجاز أي أمر الملائكة ببنائه، أو البناء مجاز عن الخلق والإسناد حقيقة، وأبرز الفاعل تعظيما وافتخارا. (بيتا في الجنة) زاد الشيخان في رواية "مثله" وكذا الترمذي، وقد اختلف في معنى المماثلة، فقيل: مثله في الشرف والفضل والتوقير؛ لأنه جزاء المسجد فيكون مثلا له في صفات الشرف. وقيل: مثله في مسمى
703- (10) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((من غدا إلى المسجد أو راح، أعد الله له نزله من الجنة كلما غدا أو راح)) متفق عليه.
704- (11) وعن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((أعظم الناس أجرا في الصلاة، أبعدهم فأبعدهم ممشى،

(4/266)


البيت، وأما صفته في السعة وغيرها فمعلوم فضلها، فإنها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وقيل: المراد أن فضله على بيوت الجنة كفضل المسجد على بيوت الدنيا، وقيل: غير ذلك. وقوله "في الجنة" متعلق ببنى أو بمحذوف صفة لبيتا. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وابن ماجه، وفي الباب عن جماعة من الصحابة. ذكر أحاديثهم مع تخريجها شيخنا في شرح الترمذي.
703- قوله: (من غدا إلى المسجد أو راح) قيل: المراد بالغدو هنا مطلق الذهاب للمسجد في أي وقت كان، وبالرواح الرجوع منه، أي من ذهب للصلاة في المسجد ورجع، والأصل في الغدو المضي من بكرة النهار، والرواح بعد الزوال، ثم قد يستعملان في كل ذهاب ورجوع توسعا. وظاهر الحديث حصول الفضل لمن أتى المسجد مطلقا، لكن المقصود منه اختصاصه بمن يأتيه للعبادة، والصلاة رأسها. (أعد) أي هيأ من الإعداد. (نزله) بضم النون والزاي: المكان الذي يهيأ للنزول فيه. وبسكون الزاي: ما يهيأ للقادم من الضيافة ونحوها. فعلى هذا "من" في قوله: (من الجنة) للتبعيض على الأول، وللتبيين على الثاني. (كلما غدا أو راح) قال الطيبي: النزل ما هيأ للنزيل، و"كلما غدا" ظرف وجوابه ما دل عليه ما قبله، وهو عامل فيه، والمعنى: كلما استمر غدوه ورواحه استمر إعداد نزله في الجنة، فالغدو والرواح في الحديث كالبكرة والعشي في قوله تعالى: ?ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا? [19: 62] يراد بها الديمومة لا الوقتان المعلومان. قال المظهر: من عادة الناس أن يقدموا طعاما إلى من دخل بيوتهم، والمسجد بيت الله، فمن دخله أي وقت كان من ليل أو نهار يعطيه الله أجره من الجنة؛ لأن الله أكرم الأكرمين فلا يضيع أجر المحسنين- انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد.

(4/267)


704- قوله: (أعظم الناس أجرا) أي أكثرهم ثوابا. (في الصلاة) أي في الإتيان إليها. (أبعدهم فأبعدهم ممشى) بفتح الميم الأولى وسكون الثانية أي مسافة، وهو منصوب على التمييز يعني أبعدهم مسافة إلى المسجد، وإنما كان أعظم أجرا لما يحصل في بعيد الدار عن المسجد من كثرة الخطا، وفي كل خطوة عشر حسنات كما رواه أحمد. فإن قيل: روى أحمد في مسنده (ج5: ص387، 399) عن حذيفة مرفوعا: أن فضل الدار القريبة يعني من المسجد على الدار البعيدة
والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصلي ثم ينام)) متفق عليه.
705- (12) وعن جابر، قال: ((خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لهم: بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد. قالوا: نعم يا رسول الله! قد أردنا ذلك. فقال: يا بني سلمة! دياركم، تكتب آثاركم، دياركم، تكتب آثاركم))

(4/268)


كفضل الغازي على القاعد. أي من الجهاد. فالجواب أن هذا في نفس البقعة، وذاك في الفعل، فالبعيد دارا مشيه أكثر وثوابه أعظم، والبيت القريب أفضل من البعيد، قاله العلقمي. قلت: حديث حذيفة هذا ضعيف لضعف علي بن يزيد أبي عبدالملك الدمشقي، وقد رواه عن حذيفة بلاغا. وفاء "فأبعدهم" قال البرماوي كالكرماني والطيبي: للاستمرار نحو الأمثل فالأمثل والأكمل فالأكمل. وتعقبه العيني بأنه لم يذكر أحد من النحاة أن الفاء تجيء بمعنى الاستمرار، ثم رجح كونها بمعنى ثم أي أبعدهم ثم أبعدهم ممشى. وقال السندي في حاشية ابن ماجه: الفاء للترتيب أي الأبعد على مراتب البعد أعظم أجرا من الأقرب على مراتب القرب، فكل من كان أبعد فهو أكثر أجرا ممن كان أقرب منه، ولو كان هذا الأقرب أبعد من غيره، فأجره أكثر من ذلك الغير. والمراد أنه إذا حضر المسجد مع ذلك البعد ولم يمنعه البعد عن الحضور. (حتى يصليها مع الإمام) زاد مسلم "في جماعة". (أعظم أجرا من الذي يصلي) أي وحده. (ثم ينام) أي يستريح بخروجه من عهدة ما عليه، فكما أن بعد المكان مؤثر في زيادة الأجر كذلك طول الزمان، للمشقة فيهما، فأجر منتظر الإمام أعظم من أجر من صلى منفردا من غير انتظار، وفائدة قوله "ثم ينام" الإشارة إلى الاستراحة المقابلة للمشقة التي في ضمن الانتظار، وقيل: الحديث في صلاة العشاء لقوله: ثم ينام. وظاهر الحديث يقضى أن تأخير الصلاة للجماعة أفضل من تقديمها أول الوقت ولو مع الجماعة لزيادة أجره بمشقة الانتظار، وليس مرادا إذ يعارضه الأخبار الدالة على طلب الصلاة أول الوقت. وقد استنبط من الحديث بعضهم استحباب قصد المسجد البعيد ولو كان بجنبه مسجد قريب، وإنما يتم ذلك إذ لم يلزم من ذهابه إلى البعيد هجر القريب، وإلا فإحياءه بذكر الله أولى، وكذا إذا كان في البعيد مانع من الكمال كأن يكون إمامه مبتدعا. (متفق عليه) وأخرجه أحمد وأبوداود وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة

(4/269)


مرفوعا بلفظ: الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرا.
705- قوله: (خلت البقاع) بكسر الباء. (حول المسجد) أي أطرافه قريبا منه. (فأراد بنو سلمة) بكسر اللام، قبيلة معروفة من الأنصار. (قرب المسجد) منصوب بنزع الخافض، أي إلى مكان بقربه. (فبلغ ذلك) أي انتقالهم. (دياركم) نصب على الإغراء، أي الزموا دياركم. (تكتب) يروي بالجزم على جواب الزموا ويجوز الرفع على الاستئناف. (آثاركم) جمع أثر، يعني الزموا دياركم فإنكم إذا لزمتموها كتبت خطاكم الكثيرة إلى المسجد. قال الطيبي: بنو سلمة بطن
رواه مسلم.
706- (13) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا
ظله:
من الأنصار، وليس في العرب سلمة- بكسر اللام- غيرهم، كانت ديارهم بعيدة من المسجد، وكان يجهدهم في سواد الليل وعند وقوع الأمطار واشتداد البرد، فأرادوا أن يتحولوا قرب المسجد، فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تعرى جوانب المدينة، فرغبهم فيما عند الله من الأجر على نقل الخطا. والمراد بالكتابة أن تكتب في صحف الأعمال، أي كثرة الخطا سبب لزيادة الأجر- انتهى. وفي الحديث أن أعمال البر إذا كانت خالصة تكتب آثارها حسنات. وفيه استحباب السكنى بقرب المسجد للفضل إلا لمن حصلت به منفعة أخرى، أو أراد تكثير الأجر بكثرة المشي ما لم يحمل على نفسه، ووجهه أنهم طلبوا السكنى بقرب المسجد للفضل الذي علموه منه فما أنكر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بل رجح درء المفسدة بإخلائهم جوانب المدينة على المصلحة المذكورة، وأعلمهم بأن لهم في التردد إلى المسجد من الفضل ما يقوم مقام السكنى بقرب المسجد أو يزيد عليه. (رواه مسلم) وأخرج البخاري قريبا من معناه من حديث أنس، وروى ابن ماجه وغيره عن ابن عباس بسند قوي، قال: كانت الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد فأرادوا أن يقتربوا فنزلت: ?ونكتب ما قدموا وآثارهم? [36: 12] قال فثبتوا.

(4/270)


706- قوله: (سبعة) أي سبعة أشخاص أو سبعة من الناس، وهذا العدد لا مفهوم له، فقد وردت أحاديث بزيادة على ذلك لا تخفى على من تتبع دواوين الحديث، وقد أفردها الحافظ بتأليف سماه معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال، وتتبعها السيوطي فأوصلها إلى سبعين خصلة، وأفردها في المؤلف بالأسانيد ثم اختصره. (يظلهم الله) جملة في محل الرفع على أنها خبر للمبتدأ أعني قوله: سبعة، أي يدخلهم (في ظله) إضافة تشريف ليحصل امتياز هذا عن غيره كما يقال للكعبة: بيت الله. مع أن المساجد كلها ملكه، وقيل: المراد بظله كرامته وحمايته وكنفه، يقال: فلان في ظل الملك أي في كنفه وحمايته، والمعنى يحفظهم من كرب الآخرة ويكنفهم في رحمته. قال عياض: وهو أولى الأقوال. وقيل المراد ظل عرشه. ويدل عليه ما رواه سعيد بن منصور بإسناد حسن من حديث سلمان: سبعة يظلهم الله في ظل عرشه- فذكر الحديث، ثم كونهم في ظل عرشه يستلزم ما ذكر من كونهم في كنف الله وكرامته من غير عكس، فهو أرجح وبه جزم القرطبي، ويؤيده أيضا تقييد ذلك بيوم القيامة كما صرح به في رواية. (يوم لا ظل إلا ظله) أي ظل عرشه على حذف المضاف، والمراد يوم القيامة إذا قام الناس لرب العالمين، وقربت الشمس من الرؤوس، واشتد عليهم حرها، وأخذهم العرق ولا ظل هناك لشيء إلا العرش. قيل: المراد إن ظل العرش يغلب على الشمس بالنسبة إليه فلا يبقى لها
إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه،

(4/271)


تأثير الحرارة. (إمام عادل) أي أحدهم إمام عادل، والمراد به صاحب الولاية العظمى، ويلتحق به كل من ولي شيئا من أمور المسلمين، فعدل فيه لحديث: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن الذي يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا" رواه مسلم. وأحسن ما فسر به العادل أنه الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط. وقدمه في الذكر على تاليه لكثرة مصالحه وعموم نفعه. (وشاب) خص الشاب؛ لأن العبادة في الشباب أشق لكثرة الدواعي وغلبة الشهوات وقوة البواعث على إتباع الهوى، فملازمة العبادة مع ذلك أشد وأدل على غلبة التقوى. وفي الحديث: "يعجب ربك من شاب ليست له صبوة". (نشأ) أي نما وتربى وشب. (في عبادة الله) أي حتى توفي على ذلك كما في رواية الجوزقي. وفي حديث سلمان: "أفنى شبابه ونشاطه في عبادة الله". (معلق) بفتح اللام. (بالمسجد) قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة "في المسجد". قال الحافظ: قوله "معلق في المساجد" هكذا في الصحيحين، وظاهره أنه من التعليق كأنه شبهه بالشيء المعلق في المسجد كالقنديل مثلا إشارة إلى طول الملازمة بقلبه، وإن كان جسده خارجا عنه، ويحتمل أن يكون من العلاقة، وهي شدة الحب، ويدل عليه رواية أحمد: معلق بالمساجد. وكذا رواية سلمان: من حبها. قال النووي: معناه شديد الحب لها والملازمة فيها، وليس معناه دوام القعود فيها، يعني أنه كنى به عن انتظاره أوقات الصلاة، فلا يصلي صلاة في المسجد ويخرج منه إلا وهو ينتظر الأخرى ليصليها فيه، يعني أنه كنى به عن انتظاره أوقات الصلاة، فلا يصلي صلاة في المسجد ويخرج منه إلا وهو ينتظر الأخرى ليصليها فيه، فهو ملازم للمسجد بقلبه وإن عرض لجسده عارض، وهذه الخصلة هي المقصودة من هذا الحديث للباب. (ورجلان) مثلا. (تحابا) بتشديد الباء وأصله تحابيا من التفاعل، أي اشتركا في جنس المحبة وأحب كل منهما الآخر حقيقة لا إظهارا فقط. (في الله) أي في

(4/272)


طلب رضاه أو لأجله لا لغرض دنياوي. (اجتمعا عليه) أي على الحب في الله إن اجتمعا. (وتفرقا عليه) أي على الحب إن تفرقا، يعني يحفظان الحب في الحضور والغيبة. وقال الحافظ: والمراد أنهما داما على المحبة الدينية ولم يقطعاها بعارض دنيوي سواء اجتمعا حقيقة أم لا. حتى فرق بينهما الموت. وذكر المتحابين لا يصير العدد ثمانية؛ لأن معناه: رجل يحب غيره في الله والمحبة أمر نسبي فلا بد لها من المنتسبين، فلذلك قال: رجلان، أو المراد عد الخصال لا عد المتصفين بها. (ورجل ذكر الله) بلسانه أو بقلبه. (خاليا) من الخلو، أي من الناس؛ لأنه أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء، أو المراد خاليا من الالتفات إلى غير الله تعالى ولو كان في ملأ، ويؤيده رواية البيهقي: ذكر الله بين يديه، ويؤيد الأول ما وقع في رواية للبخاري وغيره: ذكر الله في خلاء، أي في موضع خال من الناس. (ففاضت عيناه) من الدمع لرقة قلبه، وشدة خوفه من جلاله، أو مزيد شوقه إلى جماله. والفيض انصباب عن امتلاء فوضع موضع الامتلاء للمبالغة، أو المعنى: فاضت أي سالت
ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها
حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) متفق عليه.
707- (14) وعنه، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته
وفي سوقه

(4/273)


وجرت دموع عينيه، وأسند إلى العين مبالغة، جعلت من فرط البكاء كأنها تفيض بنفسها. (ورجل دعته امرأة) أي إلى الزنا بها. (ذات حسب) بفتحتين، وهو ما يعده الإنسان من مفاخر آبائه، وقيل: الخصال الحميدة له ولآبائه. قال الحافظ: الحسب يطلق على الأصل والمال أيضا. وفي رواية ذات منصب- بكسر الصاد- أي حسب ونسب شريف ومال. (وجمال) أي مزيد حسن. (فقال) بلسانه زاجرا لها عن الفاحشة، ومعتذرا إليها، أو المراد قال بقلبه زاجرا لنفسه. (إني أخاف الله) زاد في رواية: رب العالمين. قال عياض: خص ذات المنصب والجمال لكثرة الرغبة فيها وعسر حصولها، وهي جامعة للمنصب والجمال لا سيما وهي داعية إلى نفسها، طالبة لذلك، قد أغنت عن مشاق التوصل إلى مراودة ونحوها، فالصبر عنها لخوف الله تعالى- وقد دعت إلى نفسها مع جمعها المنصب والجمال- من أكمل المراتب وأعظم الطاعات، فرتب الله تعالى عليه أن يظله في ظله. (بصدقة) نكرها ليشمل كل ما يتصدق به من قليل وكثير، وظاهره أيضا يشمل المندوبة والمفروضة، لكن نقل النووي عن العلماء أن إظهار المفروضة أولى من إخفائها. (فأخفاها) قال ابن الملك: هذا محمول على التطوع؛ لأن إعلان الزكاة أفضل. قلت: في كل من الصدقة المندوبة والمفروضة عندي تفصيل. (حتى لا تعلم شماله) الخ. ذكره للمبالغة في إخفاء الصدقة والإسرار بها، وضرب المثل بهما لقربهما وملازمتهما أي لو قدر أن الشمال رجل متيقظ لما علم صدقة اليمين للمبالغة في الإخفاء، فهو من مجاز التشبيه، أو من مجاز الحذف أي حتى لا يعلم ملك شماله، أو حتى لا يعلم من على شماله من الناس، أو هو من باب التسمية الكل بالجزء، فالمراد بشماله نفسه، أي إن نفسه لا تعلم ما تنفق يمينه، ووقع في صحيح مسلم: حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله. وهو مقلوب سهو عند المحققين. وذكر الرجال في هذا الحديث لا مفهوم له، فتدخل النساء، نعم لا يدخلن في الإمامة العظمى، ولا في خصلة ملازمة المسجد؛ لأن

(4/274)


صلاتهن في بيتهن أفضل، لكن يمكن في الإمامة حيث يكن ذوات عيال فيعدلن، ولا يقال: لا يدخلن في خصلة من دعته امرأة؛ لأنا نقول إنه يتصور في امرأة دعاها ملك جميل مثلا للزنا فامتنعت خوفا من الله مع حاجتها. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة والزكاة والرقاق، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي في الزهد والنسائي في القضاء.
707- قوله: (صلاة الرجل) أي ثواب صلاته. (تضعف) بضم الفوقية وتشديد العين أي تزاد، يقال: ضعف الشيء، إذا زاد. وضعفته وأضعفته بمعنى، كذا في النهاية. (على صلاته في بيته وفي سوقه) أي منفردا، إذ الغالب
خمسا وعشرين ضعفا، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى، لم تزل الملائكة تصلي عليه مادام في مصلاه: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه. ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة)). وفي رواية: قال: ((إذا دخل المسجد كانت الصلاة تحبسه)).

(4/275)


أن من لم يحضر الجماعة في المسجد صلى منفردا، ولا يلزم من استواء الصلاة في البيت والسوق في المفضولية عن المسجد أن لا يكون أحدهما أفضل من الآخر، وكذا لا يلزم منه أن الصلاة جماعة في البيت أو السوق لا فضل فيها على الصلاة منفردا، بل الظاهر أن التضعيف المذكور مختص بالجماعة في المسجد، والصلاة في البيت مطلقا أولى منها في السوق لما ورد من أن الأسواق موضع الشياطين، والصلاة جماعة في البيت وفي السوق أولى من الانفراد. (خمسا وعشرين ضعفا) بكسر الضاد أي مثلا، ووجه حذف التاء من "خمسا" بتأويل الضعف بالدرجة أو بالصلاة، وتوضيحه أن ضعفا مميز مذكر فتجب التاء فقيل بالتأويل المذكور، وفي المصابيح: خمسة وعشرين ضعفا. وكذا وقع في بعض نسخ البخاري، والمرجع في سر الأعداد إلى علوم النبوة التي قصرت عقول الألباء عن إدراك جملها وتفاصيلها. (وذلك) إشارة إلى التضعيف الذي يدل عليه قوله: تضعف. (أنه إذا توضأ) قال الحافظ: هذا ظاهر في أن الأمور المذكورة علة للتضعيف المذكور، إذ التقدير: وذلك لأنه. فكأنه يقول: التضعيف المذكور سببه كيت وكيت. وإذا كان كذلك فما رتب على موضوعات متعددة لا يوجد بوجود بعضها إلا إذا دل دليل على إلغاء ما ليس معتبرا، أو ليس مقصودا لذاته، وهذه الزيادة التي في حديث أبي هريرة معقولة المعنى، فالأخذ بها متوجه، والروايات المطلقة لا تنافيها بل يحمل مطلقها على هذه المقيدة. (فأحسن الوضوء) أي أسبغه برعاية السنن والآداب. (لا يخرجه إلا الصلاة) أي قصد الصلاة المكتوبة في جماعة، جملة حالية، والمضارع المنفي إذا وقع حالا يجوز فيه الواو وتركه. (لم يخط) بفتح أوله وضم الطاء من خطا يخطو خطوا: فتح ما بين قدميه ومشى. (خطوة) بضم أوله ويجوز الفتح، قال الجوهري: الخطوة بالضم ما بين القدمين، وبالفتح المرة الواحدة. وجزم اليعمري: أنها هنا بالفتح، وقال القرطبي: إنها في روايات مسلم بالضم. (تصلي عليه) أي تدعو له

(4/276)


بالخير وتستغفر من ذنوبه، وتطلب له الرحمة. (مادام) أي مدة دوامه. (في مصلاه) بضم الميم، أي في المكان الذي أوقع فيه الصلاة من المسجد، وكذا لو قام إلى موضع آخر من المسجد مع دوام نية انتظاره للصلاة، فالأول خرج مخرج الغالب. (اللهم صل عليه) أي لم تزل الملائكة تصلي عليه حال كونهم قائلين ذلك. (اللهم ارحمه) قال الطيبي: طلب الرحمة بعد طلب المغفرة؛ لأن صلاة الملائكة استغفار لهم. (في الصلاة) أي في ثواب صلاة. (ما انتظر الصلاة) أي مادام ينتظرها سواء ثبت في مجلسه الذي صلى فيه من المسجد أم تحول إلى غيره. (وفي رواية: إذا دخل المسجد كانت الصلاة تحبسه) أي تمنعه
وزاد في دعاء الملائكة: ((اللهم اغفر له، اللهم تب عليه. ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه)). متفق عليه.
708- (15) وعن أبي أسيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(4/277)


من الخروج من المسجد، ولم أجد هذه الرواية في الصحيحين، نعم وقع في رواية لهما: إذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه. أي مدة كون الصلاة حابسة له بأن كان جالسا لانتظار الصلاة، أما جلوسه بعد الصلاة لذكر أو اعتكاف مثلا، فلا يترتب عليه خصوص هذا الثواب وإن كان فيه ثواب عظيم. (وزاد) أي في هذه الرواية، وهذه الزيادة من إفراد مسلم. (اللهم تب عليه) أي وفقه للتوبة وتقبلها منه، أو ثبته عليها. (ما لم يؤذ فيه) أي لا تزال الملائكة داعين له مادام في مصلاه منتظرا للصلاة ما لم يؤذ في مجلسه أحدا من المسلمين بقوله أو فعله. وقيل: أي ما لم يؤذ الملائكة، وإيذاءه إياهم بالحدث في المسجد، وهو معنى قوله. (ما لم يحدث) من أحدث أي ما لم ينقض وضوءه. وظاهره عموم النقض لغير الاختيار أيضا، ويحتمل الخصوص، ولفظ البخاري: اللهم اغفر له اللهم ارحمه، ما لم يؤذ يحدث فيه. قال الحافظ: كذا للأكثر بالفعل المجزوم على البدلية، ويجوز بالرفع على الاستئناف. وللكشمهيني: ما لم يؤذ بحدث فيه. بلفظ الجار والمجرور متعلقا بيؤذ. وقال الكرماني: وفي بعض النسخ: ما لم يحدث فيه. بطرح لفظ يؤذ، أي ما لم ينقض الوضوء، فالمراد بالحدث الناقض للوضوء، ويدل عليه ما روي: أن أبا هريرة لما روى هذا الحديث قال له أبورافع: ما يحدث؟ قال: يفسو أو يضرط، وهو في بعض طرق الحديث عند مسلم، وقيل: يحتمل أن يكون المراد بالحدث هنا أعم من الحدث الناقض للوضوء، أي ما لم يحدث سوء، ويدل عليه رواية أبي داود: ما لم يؤذ فيه أو يحدث فيه؛ لأنه عطف قوله: أو يحدث. على قوله: لم يؤذ فيه. قال ابن المهلب: معنى الحديث أن الحدث في المسجد خطيئة يحرم بها المحدث استغفار الملائكة ودعائهم المرجو بركته. وقيل: إخراج الريح من الدبر لا يحرم، لكن الأولى اجتنابه؛ لأن الملائكة تتأذى بما يتأذى منه بنو آدم، كما يأتي في الحديث، ويؤخذ منه أن الحدث الأصغر وإن منع دعاء الملائكة

(4/278)


لا يمنع جواز الجلوس في المسجد، كذا في المرقاة. قال الحافظ: في الحديث دليل على أن الحدث في المسجد أشد من النخامة؛ لأن لها كفارة ولم يذكر لهذا كفارة بل عومل صاحبه بحرمان استغفار الملائكة، ودعاء الملائكة مرجو الإجابة، لقوله تعالى: ?ولا يشفعون إلا لمن ارتضى? [21: 28] قال: واستدل بالحديث على أفضلية الصلاة على غيرها من الأعمال لما ذكر من صلاة الملائكة عليه، ودعائهم له بالرحمة والمغفرة والتوبة. (متفق عليه) واللفظ إلى قوله: ما انتظر الصلاة. للبخاري، ولمسلم معناه. وأما قوله: اللهم تب عليه، الخ. فهو من إفراد مسلم كما تقدم، والحديث أخرجه أيضا أحمد وأبوداود، وابن ماجه بنحوه.
708- قوله: (عن أبي أسيد) بضم الهمزة وفتح السين المهملة وسكون الياء، اسمه مالك بن ربيعة بن البدن الساعدي الخزرجي مشهور بكنيته، صحابي جليل، شهد بدرا والمشاهد كلها، له ثمانية وعشرون حديثا، اتفقا على حديث
إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج فليقل: اللهم إني
أسألك من فضلك)) رواه مسلم.
709- (16) وعن أبي قتادة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين

(4/279)


وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بآخر، مات سنة (30) وقيل: بعد ذلك حتى قال المدائني: مات سنة (60) وله. (87) سنة بعد ما ذهب بصره، قال: هو آخر من مات من البدريين. (إذا دخل أحدكم المسجد) أي أراد دخوله عند وصول بابه. (فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك) وفي رواية أي داود: فليسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ليقل: اللهم افتح لي، الخ.. (وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك) قال النووي: في الحديث استحباب هذا الذكر، وقد جاءت فيه أذكار كثيرة غير هذا في سنن أبي داود وغيره ومختصر مجموعها: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، بسم الله والحمدلله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم، اللهم اغفرلي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك. وفي الخروج يقوله لكن يقول: اللهم إني أسألك من فضلك-انتهى. وتخصيص الرحمة بالدخول والفضل بالخروج؛ لأن الرحمة في كتاب الله أريد به النعم النفسانية والأخروية. قال تعالى: ?ورحمة ربك خير مما يجمعون? [43: 32]، والفضل على النعم الدنيوية، قال تعالى: ?لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلا من ربكم? [2: 198] وقال. ?فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله? [62: 10] ومن دخل المسجد يطلب القرب من الله، ويشتغل بما يزلفه إلى ثوابه وجنته فيناسب ذكر الرحمة، والخروج وقت ابتغاء الرزق فناسب ذكر الفضل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أبوداود، وكلاهما من حديث أبي حميد. (اسمه عبدالرحمن بن سعد الساعدي) أو أبي أسيد على الشك، والنسائي عنهما من غير شك، وابن ماجه عن أبي حميد وحده.

(4/280)


709- قوله: (إذا دخل أحدكم المسجد) عمومه يشمل أوقات الكراهة أيضا. فقيل: هذا الحديث مخصوص بغير أوقات الكراهة، وقيل: بل محمول على عمومه، والكراهة في تلك الأوقات مخصوصة بالصلاة التي لا يكون لها سبب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بعد العصر قضاء سنة الظهر فخص وقت النهي، وصلى به ذات السبب، ولم يترك التحية في حال من الأحوال بل أمر الذي دخل المسجد يوم الجمعة وهو يخطب فجلس أن يقوم فيركع ركعتين مع أن الصلاة في حال الخطبة ممنوع منها إلا التحية، فلو كانت التحية تترك في حال من الأحوال لتركت الآن؛ لأنه قعد وهي مشروعية قبل القعود، ولأنه كان يجهل حكمها، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع خطبته وكلمه وأمره أن يصلي التحية، فلو لا شدة الاهتمام بالتحية في جميع الأوقات لما اهتم هذا الاهتمام، قاله النووي. (فليركع ركعتين) أي فليصل ركعتين يعني تحية المسجد أو ما يقوم مقامهما من صلاة فرض أو سنة تعظيما للمسجد. قال النووي: لا يشترط أن ينوي التحية بل تكفيه ركعتان من فرض
قبل أن يجلس)) متفق عليه.

(4/281)


وسنة راتبة أو غيرهما، ولو نوى بصلاته التحية والمكتوبة انعقدت صلاته وحصلتا له –انتهى. قال الحافظ: قوله: ركعتين. هذا العدد لا مفهوم لأكثره بالاتفاق، واختلف في أقله، والصحيح اعتباره فلا تتأدى هذه السنة بأقل من ركعتين. واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر في ذلك للندب. ونقل ابن بطال عن أهل الظاهر: الوجوب، والذي صرح به ابن حزم عدمه، ومن أدلة عدم الوجوب قوله - صلى الله عليه وسلم - للذي رآه يتخطى: اجلس فقد آذيت. ولم يأمره بصلاة، كذا استدل به الطحاوي وغيره، وفيه نظر-انتهى. قال شيخنا: لعل وجه النظر أنه لا مانع له من أن يكون قد فعلها في جانب من المسجد قبل وقوع التخطي منه، أو أنه كان ذلك قبل وقوع الأمر بها والنهي عن تركها. ومن أدلة عدم الوجوب ما أخرجه ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم، قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلون المسجد، ثم يخرجون ولا يصلون. ومشروعية تحية المسجد لا تختص بمن قصد الجلوس في المسجد بل تسن لكل من دخل أراد الجلوس فيه أو لا. ومن أدلة عدم الوجوب حديث كعب بن مالك في تخلفه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، وفيه حتى جئت أي إلى المسجد فلما سلمت أي على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - تبسم تبسم المغضب، ثم قال: تعالى، فجئت حتى جلست بين يديه. الحديث، وفيه: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك، فقمت فمضيت. فقوله: حتى جئت، الخ. يدل بظاهره على أنه جلس بلا صلاة، وقوله: فمضيت. على أنه خرج بلا صلاة، وقد استنبط منه النسائي في سننه الرخصة في الجلوس في المسجد والخروج منه بغير صلاة. قال الخطابي: في حديث أبي قتادة من الفقة أنه إذا دخل المسجد كان عليه أن يصلي ركعتين تحية المسجد قبل أن يجلس، سواء كان ذلك في جمعة أو غيرها، كان الإمام على المنبر أو لم يكن؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عم ولم يخص. قلت: هذا هو الصحيح، وقد جاء

(4/282)


مصرحا في حديث جابر أن رجلا جاء والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فقال: أصليت يا فلان؟ قال: لا، قال: قم فاركع. وقد تقدم الإشارة إليه في كلام النووي. واختلفوا فيمن جاء المسجد وقد ركع ركعتي الفجر في بيته، هل يركع عند دخوله المسجد أم لا؟ فقال الشافعي: يركع. وهي رواية أشهب عن مالك. وقال أبوحنيفة: لا يركع. وهي رواية ابن القاسم عن مالك. قال ابن رشد: وسبب اختلافهم معارضة الأمر قوله عليه السلام: لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الصبح. فههنا عمومان وخصوصان: أحدهما في الزمان والآخر في الصلاة، وذلك أن حديث الأمر بالصلاة عام في الزمان، خاص في الصلاة، وحديث النهي عام في الصلاة، خاص في الزمان، فمن استثنى خاص الصلاة من عامها رأى الركوع بعد ركعتي الفجر، ومن استثنى خاص الزمان من عامه لم يوجب ذلك –انتهى. (قبل أن يجلس) الظاهر أنه خرج مخرج الغالب من فعل الصلاة من قيام، فلو جلس ليأتي بها وأتى بها فورا من قعود جاز، وكذا لو أحرم بها قائما ثم أراد القعود لإتمامها. قال ابن رسلان: المراد بالركعتين الإحرام بهما حتى لو صلاهما قاعدا كفى سواء أحرم قائما ثم جلس أو أحرم جالسا
710- (17) وعن كعب بن مالك، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقدم من سفر إلا نهارا في الضحى، فإذا قدم بدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين، ثم جلس فيه)) متفق عليه.
711- (18) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردها الله عليك،

(4/283)


واتصل إحرامه بأول جلوسه؛ لأن النهي عن جلوس في غير صلاة-انتهى. ثم إنه إذا خالف وجلس قبل أن يصلي يشرع له التدارك ولا تفوت بالجلوس؛ لما روى ابن حبان في صحيحه من حديث أي ذر أنه دخل المسجد فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أركعت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم فأركعهما. ترجم عليه ابن حبان أن تحية المسجد لا تفوت بالجلوس، ومثله قصة سليك الغطفاني. ويحتمل أن تحمل مشروعيتهما بعد الجلوس على ما إذا لم يطل الفصل. قال القاري: وما يفعله بعض العوام من الجلوس أولا ثم القيام للصلاة ثانيا باطل لا أصل له. (متفق عليه) وأخرجه أيضا مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
710- قوله: (لا يقدم) بفتح الدال أي لا يرجع. (إلا نهارا في الضحى) بضم المعجمة والقصر، وهو وقت تشرق الشمس، قيل: الحكمة في ذلك أنه وقت نشاط فلا مشقة على أصحابه في المجيء إليه بخلاف نصف النهار فإنه وقت نوم وراحة، وبخلاف أواخره لأنه وقت اشتغال بأسباب العشاء ونحوه، وبخلاف الليل فإنه يشق الحركة فيه. (بدأ بالمسجد) أي بدخوله. (فصلى فيه ركعتين) هذا فعله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يتوهم أنه من خصائصه؛ لأنه قد أمر جابرا بصلاة القدوم من السفر، وحديثه عند الشيخين وغيرهما، وفي الحديثين استحباب ركعتين للقادم من سفره في المسجد أول قدومه، وهذه الصلاة مقصودة للقدوم من السفر ينوي بها صلاة القدوم، لا أنها تحية المسجد التي أمر الداخل بها قبل أن يجلس لكن تحصل التحية بها. (ثم جلس فيه) قبل أن يدخل بيته ليزوره المسلمون شفقة على خلق الله. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي، وهو طرف من حديث طويل لكعب بن مالك في قصة تخلفه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك وتوبته.

(4/284)


711- قوله: (ينشد ضالة) أي يطلبها برفع الصوت، وينشد بفتح الياء وضم الشين، يقال: نشد الضالة أي نادى وسأل عنها وطلبها، وهو من النشد رفع الصوت، والضالة تطلق على الذكر والأنثى، والجمع ضوال كدابة ودواب، وهي مختصة بالحيوان الضائع، ويقال لغير الحيوان ضائع ولقيط. (في المسجد) متعلق بينشد. (فليقل) أي السامع يعني عقوبة له لارتكابه في المسجد ما لا يجوز، وظاهره أنه يقوله جهرا. (لا ردها الله عليك) معناه ما رد الله الضالة إليك
فإن المساجد لا تبن لهذا)) رواه مسلم.
712- (19) وعن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أكل من هذه الشجرة المنتنة،

(4/285)


وما وجدتها. قال السندي: يحتمل أنه دعاء عليه، فكلمة لا لنفي الماضي، ودخولها على الماضي بلا تكرار جائز في الدعاء، وفي غير الدعاء الغالب هو التكرار كقوله تعالى: ?فلا صدق ولا صلى? [75: 31] ويحتمل أن لا ناهية أي لا تنشد، وقوله: ردها الله عليك، دعاء له لإظهار أن النهي عنه نصح له، إذا الداعي بالخير لا ينهى إلا نصحا، لكن اللائق حينئذ الفصل بأن يقال: لا، وردها الله عليك، بالواو؛ لأن تركها يوهم، إلا أن يقال: الموضع موضع زجر، ولا يضر به الإبهام لكونه إيهام شيء هو آكد في الزجر-انتهى. (فإن المساجد لم تبن لهذا) أي لنشدان الضالة ونحوه، بل بنيت لذكرالله والصلاة، والعلم والمذاكرة في الخير، ونحوهما. وقوله: فإن المساجد، الخ. يحتمل أنه في حيز القول فلا بد أن يقوله القائل تعليلا لقوله، ويؤيده حديث بريدة عند مسلم: أن رجلا نشد في المسجد فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا وجدته، إنما بنيت المساجد لما بنيت له. ويحتمل أنه تعليل لقوله فليقل، فلا حاجة إلى أن يقول. والحديث دليل على تحريم السؤال برفع الصوت عن ضالة الحيوان في المسجد، وهل يلحق به السؤال عن غيرها من المتاع ولو ذهب في المسجد؟ قيل: يلحق للعلة، وهي قوله: فإن المساجد لم تبن لهذا، وإن من ذهب عليه متاع فيه أو في غيره قعد في باب المسجد يسأل الخارجين والداخلين إليه. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود وابن ماجه.

(4/286)


712- قوله: (من هذه الشجرة المنتنة) بضم الميم وكسر التاء الفوقية من أنتن الشيء أي خبثت رائحته، يعني بها الثوم كما وقع في رواية للشيخين، وفي رواية لمسلم: من أكل البصل والثوم والكراث. وفي قوله: شجرة، مجاز؛ لأن المعروف في اللغة أن الشجرة ما كان لها ساق، وما لا ساق له يقال له: نجم، وبهذا فسر ابن عباس قوله تعالى. ?والنجم والشجر يسجدان? [55: 6] ومن أهل اللغة من قال: كل ما ثبت له أرومة أي أصل في الأرض يخلف ما قطع من ظاهرها فهو شجر، وما ليس لها أرومة تبقى فهو نجم. قال العيني: فإن قلت على ما ذكر: كيف أطلق الشجر على الثوم ونحوه، قلت: قد يطلق كل منهما على الآخر، وتكلم أفصح الفصحاء به من أقوى الدلائل-انتهى. والمراد بالثوم في الحديث النيئ منه، وأما المطبوخ فلا كراهة فيه لما روى أبوداود والترمذي من حديث علي قال: نهى عن أكل الثوم إلا مطبوخا، ولما يأتي في الفصل الثاني من حديث معاوية بن قرة، عن أبيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هاتين الشجرتين-الحديث. وفيه: إن كنتم لابد آكليهما فأميتوهما طبخا. فهذان الحديثان يفيدان تقييد ما ورد من الأحاديث المطلقة في النهي. ويلحق بما نص عليه في الحديث من الثوم في رواية، والبصل والكراث في أخرى، والفجل في رواية
فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس)).

(4/287)


المعجم الصغير للطبراني، كل ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها لاسيما التتن والتبغ والتنباك والسيجارة، وإنما خص الثوم والبصل والكراث والفجل بالذكر لكثرة أكلهم بها. (قلا يقربن) بفتح الراء والباء الموحدة وبنون التأكيد المشددة. (مسجدنا) يريد به المكان الذي أعد ليصلى فيه مدة إقامته بخيبر، لأن القول المذكور صدر منه - صلى الله عليه وسلم - عقب فتح خيبر، أو المراد بالمسجد الجنس، والإضافة إلى المسلمين أي فلا يقربن مسجد المسلمين، ويؤيده رواية أحمد بلفظ "فلا يقربن المساجد" ونحوه لمسلم، وهذا يدفع قول من خص النهي بمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن لفظ المساجد لا يساعده، وكذا التعليل يتأذى الملائكة؛ لأن ذلك يوجد في المساجد كلها، ثم إن ظاهر التقييد بالمساجد يقتضي أن قربهم في الأسواق غير منهي عنه، ويؤيده التعليل؛ لأن المساجد محل اجتماع الملائكة دون الأسواق، وكان المقصود مراعاة الملائكة الحاضرين في المساجد الخيرات، وإلا فالإنسان لا يخلو عن صحبة ملك فينبغي له دوام الترك لهذه العلة، قاله السندي. قلت: قد وقع في حديث أنس عند الشيخين "فلا يقربنا" قال الحافظ: ليس في هذا تقييد النهي بالمسجد فيستدل بعمومه على إلحاق المجامع بالمساجد كمصلى العيد والجنازة، ومكان الوليمة، وقد ألحقها بعضهم بالقياس، والتمسك بهذا العموم أولى، ونظيره قوله: وليقعد في بيته. لكن قد علل المنع في الحديث بترك أذى الملائكة وترك أذى المسلمين. (كما في حديث أبي هريرة عند مسلم: "فلا يقربن مسجدنا ولا يؤذينا بريح الثوم" فإن كان كل منهما جزء علة اختص النهي بالمساجد وما في معناها، وهذا هو الأظهر، وإلا لعم النهي كل مجمع كالأسواق-انتهى. وقال ابن دقيق العيد: والظاهر أن كل واحد منهما علة مستقلة- انتهى. وعلى هذا الأسواق كغيرها من مجامع العبادات. (فإن الملائكة تتأذى) أريد بهم الحاضرون مواضع العبادات عامة، ويدل هذا التعليل على أنه لا

(4/288)


يدخل المسجد وإن كان خاليا عن الإنسان؛ لأنه محل ملائكة، فقوله: مما يتأذى منه الإنس-بكسر الهمزة- يكون محمولا على تقدير وجودهم فيه. والحديث يدل على جواز أكل الثوم وغيره من البقول مما فيه رائحة كريهة مطبوخا كان أو غير مطبوخ لمن قعد في بيته، وعند حضور المسجد إذا كان مطبوخا لئلا يؤذي برائحته الخبيثة من يحضره من الملائكة وبني آدم، فالنهي إنما هو عن حضور المسجد بعد أكل الثوم النيئ ونحوه لا عن أكل الثوم والبصل ونحوهما، فهذه البقول حلال لقوله - صلى الله عليه وسلم -: كل فإني أناجي من لا تناجي. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: أيها الناس ليس لي تحريم ما أحل الله لي. وشذ أهل الظاهر فحرموا هذه الأشياء لإفضائها إلى ترك الجماعة، وهي عندهم فرض عين، وتقريره أن يقال: صلاة الجماعة فرض، ولا تتم إلا بترك أكلها وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فترك أكلها واجب، فتكون حراما، كذا نقله ابن دقيق العيد وغيره عن أهل الظاهر، لكن صرح ابن حزم منهم بان أكلها حلال مع قوله: بأن الجماعة فرض عين، وانفصل عن اللزوم المذكور بأن المنع من أكلها مختص بمن علم بخروج الوقت قبل زوال الرائحة، ونظيره أن صلاة الجمعة فرض عين بشروطها ومع ذلك تسقط بالسفر، وهو في أصله مباح لكن يحرم
متفق عليه.
713- (20) وعن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((البزاق في المسجد خطيئة،

(4/289)


على من أنشأه بعد سماع النداء، قلت: الحديث قد استدل به على أن صلاة الجماعة ليست فرض عين، قال ابن دقيق العيد: وتقريره أن يقال: أكل هذه الأمور جائز، ومن لوازمه ترك صلاة الجماعة في حق آكلها، ولازم الجائز جائز، فيكون ترك صلاة الجماعة في حق آكلها جائزا، وذلك ينافي الوجوب، قال: وقد يستدل بهذا الحديث على أن أكل هذه الأمور من الأعذار المرخصة في ترك حضور الجماعة، وقد يقال: إن هذا الكلام خرج مخرج الزجر عنها فلا يقتضي ذلك أن يكون عذرا في تركها إلا أن تدعو إلى أكلها ضرورة، قال: ويبعد هذا من وجه تقريبه إلى بعض أصحابه فإن ذلك ينفي الزجر-انتهى. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضا أحمد، والترمذي في الأطعمة والنسائي في الصلاة وفي الباب روايات عن جماعة من الصحابة عند الشيخين وغيرهما بألفاظ متقاربة.

(4/290)


713- قوله: (البزاق) أي إلقاءه، وهو بضم الباء بعدها زاي، وفي رواية لمسلم "التفل" بدل البزاق، وفي رواية النسائي: البصاق بالصاد والتفل بفتح المثناة فوق وسكون الفاء هو البزاق والبصاق، وهما ماء الفم إذا خرج منه، ومادام فيه فهو ريق. (في المسجد) أي في أرضه وجدرانه، قال الحافظ: قوله: في المسجد. ظرف للفعل فلا يشترط كون الفاعل فيه حتى لو بصق من هو خارج المسجد فيه تناوله النهي. (خطيئة) بالهمزة أي إثم وفي رواية لأحمد: سيئة، ومثل البزاق المخاط والنخامة بل أولى. قال القاضي عياض: إنما يكون خطيئة إن لم يدفنه، فمن أراد دفنه فلا، ورده النووي فقال: هو خلاف صريح الحديث، فالبزاق في المسجد عنده خطيئة مطلقا أراد دفنه أو لا. قال الحافظ: وحاصل النزاع أن ههنا عمومين تعارضا وهما قوله: البزاق في المسجد خطيئة. وقوله: وليبصق عن يساره أو تحت قدمه، فالنووي يجعل الأول عاما ويخص الثاني بما إذا لم يكن في المسجد، والقاضي بخلافه يجعل الثاني عاما ويخص الأول بمن لم يرد دفنها. وقد وافق القاضي جماعة منهم ابن مكي في التنقيب، والقرطبي في المفهم، ويشهد لهم ما رواه أحمد والطبراني بإسناد حسن من حديث أبي أمامة مرفوعا، قال: من تنخع في المسجد فلم يدفنه فسيئة، وإن دفنه فحسنة، فلم يجعله سيئة إلا بقيد عدم الدفن، ونحوه حديث أبي ذر عند مسلم مرفوعا قال: وجدت في مساوئ أعمال أمتي النخاعة تكون في المسجد لا تدفن. قال القرطبي: فلم يثبت لها حكم السيئة بمجرد إيقاعها في المسجد بل به وبتركها غير مدفونة-انتهى. ومما يدل على أن عمومه مخصوص جواز ذلك في الثواب ولو كان في المسجد بلا خلاف، وعند أبي داود من حديث عبدالله بن الشخير أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فبصق تحت قدمه اليسرى ثم دلكه بنعله. إسناده صحيح، وأصله في مسلم، والظاهر أن ذلك كان في المسجد فيؤيد ما تقدم. وتوسط بعضهم فحمل الجواز على ما إذا كان له عذر كأن لم يتمكن من

(4/291)


الخروج من المسجد، والمنع على ما إذا لم يكن له عذر،
وكفارة دفنها)) متفق عليه.
714- (21) وعن أبي ذر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عرضت على أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوي أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن)) رواه مسلم.
715- (22) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه،
وهو تفصيل حسن-انتهى كلام الحافظ باختصار يسير. (وكفارتها) أي كفارة الخطيئة إذا فعلها. (دفنها) أي في تراب المسجد ورمله وحصياته إن كان، وإلا فيخرجها يعني أنه إذا أزال ذلك البزاق أو ستره بشيء طاهر عقيب الإلقاء زال منه تلك الخطيئة، قال الحافظ: قال ابن أبي جمرة: لم يقل: وكفارتها تغطيتها؛ لأن التغطية يستمر الضرر بها إذ لا يأمن أن يجلس غيره عليها فتؤذيه بخلاف الدفن فإنه يفهم منه التعميق في باطن الأرض-انتهى. قيل: إن لم يكن المسجد ذا تراب وكان ذا حصير لا يجوز إلقاء البزاق فيه احتراما للمالية. قلت: إذا احتاج إلى دفع البزاق وكان المسجد مجصصا ومبلطا فألقى البزاق تحت قدمه اليسرى ودلكه بحيث لم يبق في المسجد للبزاق أثر فلا حرج، وعلى هذا يحمل حديث عبدالله بن الشخير الذي تقدم في كلام الحافظ. (متفق عليه) وأخرجه أيضا الترمذي، وأبوداود والنسائي.

(4/292)


714- قوله: (عرضت على) أي إجمالا أو تفصيلا. (حسنها وسيئها) بالرفع عطف بيان للأعمال أو بدل اشتمال. (في محاسن أعمالها) جمع حسن بالضم والسكون على غير قياس. (الأذى) أي المؤذي يعني إزالته، واللام فيه للجنس. (يماط) أي يزال. (عن الطريق) صفة الأذى، قاله الطيبي. وفيه التنبيه على أن كل ما نفع المسلمين أو أزال عنهم ضرارا كان من حسن الأعمال. (مساوي أعمالها) جمع سوء على غير قياس والياء منقلبة عن الهمزة. (النخاعة) بضم النون أي البزاقة التي تخرج من أصل الفم والمراد إلقائها، وقيل: المراد بها البزاق. (تكون في المسجد) صفة النخاعة. (لا تدفن) قال ابن الملك: الجملتان صفتان أو حالان أي متداخلتان أو مترادفتان. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد، وابن ماجه وابن حبان.
715- قوله: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة) أي شرع فيها ففي حديث أنس عند الشيخين: إذا كان أحدكم في الصلاة. وفي حديث عبدالله بن عمر عندهما أيضا: إذا كان أحدكم يصلي. (فلا يبصق) بالصاد والجزم على النهي، وقيل: نفي معناه النهي. (أمامه) بفتح الهمزة أي قدامه، وظاهر الإطلاق يعم المسجد وغيره، بل الواقعة كانت في المسجد
فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه، فإن عن يمينه ملكا. وليبصق عن يساره أو تحت قدمه فيدفنها)).

(4/293)


كما يدل عليه سبب الحديث فيدل على أن الحكم ليس معللا بتعظيم المسجد وإلا لكان اليمين واليسار سواء، بل المنع عن تلقاء الوجه للتعظيم بحالة المناجاة مع الرب تعالى، وعن اليمين للتأدب مع ملك اليمين كما يفهم من الأحاديث، قاله السندي. (فإنما يناجي الله) والمناجاة من قبل العبد حقيقة، ومن قبل الله إقباله تعالى عليه بالرحمة والرضوان فمناجاة الله مجاز، إذ المناجاة هي المسارة بين الاثنين، ولا كلام محسوسا إلا من طرف العبد فيكون المراد لازم المناجاة وهو إرادة الخير. (مادام في مصلاه) أي ومن يناجي أحدا مثلا لا يبصق نحوه، وظاهره يقتضي تخصيص المنع بحالة الصلاة لكن التعليل بتأذي المسلم في حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعا عند أحمد بإسناد حسن: من تنخم في المسجد فليغيب نخامته أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه، يقتضي المنع في جدار المسجد مطلقا، ولو لم يكن في الصلاة، فيجمع بأن يقال: كونه في الصلاة أشد إثما مطلقا، وكونه في جدار القبلة أشد إثما من كونه في غيرها من جدار المسجد. (ولا عن يمينه) تعظيما لليمين وزيادة لشرفها. (فإن عن يمينه ملكا) لا بد من وجه يقتضي اختصاص المنع باليمين لأجل الملك، إذا الملك في يساره أيضا، وذلك الوجه هو أن يقال: أن ملك اليمين يكتب حسنات المصلى في حالة صلاته، والصلاة هي أم الحسنات البدنية، وهي أيضا تنهى عن الفحشاء والمنكر، فلا دخل لكاتب السيأت الكائن عن اليسار فيها، ويكون هو فارغا. وأحسن ما قيل فيه: أن لكل أحد قرينا أي شيطانا، وموقعه يساره كما في حديث أبي أمامة عند الطبراني، فإنه يقوم بين يدي الله، وملكه عن يمينه وقرينه على يساره، فلعل المصلي إذا تفل عن يساره يقع على قرينه وهو الشيطان، ولعل ملك اليسار حينئذ يكون بحيث لا يصيبه شيء من ذلك، أو أنه يتحول في الصلاة إلى اليمين. وقيل: التنكير في ملكا للتعظيم أي ملكا عظيما، فلا يشكل بأن على اليسار أيضا ملكا. وقال

(4/294)


الطيبي: يحتمل أن يراد ملك آخر غير الحفظة يحضر عند الصلاة للتائيد والإلهام والتأمين على دعائه، فسبيله سبيل الزائر فيجب أن يكرم زائره فوق من يحفظه من الكرام الكاتبين. (وليبصق عن يساره) أي إن كان فارغا. قال الخطابي: إن كان عن يساره أحد فلا يبزق في واحد من الجهتين لكن تحت قدمه أو ثوبه. ويؤيده ما رواه أبوداود من حديث طارق المحاربي مرفوعا، فإنه قال فيه: ولكن عن تلقاء يساره إن كان فارغا، أو تحت قدمه اليسرى، ثم ليقل به. وفي رواية النسائي: أو تلقاء شمالك إن كان فارغا، وإلا فهكذا وبزق تحت رجله ودلكه، ومعنى قوله "فارغا" أي متمكنا من البزق في يساره، وقوله "ثم ليقل به" أي ليدفنه إذا بزقه تحت قدمه اليسرى. (أو تحت قدمه) أي اليسرى وأو للتنويع أي إذا تعذر في جهة اليسار لوجود مصل فيها بصق تحت قدمه. (فيدفنها) بنصب النون؛ لأنه جواب الأمر، وبرفعها على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي فهو يدفنها، ويجوز الجزم عطفا على الأمر،
716- (23) وفي رواية أبي سعيد: ((تحت قدمه اليسرى)) متفق عليه.
716- (24) وعن عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في مرضه الذي لم يقم منه: ((لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))
وتأنيث الضمير في "فيدفنها" بتأويل البصقة التي يدل عليها قوله "وليبصق" أي فيغيب البصقة بالتعميق في باطن أرض المسجد بحيث يأمن الجالس عليها من الإيذاء، فلو كان المسجد غير ترابي فيدلكها بشيء حتى يذهب أثرها ألبتة، وإذا بدره البزاق ولم يكن يساره فارغا وكان تحت قدمه فراش من ثوب ونحوه تعين الثوب للبزق فيتفل فيه ثم يرد بعضه على بعض، ولو فقد الثوب مثلا فلعل بلعه أولى من ارتكاب المنهي عنه.
716- قوله: (وفي رواية أبي سعيد) أي عند الشيخين. (متفق عليه) واللفظ للبخاري، وفي الباب عن أنس، وابن عمر، وأبي سعيد عند الشيخين، وجابر بن عبدالله عند أبي داود وغيره.

(4/295)


717- قوله: (قال في مرضه الذي لم يقم منه) كأنه - صلى الله عليه وسلم - علم أنه مرتحل من ذلك المرض، فخاف أن يعظم قبره كما فعل اليهود والنصارى، فعرض بلعنهم إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم كيلا يعامل معه ذلك، فقال: (لعن الله اليهود والنصارى) واللعن أمارة الكبيرة المحرمة أشد التحريم فيكون الفعل الذي أوجب اللعن حراما. (اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد) جملة مستأنفة على سبيل البيان لموجب اللعن، كأنه قيل: ما سبب لعنهم؟ فأجيب بقوله: اتخذوا. زاد في رواية: يحذر ما صنعوا. وهي جملة مستأنفة أخرى من كلام الراوي، كأنه سئل عن حكمة ذكر ذلك في ذلك الوقت، فقالك ليحذر أمته أن يصنعوا بقبره مثل ما صنع اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم. واتخاذ القبور مساجد أعم من أن يكون بمعنى الصلاة إليها، أو بمعنى الصلاة عليها. وفي مسلم: لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها، ولا عليها. والظاهر أن العلة سد الذريعة والبعد عن التشبه بعبدة الأوثان الذين يعظمون الجمادات التي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر، ولما في إنفاق المال في ذلك من العبث والتبذير الخالي عن النفع بالكلية، ولأنه سبب لإيقاد سرج عليها الملعون فاعله، ومفاسد ما يبنى على القبور من المشاهد والقباب لا تحصر. وقال التوربشتي الحنفي في شرح المصابيح: معنى إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - على اليهود والنصارى صنيعهم هذا مخرج على وجهين: أحدهما أنهم كانوا يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لهم، والثاني أنهم كانوا يتحرون الصلاة في مدافن الأنبياء، والسجود على مقابرهم، والتوجه إلى قبورهم حالة الصلاة نظرا منهم بأن ذلك الصنيع أعظم موقعا عند الله لاشتماله على الأمرين: عبادة الله سبحانه، والمبالغة في تعظيم الأنبياء، وذهابا إلى أن تلك البقاع بإقامة الصلاة والتوسل بالعبادة فيها إلى الله لاختصاصها بقبور الأنبياء، وكلا الطريقين غير مرضية، أما الأولى فلأنها من الشرك الجلي، أما الثانية فلأنها

(4/296)


متضمنة معنى ما من الإشراك في عبادة الله حيث أتى بها على صنعة
متفق عليه.
718- (25) وعن جندب، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد،
الإشراك أو التبعية لمخلوق. والدليل على ذم الوجهين قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. والوجه الأول أشبه به. وأما نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته عن الصلاة في المقابر فإنه لمعنيين: أحدهما لمشابهة ذلك الفعل سنة اليهود، وإن كان القصدان مختلفين، والثاني لما يتضمنه من الشرك الخفي حيث أتى في عبادة الله بما يرجع إلى تعظيم مخلوق فيما لم يؤذن له. قال: والصلاة في المواضع المتبركة بها من مقابر الصالحين داخلة في جملة هذا النهي، لا سيما إذا كان الباعث تعظيم هؤلاء، وتخصيص تلك الموضع لما أشرنا إليه من الشرك الخفي-انتهى كلام التوربشتي بقدر الضرورة. قلت: ويدخل أيضا في هذا النهي والوعيد اتخاذ مسجد بجوار نبي أو صالح، والصلاة عند قبره لا لتعظيمه، ولا بالتوجه نحوه بل لحصول مدد منه، ورجاء كمال عبادته ببركة مجاورته لتلك الروح، وهذا لأن اتخاذ المسجد بقربه وقصد التبرك به تعظيم له، ولأن في هذا الصنيع أيضا من المفاسد ما لا يخفى، ولأنه لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدا من أمته بالاستفاضة بقبره أو بقبر أحد من صلحاء أمته، ولا بالاستمداد منه، ولا بالمجاورة به، ولا التبرك به، وإنما أمر أمته بالسلام على أهل القبور والدعاء والاستغفار لهم عند زيارة القبور وحث على الاعتبار بهم، فالاستفاضة بالقبور، والاستمداد منها، والتبرك بها ولو كان بدون التوجه إليها حرام عندنا لكونه داخلا في الشرك الخفي. واعلم أنه قد استشكل ذكر النصارى في الحديث؛ لأنه ليس لهم نبي إلا عيسى عليه السلام، إذ لا نبي بينه وبين محمد -

(4/297)


صلى الله عليه وسلم -، وهو حي في السماء لم يمت، فليس له قبر، وأجيب بأن ضمير الجمع في قوله "أنبيائهم" للمجموع من اليهود والنصارى، فإن اليهود لهم أنبياء، أو المراد الأنبياء وكبار أتباعهم، فاكتفى بذكر الأنبياء، ويؤيده رواية جندب التالية حيث قال: كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ولهذا أفرد النصارى، كما في رواية لعائشة رضي الله عنها عند الشيخين. قال: إذا مات فيهم الرجل الصالح، ولما أفرد اليهود كما في حديث أبي هريرة قال: قبور أنبيائهم، أو أنه كان فيهم أنبياء أيضا لكنهم غير مرسلين كالحواريين، أو يقال: أنبياء اليهود أنبياء النصارى؛ لأن النصارى مأمورون بالإيمان بكل رسول، فرسل بني إسرائيل يسمون أنبياء في حق الفريقين، والمراد من الإتخاذ أعم من أن يكون ابتداعا أو إتباعا، فاليهود ابتدعت، والنصارى اتبعت، ولا ريب أن النصارى تعظم قبور كثير من الأنبياء الذين تعظمهم اليهود، وخصص اليهود بالذكر في حديث أبي هريرة لكونهم ابتدعوا هذا الاتخاذ فهم أظلم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة، والجنائز، والمغازي، ومسلم في الصلاة، وأخرجه أيضا النسائي.
718- قوله: (ألا) للتنبيه. (وإن) بالكسر على تقدير أنبهكم وأقول إن. قال القاري: وروى بالفتح، فالتقدير: تنبهوا واعلموا أن. (من كان قبلكم) أي اليهود والنصارى، أو أعم منها. (ألا فلا تتخذوا القبور مساجد) كرر التنبيه
إني أنهاكم عن ذلك)) رواه مسلم.
719- (26) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبورا))

(4/298)


بإقحام أداته بين السبب والمسبب مبالغة، وكرر النهي أيضا كما كرر التنبيه بقوله. (إني أنهاكم عن ذلك) وفي الصحيحين عن عائشة: أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح، فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، وأولئك شرار الخلق عندالله يوم القيامة. قال الحافظ: وإنما فعل ذلك أوائلهم ليتأنسوا برؤية تلك الصور، ويتذكروا أحوالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم، ثم خلف من بعدهم خلوف جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان أن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها فاعبدوها، فحذر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مثل ذلك سدا للذريعة المؤدية إلى ذلك. (رواه مسلم) ....

(4/299)


719- قوله: (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم) قيل من زائدة، والمراد من الصلاة النوافل، والتقدير: اجعلوا صلاتكم أي نوافلكم في بيوتكم، يدل على هذا ما رواه مسلم من حديث جابر مرفوعا: إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته. وفي الصحيحين حديث: صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة. وإنما شرع ذلك لكونه أبعد من الرياء، وليتبرك به البيت، وتنزل الرحمة فيه والملائكة، وتنفر الشياطين منه، لكن استثنى منه ركعتا الطواف والإحرام، وتراويح رمضان، وصلاة الكسوف والاستسقاء وتحية المسجد، وصلاة القدوم من السفر، وما ورد من صلاته - صلى الله عليه وسلم - بعض النوافل في المسجد- كركعتين بعد المغرب مثلا – فهو لبيان الجواز، وقيل: من للتبعيض، والمراد من الصلاة مطلق الصلاة، والمعنى: اجعلوا بعض صلاتكم وهو النفل من الصلاة المطلقة في بيوتكم، والصلاة المطلقة تشمل النفل والفرض، قال القاري: "من صلاتكم" مفعول أول و"في بيوتكم" مفعول ثان، قدم على الأول للإهتمام بشأن البيوت، أي اجعلوا بعض صلاتكم التي هي النوافل مؤداة في بيوتكم، وإن من حقها أن يجعل لها نصيبا من الطاعات لتصير منورة؛ لأنها مأواكم ومنقلبكم، وليست كقبوركم التي لا تصلح لصلاتكم، ولذا قال: (لاتتخذوها) أي بيوتكم. (قبورا) بأن تتركوا الصلاة فيها كما تتركون في المقابر، والمعنى: أعطوا البيوت حظها من الصلاة، ولا تجعلوها كالمقابر حيث لا يصلى فيها، فأحال على المقابر لكونها معهودة معروفة بهذه الصفة بحسب الحس والمشاهدة والشرع، ويؤيده ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: لا تجعلوا بيوتكم مقابر. فالحديث فيه دليل على كراهة الصلاة في المقابر، وعليه حمله البخاري في صحيحه حيث عقد عليه "باب كراهية الصلاة في المقابر"، وقد نقل ابن المنذر عن أكثر أهل العلم أنهم استدلوا بهذا الحديث على أن المقبرة ليست بموضع الصلاة، وكذا قال البغوي

(4/300)


في شرح السنة
متفق عليه.
?الفصل الثاني?
720- (27) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بين المشرق والمغرب قبلة)).
والخطابي. وقيل: المراد من الحديث الندب إلى الصلاة في البيوت، إذ الموتى لا يصلون كأنه قال: لا تكونوا كالموتى الذين لا يصلون في بيوتهم، وهي القبور. وقيل: المراد لا تجعلوا بيوتكم وطنا للنوم فقط لا تصلون فيها، فإن النوم أخو الموت، والميت لا يصلي. ويحتمل أن يكون المراد أن من لم يصل في بيته جعل نفسه كالميت وبيته كالقبر، ويؤيده ما رواه مسلم: مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه كمثل الحي والميت. وهذا يرجع إلى المعنى الثاني. وقيل: المراد النهي عن دفن الموتى في البيوت، والمعنى: لا تدفنوا في بيوتكم موتاكم لئلا يكدر عليكم معايشكم ومأواكم، ولأن استمرار الدفن في البيوت ربما صيرها مقابر فتصير الصلاة فيها مكروهة، ولفظ حديث أبي هريرة عند مسلم أصرح من حديث ابن عمر وهو قوله: لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن ظاهره يقتضي النهي عن الدفن في البيوت مطلقا. (متفق عليه) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.

(4/301)


720- قوله: (ما بين المشرق والمغرب قبلة) قد اضطربت أقوال العلماء في شرح هذا الحديث ومعناه، فقال العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي: هذا الحديث كحديث أبي أيوب المتقدم: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا. إنهما كلاهما فيما كان من المواضع سمته وجهته كسمت المدينة وجهتها؛ لأنها في شمال مكة، بينها وبين الشام، فإذا استقبل القبلة استدبر الشام، وإذا استدبر القبلة استقبل الشام، وإن المراد بقوله: ما بين المشرق والمغرب قبلة، أن الفرض على المصلى إذا كان بعيدا عن الكعبة أن يتوجه جهتها، لا أن يصيب عينها على اليقين، فإن هذا محال أو عسير-انتهى. وقال العراقي: ليس هذا عاما في سائر البلاد، وإنما هو بالنسبة إلى المدينة المشرفة وما وافق قبلتها، قال: ولسائر البلدان من السعة في القبلة مثل ذلك بين الجنوب والشمال ونحو ذلك. وقال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عن معنى الحديث فقال: هذا في كل البلدان إلا بمكة عند البيت فإنه إن زال عنه شيئا وإن قل فقد ترك القبلة، ثم قال: هذا المشرق- وأشار بيده- وهذا المغرب – وأشار بيده- وما بينهما قبلة. قلت: فصلاة من صلى بينهما جائزة؟ قال: نعم. وينبغي أن يتحرى الوسط. قال ابن عبدالبر: تفسير قول أحمد هذا في كل البلدان يريد أن البلدان كلها لأهلها في قبلتهم مثل ما لمن كانت قبلتهم بالمدينة الجنوب التي يقع لهم فيها الكعبة، فيستقبلون جهتها ويتسعون يمينا وشمالا فيها ما بين المشرق والمغرب، يجعلون المغرب عن أيمانهم والمشرق عن يسارهم، وكذلك لأهل اليمن من السعة في قبلتهم مثل ما بين المشرق والمغرب إذا توجهوا أيضا قبل القبلة إلا أنهم يجعلون المشرق

(4/302)


عن أيمانهم والمغرب عن يسارهم، وكذلك أهل العراق وخراسان لهم من السعة في استقبال القبلة ما بين الجنوب والشمال مثل ما كان لأهل المدينة من السعة فيما بين المشرق والمغرب، وكذلك ضد العراق على ضد ذلك أيضا، وإنما تضيق القبلة كل الضيق على أهل المسجد الحرام، وهي لأهل مكة أوسع قليلا، ثم هي لأهل الحرم أوسع قليلا ثم لأهل الآفاق من السعة على حسب ما ذكرنا_ انتهى. قال الترمذي: قال ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة إذا استقبلت القبلة. وقد ذكر العلامة أحمد بن علي المقريزي هذا الحديث في أثناء الفصل الذي عقده في خططه(1) عن المحاريب التي بديار مصر (ج4: ص21-33 من طبعة مصر سنة 1326) ومما قال في شرحه: إذا تأملت وجدت هذا الحديث يختص بأهل الشام والمدينة وما على سمت تلك البلاد شمالا وجنوبا فقط، والدليل على ذلك أنه يلزم من حمله على العموم إبطال التوجه إلى الكعبة في بعض الأقطار، وقد عرفت إن كنت تمهرت في معرفة البلدان وحدود الأقاليم أن الناس في توجههم إلى الكعبة كالدائرة حول المركز، فمن كان في الجهة الغربية من الكعبة فإن جهة قبلة صلاته إلى المشرق، ومن كان في الجهة الشرقية من الكعبة فإنه يستقبل في صلاته جهة المغرب، ومن كان في الجهة الشمالية من الكعبة فإنه يتوجه في صلاته إلى جهة الجنوب، ومن كان في الجهة الجنوبية من الكعبة كانت صلاته إلى جهة الشمال، ومن كان من الكعبة فيما بين المشرق والجنوب فإن قبلته فيما بين الشمال والمغرب، ومن كان من الكعبة فيما بين الجنوب والمغرب فإن قبلته فيما بين الشمال والمشرق، ومن كان من الكعبة فيما بين المشرق والشمال فقبلته فيما بين الجنوب والمغرب، ومن كان من الكعبة فيما بين الشمال والمغرب فقبلته فيما بين الجنوب والمشرق، إلى آخر ما قال. وقد علمت مما تقدم أن الحديث على هذا المعنى يدل على أن الواجب استقبال جهة الكعبة في حق من بعد عن الكعبة

(4/303)


وتعذرت عليه العين، وقد ذهب إليه أكثر السلف مالك، وأحمد، وأبوحنيفة وغيرهم، وهو ظاهر ما نقله المزني عن الشافعي، ووجه الاستدلال به على ذلك أن المراد أن بين الجهتين قبلة لغير المعاين ومن في حكمه؛ لأن المعاين لا تنحصر قبلته بين الجهتين المشرق والمغرب، بل كل الجهات في حقه سواء متى قابل العين. فالحديث دليل على أن ما بين الجهتين قبلة، وأن الجهة كافية في الاستقبال، وذهب الشافعي في أظهر القولين عنه: أن فرض من بعد إصابة العين، وأنه يلزمه ذلك بالظن، وقوله تعالى: ?حيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره? [2: 144] يدل على كفاية الجهة، إذ العين في كل محل تتعذر على كل مصل، فالحق أن الجهة كافية لمن تعذر عليه العين. وقال ابن المبارك في معنى الحديث: ما بين المشرق. (أى مشرق الشتاء) والمغرب. (أى مغرب الصيف) قبلة، هذا لأهل المشرق، واختبار التياسر لأهل مرو-انتهى. قال الشوكاني: أراد ابن المبارك بالمشرق البلاد التي يطلق عليها اسم المشرق كالعراق مثلا، فإن قبلتهم أيضا بين المشرق والمغرب وقد ورد مقيدا بذلك في بعض طرق حديث أبي هريرة: ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل العراق. رواه البيهقي في الخلافيات، وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه قال: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة لأهل المشرق- انتهى.
(1) أعنى به كتابة "الواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار".
رواه الترمذي.

(4/304)


قال المظهر: يعني من جعل من أهل المشرق أول المغارب-وهو مغرب الصيف- عن يمينه وآخر المشارق - وهو مشرق الشتاء- عن يساره كان مستقبلا للقبلة، والمراد بأهل المشرق أهل الكوفة وبغداد وخوزستان وفارس وعراق وخراسان وما يتعلق بهذه البلاد-انتهى. فليس المراد بأهل المشرق في قولي ابن المبارك وابن عمر جميع من هم في المشرق إلى أقصى المعمورة، بل أهل العراق وبخاري وبلخ وسمرقند ونحوهم؛ لأن بلادهم في مشرق الصيف من المدينة، وقبلتهم بين مغرب الصيف ومشرق الشتاء. وانظر الخريطة وهي هذه:
وقال بعضهم: أراد به بيان قبلة من التبس عليه قبلته فإلى أي جهة صلى بالتحري والاجتهاد كفته. قال تعالى: ?ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله? [2: 115] وقال بعضهم: المراد منه المتطوع على الدابة في السفر إلى أي جهة. وفي القولين نظر، إذا لا وجه فيهما للتقييد بما بين المشرق والمغرب، قاله القاري. وقال بعضهم: المراد منه صحة الصلاة في جميع الأرض، ذكره الزيلعي في نصب الراية (ج1: ص304) وقيل: المراد به بيان حكم المريض الذي لا يقدر أن يتوجه إلى القبلة. وقيل: هو محمول على المجاهد المطلوب. والراجح عندي هو القول الأول، والله أعلم بالصواب. (رواه الترمذي) وابن ماجه كلاهما من طريق أبي معشر نجيح السندي وهو صدوق أسن واختلط فتكلم فيه من قبل حفظه. وقد تابعه عليه علي بن
721- (28) وعن طلق بن علي، قال: ((خرجنا وفدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبايعناه، وصلينا معه، وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا، فاستوهبناه من فضل طهوره، فدعا بماء، فتوضأ

(4/305)


ظبيان قاضي حلب كما رواه ابن عدي في الكامل قال: ولا أعلم يرويه عن محمد بن عمرو غير علي بن ظبيان، وأبي معشر، وهو بأبي معشر أشهر منه بعلي بن ظبيان. قال: ولعل عليا سرقه من أبي معشر، وذكر قول ابن معين فيه: أنه ليس بشيء، وقول النسائي: أنه متروك الحديث. وقد تابعه عليه أيضا أبوجعفر الرازي، رواه البيهقي في الخلافيات، وأبوجعفر وثقة ابن معين، وابن المديني، وأبوحاتم، والحاكم، وابن عبدالبر، وابن سعد. وقال أحمد والنسائي: ليس بقوي. وقال الحافظ: صدوق سيء الحفظ. وقد أخرج الترمذي الحديث من طريق أخرى غير طريق أبي معشر، وقال: حديث حسن صحيح. وقال أيضا: هو أقوى من حديث أبي معشر وأصح. وقد خالفه البيهقي فقال بعد إخراجه من هذه الطريق: هذا إسناد ضعيف. قال الشوكاني: فنظرنا في الإسناد فوجدنا عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس بن شريق قد تفرد به عن المقبري، وقد اختلف فيه فقال علي بن المديني: إنه روى أحاديث مناكير، ووثقة ابن معين وابن حبان، فكان الصواب ما قاله الترمذي-انتهى. قلت: الحديث قد تأيد بروايته من حديث ابن عمر، فقد رواه الحاكم (ج1: ص205) من طريق شعيب بن أيوب، عن عبدالله بن نمير، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا، ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فإن شعيب بن أيوب ثقة وقد أسنده، ورواه محمد بن عبدالرحمن بن مجبر-وهوثقة- عن نافع، عن ابن عمر مسندا، ثم أخرجه كذلك (ج1: ص206) وقال: هذا حديث صحيح، قد أوقفه جماعة عن عبدالله بن عمر، ووافقه الذهبي على ما قال، وزاد: وصححه أبوحاتم الرازي موقوفا على عبدالله، ورواه البيهقي في السنن الكبرى (ج2: ص9) عن الحاكم بالإسنادين ثم قال: تفرد بالأول ابن مجبر وتفرد بالثاني يعقوب بن سفيان الخلال، والمشهور رواية الجماعة: حماد بن سلمة، وزائدة بن قدامة، ويحيى بن سعيد القطان وغيرهم، عن عبيدالله، عن نافع، عن ابن عمر عن عمر من قوله-انتهى. ورواه أيضا

(4/306)


الدارقطني (ص101) بالإسنادين. قلت: الرفع زيادة ثقة فنقبل، ولا تكون رواية من أوقفها علة للحديث بل تكون مؤيدة له، وليس ههنا قرينة على كون الرفع وهما. والله أعلم.
721- قوله: (خرجنا وفدا) الوفد بفتح الواو وإسكان الفاء، جماعة قاصدة عظيما لشأن من الشؤون فهو حال أي قاصدين، يقال: وفد إلى أو على الأمير كضرب إذا قدم وورد رسولا فهو وافد والجمع وفد ووفود. (فبايعناه) أي على التوحيد والرسالة والسمع والطاعة. (بيعة) بكسر الباء وهي معبد النصارى. (فاستوهبناه) الفاء عطفت ما بعدها على المجموع أي خرجنا وفعلنا فاستوهبناه أي سألناه أن يعطينا. (من فضل طهوره) بفتح الطاء، والظاهر أن المراد ما استعمله في الوضوء وسقط من أعضائه الشريفة، ويحتمل أن المراد ما بقي في الإناء عند الفراغ من الوضوء، قال ابن حجر: من
وتمضمض، ثم صبه لنا في إدواة، وأمرنا فقال: اخرجوا فإذا أتيتم أرضكم، فاكسروا بيعتكم، وانضحوا مكانها بهذا الماء، واتخذوها مسجدا. قلنا: إن البلد بعيد، والحر شديد، والماء ينشف. فقال: مدوه من الماء، فإنه لا يزيده إلا طيبا)) رواه النسائي.
722- (29) وعن عائشة، قالت: ((أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببناء المسجد في الدور،

(4/307)


تبعيضية وهي وما بعدها في محل نصب بدل اشتمال من المفعول به. (وتمضمض) منه بعد الوضوء أو في أثنائه. (ثم صبه) أي الماء المتمضمض به زيادة على مطلوبهم فضلا، ويمكن أن يكون المصبوب هو الماء الباقي المطلوب. (في إدواة) بكسر الهمزة ظرف صغير من جلد. (وأمرنا) أي بالخروج. (فقال) بيان للأمر، أو أمرنا بمعنى أراد أمرنا فقال: (اخرجوا) إذنا بالخروج. (فإذا أتيتم أرضكم) أي دياركم. (فاكسروا) بكسر السين. (بيعتكم) أي غيروا محرابها وحولوه إلى الكعبة، وقيل: خربوها. (وانضحوا) بكسر الضاد وفتحها من ضرب وفتح أي رشوا. (مكانها بهذا الماء) ليصل إليها بركة فضل وضوئه، فالإشارة إلى فضل الوضوء. (واتخذوها) أي البيعة يعني مكانها. (مسجدا) فيه دليل على جواز اتخاذ البيع مساجد، وغيرها من الكنائس وبيوت الأصنام ونحوها ملحق بها بالقياس. (والحر) بالنصب ويرفع. (ينشف) بالتخفيف بصيغة المجهول، يقال نشف الثوب العرق-بالكسر- ونشف الحوض الماء ينشفه إذا شربه. (مدوه من الماء) أي زيدوا فضل ماء الوضوء من الماء غيره يعني صبوا عليه ماء آخر. (فإنه لا يزيده إلا طيبا) قال الطيبي: الضمير في "فإنه" إما للماء الوارد أو المورود، أي الوارد لا يزيد المورورد الطيب ببركته إلا طيبا أو المورورد الطيب لا يزيد بالوارد إلا طيبا-انتهى. وفي الحديث التبرك بفضله - صلى الله عليه وسلم -، ونقله إلى البلاد، ونظيره ماء زمزم، قيل: ويؤخذ من ذلك أن فضلة وارثيه من العلماء والصلحاء كذلك. (رواه النسائي) أي عن هناد بن السري، عن ملازم هو ابن عمر، وعن عبدالله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه طلق بن علي. وقد أكثر الناس في قيس بن طلق، والحق أنه صدوق، وثقه العجلي، وابن معين في رواية عثمان بن سعد عنه. وقال ابن القطان: يقتضي أن يكون خبره حسنا لا صحيحا، وأما بقية رجاله وهم من دون قيس بن طلق فهم ثقات. والحديث أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه مطولا عن خليفة: حدثنا مسدد

(4/308)


بن مسرهد: حدثنا ملازم بالسند المتقدم، قال: خرجنا ستة وفدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - الحديث. نقله ميرك عن التخريج، كذا في المرقاة.
722- قوله: (أمر) الظاهر أن الأمر للندب لا للوجوب فكان معناه أذن. وهذا لأن مبناه على دفع المشقة عنهم كما سيأتي. (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببناء المسجد في الدور) جمع دار وهو اسم جامع للبناء والعرصة والمحلة، والمراد المحلات، فإنهم كانوا يسمون المحلة التي اجتمعت فيها قبيلة دارا. قال البغوي في شرح السنة: يريد بالدور المحال التي
وأن ينظف ويطيب)) رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه.
723- (30) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أمرت بتشييد المساجد،

(4/309)


فيها الدور. ومنه قوله تعالى: ?سأريكم دار الفاسقين? [7: 145]؛ لأنهم كانوا يسمون المحلة التي اجتمعت فيها قبيلة دارا. ومنه الحديث: ما بقيت دار إلا بني فيها مسجد. قال سفيان: بناء المساجد في الدور يعني القبائل أي من العرب يتصل بعضها ببعض وهو بنو أب واحد يبنى لكل قبيلة مسجد، هذا ظاهر معنى تفسير سفيان الدور. قال أهل اللغة: الأصل في إطلاق الدور على المواضع، وقد تطلق على القبائل مجازا. وحكمة أمره لأهل كل محلة ببناء مسجد فيها أنه قد يتعذر أو يشق على أهل محلة الذهاب للأخرى فيحرمون أجر المسجد وفضل إقامة الجماعة فيه فأمروا بذلك ليتسر لأهل كل محلة العبادة في مسجدهم من غير مشقة تلحقهم. وقال البغوي: قال عطاء: لما فتح الله على عمر الأمصار أمر المسلمين ببناء المساجد وأمرهم أن لا يبنوا مسجدين يضار أحدهما الآخر، ومن المضارة فعل تفريق الجماعة إذا كان هناك مسجد يسعهم، فإن ضاق سن توسعته أو اتخاذ مسجد يسعهم. (وأن ينظف) أي يطهر كما في رواية ابن ماجه أي من الأقذار. (ويطيب) أي يرش العطر ويجوز أن يحمل التطيب على التجمير بالبخور في المسجد، وفيه أنه يستحب تجمير المسجد بالبخور، فقد كان عبدالله يجمر المسجد إذا قعد عمر على المنبر، واستحب بعض السلف التخليق بالزعفران والطيب، وروى عنه عليه السلام فعله. قال الشعبي هو سنة، وأخرج ابن أبي شيبة أن ابن الزبير لما بنى الكعبة طلى حيطانها بالمسك. وفيه أنه يستحب كنس المسجد وتنظيفه، وقد روى ابن أبي شيبة أنه عليه السلام كان يتتبع غبار المسجد بجريدة. (رواه أبوداود) مسندا وسكت عنه. (والترمذي) مسندا ومرسلا. وقال: المرسل أصح. وإنما صحح الترمذي إرساله؛ لأن في سند الموصول عامر بن صالح وقد ضعفه بعض العلماء وكذبه ابن معين، لكنه رواه غير الترمذي موصولا من غير طريق عامر بن صالح، فرواه أبوداود، وابن ماجه من طريق زائدة بن قدامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مسندا

(4/310)


مرفوعا، وزائدة ثقة ثبت. ورواه ابن ماجه أيضا من طريق مالك بن سعير عن هشام بن عروة، ومالك بن سعير لا باس به، وأيضا عامر بن صالح قال فيه أحمد بن حنبل: ثقة لم يكن صاحب كذب. والحديث أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه.
723- قوله: (ما أمرت) بضم الهمزة وكسر الميم، مبني للمفعول وما نافية. (بتشديد المساجد) أي برفعها وأعلاء بنائها. قال البغوي في شرح السنة: التشييد رفع البناء وتطويله، ومنه قوله تعالى: ?ولو كنتم في بروج مشيدة? [4: 78] وهي التي طول بنائها، يقال: شدت الشيء أشيده مثل بعته أبيعه إذا بنيته بالشييد وهو الجص، وشيدته تشييدا طولته ورفعته. وقيل: المراد بالبروج المشيدة المجصصة. قال ابن رسلان: والمشهور في الحديث أن المراد بتشييد المساجد هنا رفع البناء وتطويله كما قال البغوي-انتهى. والحديث قد استدل به بعضهم على منع تشييد المساجد
قال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى)) رواه أبوداود.
724- (31) وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أشراط الساعة أن يتباهي الناس في المساجد)).

(4/311)


وفيه نظر؛ لأن نفي كون التشييد مأمورا به لا يقتضي الكراهة والمنع بل يدل على عدم الوجوب، ونفي الوجوب قد يتحقق بجواز الفعل أيضا فلا يستوجب الكراهة والمنع، فتشييد المسجد وإحكام بنائه بما يستحكم به الصنعة من غير تزيين وتزويق وزخرفة ليس بمكروه عندنا إذا لم يكن مباهاة ورياء وسمعة لما تقدم من حديث عثمان بن عفان: من بنى لله مسجدا بنى الله له مثله في الجنة. وأيضا يؤيده ما فعله عثمان في خلافته في بناء المسجد النبوي، فإنه صنع ما صنع في بنائه مستدلا بهذا الحديث، وكل ما صنع كان من باب الإحكام والتجصيص من غير تزويق وزخرفة، وأما الحجارة المنقوشة فلم يكن نقشها بأمره بل حصلت له كذلك منقوشة، ولم يكن عند الذين أنكروا عليه من الصحابة دليل يوجب المنع إلا الحث على إتباع ما فعله - صلى الله عليه وسلم - وعمر في بناء المسجد من ترك الرفاهية، وهذا لا يقتضي منع التشييد وكراهته. (قال ابن عباس) هو موقوف لكنه في حكم المرفوع؛ لأنه إخبار عن ما يأتي، وهو لا يكون إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الأمير اليماني: هذا مدرج من كلام ابن عباس كأنه فهمه من الأخبار النبوية من أن هذه الأمة تحذو حذو بني إسرائيل. (لتزخرفنها) بفتح اللام على أنها جواب القسم، وبضم المثناة وفتح الزاي، وسكون الخاء المعجمة، وضم الفاء، وتشديد النون، وهي نون التأكيد. والزخرفة الزينة، وأصل الزخرف الذهب، ثم استعمل في كل ما يتزين به. قال الخطابي معنى قوله: لتزخرفنها، لتزيننها. وأصل الزخرف الذهب، يريد تموية المساجد بالذهب ونحوه، ومنه قولهم: زخرف الرجل كلامه إذا موهه وزينه بالباطل. (كما زخرفت اليهود والنصارى) أي بيعهم وكنائسهم، يعني أن اليهود والنصارى زخرفوا مساجدهم عندما حرفوا أمر دينهم وتركوا العمل بما في كتبهم، فأنتم تصيرون إلى مثل حالهم إذا طلبتم الدنيا بالدين، وتركتم الإخلاص في العمل، وصار أمركم إلى المراآة بالمساجد والمباهاة في

(4/312)


تشييدها وتزينها. قال القاري: هذا أي زخرفة المساجد بدعة؛ لأنه لم يفعله عليه الصلاة والسلام. وفيه موافقة أهل الكتاب-انتهى. قال البخاري في صحيحه: أمر عمر ببناء المسجد وقال: أكن الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس. وهذا الحديث فيه معجزة ظاهرة لإخبار عما سيقع بعده، فإن تزويق المساجد والمباهاة بزخرفتها قد كثر في هذا الزمان في جميع بلاد المسلمين إلا بلاد نجد، فسلام على نجد ومن حل بالنجد. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه، وذكر البخاري قول ابن عباس المذكور تعليقا، وإنما لم يذكر البخاري المرفوع للاختلاف على يزيد بن الأصم في وصله وإرساله، قاله الحافظ.
724- قوله: (من أشراط الساعة) جمع شرط بالتحريك وهو العلامة، قدم الخبر على المبتدأ للإهتمام به وزيادة الإنكار على فاعله لا للتخصيص ولا للحصر أي من علامات القيامة. (أن يتباهى الناس) أي يتفاخرون، والتباهي إما
رواه أبوداود، والنسائي، والدارمي، وابن ماجه.
725- (32) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد. وعرضت على ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها))

(4/313)


بالقول كما ستعرف أو بالفعل كأن يبالغ كل واحد في تزين مسجده وتزويقه وغير ذلك، وفيه دلالة مفهمة بكراهة ذلك. (في المساجد) أي في بنائها يعني يتفاخر كل أحد بمسجده، يقول: مسجدي أرفع أو أزين أو أوسع أو أحسن علوا وزينة، رياء وسمعة واجتلابا للمدحة، أو يأتون بهذا الفعل الشنيع-وهو المباهاة بما ذكر- وهم جالسون في المساجد. والحديث على المعنيين مما يشهد بصدقه الوجود، فهو من جملة المعجزات الباهرة له - صلى الله عليه وسلم -. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (والنسائي والدارمي وابن ماجه) واللفظ للنسائي وابن ماجه، ورواه أبوداود والدارمي بلفظ: لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد. وهكذا رواه ابن حبان في صحيحه، وأخرجه أبويعلى في مسنده، وابن خزيمة في صحيحه بلفظ: يأتي على الناس زمان يتباهون بالمسجد ثم لا يعمرونها إلا قليلا. وعند أبي نعيم في كتاب المساجد: يتباهون بكثرة المساجد.

(4/314)


725- قوله: (عرضت علي) لعل هذا العرض في ليلة المعراج. (أجور أمتي) أي ثواب أعمالهم. (حتى القذاة) بزنة حصاة وهي ما يقع في العين من تراب أو تبن أو وسخ، ثم استعمل في كل شيء يقع في البيت وغيره إذا كان يسيرا، والمراد هنا الشيء القليل مما يؤذي المسلمين سواء كان من تين أو وسخ أو غير ذلك، ولا بد في الكلام من تقدير مضاف أي أجور أعمال أمتي، وأجر القذاة أي أجر إخراج القذاة، إما بالجر وحتى بمعنى إلى والتقدير: إلى إخراج القذاة، وعلى هذا قوله: (يخرجها الرجل من المسجد) جملة مستأنفة للبيان، وإما بالرفع عطفا على أجور، فالقذاة مبتدأ ويخرجها خبره. وهذا إخبار بأن ما يخرجه الرجل من المسجد وإن قل فهو مأجور فيه؛ لأن فيه تنظيف بيت الله، ويفيد الحديث بمفهومه أن من الأوزار إدخال القذاة إلى المسجد، وفيه تنبيه بالأدنى على الأعلى؛ لأنه إذا كتب هذا القليل وعرض على نبيهم فيكتب الكبير ويعرض من باب الأولى. (فلم أر ذنبا) أي يترتب على نسيان. (أعظم من سورة) أي من ذنب نسيان سورة كائنة. (من القرآن) فإن قلت: هذا مناف لما مر في باب الكبائر، قلت: إن سلم أن أعظم وأكبر مترادفان، فالوعيد على النسيان لأجل أن مدار هذه الشريعة على القرآن، فنسيانه كالسعي في الإخلال بها. فإن قلت: النسيان لا يؤاخذ به، قلت: المراد تركها عمدا إلى أن يفضي إلى النسيان، وقيل: المعنى أعظم من الذنوب الصغار إن لم تكن عن استخفاف وقلة تعظيم، كذا في الأزهار شرح المصابيح. (أو آية) أو للتنويع. (أوتيها رجل) أي تعلمها أو حفظها عن ظهر قلب. (ثم نسيها) قال الطيبي: إنما قال: أوتيها دون حفظها، إشعارا بأنها كانت نعمة جسيمة أولاها الله ليشكرها، فلما
رواه الترمذي وأبوداود.
726- (33) وعن بريدة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) رواه الترمذي، وأبوداود.

(4/315)


نسيها فقد كفر تلك النعمة، فبالنظر إلى هذا المعنى كان أعظم جرما، فلما عد إخراج القذاة التي لا يؤبه لها من الأجور تعظيما لبيت الله عد أيضا النسيان من أعظم الجرم تعظيما لكلام الله سبحانه، فكأن فاعل ذلك عد الحقير عظيما بالنسبة إلى العظيم فأزاله عنه، وصاحب هذا عد العظيم حقيرا فأزاله عن قلبه. (رواه الترمذي) في فضائل القرآن واستغربه. (وأبوداود) في الصلاة وسكت عنه، وقال الترمذي: ذاكرت به محمد بن إسماعيل يعني البخاري فلم يعرفه واستغربه. قال محمد: ولا أعرف للمطلب بن عبدالله يعني الراوي له عن أنس سماعا من أحد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا قوله: حدثني من شهد خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: وسمعت عبدالله بن عبدالرحمن، يقول: لا يعرف للمطلب سماع من أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال عبدالله: وأنكر علي بن المديني أن يكون المطلب سمع من أنس-انتهى. وقال المنذري بعد نقل كلام الترمذي هذا: وفي إسناده عبدالمجيد بن عبدالعزيز بن أبي رواد الأزدي، وثقة يحيى بن معين، وتكلم فيه غير واحد-انتهى. قلت: ووثقة أيضا أحمد وأبوداود والنسائي كما في تهذيب التهذيب. وقال الحافظ في بلوغ المرام: وصححه ابن خزيمة.

(4/316)


726- قوله: (بشر) هذا من الخطاب العام ولم يرد به امرأ واحدا بعينه، قاله السيوطي. وقال السندي: لعله خطاب لكل من يتولى تبليغ الدين ويصلح له. (المشائين) بالهمزة والمد من صيغ المبالغة والمراد منه كثرة مشيهم ويعتادون ذلك، لا من اتفق منهم المشي مرة أو مرتين. (في الظلم) بضم الظاء وفتح اللام جمع ظلمة بسكونها أي ظلمة الليل، والحديث يشمل العشاء والصبح بناء على أنها تقام بغلس. (إلى المساجد) قيل: لو مشى في الظلام بضوء لدفع آفات الظلام فالجزاء بحاله، وإلا فلا، قاله ابن الملك. وعلى هذا فالمراد من "في الظلم" أي في وقت ظلمة الليل وإن كان معهم مصباح. (بالنور) متعلق ببشر. (التام) الذي يحيط بهم من جميع جهاتهم، أي على الصراط لما قاسوا مشقة المشي في ظلمة الليل جوزوا بنور يضيء لهم ويحوط بهم. (يوم القيامة) قال الطيبي: في وصف النور بالتام وتقييده بيوم القيامة تلميح إلى وجه المؤمنين يوم القيامة في قوله تعالى: ? نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا? [66: 8]، وإلى وجه المنافقين في قوله تعالى: ?انظرونا نقتبس من نوركم? [57: 13] انتهى. (رواه الترمذي) من طريق إسماعيل الكحال، عن عبدالله بن أوس، عن بريدة، واستغربه. (وأبوداود) من هذا الطريق وسكت عنه. وقال المنذري: قال الدارقطني: تفرد به إسماعيل بن سليمان الضبي الكحال عن عبدالله بن أوس. وقال المنذري في الترغيب: رجال إسناده ثقات.
727 ، 728 - (35، 34) ورواه ابن ماجه، عن سهل بن سعد، وأنس.
729- (36) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد،
فاشهدوا له بالإيمان؛ فإن الله يقول: ?إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر?.

(4/317)


وأخرجه ابن ماجه بلفظ من حديث أنس-انتهى. قلت: إسماعيل الكحال، قال أبوحاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ. وقال الحافظ: صدوق يخطئ. وعبدالله بن أوس الخزاعي ذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ: لين الحديث. فالظاهر أن الحديث حسن، ويؤيده توثيق المنذري لرجال إسناده. وتفرد إسماعيل وعبدالله لا يضر؛ لأن له شواهد كثيرة بمعناه، وبعضها بلفظه أو بنحوه، وبعض أسانيدها صحاح وبعضها حسان من أحاديث بعض الصحابة، وكلها مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وانظرها في الترغيب (ج1: ص106) ومجمع الزوائد (ج2: ص31، 30).
728، 727- قوله: (ورواه ابن ماجه عن سهل بن سعد) وأخرجه أيضا ابن خزيمة في صحيحه، و الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين. وقال في الزوائد: إسناده حسن، و صححه الحاكم وإبراهيم بن محمد الحلبي (شيخ ابن ماجه) قال ابن حبان في الثقات: يخطئ، وقال الذهبي في الكاشف: صدوق. وباقي رجاله ثقات. قال السندي: وهذا يؤيد قول من قال: إسناده حسن (وأنس) قال في الزوائد: إسناده ضعيف.

(4/318)


729- قوله: (يتعاهد المسجد) أي: يخدمه ويعمره. وقيل: المراد التردد إليه في إقامة الصلاة وجماعته. وهذا هو التعهد الحقيقي وهو عمارته صورة ومعنى. وفي رواية للترمذي "يعتاد" بدل يتعاهد" أي: يلازم المسجد ويرجع إليه كرة بعد أخرى. قال الطيبي: التعهد والتعاهد الحفظ بالشئ، وفي التعاهد المبالغة لأن الفعل إذا أخرج على زنة المبالغة دل على قوته، وورد في رواية للترمذي "يعتاد" بدل "يتعاهد" وهو أقوى سندا وأوفق معنى لشموله جميع ما يناط به المسجد من العمارة واعتياد الصلاة وغيرها. ألا ترى إلى ما أشهد به النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله (فاشهدوا له) أي: اقطعوا له القول (بالإيمان) لأن الشهادة قول صدر عن مواطأة القلب اللسان على سبيل القطع-انتهى. قال السندي: وهو الموافق للاستشهاد بالآية، لكن يشكل عليه حديث سعد: قال في رجل إنه مؤمن فقال - صلى الله عليه وسلم -: أو مسلم. رواه في الصحيحين، فإنه يدل على المنع عن الجزم بالإيمان إلا أن يقال ذلك الرجل لم يكن ملتزما للمساجد، أو يراد بالإيمان ههنا الإسلام، وفيه أن الجزم بالإسلام لا يحتاج إلى ملازمة المساجد، والأقرب أن المراد بالشهادة الاعتقاد وغلبة الظن-انتهى. وقال ابن حجر: بل التعهد أولى، أي: من لفظ يعتاد لأنه مع شموله لذلك يشمل تعهدها بالحفظ، والعمارة، والكنس، والتطييب، وغير ذلك ما يدل عليه استشهاده عليه السلام بالآية الآتية (إنما يعمر مساجد الله) أي: بإنشائها أو ترميمها، أو إحيائها بالعبادة والدروس ?من آمن بالله واليوم الآخر? [18:9] قال في الكشاف: عمارتها كنسها وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح،
رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي.
730- (37) وعن عثمان بن مظعون، قال: ((يارسول الله ! ائذن لنا في الاختصاء. فقال رسول الله : ((ليس منا من خصى ولا اختصى، إن خصاء أمتي الصيام. فقال: ائذن لنا في السياحة.

(4/319)


وتعظيمها واعتيادها بالعبادة والذكر، وصيانتها عما لم تبن له المساجد من حديث الدنيا فضلا عن فضول الحديث-انتهى (رواه الترمذي) في الإيمان، وفي التفسير، وحسنه (وابن ماجه والدارمي) وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، والحاكم كلهم من طريق دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد. قال الحاكم: صحيح الإسناد. قال الذهبي في سنده دراج وهو كثير المناكير. وكذا قال أحمد، وقال ابن معين: ثقة. وقال يحيى بن سعيد: ليس به بأس. وقال الحافظ: صدوق في حديثه عن أبي الهيثم ضعف.

(4/320)


730- قوله: (عن عثمان بن مظعون) بالظاء المعجمة ابن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح الجمحي القرشي، يكنى أبا السائب، أسلم بعد ثلاثة عشرة رجلا ، وهاجر هجرتين، وشهد بدرا، وكان ممن حرم الخمر في الجاهلية، وكان عابدا مجتهدا، من فضلاء الصحابة، وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين في شعبان على رأس ثلاثين شهرا من الهجرة بعد شهوده بدرا، وقيل: بعد اثنين وعشرين شهرا من مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة. ولما غسل وكفن قبله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين عينيه، ولما دفن قال: نعم السلف هو لنا. وهو أول من دفن ببقيع الغرقد من المهاجرين، ووضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجرا عند رأسه، وقال: هذا قبر فرطنا (ائذن لنا في الاختصاء) أي: سل الخصيتين لتزول شهوة النساء لأنه تشق علينا العزبة في المغازي (ليس منا) أي: ممن يقتدى بسنتنا ويهتدي بطريقتنا، لكن هذا التأويل لا يقال إلا في مقام التعليم، فلا يقال للعامة لئلا تتساهل في ذلك (من خصى) أي: سل خصية غيره (ولا اختصى) أي: بنفسه بحذف "من" لدلالة ما قبله عليه، يعني ولا من سل خصية نفسه واخرجها. قيل: واحتيج لتقدير "من" لئلا يتوهم أن المنهى عنه الجمع بينهما. قال ابن حجر: وكل من هذين حرام. وفي معناه إطعام دواء لغيره أو أكله، إن كان يقطع الشهوة والنسل دائما. وكذا نادرا إن أطعم غيره بغير إذنه (إن خصاء) بكسر الخاء (أمتي الصيام) أي: فأكثروا الصوم، فإنه يكسر الشهوة وضررها. كما أفاده قوله - صلى الله عليه وسلم -: يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء. يعني أن تكثير الصوم مسكن لشهوة الجماع وقاطع لها مع ما فيه من سلامة النفس من التعذيب وقطع النسل، ومن حصول الثواب بالصوم المقتضي لرياضة النفس المؤدية إلى إطاعتها لأمر الله تعالى. وفيه دليل على كراهة الاستمناء باليد (في السياحة) بكسر السين المهملة

(4/321)


بعدها تحتية، وهي مفارقة الأمصار والذهاب في الأرض كفعل عباد بني إسرائيل،
قال: إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله. فقال: ائذن لنا في الترهب. فقال: إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد انتظار الصلاة)). رواه في شرح السنة.
731- (38) وعن عبدالرحمن بن عائش، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رأيت ربي عزوجل في أحسن صورة.
قال الطيبي: (إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله) وهو أفضل، فإنه عبادة شاقة على النفس ونفعه متعد إلى الغير، وهو يشمل الجهاد الأكبر والأصغر (في الترهب) أي: في التعبد، وإرادة العزلة، والفرار من الناس إلى رؤوس الجبال كالرهبان. وأصل الترهب من الرهب بمعنى الخوف، كانوا يترهبون بالتخلي من أشغال الدنيا وملاذها. (انتظار الصلاة) بالإضافة، ونصبه بأنه مفعول له للجلوس أي: لانتظار الصلاة، فإن الجلوس في المسجد يتضمن فوائد الترهب مع زيادة الفضائل (رواه) أي: البغوي (في شرح السنة) بسنده المتصل من حديث سعد بن مسعود الصحابي: أن عثمان بن مظعون أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يارسول الله ! ائذن لنا في الاختصاء. وساقه بسند فيه مقال، قاله ميرك. وقال الحافظ في الإصابة (ج2:ص27) في ترجمة سعد بن مسعود الكندي: قال ابن المبارك في الزهد: أنبأنا رشدين بن سعد، عن ابن أنعم عن سعد بن مسعود أن عثمان بن مظعون أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ائذن لنا في الاختصاء-فذكر الحديث انتهى. وروى الطبراني في الكبير عن ابن عباس: ليس منا من خصى أو اختصى، ولكن صم ووفر شعر جسدك. قال المناوي: قاله لعثمان بن مظعون لما قال له: إني رجل شبق فأذن لي في الاخصاء. وأخرج الطبراني أيضا من حديث عثمان نفسه أنه قال: يارسول الله ! إني رجل يشق على العزوبة فأذن لي في الخصاء، قال: لا ولكن بالصيام-الحديث. ومن طريق سعيد بن العاص أن عثمان قال: يارسول الله ! ائذن لي في الاختصاء، فقال: إن الله قد أبدلنا بالرهبانية الحنيفية

(4/322)


السمحة.
731- قوله: (عبدالرحمن بن عائش) بكسر الهمزة والشين المعجمة، كذا في المفاتيح. وقال في التقريب بمثانة تحتية ثم معجمة يعنى أن أصله ياء، قال ابن حبان: له صحبة. وقال ابن السكن: يقال: له صحبة. وذكره في الصحابة محمد بن سعد، والبخاري، وأبوزرعة الدمشقي، وأبوالحسن بن سميع، وأبوالقاسم، والبغوي، وأبوزرعة الحراني، وغيرهم. وقال أبوحاتم الرازي: أخطأ من قال: له صحبة. وقال ابن خزيمة، والترمذي: لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال البخاري: له حديث واحد إلا أنهم مضطربون فيه، كذا في الإصابة (ج2:ص45) وقال في تهذيب التهذيب (ج6:ص204): عبدالرحمن بن عائش الحضرمي- ويقال السكسكي- مختلف في صحبته، وفي إسناد حديثه (رأيت ربي عزوجل في أحسن صورة) الصواب أن هذا الحديث مستند إلى رؤيا رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يدل على ذلك
قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت أنت أعلم. قال: فوضع كفه بين كتفي، فوجدت بردها بين ثدي، فعلمت ما في السموات والأرض،

(4/323)


حديث ابن عباس عند الترمذي ففيه: أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة، قال أحسبه قال: في المنام، ويدل على ذلك أيضا حديث معاذ بن جبل الآتي في الفصل الثالث فإن فيه: فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي في أحسن صورة. قال الحافظ ابن كثير بعد نقله عن مسند أحمد: وهو حديث المنام المشهور، ومن جعله يقظة غلط-انتهى. والروايات التي أطلق فيها الرؤية محمولة على المقيدة. وإليه أشار الدارمي حيث بوب على حديث عبدالرحمن بن عائش هذا "باب رؤية الرب تعالى في النوم" وعلى هذا فلا إشكال في الحديث، إذ الرأى قد يري غير المتشكل متشكلا والمتشكل بغير شكله، ثم لم يعد ذلك بخلل في الرؤيا ولا في خلد الرأي، بل له أسباب أخرى تذكر في علم المنام أي: التعبير، ولولا تلك الأسباب لما افتقرت رؤيا الأنبياء عليهم السلام إلى تعبير، وعلى تقدير كون ذلك في اليقظة فمذهب السلف في مثل هذا من أحاديث الصفات إذا صح أن يمر كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، وأن يؤمن به من غير تأويل له، وأن يسكت عنه وعن أمثاله مع الاعتقاد بأن الله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وقال من ذهب إلى التأويل: إن قوله في أحسن صورة، حال من الفاعل، أي: رأيت ربي حال كوني في أحسن صورة وصفة من غاية إنعامه ولطفه على، وإن كان حالا من المفعول فالمراد بالصورة صفته أو شأنه أو مثل ذلك، كما يقال: صورة المسألة كذا، وصورة الحال كذا، فإن إطلاق الصورة على الصفة شائع، والمعنى: رأيت ربي حال كون الرب في أحسن صفة أو شأن، قلت: مذهب السلف هو المنهج القويم والمسلك الصحيح فهو المتعين ولا حاجة إلى التأويل (قال) أي: ربي (فيم) أي: في أي: شيء (يختصم أي: يبحث (الملأ الأعلى) أي: الملائكة المقربون، والملأ هم الأشراف الذين يملؤن المجالس والصدور عظمة وإجلالا، وصفوا بالأعلى إما لعلو مكانهم وإما لعلو مكانتهم عند الله تعالى. قال الطيبي: المراد بالاختصام التقاول

(4/324)


الذي كان بينهم في الكفارات والدرجات، شبه تقاولهم في ذلك وما يجري بينهم من السؤال والجواب، بما يجري بين المتخاصمين (أنت أعلم) أي: بما ذكر وغيره، وزاد في المصابيح كما في الدارمي: أي: رب (قال) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (فوضع) أي: ربي (كفه بين كتفي) بتشديد الياء. قيل: هو مجاز من تخصيصه إياه بمزيد الفضل عليه وإيصال الفيض إليه، لأن من ديدن الملوك إذا أرادوا أن يدنوا إلى أنفسهم بعض خدمهم يضعون أيديهم على ظهره تلطفا به وتعظيما لشأنه فجعل ذلك حيث لا كف ولا وضع حقيقة كناية عن التخصيص بمزيد الفضل والتأييد - انتهى. قلت: قد تقدم في مثل هذا مذهب السلف أنه يؤمن بظاهره من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا يفسر بما يفسر به صفات الخلق بل تنفي عنه الكيفية ويوكل علم الكيفية إلى الله تعالى وهذا هو المعتمد المعمول عليه (فوجدت بردها بين ثدي) بالتثنية والإضافة إلى ياء المتكلم أي: قلبي وصدري. قال القاري: هو كناية عن وصول ذلك الفيض إلى قلبه، ونزول الرحمة، وانصباب العلوم عليه، وتأثره عنه، ورسوخه فيه، وإتقانه له –انتهى. وفيه ما تقدم آنفا (فعلمت ما في السموات والأرض) الأرض بمعنى الجنس أي: وما

(4/325)


في الأرضين السبع. قال القاري: يعني ما أعلمه الله تعالى مما فيهما من الملائكة والأشجار وغيرهما، وهو عبارة عن سعة علمه الذي فتح الله به عليه، قال: ويمكن أن يراد بالسموات الجهة العليا، وبالأرض الجهة السفلى، فيشمل الجميع لكن لا بد من التقييد الذي ذكرنا، إذ لا يصح إطلاق الجميع كما هو الظاهر-انتهى. اعلم أنه قد استدل بعض القبوريين في هذا الزمان بقوله: فعلمت ما في السموات والأرض، على ما ابتدعوا واعتقدوا من أن الله تعالى قد خص نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - من بين الأنبياء بعلم جميع ما كان من بدء الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، فكان علمه - صلى الله عليه وسلم - عند هؤلاء محيطا بجميع الأشياء حقائقها وعوارضها وصفاتها إحاطة تامة كلية بتعليم الله تعالى وإلهامه، كما أنه تعالى أحاط بكل شيء علما، ولا فرق بين علمه تعالى وعلم رسوله عندهم إلا أن علم الله ذاتي وحقيقي، وعلم رسوله ليس بذاتي بل وهبي، حصل له بتعليم الله وانكشف له الأشياء بإلهامه، وهذا كما تراه مخالف للعقل والنقل من النصوص الصريحة من كتاب الله وسنة رسوله، وتصريحات السلف الصالح من الصحابة والتابعين والمحدثين، وفقهاء المذاهب الأربعة، وغيرهم. قالوا في وجه الاستدلال: أن لفظه "ما" في الحديث للعموم الاستغراق فتعم جميع الممكنات من الموجودات، والمعدومات وذوات العقول، وغيرها بل تشتمل الواجبات والممتنعات أيضا. قلت: استدلالهم هذا مخدوش من وجوه بل باطل، الأول: أن لفظة "ما" في أصل الوضع لغير ذوى العقول عند المحققين فيخرج من مفهومها ذوات العقول كما يدل عليه قصة ابن الزبعري في قوله تعالى: ?إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم? [98:21] وعلى هذا فلا تكون الرواية دليلا على كون علمه - صلى الله عليه وسلم - محيطا بجميع الأشياء إحاطة كلية. والثاني: أن من ذهب إلى كونها شاملة لذوى العقول وهم

(4/326)


الأكثر من علماء الأصول قد صرحوا بأنها إنما تشمل صفات من يعقل فقط لا ذواتهم، أعنى أن ذوات من يعقل خارجة من مفهومها عندهم أيضا بحسب أصل الوضع، فلا تشملها إلا بقرينة ولا قرينة ههنا تدل على ذلك، بل الأمر بالعكس كما سيأتي، فبطل بذلك دعوى العلم الكلي له - صلى الله عليه وسلم -. والثالث: أن قوله: في السموات والأرض، في الحديث يدل على أن المراد بلفظه "ما" إنما هي الممكنات فقط لا الواجبات والممتنعات، وذلك لأن تقدير الكلام: فعلمت ما هو كائن، أو ثابت، أو متحقق، أو موجود، أو حاصل، أو مستقر، أو حادث في السموات والأرض. وهذا إنما هو شأن الممكن بالإمكان الخاص لا الواجب والممتنع، وهذا يبطل دعوى القبوريين بكون علمه عليه السلام كليا محيطا بجميع الأشياء. والرابع: أن سياق الحديث يدل على أن لفظة ما ههنا ليست للعموم والاستغراق، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد بين ذلك باستشهاده بقوله تعالى: ?وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض? [75:6] ما علمه الله عزوجل في المنام، وهو عجائب السموات والأرض فقط لا جميع ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، وإلا يلزم أن يقال: إن إبراهيم عليه السلام أيضا كان عالما بجميع الأشياء بعلم كلي محيط إحاطة تامة، ويبطل بذلك دعوى الخصوصية، وهو خلاف ما ذهب إليه القبوريون من أن ذلك من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، فلا مناص من أن يقال أن لفظة "ما" في الحديث ليست للعموم والاستغراق. والخامس: أنه قد ثبت بنصوص الكتاب والسنة
وتلا ?وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين? رواه الدارمي.

(4/327)


الصحيحة الصريحة عدم علمه - صلى الله عليه وسلم - ببعض الأشياء كما يدل عليه قوله تعالى: ?مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم? [101:9] وقوله: ?وما علمناه الشعر، وما ينبغي له? [69:36] وقوله: ?قل إنما علمها عند ربي? [187:7] وقوله عليه السلام (أنتم أعلم بأمور دنياكم). وقوله: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) وقوله في حديث الشفاعة (أحمده بمحامد لا أقدر عليه الآن يلهمنيه الله تعالى) وفي رواية (فأحمده بتحميد يعلمنيه ربي) وغير ذلك من الآيات والأحاديث الصحيحة الصريحة، فعدم علمه - صلى الله عليه وسلم - ببعض الأشياء أو ببعض أوصافها قرينة صريحة على أن لفظه "ما" في الحديث ليست للعموم والاستغراق، وهو يبطل دعوى القبوريين. وأما قولهم: بأن المراد بنفي علم الغيب عنه - صلى الله عليه وسلم - في بعض الآيات والأحاديث نفى العلم الذاتي لا الو هبي فهو تحكم محض وادعاء بحت ليست عليه أثارة من علم لا من كتاب، ولا من سنة، ولا من إجماع، ولا من قياس، بل يبطله قوله تعالى: ?ولا يحيطون بشيء من علمه? [255:2] وقوله: ?وما يعلم جنود ربك إلا هو? [31:74] فتفكر وتأمل ولا تعجل (وتلا) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - استشهادا على ما تقدم (وكذلك نرى إبراهيم) مضارع في اللفظ ومعناه الماضي والعدول لإرادة حكاية الحال الماضية استعجابا، أي: أرينا إبراهيم، يعني كما أن الله أرى إبراهيم عليه السلام ملكوت السموات والأرض وكشف له ذلك، فتح على أبواب الغيوب التي تليق لشأن الرسالة والكاف للتشبيه، وهي في محل نصب نعتا لمصدر محذوف فقدره الزمخشري: ومثل ذلك التعريف والتبصير نعرف إبراهيم ونبصره ملكوت. وقدره بعضهم: وكما أريناك يا محمد الهداية أو أحكام الدين، وعجائب ما في السموات وما في الأرض أرينا إبراهيم. وقال الخازن، معناه: وكما أرينا إبراهيم البصيرة في دينه، والحق في خلاف قومه وما كانوا عليه من الضلال في عبادة الأصنام، نريه ملكوت السموات

(4/328)


والأرض، فلهذا السبب عبر عن هذه الرؤية بلفظ المستقبل في قوله ?وكذلك نرى? لأنه تعالى كان أراه بعين البصيرة أن أباه وقومه على غير الحق فخالفهم فجزاه الله بأن أراه بعد ذلك ملكوت السموات ولأرض فحسنت هذه العبارة لهذا المعنى (ملكوت السموات والأرض) أي: ملكهما وهو فعلوت من الملك، وزيدت التاء والواو للمبالغة في الصفة، ومثله الرغبوت والرحموت والرهبوت مبالغة في الرغبة والرحمة والرهبة قيل: أراد بملكوتها ما فيهما من الخلق، وقيل: عجائبهما وبدائعهما، وقيل الربوبية والألوهية. أي: نريه ذلك ونوفقه لمعرفته بطريق الاستدلال التي سلكها. وقال ابن كثير: أي: نبين له وجه الدلالة في نظره إلى خلقها إلى وحدانية الله عزوجل في ملكه وخلقه وإنه لا إله غيره كقوله ?أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض? [185:7] (وليكون من الموقنين) عطف على مقدر، أي: ليستدل به على وحدانيتنا، ويصح أن يكون علة لمحذوف أي: وليكون من الموقنين فعلنا ذلك، والجملة معطوفة على الجملة قبلها، واليقين عبارة عن علم يحصل بسبب التأمل بعد زوال التشبه لأن الإنسان في أول الحال لا ينفك عن شبهة وشك، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت صارت سببا لحصول اليقين والطمأنينة في القلب (رواه الدارمي) في كتاب الرؤيا من طريق الوليد بن مسلم، عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، عن خالد بن اللجلاج، عن عبدالرحمن بن عائش الحضرمي أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: رأيت ربي – الحديث. وأخرجه أيضا
مرسلا.
733، 732- (40، 39) وللترمذي نحوه عنه،

(4/329)


من هذا الطريق ابن خزيمة، والبغوي وابن السكن، وأبونعيم. ووقع في أسانيدهم التصريح بسماع عبدالرحمن من النبي - صلى الله عليه وسلم - (مرسلا) إنما أطلق عليه المرسل مع التصريح فيه بسماع عبدالرحمن بن عائش من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن ابن عائش هذا مختلف في صحبته كما تقدم، والراجح عند المصنف أنه لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن "سمعت" في هذا الحديث وهم. قال ميرك: قوله: رواه مرسلا، بل معضلا فإن عبدالرحمن هذا مختلف في صحبته، والصحيح أنه لم يدرك النبي- صلى الله عليه وسلم -بل رواه عن مالك بن يخامر، عن معاذ بن جبل، كما في مسند أحمد وهو إسناد جيد – انتهى.

(4/330)


733، 732- قوله: (وللترمذي) أي: في تفسير سورة ص (نحوه) أي: نحو هذا اللفظ أي: معناه (عنه) أي: عن عبدالرحمن لكن لم يذكر الترمذي لفظ حديثه، بل قال بعد إخراج حديث معاذ بن جبل الآتي في الفصل الثالث: قال البخاري: هذا أصح من حديث الوليد بن مسلم، عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر قال: حدثنا خالد بن اللجلاج: حدثني عبدالرحمن بن عائش الحضرمي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر الحديث، وهذا غير محفوظ، هكذا ذكر الوليد في حديثه عن عبدالرحمن بن عائش قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ورواه بشر بن بكر عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر هذا الحديث بهذا الإسناد عن عبدالرحمن بن عائش، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا أصح، وعبد الرحمن بن عائش لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -- انتهى كلام الترمذي. وقال ابن خزيمة "سمعت" في هذا الحديث وهم فإن هذا الخبر لم يسمعه عبدالرحمن، ثم استدل على ذلك بما أخرجه هو والترمذي من رواية أبي سلام، عن عبدالرحمن بن عائش، عن مالك ابن يخامر، عن معاذ بن جبل فذكر نحوه، قال الترمذي: صحيح. وقال أبوعمرو: هو الصحيح عندهم، وقال، وقد سبقه ابن خزيمة: لم يقل في حديثه: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -إلا الوليد بن مسلم. قال الحافظ في الإصابة (ج2: ص405) في ترجمة عبدالرحمن بن عائش: لم ينفرد الوليد بن مسلم بالتصريح المذكور بل تابعه حماد بن مالك الأشجعي والوليد بن يزيد البيروتي، وعمارة بن بشر، وغيرهم عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر. فأما الوليد بن يزيد فأخرجه الحاكم، وابن مندة والبيهقي من طريق العباس بن الوليد، عن أبيه: حدثنا ابن جابر، قال: وهذه متابعة قوية للوليد بن مسلم، وأما حماد بن مالك فأخرجه البغوي. وابن خزيمة من طريقه، قال: حدثنا ابن جابر، وأما رواية عمارة بن بشر فأخرجها الدارقطني في كتاب الرواية من طريقه: حدثنا عبدالرحمن بن جابر، فذكر نحو رواية حماد بن مالك،

(4/331)


وزاد: وذكر ابن جابر عن أبي سلام أنه سمع عبدالرحمن بن عائش يقول في هذا الحديث: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر بعضه. وأما رواية بشر الذي أشار إليها الترمذي فأخرجها الهيثم بن كليب في مسنده، وابن خزيمة والدار القطني من طريقه، عن ابن جابر عن خالد سمعت عبدالرحمن بن عائش يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ذكر الحافظ الاختلاف على خالد بن اللجلاج فقال: وروى هذا الحديث يزيد بن يزيد بن جابر أخو عبدالرحمن، عن خالد فخالف أخاه، أخرجه أحمد من طريق زهير بن محمد عنه عن خالد، عن عبدالرحمن بن عائش، عن رجل من الصحابة فزاد فيه رجلا ، ولكن رواية
وعن ابن عباس، ومعاذ بن جبل، وزاد فيه: ((قال: يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم، في الكفارات. والكفارات: المكث في المساجد

(4/332)


زهير بن محمد عن الشاميين ضعيفة كما قال البخاري وغيره، وهذا منها. وقال هشام الدستوائي عن أبي قلابة، عن خالد ابن اللجلاج، عن ابن عباس أخرجه الترمذي وأبويعلى، عن قتادة، عن أبي قلابة. وقد ذكر أحمد بن حنبل أن قتادة أخطأ فيه، والقول ما ابن جابر. ورواه أيوب عن أبي قلابة مرسلا لم يذكر خالدا، أخرجه الترمذي وأحمد، وكذا أرسله بكر بن عبدالله المزني عن أبي قلابة أخرجه الدارقطني، ورواه سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أبي قلابة فخالف الجميع، قال: عن أبي أسماء، عن ثوبان، وهي رواية أخطأ فيه سعيد بن بشير وأشد منها خطأ رواية أخرجها أبوبكر النسيابوري في الزيادات من طريق يوسف بن عطية، عن قتادة، عن أنس، وأخرجها الدارقطني، ويوسف متروك. قال: ويستفاد من مجموع ما ذكرت قوة رواية عبدالرحمن بن يزيد بن جابر بإتقانها، ولأنه لم يختلف عليه فيها. وأما رواية أبي سلام فاختلف عليه. وروى حماد بن مالك كما تقدم كرواية عبدالرحمن بن يزيد بن جابر. وخالفه زيد بن سلام. فرواه عن جده أبي سلام، عن عبدالرحمن بن عائش، عن مالك بن يخامر، عن معاذ، وقد ذكره مطولا، وفيه قصة، هكذا رواه جهضم بن عبدالله اليمامي، عن يحيى بن أبي كثير، عن زيد. أخرجه أحمد(ج 5: ص243) وابن خزيمة والرؤياني والترمذي والدارقطني وابن عدي وغيرهم. وخالفهم موسى بن خلف فقال: عن يحيى، عن زيد عن جده عن أبي عبدالرحمن السكسكي، عن مالك بن يخامر، عن معاذ، أخرجه الدارقطني وابن عدي. ونقل عن أحمد أنه قال: هذه الطريق أصحها. قال الحافظ: فإن كان الأمر كذلك فإنما روى هذا الحديث المالك بن يخامر أبوعبدالرحمن السكسكي لا عبدالرحمن بن عائش. ويكون للحديث سندان: ابن جابر عن خالد عن عبدالرحمن بن عائش. ويحي، عن زيد، أبي سلام، عن أبي عبدالرحمن عن مالك عن معاذ. ويقوي ذلك اختلاف السياق بين الراويتين- انتهى كلام الحافظ في الإصابة مختصرا ومخلصا ( وعن ابن عباس) عطف على عنه. والحديث أخرجه

(4/333)


الترمذي عن ابن عباس من طريق أبي قلابة، عن ابن عباس، وعنه، عن خالد بن اللجلاج، عن ابن عباس. وقال: حديث حسن. وأخرجه أيضا عبدالرزاق، وأبويعلى، وعبد بن حميد، ومحمد بن نصر (ومعاذ بن جبل) أراد حديثه الذي ذكره في الفصل الثالث، وقد تقدم تخريجه في كلام الحافظ (وزاد) أي: الترمذي ( فيه) أي: في نحوه من الحديث (قال) أي: الله تعالى سائلا مرة أخرى كما يدل عليه أول الحديث الذي اختصره المصنف، وهو مذكور عند الترمذي وغيره، وسياق الحديث الذي ذكره المصنف إنما هو من رواية أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس ( قلت نعم، في الكفارات) أي: يختصمون في الكفارات يعني في أعمال تكفر الذنوب، وفي رواية قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن ابن عباس في الدرجات والكفارات (والكفارات) مبتدأ وخبره "المكث في المساجد" الخ. وسميت هذه الخصال كفارات لأنها تكفر الذنوب عن فاعلها، فهي من باب تسمية الشيء باسم لازمه (في المساجد) وفي بعض نسخ الترمذي "المسجد" بلفظ
بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإبلاغ الوضوء في المكاره، فمن فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه، وقال: يا محمد! إذا صليت فقل: أللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، قال: والدرجات: إفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام). ولفظ هذا الحديث كما في "المصابيح" لم أجده عن عبدالرحمن إلا في شرح السنة.

(4/334)


الإفراد (بعد الصلوات) أي: بعد كل صلاة انتظار الصلاة أخرى، وفي الترمذي "بعد الصلاة" بلفظ الإفراد (والمشي على الأقدام إلى الجماعات) فإن الآتي إلى المسجد زائر الله، والزيارة على الأقدام أقرب إلى الخضوع والتواضع والتذلل (وإبلاغ الوضوء) بفتح الواو وتضم، أي: إيصال ماء الوضوء بطريق المبالغة مواضع الفروض والسنن. وفي الترمذي "إسباغ الوضوء" بدل إبلاغ. والإبلاغ بمعنى الإسباغ (في المكاره) جمع مكره بفتح ميم ما يكرهه شخص ويشق عليه أي: التوضى مع برد شديد وعلل، يتأذى معها بمس الماء. قال ابن الملك: إنما خص هذه الأشياء بالذكر حثا على فعلها لأنها دائمة فكانت مظنة أن تمل-انتهى (فمن فعل) وفي الترمذي "ومن" بالواو (ذلك) أي: المذكور (عاش بخير ومات بخير) كما دل عليه قوله تعالى: ?من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم بأحسن ما كانوا يعملون? [97:16] (وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه) أي: فيه بفتح "يوم" قال الطيبي: مبنى على الفتح لإضافته إلى الماضي، وإذا أضيف إلى المضارع اختلف في بناءه، أي: كان مبرأ كما كان مبرأ يوم ولدته أمه (إذا صليت) أي: فرغت من الصلاة (فعل الخيرات) بكسر الفاء، وقيل: بفتحها، وقيل: الأول اسم، والثاني مصدر، والخيرات ما عرف من الشرع من الأقوال الحميدة والأفعال السعيدة (وترك المنكرات) هي التي لم تعرف من الشرع من الأقوال القبيحة والأفعال السيئة (وحب المساكين) الظاهر أنه كما قبله من إضافة المصدر إلى المفعول، وهو تخصيص بعد تعميم لدخوله في الخيرات اهتماما بهاذ الفرد منه (فتنة) أي: ضلالة أو عقوبة دنيوية (فاقبضني) بكسر الباء، أي: توفني (غير مفتون) أي: غير ضال أو غير معاقب (قال) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (والدرجات) مبتدأ، أي: ما ترفع به الدرجات (إفشاء السلام) أي: بذله على من عرفه ومن لم يعرفه (والناس نيام) بكسر النون جمع نائم، والجملة حالية، وإنما عدت هذه

(4/335)


الأشياء من الدرجات لأنها فضل منه على ما وجب عليه فلا جرم استحق بها فضلا وهو علو الدرجات، هذا. وارجع لشرح الحديث مفصلا، وبسط الكلام عليه مطولا إلى كتاب "اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى" لابن رجب.
734- (41) وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة كلهم ضامن على الله: رجل خرج غازيا في سبيل الله، فهو ضامن على الله حتى يتوفاه، فيدخله الجنة، أو يرده بما نال من أجر أو غنيمة؛ ورجل راح إلى المسجد، فهو ضامن على الله؛ ورجل دخل بيته بسلام، فهو ضامن على الله)).
734- قوله: (ثلاثة) أي: أشخاص (كلهم) أي: كل واحد منهم، والإفراد باعتبار لفظ الكل. قال الخطابي: أنشدني أبوعمر، عن أبي العباس في كل بمعنى كل واحد:
فكلهم لا بارك الله فيهم… إذا جاء ألقى خده يتسمعا

(4/336)


(ضامن على الله) عدى الضمان بعلى بتضمين معنى الوجوب والمحافظة، والضامن بمعنى المضمون كدافق بمعنى مدفوق في قوله تعالى: ?من ماء دافق? [6:86]) وعاصم بمعنى معصوم في قوله: ?لا عاصم اليوم من أمر الله? [43:11] على تأويل و"راضية بمعنى مرضية" في قوله: ?عيشة راضية? [7:101) أو هو بمعنى ذو ضمان أي: حفظ ورعاية كلا بن وتامر أي: صاحب لبن وتمر. وحاصل المعنى أنه يجب على الله بمقتضى وعده الصادق أن يحفظ كلا من هؤلاء الثلاثة من الضرر والخيبة والضياع والآفة (خرج غازيا) أي: حال كونه مريدا للغزو (فهو ضامن على الله) أي: واجب الحفظ والرعاية على الله كالشئ المضمون (حتى يتوفاه) أي: يقبض روحه إما بالموت أو بالقتل في سبيل الله (فيدخله الجنة) أي: مع الناجين (أو يرده) عطف على يتوفاه (بما نال) أي: مع ما وجد (من أجر) أي: ثواب فقط (أو غنيمة) أي: مع الأجر فأو للتنويع (ورجل راح) أي: مشى إلى المسجد (فهو ضامن على الله) أي: يعطيه الأجر وأن لا يضيع سعيه، أو واجب الوقاية والرعاية، ووقع في سنن أبي داود بعد قوله "ضامن على الله" حتى يتوفاه، فيدخله الجنة، أو يرده بما نال من أجر أوغنيمة، وهكذا رواه الحاكم وكذا ذكره السيوطي في الجامع الصغير، وسقط هذا من جميع نسخ المشكاة (ورجل دخل بيته بسلام) يحتمل وجهين، أحدهما: أن يسلم على أهله إذا دخل منزله كقوله تعالى: ?فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم? [61:24] والمضمون عليه أن يبارك عليه وعلى أهله فمعنى قوله: (فهو ضامن على الله) أي: يعطيه البركة والثواب الكثير لما روى أنه عليه السلام قال لأنس: إذا دخلت على أهلك فسلم، يكون بركة عليك وعلى أهل بيتك. والوجه الآخر: أن يكون أراد بدخول بيته سالما من الفتن، أي: طالبا للسلامة منها. قال الطيبي: وهذا أوجه لأن المجاهدة في سبيل الله سفرا، والرواح إلى المسجد حضرا، ولزوم البيت اتقاء من الفتن آخذ بعضها بحجزة بعض، فعلى هذا المضمون به هو رعاية

(4/337)


الله تعالى وجواره من الفتن-انتهى. وإنما لم يذكر المضمون به في الأخير اكتفاء لظهور المراد وهو الأجر والمثوبة حسب ما يليق به من
رواه أبوداود
735- (42) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من خرج من بيته متطهرا إلى الصلاة مكتوبة؛ فأجره كأجر الحاج المحرم. ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه، فأجره كأجر المعتمر.
البركة والسلامة (رواه أبوداود) في الجهاد وسكت عنه، وأخرجه أيضا ابن حبان والحاكم في الجهاد وقال "صحيح" ووافقه الذهبي.

(4/338)


735- قوله: (من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة، فأجره كأجر الحاج المحرم) أي: كما أن الحاج إذا كان محرما قبل الميقات كان ثوابه أتم، فكذلك الخارج إلى الصلاة إذا كان متطهرا من بيته كان ثوابه أفضل، شبه بالحاج المحرم لكون التطهر من الصلاة بمنزلة الإحرام من الحج لعدم جوازهما بدونهما. وقيل: المراد كأصل أجره، وقيل: كأجره من حيث أنه يكتب له بكل خطوة أجر كالحاج، وإن تغاير الأجران كثرة وقلة أو كمية وكيفية. وقال الطيبي: من خرج من بيته أي: قاصدا إلى المسجد لأداء الفرائض. وإنما قدرنا القصد ليطابق الحج لأنه القصد الخاص، فنزل النية مع التطهير منزلة الإحرام. وأمثال هذه الأحاديث ليست للتسوية، كيف وإلحاق الناقص بالكامل يقتضى فضل الثاني وجوبا ليفيد المبالغة، وإلا كان عبثا، فشبه حال المصلي القاصد إلى المكتوبة بحال الحاج المحرم في الفضل مبالغة وترغيبا للمصلي ليركع مع الراكعين، ولا يتقاعد عن حضور الجماعات (تسبيح الضحى) أي: صلاة الضحى، وكل صلاة تطوع تسبيحة وسبحة. قال الطيبي: المكتوبة والنافلة وإن اتفقتا في أن كل واحدة منهما يسبح فيها إلا أن النافلة جاءت بهذا الاسم أخص من جهة أن التسبيحات في الفرائض والنوافل سنة، فكأنه قيل للنافلة تسبيحة على أنها شبيهة بأذكار في كونها غير واجبة (لا ينصبه) أي: لا يتعبه ولا يخرجه، بضم الياء من الأنصاب وهو الإتعاب، مأخوذ من نصب بكسر الصاد أي: تعب، وأنصبه غيره أي: أتعبه، ويروي بفتح الياء من نصبه إذا أقامه، قاله زين العرب. وقال التوربشتي: هو بضم الياء والفتح احتمال لغوي لا أحققه رواية (إلا إياه) أي: لا يزعجه ولا يحمله على الخروج إلا ذلك، أي: تسبيح الضحى. وحقه أن يقال: إلا هو، فوضع الضمير المنصوب موضع المرفوع. قال ابن الملك: وضع الضمير المنصوب موضع المرفوع لأنه استثناء مفرغ يعني لا يتعبه إلا الخروج إلى تسبيح الضحى (فأجره كأجر المعتمر) إشارة إلى أن فضل ما بين

(4/339)


المكتوبة ولا نافلة، والخروج إلى كل واحد منهما، كفضل ما بين الحج والعمرة، والخروج إلى كل واحد منهما. ولا تخالف بين هذا الحديث وحديث "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" لأن حديث الباب يدل على جوازه في المسجد لا على أفضليته، أو يحمل على من لا يكون له مسكن، أو في مسكنه شاغل ونحوه على أنه ليس للمسجد ذكر في الحديث أصلا، فالمعنى: من خرج من بيته أو سوقه أو شغله متوجها إلى صلاة الضحى تاركا أشغال الدنيا. وقال التوربشتي: يحتمل أن يكون قوله - صلى الله عليه وسلم -: يا أيها الناس صلوا في بيوتكم، فإن خير صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة، مختصا بصلاة
وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما، كتاب في عليين)) رواه أحمد، وأبوداود.

(4/340)


الليل وإن كان ظاهر لفظه يقتضي العموم، وذلك لأنه قال هذا القول بعد أن قام ليالي رمضان، فلما رآهم يجتمعون إليه ويتنحنحون ليخرج إليهم قال ذلك. ومن الدليل على صحة ما ذهبنا إليه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقعد في مصلاه حتى تطلع الشمس، ثم يركع ركعتين، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح حتى يسبح ركعتي الضحى لا يقول إلا خيرا إلا غفر له خطاياه، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، وكان - صلى الله عليه وسلم - يأتي مسجد قباء كل سبت ماشيا وراكبا فيصلي فيه ركعتين، فلو كانت صلاته هذا في البيت خيرا لم يكن ليأخذ بالأدنى ويدع الأعلى والأفضل. وإذ قد ثبت هذا فنقول الظاهر أنه أمرهم بالصلاة في بيوتهم لمعان، أو لبعض تلك المعاني: أحدها، وهو آكد الوجوه: أنه أحب أن يجعلوا لبيوتهم حظا من الصلاة، ولا يتركوا الصلاة فيها فيجعلوها قبورا مثل بيوت بني إسرائيل، فإنهم كانوا لا يصلون إلا في كنائسهم وبيعهم. والثاني: أحب أن يتنفلوا في بيوتهم ليشملها بركة الصلاة فيرتحل عنها الشيطان، وينزل فيها الخير والسكنية. والثالث: أنه رأى النافلة في البيت أفضل حذرا من دواعي الرياء وطلب المحمدة التي جبل عليها الإنسان ونظرا إلى سلامته من العوارض والموانع التي تصيبه في المسجد بخلاف البيت، فإنه يخلو هناك بنفسه فينسد مداخل تلك الآفات والعوارض. فعلى الوجه الأول والثاني، إذا أدى الإنسان بعض نوافله في البيت فقد خرج من عهدة ما شرع له. وعلى الوجه الثالث، إذا تمكن عن أداء نافلة في المسجد عارية عن تلك القوادح لم تتأخر صلاته تلك عن صلاته في البيت فضيلة. وأرى قوله "لا ينصبه إلا إياه" إشارة إلى هذا المعنى، وهو أن لا يشوب قصده ذلك شيء آخر، فلا يزعجه إلا القصد المجرد بخروجه إلى الصلاة سالما من الآفات التي أشرنا إليها- انتهى كلام التوربشتي مختصرا (وصلاة على

(4/341)


إثر صلاة) بكسر الهمزة وسكون الثاء وبفتحتين لغتان، أي: عقبيهما، يعني صلاة تتبع صلاة وتتصل بها ليلا ونهارا فرضا وسنة ( لا لغو بينهما) أي: ما لا يعني من القول والفعل، قال في النهاية: يقال: لغا الإنسان يلغو ولغى يلغى، إذا تكلم بالمطروح من القول وما لا يعني. وقال في القاموس: اللغو واللغى كالفتى السقط وما لا يعتد به من كلام وغيره - انتهى. فيشمل اللغو من الفعل كما جاء في الحديث: من مس الحصى فقد لغى (كتاب) أي: عمل مكتوب (في عليين) قال ابن رسلان: أي: مكتوب ومقبول تصعد به الملائكة المقربون إلى عليين لكرامة المؤمن وعمله الصالح. قال القاري: هو علم لديوان الخير الذي دون فيه أعمال الأبرار. قال تعالى ?إن كتاب الأبرار لفي عليين، وما أدراك ما عليون؟ كتاب مرقوم، يشهد المقربون? [ 21، 18:83) منقول من جمع علي فعيل من العو، سمى به لأنه مرفوع إلى السماء السابعة تكريما، ولأنه سبب الارتفاع إلى أعلى الدرجات، والعليلة بتشديد اللام والياء الغرفة، كذا قاله بعضهم. وقيل: أراد أعلى الأمكنة وأشرف المراتب، أي: مداومة الصلاة والمحافظة عليها من غير شوب بما ينافيها لا شيء من الأعمال أعلى منها فكنى عن ذلك بقوله في عليين (رواه أحمد وأبوداود) وسكت عنه. وقال المنذري: فيه القاسم أبوعبدالرحمن، وفيه مقال-انتهى. قلت: قد وثقه ابن معين، والعجلي،
736- (43) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قيل: يارسول الله ! وما رياض الجنة؟ قال: المساجد. قيل: وما الرتع؟ يارسول الله ! قال: سبحان الله، والحمدلله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)) رواه الترمذي.
ويعقوب بن سفيان، والترمذي، ويعقوب بن شيبة، وإسحاق الحربي، وغيرهم. فالحديث لا ينحط عن درجة الحسن.

(4/342)


736- قوله: (إذا مررتم برياض الجنة) جمع روضة وهي أرض مخضرة بأنواع النبات (فارتعوا) من رتعت الماشية رتعا ورتوعا من باب نفع. رعت كيف شاءت. قال في القاموس: رتع كمنع، أكل وشرب ما شاء في خصب وسعة، أو هو الأكل والشرب رغدا في الريف. وتلخيص الحديث: إذا مررتم بالمساجد قولوا هذه الأذكار، فلما وضع رياض الجنة موضع المساجد بناء على أن العبادة فيها سبب للحلول في رياض الجنة روعيت المناسبة لفظا ومعنى، فوضع الرتع موضع القول، أي: استعير للعوض في الأذكار الواقعة فيها، لأن هذا القول سبب لنيل الثواب الجزيل. والرتع هنا كما في قول إخوة يوسف ?يرتع ويلعب? [12:12] وهو أن يتسع في أكل الفواكه والمستلذات والخروج إلى التنزه في الأرباف والمياه كما هو عادة الناس إذا خرجوا إلى الرياض والبساتين، ثم اتسع واستعمل في الفوز بالثواب الجزيل والأجر الجميل (قيل: يارسول الله) السائل في الفصلين هو أبوهريرة راوي الحديث وهو صريح في كتاب الترمذي (وما رياض الجنة؟ قال: المساجد) وفي حديث أنس عند أحمد والترمذي: حلق الذكر. ولا منافاة بينهما لأنها تصدق بالمساجد وغيرها فهي أعم، وخصت المساجد هنا لأنها أفضل، قاله القاري. وفسر في حديث ابن عباس عند الطبراني في الكبير بمجالس العلم. قال الشوكاني: لا مخالفة بين هذه الأحاديث، فرياض الجنة تطلق على حلق الذكر، ومجالس العلم، والمساجد، ولا مانع من ذلك-انتهى. وقيل: اختلف الجواب في تفسير الرتع باختلاف أحوال السائلين، فرأى أن الأولى بحال سائل حلق العلم، وبحال سائل آخر حلق الذكر، ولهذا قال العلقمي: المراد من هذه الأحاديث في تفسير الرتع مناسبة كل شخص بما يليق به من أنواع العبادة (وما الرتع؟) بسكون المثناة الفوقية (يارسول الله ! قال: سبحان الله)إلخ. لا يخفى أن الرتع ليس منحصرا في هذه الأذكار، بل المقصود هذه وأمثالها من الباقيات الصالحات التي هي سبب وصول الروضات، ورفع الدرجات العالية، وهذا لأن

(4/343)


في قوله "حلق الذكر" في حديث أنس و"مجالس الذكر" في حديث جابر عند أبي يعلى، والبزار، والطبراني، والحاكم، والبيهقي إشارة إلى أن كل ذكر رتع، وإنما خصت الكلمات المذكورة بالذكر لأن الباقيات الصالحات في الآية مفسر بها. ولحديث "إنها أحب الكلام إلى الله" أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث سمرة بن جندب (رواه الترمذي) في الدعوات وغربه، وفي سنده حميد المكي، وهو مجهول، لكن له شواهد ترتقى بها إلى الصحة أو الحسن.
737- (44) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أتى المسجد لشيء، فهو حظه)) رواه أبوداود.
738- (45) وعن فاطمة بنت الحسين، عن جدتها فاطمة الكبرى، رضي الله عنها، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم، وقال: رب اغفرلي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج صلى على محمد وسلم، وقال: رب اغفرلي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك)).
737- قوله: (من أتى المسجد لشيء) أي: لقصد حصول شيء من غرض أخروي أو دنيوي (فهو) أي: ذلك الشيء (حظه) أي: نصيبه، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: إنما لكل امرئ ما نوى-الحديث. ففيه تنبيه على تصحيح النية في إتيان المسجد لئلا يكون مختلطا بغرض دنيوي كالتمشية والمصاحبة مع الأصحاب مثلا، بل ينوي العبادة كالصلاة، والاعتكاف، واستفادة علم وإفادته ونحوها (رواه أبوداود) وسكت عليه. وقال المنذري: في إسناده عثمان بن أبي العاتكة الدمشقي، وقد ضعفه غير واحد-انتهى. قلت: قال العجلي: لا بأس به، وكان دحيم يثنى عليه، وينسبه إلى الصديق. وقال أبوحاتم عنه: لا بأس به. وقال أبودواد: صالح. وقال خليفة: كان ثقة كثير الحديث. وقال الحافظ في التقريب: ضعفوه في روايته عن علي بن يزيد الألهاني-انتهى. وهذا الحديث إنما هو من روايته عن عمير بن هانئ العنسي، لا علي بن يزيد الألهاني، فحديثه هذا لا ينحط عن درجة الحسن، ويقويه حديث: إنما لكل امرئ ما نوى، إلخ.

(4/344)


738- قوله: (وعن فاطمة بنت الحسين) بن علي بن أبي طالب الهاشمية القرشية المدنية، تزوجها ابن عمها الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب، ومات عنها، فتزوجها عبدالله بن عثمان بن عفان. ثقة تابعية، روت عن أبيها وأخيها زين العابدين، وعمتها زينب بنت علي، وجدتها فاطمة الزهراء مرسل، وبلال المؤذن مرسل، وابن عباس، وأسماء بنت عميس، وروى عنها جماعة. ماتت بعد المائة وقد أسنت. ذكرها ابن حبان في الثقات، وقال: ماتت وقد قاربت التسعين. ووقع ذكرها في صحيح البخاري في الجنائز: قال: لما مات الحسن بن الحسن ضربت امرأته القبة (عن جدتها فاطمة الكبرى) أي: الزهراء بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمها خديجة، وهي أصغر بناته في قول. وهي سيدة نساء هذا الأمة. تزوجها علي بن أبي طالب في السنة الثانية من الهجرة في شهر رمضان، وبنى عليها في ذي الحجة. وكان سنها يوم تزوجها خمس عشر سنة وخمسة أشهر ونصف، فولدت له الحسن، والحسين، والمحسن، وزينب، وأم كلثوم، ورقية. وماتت بالمدينة بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بستة أشهر، وقيل: بثلاثة أشهر، وقيل: غير ذلك، ولها سبع وعشرون سنة. وقيل: ثمان، وقيل: جاوزت العرشين بقليل، وكان أول آل النبي - صلى الله عليه وسلم - لحوقا به. وغسلها علي مع أسماء بنت عميس، وصلى عليها. ودفنت ليلا. روى عنها جماعة من الصحابة، ومناقبها كثيرة جدا (إذا دخل المسجد) أي: أراد دخوله (صلى على محمد وسلم) تشريعا للأمة وبيانا، لأن حكمه حكم الأمة حتى ابتغاء الصلاة والسلام
رواه الترمذي، وأحمد، وابن ماجه، وفي روايتهما، قالت: إذا دخل المسجد، وكذا إذا خرج، قال: بسم الله، والسلام على رسول الله، بدل: صلى على محمد وسلم. وقال الترمذي: ليس إسناده بمتصل، وفاطمة بنت الحسين لم تدرك فاطمة الكبرى.
739- (46) وعن عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(4/345)


على نفسه إلا ما خصه الدليل، وإنما شرع الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند دخول المصلى المسجد وعند خروجه، لأنه السبب في دخوله المسجد، ووصوله الخير العظيم، فينبغي أن يذكره بالخير. وقال القاري: هو يحتمل قبل الدخول وبعده. والأول أولى. ثم حكمته بعد تعليم أمته أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجب عليه الإيمان بنفسه، كما كان يجب على غيره، فكذا طلب منه تعظيمها بالصلاة منه عليها، كما طلب ذلك من غيره-انتهى (رواه الترمذي) وقال: حديث حسن، وإنما حسنه مع اعترافه بعدم اتصال سنده كما سيأتي، لأن الترمذي قد يحسن الحديث مع ضعف الإسناد للشواهد لحديث فاطمة هذا حسنه لأن له شواهد يرتقى بها درجة الحسن (بسم الله والسلام على رسول الله) فيه زيادة التسمية وهي ثابتة أيضا عند ابن السني من حديث أنس، فينبغي لداخل المسجد والخارج منه أن يجمع بين التسمية والصلاة والسلام على رسول الله ، والدعاء بالمغفرة، وبالفتح لأبواب الرحمة داخلا، ولأبواب الفضل خارجا، ويزيد في الخروج سؤال الفضل، وينبغي أيضا أن يضم إلى ذلك ما سيأتي في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص مرفوعا: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، الخ (ليس إسناده بمتصل) لأن فاطمة الصغرى بنت الحسين تروى هذا الحديث عن جدتها فاطمة الكبرى، وهي ما أدركتها، لأن الكبرى ماتت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بستة أشهر، وفي سنده أيضا ليث ابن أبي سليم، وفيه مقال معروف. قال الحافظ: صدوق، اختلط أخيرا فلم يتميز حديثه، فترك.

(4/346)


739- قوله: (عن أبيه) شعيب (عن جده) أي: جد شعيب، وهو عبدالله بن عمرو بن العاص الصحابي، وقد صح سماع شعيب من جده عبدالله بن عمرو. والدليل على أن المراد بقولهم في الإسناد "عن جده" جد شعيب-أعنى عبدالله بن عمرو الصحابي – ما رواه البيهقي في السنن الكبرى (ج5:ص92) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، قال: كنت أطوف مع أبي عبدالله بن عمرو بن العاص. فهذا يشير إلى صحة ما قال الذهبي في الميزان: أن محمدا والد شعيب مات في حياة أبيه عبدالله، وترك ابنه شعيبا صغيرا، فكفله جده عبدالله ورباه ولذلك يسميه هنا أباه، إذ هو أبوه الأعلى وهو الذي رباه، ومما يدل صريحا على صحة سماع شعيب عن جده عبدالله بن عمرو ما رواه الدارقطني (ص310) والحاكم (ج2:ص65) في المستدرك عنه في قصة سؤال الرجل عن محرم وقع بامرأة، فإن فيه تصريحا بسماع شعيب من جده عبدالله، وإنه كان يجالسه، ويجالس الصحابة في عصره، وعلى هذا فحديث عمرو
عن تناشد الأشعار في المسجد، وعن البيع والشراء فيه، وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة في المسجد)) رواه أبوداود، والترمذي.

(4/347)


ابن شعيب عن أبيه عن جده، صحيح أو حسن إذا كان الإسناد إلى عمرو صحيحا، وهو الذي عليه المحققون من أهل الحديث: علي بن المديني وأحمد بن حنبل والحميدي وإسحاق بن راهويه وأبوعبيد والبخاري والحاكم والبيهقي، وغيرهم. وبه قال الذهبي والنووي وابن عبدالبر، وقد تقدم شيء من البسط في هذا في باب الإيمان بالقدر. وانظر تفصيل الكلام في تهذيب التهذيب (ج8:ص48-55) والميزان (ج2:ص289) والتدريب (ص221) ونصب الراية (ج1:ص59، 58) وتعليق الشيخ أحمد محمد شاكر على جامع الترمذي (ج2:ص141-144) (عن تناشد الأشعار) قال التوربشتي: التناشد أن ينشد كل واحد صاحبه نشيدا لنفسه أو لغيره افتخارا ومباهاة، أو على وجه التفكه بما يستطاب منه ترجية للوقت بما تركن إليه النفس أو لغيره، فهو مذموم، وأما ما كان منه في مدح الحق وأهله، وذم الباطل وذويه، أو كان منه تمهيدا لقواعد الدين، أو إرغاما لمخالفيه فهو خارج عن الذم وإن خالطه التشبيب. وقد كان يفعل ذلك بين يدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا ينهى عنه، لعلمه بالغرض الصحيح، كذا نقله الطيبي. وقيل التناشد هو المفاخر بالشعر، والإكثار منه حتى يغلب على غيره، وحتى يخشى منه كثرة اللغط والشغب مما ينافي حرمة المساجد، وهذا غير إنشاد بعض القصائد. وقيل المراد تناشد أشعار الجاهلية والمبطلين (وعن البيع والاشتراء فيه) فيه دليل على تحريم البيع والشراء في المسجد. وقال الشوكاني: ذهب جمهور العلماء إلى أن النهي محمول على الكراهة. قال العراقي: وقد أجمع العلماء على أن ما عقد البيع في المسجد لا يجوز نقضه، وهكذا قال الماوردي. وأنت خبير بأن حمل النهي على الكراهة يحتاج إلى قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي الذي هو التحريم عند القائلين: بأن النهي حقيقة في التحريم، وهو الحق، وإجماعهم على عدم جواز النقض وصحة العقد لا منافاة بينه وبين التحريم، فلا يصح جعله قرينة لحمل النهي على الكراهة (وأن يتحلق الناس يوم

(4/348)


الجمعة قبل الصلاة في المسجد) أي: نهى أن يجلسوا محلقين حلقة واحدة أو أكثر وإن كان لمذاكرة علم. وفيه دليل على حرمة التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة، وذلك لأنه ربما قطع الصفوف مع كونهم مأمورين بالتبكير يوم الجمعة، والتراص في الصفوف، الأول فالأول، ولأنه يخالف هيئة اجتماع المصلين، ولأن الاجتماع للجمعة خطب عظيم لا يسمع من حضرها أن يهتم ما سواها حتى يفرغ منها، والتحلق قبل الصلاة يوهم غفلتهم عن الأمر الذي ندبوا إليه، ولأن الوقت وقت الاشتغال بالإنصات للخطبة. والتقييد بقبل الصلاة يدل على جوازه بعدها للعلم، والذكر، والتقييد بيوم الجمعة يدل على جوازه في غيرها (رواه أبوداود) في أبواب الجمعة، وزاد: وأن تنشد فيه ضالة. وسكت عليه (والترمذي) وحسنه، وصححه ابن خزيمة. وقال الحافظ في الفتح: إسناده صحيح إلى عمرو بن شعيب، فمن يصحح نسخته يصححه. قال:وفي المعنى عدة أحاديث لكن في أسانيدها مقال-انتهى. والحديث أخرجه أيضا أحمد والنسائي وابن ماجه.
740- (47) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك. وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة، فقولوا: لا رد الله عليك)) رواه الترمذي، والدارمي.
741- (48) وعن حكيم بن حزام، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستقادر في المسجد، وأن ينشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود)) رواه أبوداود في سننه،

(4/349)


740- قوله: (يبيع أو يبتاع) أي: يشتري. قال القاري: حذف المفعول يدل على العموم فيشمل ثوب الكعبة، والمصاحف، والكتب، والسبح (فقولوا) أي: لكل منهما باللسان جهرا، وقيل: سرا (لا أربح الله تجارتك) أي: لا جعل الله تجارتك ذات ربح ونفع، وهو دعاء عليه. ولو قال لهما معا: لا أربح الله تجارتكما لجار لحصول المقصود (من ينشد فيه ضالة) أي: يطلبها برفع الصوت (رواه الترمذي) في آخر البيوع وحسنه (والدارمي) وأخرجه أيضا أحمد والنسائي في اليوم والليلة، وابن حبان وابن خزيمة والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، ذكره ميرك. وقد أخرج الشطر الثاني مسلم أيضا كما تقدم في الفصل الأول.

(4/350)


741- قوله: (وعن حكيم بن حزام) بكسر مهملة وفتح زاى، هو حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبدالعزى القرشي الأسدي. أبوخالد المكي، ابن أخي خديجة أم المؤمنين، ولد قبل الفيل بثلاث عشرة سنة، أسلم يوم الفتح، وكان من المؤلفة، أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من غنائم حنين مائة من الإبل، وحسن إسلامه، وكان من سادات قريش وأشرافها ووجوهها في الجاهلية والإسلام، و كان عاقلا فاضلا تقيا جوادا، أعتق في الجاهلية مائة رقبة، وفي الإسلام مثلها، وجاء الإسلام ودار الندوة بيده فباعها من معاوية بعد بمائة ألف درهم، فقال له ابن الزبير: بعت مكرمة قريش، فقال: ذهب المكارم إلا التقوى، اشتريت بها دارا في الجنة، أشهدكم أنى قد جعلتها في سبيل الله يعني الدراهم. وكان عالما بالنسب. مات بالمدينة في داره سنة (54) وله مائة عشرون سنة، ستون في الجاهلية وستون في الإسلام. وقيل في سنة وفاته غير ذلك، له أربعون حديثا، اتفقا على أربعة. روى عنه نفر (أن يستقاد) أي: يطلب القود أي: القصاص يعني يقتص (في المسجد) لئلا يقطر الدم فيه (وأن ينشد) بضم التحتية مذكرا، وفي أبي داود بالتأنيث: أي: يقرأ (الأشعار) أي: القبيحة المذمومة (وأن تقام فيه الحدود) أي: سائرها، أي: تعميم بعد تخصيص، أي: الحدود المتعلقة بالله، أو بالآدمي، لأن في ذلك نوع هتك حرمته، ولاحتمال تلوثه بجرح أو حدث، ولأنه إنما بنى المسجد للصلاة والذكر لا لإقامة الحدود. والحديث دليل على تحريم إقامة الحدود في المساجد وتحريم الإستفادة فيها، لأن النهي كما تقرر في الأصول حقيقة في التحريم، ولا صارف له ههنا عن معناه الحقيقي (رواه أبوداود في سننه) في أواخر كتاب الحدود،
وصاحب جامع الأصول فيه عن حكيم، وفي المصابيح عن جابر.
742- (49) وعن معاوية بن قرة، عن أبيه، ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هاتين الشجرتين – يعني

(4/351)


البصل والثوم – وقال: من أكلها فلا يقربن مسجدنا. وقال: إن كنتم لا بد
وأخرجه أيضا أحمد والدارقطني والحاكم وابن السكن والبيهقي. والحديث سكت عنه أبوداود. وقال الحافظ في التلخيص: لا بأس بإسناده. وقال في بلوغ المرام: إن إسناده ضعيف. وقال الذهبي في الميزان: ضعفه عبدالحق. وقال ابن القطان: علته الجهل بحال زفر بن وثيمة، تفرد عنه محمد بن عبدالله الشعيثي. قال الذهبي: قد وثقه ابن معين، ودحيم. قلت: وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ: مقبول، فمن عرفه حجة على من لم يعرف، وجهل في جهله لا يضر. وقال المنذري: في إسناده محمد بن عبدالله بن المهاجر الشعيثي النصر الدمشقي، وقد وثقه غير واحد. وقال أبوحاتم الرازي: يكتب حديثه ولا يحتج به –انتهى. قلت: قد وثقه دحيم، و المفضل بن غسان الغلابي، وقال النسائي لا بأس به. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ، صدوق، فحديثه لا ينحط عن درجة الحسن. وفي الباب عن ابن عباس عند الترمذي وابن ماجه، وفي سنده إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف من قبل حفظه. وعن جبير بن مطعم عند البزار، وفيه الواقدي. وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وفيه ابن لهيعة. كذا في النيل (وصاحب جامع الأصول فيه) أي: الجامع (عن حكيم) متعلق برواه (وفي المصابيح عن جابر) قال الطيبي: ولم يوجد في الأصول الرواية عنه. وقال ميرك: صوابه عن حكيم بن حزام.

(4/352)


742- قوله: (وعن معاوية بن قرة) بضم القاف وتشديد الراء، ابن إباس-بكسر الهمزة وتخفيف الياء تحتها نقطتان-ابن هلال المزني، يكنى أبا إباس البصري، ثقة عالم من الطبقة الوسطى من التابعين، وثقه ابن معين، والنسائي والعجلي وأبوحاتم وابن سعد وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من عقلاء الرجال، مات سنة (113) وهو ابن (76)سنة (عن أبيه) قرة بن إباس بن هلال بن رياب المزني أبومعاوية جد إباس بن معاوية القاضي، صحابي. قال ابن عبدالبر: سكن البصرة. لم يرو عنه غير ابنه. قتل في حرب الأزارقة مع عبدالرحمن ابن عبيس في زمن معاوية، وقد أرخه ابن سعد، وخليفة وأبوعروبة وابن حبان سنة (64) فيكون ذلك في زمن معاوية ابن يزيد بن معاوية. وذكره ابن سعد في طبقة من شهد الخندق، له اثنان وعشرون حديثا (يعني البصل والثوم) وفي معناهما الكراث، والفجل، وما له رائحة كريهة (من أكلهما فلا يقربن مسجدنا) أي: مسجد المسلمين، قال الطيبي: وهذه الجملة كالبيان للجملة الأولى، أي: أفاد هذا البيان أن التقدير: نهى عن أكلهما. وأفاد أيضا أن شرط النهي عن أكلهما اقترانه بدخول المسجد مثلا مع بقاء ريحهما. وأما أكلهما بحيث تزول الرائحة عند دخول المسجد، فلا يدخل تحت النهى، وفي النهي عن القربان إشارة إلى أن النهي عن الدخول أوله (إن كنتم لا بد) أي: لا فراق،
أكليهما، فأميتوهما طبخا)) رواه أبوداود.
743- (50) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام))
رواه أبوداود، والترمذي، والدارمي.
ولا محالة، ولا غنى بكم عن أكلهما لفرط حاجة أو شهوة، فخبر لا محذوف كما قدرنا. وهذه الجملة معترضة بين اسم كان وخبرها وهو (أكليهما) يعني وأردتم دخول المسجد (فأميتوهما طبخا) أي: أزيلوا رائحتهما بالطبخ، وفي معناه الإمانة والإزالة بغير الطبخ، و إنما خرج مخرج الغالب (رواه أبوداود) في الأطعمة، وسكت عنه هو والمنذري.

(4/353)


743- قوله: (الأرض كلها مسجد) أي: يجوز الصلاة فيها من غير كراهة (إلا المقبرة) في القاموس مثلثة الباء، وكمكنسة، موضع القبو (والحمام) بتشديد الميم الأولى، هو الموضع الذي يغتسل فيه بالحميم، وهو في الأصل الماء الحار ثم قيل لموضع الاغتسال بأى ماء كان. والمراد إلا المقبرة والحمام وما في معناهما، فلا يشكل الحصر بما سيجيء. الحديث دليل على أن الأرض كلها تصح فيها الصلاة ماعدا المقبرة ، وهي التي يدفن فيها الموتى، فلا تصح الصلاة فيها. وظاهره سواء كان على القبر أو بين القبور أو في مكان منفرد منها كالبيت أعد للصلاة، وسواء كانت القبور منبوشة، أو غير منبوشة، و سواء فرش عليها شيء يقيه من النجاسة، أو لم يفرش، وسواء كان قبر مؤمن أو كافر. وإلى ذلك ذهب أحمد، والظاهرية، و هو الراجح عندي. وكذلك الحمام، فإنه لا تصح فيه الصلاة، سواء صلى في مكان نظيف منه أو في مكان نجس. وإليه ذهب أحمد عملا بإطلاق الحديث. وقيل: يختص النهي بالمكان النجس منه. وإن صلى في مكان طاهر فلا بأس. وذهب الجمهور إلى صحتها مع الطهارة لكن تكون مكروهة. وقد ورد النهي معللا بأنه محل الشياطين، وظاهر الحديث مع أحمد وهو مخصص لقوله: جعلت لي الأرض كلها مسجدا (رواه أبوداود والترمذي والدارمي) وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه والحاكم والبيهقي وابن خزيمة وابن حبان والشافعي. والحديث سكت عنه أبوداود. وقال الترمذي: هذا حديث فيه اضطراب، أي: من جهة إسناده، وذكر أن سفيان الثوري أرسله، قال:وكأن رواية الثوري، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - - أي: مرسلا – أثبت وأصح – انتهى. وقال الحافظ في بلوغ المرام: رواه الترمذي، وله علة، و يعني بها الاختلاف في وصله وإرساله، فرواه حماد بن سلمة، وعبدالواحد بن زيادة، وعبدالعزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - موصولا. ورواه الثوري عن عمرو بن

(4/354)


يحيى عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا. ورجح الترمذي كما تقدم، ثم الدارقطني، والبيهقي الإرسال. والراجح وصله لأن الذي وصله ثقة، فلا يضر إرسال من أرسله. قال العلامة الشيخ أحمد في تعليقه على الترمذي: الحديث رواه الشافعي في الأم (ج1:ص79) عن سفيان بن عيينة مرسلا، ورواه أيضا البيهقي من طريق يزيد بن هارون عن الثوري موصولا، ثم قال: حديث الثوري مرسل، وقد روى موصولا وليس بشيء. وحديث حماد بن سلمة موصول، و قد تابعه على وصله عبدالواحد بن زياد والدراوردي، قال: ولا أدري كيف
744- (51) وعن ابن عمر، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي في سبعة مواطن: في المزيلة،
والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل،

(4/355)


يزعم الترمذي ثم البيهقي أن الثوري رواه مرسلا في حين أن روايته موصولة أيضا، ثم الذي وصله عن الثوري هو يزيد ابن هارون، وهو حجة حافظ، وأنا لم أجده مرسلا من رواية الثوري، إنما رأيته كذلك من رواية سفيان بن عيينة فلعله أشتبه عليهم سفيان بسفيان، ثم ماذا يضر في إسناد الحديث أن يرسله الثوري أو ابن عينه إذا كان مرويا بأسانيد أخرى صحاح موصولة، المفهوم في مثل هذا أن يكون المرسل شاهدا للمسند ومؤيدا له. وقد ورد من طريق أخرى ترفع الشك، وتؤيد من رواه موصولا، وهي في المستدرك للحاكم من طريق بشر بن المفضل: ثنا عمارة بن غزية، عن يحيى بن عمارة الأنصاري- وهو والد عمرو بن يحي- عن أبي سعيد الخدري مرفوعا. ولذلك قال الحاكم بعد أن رواه بهذه الطريق، ومن طريق عبدالواحد بن زياد والدراوردي كلهم عن عمرو، عن أبيه: هذه الأسانيد كلها صحيحة على شرط البخاري ومسلم، ووافقه الذهبي، وقد صدقا. ثم إن رواية سفيان بن عينية المرسلة ليست قولا واحدا بالإرسال، بل هي تدل على أنهم كانوا يروونه تارة بالإرسال وتارة بالوصل، لأن الشافعي بعد أن رواه عنه مرسلا قال: وجدت هذا الحديث في كتابي في موضعين: أحدهما منقطع والآخر عن أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -- انتهى. وهذا عندي قوة للحديث لا علة له- انتهى كلام الشيخ. وقال صاحب الإمام: حاصل ما علل به الإرسال، وإذا كان الواصل له ثقة فهو مقبول، وله شواهد: منها حديث عبدالله بن عمرو مرفوعا: نهى عن الصلاة في المقبرة، أخرجه ابن حبان. ومنها حديث علي: إن حبي نهاني أن أصلي في المقبرة، أخرجه أبوداود.

(4/356)


744- قوله: (أن يصلي) على بناء المفعول (في المزبلة) بفتح الباء، وقيل: بضمها، الموضع الذي يكون فيه الزبل وهو السرجين، ومثله سائر النجاسات، أي: وإن وجد فيها موضع خال عن الزبل، أو بسط عليها بساط في المكان اليبس، لأن في ذلك استخفافا بأمر الدين لأن من حق الصلاة أن تؤدي في الأمكنة النظيفة، والبقاع المحترمة، وكذلك المجزرة لأنها مسفح الدماء، وملقى القاذورات، وكذلك القول في الحمام لأنه مكتثر الأوساخ، ومجتمع الغسالات، ثم إنه محل تعرى الأبدان عن اللباس (والمجزرة) بفتح الميم والزاي تفتح وتكسر: الموضع الذي تجزر فيه الحيوانات أي: تنحر وتذبح (والمقبرة) قيل: لأن فيها اتخاذ القبور مساجد استنانا بسنة اليهود (وقارعة الطريق) الإضافة بيانية، أي: الطريق الذي يقرعها الناس بأرجلهم أي: يدقونها ويمرون عليها. وقيل: هي وسطها أو أعلاها، والمراد هنا نفس الطريق، وكأن القارعة بمعنى المقروعة أو الصيغة للنسبة أي: ذات قرع، وإنما نهى عن الصلاة فيها لإشغال القلب بمرور الناس، وتضييق المكان عليهم، وإيقاعهم في الإسم إن مروا بلا ضرورة، وإيقاع نفسه فيه لو كان لهم ضرورة (وفي معاطن الإبل) جمع معطن بكسر الطاء، وهو وطن الإبل ومبركها حول الحوض كالعطن- محركة- وجمعه أعطان، وكذا الحكم في سائر مباركها ومواطنها، فقد ورد النهي بلفظ"مزابل الإبل" وفي لفظ"مزابل الإبلي" وفي أخرى"مناخ الإبل" وهي أعم من معاطن الإبل. وقد ورد
وفوق ظهر بيت الله)) رواه الترمذي، وابن ماجه.

(4/357)


التعليل فيها منصوصا بأنها من الشياطين. أخرجه أبوداود. وفي حديث ابن مغفل عنده: فإنها خلقت من الجن، ألا ترون إلى عيونها وهيئتها إذا نفرت. قيل المعنى أنها كثيرة الشراد، شديدة النفار، معها أخلاق جنية، فلا يأمن المصلي في أعطانها أن تنفر، فتقطع عليه صلاته. وعلى هذا فيفرق بين كون الإبل في معاطنها، وبين غيبتها عنها، إذ يؤمن نفورها حينئذ (وفوق ظهر بيت الله) لأن الصلاة على ظهر البيت تفضي إلى ارتفاع سطح البيت، وذلك مخل بشرط التعظيم لمشابهته صنيع أهل العادة في استعلاء البيوت للتطلع والتفرج، ثم لخلوه عن الفائدة. والحديث يدل على منع الصلاة في هذه المواطن السبعة، ولو صح لكان بقاء النهي على ظاهره الذي هو التحريم في جميع ما ذكر هو الواجب، وكان مخصصا لعموم"جعلت لي الأرض مسجدا"لكن فيه كلام كما ستعرف، إلا أن الحديث في القبور والحمام والمعاطن من بين هذه المذكورات قد صح كما تقدم، وكما يفيده الحديث الثاني (رواه الترمذي وابن ماجه) كلاهما من طريق زيد بن جبيرة، عن داود بن الحصين، عن نافع، عن ابن عمر، قال الترمذي: حديث ابن عمر ليس بذاك القوي، وقد تكلم في زيد بن جبيرة من قبل حفظه- انتهى. قال الزيلعي: اتفق الناس على ضعف زيد بن جبيرة، فقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة. وقال أبوحاتم والأزدي: منكر الحديث، لا يكتب حديثه، وقال الدارقطني: ضعيف الحديث- انتهى. وقال الحافظ في التلخيص: إنه ضعيف جدا. وأخرجه أيضا ابن ماجه من حديث عمر، من طريق أبي صالح عبدالله بن صالح المصري، كاتب الليث، عن سعد، عن الليث بن سعد: حدثني نافع، عن ابن عمر، عن عمر. وقد أشار الترمذي إلى هذه الرواية، لكن زاد في سنده عبدالله بن عمر العمري بين الليث بن سعد ونافع، والعمري ضعيف، قاله في التقريب. وقال الذهبي: صدوق، في حفظه شيء. ثم رجح الترمذي رواية زيد بن جبيرة، عن داود، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -

(4/358)


على رواية الليث من أجل عبدالله بن عمر العمري، وفيه نظر ظاهر، بل الأمر بالعكس، لأن زيد بن جبيرة منكر الحديث متروك الحديث ضعيف جدا. وأما العمري فروى أحمد بن أبي مريم، عن ابن معين ليس به بأس، يكتب حديثه. وقال الدارمي: قلت لابن معين: كيف حاله في نافع؟ قال: صالح ثقة. وقال أحمد بن حنبل: صالح لا بأس به. وقال ابن عدي: في نفسه صدوق. على أن الليث بن سعد رواه عند ابن ماجه، عن نافع من غير واسطة العمري كما عرفت، وقد ضعفه بعضهم بأبي صالح عبدالله بن صالح كاتب الليث، والظاهر أنه ثقة مأمون كما قال عبدالملك بن شعيب بن الليث. وقال ابن معين: هما ثبتان: ثبت حفظ وثبت كتاب، وأبوصالح كاتب الليث ثبت كتاب. وقال أبوزرعة: كان حسن الحديث. وقال ابن القطان: هو صدوق، ولم يثبت عليه ما يسقط له حديثه إلا أنه مختلف فيه فحديثه حسن. وقال الحافظ: صدوق كثير الغلط ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة. قلت: فالظاهر أن حديث الليث حديث حسن، وأنه أرجح وأحسن من حديث زيد بن جبيرة عن داود، خلافا لما قال الترمذي.
754- (52) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في
أعطان الإبل)). رواه الترمذي.
746- (53) وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور،

(4/359)


754- قوله: (صلوا في مرابض الغنم) جمع مربض بفتح الميم وسكون الراء وكسر الباء الموحدة وآخره ضاد معجمة، وهو مأوى الغنم، ومكان ربوضها. والأمر للإباحة. قال العراقي: اتفاقا، وإنما نبه - صلى الله عليه وسلم - لئلا يظن أن حكمها حكم الإبل، أو أنه أخرج على جواب السائل حين سأله عن الأمرين، فأجاب في الإبل بالمنع، وفي الغنم بالإذن وأما الترغيب المذكور في الأحاديث بلفظ: فإنها بركة. فهو إنما لقصد تبعيدها عن حكم الإبل، كما وصف أصحاب الإبل بالغلظ والقسوة، ووصف أصحاب الغنم بالسكينة- انتهى. وفيه دليل على طهارة أبوال مأكول اللحم، وأرواثه لأنه أذن للصلاة في المرابض مطلقا من غير تقييد بحائل، ومن غير تخصيص بموضع دون موضع (ولا تصلوا في أعطان الإبل) جمع عطن بالعين والطاء المهملتين المفتوحتين، وهي أماكن بروكها. وقد تكلفوا في استخراج علة النهي فيها واختلفوا، فقيل: هي النجاسة. وفيه أن ذلك متوقف على نجاسة أبوال الإبل وأزبالها، وقد تقدم أن الحق طهارتها، ولو سلمنا النجاسة لم يصح جعلها علة، إذ لا فرق حينئذ بين المرابض والمعاطن لأن كل واحد من الجنسين مأكول اللحم فهما سيان في الحكم. وقيل علة النهي شدة نفار الإبل، فقد يؤدي ذلك إلى بطلان الصلاة، أو قطع الخشوع، أو غير ذلك، فلذلك جاء: إنها من الشياطين، وعلى هذا فيفرق بين كون الإبل في المعاطن وبين غيبتها إذ يؤمن حينئذ نفورها. وفيه أنه نهى عن الصلاة في الأعطان مطلقا سواء كانت الإبل فيها أو غابت عنها. وقيل: العلة أن الرعاة كانوا يبولون، ويتغوطون بينها. وقيل: الحكمة في النهي كونها خلقت من الشياطين كما في حديث ابن مغفل عند ابن ماجه وغيره. والظاهر أن النهي تعبدي فالحق الوقوف على مقتضى النهي وهو التحريم، فيحرم الصلاة في المعاطن، ولا تصح. وهو مذهب أحمد، والظاهرية، وغيرهم (رواه الترمذي) وصححه، وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه، وفي الباب عن جماعة من الصحابة ذكر تخريج

(4/360)


أحاديثهم الشوكاني في النيل.
746- قوله: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور) قيل: هذا كان قبل الترخص بقوله: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها الآن لأنها تذكر الآخرة) أخرجه مسلم وأبوداود والنسائي. فلما رخص دخل في الرخصة الرجال والنساء، ومحله ما إذا أمنت الفتنة. وقيل: بل نهى النساء عن زيارة القبور باق لقلة صبرهن، وكثرة جزعهن إذا رأين القبور. وقيل بل يحرم زيارة القبور على النساء مطلقا، فإن النهي ورد خاصا بهن، والإباحة والرخصة لفظها عام، ولا منافاة بين العام والخاص حتى يقال: إن العام نسخ الخاص، بل الخاص حاكم عليه، ومقيد له، فيكون الإذن خاصا بالرجال، ولا يجوز للنساء زيارة القبور مطلقا سواء أمنت الفتنة والجزع أم لم تأمن، هذا وقد بسط ابن القيم القول
والمتخذين عليها المساجد والسرج)) رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي.
747- (54) وعن أبي أمامة، قال: ((إن حبرا من اليهود سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي: البقاع خير؟ فسكت عنه، وقال:

(4/361)


في مختصر السنن في مسألة زيارة النساء للمقابر فارجع إليه (والمتخذين عليها المساجد) لأن في ذلك استنانا بصفة اليهود (والسرج) بضمتين جمع سراج بكسر أوله، وهو المصباح أي: لما فيه من تضييع بلا نفع، ويشبه تعظيم القبور كاتخاذها مساجد، وفيه رد صريح على القبوريين الذين يبنون القباب على القبور، ويسجدون إليها، ويسرجون عليها، ويضعون الزهور والرياحين عليها تكريما وتعظيما لأصحابها (رواه أبوداود) في الجنائز (والترمذي) في الصلاة (والنسائي) في الجنائز. وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه وابن حبان. والحديث سكت عنه أبوداود. وقال الترمذي: حديث حسن. قال المنذري في مختصر السنن (ج4:ص350): وفيما قاله نظر، فإن أبا صالح هذا أي: الراوي للحديث عن ابن عباس هو باذام، ويقال: باذان مكي مولى أو هانئ بنت أبي طالب، وهو صاحب الكلبي، وقد نقل: أنه لم يسمع من ابن عباس. وقد تكلم فيه جماعة من الأئمة، وقال ابن عدي: لم أعلم أحدا من المتقدمين رضيه. وقد قيل عن يحيى ابن سعيد القطان وغيره تحسين أمره، فلعله يريد: رضيه حجة، أو قال: هو ثقة- انتهى. وذكر المنذري أيضا في الترغيب، ونسبه أيضا لصحيح ابن حبان، ثم قال: وأبوصالح هذا هو باذام، ويقال: باذان، مكي مولى أم هانئ وهو صاحب الكلبي. قيل: لم يسمع من ابن عباس، وتكلم فيه البخاري والنسائي وغيرهما- انتهى. وقال ابن القيم: قد تقدم أن أبا حاتم خالفه أي: المنذري في ذلك وقال: صالح هذا هو مهران ثقة وليس بصاحب الكلبي، ذاك اسمه باذام- انتهى. وقيل: الظاهر هو قول الترمذي: أن هذا الحديث حسن، لأنه ليس لتضعيف أبي صالح حجة قوية، والذي ادعى أنه لم يسمع من ابن عباس هو ابن حبان كما في تهذيب التهذيب (ج1:ص407) ولعلها فلتته منه، فإن أبا صالح تابعي قديم، روى عن مولاته أم هانئ، وعن أخيها على بن أبي طالب، وعن أبي هريرة. وابن عباس أصغر من هؤلاء كلهم، وأما وصف الحافظ، والخزرجي أبا صالح بالتدليس فلعله مبني على

(4/362)


قول ابن حبان، وإنما تكلم فيه من تكلم من أجل التفسير الكثير المروى عنه والحمل في ذلك على تلميذه محمد بن السائب الكلبي، ولذلك قال ابن معين: ليس به بأس، وإذا روى عنه الكلبي فليس بشيء. وهذا الحديث رواه عنه محمد بن جحادة لا الكلبي. وقال يحيى القطان: لم أر أحدا من أصحابنا تركه، وما سمعت أحدا من الناس يقول فيه شيئا، ووثقه أيضا العجلي.
747- قوله: (إن حبرا) أي: عالما، وهو بفتح الحاء أشهر من كسرها، قاله ابن الملك. وذكر في الصحاح أن كسر الحاء أصح، لكن المشهور في الاستعمال الفتح ليفرق بين العالم وبين ما يكتب به، كذا في المفاتيح (أي البقاع) بكسر الباء جمع البقعة بالضم (خير) أي: أفضل يعني كثير الخير (فسكت عنه) أي: عن جوابه (وقال) أي: في نفسه وقلبه أو بلسانه
أسكت حتى يجيء جبريل، فسكت، وجاء جبرئيل عليه السلام، فسأل، فقال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، لكن أسأل ربي تبارك وتعالى. ثم قال جبريل: يا محمد! إني دنوت من الله دنوا ما دنوت منه قط. قال: وكيف كان يا جبريل؟ قال: كان بيني وبينه سبعون ألف حجاب من نور، فقال: شر البقاع أسواقها وخير القاع مساجدها)). رواه. . . . . .

(4/363)


(أسكت) بصيغة المتكلم أو الأمر (فسكت) أي: إلى مجيء جبريل. قال الطيبي: فيه أن من استفتى عن مسألة لا يعلمها فعليه أن لا يعجل في الإفتاء، ولا يستنكف عن الاستفتاء ممن هو أعلم منه، ولا يبادر إلى الاجتهاد ما لم يضطر إليه، فإن ذلك من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة جبرئيل (فسأل) أي: فسأله النبي- صلى الله عليه وسلم - عن هذه المسألة (فقال: ما المسئول عنها) أي: عن هذه المسألة (ثم قال جبرئيل) أي: بعد سؤاله ورجوعه من حضرة الله تعالى (دنوت من الله دنوا) فعول مصدر دنا بمعنى قرب (ما دنوت منه قط) أي: أذن لي أن أقرب منه تعالى أكثر مما قربت منه في سائر الأوقات. قال ابن الملك: ولعل زيادة تقريبه منه في هذه المرة لتعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد يزيد المحب في احترام رسول الحبيب لأجل الحبيب- انتهى كلامه. أو لأنه تقرب إليه تعالى بطلب العلم، ومن وعده تعالى أن من تقرب إليه شبرا تقرب عليه باعا، كذا في المرقاة (وكيف كان) أي: دنوك (سبعون ألف حجاب من نور) قالوا المراد به التكثير لا التحديد، و"من نور" إشارة إلى أن الحجب للملائكة نورانية، وهي حجب أسماءه وصفاته وأفعاله، وهي غير متناهية وإن كانت أصول الصفات الحقيقية سبعة أو ثمانية. والملائكة محجوبون بنور المهابة والعظمة والجلال، والإنسان منهم من حاله كذلك، ومنهم من حجب بحجب ظلمانية، كذا في اللمعات. وقال القاري: اعلم أن الحجب إنما تحيط بمقدر محسوس، وهو الخلق، فهم محجوبون عنه تعالى بمعاني أسماءه وصفاته وأفعاله، وأقرب الملائكة الحافون بالعرش، وهو محجوبون بنور المهابة والعظمة والكبرياء والجلال، وأما الآدميون فمنهم من حجب برؤية النعم عن المنعم، وبشاهدة الأسباب عن المسبب، ومنهم من حجب بالشهوات المباحة أو المحرمة، أو بالمال والنساء والبنين وزينة الحياة الدنيا والجاه. ومنه قول الصوفية: العلم حجاب. قال بعض مشائخنا: لكنه نوراني، فأفاد أن الحجب على

(4/364)


نوعين: نوراني وظلماني. وقد أشار إليه الحديث بقوله من نور- انتهى. وقال النووي: حقيقة الحجاب إنما يكون للأجسام المحدودة، والله تعالى منزه عن الجسم والحد، والمراد هنا المانع من رؤيته، وسمي ذلك المانع نورا أو نارا لأنهما يمنعان من الإدراك في العادة لشعاعهما- انتهى (شر البقاع أسواقها) لأنها محل الغفلة والمعصية (وخير البقاع مساجدها) لأنها محل الحضور والطاعة. قال الطيبي: أجاب عن الشر والخير، وإن كان السؤال عن الخير فقط تنبيها على بيت الرحمن وبيت الشيطان. قلت: الأشياء تتبين بأضدادها (رواه. . . .) كذا في أصل المصنف هنا بياض، وألحق به ابن حبان عن ابن عمر، ولذا قال الطيبي: ذكر الراوي أي: المخرج ملحق.
?الفصل الثالث?
748- (55) عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من جاء مسجدي هذا لم يأت إلا
لخير يتعلمه أو يعلمه؛ فهو بمنزلة المجهد في سبيل الله.

(4/365)


وقال السيد جمال الدين: هذا الحديث بهذا اللفظ لم أره مخرجا في شيء من الكتب المعتمدة المشهورة، ولكن رأيت في تخريج أحاديث المصابيح للسلمي أنه قال: وروى ابن حبان في صحيحه، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر، أن رجلا سأل النبي- صلى الله عليه وسلم - أي: البقاع خير؟ وأي البقاع الشر؟ قال: لا أدري حتى أسأل جبرئيل عليه السلام، فسأل جبرئيل فقال: لا أدري حتى أسأل ميكائيل، فجاء فقال: خير البقاع المساجد، وثر البقاع الأسواق- انتهى. وذكر المنذري حديث ابن عمر هذا في الترغيب مختصرا ليس فيه الدنو من الله ولا الحجب ونسبه للطبراني وابن حبان، وكذلك رواه الحاكم (ج2:ص8، 7) بأطول منه، وفي سنده عندهم جميعا عطاء بن السائب وكان اختلط وله شاهد من حديث جبير بن مطعم أن رجلا قال: يا رسول الله أي: البلدان أحب إلى الله وأي البلدان أبغض إلى الله؟ قال: لا أدري حتى أسأل جبرئيل، فأتاه فأخبره أن أحسن البقاع إلى الله المساجد، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق، رواه أحمد (ج4:ص81) والبزار واللفظ له. وأبويعلى، والحاكم وقال صحيح الإسناد، وفي الباب أيضا عن أنس أخرجه الطبراني في الأوسط. وقد تقدم في الفصل الأول حديث أبي هريرة بلفظ أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها. ومن هذا كله عرفت أن عدد السبعين وتكثير الحجب لم يرد في حديث صحيح، وأما الحجاب نفسه فقد ورد في صحيح مسلم على ما تقدم في صدر الكتاب من حديث أبي موسى مرفوعا.

(4/366)


748- قوله: (مسجدي هذا) قال السندي: أراد مسجده وتخصيصه بالذكر إما لخصوص هذا الحكم به، أو لأنه كان محلا للكلام حينئذ، وحكم سائر المساجد كحكمه- انتهى. وقال الشوكاني: فيه تصريح بأن الأجر المرتب على الدخول إنما يحصل لمن كان في مسجده - صلى الله عليه وسلم -، ولا يصح إلحاق غيره به من المساجد التي هي دونه في الفضيلة لأنه قياس مع الفارق (لم يأت) الجملة حال أي: حال كونه غير آت (إلا لخير) أي: علم أو عمل (يتعلمه أو يعلمه) أو للتنويع، وفي رواية أحمد: من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيرا أو ليعلمه. قال الشوكاني: فيه أن الثواب المذكور إنما يتسبب عن هذه الطاعة الخاصة لا عن كل طاعة، وفيه أيضا التنويه بشرف تعلم العلم وتعليمه، لأنه هو الخير الذي لا يقاوم قدره، وهذا إن جعل تنكير الخير للتعظيم، ويمكن إدراج كل تعلم وتعليم لخير أي: خير كان تحت ذلك، فيدخل كل ما فيه قربة يتعلمها الداخل أو يعلمها غيره، وفيه أيضا الإرشاد إلى أن التعليم والتعلم في المسجد أفضل من سائر الأمكنة (بمنزلة المجاهد) من حيث أن كلا منهما يريد إعلاء كلمة الله العليا، أو لأن كل واحد من العلم والجهاد عبادة نفعها متعد إلى عموم المسلمين،
فمن جاء لغير ذلك، فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره)) رواه ابن ماجه، والبيهقي في شعب الإيمان.
749- (56) وعن الحسن مرسلا، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يأتي على الناس زمان يكون حديثهم في مساجدهم في أمر دنياهم. فلا تجالسوهم؛ فليس لله فيهم حاجة)) رواه البيهقي في شعب الإيمان.

(4/367)


وقيل: وجه مشابه طلب العلم بالمجاهدة في سبيل الله أنه إحياء للدين، وإذلال للشيطان وإتعاب النفس، وكسر ذرى اللذة، كيف وقد أبيه لح التخلف عن الجهاد فقال تعالى ?وما كان المؤمنون لينفروا كافة? [122:9] الآية (ومن جاء لغير ذلك) أي: لغير ما ذكر من الخير، وهو العلم والعمل الذي يشمل الصلاة، والاعتكاف، والزيارة. قال الطيبي: يوهم أن الصلاة داخلة في الغير، وليس كذلك لأن الصلاة مفرغ عنها، وإنها مستثناة من أصل الكلام. وقال الشوكاني: ظاهر الحديث أن كل ما ليس فيه تعليم ولا تعلم من أنواع الخير لا يجوز فعله في المسجد، و لا بد من تقييده بما عدا الصلاة، والذكر والاعتكاف، ونحوها مما ورد فعله في المسجد أو الإرشاد إلى فعله فيه (فهو بمنزلة الرجل)إلخ. أي: بمنزلة من دخل السوق لا يبيع ولا يشتري بل لينظر إلى أمتعة الناس فهل يحصل له بذلك فائدة فكذلك هذا. وفيه أن مسجده - صلى الله عليه وسلم - سوق العلم فينبغي للناس شراء العلم بالتعلم والتعليم. وقيل المقصود: أن من لم يأت المسجد لخير يتعلمه أو يعلمه ينظر يوم القيامة إلى ثواب غيره ممن يعمل أعمال الخير في المسجد كمن ينظر إلى متاع غيره نظر إعجاب واستحسان وليس له مثله (رواه ابن ماجه) في السنة. قال في الزوائد: إسناده صحيح على شرط مسلم (والبيهقي في شعب الإيمان) وأخرجه أيضا أحمد، وفي الباب عن سهل بن سعد، وأبي أمامة، أخرجهما الطبراني بإسناد حسن.

(4/368)


749- قوله: (وعن الحسن) أي: البصري (حديثهم) أي: كلامهم ومحادثتهم (فلا تجالسوهم) أي: في المسجد أو مطلقا (فليس لله فيهم) أي: في إتيانهم إلى المسجد (حاجة) قال الطيبي: هو كناية عن براءة الله تعالى عنهم، وخروجهم عن ذمة الله، وإلا فالله سبحانه وتعالى منزه عن الحاجة مطلقا. وفيه تهديد عظيم، ووعيد شديد، وذلك أنه ظالم مبالغ في ظلمه حيث يضع الشيء في غير موضعه لأن المساجد لم تبن إلا للعبادات-انتهى (رواه البيهقي في شعب الإيمان) وفي حديث ابن مسعود: سيكون في آخر الزمان قوم يجلسون في المساجد حلقا حلقا أمانيهم الدنيا، فلا تجالسوهم، فإنه ليس لله فيهم حاجة، ذكره العراقي في شرح الترمذي. قال: وإسناده ضعيف فيه بزيغ أبوالخليل وهو ضعيف جدا، وفي الترغيب للمنذري عن عبدالله بن مسعود قال: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سيكون في آخر الزمان قوم يكون حديثهم في مساجدهم، ليس لله فيهم حاجة) رواه ابن حبان في صحيحه.
750- (57) وعن السائب بن يزيد، قال: ((كنت نائما في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: اذهب فائتني بهذين. فجئته بهما. فقال: ممن أنتما-أو من أين أنتما- قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما؛ ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله ؟)) رواه البخاري.

(4/369)


750- قوله: (كنت نائما) وفي رواية الإسماعيلي:كنت مضطجعا (فحصبني) أي: رماني بالحصباء، وهي الحجارة الصغيرة (فإذا هو) أي: الرجل الحاصب (عمر بن الخطاب) كلمة إذا للمفاجأة، وهو مبتدأ وخبره محذوف تقديره: فإذا عمر حاضر، أو قائم، أو واقف (فقال) أي: عمر للسائب (بهذين) قال الحافظ: لم أقف على تسمية هذين الرجلين لكن في رواية عبدالرزاق أنهما ثقفيان (ممن أنتما) أي: من أي: قبيلة وجماعة (أو من أين أنتما) أي: من أي: بلد (لو كنتما من أهل المدينة) وفي البخاري: لو كنتما أهل البلد. والمراد بالبلد المدينة. وهذا يدل على أنه كان تقدم نهيه عن ذلك. وفيه المعذرة لأهل الجهل بالحكم إذا كان مما يخفى مثله (لأوجعتكما) إذ لا عذر لكما حينئذ، قاله الطيبي. يعني أهل المدينة يعرفون حرمة مسجده - صلى الله عليه وسلم - أكثر من غيرهم، فلا يسامحون مسامحة الغرباء، إذ يمكن أن يكونوا قريبي العهد بالإسلام وبمعرفة الأحكام. وفي رواية الإسماعيلي: لأوجعتكما جلدا. ومن هذه الجهة يتبين كون هذا الحديث له حكم الرفع. لأن عمر لا يتوعد هما بالجلد إلا على مخالفة أمر توقيفي (ترفعان) جملة استئنافية، وهي في الحقيقة جواب عن سؤال مقدر كأنهما قالا له: لم توجعنا؟ قال: لأنكما ترفعان أصواتكما في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - (أصواتكما) عبر بأصواتكما بالجمع دون صوتيكما بالتثنية لأن المضاف المثنى معنى إذا كان جزء ما أضيف إليه فالأصح الأجود الأفصح أن يذكر بالجمع كقوله تعالى: ?فقد صغت قلوبكما? [4:66] ويجوز إفراده نحو أكلت رأس شاتين. والتثنية مع إصالتها قليلة الاستعمال، وإن لم يكن جزئه فالأكثر مجيئة بلفظ التثنية نحو سل الزيدان سيفيهما. وإن أمن اللبس جاز جعل المضاف بلفظ الجمع كما يعذبان في قبورهما، قاله المالكي، وفي رواية الإسماعيلي: يرفعكما أصواتكما. وإنما أنكر عليهما عمر لأنهما رفعا أصواتهما فيما لا يحتاجان إليه من اللغط الذي لا يجوز في

(4/370)


المسجد، فيمنع رفع الصوت في المسجد فيما لا منفعة فيه، وأما إذا ألجئت الضرورة إليه فلا منع لعدم إنكاره - صلى الله عليه وسلم - على ابن أبي حدرد وكعب بن مالك رفع أصواتهما في المسجد عند تقاضى الدين وقد وردت أحاديث في النهي عن رفع الصوت في المساجد مطلقا، لكنها ضعيفة. أخرج ابن ماجه بعضها. وقيل: أحاديث المنع محمولة على ما إذا كان الصوت متفاحشا، وحديث الإباحة محمول على ما إذا كان غير متفاحش (في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) إذ مع شرافته له زيادة مزية كون حجرته - صلى الله عليه وسلم - متصلة بالمسجد ( رواه البخاري) وأخرجه
751- (58) وعن مالك، قال: ((بنى عمر رحبة في ناحية المسجد تسمى الطيحاء، وقال: من كان
يريد أن يلغط، أو ينشد شعرا، أو يرفع صوته؛ فليخرج إلى هذه الرحبة)) رواه في الموطأ.
أيضا الإسماعيلي. وروى عبدالرزاق عن نافع قال: كان عمر يقول:لا تكثروا اللغط، فدخل المسجد فإذا هو برجلين قد ارتفعت أصواتهما، فقال: إن مسجدنا هذا لا يرفع فيه الصوت – الحديث. وفيه انقطاع لأن نافعا لم يدرك ذلك الزمان.

(4/371)


751- قوله: (عن مالك) بن أنس الإمام صاحب المذهب المشهور إمام دار الهجرة (قال: بنى عمر رحبة) من بلاغات مالك، ففي الموطأ مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب بنى رحبة. قال الزرقاني: كذا ليحيى-أى ابن يحيى المصمودي الأندلسي – ولغيره: مالك، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيدالله عن سالم بن عبدالله بن عمر، عن أبيه أن عمر بن الخطاب (في ناحية المسجد) أي: بنى فضاء في خارج المسجد. قال في القاموس: رحبة المكان – وتسكن –ساحته ومتسعه. وقال الطيبي: الرحبة بالفتح الصحراء بين أفنية القوم، ورحبة المسجد ساحته (تسمى) أي: تلك الرحبة (البطيحاء) بضم الباء وفتح الطاء تصغير البطحاء، والبطحاء مسيل واسع فيه دقاق الحصى، وتسمية الرحبة بها إما لسعتها أو لوجود دقاق الحصى فيها. قال الباجي: هذه البطيحاء بناء يرفع على الأرض أزيد من الذراع، ويحدق حواليه بشئ من جدار قصير، ويوسع كهيئة الرحبة، ويبسط بالحصباء يجتمع فيها للجلوس-انتهى (وقال) أي: عمر (من كان يريد أن يلغط) بفتح أوله وثالثه أي: يتكلم بكلام فيه جلبة واختلاط، ولا يتبين. قال الطيبي: اللغط – بفتح الغين المعجمة وسكونها – صوت وضجة لا يفهم معناه. قال القاري: والمراد من أراد أن يتكلم بما لا يعنيه (أو ينشد شعرا) لنفسه أو لغيره أي: وإن كان مباحا (أو يرفع صوته) ولو بالذكر (فليخرج إلى هذه الرحبة) فإن الأمر فيها أسهل وأهون. قال الباجي: لما رأى عمر بن الخطاب كثرة جلوس الناس في المسجد وتحدثهم فيه، وربما أخرجهم ذلك إلى اللغط- وهو المختلط من القول وارتفاع الأصوات – وربما جرى في أثناء ذلك إنشاد شعر، بنى هذه البطيحاء إلى جانب المسجد وجعلها لذلك ليتخلص المسجد لذكر الله وما يحسن من القول، وينزه من اللغط وإنشاد الشعر، ولم يرد أن ذلك محرم. وإنما ذلك على معنى الكراهية، وتنزيهه المساجد، لاسيما مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيجب أن ينزه المسجد من مثل هذا، ومعنى هذا أن المسجد مما

(4/372)


أمرنا بتعظيمه وتوقيره. والثانية لأنه مبنى للصلاة وقد أمرنا أن نأتيها وعلينا السكنية والوقار، فبأن يلتزم ذلك بموضعها المتخذ لها أولى (رواه) أي: مالك (في الموطأ) بالهمزة والألف، و قد سبق الاعتراض على مثل صنيع المؤلف هذا، وكان حقه في هذا المقام أن يقول: وعن عمر أنه بنى رحبة، ثم يقول: رواه مالك بلاغا. وقد تقدم أيضا أن ابن عبدالبر صنف كتابا وصل ما في الموطأ من المرسل والمنقطع والمعضل،
752- (59) وعن أنس، قال: ((رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - نخامة في القبلة؛ فشق ذلك عليه حتى رئى في وجهه، فقام فحكه بيده، فقال: إن أحدكم إذا قام في الصلاة فإنما يناجي ربه، وإن ربه بينه وبين القبلة؛ فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته، ولكن عن يساره، أو تحت قدمه،
وقال: جميع ما فيه من قوله "بلغني" ومن قوله "عن الثقة عنده" مما لم يسنده، أحد وستون حديثا كلها مسندة من غير طريق مالك إلا أربعة أحاديث، ثم ذكرها. وأثر عمر هذا ليس من الأربعة، فهو مسند إلى عمر في موضعه. وقد تقدم عن الزرقاني: أن صورة البلاغ إنما هي ليحيى، وأما غيره فقد ذكره مسندا.

(4/373)


752- قوله: (نخامة) بالميم مع ضم النون، قيل: هي ما يخرج من الصدر، وقيل: النخاعة- بالعين – من الصدر، و–بالميم – من الرأس. وقيل: النخاعة هي البزاقة التي تخرج من أقصى الحلق (في القبلة) أي: في الحائط الذي في جهة القبلة (فشق) أي: صعب (ذلك) أي: ما ذكر من رؤية النخامة (حتى رئى) بضم الرأى وكسر الهمزة وفتح الياء، أي: شوهد أثر المشقة. قال الطيبي: الضمير الذي أقيم مقام الفاعل راجع إلى معنى قوله: فشق ذلك عليه. وهو الكراهة، وفي رواية النسائي: فغضب حتى أحمر وجهه (فكه) أي: أثر النخامة (بيده) المباركة تعليما لأمته، وتواضحا لربه جل جلاله ومحبة لبيته (إذا قام في الصلاة) أي: دخل فيها سواء كان في المسجد أو غيره (فإنما يناجي ربه) من جهة مساررته بالقرآن والأذكار فكأنه يناجيه تعالى، والرب تعالى يناجيه من جهة لازم ذلك، وهو إرادة الخير، فهو من باب المجاز، لأن القرينة صارفة عن إرادة الحقيقة، إذ لا كلام محسوسا إلا من جهة العبد. قال الحافظ: المراد بالمناجاة من قبل العبد حقيقة النجوى. ومن قبل الرب لازم ذلك، فيكون مجازا عن إقباله على العبد بالرحمة والرضوان (وإن) بكسر الهمزة (ربه بينه وبين القبلة) قال الخطابي: معناه أن توجهه إلى القبلة مفض بالقصد منه إلى ربه، فصار في التقدير كأن مقصوده بينه وبين القبلة ، وقيل: هو على حذف مضاف أي: عظمة ربه، أو ثواب ربه، أو إطلاع ربه على ما بينه وبين القبلة أي: فيجب على المصلى إكرام قبلته بما يكرم به من يناجيه من المخلوقين عند استقبالهم بوجهه، ومن أعظم الجفاء وسوء الأدب أن تتنخم في توجهك إلى رب الأرباب، وقد أعلما الله تعالى بإقباله على من توجه إليه (فلا يبزقن أحدكم قبل) بكسر القاف وفتح الموحدة إلى جهة (قبلته) التي عظمها الله، فلا تقابل بالبزاق المقتضي للاستخفاف والاحتقار، والأصح أن النهي للتحريم. قيل البزاق إلى القبلة دائما ممنوع، ففي صحيحي ابن خزيمة وابن حبان من حديث

(4/374)


حذيفة مرفوعا: من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه. وفي رواية لابن خزيمة من حديث ابن عمر مرفوعا: يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه (ولكن) أي: ليبصق (عن يساره) أي: إذا كان فارغا لا عن يمينه، فإن عن يمينيه كاتب الحسنات. كما رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح (أو تحت قدمه) أي: اليسرى. وأو للتنويع وهو محمول على ما إذا لم يكن يساره
ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه، ثم رد بعضه على بعض، فقال: أو يفعل هكذا)) رواه البخاري.
753- (60) وعن السائب بن خلاد - وهو رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - - قال: ((إن رجلا أم قوما، فبصق في القبلة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقومه حين فرغ: لا يصلي لكم. فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم، فمنعوه، فأخبروه بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: نعم. وحسبت
فارغا (ثم أخذ) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (ثم رد بعضه) أي: بعض ردائه (أو يفعل) عطف على المقدر بعد حرف الاستدراك، أي: ولكن ليبزق عن يساره أو يفعل هكذا، أي: مثل هذا الذي فعلته، وفيه البيان بالفعل لأنه أوقع في نفس السامع، وليست لفظه أو هنا للشك أو للتخيير بل للتنويع، فهو محمول على ما إذا بدره البزاق. فقد رواه مسلم من حديث جابر بلفظ: وليبصق عن يساره وتحت رجله اليسرى، فإن عجلت به بادرة فليقل بثوبه هكذا، ثم طوى بعضه على بعض. ولابن أبي شيبه وأبي داود من حديث أبي سعيد نحوه، وفسره في رواية أبي داود بأن يتفل في ثوبه ثم يرد بعضه على بعض (رواه البخاري) من طريق حميد عن أنس، وحمد مدلس، لكن قد صرح عبدالرزاق في روايته بسماع حميد من أنس، فأمن تدليسه.

(4/375)


753- قوله: (وعن السائب بن خلاد) بمفتوحة وشدة لام وإهمال دال، ابن سويد بن ثعلبة بن عمرو الخرزجي الأنصاري، أبوسهلة المدني، قال أبوعبيد: شهد بدرا، وولي اليمن لمعاوية. وله أحاديث، روى عنه ابنه خلاد، وصالح بن حيوان، وعطاء بن يسار، وغيرهم. وقيل استعمله عمر على اليمن. مات سنة (71) فيما قال الواقدي (إن رجلا أم قوما) أي: صلى بهم إماما، ولعلهم كانوا وفدا. (فبصق) أي: الرجل (في القبلة) أي: في جهتها (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقومه) لما رأى منه قلة الأدب، وليس في نسخ أبي داود التي بأيدينا لفظة "لقومه" (حين فرغ) أي: هذا الرجل من الصلاة (لا يصلي لكم) بإثبات الياء، أي: لا يكن هذا الرجل إماما لكم في الصلاة بعد هذا. قال في شرح السنة: أصل الكلام "لاتصل لهم" فعدل إلى النفي ليؤذن بأنه لا يصلح للإمامة، وأن بينه وبينها منافاة. وأيضا في الإعراض عنه غضب شديد حيث لم يجعله محلا للخطاب، وكأن النهي في غيبته، كذا في المرقاة (فأراد) أي: ذلك الرجل (بعد ذلك) أي: بعد القول الذي ظهر منه - صلى الله عليه وسلم - (أن يصلي لهم) أي: يؤمهم، ولعله لم يبلغه قوله - صلى الله عليه وسلم - فيه (فمنعوه) من الإمامة، فسأل عن سبب المنع (فأخبره وبقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو: لا يصلي لكم (فذكر) أي: الرجل (ذلك) أي: منع القوم إياه عن الإمامة وأنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك (فقال: نعم) أنا أمرتهم بذلك (وحسبت) أي: قال السائب بن خلاد:
أنه قال: إنك قد آذيت الله ورسوله)) رواه أبوداود.

(4/376)


754- (61) وعن معاذ بن جبل: ((احتبس عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة عن صلاة لصبح، حتى كدنا نتراءى عين الشمس، فخرج سريعا، فثوب بالصلاة، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتجوز في صلاته. فلما سلم دعا بصوته، فقال لنا: على مصافكم كما أنتم، ثم انفتل إلينا، ثم قال: أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة: إني قمت من الليل، فتوضأت وصليت ما قدر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة، فقال: يا محمد! قلت:
حسبت (أنه) أي: الرسول - صلى الله عليه وسلم - (قال) أي: له زيادة على نعم (إنك قد آذيت الله ورسوله) أي: فعلت فعلا لا يرضى الله ورسوله. وفي هذا القول زجر عظيم. قال الله تعالى: ?إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا? [57:33] ولكن لما فعل الرجل ذلك الفعل جهلا وخطأ لم يعده كفرا. وقيل: يحتمل أن يكون ذلك الرجل منافقا، وعلم - صلى الله عليه وسلم - نفاقه إذ ذاك فنهى عن إمامته (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه. وروى الطبراني في الكبير بإسناد جيد عن عبدالله بن عمر، قال أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا يصلي بالناس الظهر، فتفل في القبلة وهو يصلي للناس، فلما كانت صلاة العصر أرسل إلى آخر فأشفق الجل الأول، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله ! أأنزل في شيء؟ قال لا، ولكنك تفلت بين يديك وأنت قائم تؤم الناس، فآذيت الله والملائكة، كذا في الترغيب.

(4/377)


754- قوله: (احتبس) بصيغة المعلوم، ويحتمل أن يكون على بناء المفعول (ذات غداة) لفظة ذات مقحمة أي: غداة (عن صلاة الصبح) بدل اشتمال بإعادة الجار (حتى كدنا) بكسر الكاف أي: قاربنا (نتراءى) أي: نرى، وعدل عنه إلى ذلك لما فيه من كثرة الاعتناء بالفعل، وسبب تلك الكثرة خوف طلوعها المفوت لأداء الصبح (فخرج سريعا) أي: مسرعا أو خروجا سريعا (فثوب بالصلاة) بصيغة المجهول من التثويب أي: أقيم بها (وتجوز في صلاته) أي: خفف واقتصر على خلاف عادته مع أداء الأركان والواجبات والسنن (دعا) أي: نادى (بصوته فقال لنا) أي: رفع صوته بقوله لنا (على مصافكم) أي: اثبتوا عليها جمع مصف وهو موضع الصف (كما أنتم) أي: ما أنتم عليه، أو ثبوتا مثل الثبوت الذي أنتم عليه قبل النداء من غير تغيير وتقديم وتأخير (ثم انفتل علينا) أي: توجه إلينا وأقبل علينا (أما) بالتخفيف للتنبيه (ما حبسني) ما موصولة أو موصوفة (الغداة) بالنصب على الظرفية (من الليل) أي: في الليل (فنعست) بالفتح من النعاس وهو النوم الخفيف من باب نصر وفتح (استثقلت) بصيغة المعلوم أو المجهول أي: غلب على النعاس (فإذا أنا بربي) إذا
لبيك رب! قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري. قالها ثلاثا. قال: فرأيته وضع كفه بين
كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي، فتجلى لي كل شيء وعرفت.

(4/378)


للمفاجأة، أي: فاجأ استثقالي رؤيتي ربي تبارك وتعالى، وهذا ظاهر في أن هذه الرؤية في النوم فلا إشكال فيه (رب) بحذف النداء وياء الإضافة (فيم) ما الاستفهامية إذا دخل عليه حرف الجر حذف ألفها (قالها ثلاثا) أي: قال الله تعالى هذه المقولة المترتب عليها جوابها ثلاثا، وأجبت عنها بلا أدري تأكيدا للاعتراف بعدم العلم (فتجلى لي كل شيء) أي: مما أذن الله في ظهوره لي مما في السموات والأرض مطلقا، أو مما يختصم فيه الملأ الأعلى خصوصا وهذا هو الظاهر. وقد تمسك به بعض القبوريين على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان عالما بجميع ما كان وما يكون من المغيبات علما كليا تفصيليا محيطا بناء على أن لفظ الكل من ألفاظ العموم والاستغراق وإحاطة الأفراد. ولا متمسك لهم فيه لأن لفظ الكل لا يراد به الاستغراق دائما كما في قوله تعالى: ?كل نفس ذائقة الموت? [57:29] وقد أطلق لفظ النفس على ذاته تعالى في قوله: ?تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك? [116:5] وكما في قوله تعالى: ?وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا? [79:18] وقد علم أن الملك كان لا يغصب إلا السفن الصالحة الغير المعيبة. وكما في قوله تعالى: ?الله خالق كل شيء? [16:13] وقد ورد إطلاق الشيء على الله في قوله تعالى: ?قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد? [19:6] وكما في قوله تعالى: ?تدمر كل شيء? [25:46] وقوله تعالى: ?يجبى إليه ثمرات كل شيء? [57:28] وقوله تعالى: ?وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق? [27:22] وكما في قوله- صلى الله عليه وسلم -: (كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب)، وفي قوله: (كل مصور في النار). وقول ابن مسعود: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى يكبر في كل خفض ورفع. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (كل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج) (وقد خصه الحنفية بالإمام والمنفرد، واستثنوا منه المقتدي) وقوله: (كل شيء خلق من الماء). وقوله: (كل بني آدم

(4/379)


خطاؤن). وقوله: (كل بني آدم حسود). وغير ذلك من الآيات والأحاديث. ولا يخفى على من له أدنى شيء من العقل والفهم أن لفظ الكل في هذه الآيات والأحاديث ليس لا لاستغراق وإحاطة الأفراد لفساد المعنى في بعضها ولزوم الاستحالة في بعضها، مع ذلك إن حمل على العموم والاستغراق فعلم بذلك أن لفظ الكل لا يكون دائما للاستغراق الحقيقي التام، ولذلك اتفق العلماء على جواز تخصيص ألفاظ العموم كما صرح به في كشف الأسرار وغيره من كتب الأصول حتى اشتهر عند الشافعية ما من عام إلا وقد خص منه البغض. وقد صرح رئيس الطائفة القبورية في الهند الشيخ البريلوي في فتاواه المطبوعة: أنه قد يطلق الكل ويراد به الأكثر. وإذا كان الأمر كذلك جاز، بل وجب أن يقال: إن لفظ الكل في حديث معاذ بن جبل هذا ليس للاستغراق وعموم الأفراد لقيام القرائن القوية والدلائل الواضحة على ذلك، كيف لا وقد صرح رئيسهم المذكور وغيره من أتباعه أن ذات الله تعالى وصفاته، وتجلياته، وما يكون بعد القيامة خارجة من علمه - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: لا ندعى أن علمه - صلى الله عليه وسلم - محيط بذاته تقدس
فقال: يا محمد! قلت: لبيك رب! قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات. قال: وما هن؟ قلت: مشى الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء حين الكريهات. قال: ثم فيم؟ قلت: في الدرجات. قال: وما هن؟ قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة والناس نيام. قال: سل. قال: قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفرلي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربني إلى حبك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنها حق فادرسوها ثم تعلموها)).

(4/380)


وتعالى، وصفاته وتجلياته، وما يكون بعد القيامة، بل نقول: إنه - صلى الله عليه وسلم - كان عالما بجميع ما كان من بدء الخلق وما يكون إلى قيام الساعة إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار بعلم كلي تفصيلي محيط، فهذا كما ترى صريح في أنهم قد خصوا علمه عليه السلام بما كان من بدء الخلق إلى قيام الساعة فقط، واستثنوا منه ماعدا ذلك؟ فكأنهم صرحوا بصنيعهم هذا بأن لفظ الكل في حديث معاذ هذا ليس لاستغراق والعموم. وهذا هو المطلوب. وإذا كان كذلك بطل استدلالهم به على ما ابتدعوه. ومما يدل على عدم إرادة الاستغراق في الحديث، الآيات والأحاديث الصريحة الدالة على نفى علمه - صلى الله عليه وسلم - ببعض المغيبات من الممكنات، وقد تقدمت الإشارة إليه. ومما يدل على ذلك أيضا سياق هذا الحديث، فإنه يدل على أن المراد بقوله: تجلى لي كل شيء أي: ظهر وانكشف لي كل شيء مما يتعلق باختصام الملأ الأعلى، لا جميع ما كان وما يكون كما لا يخفى على المتأمل (وعرفت) تأكيد لما قبله (في الكفارات) أي: للسيئات (إلى الجماعات) أي: الصلوات المكتوبات (حين الكريهات) أي: وقت المكروهات من أيام البرد أو أزمنة الغلاء في ثمن الماء (قال: ثم فيم؟) أي: فيم يختصم الملأ الأعلى أيضا (في الدرجات) أي: في ما يرفع الجنات العاليات (ولين الكلام) أي: لطفه مع الأنام (قال: سل، قال: قلت) كذا في بعض النسخ للمشكاة وفي جامع الترمذي "قال: قلت" أي: بحذف"قال" الثانية، وهكذا في مسند أحمد (ج5:ص243) (وأسألك حبك) قال الطيبي: يحتمل أن يكون معناه أسألك حبك إياي، أو حبي إياك. وعلى هذا يحمل قوله: وحب من يحبك. وقيل: الإضافة هنا إلى المفعول أنسب (وحب عمل يقربني إلى حبك) قال الطيبي: هذا يدل على أنه طالب لمحبته ليعمل حتى يكون وسيلة إلى محبة الله إياه، فينبغي أن يحمل الحديث على أقصى ما يكون من المحبة في الطرفين. ولعل السر في تسميته بحبيب الله لا يخلو من هذا القول-

(4/381)


انتهى (إنها) أي: هذه الرؤيا (حق) لأن رؤيا الأنبياء وحي (فادرسوها) أي: فاحفظوا الألفاظ التي ذكرتها لكم في ضمنها، أو أن هذه
رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح، سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث. فقال: هذا حديث حسن صحيح.
755- (62) وعن عبدالله بن عمرو بن العاص، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا دخل المسجد: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم، قال: فإذا قال ذلك، قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم)) رواه أبوداود.
الكلمات حق فادرسوها، أي: اقرؤوها (ثم تعلموها) أي: معانيها الدالة هي عليها. قال الطيبي: أي: لتعلموها، فحذف اللام أي: لام الأمر (رواه أحمد والترمذي) في تفسير سورة ص. وأخرجه أيضا ابن خزيمة والدارقطني والحاكم والطبراني وابن عدي ومحمد بن نصر وابن مردويه وغيرهم. وهذا الحديث هو الذي أشار إليه المصنف بعد ذكر حديث عبدالرحمن ابن عائش في الفصل الثاني عن الدارمي بقوله: وللترمذي مثله عنه، وعن ابن عباس، ومعاذ بن جبل. وقد تقدم الكلام فيه هناك مفصلا.

(4/382)


755- قوله: (إذا دخل المسجد) أي: أراد دخوله عند وصول بابه (العظيم) ذاتا وصفة (وسلطانه) أي غلبته وقدرته (القديم) أي: الأزلي الأبدي (من الشيطان) مأخوذ من شطن أي: بعد، أي: المبعد من رحمة الله تعالى (الرجيم) فعيل بمعنى مفعول أي: المطرود من باب الله تعالى، أو المشتوم بلعنة الله. والظاهر أنه خبر معناه الدعاء يعني أللهم احفظني من وسوسته وإغوائه، وخطراته، وإضلاله، فإنه السبب في الضلالة، والباعث على الغواية والجهالة، وإلا ففي الحقيقة إن الله هو الهادي المضل، ويحتمل أن يكون التعوذ من صفاته وأخلاقه من الحسد، والعجب والكبر والغرور والإباء والإغواء (قال) أي: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فإذا قال) أي: المؤمن (ذلك) أي: القول المذكور (قال الشيطان حفظ) أي: قائل هذا القول (مني سائر اليوم) أي: بقيته أو جميعه ويقاس عليه الليل، أو يراد باليوم مطلق الوقت فيشمله، قال ابن حجر المكي: إن أريد حفظه من جنس الشياطين تعين حمله على حفظه من كل شيء مخصوص كأكبر الكبائر، أو من إبليس اللعين فقط، بقى الحفظ على عمومه، وما يقع منه من إغواء جنوده. وإنما ذكرت ذلك لأنا نرى ونعلم من يقول ذلك، ويقع في كثير من الذنوب، فتعين حمل الحديث على ما ذكرته- انتهى. قال القاري: وفيه أن الظاهر أن لام الشيطان للعهد والمراد منه قرينة المؤكل على إغوائه، وبه يرتفع أصل الإشكال، والله أعلم (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري.
756- (63) وعن عطاء بن يسار، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) رواه مالك مرسلا.
757- (64) وعن معاذ بن جبل، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب الصلاة في الحيطان)).

(4/383)


756- قوله: (اللهم لا تجعل قبري وثنا) بفتح الواو والمثلثة، وهو كل ماله جثة معمولة من الجواهر، أو الخشب والحجارة كصورة الآدمي. والصنم الصورة بلا جثة. وقيل: هما سواء. وقد يطلق الوثن على غير الصورة. ومنه حديث عدي بن حاتم: قدمت على النبي- صلى الله عليه وسلم -وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: ألق هذا الوثن عنك (يعبد) بصيغة المجهول أي: لا تجعل قبري مثل الوثن في تعظيم الناس وعودهم للزيارة بعد بدءهم واستقبالهم نحوه في السجود، كما نسمع ونشاهد الآن في بعض المزارات والمشاهد، قاله القاري. وقال الباجي:دعاءه - صلى الله عليه وسلم -أن لا يجعل قبره وثنا يعبد، تواضعا، والتزاما للعبودية لله تعالى، وإقرار بالعبودية، وكراهية أن يشركه أحد في عبادته، وعن مالك أنه كره لذلك أن يدفن في المسجد (اشتد) استئناف كأنه قيل: لم تدعوا بهذا الدعاء فأجاب بقوله اشتد (غضب الله) ترحما على أمته وتعطفا لهم، قاله الطيبي. وقال القاري: والأظهر أنه إخبار عما وقع في الأمم السالفة تحذيرا للأمة من أن يفعلوا فعلهم فيشتد غضبه عليهم (على قوم) هم اليهود والنصارى كما تقدم (اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) تقدم الكلام عليه (رواه مالك) أي: عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار (مرسلا) أي: بحذف الصحابي، قال ابن عبدالبر: لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث، وهو حديث غريب لا يكاد يوجد. قال: وزعم البزار أن مالكا لم يتابعه أحد على هذا الحديث إلا عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم، وليس بمحفوظ عن النبي- صلى الله عليه وسلم -بوجه من الوجوه إلا بهذا الوجه لا إسناد له غيره، إلا أن عمر بن محمد أسنده عن أبي سعيد الخدري، عن النبي- صلى الله عليه وسلم -، وعمر بن محمد ثقة. وقوله: اشتد غضب الله- الحديث. محفوظ من طرق كثيرة صحاح، هذا كلام البزار. قال ابن عبدالبر: مالك عند جميعهم حجة فيما نقل. وقد أسند حديثه هذا عمر بن محمد بن عبدالله بن عمر بن الخطاب، وهو من ثقات أشراف

(4/384)


أهل المدينة. فالحديث صحيح عند من يحتج بالمراسيل. وعند من قال بالمسند لإسناد عمر بن محمد، وهو ممن تقبل زيادته، وله شاهد عند العقيلي من طريق سفيان، عن حمزة بن المغيرة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رفعه: أللهم لا تجعل قبري وثنا، لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، كذا في شرح الزرقاني، وتنوير الحوا لك للسيوطي. وفي مجمع الزوائد (ج2: ص28) عن أبي سعيد الخدري أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: أللهم إني أعوذ بك أن يتخذ قبري وثنا، فإن الله تبارك وتعالى اشتد غضبه على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. رواه البزار. وفيه عمر بن صهبان، وقد اجمعوا على ضعفه.
757- قوله: (يستحب) بصيغة المعلوم (الصلاة) أي: النافلة. أو مطلقا (في الحيطان) بكسر المهملة جمع الحائط،
قال بعض رواته: يعني البساتين. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن أبي جعفر، وقد ضعفه يحيى بن سعيد وغيره.

(4/385)


قال الجزري: الحائط البستان من النخل إذا كان عليه حائط وهو الجدار. قال العراقي: استحبابه - صلى الله عليه وسلم - الصلاة في الحيطان يحتمل معاني: أحدها: قصد الخلوة عن الناس فيها، وبه جزم ابن العربي. الثاني: قصد حلول البركة في ثمارها ببركة الصلاة، فإنها جالبة للرزق. الثالث: أن هذا من كرامة المزور أن يصلي في مكانه. الرابع: أنها تحية كل منزل نزله أو توديعه، كذا في قوت المغتذي (قال بعض رواته) هو أبوداود الطيالسي الراوي للحديث عن الحسن بن أبي جعفر (يعني البساتين) جمع بستان (رواه الترمذي) وفي بعض النسخ "رواه أحمد والترمذي" وهو غلط من الناسخ (لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن أبي جعفر) الجفري- بضم الجيم وسكون الفاء- نسبة إلى جفرة خالد مكان بالصرة. واسم أبيه عجلان. وقيل: عمرو الأزدي. ويقال: العدوى البصري (وقد ضعفه يحيى بن سعيد وغيره) كأحمد وابن المديني وأبي داود والعجلى. وقال الساجي: منكر الحديث، من مناكيره حديث معاذ "كان يعجبه الصلاة في الحيطان" وقال عمرو بن علي: صدوق، منكر الحديث. كان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه. وقال الأزدي: هو عندي ممن لا يتعمد الكذب، وهو صدوق. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال ابن حبان: من خيار عباد الله الخشن. ضعفه يحيى وتركه أحمد، وكان من المتعبدين المجابى الدعوة، ولكنه ممن غفل عن صناعة الحديث وحفظه، فإذا حدث وهم وقلب الأسانيد وهو لا يعلم حتى صار ممن لا يحتج به، وإن كان فاضلا. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف الحديث مع عبادته وفضله. مات سنة (167) والظاهر أنه ضعيف من قبل حفظه. ويحيى بن سعيد المذكور هو يحيى بن سعيد بن فروخ الإمام العلم سيد الحفاظ القطان أبوسعيد التميمي مولاهم البصري الأحول، أحد أئمة الجرح والتعديل، وأحد فقهاء المحدثين ومجتهديهم، ولد سنة (120) روى عن هشام بن عروة، وحميد الطويل، والأعمش، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وطبقتهم، فأكثر جدا. وعنه ابن المهدي، وأحمد ومسدد

(4/386)


وإسحاق وابن المديني، وابن معين، وعمرو بن على الفلاس، وبندار وأمم سواهم. قال الحافظ: ثقة متقن، حافظ إمام قدوة. وقال أحمد: ما رأت عيناي مثله. وقال ابن المديني: ما رأيت أحدا أعلم بالرجال منه. وقال إسحاق بن إبراهيم بن أبي حبيب الشهيد: كنت أرى يحيى القطان يصلي العصر ثم يستند فيقف بين يديه على بن المديني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين والشاذكوني، وعمرو بن على يسألونه عن الحديث وهم قيام هيبة له، وقال ابن عمار: كنت إذا نظرت إلى يحيى القطان ظننت أنه لا يحسن شيئا، فإذا تكلم أنصت له الفقهاء. وقال بندار: اختلفت إلى يحيى بن سعيد عشرين سنة، فما أظن أنه عصى الله قط. وقال ابن معين: أقام يحيى القطان عشرين سنة يختم القرآن في كل ليلة، ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة. وقال ابن حبان: كان من سادات أهل زمانه حفظا، وورعا، وفهما، وفضلا، ودينا، وعلما، وهو الذي مهد لأهل العراق رسم الحديث، وأمعن في البحث عن
758- (65) وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((صلاة الرجل في بيته بصلاة، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة، وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة، وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة، وصلاته في مسجدي بخمسين ألف صلاة، وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة)). رواه ابن ماجه.
الثقات، وترك الضعفاء. مات سنة (198) وله (78) سنة. قال الذهبي في الميزان في ترجمة ابن عيينة: إن يحيى القطان متعنت جدا في الرجال، وهو غير ابن القطان الحافظ الإمام أبي الحسن على بن محمد الحميري الفاسي الشهير بابن القطان.

(4/387)


758- قوله: (صلاة الرجل في بيته) أي: منفردا كذا قيل: والأظهر أن يكون أعم (بصلاة) أي: محسوبة بصلاة واحدة أي: لا يزداد له في الأجر بسبب خصوص المكان، وهذا لا ينافي الزيادة التي ورد بها الشرع عموما، كقوله تعالى: ?من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها? [160:6] (في مسجد القبائل) أي: في المسجد الذي تجتمع فيه القبائل للصلاة جماعة. والمراد به مسجد الحي والمحلة (بخمس وعشرين صلاة) أي: بالإضافة إلى صلاته في بيته لا مطلقا (وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه) بتشديد الميم أي: يصلي فيه الجمعة (بخمس مائة صلاة) أي: بالنسبة إلى مسجد الحي (في المسجد الأقصى) أي: مسجد بيت المقدس، وسمي به لبعده من المسجد الحرام. وقيل: لبعده عن الأقذار والخبائث. والمقدس المطهر عن ذلك (بخمسين ألف صلاة) أي: بالإضافة إلى ما قبله (وصلاته في مسجدي بخمسين ألف صلاة) أي: بالنسبة إلى ما يليه (وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة) أي: بالنسبة إلى مسجد المدينة على ما يدل عليه سياق الكلام، فيحتاج إلى ضرب بعض الأعداد في بعض، فإنه ينتج مضاعفة كثيرة، وبه يجمع بين الروايات، ذكره القاري. قال ابن حجر المكي: قيل: إن هذا الحديث منكر لأنه مخالف لما رواه الثقات، وقد يقال: يمكن الجمع بينه وبين ما رووه بأن روايتهم "إن صلاة الجماعة تعدل صلاة المنفرد بخمس أو سبع وعشرين" تحمل على أن هذا كان أولا، ثم زيد هذا المقدار في المسجد الذي تقام فيه الجمعة، وكذا ما جاء "أن صلاة المسجد الأقصى بألف في سائر المساجد، وصلاة بمسجده - صلى الله عليه وسلم - بألف صلاة في المسجد الأقصى" كان أولا ثم زيد فيهما، فجعل الأول بخمسين ألفا في سائر المساجد، والثاني بخمسين ألفا في المسجد الأقصى، ومسجد مكة بمائة ألف في مسجده عليه الصلاة والسلام، وحينئذ فتزداد المضاعفة في مسجد مكة بأضعاف مضاعفة، فتأمله ضاربا مائة ألف في خمسين ألف ألف، ثم الحاصل في الخمسين ألفا تجد صحة ما

(4/388)


ذكرته، كذا في المرقاة (رواه ابن ماجه) في أواخر الصلاة من طريق أبي الخطاب الدمشقي، عن زريق أبي عبدالله الألهاني عن أنس. قال في الزوائد: إسناده ضعيف، لأن أبا الخطاب الدمشقي لا يعرف حاله. وزريق فيه مقال، حكى عن أبي زرعة أنه
759- (66) وعن أبي ذر، قال: ((قلت: يا رسول الله ! أي: مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام. قال: قلت: ثم أي؟ قال: ثم مسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عاما؛
قال لا بأس به. ذكره ابن حبان في الثقات وفي الضعفاء، وقال يتفرد بالأشياء التي لا تشبه حديث الإثبات. لا يجوز الاحتجاج بخبره إلا عند الوفاق- انتهى. وقال الذهبي في الميزان: إنه حديث منكر جدا.

(4/389)


759- قوله: (وضع في الأرض أول) بضم اللام وهي ضمة بناء لقطعة عن الإضافة مثل قبل وبعد. قال أبوالبقاء: وهو الوجه. والتقدير: أول كل شيء، ويجوز النصب منصرفا أي: أولا بالتنوين كما في رواية للبخاري. وغير منصرف لوزن الفعل والو صفية نحو قوله تعالى: ?والركب أسفل منكم? [42:8] (ثم أي) بالتنوين مشددا أي: ثم أي: مسجد وضع بعد المسجد الحرام؟ وهذا الحديث يفسر المراد بقوله ?إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين? [96:3] ويدل على أن المراد بالبيت بيت العبادة لا مطلق البيوت، قاله الحافظ. وقال الرازي في تفسيره: إن قوله تعالى: ?إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة? يحتمل أن يكون المراد كونه أولا في الوضع والبناء، وأن يكون المراد كونه أولا في كونه مباركا وهدى. ثم قال: إن دلالة الآية على الأولية في الفضل والشرف أمر لا بد منه، لأن المقصود الأصلي بيان الفضيلة، لأن المقصود ترجيحه على بيت المقدس، وهذا إنما يتم بالأولية في الفضيلة والشرف، ولا تأثير للأولية في البناء في هذا المقصد إلا أن ثبوت الأولية بسبب الفضيلة لا ينافي ثبوت الأولية في البناء (أربعون عاما) فيه إشكال، وذلك أن المسجد الحرام بناه إبراهيم عليه السلام بنص القرآن، والمسجد الأقصى بناه سليمان عليه السلام، كما أخرجه النسائي من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص، وإسناده صحيح، وبين إبراهيم وسليمان عليهما السلام أيام طويلة. قال أهل التاريخ: أكثر من ألف سنة. وجوابه أن الإشارة إلى أول البناء، ووضع أساس المسجد، وليس إبراهيم أول من بني الكعبة، ولا سليمان أول من بني بيت المقدس، فقد روي أن أول من بنى الكعبة آدم، ثم انتشر ولده، فجائز أن يكون بعضهم قد وضع بيت المقدس من بعده بأربعين عاما. قال القرطبي: يرتفع الإشكال بأن يقال: الآية والحديث لا يدلان على أن إبراهيم وسليمان لما بنيا المسجدين ابتداء وضعهما لهما، بل ذاك تجديد لما كان أسسه غيرهما وبدأه،

(4/390)


وبناء آدم لكعبة مشهور قلت: بل هو الذي أسس كلا من المسجدين، فذكر ابن هشام في كتاب التيجان أن آدم لما بنى الكعبة أمره الله بالسير إلى بيت المقدس، وأن يبنيه فبناه ونسك. والحاصل أن المراد في الحديث بناءهما قبل بناء إبراهيم للمسجد الحرام، وبناء سليمان للمسجد الأقصى، فإبراهيم وسليمان عليهما السلام مجددان للبناء لا مؤسسان. وقال ابن القيم في الهدى (ج1:ص9): قد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد به، فقال: معلوم أن سليمان بن داود الذي بنى المسجد الأقصى، وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف عام. وهذا من جهل هذا القائل، فإن سليمان إنما كان له من المسجد الأقصى
ثم الأرض لك مسجد، فحيث ما أدركت الصلاة فصل)) متفق عليه.
(8) باب الستر
?الفصل الأول?
760- (1) عن عمر بن أبي سلمة، قال: (( رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في ثوب واحد

(4/391)


تجديده لا تأسيسه، والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق صلى الله عليهما وسلم بعد بناء إبراهيم الكعبة بهذا المقدار- انتهى (ثم الأرض لك مسجد) أي: صالحة للصلاة فيها. ويخص هذا العموم بما ورد فيه النهي. قال السندي: كلمة "ثم" للتراخي بالإخبار، والمراد أنها كلها مسجد ما دامت على الحالة الأصلية التي خلقت عليها. وأما إذا انتجست فلا. ذكره لبيان أنه لا يؤخر الصلاة لإدراك فضل هذه المساجد (فحيث ما أدركتك الصلاة) أي: وقت الصلاة. وفيه إشارة إلى المحافظة على الصلاة في أول وقتها. ويتضمن ذلك الندب إلى معرفة الأوقات. وفي بعض الطرق: فأينما أدركتك الصلاة فصل، فإن الفضل فيه. قال الحافظ: في الحديث إشارة إلى أن المكان الأفضل للعبادة إذا لم يحصل لا يترك المأمور به لفواته، بل يفعل المأمور في بالمفضول، لأنه- صلى الله عليه وسلم - كأنه فهم عن أبي ذر من تخصيصه السؤال عن أول مسجد وضع، أنه يريد تخصيص صلاته فيه، فنبه على أن إيقاع الصلاة إذا حضرت لا يتوقف على المكان الأفضل( فصل) وفي بعض النسخ"فصله" بهاء ساكنة وهي هاء السكت. قال الطيبي: يعني سألت أبا ذر عن أما كن بنيت مساجد، واختصت العبادة بها، وأيها أقدم زمانا فأخبرتك بوضع المسجدين وتقدمهما على سائر المساجد، ثم أخبرك بما أنعم الله علي وعلى أمتي من رفع الجناح وتسوية الأرض في أداء العبادة فيها(متفق عليه) أخرجه البخاري في الأنبياء ومسلم في الصلاة،
وأخرجه أيضا النسائي وابن ماجه في الصلاة.

(4/392)


(باب الستر) أي: ستر العورة وسائر الأعضاء، وهو بالفتح مصدر سترته إذا غطيته، وبالكسر واحد الستور والأستار. قال الله تعالى: ?يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد? [7: 31]، روى مسلم من حديث ابن عباس، قال: كانت المرأة تطوف بالبيت عريانة- الحديث. وفيه"فنزلت: ?خذوا زينتكم? ووقع في تفسير طاؤس قال: في قوله تعالى: ?خذوا زينتكم? قال: الثياب. وصلة البيهقي، ونحوه من مجاهد. ونقل ابن حزم الاتفاق على أن المراد ستر العورة شرط لصحة الصلاة وإن كان في مكان خال. وفي غير حالة الصلاة يجب سترها عن أعين الناس ممن يحرم نظره.
760-قوله: (عن عمر بن أبي سلمة) هو عمر بن أبي سلمة عبدالله بن عبدالأسد المخزومي القرشي أبوحفص المدني، ربيب النبي- صلى الله عليه وسلم -. صحابي صغير، وأمه أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولد بأرض الحبشة في السنة الثانية من الهجرة. وقبض
مشتملا به، في بيت أم سلمة، واضعا طرفيه على عاتقيه)). متفق عليه.
761-(2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء)).

(4/393)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وله تسع سنين، وشهد مع علي الجمل. وأمره علي على البحرين. توفي في زمن عبدالملك بن مروان سنة (83) على الصحيح، له اثنا عشر حديثا، اتفقا على حديثين، روى عنه جماعة (مشتملا به) أي: بالثوب. ووقع في رواية للبخاري "متوشحا به". وفي بعض روايات مسلم "ملتحفا به" ومعنى الاشتمال والتو شح والالتحاف واحد هنا. وهو المخالفة بين طرفي الثوب بأن يأخذ الأيمن من تحت يده اليمنى فيلقيه على منكبه الأيسر، ويلقي طرف الثوب الأيسر من تحت يده اليسرى على منكبه الأيمن. قال الطيبي: الاشتمال، التوشح والمخالفة بين طرفي الثوب الذي ألقاه على منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى، ويأخذ طرفيه الذي ألقاه على منكبه الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقدهما على صدره، يعني لئلا يكون سدلا. قلت: الاشتمال على أنواع، أحدها: التوشح، وهو المذكور في حديث الإباحة. والثاني: ما فسر به الأخفش أن الاشتمال هو أن يلتف الرجل برداءه أو بكسائه من رأسه إلى قدمه، ويرد طرف الثوب الأيمن على منكبه الأيسر، ذكره الشوكاني. والثالث: اشتمال الصماء المنهى عنه. وقد اختلفوا في تفسيره، فقال أهل اللغة: هو أن يشتمل بالثوب حتى يجلل به جسده، لا يرفع منه جانبا، فلا يبقى ما يخرج منه يده، وإنما كره لئلا تعرض له حاجة من دفع بعض الهوام، فيعسر عليه إخراج يده فيلحقه الضرر، ولأنه يعسر عليه حينئذ رفع اليدين حذو أذنيه، وبسطهما على الأرض حذاء أذنيه في السجدة. وقالت الفقهاء: هو أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على أحد منكبيه فيبدو منه فرجه. وفائدة التوشح والاشتمال والالتحاف المذكورة في الأحاديث أن لا ينظر المصلى إلى عورة نفسه إذا ركع، ولئلا يسقط الثوب عند الركوع والسجود. والحديث يدل على أن الصلاة في الثوب الواحد صحيحة إذا توشح به المصلي، أي: وضع طرفيه على عاتقيه مخالفا بين طرفيه (في بيت أم سلمة) ظرف ليصلي

(4/394)


(واضعا طرفيه) تفسير مشتملا (على عاتقيه) العاتق ما بين المنكبين إلى أصل العنق (متفق عليه) وأخرجه أيضا مالك واحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
761- قوله: (لا يصلين) بنون التأكيد المشددة. قال ابن الأثير : وفي رواية الصحيحين "لا يصلي" بإثبات الياء، ووجهه أن لا نافية، وهو خبر بمعنى النهي. ورواه الدارقطني في غرائب مالك من طريق الشافعي بلفظ "لا يصل" ومن طريق عبدالوهاب بن عطاء" لا يصلين" أي: بزيادة التأكيد، قلت: وكذا رواه النسائي بلفظ "لا يصلين" (ليس على عاتقه منه شيء) الجملة المنفية حال. والمراد أنه لا يتزر في وسطه، ويشد طرفيه الثوب في حقويه بل يتوشح
متفق عليه.
762- (3) وعنه، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من صلى في ثوب واحد، فليخالف بين طرفيه)) رواه البخاري.

(4/395)


بهما على عاتقيه، فيحصل الستر من أعالي البدن وإن كان ليس بعورة. أو لكون ذلك أمكن في ستر العورة، وهذا إذا كان الثوب واسعا، وذلك لأنه إذا خالف بين طرفيه وضعهما على عاتقيه يكون بمنزلة الإزار والرداء جميعا، ويكون أستر وأجمل. وأما إذا كان ضيقا وليس عنده ثوب آخر شده على حقوه كما في حديث جابر عند الشيخين مرفوعا "إذا صليت في ثوب واحد، فإن كان واسعا فالتحف به، وإن كان ضيقا فاتزر به". وقيل: في حكمة وضع الثوب على العاتق إذا كان واسعا أنه إذا اتزر به ولم يكن على عاتقه منه شيء لم يؤمن أن تنكشف عورته، بخلاف ما إذا جعل بعضه على عاتقه. ولأنه قد يحتاج إلى إمساكه بيده أو بيديه، فيشتغل بذلك، ولا يتمكن من وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر فتفوت السنة والزينة المطلوبة في الصلاة. والحديث يدل على المنع من الصلاة في الثوب الواحد إذا لم يكن على عاتق المصلى منه شيء، وقد حمل الجمهور هذا النهي على التنزيه، فلو صلى في ثوب واحد ساتر لعورته وليس على عاتقه شيء منه صحت صلاته مع الكراهة، ولو كان الثوب واسعا. وأما أحمد وبعض السلف فذهبوا إلى أنه لا يصح صلاته، عملا بظاهر الحديث. وهذا هو الحق لأنه لا صارف للنهي عن معناه الحقيقي فيجب الجزم بمعناه الحقيقي وهو تحريم ترك جعل طرف الثوب الواحد حال الصلاة على العاتق، والجزم بوجوبه مع المخالفة بين طرفيه بالحديث الآتي حتى ينتهض دليل يصلح للصرف. ولكن هذا إذا كان الثوب واسعا، جمعا بين الأحاديث كما تقدم التصريح بذلك في حديث جابر. وقد عمل بظاهر الحديث ابن حزم (متفق عليه) قال ميرك: وفيه نظر من وجوه، الأول: أن قوله "لا يصلين" ليس فيهما بل فيهما "لا يصلي" والثاني : أن قوله "على عاتقيه" ليس في البخاري، وإنما فيه "على عاتقه" والثالث: أن قوله "منه" ليس في البخاري، وإنما هو من إفراد مسلم، كما صرح به الشيخ ابن حجر- أي: العسقلاني صاحب فتح الباري- انتهى. والحديث أخرجه

(4/396)


أيضا أحمد وأبوداود والنسائي.
762- قوله: (فليخالف بين طرفيه) زاد أحمد وأبوداود على عاتقيه. وهذا إذا كان الثوب واسعا، وأما إذا كان ضيقا فيشده على حقوه. قال النووي: المشتمل، والمتوشح، والمخالف بين طرفيه، معناه واحد هنا، وقد سبقه إلى ذلك الزهري. وقد حمل الجمهور هذا الأمر على الاستحباب، وخالفهم في ذلك أحمد. والخلاف في النهي في الحديث الذي قبل هذا. وقد تقدم أن الحق فيه ما ذهب إليه أحمد (رواه البخاري) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود.
763- (4) وعن عائشة، قالت: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف، قال: ((اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وائتوني بأنبجانية أبي جهم؛

(4/397)


763- قوله: (في خميصة) بفتح خاء وكسر ميم وصاد مهملة، ثوب رقيق مربع من خز أو صوف معلم، وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة، فعلى هذا قول عائشة (لها) أي: للخميصة (أعلام) جمع علم وهو رسم الثوب ورقمه، على وجه البيان والتأكيد، ولا يبعد أن يكون من طريق التجريد. وقال ابن عبدالبر في التمهيد: الخميصة هي كساء رقيق قد يكون بعلم وبغيره، وقد يكون أبيض معلما، وقد يكون أصفر وأحمر وأسود. وهي من لباس أشراف العرب، والجملة صفة لخميصة (فلما انصرف) أي: عن الصلاة (اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم) بفتح الجيم وسكون الهاء، هو أبوالجهم بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبدالله القرشي العدوي. قال البخاري وجماعة: اسمه عامر، وقيل: عبيد. أسلم عام الفتح، وصحب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان مقدما في قريش معظما، وعالما بالنسب. وهو أحد الأربعة الذين كانت قريش تأخذ عنهم علم النسب. وكان من المعمرين. حضر بناء الكعبة حين بنتها قريش، وحين بناها زبير. وهو أحد الأربعة الذين تولوا دفن عثمان، بقي إلى أول خلافة ابن الزبير. ووجه تخصيص أبي جهم بإرسال الخميصة إليه أنه هو الذي أهداها له - صلى الله عليه وسلم -، فلذلك ردها عليه، فقد روى مالك، عن علقمة بن أبي علقمة ، عن أمه أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: أهدى أبوجهم بن حذيفة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خميصة شامية، لها علم، فشهد فيها الصلاة- الحديث. قال ابن الأثير في أسد الغابة: قد اختلفوا في هذه الخميصة، فقال مالك: هكذا. ومنهم من قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى بخميصتين سوداوين، فلبس إحداهما وبعث بالأخرى إلى أبي جهم، فلما ألهته في الصلاة بعثها إلى أبي جهم، وطلب التي كانت عنده بعد أن لبسها لبسات. روى ذلك سعيد بن عبدالكبير – انتهى. وقال الحافظ في الإصابة (ج4:ص35) بعد ذكر الحديث برواية الصحيحين: وذكر الزبير من وجه آخر مرسلا أن

(4/398)


النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى بخميصتين سوداوين، فلبس إحداهما وبعث الأخرى إلى أبي جهم، ثم إنه أرسل إلى أبي جهم في تلك الخميصة، وبعث إليه التي لبسها هو، ولبس هو التي كانت عند أبي جهم بعد أن لبسها أبوجهم لبسات – انتهى. (وائتوني بأنبجانية أبي جهم) وإنما طلب انبجانيته بدلها لئلا يتأذى برد هديته. قال ابن بطال: إنما طلب منه ثوبا غيرها ليعلمه أنه لم يرد عليه هديته استخفافا به وهي – بفتح الهمزة وسكون النون وكسر الموحدة وتخفيف الجيم وبعد النون ياء نسبة مشددة – كساء يتخذ من الصوف وله خمل ولا علم له، وهو من أدون الثياب الغليظة. ويجوز كسر الهمزة وسكون النون وفتح الموحدة وتخفيف الياء بالمثناة. قال عياض: يروي بفتح الهمزة وكسرها، وبتشديد الياء وتخفيفها – انتهى. نسبة إلى منبج – بفتح الميم وكسر الموحدة – موضع معروف بالشام، فأبدلت الميم همزة في النسب. ويقال: نسبة إلى موضع يقال له: أنبجان، وفي هذه قال ثعلب: كساء أنبجاني، وهذا هو الأقرب إلى الصواب في لفظ الحديث. والأول فيه
فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي)) متفق عليه.

(4/399)


تعسف (فإنها) أي: الخميصة (ألهتي) من لهي – بكسر – إذا غفل، لا من "لها لهوا" إذا لعب (آنفا) أي: قريبا، أو في هذه الساعة (عن صلاتي) وعند مالك في الموطأ: فإني نظرت إلى علمها في الصلاة فكاد يفتنني. وفي الرواية الآتية "فأخاف أن يفتنني" فيحمل قوله "ألهتني" على قوله "كاد" فيكون الإطلاق للمبالغة في القرب لا لتحقق وقوع الإلهاء. وقيل: معنى قوله "يفتنني" يلهني عن الصلاة إلهاء أتم مما وقع منها أولا، فلا تنافي بين الجزم بوقوع الإلهاء بهاء ثم، وخشية وقوعه بها هنا. وكان ذلك هو حكمة التغاير بين الأسلوبين حيث عبر أولا بالإلهاء وثانيا بالفتنة. والحاصل أن المراد بالفتنة شيء فوق الإلهاء. وقيل: معنى ألهتني: أرادت أن تلهيني فلا ينافي قوله "فأخاف أن يفتنني" بمعنى يلهيني، بل يكون الثاني تفسيرا للأول. ولا يقال: إن المعنى شغلتني عن كمال الحضور في صلاتي، لأنا نقول: قوله "فأخاف أن يفتنني" يدل على نفي وقوع ذلك. وقد يقال: إن له عليه الصلاة والسلام حالتين حالة بشرية، وحالة يختص بها خارجة عن ذلك فبالنظر إلى الحالة البشرية قال ألهتني، وبالنظر إلى الحالة الثانية لم يجزم به، بل قال: أخاف. ولا يلزم من ذلك الوقوع. ونزع الخميصة ليستن به في ترك كل شغل، فهو تشريع لأمته، وليس المراد أن أبا جهم يصلي في الخميصة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليبعث إلى غيره بما يكرهه لنفسه، فهو كإهداء الحلة لعمر مع تحريم لباسها عليه، لينتفع بها ببيع أو غيره. وقيل كان هو أعمى فالإلهاء مفقود في حقه. قال ابن الجوزي: قيل: كيف خاف الإفتتنان بعلم من لم يلتفت إلى الأكوان بليلة ما زاغ البصر؟ وأجيب بأنه كان في تلك الليلة خارجا عن طباعه، فأشبه ذلك نظره من وراءه، فإذا رد إلى طبعة أثر فيه ما يؤثر في البشر. وقيل: أيضا إن المراقبة في الصلاة شغلت خلقا من أتباعه حتى أنه وقع السقف إلى جانب مسلم بن يسار ولم يعلم. وأجيب بأن أولئك كانوا يؤخذون

(4/400)


عن طبائعهم فيغيبون عن وجودهم. وكان الشارع يسلك طريق الخواص وغيرهم، فإذا سلك طريق الخواص وغير الكل فقال: لست كأحدكم، وإن سلك طريق غيرهم قال "إنما أنا بشر مثلكم" فرد إلى حالة الطبع ليستن به في ترك كل شاغل-انتهى. واستنبط من الحديث الحث على حضور القلب في الصلاة، وترك ما يؤدي إلى شغله. وقد شهد القرآن بالفلاح للمصلين الخاشعين، والفلاح أجمع اسم لسعادة الآخرة. وبانتفاء الخشوع ينتفي الفلاح. قال الأمير اليماني: في الحديث دليل على كراهة ما يشغل عن الصلاة من النقوش ونحوها مما يشغل القلب. وقال الطيبي: فيه إيذان بأن للصور والأشياء الزاهرة تأثيرا في القلوب الطاهرة والنفوس الزكية فضلا عما دونها. وفيه كراهة الصلاة على المفارش والسجاجيد المنقوشة، وكراهة نقش المساجد ونحوه (متفق عليه) واللفظ للبخاري. وقال ميرك: فيه نظر لأنه ليس هذا الحديث في مسلم بهذا اللفظ، وإنما هو لفظ البخاري. ولفظ مسلم عن عائشة، قالت: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في خميصة ذات أعلام، فنظر إلى أعلامها، فلما قضى صلاته قال: اذهبوا بهذه الخميصة إلى أبي جهم بن حذيفة، رائتوني بأنجانيته، فإنها ألهتني آنفا في صلاتي. فانظر في اختلاف الألفاظ-انتهى. قلت: مقصود المصنف أن أصل الحديث متفق عليه لا خصوص هذا اللفظ. وعلى هذا
وفي الرواية للبخاري، قال: كنت أنظر إلى عملها وأنا في الصلاة فأخاف أن يفتنني.
764- (5) وعن أنس، قال: كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أميطي عنا قرامك هذا، فإنه لا يزال تصاويره تعرض لي في صلاتي)) رواه البخاري.
765- (6) وعن عقبة بن عامر، قال: ((أهدي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فروج حرير، فلبسه ثم صلى فيه، ثم انصرف فنزعه نزعا شديدا كالكاره له،

(4/401)


فلا اعتراض على المصنف في عزو الحديث إلى الشيخين. والحديث أخرجه أيضا مالك، وأحمد والنسائي (وفي رواية) أي: معلقة (إلى علمها) أي: علم الخميصة (وأنا في الصلاة) جملة حالية (فأخاف أن يفتنني) بفتح المثناة التحتية في أوله، وكسر المثناة فوق، وبالنونين من باب ضرب يضرب، وفي رواية تفتنني بفتح المثناة الفوقية في أوله بدل التحتية أي: تمنعني من الصلاة وتشغلني عنها.
764- قوله: (قرام) بكسر القاف وتخفيف الراء، الستر الرقيق، وقيل: الصفيق من صوف ذى ألوان. وقيل الستر الرقيق وراء الستر الغليظ (جانب بيتها) هو يحتمل جانب الباب وجانب الجدار (أميطي) أمر من أماط يميط أي: أزيلي (فإنه) الضمير للشأن أو لقرام (تصاويره) جمع تصوير بمعنى الصورة أي: تماثيله، أو نقوشه (تعرض) بفتح المثناة الفوقية وكسر الراء أي: تلوح وتظهر لي (في صلاتي) في الحديث دلالة على إزالة ما يشوش على المصلى صلاته مما في منزله أو في محل صلاته. ولا دليل فيه على بطلان الصلاة، لأنه لم يرو أنه - صلى الله عليه وسلم - أعادها أو قطعها، نعم! تكره الصلاة حينئذ لما فيه من سبب اشتغال القلب المفوت للخشوع. قال الحافظ: وقد استشكل الجمع بين هذا الحديث وبين حديث عائشة أيضا أنه اشترت نمرقة فيها تصاوير، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - بالباب، فلم يدخل – الحديث. لأنه يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يدخل البيت الذي كان فيه الستر المصور أصلا حتى نزعه. وهذا يدل على أنه أقره وصلى، وهو منصوب إلى أن أمر بنزعه من أجل ما ذكر من رؤية الصورة حالة الصلاة، ولم يتعرض لكونها صورة، ويمكن الجمع بأن الأول كانت تصاويره من ذوات أرواح، وهذا أي: القرام المذكور في حديث الباب كانت تصاوير من غير الحيوان كصورة الشجرة ونحوها (رواه البخاري) في الصلاة، وفي اللباس.

(4/402)


765- قوله: (أهدى) على بناء المفعول (فروج حرير) بالإضافة كثوب خز، وخاتم فضة. وفي رواية أحمد "فروج من حرير" وهو بفتح الفاء وتشديد الراء المضمومة وتخفيفها وآخرها جيم. وحكى عن أبي العلاء المعرى ضم أوله وخفة الراء على وزن خروج، قباء مشقوق عن خلفه، وهو من لبوس الأعاجم. وكان الذي أهداه له أكيدر بن عبدالملك صاحب دومة (فلبسه) قبل تحريم الحرير (فنزعه نزعا) بفتح النون وسكون الزاى (شديدا كالكاره له)
ثم قال: لا ينبغي هذا للمتقين)) متفق عليه.
?الفصل الثاني?
766- (7) عن سلمة بن الأكوع، قال قلت: ((يارسول الله ! إني رجل أصيد؛ أ فأصلي في القميص الواحد؟ قال: نعم، وازرره

(4/403)


وفي حديث جابر بن مسلم "صلى في قباء ديباج، ثم نزعه، وقال: نهاني جبريل عليه السلام، فهذا ظاهر في أن صلاته فيه كانت قبل تحريمه. وأن النهي سبب نزعه له، وذلك ابتداء تحريمه. قال ابن تيمية: حديث عقبة محمول على أنه لبسه قبل تحريمه، إذ لا يجوز أن يظن به أنه لبسه بعد التحريم في صلاة ولا غيرها. ويدل على إباحته في أول الأمر ما روى أنس بن مالك: أن أكيدردومة أهدى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - جبة سندس أو ديباج قبل أن ينهى عن الحرير، فلبسها، فتعجب الناس منها، فقال: والذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن منها. رواه أحمد (لا ينبغي هذا) أي: لا يجوز استعمال الحرير (للمتقين) عن الكفر، وهم المؤمنون، وعبر بجمع الذكر ليخرج النساء لأنه حلال لهن. فإن قلت: يدخلن تغليبا، أجيب بأنهن خرجن بدليل آخر قال - صلى الله عليه وسلم -: أحل الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرم على ذكورها، أخرجه أحمد والترمذي وصححه. والحديث يدل على تحريم الصلاة في الحرير، وقد اختلفوا هل تجزئ الصلاة في الحرير بعد تحريمه أم لا؟ فقال الحافظ: إنها تجزئ عند الجمهور مع التحريم، وعن مالك يعيد في الوقت إن وجد ثوبا غيره. وقد استدل بعضهم لجواز الصلاة في ثياب الحرير بعدم إعادته - صلى الله عليه وسلم - لتلك الصلاة، وهو مردود لأن ترك إعادتها لكونها وقعت قبل التحريم كما دل عليه حديث جابر (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة، وفي اللباس، ومسلم في اللباس، وأخرجه أيضا النسائي في اللباس.

(4/404)


766- قوله: (عن سلمة) بفتح السين واللام (بن الأكوع) هو سلمة بن عمرو بن الأكوع، واسمه سنان بن عبدالله ابن قشير الأسلمي، أبومسلم المدني، شهد بيعة الرضوان. قال الخزرجي: بايع تحت الشجرة أو الناس وأوسطهم وآخرهم على الموت، وكان شجاعا راميا سخيا خيرا فاضلا، كان يسبق الفرس شدا على قدميه، استوطن الربذة بعد قتل عثمان، وتزوج بها امرأة، وولدت له أولادا، فلم يزل بها حتى قبل أن يموت بليال فنزل المدينة وتوفي بها سنة (74) له سبعة وسبعون حديثا، اتفقا على ستة عشر، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بتسعة، روى عنه خلق كثير (إني رجل أصيد) بصيغة المتكلم كأبيع من صاد يصيد، أي: أخرج للإصطياد، وفي رواية أحمد والنسائي: إن أكون في الصيد. وفي رواية ابن حبان "إني رجل أتصيد" وإنما ذكر الصيد لأن الصائد يحتاج أن يكون خفيفا ليس عليه ما يشغله عن الإسراع في طلب الصيد، قاله ابن الأثير (قال نعم) أي: صل فيه (وازرره) بضم الراء من باب نصر، أي: شد جيب القميص،
ولو بشوكة)). رواه أبوداود، وروى النسائي نحوه.
767- (8) وعن أبي هريرة، قال: ((بينما رجل يصلي مسبل إزاره، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذهب فتوضأ، فذهب وتوضأ،

(4/405)


وأربطه، واجمع بين طرفيه لئلا تظهر عورتك (ولو بشوكة) أي: ولو لم يمكنك ذلك إلا بأن تغرز في طرفة شوكة تستمسك بها. قال الطيبي: هذا إذا كان جيب القميص واسعا يظهر منه عورته فعليه أن يزره لئلا تنكشف العورة- انتهى. والحديث يدل على جواز الصلاة في الثوب الواحد، وفي القميص منفردا عن غيره مقيدا بعقد الإزار. قال في شرعة الإسلام ومن آداب الصلاة زر القميص بناء على أن الصحيح أن ستر عورته عن نفسه ليس بشرط، حتى لو كان محلول الجيب فنظر إلى عورته لا يعيد صلاته، كذا في التبيين. وفي شرح المنية أفتى بعض المشائخ بأنه إذا رأى عورته تفسد صلاته. وهو ظاهر الحديث. قال القاري(رواه أبوداود) من طريق الدراوردي، عن موسى بن إبراهيم المخزومي، عن سلمة بن الأكوع. وأخرجه أيضا أحمد والشافعي وابن خزيمة والطحاوي وابن حبان والحاكم، وعلقه البخاري في صحيحه، وقال: في إسناده نظر. قال الحافظ في الفتح: وقد وصله المصنف أي: البخاري في تاريخه. وأبوداود وابن خزيمة وابن حبان من طريق الدراوردي. قال: ورواه البخاري أيضا عن إسماعيل بن أبي أويس، عن أبيه، عن موسى بن إبراهيم، عن أبيه، عن سلمة. زاد في الإسناد رجلا . ورواه أيضا عن مالك بن إسماعيل، عن عطاف ابن خالد. قال: حدثنا موسى بن إبراهيم، قال: حدثنا سلمة، فصرح بالتحديث بين موسى وسلمة، فاحتمل أن يكون رواية أبي أويس من المزيد في متصل الأسانيد، أو يكون التصريح في رواية عطاف وهما، فهذا وجه النظر في إسناده- انتهى. والحديث سكت عنه أبوداود والمنذري. قال الحافظ في الفتح: أما من صححه فاعتمد رواية الدراوردي، وجعل رواية عطاف شاهدة لاتصالها. وطريق عطاف أخرجها أيضا أحمد والنسائي- انتهى. وقال في التلخيص قد بينت طرق الحديث في تعليق العليق، وله شاهد مرسل، وفيه انقطاع أخرجه البيهقي.

(4/406)


767- قوله(مسبل إزاره) صفة بعد صفة لرجل، أي: مرخ إزاره عن الحد الشرعي- وهو الكعبان- ففي حديث أبي هريرة عند أبي داود: ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار(قال له) وفي أبي داود "إذ قال له"بزيادة "إذ" قال القاري: أي: بعد صلاته لكون صلاته صحيحة، فأراد أن يبين أنها غير مقبولة، وقال ابن حجر: ظاهر الحديث أنه أمر المسبل بقطع صلاته ثم بالوضوء( إذهب فتوضأ) قيل: نما أمره بالوضوء ليعلم أنه مرتكب معصية لما أسبقه في نفوسهم أن الوضوء يكفر الخطايا ويزيل أسبابها كالغضب ونحوه، وقال الطيبي: لعل السر في أمره بالتوضي وهو ظاهر أن يتفكر الرجل في سبب ذلك الأمر فيقف على ما ارتكبه من المكروه (أى ينظر إلى إسباله المخل في إسباغ الوضوء المسبب لعدم قبول الصلاة) وأن الله ببركة أمر رسوله عليه الصلاة والسلام إياه بطهارة الظاهر يطهر باطنه من
ثم جاء. فقال رجل يا رسول الله ! مالك أمرته أن يتوضأ؟ قال: إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره، وأن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل إزاره)). رواه أبوداود.
768- (9) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقبل صلاة حائض

(4/407)


دنس الكبر، لأن طهارة الظاهر مؤثرة في طهارة الباطن، فعلى هذا ينبغي أن يعبر كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أن الله تعالى لا يقبل صلاة المتكبر المختال، فتأمل في طريق التنبيه، ولطف هذا الإرشاد. ومنه ما روى عن عطية، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما يطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ). أخرجه أبوداود- انتهى كلام الطيبي (ثم جاء) كأنه جاء وهو غير مسبل إزاره (فقال رجل) لم يعرف اسمه (مالك أمرته أن يتوضأ) أي: والحال أنه طاهر متوضئ لم يوجد منه ما ينقض وضوئه (لا يقبل) أي: قبوله كاملا (صلاة رجل مسبل إزاره) قال القاري: ظاهر جوابه عليه السلام أنه أعاده بالوضوء- والله أعلم- أنه لما كان يصلي وما تعلق القبول الكامل بصلاته، والطهارة من شرائط الصلاة وأجزائها الخارجية، فسرى عدم القبول إلى الطهارة أيضا، فأمره بإعادة الطهارة حثا على الأكمل والأفضل- انتهى. قلت: ويمكن أن يستدل بالحديث على كون الإسبال من مفسدات الصلاة بناء على أن عدم القبول يرادف الرد، وإذا كانت صلاة المسبل مردودة كانت باطلة، والله أعلم (رواه أبوداود) في الصلاة واللباس، وفي سنده أبوجعفر، وهو رجل من أهل المدينة لا يعرف اسمه. قال الحافظ: أبوجعفر المؤذن الأنصاري المدني مقبول، ومن زعم أنه محمد بن على بن الحسين (الباقر) فقدوهم- انتهى. قال النووي في "رياض الصالحين" بعد ذكر هذا الحديث: رواه أبوداود بإسناد صحيح على شرط مسلم- انتهى. وفي الباب عن ابن عباس مرفوعا: (إذا صليتم فارفعوا سبلكم (أي لثياب المسبلة) فكل شيء أصاب الأرض من سبلكم فهو في النار). رواه الطبراني في الكبير، وفيه عيسى بن قرطاس وهو ضعيف جدا. وعن عطاء بن يسار، عن بعض أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم -، قال: بينما رجل يصلي وهو مسبل إزاره قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اذهب فتوضأ. . . قال: فذهب

(4/408)


فتوضأ ثم جاء، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اذهب فتوضأ، ثم جاء، فقال (رجل): يا رسول الله ! مالك أمرته يتوضأ ثم سكت عنه؟ فقال: إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره، وإن الله تبارك وتعالى لا يقبل صلاة عبد مسبل إزاره، ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج5:ص125) وقال: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. وعزاه صاحب الأطراف إلى النسائي، ولم أجد في نسختي، فلعله في الكبرى انتهى. وعن ابن مسعود، أنه رأى أعرابيا يصلي قد أسبل إزاره، فقال: المسبل إزاره في صلاته ليس من الله في حل ولا حرام. رواه الطبراني ورجاله ثقات.
768- قوله: (لا تقبل) أي: لا تصح إذ الأصل في نفى القبول نفى الصحة والإجزاء إلا لدليل (صلاة حائض) يعني
إلا بخمار)) رواه أبوداود والترمذي.
769- (10) وعن أم سلمة، ((أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتصلي المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار؟ قال: إذا كان الدرع سابغا يغطى ظهور قدميها)).

(4/409)


به المرأة البالغة أي: المكلفة، وإن تكلفت بالاحتلام مثلا. وإنما عبر بالحيض نظرا إلى الأغلب. قال الخطابي: يريد بالحائض المرأة التي بلغت سن الحيض، ولم يرد به التي هي في أيام حيضها، لأن الحائض لا تصلي بوجه- انتهى. وقيل: الأصواب أن يراد بالحائض من شأنها الحيض، ليتناول الصغيرة أيضا، فإن ستر رأسها شرط لصحة صلاتها أيضا. قلت: ويدل لما قال الخطابي ما رواه الطبراني في الصغير والأوسط من حديث أبي قتادة مرفوعابلفظ: لا يقبل الله من امرأة صلاة حتى توارى زينتها، ولا من جارية بلغت الحيض حتى تختمر (إلا بخمار) بكسر الخاء المعجمة آخره راء، قال في القاموس: الخمار بالكسر النصيف، وكل ما ستر شيئا فهو خماره. وقال: نصيف كأمير: الخمار والعمامة، وكل ما غطى الرأس- انتهى. والمراد به هنا ما تغطى به المرأة رأسها وعنقها. والحديث يدل على أن رأس المرأة عورة، وأنه يجب عليها ستر رأسها وعنقها حال الصلاة. واستدل به من سوى بين الحرة والأمة في العورة لعموم ذكر الحائض، ولم يفرق بين الحرة والأمة، وهو قول أهل الظاهر. وفرق الجمهور بين عورة الحرة والأمة، وحملوا الحديث على الحرة. والحديث قد استدل به على أن ستر العورة شرط في صحة الصلاة، لأن قوله"لا تقبل" صالح للاستدلال به على الشرطية كما تقدم وقد اختلف في ذلك. ومذهب الجمهور أن ستر العورة من شروط الصلاة (رواه أبوداود والترمذي) وحسنه. ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. والحديث أخرجه أيضا أحمد وابن ماجه وابن خزيمة والحاكم في المستدرك (ج1:ص251) وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأظن أنه لخلاف فيه على قتادة، ثم رواه الحاكم من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن مرفوعامرسلا. وكذلك أشار أبوداود بعد روايته إلى رواية الحسن المرسلة كأنه يعلل الحديث بها. وليست هذه بالعلة، فإن حماد بن سلمة ثقة، والرواية المرسلة تؤيد المتصلة، وهي من طريق آخر، فهو عند قتادة عن

(4/410)


شيخين عن ابن سيرين متصلا، وعن الحسن مرسلا. والحديث صحيح كما قال الحاكم، أو حسن كما قال الترمذي.
769- قوله: (في درع) أي: قميص (ليس عليها) أي: ليس تحت قميصها أو فوقه (إزار) أي: ولا سراويل (قال) أي: نعم (إذا كان الدرع سابغا) أي: كاملا واسعا (يغطى ظهور قدميها) يعني يجوز لها حينئذ أن تصلي في درع وخمار ليس عليها إزار، ففي بعض ألفاظ الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: لا بأس إذا كان الدرع سابغا، الخ. والحديث دليل لمن قال: إن قدمي المرأة عورة يجب سترها، لأن قوله: "يغطى ظهور قدميها" يدل على عدم العفو، فهو حجة لمن
رواه أبوداود، وذكر جماعة وقفوه على أم سلمة.
770- (11) وعن أبي هريرة، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن السدل في الصلاة،

(4/411)


لم يستثن القدمين من العورة. وإليه ذهب أكثر العلماء. وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة. قال الأمير اليماني في السبل بعد ذكر حديث أم سلمة هذا وحديث عائشة السابق ما لفظه: هذا يدل على أنه لا بد في صلاتها من تغطية رأسها ورقبتها كما أفاد حديث الخمار، ومن تغطية بقية بدنها حتى ظهر قدميها كما أفاده حديث أم سلمة ويباح كشف وجهها حيث لم يأت دليل بتغطيته. والمراد كشفه عند صلاتها بحيث لا يراها أجنبي، فهذه عورتها في الصلاة. وأما عورتها بالنظر إلى نظر الأجنبي إليها فكلها عورة كما يأتي تحقيقه. وذكره هنا، وجعل عورتها في الصلاة هي عورتها بالنظر إلى نظر الأجنبي، وذكر الخلاف في ذلك ليس محله هنا، إذ لها عورة في الصلاة، وعورة في نظر الأجانب، والكلام الآن في الأول، والثاني يأتي في محله- انتهى. قلت: قد اختلف العلماء في تحديد عورة المرأة في الصلاة وخارجها اختلافا كثيرا، إن شئت الوقوف على ذلك فارجع إلى المغني لابن القدامة. والراجح عندي ما ذهب إليه الحنابلة من أن الحرة البالغة كلها عورة في الصرة حتى ظفرها وشعرها إلا وجهها، والوجه والكفان عورة خارج الصلاة باعتبار النظر إليها كبقية البدن. قال الخطابي: في خبر أم سلمة دليل على صحة قول من لم يجز صلاتها إذا انكشف من بدنها شيء، ألا تراه عليه السلام يقول: إذا كان سابغا يغطى ظهور قدميها، فجعل من شرط جواز صلاتها لئلا يظهر من أعضاءها شيء- انتهى (رواه أبوداود) أي: مرفوعا(وذكر) أي: أبوداود (جماعة) أي: من الرواة (وقفوه على أم سلمة) قال أبوداود بعد روايته من طريق عبدالرحمن بن عبدالله بن دينار، عن محمد بن زيد بن قنفذ، عن أمه، عن أم سلمة مرفوعا: روى هذا الحديث مالك بن أنس، وبكر بن مضر، وحفص بن غياث، وإسماعيل بن جعفر، وابن أبي ذئب، وابن إسحاق عن محمد بن زيد، عن أمه عم أم سلمة، لم يذكر أحد منهم النبي- صلى الله عليه وسلم -، قصروا به على أم سلمة- انتهى. يعني أن هؤلاء

(4/412)


الرواة الثقات كلهم رووه وقوفا على أم سلمة، ولم يرفعوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخالفهم عبدالرحمن بن عبدالله بن دينار، فروى عن محمد بن زيد عن أم سلمة مرفوعا: فكأنه أشار إلى أن هذا الرفع شاذ. قال الزرقاني: يعني فرواية عبدالرحمن شاذة، وهو وإن كان صدوقا لكنه يخطئ، فلعله أخطأ في رفعه. وأعله أيضا عبدالحق بأن مالكا وغيره رووه موقوفا. قال الحافظ: وهو الصواب، ولكنه قد قال الحاكم بعد إخراجه: أن رفعه صحيح على شرط البخاري- انتهى. وقال الشوكاني: الرفع زيادة لا ينبغي إلغاءها كما هو مصطلح أهل الأصول، وبعض أهل الحديث، وهو الحق. وقال الأمير اليماني: له حكم الرفع وإن كان موقوفا، إذ الأقرب أنه لا مسرح للاجتهاد في ذلك.
770- قوله: (نهى عن السدل في الصلاة) قال الجوهري: سدل ثوبه يسدله- بالضم- سدلا أي: أرخاه. وقال
وأن يغطى الرجل فاه)) رواه أبوداود، والترمذي.
771- (12) وعن شداد بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خالفوا اليهود،

(4/413)


الخطابي: السدل إرسال الثوب حتى يصيب الأرض- انتهى. فعلى هذا السدل والإسبال واحد. وقال أبوعبيد في غريبه: السدل إسبال الرجل ثوبه من غير أن يضم جانبيه بين يديه، فإن ضمه فليس بسدل- انتهى. وقال الجزري: هو أن يلتحف بثوبه ويدخل يديه من داخل فيركع ويسجد وهو كذلك. قال: وهذا مطرد في القميص وغيره من الثياب. قال: وقيل: هو أن يضع وسط الإزار على رأسه (أو على كتفه) ويرسل طرفيه عن يمينه وشماله من غير أن يجعلهما على كفيه- انتهى. ولا مانع من حمل الحديث على جميع هذه المعاني إن كان السدل مشتركا بينها. وحمل المشترك على جميع معانيه هو المذهب القوي، قاله الشوكاني. والحديث يدل على تحريم السدل في الصلاة، سواء كان عليه قميص أو سراويل أو لم يكن، لأنه معنى النهي الحقيقي، ولا موجب للعدول عن تحريم لعدم وجدان صارف له عن ذلك. وقد روى أن السدل من فعل اليهود. أخرج الخلال في العلل، وأبوعبيد في الغريب عن على أنه خرج فرأى قوما يصلون قد سدلوا ثيابهم فقال: كأنهم اليهود خرجوا من قهرهم (وأن يغطى الرجل فاه) أي: فمه في الصلاة. قال الخطابي: فإن من عادة العرب التلثم بالعمائم على الأفواه، فنهوا عن ذلك في الصلاة إلا أن يعرض الثوباء فيغطى فمه عند ذلك للحديث الذي جاء فيه- انتهى. والحديث يدل على تحريم أن يصلى الرجل متلثما أي: مغطيا فمه. وحكمة النهي أن في التغطية منعا من القراءة والأذكار المشروعة. ولأنه لو غطى بيده فقد ترك سنة اليد، ولو غطاه بثوب فقد تشبه بالمجوس لأنهم يتلثمون في عبادتهم النار. قال ابن حبان: وإنما زجر عن تغطية الفم في الصلاة على الدوام لا عند التثاؤب بمقدار ما يكظمه لحديث"إذا تثاؤب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع" وفي رواية "فليمسك بيده على فمه، فإن الشيطان يدخل فيه" رواه مسلم (رواه أبوداود والترمذي) فيه نظر لأنه ليس في الترمذي "أن يغطى الرجل فاه" فروى الحديث الترمذي مقتصرا على الفصل الأول، وكذا رواه

(4/414)


أحمد، والحاكم، والطبراني في الأوسط. وروى ابن ماجه الفصل الثاني فقط. ورواه ابن حبان بتمامه كأبي داود. والحديث حسن، فرجال إسناده كلهم ثقات إلا عسل بن سفيان، وهو لم يتفرد به بل تابعه سليمان الأحول عند أبي داود. وتابعه أيضا عامر الأحول كما أخرجه الطبراني في معجمه الوسط. قال الزيلعي: رجاله كلهم ثقات إلا أبا بكر البحراوي فإنه ضعفه أحمد، وابن معين، وغيرهما. وكان يحيى بن سعيد حسن الرأى فيه، وروى عنه، وقال ابن عدي: وهو ممن يكتب حديثه.
771- قوله: (وعن شداد بن أوس) بن ثابت الأنصاري النجاري، يكنى أبا يعلى، المدني ابن أخي حسان بن ثابت، صحابي، مات بالشام سنة (58) وهو ابن خمس وسبعين سنة. وقيل: توفي سنة (64) قال عبادة بن الصامت: شداد ابن الأوس من الذين أوتوا العلم والحلم. له خمسون حديثا. انفرد له البخاري بحديث، ومسلم بآخر (خالفوا اليهود)
فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم)). رواه أبوداود.
772- (13) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم، ألقوا نعالهم.

(4/415)


أي: بالصلاة في نحو النعال (فإنهم لا يصلون في نعالهم) بكسر النون، جمع نعل وهي معروفة (ولا خفافهم) بكسر الخاء المعجمة جمع خف بالضم. قال الشاه ولى الله: كان اليهود يكرهون الصلاة في نعالهم وخفافهم، لما فيه ترك التعظيم، فإن الناس يخلعون نعالهم بحضرة الكبراء وهو قوله تعالى: ?فاخلع نعليك، إنك بالواد المقدس طوى? [12:20] وكان هناك وجه آخر، وهو أن الخف والنعل تمام زى الرجل فترك النبي - صلى الله عليه وسلم - القياس الأول، وأبدى الثاني مخالفة لليهود- انتهى. والحديث يدل على مشروعية الصلاة في النعال. وقد اختلف نظر الصحابة والتابعين في ذلك هل هو مستحب أو مباح أو مكروه؟ وأقل أحوال هذا الحديث الدلالة على الاستحباب من جهة قصد مخالفة اليهود. وقال الحافظ في الفتح في شرح حديث أبي سلمة سعيد بن يزيد: سألت أنسا أكان النبي- صلى الله عليه وسلم - يصلي في نعليه؟ قال نعم. قال ابن بطال: هو محمول على ما إذا لم يكن فيهما نجاسة، ثم هي من الرخص كما قال ابن دقيق العيد، لا من المستحبات، لأن ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب من الصلاة، وهو وإن كان من ملابس الزينة إلا أن ملامسة الأرض التي تكثر فيها النجاسات قد تقصر عن هذه الرتبة. وإذا تعارضت مراعاة مصلحة التحسين ومراعاة مصلحة النجاسة قدمت الثانية، لأنها من باب رفع المفاسد والأخرى من باب جلب المصالح. قال: إلا أن يرد دليل بإلحاقه بما يتجمل، فيرجع إليه، ويترك هذا النظر. قال الحافظ: قد روى أبوداود والحاكم من حديث شداد بن أوس مرفوعا" خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم" فيكون استحباب ذلك من جهة قصد المخالفة المذكورة. قال: وورد في كون الصلاة في النعال من الزينة المأمور بأخذها في الآية حديث ضعيف جدا، أورده ابن عدي في الكامل، وابن مردويه في تفسيره من حديث أبي هريرة، والعقيلي من حديث أنس – انتهى (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. وأخرجه أيضا ابن حبان

(4/416)


في صحيحه والحاكم والبيهقي. قال الشوكاني: لا مطعن في إسناده. وفي الباب عن جماعة من الصحابة، ذكر تخريج أحاديثهم الشوكاني في النيل، والهيثمي في مجمع الزوائد.
772- قوله: (إذا خلع نعليه) أي: نزعهما عن رجليه (فوضعهما عن يساره) فيه معنى التجاوز، أي: وضعهما بعيدا متجاوزا عن يساره. وفيه من الأدب أن المصلي إذا صلى وحده وخلع نعله وضعها عن يساره. وإذا كان مع غيره في الصف، وكان عن يمينه ويساره ناس فإنه يضعها بين رجليه كما سيأتي. وفيه دليل على جواز عمل قليل في الصلاة. وأن العمل اليسير لا يقطع الصلاة (فلما رأى ذلك) أي: خلع النعل (ألقوا نعالهم) أي: خلعوها عن أرجلهم ثم ألقوها
فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته، قال: ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك، فألقينا نعالنا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن جبرئيل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا. إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذرا فليمسحه وليصل فيهما)). رواه أبوداود والدارمي.
773- (14) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلى أحدكم فلا يضع نعليه عن يمينه، ولا عن يساره فتكون عن يمين غيره، إلا أن لا يكون على يساره أحد،

(4/417)


(نعالكم) بالنصب (أن فيهما قذرا) بفتحتين، أي: نجاسة، وفي رواية أحمد"أن بهما خبثا" والحديث يدل على أن المصلي إذا دخل في الصلاة وهو متلبس بنجاسة غير عالم بها أو ناسيا لها ثم عرف بها أثناء صلاته أنه يجب عليه إزالتها، ثم يستمر في صلاته، ويبنى على ما صلى. قال الخطابي: في الحديث من الفقه أن من صلى وفي ثوبه نجاسة لم يعلم بها فإن صلاته مجزية ولا إعادة عليه. قال القاضي: ومن يرى فساد الصلاة حمل القذر على ما تقذر عرفا كالمخاط. وحمله بعضهم على المقدار المعفو من النجاسة. قلت: حمله على مستقذر غير نجس، أو نجس معفو عنه تحكم، ويرد حمل القذر على المستقذر الغير النجس رواية الخبث المذكورة للاتفاق بين أئمة اللغة وغيرهم أن الأخبثين هما البول والغائط (فإن رأى في نعليه) أو في أحدهما (قذرا فليمسحه وليصل فيهما) فيه دليل على استحباب الصلاة في النعال، وعلى أن مسح النعل من النجاسة مطهر له من القذر. والظاهر عند الإطلاق فيه أن النعل يطهر بالمسح مطلقا أي: سواء كانت النجاسة رطبة أو جافة. قال القاضي: فيه دليل على أن من تنجس نعله إذا دلك على الأرض طهر، وجاز الصلاة فيه – انتهى. ومن يرى خلافه أول بالمستقذر الغير النجس أو بالمقدار المعفو من النجاسة، وهو تحكم فلا يلتفت إليه. وقد تقدم الكلام مفصلا على كون دلك النعال مطهرا لها في باب تطهير النجاسات (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضا أحمد والحاكم وابن خزيمة وابن حبان. واختلف في وصله وإرساله. ورجح أبوحاتم في العلل وصله. ورواه الحاكم من حديث أنس وابن مسعود. ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس، وعبد الله بن الشخير، وإسنادهما ضعيفان، ورواه البزار من حديث أبي هريرة، وإسناده ضعيف معلول أيضا، قاله الحافظ. وذكر الهيثمي أحاديث هؤلاء الصحابة مع الكلام عليها، إن شئت الوقوف عليها فارجع إلى مجمع الزوائد (ج2: ص55).

(4/418)


773- قوله: (إذا صلى أحدكم) أي: أراد أن يصلي (فلا يصنع نعليه) بالجزم جواب إذا (عن يمينه) لأن جهة اليمين محرمة (فتكون) أي: فتقع النعل (عن يمين غيره) قال الطيبي: هو بالنصب جوابا للنهي، أي: وضعه عن يساره مع وجود غيره سبب لأن تكون عن يمين صاحبه. يعني وفيه نوع إهانة وإيذاء له، وعلى المؤمن أن يحب لصاحبه ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه (إلا أن لا يكون على يساره) وفي بعض النسخ "عن يساره" (أحد) أي: فيجوز له حينئذ أن يضعهما عن
وليضعهما بين رجليه. وفي رواية: أو ليصل فيهما)). رواه أبوداود، وروى ابن ماجه معناه.
?الفصل الثالث?
774-(15) عن أبي سعيد الخدري، قال: ((دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرأيته يصلي على حصير يسجد
عليه قال: ورأيته يصلي في ثوب واحد متوشحا به)). رواه مسلم.

(4/419)


عن يساره (وليضعهما بين رجليه) إذا كان عن يساره أحد. والمراد الفرجة التي بين رجليه (وفي رواية) أي: زيادة لا بدلا أي: إذا صلى أحدكم فخلع نعليه فلا يؤذ بهما أحدا (بأن يضعهما عن يمينه أو قدامه) ليجعلهما (في الفرجة التي) بين رجليه (أو ليصل فيهما) أي: إن كان طاهرين. وإنما لم يقل "أو خلفه" لئلا يقع قدام غيره، أو لئلا يذهب خشوعه لاحتمال أن يسرق (رواه أبوداود) وسكت عليه. وقال العراقي: هذا حديث صحيح الإسناد-انتهى. وفي سنده عبدالرحمن بن قيس عن يوسف بن ماهك. قال المنذري: يشبه أن يكون الزعفراني البصري، كنيته أبومعاوية، لا يحتج به-انتهى. قلت: عبدالرحمن بن قيس هذا هو العتكي أبوروح البصري لا الزعفراني، ذكره ابن حبان في الثقات، له هذا الحديث الواحد عند أبي داود. قال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج6:ص257): وأخرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما وقال المنذري في مختصره: يشبه أن يكون الزعفراني فواهي الحديث-انتهى. وفي الباب عن أبي بكرة عند الطبراني في الكبير. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وفيه زياد الجصاص ضعفه ابن معين وابن المديني وغيرهما. وذكره ابن حبان في الثقات (وروى ابن ماجه) في آخر الصلاة (معناه) وفي سنده عبدالله بن سعيد بن أبي سعيد. قال في الزوائد: متفق على تضعيفه-انتهى. ولفظه "الزم نعليك قدميك" فإن خلعتهما فاجعلهما بين رجليك، ولا تجعلهما عن يمينك، ولا عن يمين صاحبك، ولا ورائك فتؤذي من خلفك.

(4/420)


774- قوله: (يصلي على حصير) فيه دليل على جواز الصلاة على شيء يحول بينه وبين الأرض من ثوب، وحصير وصوف وشعر وغير ذلك، وسواء نبت من الأرض أم لا. قال القاضي: الصلاة على الأرض أفضل إلا لحاجة، حر أو برد أو نحوهما، لأن الصلاة سرها التواضع والخضوع، والأرض أقرب إلى التواضع (يسجد عليه) بدل بعض من يصلي (متوشحا به) أي: مخالفا بين طرفيه. قال ابن السكيت: التوشح أن يأخذ طرف الثوب الذي ألقاه على منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى ويأخذ طرفه الذي ألقاه على الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقدهما على صدره فيكون بمنزلة الإزار والرداء (رواه مسلم) وأخرجه أيضا ابن ماجه.
775- (16) وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي حافيا ومنتعلا)) رواه أبوداود.
776- (17) وعن محمد بن المنكدر، قال: ((صلى جابر في إزار قد عقده من قبل قفاه. وثيابه موضوعة على المشجب. فقال له قائل:تصلي في إزار واحد؟ إنما صنعت ذلك ليراني أحمق مثلك وأينا كان له ثوبان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟))
775- قوله: (حافيا) أي: بلا نعال تارة (ومنتعلا) أي: أخرى، من الانتعال. وفي بعض النسخ "متنعلا" من التنعل، أي: لابسا نعليه في رجليه (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضا ابن ماجه.

(4/421)


776- قوله: (وعن محمد بن المنكدر) هو محمد بن المنكدر بن عبدالله بن الهدير-بالتصغير- التيمي المدني، أحد الأئمة الأعلام الحفاظ. سمع عن جابر، وأنس، وابن الزبير، وعمه ربيعة وغيرهم، وأكثر عن جابر. روى عنه جماعة، منهم الثوري ومالك والزهري وجعفر الصادق وهشام بن عروة. وهو من مشاهير التابعين وجلتهم، جمع بين العلم والزهد والعبادة والدين المتين والصدق والعفة. قال إسحاق بن راهويه عن ابن عيينة: كان من معادن الصدق، ويجتمع إليه الصالحون، ولم يدرك أحد أجدر أن يقبل الناس منه إذا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يسأل عمن هو، من ابن المنكدر، يعني لتحريه. وقال إبراهيم بن المنذر: كان غاية في الحفظ والإتقان والزهد، حجة. مات سنة (130) وقيل: (131) وقد بلغ (76) سنة (من قبل قفاه) بكسر القاف وفتح الموحدة أي: من جهة قفاه (وثيابه) الواو للحال (موضوعة على المشجب) بكسر الميم وسكون الشين المعجمة وفتح الجيم بعدها موحدة، هو ثلاث عيدان تضم وتعقد رؤسها ويفرج بين قوائمها، توضع عليها الثياب، وقد تعلق عليها الأسقية لتبريد الماء، قال ابن سيدة: المشجب والشجاب خشبات ثلاث يعلق عليها الراعي دلوه وسقاءه. ويقال في المثل: "فلان كالمشجب من حيث قصدته وجدته" والجملة اسمية حالية (فقال له قائل) هو عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت كما في مسلم (تصلي في إزار واحد) همزة الإنكار محذوفة (إنما صنعت ذلك) أي: الذي فعله من صلاته، وإزاره معقود على قفاه، وثيابه موضوعة على المشجب (ليراني أحمق) بالرفع غير منصرف من الحمق – بضم الحاء وسكون الميم – وهو قلة العقل. والمراد بالأحمق هنا الجاهل. وحقيقة الحمق وضع الشيء في غير موضعه مع العلم بقبحة، قاله في النهاية. وإنما أغلظ له في الخطاب زجرا عن الإنكار على العلماء، وليحثه على البحث عن الأمور الشرعية (مثلك) أي: فيعلم أنه جائز، أو فينكر على بجهله، فأظهر له جوازه ليقتدي بي الجاهل

(4/422)


ابتداء. ومثلك – بالرفع – صفة أحمق لأنها وإن أضيفت إلى المعرفة لا تتعرف لتوغلها في الإبهام إلا إذا أضيفت لما اشتهر بالمماثلة وههنا ليس كذلك، ولذا وقعت صفة لنكرة وهي أحمق (و أينا كان له ثوبان) استفهام
رواه البخاري.
777- (18) وعن أبي بن كعب، قال: ((الصلاة في الثوب الواحد سنة. كنا نفعله مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يعاب علينا. فقال ابن مسعود: إنما كان ذاك إذا كان في الثياب قلة؛ فأما إذا وسع الله، فالصلاة في الثوبين أزكى)) رواه أحمد.

(4/423)


يفيد النهى، وغرضه أن الفعل كان مقررا (على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وحينئذ فلا ينكر. والمعنى: كان أكثرنا في عهده - صلى الله عليه وسلم - لا يملك إلا الثوب الواحد، ومع ذلك فلم يكلف تحصيل ثوب ثان ليصلي فيه، فدل على الجواز. والحديث فيه دليل على جواز الصلاة في الثوب الواحد لمن يقدر على أكثر منه، وهو قول عامة الفقهاء. وروى عن ابن عمر خلاف ذلك، وكذا عن ابن مسعود، فروى ابن أبي شيبة عنه "لا يصلين في ثوب وإن كان أوسع مما بين السماء والأرض" قال في الفائق: أجمعوا على أن الصلاة في ثوبين أفضل، فلو أوجبناه لعجز من لا يقدر عليهما، وفي ذلك حرج. وأما صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في ثوب واحد، ففي وقت كان لعدم ثوب آخر، وفي وقت كان مع وجوده لبيان الجواز، نقله الطيبي. وأخرج البخاري من طريق سعيد بن المسبب، عن أبي هريرة أن سائلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في ثوب واحد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أو لكلكم ثوبان؟ قال الخطابي: لفظه إستخبار ومعناه الإخبار عما هم عليه من قلة الثياب، ووقع في ضمنه الفتوى من طريق الفحوى. كأنه يقول: إذا علمتم أن ستر العورة فرض، والصلاة لازمة، وليس لكل أحد منكم ثوبان فيكف لم تعلموا أن الصلاة في الثوب الواحد جائزة؟ أي: مع مراعاة ستر العورة به (رواه البخاري) قال العيني: هذا الطريق انفرد به البخاري.

(4/424)


777- قوله: (سنة) أي: جائز بالسنة وإن كانت في الثوبين أفضل، كما يأتي عن ابن مسعود، فلا تنافي بينهما، قاله القاري (كنا نفعله) أي: ما ذكر من الصلاة في الثوب الواحد (مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: مع فعله، أو حال كوننا معه. ويؤيد الثاني قوله (ولا يعاب علينا) أي: وما نهانا. فيكون تقريرا نبويا، فثبت جوازه بالسنة، إذ عدم الإنكار دليل الجواز لا دليل الندب (إنما كان ذاك) أي: المذكور من الصلاة في الثواب الواحد من غير كراهة (إذا كان) وفي المسند "إذ كان" (في الثياب قلة) أي: في وقت كون الثياب قليلة (فأما إذا) وفي المسند "إذ" (وسع الله) بتكثير الثياب، شرطية جزاؤها (فالصلاة في الثوبين) أي: الإزار والرداء، أو القميص والإزار (أزكى) أي: أولى. وقال الطيبي: أي: أطهر، أو أفضل، لأن الزكاة النمو الحاصل عن بركة الله تعالى، أو طهارة النفس عن الخصال الذميمة، وكلا المعنيين محتمل في الحديث، وقيل: أزكى بمعنى أنمى، أي: أكثر ثوابا، أو بمعنى أطهر، لأنه أبعد من الخصلة الذميمة التي هي أداء الصلاة على وجه الكراهة (رواه أحمد) فيه نظر لأنه لم يروه أحمد، بل هو مما رواه ابنه عبدالله زائدا على أبيه
(9) باب السترة
?الفصل الأول?
778- (1) عن ابن عمر، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغدو إلى المصلى والعنزة بين يديه تحمل، وتنصب بالمصلى بين يديه فيصلي إليها.
(ج5:ص141) من طريق أبي نضرة بن بقية، قال: قال أبي بن كعب، الخ. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص49) بعد ذكره: رواه عبدالله من زياداته، والطبراني في الكبير بنحوه من رواية زر عنه موقوفا، وأبونضرة لم يسمع من أبي ولا من ابن مسعود-انتهى. وعن ابن عمر، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإن الله أحق من يزين له). رواه الطبراني في الكبير، وإسناده حسن، قاله الهيثمي.

(4/425)


(باب السترة) هي – بالضم – ما يستتر به كائنا ما كان، وقد غلب على ما ينصبه المصلى قدامه من عصا، أو رمح، أو حربه، أو سهم، أو غير ذلك مما يظهر به موضع سجود المصلى كيلا يمر مار بينه وبين موضع سجوده. قال النووي: قال العلماء: الحكمة في السترة كف البصر عما ورائها، ومنع من يجتاز بقربه. وقال ابن الهمام في فتح القدير: المقصود من الستر جمع الخاطر بربط الخيال به كيلا ينتشر. يريد أن في فطرة الإنسان أن خياله ينتشر في كل واد، ويطوف بكل جانب إذا كان في مكان واسع، بخلاف ما إذا كان في مكان ضيق، فإنه لا يكون له جولان وتطواف مثل الأول، بل ينقبض وينحصر فيه، فأراد الشارع بأمر نصب السترة أن يضيق عليه مكان صلاته بجمع خاطره بربط الخيال به كيلا ينتشر. والله أعلم.
778- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغدو) أي: يذهب غدوة (إلى المصلى) أي: مصلى العيد (والعنزة) بفتحات وهي أقصر من الرمح، في طرفها زج كزج الرمح، والزج-بضم الزاي- الحديدة التي في أسفل الرمح، يقابله السنان. وقيل:العنزة أطول من العصا، وأقصر من الرمح، وفيها سنان كسنان الرمح (وتنصب) أي: تغرز (بالمصلى بين يديه) أي: قدامه أي: قبالة أحد حاجبيه لا بين عينيه (فيصلي إليها) زاد ابن ماجه وابن خزيمة، والإسماعيلي "وذلك أن المصلى كان فضاء، ليس فيه شيء يستره". وفي رواية للبخاري: كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة، فتوضع بين يديه، فيصلي إليها والناس وراءه. وكان يفعل ذلك (أى نصب الحربة بين يديه وحيث لا يكون جدار، والصلاة إليها) في السفر (فليس مختصا بيوم العيد) والحديث يدل على مشروعية اتخاذ السترة في الفضاء، وملازمة ذلك في السفر، وعلى أن السترة تحصل بكل شيء ينصب تجاه المصلى وإن دق إذا كان قدر مؤخرة الرحل وعلى مشروعية المشى بين يدي الإمام بآلة من السلاح. ولا يعارض ذلك ما روى من النهي عن حمل السلاح يوم العيد، لأن ذلك إنما هو عند
رواه البخاري.

(4/426)


779- (2) وعن أبي جحيفة، قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة وهو بالأبطح في قبة حمرآء من أدم، ورأيت بلالا أخذ وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورأيت الناس يبتدرون ذلك الوضوء، فمن أصاب منه شيئا تمسح به، ومن لم يصب منه أخذ من بلل يد صاحبه. ثم رأيت بلالا أخذ عنزة فركزها. وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حلة حمرآء مشمرا، صلى إلى العنزة
خشية التأذى به (رواه البخاري) في العيدين. وأخرجه أيضا مسلم، وأبوداود والنسائي وابن ماجه بنحوه.

(4/427)


779- قوله: (وعن أبي جحيفة) بضم الجيم وفتح الحاء المهملة وسكون الياء وبالفاء، اسمه وهب بن عبدالله السوائى – بضم المهملة وخفة الواو والمد – نسبة إلى سواءة بن عامر. ويقال: اسم أبيه وهب أيضا، مشهور بكنيته. ويقال له: وهب الخير، صحابي معروف. قيل: مات النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبلغ الحلم، ولكنه سمع منه وروى عنه. وكان من كبار أصحاب على وخواصه، وكان على شرطته، واستعمله على خمس المتاع. مات بالكوفة سنة (74) له خمسة وأربعون حديثا، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بثلاثة. روى عنه جماعة (وهو بالأبطح) بفتح الهمزة، وهو في اللغة مسيل واسع فيه دقاق الحص. والبطيحة والبطحاء مثله، صار علما للمسيل الذي بين مكة ومنى، ينتهى إليه السيل من وادي منى، وهو أقرب إلى مكة، يكون فيه دقاق الحصى، ويسمى البطحاء والمحصب أيضا فكثرة الحصباء فيه (من أدم) بفتحتين، جمع أديم أي: جلد (وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بفتح الواو، أي: الماء الذي توضأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والظاهر أن المراد به ما سال من أعضاء وضوءه - صلى الله عليه وسلم -. وفيه دلالة بينة على طهارة الماء المستعمل (يبتدرون) أي: يتسارعون ويتسابقون (ذلك الوضوء) أي: إلى أخذ ماء وضوئه تبركا بآثاره الشريفة (فمن أصاب) أي: أخذ (منه) أي: من بلال (شيئا) من الماء، أو فمن وجد من ذلك الماء شيئا قليلا وقدرا يسيرا (تسمح به) أي: مسح به وجهه وأعضائه لينال بركته - صلى الله عليه وسلم - (ومن لم يصب منه) أي: من بلل يد بلال (أخذ من بلل يد صاحبه) فيه دليل بين على أن الماء المستعمل طاهر، ولا دليل على كونه من خصائصه (فركزها) أي: غرزها (في حلة) أي: حال كونه في حلة. وهي بضم الحاء إزار ورداء، ولا تسمى حلة حتى يكون ثوبين (حمرآء) فيه أظهر دليل على أنه يجوز لبس الأحمر الصرف للرجال وإن كان قانئا، خلافا للحنفية، فإنهم قالوا: يكره،

(4/428)


وتأولوا هذا الحديث بأنها كانت حلة من برود فيها خطوط حمر. وهو تأويل ضعيف أو باطل. وسيأتي الكلام عليه مفصلا في موضعه (مشمرا) بكسر الميم الثانية من التشمير، وهو ضم الذيل ورفعه للعدو أي: مسرعا، يقال: فلان شمر عن ساقه، وتشمر في أمره أي: خف، وقيل: المراد رافعا ثوبه قد كشف شيئا من ساقيه. قال في مسلم: كأنى أنظر إلى بياض ساقيه (صلى)
بالناس ركعتين. ورأيت الناس والدواب يمرون بين يدي العنزة)). متفق عليه.
780- (3) وعن نافع، عن ابن عمر ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعرض راحلته فيصلي إليها)). متفق عليه.
ولمسلم: تقدم فصلى إلى العنزة (بالناس) أي: إماما بهم (ركعتين) أي: للظهر كما في رواية (يمرون) فيه تغليب للعقلاء (بين يدي العنزة) أي: وراءها. وفيه استعمال المجاز، وإلا فالعنزة لا يدلها. وفي الحديث من الفوائد: استعمال البركة مما لامسه الصالحون، ووضع السترة للمصلى حيث يخشى المرور بين يديه، والإكتفاء فيها بمثل غلظ العنزة. وفيه تعظيم الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وفيه استحباب استصحاب العنزة ونحوها (متفق عليه) أخرجه البخاري مطولا ومختصرا في الطهارة وفي الصلاة وفي اللباس وفي صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه مسلم في الصلاة. قال ميرك: ولفظه للبخاري. وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود في الصلاة، والنسائي في الزينة، وابن ماجه في الصلاة.

(4/429)


780- قوله: (كان يعرض راحلته) أي: ينيخها بالعرض بينه وبين القبلة حتى تكون معترضة بينه وبين من يمر بين يديه. من عرض العود على الإناء يعرض-بضم الراء وكسرها- وضعه عرضا، قاله التوربشتي. وقال النووي: هو بفتح الياء وكسر الراء، وروى بضم الياء وفتح العين وتشديد الراء المكسورة. ومعناه يجعلها معترضة بينه وبين القبلة-انتهى. والراحلة الناقة التي تصلح لأن يوضع الرحل عليها، قاله الجوهري. وقال الأزهري: الراحلة المركوب النجيب ذكرا كان أو أنثى. والهاء فيها للمبالغة (فيصلي إليها) فيه دليل على جواز الصلاة إلى الحيوان، والاستتار بما يستقر منه من غير كراهة، وجواز الصلاة بقرب البعير، ولا يعارضه النهي عن الصلاة في معاطن الإبل، لأن المعاطن مواضع إقامتها عند الماء، ولا يستلزم من النهي عن الصلاة في معاطن الإبل النهي عن الصلاة إلى البعير الواحد في غير المعاطن. قال ابن حزم: من منع الصلاة إلى البعير فهو مبطل. وقال ابن عبدالبر في الاستذكار: أما الاستتار بالراحلة فلا أعلم فيه خلافا. قلت: قال الشافعي: لا يستتر بامرأة ولا دابة. وفي الشرح الكبير للمالكية: وسترة لإمام وفذ بطاهر ثابت لا دابة إما لنجاسة فضلتها كالبغال، وإما لخوف زوالها، وإما لهما. قال الدسوقي: فلا تحصل السنة أو المندوب بالاستتار بها-انتهى. وبهذا علم أن التستر بالدابة والصلاة إليها لا يخلوا عن الكراهة عند الشافعية والمالكية. ولذلك حملوا الحديث على حال الضرورة، فقال الحافظ في الفتح، والزرقاني في شرح الموطأ، وابن رسلان: يحمل ما وقع منه في السفر من الصلاة إليها على حالة الضرورة. ونظيره صلاته إلى السرير الذي عليه المرأة، لكون البيت كان ضيقا. قال الحافظ: وعلى هذا فقول الشافعي في البويطي "لايستتر بامرأة ولا دابة" في حال الاختيار. وقال النووي: لعل الحديث لم يبلغ الشافعي ومذهبه اتباع الحديث، فتعين العلم به، إذ لا معارض له-انتهى. قال الحافظ: وروى

(4/430)


عبدالرزاق، عن ابن عيينة، عن عبدالله بن دينار أن ابن عمر كان يكره أن يصلي إلى البعير إلا وعليه رحل. وكان الحكمة في ذلك أنها في حال شد الرحل عليها أقرب إلى السكون من حال تجريدها-انتهى (متفق عليه) ولفظه للبخاري،
وزاد البخاري، قلت: أفرأيت إذا هبت الركاب. قال: كان يأخذ الرحل فيعدله، فيصلي إلى أخرته.
781- (4) وعن طلحة بن عبيدالله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل، ولا يبال

(4/431)


وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود (قلت) أي: قال عبيدالله بن عمر: قلت: لنافع، كذا بينه إسماعيلي، وحينئذ فيكون مرسلا لأن فاعل قوله "يأخذ" الآتي هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر نافع. قال الحافظ: قوله "قلت أفرأيت" ظاهره أنه كلام نافع والمسؤل ابن عمر، لكن بين الإسماعيلي من طريق عبيدة بن حميد، عن عبيدالله بن عمر أنه كلام عبيدالله، والمسؤل نافع فعلى هذا هو مرسل، لأن فاعل "يأخذ" هو النبي. ولم يدركه نافع-انتهى. قال ميرك شاه: فعلى هذا إيراد محي السنة، وصاحب المشكاة ليس بسديد، لأنهما ذكرا في كتابيهما كلا مالم يذكر قائله فيهما مع أنه يوهم خلاف الواقع-انتهى (إذا هبت الركاب) بكسر الراء، أي: هاجت الإبل. وشوشت على المصلى لعدم استقرارها. يقال: "هب الفحل" إذا هاج، و"هب البعير في السير" إذ نشط. والركاب الإبل التي يسار عليها. ولا واحد لها من لفظها. والمعنى إلى أي: شيء كان يصلي عند هبوب الركاب؟ (قال) أي: نافع (كان يأخذ) أي: النبي- صلى الله عليه وسلم - (الرحل) بفتح الراء وسكون الحاء، ما يوضع على ظهر البعير ليركب عليه كالسرج للفرس (فيعدله) بضم المثناة التحتية وفتح العين وتشديد الدال، من التعديل وهو تقويم الشيء وتسويته. وضبطه الحافظ وغيره بفتح أوله، وسكون العين، وكسر الدال أي: يقيمه تلقاء وجهه (فيصلي إلى آخرته) بفتح الهمزة والمعجمة والراء من غير مد، ويجوز المد لكن مع كسر الخاء، والمراد بها العود الذي في آخر الرحل الذي يستند إليه الراكب خلاف قادمته.

(4/432)


781- قوله: (إذا وضع أحدكم بين يديه) أي: قدامه. وهذا مطلق، وقد ورد في حديث بلال "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في الكعبة وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع" فينبغي للمصلي أن يدنو من السترة ولا يزيد ما بينهما على ثلاثة أذرع. قال البغوي: استحب أهل العلم الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود، وكذلك بين الصفوف. وقد ورد الأمر بالدنو منها كما سيأتي (مثل مؤخرة الرحل) أي: سترة مثل آخرة الرحل. وفي المؤخرة لغات: ضم الميم وسكون الهمزة وكسر الخاء المخففة وفتحها. وفتح الهمزة والخاء معا مع تشديد الخاء، وفتح الهمزة وكسر الخاء المشددة. وفتح الميم وسكون الواو من غير همزة وكسر الخاء. وهو العود الذي يستند إليه راكب الرحل، قال الحافظ: اعتبر الفقهاء مؤخرة الرحل في مقدار أقل السترة، واختلفوا في تقديرها بفعل ذلك، فقيل: ذراع، وقيل: ثلثا ذراع. وهو أشهر، لكن في مصنف عبدالرزاق عن نافع: أن مؤخرة رحل ابن عمر كانت قدر ذراع. وقال النووي: في هذا الحديث بيان أن أقل السترة مؤخرة الرحل، وهي قدر عظم الذراع وهو نحو ثلثي ذراع. ويحصل بأي شيء أقامه بين يديه. قال: وليس في هذا الحديث دليل على بطلان الخط-انتهى (ولا يبال) وفي بعض نسخ مسلم "ولا يبالى" من المبالاة، يقال: بالى الأمر
من مر وراءه ذلك)) رواه مسلم.
782- (5) وعن أبي جهيم، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه، لكان أن يقف أربعين

(4/433)


وبالأمر، اهتم به وأكترث له (من) أي: بمن أو ممن (مر وراء ذلك) من المرأة ونحوها. ولا يدفعه بالإشارة وغيرها. ولفظ أبي داود "إذا جعلت بين يديك مثل مؤخرة الرحل فلا يضر من مر بين يديك" والمراد بالضرر الضرر الراجع إلى نقصان صلاة المصلى. وفيه إشعار بأنه لا ينقص شيء من صلاة من اتخذ سترة بمرور من مر بين السترة والقبلة. ويحصل النقص إذا لم يتخذ سترة، وكذا إذا مر المار بينه وبين السترة (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه.

(4/434)


782- قوله: (بين يدي المصلي) ظرف الماء، أي: أمامه بالقرب منه. وعبر باليدين لكون أكثر الشغل يقع بهما. واختلف في تحديد ذلك فقيل: ما بين موضع جبهته في سجوده وقدميه، وقال بعض الحنفية: المرور المحرم، المرور بينه وبين موضع سجوده. والمراد بموضع السجود المكان الذي بينه وبين منتهى بصره إذا قام متوجها إلى مكان يسجد فيه. وقيل: المراد قدر ما يقع بصره على المار لو صلى بخشوع، أي: راميا ببصره إلى موضع سجوده. وقال بعضهم: مقدار صف. وقال بعضهم: مقدار صفين. وقال بعضهم: مقدار ثلاثة صفوف. وهذا كله في الصحراء والمسجد الكبير. وأما في المسجد الصغير فما بينه وبين جدار المسجد. وقال ابن العربي: حريم المصلى الذي يمنع المرور فيه مقدار ما يحتاجه لقيامه وركوعه وسجوده. وقيل: إنه قدر رمية الحجر، أو السهم، أو المضاربة بالسيف، أقوال عند المالكية. وقالت الشافعية والحنابلة: مقدار ثلاثة أذرع. قلت: أرجح الأقوال في ذلك عندي أنه قدر ما يقع بصره على المار لو صلى بخشوع، أي: راميا ببصره إلى موضع سجوده من غير تفصيل بين المسجد وغيره. والله أعلم. قال السيوطي: المراد بالمرور أن يمر بين يديه معترضا. أما إذا مشى بين يديه ذاهبا لجهة القبلة فليس داخلا في الوعيد-انتهى. وقال الحافظ: ظاهر الحديث أن الوعيد المذكور يختص بمن مر لا بمن وقف عامدا مثلا بين يدى المصلى أو قعد، أو رقد لكن إن كانت العلة فيه التشويش على المصلي فهو في معنى المار-انتهى. والحديث عام في كل مصل فرضا أو نفلا، سواء كان إماما أو منفردا أو مأموما، والمفرد في ذلك (ماذا عليه) أي: من الإثم أو الضرر بسب مروره بين يديه، وهو في موضع نصب ساد مسد مفعولى يعلم، وجواب "لو" قوله: (لكان أن يقف أربعين) أي: أن المار لو علم مقدار الإثم الذي يلحقه من مروره بين يدي المصلي لاختار أن يقف المدة المذكورة حتى لا يلحقه ذلك الإثم. وقال الكرماني:

(4/435)


خيرا له من أن يمر بين يديه. قال أبوالنضر: لا أدري قال: أربعين يوما، أو شهرا، أو سنة)) متفق عليه.
جواب "لو" ليس هو المذكور بل التقدير: لو يعلم ما الذي عليه لوقف أربعين، ولو وقف أربعين لكان خيرا له. قال الحافظ: وليس ما قاله متعينا. وقال السندي: أي: لكان وقوفه خيرا له من المرور عنده. ولهذا علق بالعلم، وإلا فالوقوف خيرا له سواء علم أو لم يعلم (خيرا له) بالنصب على أنه خبر كان، واسمه قوله: أن يقف. وروى بالرفع، وهي رواية الترمذي. قيل: هو مرفوع على أنه اسم كان، وسوغ الابتداء بالنكرة لكونها موصوفة. ويحتمل أن يقال: اسمها ضمير الشأن، والجملة خبرها. قال الكرماني: أبهم العدد تفخيما للأمر وتعظيما له. قال الحافظ: ظاهرالسياق أنه عين المعدود، ولكن شك الراوي فيه. وقد وقع في مسند البزار من حديث أبي جهيم "لكان أن يقف أربعين خريفا" أي: عاما. أطلق الخريف على العام من إطلاق الجزء على الكل. وسيأتي في الفصل الثالث من حديث أبي هريرة "كان لأن يقيم مائة عام خير له من الخطوة التي خطاها" وهذا مشعر بأن إطلاق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر لا لخصوص عدد معين. وجنح الطحاوي إلى أن التقييد بالمائة وقع بعد التقييد بالأربعين زيادة في تعظيم الأمر على المار، لأنهما لم يقعا معا، إذ المائة أكثر من الأربعين، والمقام مقام زجر وتخويف، فلا يناسب أن يتقدم ذكر المائة على الأربعين، بل المناسب أن يتأخر ومميز الأربعين إن كان هو السنة ثبت المدعى، أو ما دونها فمن باب الأولى (من أن يمر) أي: من المرور (بين يديه) أي: المصلي لأن إثم المرور يفضى إلى تعب هو أشد من هذا التعب، فإن عذاب الدنيا وإن عظم يسير (قال أبوالنضر) هذه مقولة مالك، وأبوالنضر-بفتح النون وسكون الضاد المعجمة-اسمه سالم بن أبي أمية المدني مولى عمر بن عبيدالله التيمي، سمع أنسا. قال ابن عبدالبر: أجمعوا على أنه ثقة ثبت، وكان ابن عيينة يصفه بالفضل، والعقل،

(4/436)


والعبادة. وقال الحافظ: ثقة ثبت، وكان يرسل من صغار التابعين، روى عنه مالك، والسفيانان، وغيرهم. مات سنة (129) (قال) وفي رواية "أقال" بهمزة الاستفهام. والضمير يرجع إلى بسر بن سعيد، وقيل: إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أربعين يوما، أو شهرا، أو سنة) معنى هذا الكلام أن أبالنضر قال: لا أدري-أى لا أحفظ- أن شيخي بسر بن سعيد أقال بعد قوله عن أبي جهيم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكر بعد قوله "أربعين" لا يوما، ولا شهرا، ولا سنة، فلا أدري هل ذكر بعد ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا من هذه الثلاثة أو لم يذكر. والحديث يدل على تحريم المرور بين يدي المصلي، فإن في معنى الحديث النهي الأكيد، والوعيد الشديد على ذلك، قاله النووي. ومقتضى ذلك أن يعد في الكبائر. وظاهره يدل على منع المرور مطلقا، و لو لم يجد مسلكا، بل يقف حتى يفرغ المصلى من صلاته (متفق عليه) واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضا مالك، وأحمد والترمذي وأبوداود، والنسائي وابن ماجه.
783- (6) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه، فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو الشيطان)).

(4/437)


783- قوله: (إلى شيء يستره من الناس) مما سلف تعيينه من السترة، وقدرها، وقدركم يكون بينها وبين المصلي. وفيه أنه لا يجوز الدفع والمقاتلة إلا لمن كان له سترة. قال النووي: اتفقوا على أن هذا كله لمن لم يفرط في صلاته بل احتاط وصلى إلى سترة، أو في مكان يأمن المرور بين يديه (أن يجتاز) من الجواز أي: يعبر ويمر ويتجاوز (بين يديه) وليدرأه ما استطاع، قيل: ندبا. وقال أهل الظاهر: وجوبا، وهو الظاهر. قال القرطبي: أي: بالإشارة ولطيف المنع، أو بوضع اليد على نحره كما في رواية. وقيل: بالتسبيح أو الجهر بآية في الصلاة السرية، فإن كانت الصلاة جهرية يرفع بها صوته أزيد من قرأته. قال عياض: اتفقوا على أنه لا يجوز له المشى إليه من موضعه ليرده، إنما يرده ويدفعه من موقفه لأن مفسدة المشي في صلاته أعظم من مروره من بعيد بين يديه. وإنما أبيح له قدر ما تناله يده من موقفه. ولهذا أمر بالقرب من سترته، وإنما يرده إذا كان بعيدا منه بالإشارة والتسبيح-انتهى (فإن أبى) أي: امتنع من الاندفاع (فليقاتل) حملوه على أشد الدفع، وقالوا: يزيد في دفعه الثاني أشد من الدفع الأول. قال القرطبي: اجمعوا على أنه لا يلزمه أن يقاتله بالسلاح لمخالفة ذلك لقاعدة الإقبال على الصلاة، والإشتغال بها، والخشوع فيها – انتهى. وقال الحافظ: وقد رواه الإسماعيلي بلفظ "فإن أبى فليجعل يده في صدره ويدفعه، " وهو صريح في الدفع باليد، قال: وقال أصحابنا يرده بأسهل الوجوه، فإن أبى فبأشدها ولو أدى إلى قتله، فلو قلته فلا شيء عليه، لأن الشارع أباح له مقاتلته، والمقاتلة المباحة لا ضمان فيها. ونقل عياض وغيره أن عندهم خلافا في وجوب الدية في هذه الحالة (فإنما هو شيطان) تعليل للأمر بقتاله، أو لعدم اندفاعه، أولهما. أي: مطيع له فيما يفعل من المرور. وإطلاق الشيطان على مارد الإنس شائع ذائع. وقد جاء في القرآن قوله تعالى: ?شياطين الإنس والجن? [111:6] وسبب إطلاقه عليه أنه

(4/438)


فعل فعل الشيطان في إرادة التشويش على المصلي. وقيل المراد: إنما الحامل له على ذلك شيطان. وقد وقع في رواية للإسماعيلي "فإن معه الشيطان" ونحوه لمسلم من حديث ابن عمر بلفظ "فإن معه القرين" أي: الشيطان المقرون بالإنسان لا يفارقه، الحامل له هذا الفعل، يعني فينبغي منعه مهما أمكن عن ذلك الفعل الذي الحامل عليه الشيطان. وقد اختلف في الحكمة المقتضية للدفع، فقيل: لدفع الإثم عن المار. وقيل: لدفع الخلل الواقع بالمرور في الصلاة. وهذا الأرجح لأن عناية المصلى بصيانة صلاته أهم من دفعه الإثم عن غيره. قال الأمير اليماني، ولو قيل: إنه لهما معا لما بعد، فيكون لدفع الإثم عن المار الذي أفاده حديث "لو يعلم المار" ولصيانة الصلاة عن النقصان من أجرها، فقد أخرج أبونعيم عن عمر "لو يعلم المصلى ما ينقص من صلاته بالمرور بين يديه ما صلى إلا
هذا لفظ البخاري، ولمسلم معناه.
784- (7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب. ويقى ذلك مثل مؤخرة الرحل)).
إلى شيء يستره من الناس، وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود: أن المرور بين يدي المصلي يقطع نصف صلاته. ولهما حكم الرفع وإن كانا موقوفين لأن مثلهما لا يقال بالرأي. وهذان الأثران مقتضاهما أن الدفع لخلل يتعلق بصلاة المصلي ولا يختص بالمار (هذا لفظ البخاري) أي: في كتاب الصلاة، وأخرجه أيضا في صفة إبليس (ولمسلم معناه) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه مطولا ومختصرا.

(4/439)


784- قوله: (تقطع) بالتأنيث (الصلاة) أي: تفسدها وتبطلها، أو تقلل ثوابها وتنقص أجرها بقطع حضورها وخشوعها وكمالها. وهذا إذا لم يكن بين يديه سترة كما سيأتي (المرأة) هو فاعل تقطع، أي: مرور المرأة إذا مرور هو محل النزاع. ولأبي داود وابن ماجه من حديث ابن عباس "يقطع الصلاة المرأة الحائض". قال السندي: يحتمل أن المراد ما بلغت سن الحيض أي: البالغة وهي المتبادرة من لفظ المرأة. وعلى هذا فالصغيرة لا تقطع. قلت: تقييد المرأة بالحائض يقتضي حمل المطلق على المقيد، فلا تقطع الصلاة إلا الحائض، كما أنه أطلق الكلب عن وصفه بالأسود في حديث أبي هريرة هذا، وقيد به في حديث أبي ذر عند مسلم وغيره، فحملوا المطلق على المقيد، وقالوا: لا يقطع إلا الأسود، فتعين في المرأة الحائض حمل المطلق على المقيد (والحمار الكلب) وجه تخصيص هذه الأشياء مفوض إلى رأى الشارع، والله أعلم (ويقى) أي: يحفظ (ذلك) أي: القطع (مثل مؤخرة الرحل) أي: مثلا، وإلا فقد أجزأ السهم كما رواه الحاكم من حديث سبرة بن معبد مرفوعا"يستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم". وفي قطع الصلاة بمرور هذه الأشياء أحاديث عن جماعة من الصحابة: عن عبدالله بن مغفل عند أحمد وابن ماجه. أبي ذر عند أحمد ومسلم والترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجه. والحكم الغفاري عند الطبراني في الكبير. قال الهيثمي:وفيه عمر بن دريج، ضعفه أبوحاتم، ووثقه ابن معين وابن حبان، وبقية رجاله ثقات. وأنس عند البزار. قال العراقي: رجاله ثقات. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وابن عباس عند أبي داود وابن ماجه. وعبدالله بن عمرو عند أحمد. قال الهيثمي: رجاله موثقون، وقال العراقي: إسناده صحيح. وعائشة عند أحمد قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يقطع صلاة المسلم شيء إلا الحمار، والكافر والكلب والمرأة، فقالت عائشة: يارسول الله ! لقدر قرنا بدواب سوء. قال العراقي والهيثمي: رجاله ثقات. وهذه الأحاديث نص

(4/440)


في أن الأشياء المذكورة فيها تقطع صلاة من لا سترة له. وظاهر القطع الإبطال. وقد عارضها حديث "لا يقطع الصلاة شيء" أخرجه أبوداود من حديث أبي سعيد، وسيأتي الكلام فيه في الفصل الثاني. وروى أيضا من حديث أنس عند الدارقطني، قال الحافظ في الدراية: إسناده حسن. ومن حديث أبي أمامة عند الدارقطني
والطبراني في الكبير، قال الهيثمي: إسناده حسن. وقال الشوكاني: في إسناده عفير بن معدان، وهو ضعيف. ومن حديث جابر عند الطبراني في الأوسط. قال الهيثمي: وفيه يحيى بن ميمون التمار، وهو ضعيف، وقد ذكره ابن حبان في الثقات. ومن حديث أبي هريرة عند الدارقطني، وفيه إسحاق بن عبدالله بن أبي فروة، وهو متروك. ومن حديث ابن عمر عند الدارقطني أيضا، وفيه إبراهيم بن يزيد الخوزي، وهو ضعيف. قال العراقي: والصحيح ما رواه مالك في الموطأ من قوله. وقد أخرج سعيد بن منصور، عن علي وعثمان وغيرهما من أقوالهم نحو هذا الحديث بأسانيد صحيحة. قيل ويعارض أحاديث القطع حديث عائشة، وحديث ابن عباس التاليان، وحديث الفضل بن عباس في الفصل الثاني، وحديث عائشة في الفصل الثالث. وقد اختلف العلماء في العمل بهذه الأحاديث، واختلفت آراؤهم في الكلام على هذه الروايات وتعارضها: فقال بقطع الصلاة بالمرأة والكلب والحمار أبوهريرة وأنس من الصحابة، والحسن البصري وأبوالأحوص من التابعين، وأحمد بن حنبل من الأئمة فيما حكاه عنه ابن حزم الظاهري. وحكى الترمذي عنه أنه يخصصه بالكلب الأسود، ويتوقف في الحمار والمرأة. ووجهه ابن دقيق العيد وغيره بأنه لم يجد في الكلب الأسود ما يعارضه، ووجد في الحمار حديث ابن عباس، وفي المرأة حديث عائشة يعني الذين يليان حديث أبي هريرة وسيأتي الكلام في دلالتهما على ذلك. وقال عطاء وابن جرير: يقطعها الكلب الأسود والمرأة الحائض دون الحمار لحديث ابن عباس الآتي. وذهب أهل الظاهر- كما قال ابن حزم في المحلى- إلى أنه يقطع الصلاة كون الكلب والحمار

(4/441)


بين يدي المصلي مارا أو غير مار، صغيرا أو كبيرا، حيا أو ميتا، وكذا كون المرأة بين يدي الرجل مارة أو غير مارة، صغيرة أو كبيرة، إلا أن تكون مضطجعة معترضة فقط. ثم اختلف القائلون بالقطع بمعنى الإبطال بالثلاثة في الجواب عن أحاديث عدم القطع، فقال بعضهم: الأحاديث التي تعارض حديث أبي ذر ومن وافقه بعضها صحيحة لكنها غير صريحة في عدم القطع كحديث عائشة وابن عباس، فإن في دلالتهما على ذلك نظرا قويا كما ستعرف، فلا يترك العمل بحديث أبي ذر الصريح بالمحتمل. وبعضها صريحة كحديث أبي سعيد ومن وافقه، لكنها ضعيفة لا تنهض للاحتجاج، ولو سلم انتهاضها فهي عامة مخصصة بأحاديث القطع. أمل عند من يقول إنه يبني العام على الخاص مطلقا فظاهر. وأما عند من يقول إن العام المتأخر ناسخ فلا تأخر لعدم العلم بالتاريخ، ومع عدم العلم يبني العام الخاص عند الجمهور. وأما على القول بالتعارض بين العام والخاص مع جهل التاريخ كما هو مذهب الحنفية فلا شك أن الأحاديث الخاصة- أي: أحاديث أبي ذر ومن وافقه- أرجح وأقوى وأصح من هذه الأحاديث العامة، فالأخذ بالأقوى أولى. وقال بعضهم: أحاديث عدم القطع منسوخة بحديث أبي ذر ومن وافقه. قال ابن حزم في المحلى (ج4:ص 14): لو صحت هذه الآثار- وهي لا تصح- لكان حكمه - صلى الله عليه وسلم - بأن الكلب والحمار والمرأة يقطعون الصلاة، هو الناسخ بلا شك لما كانوا عليه قبل من أن لا يقطع الصلاة شيء من الحيوان كما لا يقطعها الفرس والسنور والخنزير وغير ذلك، فمن الباطل الذي لا يخفي، ولا يحل ترك الناسخ المتيقن والأخذ بالمنسوخ المتيقن. ومن المحال أن تعود الحالة المنسوخة ثم لا يبين

(4/442)


عليه السلام عودها- انتهى. وذهب الجمهور مالك والشافعي وأبوحنيفة وغيرهم من السلف والخلف إلى أنه لا يقطعها شتى. ثم اختلف هؤلاء في تأويل أحاديث القطع، فمال بعضهم إلى النسخ. قال الطحاوي وابن عبدالبر: إن حديث أبي ذر ومن وافقه منسوخ بحديث عائشة وحديث ابن عباس الآتيين، واستدلا على تأخر تاريخ حديث ابن عباس بأنه كان في حجة الوداع، وهي في سنة عشر، وفي آخر حياة النبي- صلى الله عليه وسلم -، وعلى تأخر حديث عائشة بأن ما حكاه عائشة عنه يعلم تأخره لكونه صلاته بالليل عندها، ولم يزل على ذلك حتى مات مع تكرر قيامه في كل ليلة، فلو حدث شيء مما يخالف ذلك لعلمت به. وفي هذا الاستدلال نظر لا يخفى على المتأمل، وعلى تسليم صحته لا يتم به المطلوب من النسخ لوجوه ذكرها الشوكاني في النيل، وسنورد بعضها في شرح حديث ابن عباس وعائشة. ووجه النسخ بعضهم بأن ابن عمر وابن عباس من رواة حديث القطع وقد حكما بعدم قطع شيء وهو من أمارات النسخ. وفيه أن عمل الراوي خلاف ما رواه لا يدل على نسخ مروية على ما هو الحق في ذلك. وقال العلامة الشيخ أحمد في تعليقه على الترمذي (ج2:ص164): والصحيح الذي أرضاه وأختاره أن أحاديث القطع منسوخة بحديث "لا يقطع الصلاة شيء" الذي رواه أبوداود، وقد ضعفه ابن حزم في المحلى (ج4:ص13) بأن أبا الوداك ومجالدا ضعيفان. وأبوالوداك هو جبر بن نوف البكالي، وهو ثقة، وثقة ابن معين، وابن حبان. واختلف فيه قول النسائي، فمرة قال "صالح" ومرة قال "ليس بالقوي" ومثل هذا لا يطلق عليه الحكم بالضعف. وقد أخرج له مسلم في الصحيح. ومجالد هو ابن سعيد الهمداني الكوفي ضعفه أحمد وغيره. وقال يعقوب بن سفيان: تكلم الناس فيه وهو صدوق. وقال البخاري: صدوق، وأخرج له مسلم مقرونا بغيره، ومثله أيضا لا يطرح حديثه، وقد ورد أيضا عن أبي أمامة مرفوعارواه الطبراني في الكبير. قال في مجمع الزوائد: إسناده حسن. قال: وقد حققت ترجيح النسخ في تعليقي

(4/443)


على المحلى لابن حزم (ج4:ص15، 14) وقلت: إن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -"لا يقطع الصلاة شيء" فيه إشارة إلى أنه كان معروفا عند السامعين قطعها بأشياء من هذا النوع بل هو يكاد يكون كالصريح فيه لمن تأمل وفكر في معنى الحديث. ثم قد ورد ما يؤيد هذا، فروى الدارقطني (ص141، 140) والبيهقي (ج2:ص278، 277) من طريق إبراهيم بن منقذ الخولاني، ثنا إدريس بن يحيى أبوعمرو المعروف بالخولاني، عن بكر بن مضر، عن صخر بن عبدالله بن حرملة أنه سمع عمر بن عبدالعزيز يقول عن أنس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بالناس فمر بين أيديهم حمار، فقال عياش بن أبي ربيعة: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله. فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من المسبح آنفا سبحان الله؟ قال: أنا يارسول الله ! إني سمعت أن الحمار يقطع الصلاة. قال: لا يقطع الصلاة شيء). قال: ولم أجد ترجمة لإدريس بن يحيى، وما أظن أحدا ضعفه، ولذلك لما أراد ابن الجوزي أن ينصر مذهبه ضعف الحديث بصخر بن عبدالله فأخطأ جدا، لأنه زعمه صخر بن عبدالله الحاجي المنقري، وهو كوفي متأخر، روى عن مالك والليث، وبقي في حدود سنة (230) وأما الذي في الإسناد، فهو صخر ابن عبدالله بن حرملة المدلجي، وهو حجازي قديم، كان في حدود سنة (130) وهو ثقة. قال: وهذا صريح في
رواه مسلم.

(4/444)


الدلالة على أن الأحاديث التي فيها الحكم بقطع الصلاة بالمرأة، والحمار، والكلب منسوخة، فقد سمع عياش أن الحمار يقطع الصلاة، وعياش من السابقين الذين هاجروا الهجرتين، ثم حبس بمكة. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوا له في القنوت كما ثبت في الصحيحين، فعلم الحكم الأول، ثم غاب عنه نسخة، فأعلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الصلاة لا يقطعها شيء- انتهى كلامه ملخصا مختصرا. ومال بعضهم إلى الترجيح، فقال: أحاديث الجمهور مثل حديث عائشة، وحديث ابن عباس أقوى وأصح من الأحاديث التي فيها الحكم بالقطع، فالأخذ بالأقوى أولى. قال الشيخ أحمد في تعليقه بعد نقل كلام الشافعي من "اختلاف الحديث" المطبوع بحاشيته كتاب الأم (ج7:ص164، 163): وكأن الشافعي يريد تضعيف الحديث الذي فيه قطع الصلاة بأنه حديث يخالف أحاديث أثبت منه وأقوى، كأنه يقول شاذ، ولكن القطع ثابت بأحاديث صحيحة من غير وجه، فلا تكون شاذة. واختار بعضهم للترجيح مسلكا آخر، قال: لما اختلفت أحاديث الباب، ولم يتبين الراجح منها نظرنا إلى ما عمل به الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فرجحنا به أحد الجانبين. قال أبوداود في سننه بعد رواية حديث أبي سعيد: إذا تنازع الخبران عن النبي- صلى الله عليه وسلم - نظر إلى ما عمل به أصحابه من بعده، يعني وقد ذهب أكثرهم مثل عائشة، وابن عباس، وابن عمر، وعلى، وعثمان، وحذيفة إلى عدم القطع فليكن هو الراجح. ومال بعضهم إلى التأويل، فقال الخطابي والنووي وغيرهما: المراد بالقطع في حديث أبي ذر نقص الصلاة بشغل القلب بمرور هذه الأشياء عن مراعاة الصلاة، وبعدم القطع في حديث أبي سعيد عدم البطلان، أي: أنه لا يبطلها شيء وإن نقص ثوابها بمرور ما ذكر في حديث أبي ذر وأبي هريرة. قال الحافظ: ويؤيد ذلك أن الصحابي راوى الحديث سأل عن الحكمة في التقييد بالأسود، فأجيب بأنه شيطان. وقد علم أن الشيطان لو مر بين يدى المصلي لم تفسد عليه

(4/445)


صلاته. وقال القرطبي: هذا مبالغة في الخوف على قطعها بالشغل بهذه المذكورات، فإن المرأة تفتن، والحمار ينهق، والكلب يخوف، فيشوش المتفكر في ذلك حتى تنقطع عليه الصلاة. فلما كانت هذه الأمور آئلة إلى القطع جعلها قاطعة- انتهى. وفيه ما قال السندي: من أن شغل القلب لا يرتفع بمؤخرة الرحل، إذ المار وراء مؤخرة الحل في شغل القلب قريب من المار في شغل القلب إن لم يكن مؤخرة الرحل فيما يظهر، فالوقاية بمؤخرة الرحل على هذا المعنى غير ظاهر- انتهى. قلت: الراجح عندي أنه لا يقطع الصلاة مرور شيء وإن لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل. وأقرب المسالك في الأحاديث التي فيها الحكم بقطع الصلاة أنها منسوخة بحديث "لا يقطع الصلاة شيء" وإن لم يرتض بذلك النووي. وهذا لأن الجمع بما تأول به الخطابي والنووي لا يخلو عن تكلف وخفاء كما أشار إليه السندي. ولا شك في أن الجميع المذكور خلاف الظاهر. وقد علم تأخر حديث "لا يقطع الصلاة شيء" بما حققه الشيخ في تعليقه على المحلى، وهو تحقيق جيد فهو أحق وأحرى بالقبول، والله أعلم (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه.
785- (8) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان النبي- صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل وأنا معترضة بينه
وبين القبلة كاعتراض الجنازة)).

(4/446)


785- قوله: (وأنا معترضة بينه وبين القبلة) قال ابن الملك: الاعتراض صيرورة الشيء حائلا بين شيئين، ومعناه ههنا مضطجعة (كاعتراض الجنازة) بفتح الجيم وكسرها. والمراد أنها تكون نائمة بين يديه من جهة يمينه إلى جهة شماله كما تكون الجنازة بين يدي المصلي عليها. وفي رواية للبخاري: ذكر عند عائشة ما يقطع الصلاة، فقالوا: يقطعها الكلب والحمار، والمرأة، فقالت: لقد جعلتمونا كلابا، وفي رواية: ذكر عندها ما يقطع الصلاة، الكلب والحمار، والمرأة، فقالت شبهتمونا بالحمر والكلاب، والله لقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة، فتبدو لي الحاجة، فأكره أن أجلس فأوذي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنسل (أي أمضى وأخرج بتأن وتدريج) من عند رجليه. والحديث استدلت به عائشة والجمهور بعدها على أن المرأة لا تقطع صلاة الرجل لأنها إذا كانت لا تقطع في حالة كونها معترضة مضطجعة- وهذه الحالة أقوى من المرور- ففي المرور بالأولى. وفيه أنه ليس فيما ذكرت مرور امرأة بين يدي المصلى، ومحمل حديث"يقطع الصلاة الكلب" الخ. هو المرور. قال السندي: لا دلالة في حديث عائشة أنها مرت بين يديه، وقال ابن بطال: هذا الحديث وشبهه من الأحاديث التي فيها اعتراض امرأة بين المصلي وقبلته تدل على جواز القعود لا على جواز المرور- انتهى. لا يقال: إن قولها "أنسل" صريح في المرور، فإن الانسلال هو المرور. لأن المرور المتنازع فيه هو أن يمر المار بين يدي المصلي معترضا، لا أن يمشي ذاهبا لجة القبلة أو لجهة الرجلين، ولم يتحقق ههنا إلا المضيء إلى جهة الرجلين كما يدل عليه قولها "فأنسل من عند رجليه" وأما ما قيل: من أن اعتراض المرأة أشد من المرور، فإذا لم يقطع الصلاة الاعتراض لا يقطع المرور أيضا بالأولى، ففيه أن الظاهر أن حصول التشويش بالمرأة من جهة الحركة والسكون، وعى هذا فمرورها أشد من اعتراضها واضطجاعها وجلوسها. وفي

(4/447)


النسائي في هذا الحديث "فإذا أردت أن أقوم كرهت أن أقوم فأمر بين يديه انسللت انسلالا". فالظاهر أن عائشة إنما أنكرت إطلاق كون المرأة تقطع الصلاة في جميع الحالات لا المرور بخصوصه. وأما إنكار عائشة على من ذكر المرأة مع الكلب والحمار فيما يقطع الصلاة مع أنها روت الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ "لا يقطع صلاة المسلم إلا الحمار، والكافر، والكلب، والمرأة" فقالت عائشة: يا رسول الله ! لقد قرنا بدواب سوء. أخرجه أحمد. فيحتمل أنها نسيت حديث القطع عند الإنكار، ويمكن أن يكون عندها معنى القطع بمرور المرأة فيما روت، وهو قطع الخشوع بمرورها. وأما حديث الاعتراض فذكرته للرد على من قال بقطع الصلاة بالمرأة بمعنى إبطالها بالكلية. وقيل: أنكرت كون الحكم باقيا هكذا فلعلها كانت ترى نسخه. وروى البخاري أن عائشة زوج النبي- صلى الله عليه وسلم - قالت: لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم فيصلي من الليل وإني لمعترضة بينه وبين القبلة على فراشه. قال الحافظ: وجه الدلالة من حديث عائشة الذي احتج به ابن شهاب أن حديث "يقطع الصلاة المرأة" إلى
متفق عليه.
786- (9) وعن ابن عباس، قال: ((أقبلت راكبا على أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(4/448)


آخره، يشمل ما إذا كانت مارة أو قائمة أو قاعدة أو مضطجعة، فلما ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم - صلى وهي مضطجعة أمامه دل ذلك على نسخ الحكم في المضطجع، وفي الباقي بالقياس عليه (ولما كان ذلك كذلك مع أن النفوس جبلت على الإشغال بها فغيرها من الكلب والحمار كذلك بل أولى) قال: وهذا يتوقف على إثبات المساواة بين الأمور المذكورة، وقد تقدم ما فيه، فلو ثبت أن حديثها متأخر عن حديث أبي ذر لم يدل إلا على نسخ الاضطجاع فقط. وقد نازع بعضهم في الاستلال به مع ذلك من أوجه أخرى، أحدها: أن العلة في قطع الصلاة فيها ما يحصل من التشويش، وقد قالت "إن البيوت يومئذ لم يكن فيها مصابيح" فانتفى المعلول بانتفاء علته. ثانيها: أن المرأة في حديث أبي ذر مطلقة، وفي حديث عائشة مقيدة بكونها زوجته، فقد يحمل المطلق على المقيد ويقال يتقيد القطع بالأجنبية لخشية الافتتان بها بخلاف الزوجة، فإنها حاصلة. ثالثها أن حديث عائشة واقعة حال يتطرق الاحتمال بخلاف حديث أبي ذر فإنه مسوق مساق التشريع العام. وقال بعض النابلة: يعارض حديث أبي ذر وما وافقه أحاديث صحيحة غير صريحة، وصريحة غير صحيحة، فلا يترك العمل بحديث أبي ذر الصريح بالمحتمل، يعني حديث عائشة وما وافقه. والفرق بين المار وبين النائم في القبلة أن المرور حرام بخلاف الاستقرار نائما كان أم غيره، فهكذا المرأة يقطع مرورها لا لبثها- انتهى. ومن وجوه المنازعة أيضا ما قيل: إنه يحمل على أن ذلك وقع في غير حالة الحيض، والحكم بقطع المرأة للصلاة إنما هو إذا كانت حائضا كما تقدم (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود، والنسائي وابن ماجه بألفاظ متقاربة.

(4/449)


786- قوله: (على أتان) متعلق بقوله "راكبا" وأتان- بفتح الهمزة، وبالمثناه الفوقية، وفي آخره نون، وشد كسر الهمزة كما حكاه الصغاني، وهي الأنثى من الحمير، ولا يقال "أتانة" والحمار يطلق على الذكر والأنثى. وفي بعض طرق البخاري عل حمار أتان- بالتنوين فيهما- على أن قوله "أتان" صفة للحمار، أو بدل منه بدل بعض من كل، لأن الحمار يطلق على الجنس فيشمل الذكر والأنثى، أو بدل كل من كل نحو شجرة زيتونة، وروى بالإضافة، أي: حمار أنثى كفحل أتن (وأنا يومئذ) الواو للحال، وأنا مبتدأ وخبره قوله (قد ناهزت الاحتلام) أي: قاربت، يقال: ناهز الصبي البلوغ إذا قاربه وداناه. قال صاحب الأفعال: ناهز الصبي الفطام دنا منه، ونهز الشيء أي: قرب. والمراد بالاحتلام البلوغ الشرعي، وهو مشتق من الحلم بالضم. وقد أخرج البزار بإسناد صحيح أن هذه القصة كانت في حجة الوداع، ففيه دليل على أن ابن عباس كان في حجة الوداع دون البلوغ. وقد اختلف في سنه حين توفي النبي- صلى الله عليه وسلم -، فقيل: ثلاث عشرة، ويدل له قولهم "إنه ولد في الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين". وقيل: كان عمره عشر سنين وهو ضعيف، وقيل:
يصلي بالناس بمنأ إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك على أحد.

(4/450)


خمس عشرة. قال أحمد: إنه الصواب (بمنأ) مذكر مصروف إن قلت علم للمكان، وغير منصرف إن قلت علم للبقعة. قال النووي: فيه لغتان الصرف والمنع، ولهذا يكتب بالألف والياء، والأجود صرفها وكتابتها بالألف، سميت بها لما يمنى بها من الدماء أي: تراق (إلى غير جدار) في محل النصب على الحال، والتقدير يضلى متوجها إلى غير جدار، يعني إلى غير سترة، نقله البيهقي عن الشافعي، وبوب عليه "باب من صلى إلى غير سترة" ويؤيده رواية البزار بلفظ "والنبي- صلى الله عليه وسلم - يصلي المكتوبة، ليس شيء يستره" لكن البخاري بوب على حديث ابن عباس هذا "باب سترة الإمام سترة لمن خلفه" وهذا مصير منه إلى أن الحديث محمول على أنه كان هناك سترة. قال الحافظ: كأن البخاري حمل الأمر في ذلك على المألوف المعروف من عادته- صلى الله عليه وسلم - أنه كان لا يصلي في الفضاء إلا والعنزة أمامه. ثم أيد ذلك بحديثي ابن عمر وأبي جحيفة، (يعني المذكورين أول الباب) وأوردهما عقيب حديث ابن عباس هذا. وقال العيني: استنبط البخاري ذلك من قوله "إلى غير جدار" لأن لفظ غير يشعر بأن ثمة سترة لأنها تقع دائما صفة، وتقديره" إلى شيء غير جدار" وهو أعم من أن يكون عصا أو عنزة أو غير ذلك- انتهى. قلت: حمل البخاري لفظ الغير على النعت، والبيهقي على النفي المحض، وما اختاره البخاري هنا أولى، فإن التعرض لنفى الجدار خاصة يدل على أنه كان هناك شيء مغاير للجدار، لأنه إذا لم يكن هناك جدار ولا غيره لم يكن في التعرض لنفى الجدار خاصة فائدة. وقال الطيبي: فإن قلت: قوله "إلى غير جدار" لا ينفي شيئا فكيف فسره (الشافعي) بالسترة، قات: إخبار ابن عباس عن مروره بالقوم، وعن عدم جدار مع أنهم لم ينكروا عليه وأنه مظنة إنكار، يدل على حدوث أمر لم يعهد قبل ذلك من كون المرور مع عدم السترة غير منكر، فلو فرض سترة أخرى لم يكن لهذا الإخبار فائدة، إذ مروره حينئذ لا ينكره أحد أصلا- انتهى. قال القاري:

(4/451)


يمكن إفادته أن سترة الإمام سترة للقوم كما فهم البخاري- انتهى. وأما رواية البزار التي فيها "ليس شيء يستره" فليس المراد فيها نفي السترة مطلقا، بل أراد نفى السترة التي تحول بينهم وبينه كالجدار المرتفع الذي يمنع الرؤية وقد صرح بمثل هذا العراقي (فمررت) أي: راكبا (بين يدي بعض الصف) هو مجاز عن القدام لأن الصف لا يد له. والمراد الصف الأول، ففي البخاري في الحج "حتى سرت بين يدي بعض الصف الأول" (ترتع) بمثناتين فوقيتين مفتوحتين وضم العين، أي: تأكل ما تشاء، من رتعت الماشية ترتع رتوعا. وقيل تسرع في المشي (فلم ينكر) على صيغة المعلوم (ذلك) أي: مشية بأتانه وبنفسه بين يدي بعض الصف (على أحد) أي: لا النبي- صلى الله عليه وسلم - ولا غيره ممن كانوا معه، لا في الصلاة ولا في بعدها. قال ابن دقيق العيد: استدل ابن عباس بترك الإنكار على الجواز، ولم يستدل بترك إعادتهم للصلاة، لأن ترك الإنكار أكثر فائدة. قال الحافظ: وتوجيهه أن ترك الإعادة يدل على صحتها فقط لا على جواز المرور، وترك الإنكار يدل على جواز المرور وصحة الصلاة معا. ويستفاد منه أن ترك الإنكار حجة على الجواز بشرطه، وهو انتفاء الموانع من الإنكار وثبوت العلم بالإطلاع على الفعل. ولا يقال:
متفق عليه.

(4/452)


لا يلزم مما ذكره إطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك لاحتمال أن يكون الصف حائلا دون رؤية النبي- صلى الله عليه وسلم - له، لأنا نقول قد تقدم أي: في البخاري "أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرى في الصلاة من ورائه كما يرى من أمامه". وتقدم أنه مر بين يدي بعض الصف الأول، فلم يكن هناك حائل دون الرؤية، ولو لم يرو شيء من ذلك لكان توفر دواعيهم على سؤاله - صلى الله عليه وسلم - عما يحدث لهم كافيا في الدلالة على إطلاعه على ذلك. واستدل به على أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة، وأنه ناسخ للحديث الذي فيه الحكم بقطع الصلاة لكون هذه القصة في حجة الوداع. وتعقب بأنه لا دلالة فيه على ذلك لما تقدم أن صلاته - صلى الله عليه وسلم - كانت إلى سترة، وقد تقرر أن سترة الإمام سترة للقوم، فلا يتحقق المرور المضر في حق الإمام والقوم إلا إذا مرت بين يدي الإمام ما بينه وبين السترة، ولا دلالة لحديث ابن عباس على ذلك، قاله السندي. وقال ابن العربي: يحتمل أنه لم تقطع عليهم لأن الصلاة لا يقطعها شيء، ويحتمل أن تكون لم تقطع صلاة الإمام وسترته سترة لهم، وإذا مر ما يقطع الصلاة من وراء السترة لم يبال به بلا خلاف. ولا حجة بهذا الحديث بحال- انتهى. قلت: لا شك أن الحديث ليس حجة لمن قال بعدم القطع، لأنه صريح في أن الأتان مرت بين يدي الصف فلم تدخل بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين سترته فلم تقطع صلاته، وسترة الإمام سترة لمن خلفه. وقيل: منع المرور مختص بالإمام والمنفرد، ويختص منه حكم المأموم. قال ابن عبدالبر: حديث ابن عباس هذا يخص حديث أبي سعيد "إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه". قال: فحديث أبي سعيد هذا يحمل على الإمام والمنفرد. فأما المأموم فلا يضره من بين يديه لحديث ابن عباس هذا. قال: والمرور بين يدي المصلي مكروه إذا كان إماما أو منفردا. وأما المأموم فلا يضره من مر بين يديه كما أن الإمام أو المنفرد

(4/453)


لا يضر واحدا منهما ما مر من وراء سترته لأن سترة الإمام سترة لمن خلفه. وقد قيل: إن الإمام نفسه سترة لمن خلفه- انتهى. ويظهر أثر هذا الخلاف فيما لو مر بين يدي الإمام أحد فعلى قول من يقول: إن سترة الإمام سترة من خلفه يضر صلاته وصلاتهم معا. وعلى قول من يقول: إن الإمام نفسه سترة لمن خلفه يضر صلاته ولا يضر صلاتهم. وقيل: إن حكم منع المرور يستثنى منه ضرورة، فقد بوب على حديث ابن عباس هذا مالك في الموطأ بلفظ "الرخصة في المرور بين يدي المصلي" وعقد عليه الشاه ولي الله الدهلوي في المصفى "باب الرخصة في المرور بين يدي الصف إذا أقيمت الصلاة" وقال مالك بعد ذكر حديث ابن عباس: وأنا أرى ذلك واسعا إذا أقيمت الصلاة، وبعد أن يحرم الإمام، ولم يجد المرأ مدخلا إلى المسجد إلا بين الصفوف. قال ابن عبدالبر: هذا مع الترجمة يقتضي أن الرخصة عنده لمن لم يجد من ذلك بدا. وغيره لا يرى بذلك بأسا للآثار الدالة على أن سترة الإمام سترة لمن خلفه- انتهى. قلت: واستنبط بعضهم من الحديث نظرا إلى ما قاله مالك جواز تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة، أي: احتمال بعض المفاسد لمصلحة أرجح منها، فإن المرور أمام المصلين مفسدة خفيفة. والدخول في الصلاة وفي الصف مصلحة راجحة فاغتفرت المفسدة للمصلحة الراجحة من غير إنكار (متفق عليه) وهذا لفظ البخاري، قاله ميرك. والحديث أخرجه البخاري في
?الفصل الثاني?
787- (10) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا. فإن لم يجد؛ فلينصب عصاه. فإن لم يكن معه عصا؛ فليخطط خطا، ثم لا يضره ما مر أمامه)). رواه أبو داود وابن ماجه.
العلم ، وفي الصلاة، وفي الحج، وفي المغازي، ومسلم في الصلاة، وأخرجه أيضا مالك، وأحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم.

(4/454)


787- قوله: (إذا صلى أحدكم) أي: أراد الصلاة (فليجعل تلقآء وجهه) أي: حذائه لكن إلى أحد حاجبيه لا بين عينيه (شيئا) فيه أن السترة لا تختص بنوع بل كل شيء ينصبه المصلي تلقآء وجهه يحصل به الامتثال. قال سفيان بن عيينة: رأيت شريكا صلى بنا في جنازة العصر فوضع قلنسوته بين يديه يعني في فريضة حضرت. أخرجه أبوداود (فإن لم يجد) أي: شيئا منصوبا (فلينصب) بكسر الصاد أي: يرفع أو يقيم (عصا) ظاهره عدم الفرق بين الرقيقة والغليظة. ويدل على ذلك قوله "ليستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم" وقوله "يجزىء من السترة قدر مؤخرة الرحل ولو برقة شعرة" أخرجه الحاكم. وقال على شرطهما (فإن لم يكن معه عصا) هذا لفظ أبي داود، ولفظ ابن ماجه فإن لم يجد ( فليخطط) بضم الطاء، وفي ابن ماجه فليخط (خطا) حتى يبين فصلا فلا يتخطى المار. واختلف في صفته فاختار أحمد أن يكون عرضا مثل الهلال، أي: مقوسا كالمحراب فيصلي إليه كما يصلي في المحراب. وقيل يمد طولا إلى جهة الكعبة، أي: يكون مستقيما من بين يديه إلى القبلة. وقيل: يمد يمينا وشمالا أي: من غير تقويس، والأول أولى (ثم لا يضره) أي: بعد استتاره. وفيه ما يدل أنه يضره إذا لم يفعل إما بنقصان من صلاته أو بإبطالها على ما ذكر أنه يقطع الصلاة، إذ في المراد بالقطع الخلاف كما تقدم. وهذا إذا كان المصلي إماما أو منفردا، لا إذا كان مؤتما، فإن الإمام سترة له أو سترته سترة له كما سبق آنفا (ما مر أمامه) أي: أمام سترته. والحديث دليل على جواز الاقتصار على الخط. وإليه ذهب أحمد وغيره، فجعلوا الخط عند العجز عن السترة سترة. واختلف فيه قول الشافعي فروى عنه استحبابه، وروى عنه عدم ذلك. وقال جمهور أصحابه: باستحبابه. وقال ابن الهمام: وأما الخط فقد اختلفوا فيه حسب اختلافهم في الوضع إذا لم يكن معه ما يغرزه أو يضعه. فالمانع يقول: لا يحصل المقصود به إذ لا يظهر من بعيد. والمجيز يقول: ورد الأثر به.

(4/455)


واختار صاحب الهداية الأول. والسنة أولى بالإتباع من أنه يظهر في الجملة، إذ المقصود جمع الخاطر بربط الخيال به كيلا ينتشر – انتهى. (رواه أبوداود وابن ماجه) واللفظ لأبي داود. وأخرجه أيضا أحمد وابن حبان في صحيحه والبيهقي وصححه أحمد وابن المديني فيما نقله ابن عبدالبر في الاستذكار. وأشار إلى ضعفه سفيان بن عيينة والشافعي والبغوي
788- (11) وعن سهل بن أبي حثمة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته)). رواه أبوداود.
وغيرهم. قال الحافظ: وأورده ابن الصلاح مثالا للمضطرب، ونوزع في ذلك. قال في بلوغ المرام: ولم يصب من زعم أنه مضطرب بل هو حسن. وقال البيهقي: لا بأس به في مثل هذا الحكم إن شاء الله تعالى.

(4/456)


788- قوله: (وعن سهل بن أبي حثمة) بفتح الحاء المهملة ثم مثلثة، واسمه عبدالله، وقيل عامر. وقيل: هو سهل بن عبدالله بن أبي حثمة عامر بن ساعدة بن عامر الأنصاري الخزرجي المدني، صحابي صغير، ولد سنة (3) من الهجرة. واتفق الأئمة على أنه كان ابن ثمان سنين أو نحوها عند موت النبي- صلى الله عليه وسلم - ، منهم ابن مندة وابن حبان وابن السكن والحاكم أبوأحمد وأبوجعفر الطبري. قال الواقدي: قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمان سنين، ولكنه حفظ عنه فروى وأتقن. قال الذهبي: أظنه مات زمن معاوية وجزم الطبري أن الذي مات في خلافة معاوية هو أبوه أبوحثمة، وقال المصنف: سكن الكوفة. وعداده في أهل المدينة، وبها كانت وفاته في زمن مصعب بن الزبير. روى عنه جماعة. له خمسة وعشرون حديثا، اتفقا على ثلاثة (إلى سترة) أي: متوجها إليها ومستقبلا لها (فليدن) أمر من الدنو بمعنى القرب (منها) أي: من السترة. وفيه مشروعية الدنو من السترة حتى يكون مقدار ما بينهما ثلاثة أذرع، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما صلي في الكعبة جعل بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريبا من ثلاثة أذرع. قال البغوي: استحب أهل العلم الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود، وكذلك بين الصفوف (لا يقطع الشيطان) بالجزم جواب الأمر، ثم حرك بالكسر لالتقاء الساكنين، قاله القاري. وقال السندي: جملة مستأنفة بمنزلة التعليل، أي: لئلا يقطع الشيطان بأن يحمل على المرور من يقطع عليه صلاته حقيقة عند قوم كالمرأة والحمار والكلب الأسود، وخشوعا عند آخرين (أي بإلقاء الوساوس والخواطر) ويحتمل أن المراد بالشيطان هو الكلب الأسود، فقد جاء في الحديث أنه شيطان – انتهى. وقال ابن حجر: استفيد من الحديث أن السترة تمنع استيلاء الشيطان على المصلي وتمكنه من قلبه بالوسوسة، إما كلا أو بعضا بحسب صدق المصلي وإقباله في صلاته على الله تعالى، وأن عدمها يمكن الشيطان من

(4/457)


إزلاله عما هو بصدده من الخشوع والخضوع، وتدبره بالقراءة والذكر- انتهى (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد (ج4: ص2) والنسائي، والحاكم (ج1:ص252، 251) كلهم من طريق سفيان بن عيينة، عن صفوان بن سليم، عن نافع بن جبير، عن سهل بن أبي حثمة. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، فقال: على شرطهما. وقال أبوداود: اختلف في إسناده. وقد بين الاختلاف فيه بقوله: ورواه واقد بن محمد، عن صفوان، عن محمد بن سهل، عن أبيه، أو عن محمد بن سهل، عن النبي- صلى الله عليه وسلم -. وقال بعضهم: عن نافع بن جبير، عن سهل بن سعد- انتهى. ولا يضر هذا الاختلاف، لأن الطريق الأول- أي: طريق سفيان بن عيينة- أرجح وأقوى من طريق واقد بن محمد
789- (12) وعن المقداد بن الأسود، قال: ((ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى عود، ولا عمود، ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمد له صمدا)). رواه أبوداود.
790- (13) وعن الفضل بن عباس، قال: ((أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم،

(4/458)


وهذا ظاهر. واعلم أن ما وقع في رواية أبي داود في بيان الاختلاف مخالف لما ذكره الحافظ في الإصابة (ج3:ص514) حيث قال في القسم الرابع من حرف الميم: محمد بن سهل بن أبي حثمة الأنصاري المدني، قال أبوموسى في الذيل: ذكره بعض الحفاظ، ثم أخرج من طريق شعبة، وعن واقد بن محمد، سمعت صفوان بن سليم يحدث، عن محمد ابن سهل بن أبي حثمة، أو عن سهل بن أبي حثمة عن النبي- صلى الله عليه وسلم - في سترة المصلي. قال الحافظ: هو مرسل أو منقطع، لأنه إن كان المحفوظ محمد بن سهل فهو مرسل، لأنه تابعي لم يولد إلا بعد موت النبي- صلى الله عليه وسلم - بمكة، فإن النبي- صلى الله عليه وسلم - لما مات كان سن سهل بن أبي حثمة ثمان سنين، وإن كان عن سهل فهو منقطع، لأن صفوان لم يسمع من سهل- انتهى. فليتأمل. وفي الباب عن أبي سعيد أخرجه أبوداود وابن ماجه، وعن جبير بن مطعم أخرجه البزار والطبراني في الكبير، وعن بريدة أخرجه البزار، وعن سهل بن سعد أخرجه الطبراني في الكبير.

(4/459)


789- قوله: (إلى عود) كالعصا أو العنزة، أو الحربة أو مؤخرة الرحل، وهو واحد العيدان (ولا عمود) كالأسطوانة (ولا شجرة) أي: فيجعله سترة (إلا جعله) أي: العود، أو العمود، أو الشجرة (على حاجبه) أي: جانبه (الأيمن أو الأيسر) فيه استحباب أن تكون السترة على جهة اليمين أو اليسار. قال ابن حجر: وفي رواية للنسائي "إذا صلى أحدكم إلى عمود أو سارية، أو إلى شيء فلا يجعله بين عينيه، وليجعله على حاجبه الأيسر" وقد يؤخذ منه أن الأيسر أولى من الأيمن. ويوجه بأنه مانع للشيطان الذي هو على الأيسر، كذا في المرقاة (ولا يصمد) بضم الميم من باب نصر (له صمدا) الصمد القصد، يقال: أصمد صمد فلان، أي: أقصد قصده، يريد أنه لا يقصده قصدا مستويا يستقبله بحيث يجعله تلقاء وجهه ما بين عينيه حذرا عن التشبه بعبادة الأصنام (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد. والحديث سكت عنه أبوداود. وقال المنذري في سنده أبوعبيدة الوليد بن كامل البجلي الشامي، وفيه مقال. قلت: وثقه النسائي وقال أبوحاتم: شيخ، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال البخاري: عنده عجائب. قال الأزدي: ضعيف. وقال ابن القطان: لا تثبت عدالته. وقال الحافظ في التقريب: لين الحديث.
790- قوله: (وعن الفضل بن عباس) بن عبدالمطلب بن هاشم الهاشمي المدني ابن عم النبي- صلى الله عليه وسلم - ، وأمه أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث الهلالية. أردفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، وحضر غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أكبر ولد العباس. وكان وسيما جميلا، وثبت مع النبي- صلى الله عليه وسلم - يوم حنين فيمن ثبت، وخرج إلى الشام مجاهدا، فقيل مات بناحية الأردن بطاعون عمواس سنة (18) وقيل: استشهد يوم اليرموك. وقيل: بدمشق، وعليه درع النبي- صلى الله عليه وسلم -، وذلك

(4/460)


ونحن في بادية لنا، ومعه عباس، فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة، وحمارة لنا وكلبة تعبثان بين يديه، فما بالي بذلك)). رواه أبوداود. وللنسائي نحوه.
791-(14) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقطع الصلاة شيء،
في خلافة عمر. له أربعة وعشرون حديثا، اتفقا على حديثين (ونحن) حال من المفعول (في بادية لنا) في القاموس: البدو والبادية والبداوة خلاف الحضر (ومعه عباس) بن عبدالمطلب عم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والجملة حال من الفاعل (ليس بين يديه سترة) لأنه لم يكن هنا مظنة المرور. وفيه دليل على أن اتخاذ السترة غير واجب، فيكون قرينة لصرف الأوامر إلى الندب. قال ابن العربي في عارضة الأحوذى: اختلف العلماء في وضع السترة على ثلاثة أقوال، الأول: إنه واجب، وإن لم يجد وضع خطا. قاله أحمد وغيره. والثاني: أنها متسحبة، قاله الشافعي وأبوحنيفة ومالك في العتبية. وفي المدونة قولان: تركها، هذا إذا كان في موضع يؤمن المرور فيه، فإن كان في موضع لا يؤمن ذلك تأكد عند علمائنا وضع السترة-انتهى (وحمارة) بالتاء وهي لغة قليلة، والأفصح حمار بلا تاء للذكر والأنثى. وقال في المفاتيح: التاء في حمارة وكلبة للإراد، كما في تمر وتمرة. ويجوز أن تكون للتأنيث. قال الجوهري: وربما قالوا: حمارة، والأكثر أن يقال للأنثى أتان (تعبثان) أي: تلعبان (بين يديه) أي: قدامه (فما بالي بذلك) من المبالاة أي: ما اكترث به وما اعتده قاطعا. والحديث قد استدل به على أن الكلب والحمار لا يقطعان الصلاة. وتعقب بأنه ليس فيه نعت الكلبة بكونه سوداء. قال الخطابي، والمذري، والشوكاني، والسندي: لم يذكر فيه نعت الكلب. وقد يجوز أن يكون الكلب ليس بأسود-انتهى. على أن في سنده مقالا كما ستعرف، ولو سلم صحته فهو لا يقاوم أحاديث القطع فإنها أصح وأرجح وأقوى (رواه أبوداود) أي: بهذا اللفظ وسكت عنه (وللنسائي نحوه) ولفظه عن الفضل بن عباس قال: زار

(4/461)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عباس في بادية لنا، ولنا كليبة وحمارة ترعى، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - العصر وهما بين يديه، فلم يزجرا ولم يؤخرا. وأخرجه أيضا أحمد بهذا اللفظ. وأخرجه الطحاوي بمعناه. قال المنذري في مختصر السنن: ذكر بعضهم أن في إسناده مقالا. قلت في سند الحديث عباس بن عبيدالله بن عباس الهاشمي وهو مقبول، لكنه لم يدرك عمه الفضل، فالحديث منقطع. قال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج5:ص123): ذكره ابن حبان في الثقات. روى له أبوداود، والنسائي حديثا واحدا في الصلاة. قلت أعله ابن حزم بالانقطاع. قال: لأن عباسا لم يدرك عمه الفضل وهو كما قال-انتهى بلفظ. وأخرج أحمد وأبويعلى عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في فضاء ليس بين يديه شئ. قال الهيثمي: وفيه الحجاج بن أرطاة وفيه ضعف.
791- قوله: (لا يقطع الصلاة شيء) أي: مرور شيء بين يدي المصلى ولو بلا سترة وإلا فكم من شيء يقطعها. وقيل: يحتمل أن يراد بشيء الدفع، أي: لا يبطل الصلاة شيء من الدفع، فادفعوا المار بقدر استطاعتكم. وحذف المار لدلالة السياق
وادرؤا ما استطعتم، فإنما هو شيطان)) رواه أبوداود.
?الفصل الثالث?
792- (15) عن عائشة، قالت: ((كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته. فإذا سجد غمزني، فقبضت رجلي، وإذا قام بسطتهما. قال: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح)). متفق عليه.

(4/462)


عليه. وقيل: المراد لا يقطعها شيء من فعل غير المصلى، وفيه أن غير المصلى مثل المصلى إذا فعل معه ما أبطل عليه استقبال القبلة أو ما نقض عليه الوضوء كإخراج الدم عند القائل بنقض الوضوء به، أو مس المرأة عند القائل به، أو ما حصل به نجاسة ثوبه عند القائل ببطلان الصلاة به، لكان ذلك الفعل من غير المصلى قاطعا للصلاة على المصلى (وادرؤا) أي: ادفعوا المار (فإنما هو) أي: المار (شيطان) قد تقدم أن الراجح أن أحاديث القطع بالمرأة، والحمار، والكلب منسوخة بهذا الحديث وقد سبق تقرير ذلك فتذكر (رواه أبوداود) وسكت عنه، وضعفه ابن حزم في المحلي (ج4:ص13) كما تقدم وتضعيفه مردود عليه. وقال المنذري: في إسناده مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني، وقد تكلم فيه غير واحد. وأخرج له مسلم حديثا مقرونا بجماعة من أصحاب الشعبي-انتهى. قلت: قال يعقوب بن سفيان والبخاري: هو صدوق.

(4/463)


793- قوله: (و رجلاي) الواو للحال (في قبلته) أي: في موضع سجوده (فإذا سجد) أي: أراد السجود (غمزني) الغمز هو العصر والكبس باليد، وغمزني جواب إذا. وفيه إشارة إلى أن مس المرأة غير ناقض الوضوء، والأفضل عدم الحائل (فقبضت) عطفا على قوله غمزني (رجلي) بفتح اللام وتشديد الياء. قال الحافظ: كذا بالتثنية للأكثر وكذا في قوله "بسطتهما" وللمستملي والحموى "رجلي" بكسر اللام بالإفراد. وكذا بسطتها (قالت) أي: عائشة معتذرة عن نومها على هذه الهيئة (والبيوت يومئذ) أي: حينئذ أو وقتئذ (ليس فيها مصابيح) أي: إذ لو كانت لقبضت رجليها عند إرادته السجود ولما أحوجته للغمز. والمعنى: ما كنت أدرى وقت سجوده لعدم المصابيح، وإلا لما احتاج - صلى الله عليه وسلم - إلى الغمز كل مرة، بل أنا ضممت رجلي إلى وقت السجود. وفي الحديث أن العمل اليسير في الصلاة غير قادح. وفيه جواز الصلاة إلى النائم من غير كراهة. وذهب مالك وغيره إلى كراهة الصلاة إلى النائم خشية ما يبدو منه مما يلهى المصلى عن صلاته. واستدلوا بحديث ابن عباس عند أبي داود وابن ماجه بلفظ "لا تصلوا خلف النائم والمتحدث" وقد قال أبوداود: طرقه كلها واهية. وفي الباب عن أبي هريرة عند الطبراني، و عن ابن عمر عند ابن عدي، وهما واهيان. والحديث قد استدل به على أن المرأة لا تقطع الصلاة، وأنه ناسخ لأحاديث القطع، وقد قدمنا ما في هذا الاستدلال من الكلام والنظر فتذكر (متفق عليه) وأخرجه أيضا أبوداود في الصلاة، والنسائي في الطهارة.
793- (16) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو يعلم أحدكم ما له في أن يمر بين يدى أخيه معترضا في الصلاة، كان لأن يقيم مائة عام خير له من الخطوة التي خطا)). رواه ابن ماجه.
794- (17) وعن كعب الأحبار،

(4/464)


793- قوله: (ماله) أي: من الإثم فحذف البيان ليدل الإبهام على ما لا يقادر قدره من الإثم، قاله الطيبي (في أن يمر) أي: بسبب مروه (بين يدى أخيه) ذكر لمزيد التلطف بالمار حتى ينكف عن مروره، إذ من شأن الأخ أن لا يؤذى أخاه بنوع من أنواع الأذى وإن قل (معترضا) أي: حال كون المار معترضا محل سجود (في الصلاة) حال من أخيه (كان لأن يقيم مائة عام خير له) بالرفع، قال الطيبي: اسم كان ضمير عائد إلى "أحدكم" أو ضمير الشأن، والجملة خبر كان، و اللام لام الابتداء المقارنة بالمبتدأ المؤكدة لمضمون الجملة، أو التي يتلقى بها القسم وهو أقرب، وقيل: اللام هي الداخلة على جواب "لو" أخرت عن محلها-وهو كان- إلى خبرها- وهو إقامة مائة عام- ولهذا التقدير المقتضي لكونه أو غل في التعريف كان الأصل أنه الاسم و"خير" هو الخبر، لكنهما عكسا إبهاما على السامع ليظهر جودة فهمه وذكائه. وقد جرى على الأصل في الأمرين في الخبر الذي عقب هذا، فأدخل اللام على كان، وجعل المصدر المسبوك من أن والفعل هو الاسم و"خيرا" هو الخبر وتجوز زيادة كان هنا، كذا في المرقاة (من الخطوة التي خطا) وفي ابن ماجه "خطاها" بزيادة ضمير المؤنث المنصوب، والخطوة-بالضم وتفتح- ما بين القدمين وبالفتح المرة (رواه ابن ماجه) من طريق عبيدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله بن موهب، عن عمه، عن أبي هريرة، قال في الزوائد: في إسناد مقال لأن عم عبيدالله بن عبدالرحمن، اسمه عبيدالله بن عبدالله بن موهب. قال أحمد ابن حنبل: أحاديثه مناكير، ولكن ابن حبان خص ضعف أحاديثه بما إذا روى عنه ابنه-انتهى. قلت: عبيدالله بن عبدالله هذا قال فيه أحمد: لا يعرف، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال: روى عنه ابنه يحيى، ويحيى لا شيء، وأبوه ثقة. وإنما وقعت المناكير في حديثه من قبل ابنه. وقال الشافعي: لا نعرفه. وقال ابن القطان الفاسي: مجهول الحال -انتهى. وقال الحافظ في التقريب: مقبول. وأما عبيدالله بن

(4/465)


عبدالرحمن بن عبدالله فضعفه ابن عيينة وابن معين في رواية الدوري. وقال النسائي: ليس بالقوي، ووثقه العجلي وابن معين في رواية إسحاق بن منصور. وقال أبوحاتم: صالح. وقال ابن عدي: حسن الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات، كذا في تهذيب التهذيب (ج7:ص29) فالظاهر أن الحديث لا ينحط عن درجة الحسن. وأخرجه أيضا أحمد، وابن حبان، وابن خزيمة في صحيحهما.
794- قوله: (كعب الأحبار) بالإضافة جمع حبر-بالفتح، وبكسر- وهو العالم. قال في القاموس: كعب الحبر وبكسر، ولا تقل الأحبار-انتهى. قال الزرقاني: قول المجد "لا تقل الأحبار" فيه نظر، فقد اثبته غير واحد، ويكفي قول مثل أبي هريرة إذ قال: كعب الأحبار-انتهى. وقال الطيبي: الأحبار جمع حبر-بالفتح والكسر والإضافة-
قال: لو يعلم المسار بين يدي المصلى ما عليه؛ لكان أن يخسف به خيرا له من أن يمر بين يديه. وفي رواية: أهون عليه)). رواه مالك
795- (18) وعن ابن عباس، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلى أحدكم إلى غير السترة، فإنه يقطع صلاته الحمار، والخنزير، واليهودي، والمجوسي، والمرأة. وتجزئ عنه إذا مروا بين يديه على قذفة بحجر)) رواه أبوداود.

(4/466)


كما في زيد الخيل-انتهى (قال) يحتمل أن يكون أخذه من الكتب السابقة لأنه خبرها، قاله الزرقاني (لكان أن يخسف) بصيغة المجهول (به) أي: بالمار في الأرض (خيرا له) بالنصب، قال الطيبي: المذكور في الحديثين ليس جواب "لو" بل هو دال على ما هو جوابها والتقدير"لو يعلم المار ما عليه من الإثم لأقام مائة عام، وكانت الإقامة خيرا له" وفي الثاني "لو يعلم ماذا عليه من الإثم لتمنى الخسف، وكان الخسف خيرا له" (وفي رواية) أي: لمالك هذا هو الظاهر، لكن الموجود في نسخ الموطأ الموجودة الحاضرة هو "خيرا له" لا قوله "أهون عليه" والظاهر أن المصنف نسب الرواية الثانية للمؤطا تبعا للجزري حيث قال بعد ذكر الرواية الأولى: وفي رواية "أهون عليه" أخرجه في الموطأ (أهون عليه) أي: على المصلى، لأن عذاب الآخرة أشد وأصعب وأبقى من عذاب الدنيا (رواه مالك) أي: في مؤطاه عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار "أن كعب الأحبار" الخ.

(4/467)


795- قوله: (إلى غير السترة) كذا في نسخ المشكاة، وفي أبي داود "إلى غير سترة" أي: بغير اللام (الحمار) وفي أبي داود "الكلب والحمار" أي: بزيادة الكلب قبل الحمار. والظاهر أن سقوط لفظ الكلب من النساخ (وتجزئ) بالهمزة من الإجزاء، وبالتأنيث في أكثر النسخ، أي: تجزئ الصلاة بلا سترة على المصلى، قاله القاري. وفي بعض النسخ "يجزئ" بالياء، وكذا وقع في أبي داود، أي: يكفي عن المصلى أي: في عدم قطع الصلاة (إذا مروا) أي: وإن لم يكن سترة (بين يديه على قذفه) بالفتح أي: رمية (بحجر) أي: لو مروا على بعد هذا المقدار بين يدي المصلى لا يقطع مرورهم صلاته. والحديث دليل على أن قطع الصلاة بالمرور بين يدي المصلي ليس بمخصوص بالكلب، والحمار، والمرأة وأن ذكر هذه الثلاثة في حديثي أي: ذر وأبي هريرة ليس لاختصاص حكم القطع بها، لكن ذكر اليهودي، و المجوسي، والخنزير في هذا الحديث منكر كما سيأتي (رواه أبوداود) عن محمد بن إسماعيل بن أبي سمينة البصري، عن معاذ بن هشام، عن هشام، الخ. قال أبوداود: في نفسي من هذا الحديث شيء كنت أذاكر به إبراهيم وغيره لم أر أحدا جاء به عن هشام، ولا يعرفه، ولم أر أحدا يحدث به عن هشام، وأحسب الوهم من ابن أبي سمية، والمنكر فيه ذكر المجوسي، وفيه"على قذفة بحجر" وذكر الخنزير، وفيه نكارة. قال أبوداود: ولم أسمع هذا الحديث إلا من محمد بن

(4/468)


إسماعيل، وأحسبه وهم، لأنه كان يحدثنا من حفظه-انتهى. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج9:ص60) في ترجمة محمد بن إسماعيل: توقف أبوداود في صحة حديث أخرجه عنه، عن معاذ بن هشام، عن ابيه عن يحيى ابن كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس: يقطع الصلاة الكلب-الحديث. قال أبوداود: لم أسمعه إلا منه. وذاكرت به فلم يعرف – انتهى. قلت: في نسبة الوهم إلى محمد بن إسماعيل بن أبي سمينة نظر فإنه ثقة. وقد أخرج الطحاوي هذا الحديث فقال: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا معاذ بن هشام، ثنا أبي، عن يحيى، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أحسبه قد أسنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يقطع الصلاة المرأة الحائض، والكلب، والحمار، واليهودي، والنصراني، والخنزير. ويكفيك إذا كانوا منك قدر رمية لم يقطعوا عليك صلاتك. فهذا الحديث هو ما رواه أبودود. وليس فيه محمد بن إسماعيل بن أبي سمينة البصري.
بعون الله وحسن توفيقه تم الجزء الثاني من مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح، ويليه الجز الثالث إن شاء الله تعالى، وأوله "باب صفة الصلاة"

(4/469)


بسم الله الرحمن الرحيم
(24) باب تسوية الصف
(باب تسوية الصف) أي في الصلاة. وفي بعض النسخ الصفوف، والمراد بالأول الجنس قال تعالى: ?إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص? [4:61]، وقال تعالى: ?إنا لنحن الصافون? [165:37] وأمرنا أن نصف في الصلاة كما تصف الملائكة عند ربها. ومعنى تسوية الصف هو اعتدال القائمين به على سمت واحد وخط مستقيم، وسد الخلل الذي في الصف بإلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم. قال ابن عبدالبر في الاستذكار: الآثار في تسوية الصف متواترة من طرق شتى في أمره ? بتسوية الصفوف وعمل الخلفاء الراشدين بعده، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء - انتهى. واختلفوا في حكمها من الوجوب والندب. قال العيني: هي من سنة الصلاة عند أبي حنيفة والشافعي ومالك، وزعم ابن حزم أنه فرض. وقيل: إنه مندوب. وذهب البخاري إلى الوجوب، حيث ترجم في صحيحه بقوله: باب إثم من لم يتم الصفوف. قال العيني: ظاهر ترجمة البخاري يدل على أنه يرى وجوب التسوية، والصواب هذا الورود الوعيد الشديد في ذلك، وقال في موضع آخر: الصواب أن تسوية الصفوف واجبة بمقتضى الأمر، ولكنها ليست من واجبات الصلاة، بحيث أنه إذا تركها فسدت صلاته أو نقصتها، غاية ما في الباب إذا تركها يأثم. قلت: الحق عندي أن إقامة الصف وتعديله وتسويته من واجبات صلاة الجماعة، بحيث إذا تركها نقصتها، ويأثم تاركها لورود الأمر بالتسوية، والأصل
?الفصل الأول?
1091- (1) عن النعمان بن بشير قال: ((كان رسول الله ? يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح، حتى رأى أنا قد عقلنا عنه، ثم خرج يوما، فقام حتى كاد أن يكبر، فرأى رجلا باديا

(5/1)


في الأمر الوجوب، ولورود الوعيد الشديد في تركه، ولقوله ?: "إن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة"، وفي رواية: "من تمام الصلاة"، ولقوله: "إن إقامة الصف من حسن الصلاة"، والمراد بحسنها تمامها، ولشدة اهتمامه ? وخلفائه بعده بذلك، ولإنكار أنس على تركه حيث قال: ما أنكرت شيئا إلا أنكم لا تقيمون الصفوف، أخرجه البخاري. والإنكار يستلزم المنكر، والمباح لا يسمى منكرا، ولأن عمر وبلالا كانا يضربان أقدامهم لإقامة الصف، وضربهما أقدامهم يدل على أنهم تركوا واجبا من واجبات الصلاة. وأما إنه هل تفسد صلاة من ترك التسوية أم لا؟ فالظاهر أنه تصح ولا تفسد لعدم ورود نص صريح في ذلك. قال الحافظ في الفتح: ومع القول بأن التسوية واجبة، فصلاة من خالف ولم يسو صحيحة لاختلاف الجهتين. ويؤيد ذلك أن أنسا مع إنكاره عليهم يأمرهم بإعادة الصلاة. وأفرط ابن حزم فجزم بالبطلان - انتهى.

(5/2)


1091- قوله: (يسوي صفوفنا) أي بيده أو بأمره. (كأنما يسوي بها) أي بالصفوف. (القداح) بكسر القاف جمع قدح بكسر قاف فسكون دال، وهو خشب السهم حين ينحت ويبرى. قال الخطابي في المعالم (ج1:ص184): القدح خشب السهم إذا برئ وأصلح قبل أن يركب فيه النصل والريش - انتهى. وقيل: هو السهم مطلقا، يعني يبالغ في تسوية الصفوف حتى تصير كأنما يقوم بها السهام لشدة استوائها واعتدالها، قاله النووي. وقال الطيبي: ضرب المثل به للمتساويين أبلغ الاستواء في المعنى المراد منه؛ لأن القدح لا يصلح لما يراد منه إلا بعد الانتهاء في الاستواء، وإنما جمع مع الغنية عنه بالمفرد لمكان الصفوف أي يسوي كل صف على حدة، كما يسوي الصانع كل قدح على حدته. وروعي في قوله: يسوي بها القداح نكتة؛ لأن الظاهر كأنما يسويها بالقداح، والباء للآلة كما في كتبت بالقلم، فعكس، وجعل الصفوف هي التي يسوي بها القداح مبالغة في الاستواء - انتهى. وفي رواية لأحمد (ج4:ص272) كان يسوي بنا في الصفوف حتى كأنما يحاذى بنا القداح، وفي أخرى له (ج4 ص271): يقيم الصفوف كما تقام الرماح أو القداح. وفي أخرى له (ج4:ص277) ولابن ماجه: يسوي الصف حتى يجعله مثل الرمح أو القدح. (حتى رأى) أي علم. (إنا قد عقلنا) أي فهمنا التسوية. (عنه) قال الطيبي: أي لم يبرح يسوي صفوفنا حتى استوينا استواء أراده منا وتعقلنا عن فعله. (ثم خرج يوما) أي إلى المسجد. (فقام) أي في مقام الإمامة. (حتى كاد أن يكبر) تكبيرة الإحرام. (باديا) أي ظاهرا خارجا.
صدره من الصف، فقال: عبادالله! لتسون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم)) رواه مسلم.

(5/3)


(صدره من الصف) أي من صدور أهل الصف. وفي رواية أبي داود: حتى إذا ظن أن قد أخذنا ذلك عنه وفقهنا أقبل ذات يوم بوجهه إذا رجل منتبد بصدره، وفي رواية لأحمد: فلما أراد أن يكبر رأى رجلا شاخصا صدره. وفي أخرى له، ولابن ماجه: فرأى صدر رجل ناتئا يعني مرتفعا بالتقدم على صدور أصحابه. (عباد الله) بالنصب على حذف حرف النداء، قال ابن حجر: لم ينهه بخصوصه جريا على عادته الكريمة مبالغة في الستر. (لتسون) بضم التاء المثناة وفتح السين وضم الواو المشددة وتشديد النون المؤكدة. قال القسطلاني: ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: "لتسوون" بواوين والنون للجمع. قال القاضي: هذه اللام هي التي يتلقى بها القسم، والقسم ههنا مقدر، ولهذا أكده بالنون المشددة. (أو ليخالفن الله) بالرفع على الفاعلية، وفتح اللام الأولى المؤكدة وكسر الثانية وفتح الفاء، أي ليوقعن الله المخالفة. (بين وجوهكم) إن لم تسووا صفوفكم أي بتحويلها عن مواضعها إلى أدبارها وجعلها مواضع الأققية، أو بتغيير صورها ومسخها على صورة بعض الحيوانات كالحمار مثلا، فهو محمول على الحقيقة. ويؤيد حمله على ظاهره حديث أبي أمامة: لتسون الصفوف أو لتطمسن الوجوه، أخرجه أحمد، وفي إسناده ضعف. وفيه وقوع الوعيد من جنس الجناية، وهي المخالفة. قال الحافظ: وعلى هذا فهو أي التسوية واجب، والتفريط فيه حرام. وقيل: هو مجاز ومعناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب، كما تقول تغير وجه فلان علي، أي ظهر لي من وجهه كراهة لي؛ لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن. ويؤيده ما في رواية لأبي داود: أو ليخالفن الله بين قلوبكم، وحديث أبي مسعود الآتي: لا تختلفوا فتختلف قلوبكم، أي هواها وإرادتها. وقيل: المراد بالوجوه الذوات. قال ابن العربي في العارضة (ج2:ص25): بين وجوهكم، يعني مقاصدكم، فإن استواء القلوب يستدعي استواء الجوارح واعتدالها، فإذا اختلفت

(5/4)


الصفوف دل على اختلاف القلوب، فلا تزال الصفوف تضطرب وتهمل، حتى ييتلي الله باختلاف المقاصد، وقد فعل، ونسأل الله حسن الخاتمة. وقال القرطبي: معناه تفترقون فيأخذ كل واحد وجها غير الذي يأخذه صاحبه؛ لأن تقدم الشخص على غيره مظنة الكبر المفسد للقلب الداعي إلى القطعية. والحاصل أن المراد بالوجه إما ذات الشخص، فالمخالفة بحسب المقاصد، وإما العضو المخصوص، فالمخالفة إما بحسب الصورة الإنسانية، وإما بحسب الصفة، وإما يجعل القدام وراء. والحديث فيه غاية التهديد والتوبيخ. قال الطيبي: إن مثل هذا التركيب متضمن للأمر توبيخا، أي والله ليكونن أحد الأمرين إما تسويتكم صفوفكم أو أن يخالف الله بين وجوهكم. وفيه دليل على وجوب تسوية الصف وتعديله. وقيل: إن هذا الوعيد من باب التغليظ والتشديد تأكيدا وتحريضا على فعلها، أي فلا يدل على الوجوب. قال العيني بعد ذكره: كذا قاله الكرماني، وليس بسديد؛ لأن الأمر المقرون بالوعيد يدل على الوجوب. (رواه مسلم) وأخرجه
1092- (2) وعن أنس، قال: ((أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله ? بوجهه، فقال: أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري)) رواه البخاري. وفي المتفق عليه قال: ((أتموا الصفوف، فإني أراكم من وراء ظهري)).
أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص100) و (ج2: 21) كلهم من طريق سماك عن النعمان بن بشير. وأخرج البخاري ومسلم والبيهقي من طريق سالم بن أبي الجعد عن النعمان بن بشير الفصل الأخير منه، ولأحمد وأبي داود في رواية. والبيهقي قال: فرأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه، وركبته بركتبه، ومنكبه بمنكبه.

(5/5)


1092- قوله: (أقيمت الصلاة) أىأقام المؤذن للصلاة. (فأقبل علينا رسول الله ? بوجهه) أي التفت إلينا بعد إقامة المؤذن. (أقيموا صفوفكم) أي عدلوها وسووها، يقال: أقام العود إذا عدله وسواه. (وتراصوا) بضم الصاد المهملة المشددة. وأصله تراصصوا، أي تضاموا وتلاصقوا حتى تتصل مناكبكم وأقدامكم في الصف، ولا يكون بينكم خلل وفرج، من رص البناء ألصق بعضه ببعض. ومنه قوله تعالى ?كأنهم بنيان مرصوص? [4:61]. وفيه جواز الكلام بين الاقامة والدخول في الصلاة، وفيه أن تسوية الصف واجبة. (فإني أراكم من وراء ظهري) أي من خلف ظهري. والفاء فيه للسببية، أشار به إلى سبب الأمر بذلك، أي إنما أمرت بذلك؛ لأني تحققت منكم خلافه. وقد تقدم القول في المراد بهذه الرؤية في باب الركوع، وأن المختار حملها على الحقيقة خلافا لمن زعم أن المراد بها خلق علم ضروري له بذلك، ونحو ذلك قال الزين بن المنير: لا حاجة إلى تأويلها؛ لأنه في معنى تعطيل لفظ الشارع من غير ضرورة. وقال القرطبي: حملها علىظاهرها أولى؛ لأن فيه زيادة في كرامة النبي ?، وفيه مراعاة الإمام لرعيته والشفقة عليهم وتحذيرهم من المخالفة. (رواه البخاري) أي بهذا اللفظ في باب إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف. وأخرج مسلم بنحوه، وأخرجه البيهقي (ج2:ص21) بلفظ البخاري. (وفي المتفق عليه) ظاهر هذا أن الشيخين اتفقا على إخراج الحديث بهذا اللفظ. وفيه نظر؛ لأن قوله: "أتموا الصفوف" من إفراد مسلم، وقوله: "فإني أراكم من وراء ظهري" من إفراد البخاري، وسياق الحديث عند مسلم: "أتموا الصفوف فإني أراكم خلف ظهري". والظاهر أن المصنف أخذ قوله أتموا الصفوف من رواية مسلم، وقوله: فإني أراكم من وراء ظهري، من رواية البخاري، فجعل مجموعهما حديثا متفقا عليه. ولا يخفى ما فيه. ولعله تبع في ذلك الجزري، حيث نسب هذه الرواية الثانية في جامع الأصول (ج6:ص393) إلى البخاري ومسلم. (أتموا) أي أيها الحاضرون لأداء

(5/6)


الصلاة معي. (الصفوف) أي الأول فالأول. (فإني أراكم) رؤية حقيقية. (من وراء ظهري) أي من خلفه كما أراكم من بين يدي. قيل: الفرق بين قوله: إني أراكم من
وراء ظهري بذكر "من" وبين قوله: إني أراكم خلف ظهري أي بدون "من" أنه إذا وجد من يكون فيه إشعار بأن مبدأ الرؤية ومنشأها من خلف بأن يخلق الله حاسة باصرة فيه، وإذا عدم يحتمل أن يكون منشأها هذه العين المعهودة، وأن تكون غيرها مخلوقة في الخلف والوراء، ولا يلزم رؤيتنا تلك الحاسة، إذ الرؤية إنما هي بخلق الله تعالى وإرادته. والحديث أخرجه أيضا النسائي. وزاد البخاري في رواية: وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه. قال الحافظ: صرح سعيد بن منصور في روايته أن هذه الزيادة في آخر الحديث من قول أنس، وأخرحه الإسماعيلي من رواية معمر عن حميد بلفظ: قال أنس: فلقد رأيت أحدنا إلى آخره. وأفاد هذا التصريح أن الفعل المذكور كان في زمن النبي ?. وبهذا يتم الاحتجاج به على بيان المراد بإقامة الصف وتسويته، وزاد معمر في روايته ولو فعلت ذلك بأحدهم اليوم لنفر كأنه بغل شموس - انتهى كلام الحافظ. قلت: قوله ?: تراصوا، وقوله: رصوا صفوفكم، وقوله: سدوا الخلل، ولا تذروا فرجات للشيطان، وقول النعمان بن بشير: فرأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه الخ، وقول أنس: وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه الخ، كل ذلك يدل دلالة واضحة على أن المراد باقامة الصف وتسويته أنما هو اعتدال القائمين على سمت واحد وسد الخلل والفرج في الصف بإلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم، وعلى أن الصحابة في زمنه ? كانوا يفعلون ذلك، وأن العمل برص الصف والزاق القدم بالقدم وسد الخلل كان في الصدر الأول من الصحابة وتبعهم، ثم تهاون الناس به. قال شيخنا في إبكار المنن بعد ذكر قولي النعمان وأنس: فظهر أن إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف سنة، قد عمل بها الصحابة خلف النبي ?، وهو المراد بإقامة الصف وتسوية على ما

(5/7)


قال الحافظ - انتهى. وجزى الله أهل الحديث أحسن ما يجزى به الصالحون، فانهم أحيوا هذه السنة التي تهاون الناس بها لاسيما المقلدون لأبي حنيفة، فإنهم لا يلزقون المنكب بالمنكب في الصلاة فضلا عن إلزاق القدم بالقدم والكعب بالكعب، بل يتركون في البين فرجة قد شبر أو أزيد، بل ربما يتركون فصلا يسع ثالثا وإذا قام أحد من أصحاب الحديث في الصلاة مع حنفي وحاول لإلصاق قدمه بقدمه اتباعا للسنة نحى الحنفي قدمه حتى يضم قدميه ولا يبقى فرجة بينهما وأشمأز ونظر إلى صاحبه المحمدي شزرا، بل ربما نفر كالحمار الوحشي، ويعد صنيع أهل الحديث الذي هو اتباع للسنة وإحياءها من الجهل والجفاء والفظاظة والغلظة، فإنالله وإنا إليه راجعون، وعالمهم وعاميهم في ترك هذه السنة والاستنفار عنها سواء. قال صاحب فيض الباري (ج2:ص236) : المراد بالزاق المنكب بالمنكب عند الفقهاء الأربعة أن لا يترك في البين فرجة تسع فيها ثالثا، قال ولم أجد عند السلف فرقا بين حال الجماعة والانفراد في حق الفصل بين قدمي الرجل بأنهم كانوا يفصلون بين قدميهم في حال الجماعة أزيد من حال الانفراد. وهذه المسألة أوجدها غير المقلدين فقط، وليس عندهم إلا لفظ الإلزاق، وليت شعرى ما ذا يفهمون من قولهم الباء- للالتصاق، ثم يمثلونه مررت بزيد، فهل كان مروره به متصلا بعضه ببعض أم كيف معناه، ثم إن الأمر

(5/8)


لا ينفصل قط إلا بالتعامل، وفي مسائل التعامل لايؤخذ بالألفاظ، قال: لما لم نجد الصحابة والتابعين يفرقون في قيامهم بين الجماعة والانفراد علمنا أنه لم يرد بقوله: إلزاق المنكب إلا التراص وترك الفرجة، ثم فكر في نفسك ولا تعجب أنه هل يمكن إلزاق المنكب مع إلزاق القدم إلا بعد ممارسة شاقة، ولا يمكن بعده أيضا فهو إذن من مخترعاتهم لا أثر له في السلف - انتهى. قلت: حمل الإلزاق هنا على المجاز يحتاج إلى قرينة، وتفسيره بأن لا يترك في البين فرجة تسع فيها ثالثا لا أثارة عليه من دليل لا من منقول ولا من معقول، ولا يوجد ههنا أدنى قرينة وأضعف أثر يدل على هذا المعنى البتة، فهو إذا من مخترعات هذا المقلد الذي جعل السنة بدعة، والبدعة أي ترك الإلزاق بإبقاع الفرجة وعدم التضام سنة، ثم لم يكتف بذلك بل تجاسر فنسب ما اخترعه إلى الفقهاء الأربعة. ثم أقول ما الدليل من السنة أو عمل الصحابي على تحديد الفصل بين قدمي المصلي بأن يكون قدر أربع أصابع أو قدر شبر في حال الانفراد والجماعة كلتيهما. والحق أن الشارع لم يعين قدر التفريج بين قدمي المصلي راحة له وشفقة عليه؛ لأنه يختلف ذلك باختلاف حال المصلى في الهزال والسمن والقوة والضعف. فالظاهر أنه يفصل بين قدميه في الجماعة قدر ما يسهل له سد الفرج والخلل، وإلزاق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه من غير تكلف ومشقة. ثم إنه ليس عندنا لفظ الإلزاق فقط بل هنا لفظ التراص وسد الخلل والنهى عن ترك الفرجة للشيطان، وكل واحد من ذلك يؤكد حمل الإلزاق على معناه الحقيقي، وماذا كان لوكان هنا لفظ الإلزاق فقط. وقد اعترف هو في آخر كلامه أن المراد به التراص وترك الفرجة، وهذا هو الذي نقوله. ولا يحصل التراص والتوقي عن الفرجة إلا بأن يلصق الرجل منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه حقيقة، وليت شعري ماذا يقول هو في مثال الإلصاق الحقيقي وهو قولهم به داء، ثم ماذا يقول في قوله ?: إذا ألزق الختان بالختان فقد

(5/9)


وجب الغسل. والسنة الصحيحة المحكمة حجة وقاضية على التعامل، لا أن التعامل قاض على السنة، لا فرق عندنا في ذلك بين عمل أهل المدينة وبين علمهم وعمل غيرهم من البلاد الإسلامية، مع أن عمل المسلمين في الزمن النبوي وعمل الخلفاء وسائر الصحابة والتابعين بعده ? كان على التراص والتضام وعدم إبقاء الفرجة مطلقا، ولا يعتد بعمل الناس بعد الصدر الأول، ولا يكون أدنى مشقة في إلزاق المنكب بالمنكب مع إلزاق القدم بالقدم، فنحن نفعل ذلك في الجماعة عملا بالحديث واتباعا للسنة من غير ممارسة وكلفة، ومن غير أن نفرج بين القدمين أزيد مما نفرج في حال الانفراد، لكن لا يسهل ذلك إلا على من يجب السنة وصاحبها، ويترك التحيل لترك العمل بها وأما المقلد الذي.... عمت بصيرته، فيشق عليه كل سنة إلا ما كان موافقا لهواءه، هدى الله تعالى هؤلاء المقلدين ووفقهم للعمل بالسنن النبوية الصحيحة الثابتة، وترك التأويل والتحريف.
1093- (3) وعنه، قال: قال رسول الله ?: (( سووا صفوفكم، فإن تسوية الصفوف من إقامة
الصلاة)) متفق عليه. إلا أن عند مسلم: (( من تمام الصلاة )).
1094- (4) وعن أبي مسعود الأنصاري، قال: ((كان رسول الله ? يمسح مناكبنا

(5/10)


1093- قوله: (سووا صفوفكم) فيه دليل على وجوب تسوية الصف. (فان تسوية الصفوف) وفي رواية الصف بالإفراد، والمراد به الجنس. (من إقامة الصلاة) أي المأمور بها الممدوح فاعلها في الآيات الكثيرة. وقال القاري: أي من جملة إقامة الصلاة في قوله تعالى ?الذين يقيمون الصلاة? وهي تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها. وقال العيني: التقدير من كمال إقامة الصلاة، فإن تسوية الصفوف ليست من إقامة الصلاة؛ لأن الصلاة تقام بغيرها، ولا يخفى ما فيه. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد وأبودواد وابن ماجه. (إلا أن عند مسلم من تمام الصلاة) وكذا أخرج بهذا اللفظ أبوداود وابن ماجه والإسماعيلي والبيهقي وغيرهم. وروي عن جابر قال: قال رسول الله ?: "إن من تمام الصلاة إقامة الصف" أخرجه أحمد وأبويعلى والطبراني في الكبير والأوسط. قال العيني: أي من كمال تمام الصلاة أو من حسن تمام الصلاة. قلت: هذا خلاف الظاهر. والحديث معناه مستقيم من غير تقدير لفظ الكمال أو الحسن. وقد استدل ابن حزم بقوله من إقامة الصلاة على أن تعديل الصفوف والتراص فيها فرض. قال في المحلي (ج4:ص55): تسوية الصف إذا كان من إقامة الصلاة فهو فرض؛ لأن إقامة الصلاة فرض، وما كان من الفرض فهو فرض. قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه، ولا سيما قد بينا أن الرواة لم يتفقوا على هذه العبارة، يعني أنه رواها بعضهم بلفظ "من تمام الصلاة". واستدل ابن حزم بالعبارتين. قال العيني والحافظ: واستدل ابن بطال بما في البخاري من حديث أبي هريرة بلفظ "فإن اقامة الصف من حسن الصلاة" على أن التسوية سنة، قال: لأن حسن الشئ زيادة على تمامه، واورد عليه رواية من تمام الصلاة. وأجاب ابن دقيق العيد فقال: قد يؤخذ من قوله: تمام الصلاة الاستحباب؛ لأن تمام الشيء في العرف أمرخارج عن حقيقة التي لا يتحقق إلا بها، وإن كان يطلق بحسب الوضع على ما لا تتم الحقيقة إلا به. قال الحافظ: ورد بأن لفظ

(5/11)


الشارع لا يحمل إلا على ما دل عليه الوضع في اللسان العربي، وإنما يحمل على العرف إذا ثبت أنه عرف الشارع لا العرف الحادث. وقال العيني: وفيه أي في جواب ابن دقيق العيد نظر؛ لأن ألفاظ الشرع لا تستعمل بحسب العرف.
1094- قوله: (يمسح منا كبنا) وفي رواية للنسائي: يمسح عواتقنا. والمناكب جمع منكب، وهو ما بين الكتف والعنق. وقيل: مجتمع الرأس الكتف والعضد، والعواتق جمع عاتق، وهو ما بين المنكب والعنق،
في الصلاة، ويقول: ((استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليلني منكم

(5/12)


أي يمسحها ليعلم به تسوية الصف. وقال القاري: أي يضع يده على أعطافنا حتى لا نتقدم ولا نتأخر. وقال النووي: أي يسوي مناكبنا في الصفوف ويعدلنا فيها (في الصلاة) أي في حال إرادة الصلاة بالجماعة (ويقول) أي حال تسوية المناكب على ما هو الظاهر (ولا تختلفوا) أي بالتقدم والتأخر في الصفوف، كما يدل عليه روايات الحديث (فتختلف) بالنصب على أنه جواب للنهي. (قلوبكم) أي أهويتها وإرادتها أي اختلاف الصفوف سبب لاختلاف القلوب يجعل الله كذلك. وقيل: لأن اختلاف الصفوف اختلاف الظواهر، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن. وفيه أن القلب تابع للأعضاء، فإذا اختلفت اختلف، وإذا اختلف فسد ففسدت الأعضاء؛ لأنه رئيسها المتبوع وملكها المطاع والأعضاء كلها تبع له، فإذا صلح المتبوع صلح التبع، وإذا استقام الملك استقامت الرعية. ويبين ذلك الحديث المشهور: ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد، وإذا فسدت فسد الجسد، ألا وهي القلب. قيل: إن بين القلب والأعضاء تعلقا عجيبا وتأثيرا غريبا بحيث أنه يسري مخالفة كل إلى آخر وإن كان القلب مدار الأمر إليه. (ليلني منكم) بكسر لامين وخفة نون بلا ياء قبلها. وفي المصابيح ليليني. قال شارح: الرواية باثبات الياء، وهو شاذ لأنه من الولي بمعنى القرب، واللام للأمر، فيجب حذف الياء للجزم، قيل: لعله سهو من الكاتب، أو كتب بالياء؛ لأنه الأصل ثم قرئ كذا. أقول الأولى أن يقال إنه من إشباع الكسرة كما قيل في لم تهجو ولم تدعى، أو تنبيه على الأصل كقراءة ابن كثير ?إنه من يتقي ويصبر?، أو أنه لغة في أن سكونه نقديري، كذا في المرقاة. وقال النووي في شرح مسلم: ليلني هو بكسر اللامين وتخفيف النون من غير ياء قبل النون. ويجوز إثبات الياء مع تشديد النون على التوكيد. قال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج1 ص440) بعد ذكر كلام النووي: وهكذا طبع في صحيح مسلم في طبعة بولاق (ج1 ص128)، وفي طبعة الآستانة (ج2

(5/13)


ص30) في حديثي أبي مسعود وابن مسعود (الآتي)، وكتب بها مشها في حديث أبي مسعود أن في نسخة ليليني، وضبط بتشديد النون وفتح الياء قبلها، ولكن في نسخة مخطوطة عندي من صحيح مسلم يغلب عليها الصحة بإثبات الياء فيهما من غير ضبط، وكتب بهامشها في الموضعين أن في نسخة ليلني بحذف الياء، قال: وأظن أن حذفها من تصرف الناسخين، وكذلك ضبط الكلمة على إثبات الياء بفتحها وتشديد النون ذهابا منهم إلى الجادة في قواعد النحو بجزم الفعل المعتل بحذف حرف العلة. وقد رأيت كثيرا من الناسخين والعلماء يجيزون لأنفسهم تغيير ما خالف القواعد المعروفة ظنا منهم أنه خطأ، والدليل على ظن التصرف منهم أنه قال الطيبي على ما نقل عنه الشارح المبار كفوري في شرح الترمذي: أن من حق هذا اللفظان يحذف منه الياء؛ لأنه على صيغة الأمر، وقد وجدنا بإثبات الياء وسكونها في سائر
أولوا الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) قال أبومسعود: فأنتم اليوم أشد اختلافا. رواه مسلم.

(5/14)


كتب الحديث، والظاهر أنه غلط - انتهى. وليس هذا غلطا كما زعم الطيبي، بل إثبات حرف العلة في مثل هذا ورد في الحديث كثيرا، وله شواهد من الشعر، وقد بحث فيه العلامة ابن مالك في كتاب شواهد التوضيح (ص11-15) بحثا طويلا، وذكر من شواهد في البخاري قول عائشة: إن أبا بكر رجل أسيف، وأنه متى يقوم مقامك لا يسمع الناس، وحديث: من أكل من هذه الشجرة فلا يغشانا، وحديث: مروا أبا بكر فلصلى بالناس. ووجه ذلك بأوجه متعددة أحسنها عندي الوجه الثالث أن يكون أجزى المعتل مجرى الصحيح فأثبت الألف، يعني أو الواو أو الياء واكتفى بتقدير حذف الضمة التي كان ثبوتها منويا في الرفع - انتهى (أولو الأحلام) أي ذو العقول الراجحة، واحدها حلم بالكسر، وهو الأناة والتثبيت في الأمور والسكون والوقار وضبط النفس عند هيجان الغضب، ويفسر بالعقل؛ لأن هذه الأمور من مقتضيات العقل. والعقل الراجح يتسبب لها. وقيل: أولو الأحلام البالغون، والحلم بضم الحاء البلوغ، وأصله ما يراه النائم (والنهى) بضم نون وفتح هاء وألف، جمع نهية بالضم بمعنى العقل؛ لأنه ينهى صاحبه عن القبائح. وقال أبوعلي الفارسي: يجوز أن يكون النهى مصدرا كالهدى، وأن يكون جمعا كالظلم. قال ابن سيد الناس الأحلام والنهى بمعنى واحد، وهي العقول. وقيل: المراد بأولو الأحلام البالغون، وبأولى النهى العقلاء، فعلى الأول يكون العطف فيه من باب قوله: وألفى قوله كذبا ومينا. وهو أن تغاير اللفظ قائم مقام تغاير المعنى، وهوكثير في كلام، وعلى الثاني يكون لكل لفظ معنى مستقل - انتهى. قال الخطابي في المعالم (ج1 ص184-185) : وإنما أمر ? أن يليه ذو والأحلام والنهى ليعقلوا عنه صلاته، ولكي يخلفوه في الإمامة إن حدث به حدث في صلاته، وليرجع إلى قولهم إن أصابه سهو أو عرض في صلاته عارض في نحو ذلك من الأمور. (ثم الذين يلونهم) أي الذين يقربونهم في هذا الوصف، وقال القاري: كالمراهقين أو الذين يقربون

(5/15)


الأولين في النهى والحلم (ثم الذين يلونهم) كالصبيان المميزين أو الذين أنزل مرتبة من المتقدمين حلما وعقلا. والمعنى هلم جرا- فالتقدير ثم الذين يلونهم كالنساء فإن نوع الذكر أشرف على الإطلاق. والمقصود بيان ترتيب الصفوف في القيام. قال النووي: في هذا الحديث تقديم الأفضل فالأفضل إلى الإمام؛ لأنه أولى بالاكرام، ولأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف فيكون هو أولى، ولأنه يتفطن لننبيه الإمام على السهو لما يتفطن له غيره، وليضبطوا صفة الصلاة ويحفظوها وينقلوها ويعلموها الناس، وليقتدي بأفعالهم من ورائهم - انتهى. (قال أبومسعود) أي المذكور (فأنتم اليوم أشد اخنلافا) أي في كلمة حتى فشت فيكم الفتن وذلك لعدم تسويتكم الصفوف كذا فسره الطيبي (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص97).
1095- (5) وعن عبدالله بن مسعود، قال: ((قال رسول الله ? : ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثلاثا، وإياكم وهيشات الأسواق)). رواه مسلم.
1096- (6) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((رأى رسول الله ? في أصحابه تأخرا، فقال لهم: تقدموا وأتموا بي وليأتم بكم من بعدكم،

(5/16)


1095- قوله: (ليلني منكم وأولو الأحلام والنهى) أي ليدن مني ذوو العقول الراجحة لشرفهم ومزيد تفطينهم وتيقظهم وضبطهم لصلاته. قال الطيبي أخذا عن التوربشتى: أمر بتقديم العقلاء ذوي الأخطار والعرفان ليحفظوا صلاته ويضبطوا الأحكام والسنن، فيبلغوا من بعدهم. وفي ذلك مع الإنصاح عن جلالة شأنهم حث لهم على تلك الفضيلة وإرشاد لمن قصر حالهم عن المساهمة معهم في المنزلة إلى تحري ما يزاحمهم فيها. وقد روى ابن ماجه والبيهقي عن أنس بإسناد رجاله ثقات قال: كان رسول الله ? يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليأخذوا عنه (ثم الذين يلونهم ثلاثا) أي كرر"ثم" وما بعدها ثلاثا (وإياكم وهيشات الأسواق) بفتح الهاء وإسكان الياء وبالشين المعجمة، جمع هيشة بالفتح، أي اختلاطها والمنازعة والخصومات وارتفاع الأصوات واللغط والفتن التي فيها، قاله النووي. وقال الخطابي في المعالم: أصله من الهوش، وهو الاختلاط يقال: تهاوش القوم إذا اختلطوا ودخل بعضهم في بعض وبينهم تهاوش، أي اختلاط واختلاف - انتهى. وقال الطيبي: هي ما يكون من الجلبة وارتفاع الأصوات، نهاهم عنها؛ لأن الصلاة حضور بين يدي الحضرة الإلهية، فينبغي أن يكونوا على السكوت وآداب العبودية. وقيل: هي الاختلاط، أي لا تختلطوا اختلاط أهل الأسواق، فلا يتميز أصحاب الأحلام والعقول عن غيرهم، ولا يتميز الصبيان من البالغين ولا الذكور من الإناث. ويجوز أن يكون المعنى: قوا أنفسكم من الاشتغال بأمور الأسواق فإنه يمنعكم أن تلونى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والبيهقي (ج3 ص97).

(5/17)


1096- قوله: (رأى رسول الله ? في أصحابه تأخرا) أي في صفوف الصلاة كأنهم تأخروا عن القرب والدنو منه?. وقيل: المراد التأخر في أخذ العلم (وأتموا بي) أي اصنعوا كما أصنع (وليأتم) بسكون اللام، وتكسر (بكم من بعدكم) أي من خلفكم من الصفوف. والخطاب لأهل الصف الأول، أي اقتدوا بأفعالي، وليقتد بكم من بعدكم مستدلين بأفعالكم على أفعالي، أو المراد من بعدكم من أتباع الصحابة، والخطاب للصحابة مطلقا، أي تعلموا مني أحكام الشريعة، وليتعلم منكم التابعون بعدكم وكذلك أتباعهم إلى انقراض الدنيا. "وبعد" على الأول مستعار للمكان، وعلى الثاني للزمان، كما هو الأصل. قال الطيبي: أراد التأخر في صفوف الصلاة أو التأخر
لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله)) رواه مسلم.
1097- (7) وعن جابر بن سمرة قال: (( خرج علينا رسول الله ? فرآنا حلقا،

(5/18)


عن أخذ العلم، فعلى الأول معناه ليقف الألباء والعلماء في الصف الأول، وليقف من دونهم في الصف الثاني، فإن الصف الثاني مقتدون بالصف الأول ظاهرا لا حكما. ففيه جواز اعتماد المأموم في متابعة الامام الذي يراه ولا يسمعه على مبلغ عنه أوصف قدامه يراه متابعا للإمام، وعلى الثاني المعنى وليتعلم كلكم مني أحكام الشريعة، وليتعلم التابعون منكم، وكذلك من يلونهم قرنا بعد قرن - انتهى. واستدل الشعبي بقوله: وليأتم بكم من بعدكم، لما ذهب إليه أن كل صف منهم إمام لمن وراءهم مع كونهم مأمومين، وأن الجماعة يتحملون عن بعضهم بعض ما يتحمله الإمام خلافا للجمهور. قال الشعبي: فيمن أحرم قبل أن يرفع الصف الذي يليه رؤوسهم من الركعة إنه أدركها ولو كان الإمام رفع قبل ذلك؛ لأن بعضهم لبعض أئمة، أخرجه ابن شيبة. قيل: وإليه مال البخاري حيث قال: باب الرجل يأتم بالإمام. ويأتم الناس بالمأموم. قال ابن بطال: هذا موافق لقول مسروق والشعبي إن الصفوف يؤم بعضها بعضا خلافا للجمهور. وقال العيني: ظاهر هذه الترجمة أن البخاري يميل إلى مذهب الشعبي في ذلك، قال: ومما يؤكد أن ميله إلى قول الشعبي أنه صدر هذا الباب بالحديث المعلق يعني حديث أبي سعيد هذا حيث قال: ويذكر عن النبي ? قال ائتموبي وليأتم بكم من بعدكم، قال العيني: فإنه صريح في أن القوم يأتمون بالإمام في الصف الأول، ومن بعدهم يأتمون بهم. وقال الحافظ: ظاهره يدل لمذهب الشعبي، وأجاب النووي: أن معناه يقتدي بكم من خلفكم مستدلين على أفعالي بأفعالكم - انتهى. قلت: لم يفصح البخاري باختياره في هذه المسألة. والظاهر أنه اتبع في وضع الترجمة لفظ الحديث، ولم يرد التنبيه على مسئلة تسلسل الاقتداء. والحديث ليس بعض فيما قاله الشعبي ون وافقه، كما هو ظاهر من تفسير الجمهور للحديث. والراجح عندي هو قول الجمهور والله أعلم. (ولا يزال قوم يتأخرون) أي عن الصفوف المتقدمة. وقيل: عن الخيرات أو عن العلم

(5/19)


(حتى يؤخرهم الله) أي في دخول الجنة. وقال النووي: أي عن رحمته أو عظيم فضله ورفيع المنزلة وعن العلم ونحو ذلك. وفيه الحث على الكون في الصف الأول والتنفير عن التأخر والبعد عنه. وقد ورد في فضيلة الصلاة في الصف الأول أحاديث متعددة عن جماعة من الصحابة. وسيأتي ذكر بعضها (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص103).
1097 وغيره - قوله: (فرآنا حلقا) بكسر الحاء وفتحها لغتان، جمع حلقة بإسكان اللام. وحكى الجوهري فتحها في لغة ضعيفة. قال الجرزي: الحلقة بسكون اللام حلقة الباب وحلقة القوم وجمعها حلق بفتح الحاء واللام على غير قياس، قاله الجوهري، قال: وقال الأصمعي: الجمع حلق، مثل بدرة وبدر وقصعة وقصع، قال:
فقال: ما لي أراكم عزين؟ ثم خرج علينا فقال: ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ فقلنا: يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأولى، ويتراصون في الصف)) رواه مسلم.
1098 (8)- وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ?: ((خير صفوفالرجال أولها، وشرها

(5/20)


وحكى يونس عن أبي عمرو حلقة في الواحد بالتحريك، والجمع حلق، وقال ثعلب: كلهم يجيزه على ضعفه. وقال الشيباني: ليس في الكلام حلقة بالتحريك إلا في جمع حالق، وهو الذي يحلق الشعر. والذي رويناه في كتاب مسلم حلقا مضبوطا بكسر الحاء، والله أعلم - انتهى. قال الطيبي: أي جلوسا حلقة حلقة كل صف منا قد تحلق - انتهى. (ما لي أراكم عزين) بكسر العين المهملة وتخفيف الزاي جمع عزة أي جماعات متفرقين حلقة حلقة نصب على الحال، قال الجزري: عزين جمع عزة وهي الحلقة من الناس، والأصل عزوة وهذا من الجموع النادرة الخارجة عن بابها. قال الطيبي: قوله: ما لي أراكم؟ إنكار على رؤيته إياهم على تلك الصفة، ولم يقل: ما لكم؛ لأن ما لي أراكم أبلغ كقوله: ?ما لي أرى الهدهد? [27: 20]. والمقصود الانكار عليهم كائنين على تلك الحالة، يعني لا ينبغي لكم أن تفرقوا ولا تكونوا مجتمعين مع توصيتي إياكم بذلك. (ثم خرج علينا) أي مرة أخرى بعد هذا (ألا تصفون) بفتح التاء المثناة من فوق وضم الصاد أي في الصلاة (كما تصف الملائكة عند ربها) أي عند قيامها لطاعة ربها. قال القاري. وقيل: أي في محل قربه ومكان قبوله (يتمون الصفوف الأولى) كذا في جميع النسخ بضم الهمزة وسكون الواو تأنيث الأول، وكذا في المصابيح. ووقع في مسلم: الأول بضم الهمزة وفتح الواو جمع الأولى، وكذا في النسائي وابن ماجه. وعند أبي داود: الصفوف المقدمة، يعني يتمون الصف الأول، ولا يشرعون في الثاني حتى يتم الأول، ولا في الثالث حتى يتم الثاني، ولا في الرابع حتى يتم الثالث، وهكذا إلى آخرها. (ويترابصون في الصف) أي يتلاصقون ويتضامون حتى لا يكون بينهم شيء من الخلل والفرجة. وفي الحديث النهي عن التقرق والأمر بالاجتماع. وفيه: الاقتداء بأفعال الملائكة في صلاتهم وتعبداتهم. وفيه: الأمر باتمام الصفوف الأول والتراص في الصفوف. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3

(5/21)


ص101).
1098- قوله: (خيرصفوف الرجال) أي أكثرها أجرا وثوابا وفضلا. (أولها) فيه التصريح بأفضلية الصف الأول للرجال، وإنه خيرها لما فيه من إحراز فضيلة التقدم المأمور به ولقربهم من الإمام ومشاهدتهم لأحواله واستماعهم لقراءته وبعدهم من النساء (وشرها) أي أقلها ثوابا وفضلا وأبعدها من مطلوب الشرع
آخرها وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها)) رواه مسلم.
(آخرها) لما فيه من ترك الفضيلة الحاصلة بالتقدم إلى الصف الأول ولقربهم من النساء وبعدهم من الإمام (وخير صفوف النساء آخرها) لبعدهن من مخالطة الرجال، ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك بخلاف الوقوف في الصف الأول من صفوفهن، فإنه مظنة المخالطة وتعلق القلب بهم المتسبب عن رؤيتهم وسماع كلامهم، ولهذا كان شرها. ثم هذا التفصيل في صفوف الرجال على إطلاقه، وفي صفوف النساء عند الاختلاط بالرجال. قال النووي: أما صفوف الرجال فهي على عمومها فخيرها أولها أبدا وشرها آخرها أبدا. أما صفوف النساء فالمراد بالحديث صفوف النساء اللواتي يصلين مع الرجال. وأما إذا صلين متميزات لا مع الرجال فهن كالرجال خير صفوفهن أولها وشرها آخرها- انتهى. وقيل: يمكن حمله على إطلاقه لمراعاة الستر فتأمل. وفي الحديث: إن صلاة النساء صفوفا جائزة من غير فرق بين كونهن مع الرجال أو منفردات وحدهن واعلم أنه اختلف في أن الصف الأول في المسجد هل هو ما يلي الإمام مطلقا أي الذي هو أقرب إلى القبلة، أو هو أول صف تام يلي الامام لا ما تخلله شيء كمقصورة، أو المراد به من سبق إلى الصلاة ولو صلى آخر الصفوف. قال النووي: الصف الأول الممدوح الذي وردت الأحاديث بفضله هو الصف الذي يلي الإمام، سواء جاء صاحبه متقدما أو متأخرا، وسواء تخلله مقصورة ونحوها أم لا، هذا هو الصحيح الذي يقتضيه ظواهر الأحاديث، وصرح به المحققون. وقال طائفة من العلماء: الصف الأول هو المتصل من طرف المسجد

(5/22)


إلى طرفه لا يتخلله مقصورة ونحوها، فإن تخلل الذي يلي الإمام شيء فليس بأول، بل الأول مالا يتخلله شيء وإن تأخر. وقيل الصف الأول عبارة عن مجيىء الإنسان إلى المسجد ولا وإن صلى في صف متأخر. وهذان القولان غلط صريح- انتهى. قال الحافظ: وكان صاحب الفول الثاني لحظ أن المطلق ينصرف إلى الفرد الكامل وما فيه خلل فهو ناقص. وصاحب القول الثالث لحظ المعنى في تفضيل الصف الأول دون مراعاة لفظه- انتهى. قال العلماء في الحض على الصف الأول المسارعة إلى خلاص الذمة، والسبق لدخول المسجد، والقرب من الإمام، واستماع قراءته، والتعلم منه، والفتح عليه، والتبليغ عنه، والسلامة من اختراق المارة بين يديه، وسلامة البال من رؤية من يكون قدامه، وسلامة موضع سجوده من أذيال المصلين- انتهى. (رواه مسلم) قال القاري: كان يمكن للمصنف أن يجمل ويقول روى الأحاديث الخمسة مسلم كما هو دأبه، ولعل عادته فيما إذا كان للأحاديث سند واحد باتفاق رجاله وخلافها في خلافة- انتهى. والحديث أخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص98) وروي عن جماعة من الصحابة، منهم أبوسعيد وابن عباس وأنس وعمر بن الخطاب وأبوأمامة، وذكرهم الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص93).
?الفصل الثاني?
1099- (9) عن أنس، قال: قال رسول الله ?: (( رصوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذروا بالأعناق، فوالذي نفسي بيده، إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنها الحذف)). رواه أبوداود.

(5/23)


1099- قوله (رصوا) بضم الراء والصاد المهملتين (صفوفكم) أي في صلاة الجماعة بانضمام بعضكم إلى بعض على السواء من الرص. وهو ضم البعض إلى البعض مثل لبنات الجدار، أي كونوا في الصف كأنه بنيان مرصوص، قال القاري: أي سووا صفوفكم وضموا بعضكم إلى بعض حتى لا يكون بينكم فرجة. (وقاربوا بينها) أي بين الصفوف بحيث لا يسع بين صفين صف آخر فيصير تقارب أشباحكم سيما لتعاضد أرواحكم، قاله القاري. (وحاذوا بالأعناق) قيل: الظاهر أن الباء زائدة، والمعنى اجعلوا بعض الأعناق في محاذاة بعض أي مقابلته. وقيل: المراد بمحاذاة الأعناق المحاذاة بالمناكب. ففي حديث أبي أمامة الآتي: حاذوا بين مناكبكم. وفي حديث ابن عمر: حاذوا بين المناكب. والمعنى اجعلوا الأعناق والمناكب بعضها حذاء بعض، أي موازيا ومسامتا ومقابلا له. وقال القاضي: أي بأن لا يترفع بعضكم على بعض بأن يقف في مكان أرفع من مكان الآخر. قال الطيبي: ولا عبرة بالأعناق أنفسها، إذ ليس على الطويل أن يجعل عنقه محاذيا لعنق القصير ( يدخل من خلل الصف) بفتح الخاء واللام أي فرجته. قال المنذري في الترغيب: الخلل بفتح الخاء المعجمة واللام أيضا ما يكون بين الاثنين من الاتساع عند عدم التراص –انتهى. وعن ابن مسعود قال: سووا صفوفكم فإن الشيطان يتخللها كالحذف. رواه الطبراني في الكبير موقوفا. (كأنها الحذف) بحاء مهملة وذال معجمة مفتوحتين واحدتها حذفة مثل قصب وقصبة، وهي الغنم السود الصغار الحجازية. وقيل: صغار جرد ليس لها آذان ولا أذناب، يجاء بها من اليمن، أي كأنها الشيطان، وأنث باعتبار الخبر. وقيل: إنما أنث؛ لأن اللام في الخبر للجنس فيكون في المعنى جمعا. وفي شرح الطيبي: قال المظهر الضمير في"كأنها" راجع إلى مقدر أي جعل نفسه شاة أو ماعز كأنها الحذف. وقيل: يجوز التذكير باعتبار الشيطان، ويجوز تأنيثه باعتبار الحذف لوقوعه بينهما فلا حاجة إلى مقدر، كذا في المرقاة. قلت: ورواية

(5/24)


النسائي بلفظ: إني لأرى الشياطين تدخل من خلل الصف كأنها الحذف. ولا إشكال فيها (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. وقال النووي: إسناده على شرط مسلم، نقله ميرك، والحديث أخرجه أيضا النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والبيهقي (ج3 ص100).
1100- (10) وعنه، قال: قال رسول الله ?: (( أتموا الصف المقدم، ثم الذي يليه، فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر)) رواه أبوداود.
1101- (11) وعن البراء بن عازب، قال: ((كان رسول الله ?يقول: إن الله وملائكته يصلون على الذين يلون الصفوف الأولى، وما من خطوة أحب إلى الله من خطوة يمشيها يصل بها صفا)) رواه أبوداود.
1100- قوله: ( أتموا الصف المقدم) ولفظ النسائي: الصف الأول (ثم الذي يليه) أي ثم أتموا الصف الذي يلي الصف الأول، وهكذا. (فما كان) أي وجد. (فليكن) أي النقص (في الصف المؤخر) دل الحديث على جعل النقص في الصف الأخير، لكن لم يظهر منه موقف الصف الناقص، فظاهر حديث أبي هريرة: وسطوا الامام، أن يقف أهل الصف الناقص خلف الإمام عن يمينه وشماله. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضا أحمد والنسائي والبيهقي (ج3 ص102).

(5/25)


1101- قوله: (يصلون على الذين يلون) أي يقومون. قال ابن مالك: أو يباشرون ويتولون يعني يصلون في الصفوف الأول. والمراد من الصلاة من الله إنزال الرحمة ومن الملائكة الدعاء بالتوفيق وغيره. (الصفوف الأولى) كذا في جميع النسخ بضم الهمزة وسكون الواو تأنيث أول، وكذا في المصابيح، ووقع في أبي داود: الأول أي بضم الهمزة وفتح الواو جمع أولى، وهكذا في جامع الأصول (ج6 ص397) أي فالأفضل الأول فالأول. وذكر المنذري: هذا الحديث في ترغيبه بلفظ: إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف الأول. وعند أبي داود في حديث آخر عن البراء: إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأول. وفي رواية النسائي: الصفوف المتقدمة. قال السندي: أي على الصف المقدم في كل مسجد، أو في كل جماعة، فالجمع باعتبار تعدد المساجد أو تعدد الجماعات، أو المراد الصفوف المتقدمة على الصف الأخير، فالصلاة من الله تعالى تشمل كل صف على حسب تقدمه إلا الأخير فلاحظ له منها لفوات التقدم. (وما من خطوة) قال العيني: بفتح الخاء وهي المرة الواحدة. وقال القرطبي: بضم الخاء وهي واحدة الخطا وهي ما بين القدمين من البعد، والتي بالفتح مصدر- انتهى. "ومن" زائدة و"خطوة" اسم"ما"وقوله: (أحب إلى الله) بالنصب خبره. قال القاري: والأصح رفعه وهو اسمه ومن خطوة خبره (من خطوة) متعلق بأحب (يمشيها) بالغيبة صفة خطوة أي يمشيها الرجل، وكذا (يصل بها صفا) وفي حديث ابن عمر عند الطبراني: مامن خطوة أعظم أجرا من خطوة مشاها رجل إلى فرجة في الصف فسدها. قال الهيثمي: في إسناده ليث بن حماد، ضعفه الدارقطني (رواه أبوداود) في حديث ذكره في باب
1102- (12) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله ?: (( إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف)) رواه أبوداود.

(5/26)


الصلاة تقام ولم يأت الإمام ينتظرونه قعودا. وفي سنده رجل مجهول، فإنه رواه من طريق كهمس عن شيخ من أهل الكوفة عن عبدالرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب. وأخرج أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة والبيهقي عن البراء حديثا، فيه نحو هذه الرواية لكن بدون ذكر الخطوة، وهو حديث صحيح رجاله ثقات. وفي الباب عن أبي أمامة وسيأتي. وعن النعمان بن بشير عند أحمد والبزار. قال الهيثمي: رجاله ثقات. وعن جابر عند البزار، وفيه عبدالله بن محمد بن عقبل، وفيه كلام، وقد وثقه جماعة. وعن العرباض بن سارية عند أحمد والنسائي وابن ماجه والبيهقي، وعن عبدالرحمن بن عوف عند ابن ماجه، وعن أبي هريرة عند البزار، وفيه أيوب بن عتبة، ضعف من قبل حفظه.

(5/27)


1102- قوله: (على ميامن الصفوف) جمع ميمنة، وفيه دليل على شرف يمين الصفوف واستحباب الكون في يمين الصف الأول وما بعده من الصفوف، وأما ما رواه ابن ماجه عن ابن عمر قال: قيل للنبي ? إن ميسرة المسجد تعطلت، فقال: من عمر ميسرة المسجد كتب له كفلان من الأجر. وما رواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله ? من عمر جانب المسجد الأيسر لقلة أهله فله أجران. ففي اسناده بهما مقال، فإن في سند حديث ابن عمر ليث بن سليم، وهو ضعيف. وفي سند حديث ابن عباس بقية بن وليد، وهو مدلس، وقد عنعنه، وإن ثبتا فلا يعارضان حديث عائشة وما وافقه؛ لأن ما ورد لمعنى عارض يزول بزواله. قال السندي في حاشية ابن ماجه تحت حديث ابن عمر فيه أن اليمين وإن كان هو الأصل، لكن اليسار إذا خلا فتعميره أولى من اليمين، وعلى هذا فلا بد من النظر إلى الطرفين، فإن كانت زيادة فلتكن في اليمين (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا ابن ماجه والبيهقي (ج3 ص103) كلهم من رواية معاوية بن هشام عن سفيان عن أسامة بن زيد عن عثمان بن عروة عن عروة عن عائشة، وقد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري في الترغيب، والحافظ في الفتح: إسناده حسن. وقال الشوكاني: رجاله رجال الصحيح على ما في معاوية بن هشام من المقال - انتهى. وقال البيهقي: تفرد به معاوية بن هشام ولا أراه محفوظا، والمحفوظ بهذا الإسناد عن النبي ?: إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف، وكذلك رواه الجماعة. قلت: معاوية بن هشام هذا وثقه أبوداود، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الساجي: صدوق يهم، وقال أبوحاتم، وابن سعد: صدوق. وقال في التقريب، صدوق له أو هام، ويؤيده حديث البراء عند مسلم وغيره قال: كنا إذا صلينا خلف النبي ? أحببنا أن نكون عن يمينه، يقبل علينا بوجهه، وعن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله ?: إن استطعت أن تكون خلف الإمام وإلا فعن يمينه. أخرجه البيهقي (ج3 ص104) ونسبه الهيثمي إلى

(5/28)


الطبراني في
1103- (13) وعن النعمان بن بشير، قال: ((كان رسول الله ? يسوي صفوفنا إذا قمنا إلى الصلاة، فإذا استوينا كبر)) رواه أبوداود.
1104- (14) وعن أنس، قال: ((كان رسول الله ? يقول عن يمينه: اعتدلوا، سووا صفوفكم. وعن يساره اعتدلوا، سووا صفوفكم)) رواه أبوداود.
1105- (15) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله ?: ((خياركم ألينكم مناكب في الصلاة))
الأوسط وقال فيه من لم أجد له ذكرا. وعن ابن عباس قال: عليكم بالصف الأول وعليكم بالميمنة منه، وإياكم والصف بين السوارى. رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه إسماعيل بن مسلم المكي وهوضعيف.
1103- قوله: (يسوي صفوفنا) ولفظ أبي داود: يسوي يعني صفوفنا أي باليد أو بالأشارة أو بالقول (إذا قمنا إلى الصلاة) وفي أبي داود: للصلاة. وكذا في جامع الأصول (ج6 ص392). ووقع عند البيهقي إلى الصلاة (فإذا استوينا كبر) أي للإحرام. وفيه دليل على أن السنة للإمام أن يسوي الصفوف ثم يكبر، وأخذ بعضهم من قوله: إذا قمنا أن التسوية كانت بعد الإقامة، وأصرح منه في الدلالة على هذا قوله فقام حتى كاد أن يكبر الخ في حديث النعمان، وقوله أقيمت الصلاة فأقبل علينا بوجهه الخ، في حديث أنس وقد تقدما في الفصل الأول (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا البيهقي (ج2 ص21) وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: هو طرف من الحديث المتقدم يعني حديث النعمان أول أحاديث هذا الباب.

(5/29)


1104- قوله: (كان رسول الله ? يقول عن يمينه) أي منصرفا بوجهه عن جهة يمينه متوجها إلى يمين الصف. ولفظ أبي داود: إن رسول الله ? كان إذا قام إلى الصلاة أخذه. (أى العود المذكور في رواية المتقدمة) بيمينه ثم التفت فقال، وكذا ذكره الجزري في جامع الأصول (ج6 ص394) وهكذا وقع عند البيهقي. (اعتدلوا) أي في القيام يعني استووا (سووا صفوفكم) بعدم تخلية الفرجة، أو الثاني تفسير للأول أو تأكيد له (رواه أبوداود) ومن طريقه البيهقي (ج2 ص22) وسكت عنه أبوداود والمنذري.
1105- قوله: (ألينكم مناكب) نصب على التمييز، أي أسرعكم انقيادا لمن يأخذ بمناكبكم الخارجة عن الصف يقدمها أو يؤخرها حتى يستوي الصف. قال المظهر: معناه إذا كان في الصف وأمره آخر بالاستواء أو يضع يده على منكبه ينقاد ولا يتكبر. وقال الخطابي في المعالم (ج1 ص184): معنى لين المنكب لزوم السكينة في الصلاة والطمأنينة فيها، لا يلتفت ولا يحاك بمنكبه منكب صاحبه، فالمعنى أكثركم سكينة وطمأنينة، قال: وقد يكون فيه وجه
رواه أبوداود.
?الفصل الثالث?
1106- (16) عن أنس، قال: ((كان النبي ? يقول: استووا، استووا، استووا، فوالذي نفسي بيده، إني لأراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي)) رواه أبوداود.

(5/30)


آخر، وهو أن لا يمتنع على من يريد الدخول بين الصفوف ليسد الخلل أو لضيق المكان بل يمكنه من ذلك ولا يدفعه بمنكبه لتتراص الصفوف وتتكاثف الجموع- انتهى. قال ميرك: والوجه الأول أليق بالباب، ويؤيده حديث أبي أمامة في الفصل الثالث: ولينوا في أيدي إخوانكم. قلت: والوجه الثالث أيضا أنسب بالباب. (رواه أبوداود) ومن طريقه البيهقي (ج3 ص101) وسكت عنه أبوداود والمنذري. وفي سنده جعفر بن يحيى بن ثوبان عن عمه عمارة بن ثوبان. وجعفر هذا قال ابن المديني مجهول. وقال ابن القطان الفاسي: مجهول الحال، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ في التقريب: مقبول. وعمه عمارة بن ثوبان. قال الذهبي في ترجمته: ما روى عنه الا ابن أخيه جعفر بن يحيى لكنه قد وثق وقال في ترجمته جعفر أن عمه يعني عمارة لين. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمته عمارة: ذكره ابن حبان في الثقات. وقال عبدالحق: ليس بالقوى فرد ذلك عليه ابن القطان وقال: إنما هو مجهول الحال. وقال في التقريب: عمارة بن ثوبان حجازي مستور، قلت: قول الذهبي لكنه قد وثق، وقوله لين، وقول عبدالحق ليس بالقوى، وذكر ابن حبان اياه في الثقاته يدل على أنه ليس بمجهول الحال عندهم، ومن عرف حجة على من لم يعرف. قال ميرك: وكان الأخصر أن يقول المصنف: روى جميع الأحاديث المذكورة في هذا الفصل أبوداود.

(5/31)


1106- قوله (استووا) أي في صفوف الصلاة بأن تقوموا على سمت واحد، وتتراصوا حتى لا يكون بينك فرجات. (استووا استووا) كرر ثلاث مرات للتأكيد، ويمكن أن يكون الأمر الأول وقع إجمالا، والثاني لأهل اليمين، والثالث لأهل اليسار. (إني لأراكم من خلفي) رؤية حقيقة (رواه أبوداود) هذا وهم من المصنف، فإن هذا الحديث ليس عند أبي داود بل هو عند النسائي بوب عليه: كم مرة يقول: استووا. رواه من طريق بهز بن أسد عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس، وقد عزاه العيني في شرح البخاري (ج5 ص254) للنسائي فقط وكذا الجزري في جامع الأصول (ج6 ص394).
1107- (17) وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله ?: (( إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول. قالوا يا رسول الله ! وعلى الثاني؟ قال: إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول. قالوا: يا رسول الله ! وعلى الثاني؟ قال: وعلى الثاني. وقال رسول الله ?: سووا صفوفكم، وحاذوا بين مناكبكم، ولينوا في أيدي إخوانكم، وسدوا الخلل، فإن الشيطان بدخل فيما بينكم بمنزلة الحذف، يعنى أولاد الضان الصغار)). رواه أحمد.

(5/32)


1107- قوله: (إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول) أي يرحم الله على أهل الصف الأول ويدعو الملائكة لهم بالتوفيق وغيره. (وعلى الثاني) المراد به غير الأول أو الثاني حقيقة لكونه يماثل الصف الأول فافهم. والظاهر هو الثاني، فإن قلت قوله ?: إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول خبر فما معنى قولهم: وعلى الثاني؟ قلنا: هو في معنى طلب كون الثاني كذلك، وسؤاله ? من الله عزوجل أن يصلي عليهم أيضا؛ لأنهم قد سبقوا من غير تقصير منهم، قاله في اللمعات. وقال القاري: قوله: يصلون على الصف الأول يحتمل أن يكون اخبارا ودعاء، ويؤيد الثاني قولهم يا رسول الله وعلى الثاني أي قل: وعلى الثاني ويسمى هذا العطف عطف تلقين والتماس كما حقق في قوله عليه السلام: اللهم ارحم الملحقين-الحديث. (قالوا يا رسول الله وعلى الثاني قال وعلى الثاني) التكرار يفيد التأكيد وحصول الكمال للأول وتثليث الرحمة على الصف الأول، ويؤيد ما روى أحمد والنسائي وابن ماجه والبيهقي عن العرباض بن سارية أن رسول الله ? كان يستغفر للصف المقدم ثلاثا وللثاني مرة. (وحاذوا بين مناكبكم) أي اجعلوا بعضها حذاء بعض بحيث يكون منكب كل واحد من المصلين موازيا لمنكب الآخر ومسامتا له، فتكون المناكب والأقدام على سمت واحد (ولينوا) بكسر اللام أمر من لان يلين (في أيدي إخوانكم) أي إذا أمر أحدكم من يسوي الصفوف بالإشارة بيده أن يستوي في الصف أو وضع يده على منكبه فليستوا، وكذا إذا أراد أن يدخل في الصف فليوسع. (وسدوا) بضم السين المهملة (الخلل) أي الفرجة من الصفوف، ولا يكون ذلك إلا بإلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم حقيقة. (فإن الشيطان يدخل فيما بينكم) ليشوش عليكم في صلاتكم بالإغواء والاشتغال (بمنزلة الحذف) بفتحتين أي في صورتها. قال الجزري: الحذف الغنم الصغار الحجازية واحدها حذفة، وقيل: هي غنم صغار ليس لها أذناب، يجاء بها من جرش، سميت حذفا لأنها محذوفة من مقدار

(5/33)


الكبار (يعني أولاد الضان الصغار) تفسير من الراوي (رواه أحمد) (ج5 ص262) قال
1108- (18) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله ?: (( أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا
المنذري في الترغيب باسناده لا بأس به. وقال الهيثمي: رجاله موثقون. وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير.
1108 – قوله: (أقيموا الصفوف) أى اعتدلوها وسووها (ولينوا بأيدي إخوانكم) أى كونوا لينين هينين منقادين إذا أخذوا بها ليقدموكم أو يؤخروكم حتى يستوي الصف؛ لتنالوا فضل المعاونة على البر والتقوى، ويصح أن يكون المراد لينوا بيد من يجركم من الصف أي وافقوه وتأخروا معه لتزيلوا عنه وعمة الانفراد التى تبطل الصلاة بها، فقد ذهب أكثر أصحاب الشافعي إلى أن من لم يجد فرجة ولا سعة في الصف يجذب إلى نفسه واحدا ويستحب للمجذوب أن يساعده، ولا فرق بين الداخل في أثناء الصلاة والحاضر في ابتدائها في ذلك، وكرهه الأوزاعي ومالك وأحمد وإسحاق؛ لأنه لو جذب إلى نفسه واحدا لفوات عليه فضيلة الصف الأول، ولوقع الخلل في الصف، واستدل الأولون بما رواه أبويعلى والطبراني في الأوسط والبيهقي (ج3 ص105) من حديث وابصة بن معبد: أنه ? قال: لرجل صلى خلف الصف أيها المصلي وحده هلا دخلت في الصف أو جررت رجلا من الصف، أعد صلاتك. وفيه السرى بن إسماعيل، وهو ضعيف، قاله الهيثمي. وقال الحافظ: إنه متروك، وله طريق أخرى في تاريخ أصبهان، وفيها قيس بن ربيع، وفيه ضعف. وأخرج الطبراني عن ابن عباس. قال الحافظ: بإسناد واه قال قال رسول الله ?: إذا انتهى أحدكم إلى الصف وقد تم فليجذب إليه رجلا يقيمه إلى جنبه. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وقال: لا يروى عن النبي ?إلا بهذا الإسناد. وفيه بشر بن إبراهيم، وهو ضعيف جدا، ولأبي داود في المراسيل من رواية مقاتل بن حيان مرفوعا: أن جاء رجل فلم يجد خللا أو أحدا فليختلج إليه رجلا من الصف فليقم معه

(5/34)


فما أعظم أجرا المختلج. قال الشوكاني في السيل الجرار: أما مشروعية انجذاب من في الصف المفسد لمن لحق ولم يجد من ينضم إليه فلم يثبت ما يدل على ذلك بخصوصه، ولا يصح الاستدلال بما أخرجه أبوداود في المراسيل بلفظ: إذا انتهى أحدكم إلى الصف وقد تم فليجذب إليه رجلا يقيمه إلى جنبه؛ لأنه مع كونه مرسلا، في اسناده مقاتل بن حيان، وفيه مقاتل ولم يثبت له لقاء أحد من الصحابة، فثم انقطاع بينه وبين الصحابي فهو مرسل معضل، ولا يصح الاستدلال أيضا بما أخرجه الطبراني عن ابن عباس، وبما أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي عن وابصة بن معبد، فذكرهما مع الكلام فيهما بنحو ما تقدم، ثم قال ولكن في انجذاب معاونة على البر والتقوى فيكون مندوبا من هذه الحيثية- انتهى. (ولاتذروا) أي لا تتركوا، ولا يستعمل من هذه المادة بمعنى الترك سوى المضارع والأمر والنهي، فتقول: ذره ولا تذره ويذره أي دعه واتركه ولا تدعه ولا تتركه ويدعه ويتركه، فإذا أريد الماضي، قيل: ترك. أو المصدر
فرجات الشيطان، ومن وصل صفا وصله الله، ومن قطعه قطعه الله)) رواه أبوداود، وروى النسائي منه قوله: (( ومن وصل صفا إلى أخره )).
1109- (19) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ?: (( توسطوا الإمام وسدوا الخلل)) رواه
أبوداود.

(5/35)


قيل: الترك، أو اسم الفاعل قيل: التارك. (فرجات الشيطان) بالإضافة في جميع النسخ، وكذا في جامع الأصول (ج6 ص395) ولفظ أبي داود: فرجات للشيطان، أي بتنوين فرجات ودخول لام الجر على الشيطان، وكذا وقع عند البيهقي من رواية أبي داود والفرجات بضم الفاء والراء جمع فرجة، وهي المكان الخالي بين الاثنين، والمعنى لا تبقوا خللا في الصف لدخول الشيطان فيه، فإنه إذا بقية فرجة في الصف يدخلها الشيطان كأنها الحذف كما تقدم. (ومن وصل صفا) بأن كان فرجة فسدها أو نقصان فأتمه. (وصله الله) أي برحمة. (ومن قطعه) بأن قعد بين الصف بلا صلاة أو منع الداخل من الدخول في الفرجات مثلا. وقال القاري: أي بالغيبة أو بعدم سد الخلل أو بوضع شيء مانع. (قطعه الله) أي من رحمته، وفيه تهديد شديد ووعيد بليغ. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري وأخرجه أيضا أحمد (ج2 ص98) والبيهقي (ج3 ص101). (وروى النسائي) وابن خزيمة كذلك كما في الترغيب للمنذري وكذلك الحاكم (ج1 ص213) وصححه هو وابن خزيمة. (منه) أي من حديث. (قوله) ? مفعول روى. (من وصل صفا إلى آخره) بيان المقول، أي لاصدر الحديث، وروي في صلة الصفوف وسد الفرج أحاديث عن جماعة من الصحابة منهم عائشة وأبوجحيفة وعبدالله بن زيد وابن عباس وأبوهريرة، ذكرهم الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص91، 90).

(5/36)


1109- قوله: (توسطوا الإمام) كذا في جميع النسخ توسطوا أي من التوسط. وكذا وقع في جامع الأصول (ج6 ص395) والبيهقي (ج3 ص104) ولفظ أبي داود: وسطوا أي بفتح الواو وتشديد السين المكسورة من التوسيط، وكذا نقله المجد بن تيمية في المنتقى، أي اجعلوه مقابلا لوسط الصف الذي تصفون خلفه يعني قفوا خلفه بحيث يكون الامام حذاء وسط الصف ويكون عن يمينه من المصلين ومن يساره سواء. قال الطيبي: أي اجعلوا أمامكم متوسطا بأن تقفوا في الصفوف خلفه وعن يمينه وشماله- انتهى. وفي القاموس: وسطهم جلس وسطهم كتوسطهم وسطه توسيطا جعله في الوسط، فالظاهر أن يكون التقدير توسطوا بالإمام فيكون من باب الحذف والايصال. (رواه أبودواد) وكذا البيهقي (ج3 ص104) وسكت عنه أبوداود والمنذري وفي سنده يحيى بن بشير بن خلاد عن أمه واسمها أمة الواحد بنت يامين بن عبد الرحمن بن
1110- (20) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله ?: ((لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول، حتى يؤخرهم الله في النار)) رواه أبوداود.
1111- (21) وعن وابصة بن معبد، قال: (( رأى رسول الله ? رجلا يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد الصلاة)).
يامين، سماها بقي بن مخلد في مسنده ولم يسمها. أبوداود في روايته: ويحيى مستور، وأمه مجهولة.
1110- قوله: (يتأخرون عن الصف الأول) أي لا يهتمون لإدراك فضل الصف الأول، ولا يبالون به. (حتى يؤخرهم الله) أي يجعلهم الله آخر الأمر. (في النار) أو لا يخرجهم من النار في الأولين، أو يؤخرهم عن الداخلين في الجنة أولا بإدخالهم النار أولا وحبسهم فيها، ويمكن أن يكون المعنى يوقعهم في أسفل النار. وقال الطيبي: أي حتى يؤخرهم عن الخيرات ويدخلهم في النار. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. وأخرجه أيضا ابن خزيمة في صحيحه وابن حبان إلا أنهما قالا: حتى يخلفهم الله في النار، وأخرجه البيهقي (ج3 ص103) من طريق أبي داود بلفظه.

(5/37)


1111- قوله: (عن وابصة) بكسر الموحدة فصاد مهملة. (بن معبد) بفتح الميم واسكان العين المهملة ابن عتبة بن الحارث بن مالك الأسدي أسد خزيمة، وفد على النبي ? سنة تسع ثم رجع إلى بلاد قومه ثم نزل إلى الجزيرة، صحابي. قال البرقى: جاء عنه خمسة أحاديث، وعمر إلى قرب سنة تسعين، وتوفي بالرقة، وقبره عند منارة مسجد جامع الرقة. (يصلي خلف الصف وحده) أي منفردا عن الصف. (فأمره أن يعيد الصلاة) فيه دليل على أن الصلاة خلف الصف وحده لا تصح. وأن من صلى خلف الصف وحده فعليه أن يعيد الصلاة. وإليه ذهب إبراهيم النخعي والحسن بن صالح وأحمد وإسحاق وأكثر أهل الظاهر وابن المنذر والحكم، وبه قال قوم من أهل الكوفة، منهم حماد بن أبي سليمان وعبد الرحمن بن أبي ليلي ووكيع. قال ابن حزم: وبه يقول الأوازاعي والحسن بن حي، وأحد قولي سفيان الثوري. ونقل عبد الله بن أحمد في المسند (ج4 ص228) بعد حديث وابصة قال: وكان أبي يقول بهذا الحديث- انتهى. وإليه ذهب الدارمي أيضا فقال في سننه بعد حديث وابصة قال أبومحمد: أقول بهذا. وقال الجواز فلأنه يتعلق بالأركان وقد وجدت، وأما الإساءة فلوجود النهي عن ذلك، والقول الأول هو الحق يدل عليه حديث وابصة وهوحديث صحيح كما ستعرف، ويدل عليه أيضا حديث علي بن شيبان قال: رأى رسول الله ? رجلا يصلي خلف الصف، فوقف حتى انصرف الرجل فقال له رسول الله ?

(5/38)


استقبل صلاتك، فإنه لا صلاة لرجل فرد خلف الصف. أخرجه أحمد (ج4 ص23) وابن ماجه وابن حزم في المحلى (ج4 ص53) والبيهقي (ج3 ص105). ونسبه الزيلعي في نصب الراية (ج1 ص244) لابن حبان في صحيحه، والبزار في مسنده، وهو حديث صحيح. قال البوصيري في زوائد ابن ماجه: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. وروى الأثرم عن أحمد أنه قال: حديث حسن. وقال ابن سيد الناس: رواته ثقات معروفون، وهو من رواية ملازم بن عمرو عن عبدالله بن بدر عن عبدالرحمن بن علي بن شيبان عن أبيه. قال ابن حزم في المحلى: ملازم ثقة. وثقه أبوبكر بن أبي شيبة وابن نمير وغيرهما، وعبدالله بن بدر ثقة مشهور، وعبدالرحمن ما نعلم أحدا عابه بأكثر من أنه لم يرو عنه إلا عبدالله بن بدر. وهذا ليس جرحة- انتهى. وقد روى عنه أيضا ابنه يزيد ووعلة ابن عبدالرحمن، وذكره ابن حبان في الثقات وأخرج له في صحيحه. وقال العجلي: تابعي ثقة، ووثقة أيضا أبوالعرب التميمي، كذا في تهذيب التهذيب (ج6 ص234). ويؤيد حديث علي بن شيبان ما أخرجه ابن حبان عن طلق بن علي مرفوعا: لا صلاة لمنفرد خلف الصف، ذكره الحافظ في بلوغ المرام. ويؤيده أيضا حديث ابن عباس قال: رأى النبي ? رجلا يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة. أخرجه البزار والطبراني في الكبير والأوسط. قال الهيثمي: (ج2 ص96): وفيه النضر أبوعمر أجمعوا على ضعفه. ويؤيده أيضا ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة بمعنى حديث ابن عباس، وهو أيضا حديث ضعيف. قال الهيثمي: فيه عبدالله بن محمد بن القاسم، وهو ضعيف وأجاب القائلون بالجواز بأن حديث وابصة معلول للاضطبراب في سنده كما نقل الزيلعي في نصب الراية (ج1 ص244) عن البيهقي في المعرفة والبزار في مسنده. قال البيهقي: وإنما لم يخرجاه صاحبا الصحيح لما وقع في إسناده من اختلاف. وقال ابن عبدالبر: أنه مضطرب الإسناد، ولا يثبته جماعة من أهل الحديث، وروي عن الشافعي أنه كان يضعف حديث وابصة،

(5/39)


ويقول: لو ثبت لقلت به وأجيب عنه بأن البيهقي وهو من أصحابه قد أجاب عنه فقال: الخبر المذكور ثابت، وبأن ابن سيد الناس قال في شرح الترمذي: ليس الاضطراب الذي الذي وقع فيه مما يضره، وبين ذلك وأطال وأطاب، ذكره الشوكاني وأجابوا أيضا بأن الأمر بالإعادة في حديث وابصة وما وافقه للاستحباب، والنفي في حديث علي وما وافقه محمول على نفي الكمال. قال الطيبي: إنما أمره باعادة الصلاة تغليظا وتشديدا، يؤيده حديث أبي بكرة في آخر الفصل الأول من باب الموقف. وقال ابن الهمام: حمل أئمتنا الأول أي حديث وابصة على الندب، والثاني أي حديث علي بن شيبان على نفي الكمال ليوافقا خبر البخاري عن أبي بكرة، إذ ظاهره عدم لزوم الإعادة لعدم أمره بها، وأيضا فهو عليه السلام تركه حتى فرغ ولو كانت باطلة لما أقره على المضي فيها، وأجيب عنه بأن حمل
رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن.

(5/40)


الأمر بالإعادة على الاستحباب، وحمل النفي على نفي الكمال خلاف الظاهر، والأصل فإن الأصل في الأمر الوجوب، وفي نفي الجنس نفي الحقيقة والذات إن أمكن وإلا فيحمل على أقرب المجازين إلى الحقيقة، وهو نفي الصحة كما تحقق في موضعه. وأما الاستدلال على ذلك بحديث أبي بكرة ففيه أن عدم أمره ? بالإعادة في هذه الصورة الجزئية لا يدل على أن أمره بالإعادة في حديث وابصة ليس للإيجاب، وأن النفى في حديث علي بن شيبان ليس لنفي الحقيقة أو الصحة، فإنه لا يقال لمن فعل مثل ما فعل أبوبكرة أنه صلى خلف الصف. قال ابن سيد الناس: ولا يعد حكم الشروع في الركوع خلف الصف حكم الصلاة كلها خلفه، فهذا أحمد ابن حنبل يرى أن صلاة المنفرد خلف الصف باطلة، ويرى أن الركوع دون الصف جائزة- انتهى. وقال الحافظ في الفتح: جمع أحمد وغيره بين الحديثين، بأن حديث أبي بكرة مخصص لعموم حديث وابصة، فمن ابتدأ الصلاة منفردا خلف الصف ثم دخل في الصف قبل القيام من الركوع لم تجب عليه الإعادة، كما في حديث أبي بكرة، وإلا فيجب على عموم حديث وابصة وعلي بن شيبان- انتهى. وفي مسائل الامام أحمد لأبي داود (ص35) قال: سمعت أحمد سئل عن رجل ركع دون الصف ثم مشى حتى دخل الصف وقد رفع الإمام قبل أن ينتهي إلى الصف قال: تجزئه ركعة وإن صلى خلف الصف وحده أعاد الصلاة. وقيل يحمل عدم الأمر بالإعادة على من فعل ذلك لعذر وهو خشية الفوات لو انضم إلى الصف وأحاديث الإعادة على من فعل ذلك لغير عذر. وقيل من لم يعلم ما ابتداء الركوع على تلك الحال من النهي فلا إعادة عليه كما في حديث أبي بكرة؛ لأن النهي عن ذلك لم يكن تقدم فكان أبوبكرة معذورا لجهله، ومن علم النهي وفعل بعض الصلاة أو كلها خلف الصلاة لزمته الإعادة، يعني أنه يحمل أمره بالإعادة لمن صلى خلف الصف بأنه كان عالما بالنهي. قال ابن حزم في المحلى (ج4 ص58): فإن قيل: فهلا أمر رسول الله ? أبا بكر بالإعادة كما أمر الذي أساء

(5/41)


الصلاة والذي صلى خلف الصف وحده؟ قلنا: نحن على يقين نقطع به أن الركوع دون الصف إنما حرم حين نهى النبي ? فإذ ذلك كذلك فلا إعادة على من فعل ذلك قبل النهي، ولو كان ذلك محرما قبل النهي لما أغفل عليه السلام أمره بالإعادة كما فعل مع غيره- انتهى. (رواه أحمد) (ج4 ص227و 228). (والترمذي وأبوداود) وأخرجه أيضا ابن ماجه وأبوداود الطيالسي والدارمي وابن الجارود والبيهقي (ج3 ص104- 105) وابن حبان والدارقطني والحاكم والطحاوي وابن حزم في المحلى. (وقال الترمذي: هذا حديث حسن) وسكت عنه أبوداود. ونقل المنذري كلام الترمذي هذا وأقره. وقال الحافظ في الفتح: صححه أحمد وابن خزيمة وغيرهما. وقال ابن حجر المكي: صححه ابن حبان والحاكم. قلت: وأعله بعضهم بما وقع من اختلاف في
(25) باب الموقف
?الفصل الأول?
1112- (1) عن عبدالله بن عباس، قال: (( بت في بيت خالتي ميمونة، فقام رسول الله ? يصلي،
فقمت عن يساره، فأخذ بيدي من وراء ظهره فعدلني كذلك من وراء ظهره إلى الشق الأيمن))
سنده كما تقدم عن ابن عبدالبر أنه قال: حديث مضطرب الإسناد، وقد تقدم قول ابن سيد الناس: أن الاختلاف الذي وقع في سنده ليس مما يضره، وقد بين ذلك في شرح الترمذي له كما قال الشوكاني، وقد بينه أيضا الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج2 ص451) وأطال الكلام فيه وحققه بما لا مزيد عليه، فعليك أن تراجعه، ولو لا خوف الإطناب لذكرنا كلامه.
(باب الموقف) أي موقف الإمام والمأموم.

(5/42)


1112- قوله (بت) أي رقدت أو كنت ليلا. (في بيت خالتي ميمونة) بنت الحارث أم المؤمنين. (يصلي) أي من الليل، والمراد به التهجد. (فقمت) أي وقفت. (عن يساره) بفتح الياء وكسرها. ولفظ مسلم: ثم قمت إلى شقه الأيسر. (فأخذ بيدي) بسكون الياء بالإفراد. (من وراء ظهره) أي وهو في الصلاة. (فعدلني) بالتخفيف. وقيل: بالتشديد أي أمالني وصرفنى. ولفظ مسلم: يعدلني أي بصيغة مضارع. (كذلك) أي آخذا بيدي. (من وراء ظهره) بيان لذلك. (إلى الشق الأيمن) متعلق بعدلني. قال الطيبي: الكاف صفة مصدر محذوف أي عدلني عدولا مثل ذلك، والمشار إليه هي الحالة المشبهة بها التي صورها ابن عباس بيده عند التحدث– انتهى. وقد اختلف في كيفية التحويل روايات الصحيح، ففي بعضها: أخذ برأسه فجعله عن يمينه، وفي بعضها: فوضع يده اليمنى على رأسي فأخذ بأذني اليمنى ففتلها، وفي بعضها: فأخذ برأسي من ورائي، وفي بعضها: بيدي أو عضدي. قال العيني: والرواية الثانية جامعة لهذه الروايات وقال أيضا: ووجه الجمع بين قوله: فأخذ بيدي، وبين قوله: فأخذ برأسي. كون القضية متعددة، وإلا فوجهه أخذ أولا برأسه ثم بيده أو العكس - انتهى. قلت: الغالب على الظن عدم تعدد قصة مبيت ابن عباس. فالجمع بين مختلف الروايات فيها أولى. وقيل: رواية أخذ الرأس أرجح لاتفاق الأكثر عليها، وفي الحديث دليل على أن موقف المأموم الواحد عن يمين الإمام، إذ لو كان اليسار موقفا له لما عدله وحوله في الصلاة، وإلى هذا ذهب الجماهير، وخالف النخعي فقال: إذا كان الإمام وواحد قام الواحد خلف الامام، فإن ركع الإمام قبل أن يجيء أحد قام عن يمينه، أخرجه سعيد بن منصور. قال الحافظ: ووجهه بعضهم بأن الإمامة

(5/43)


مظنة الاجتماع فاعتبرت في موقف الإمام حتى يظهر خلاف ذلك، وهو حسن، لكنه مخالف للنص، وهوقياس فاسد- انتهى. وروي عن سعيد بن المسيب أن موقف الواحد مع الإمام عن يساره، ولم يتابع على ذلك لمخالفته للأدلة، وقد اختلف في صلاة من وقف عن اليسار، فقيل: تصح لكنه مسيء، وهو قول الجمهور. وتمسكوا بعدم بطلان صلاة ابن عباس لوقوفه عن اليسار لتقريره ? على أول صلاته وعدم أمره بالإعادة. وقيل: تبطل، وإليه ذهب أحمد قال: وتقريره ? لابن عباس لا يدل على صحة صلاة من وقف من أول الصلاة إلى آخرها عن اليسار عالما، وغاية ما فيه تقرير من جهل الموقف والجهل عذر، وقد بوب البخاري على حديث ابن عباس: باب إذا قام الرجل عن يسار الإمام وحوله الإمام خلفه إلى يمينه تمت صلاته. قال الحافظ: أي صلاة المأموم ولا يضر وقوفه عن يسار الإمام أولا مع كونه في غير موقفه؛ لأنه معذور بعدم العلم بذلك الحكم - انتهى. وأيضا يجوز أن يكون ابن عباس ما كان قد أحرم بالصلاة. ثم قوله: فعدلني إلى الشق الأيمن يحتمل المساواة، ويحتمل التقدم والتأخر قليلا، وفي رواية: فقمت عن يساره فجعلني عن يمينه، وقد بوب عليها البخاري: باب يقوم عن يمين الإمام بحذاءه سواء إذا كانا اثنين. قال الحافظ: قوله بحذاءه أخرج به من كان خلفه أو مائلا عنه أو بجنبه لكن على بعد منه، وقوله سواء أي لا يتقدم ولا يتأخر، وفي انتزاع هذا من هذه الرواية بعد، وكأن المصنف أشار بذلك إلى ما تقدم في بعض طرقه وهو في الطهارة: فقمت إلى جنبه، وظاهره المساواة. وفي رواية للبخاري أيضا: فأقامني عن يمينه. قال العيني: يستفاد منها أن موقف المأموم إذا كان بحذاء الإمام على يمينه مساويا له، وهو قول عمر وابنه وأنس وابن عباس والثوري وإبراهيم ومكحول والشعبي وعروة وأبي حنيفة ومالك والأوزاعي وإسحاق، وعن محمد بن الحسن: يضع أصابع رجليه عند عقب الإمام. وقال الشافعي: يستحب أن يتأخر عن مساواة الإمام قليلا.

(5/44)


قال الشوكاني: وليس عليه فيما أعلم دليل، وروى عبدالرزاق عن ابن جريج قال: قلت لعطاء الرجل يصلي مع الرجل أين يكون منه؟ قال إلى الشق الأيمن قلت: أيحاذي به حتى يصف معه لا يفوت أحدهما الآخر. قال: نعم، قلت: أتحب أن يساويه حتى لا يكون بينهما فرجة؟ قال: نعم. وفي الموطأ عن عبدالله بن عتبة بن مسعود قال: دخلت على عمر بن الخطاب بالهاجرة فوجدته يسبح فقمت وراءه فقربني حتى جعلني حذاءه عن يمينه، والحديث له فوائد كثيرة: منها: أن الاثنين جماعة، وقد بوب عليه ابن ماجه: باب الاثنان جماعة. ومنها: انعقاد الجماعة باثنين: أحدهما صبي، ففي لفظ: صليت مع النبي ? وأنا يومئذ ابن عشر سنين، وقمت إلى جنبه عن يساره فأقامني عن يمينه، قال: وأنا يومئذ ابن عشر سنين. أخرجه أحمد، وقد بوب عليه ابن تيمية في المنتقى: باب انعقاد الجماعة باثنين أحدهما صبي. وقال العيني: في الحديث جواز ائتمام صبي ببالغ، وعليه ترجم البيهقي في سننه. قال الشوكاني: ليس على قول من منع من انعقاد من معه صبي فقط دليل، ولم
متفق عليه.
1113- (2) وعن جابر، قال: (( قام رسول الله ? ليصلي، فجئت حتى قمت عن يساره، فأخذ
بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر،

(5/45)


يستدل لهم إلا بحديث رفع القلم، ورفع القلم لا يدل على عدم صحة صلاته، وانعقاد الجماعة به، ولو سلم لكان مخصصا بحديث ابن عباس ونحوه، وقد ذهب أبوحنيفة وأصحابه إلى أن الجماعة لا تنعقد بصبي، وذهب الشافعي إلى الصحة من غير فرق بين الفرض والنفل، وذهب مالك وأبوحنيفة في رواية عنه إلى الصحة في النافلة. ومنها: جواز الائتمام بمن لم ينو الإمامة، وقد بوب البخاري لذلك. وفي المسألة خلاف، ومذهب الحنفية أن نية الإمامة في حق الرجال ليست بشرط؛ لأنه لا يلزمه باقتداء المأموم حكم، وفي حق النساء شرط لاحتمال فساد صلاته بمحاذاتها إياه. والأصح عند الشافعية أنه لا يشترط مطلقا، واستدل لذلك ابن المنذر بحديث أنس: أن النبي ? كان يقوم في رمضان قال: فجئت فقمت إلى جنبه وجاء آخر فقام إلى جنبي حتى كنا رهطا فلما أحس النبي ? بنا تجوز في صلاته- الحديث. وهو ظاهر في أنه لم ينو الإمامة ابتداء وائتموهم به ابتداء وأقرهم، وهو حديث صحيح. أخرجه مسلم، وعلقه البخاري في كتاب الصيام: وذهب أحمد إلى الفرق بين النافلة والفريضة، فشرط أن ينوى في الفريضة دون النافلة، وفيه نظر لحديث أبي سعيد أن النبي ? رأى رجلا يصلي وحده فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه. أخرجه أبوداود. وقد حسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، والراجح عندنا هو عدم الفرق بين الفريضة والنافلة، وعدم الاشتراط في حق الرجال والنساء جميعا؛ لانتفاء ما يدل على الفرق والتفصيل، والله أعلم. ومنها: جواز الإمامة في النافلة وصحة الجماعة فيها، ومنها التعليم في الصلاة إذا كان من أمرها. ومنها أن النافلة كالفريضة في تحريم الكلام؛ لأنه ? لم يتكلم. ومنها: ما قيل إن تقدم المأموم على إمامه مبطل. قال الحافظ: ذكر البيهقي أنه يستفاد من الحديث امتناع تقديم المأموم على الإمام لما في رواية مسلم: فقمت عن يساره فأدارني من خلفه حتى جعلني عن يمينه، وفيه نظر، قال العيني: لأنه يجوز

(5/46)


أن تكون ادارته من خلفه لئلا يمر بين يديه فإنه مكروه. ومنها أن العمل اليسير في الصلاة لا يفسدها، وقد بوب لذلك البخاري حيث قال: باب إذا قام الرجل عن يسار الإمام فحوله الإمام إلى يمينه لم تفسد صلاتهما أي بالعمل الواقع منها، لكونه خفيفا يسيرا وهو من مصلحة الصلاة أيضا. (متفق عليه) واللفظ لمسلم. وقد تقدم التنبيه على ما وقع من الاختلاف بين لفظ مسلم وبين اللفظ الذي ذكره المصنف تبعا للبغوي، والحديث أخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
1113- قوله: (وعن جابر) أي ابن عبدالله. (فأخذ بيدي) قال ابن الملك: أي أخذني بيده اليمنى من وراء ظهره حتى أقامني. (عن يمينه) فيه أن موقف المأموم الواحد عن يمين الإمام. (ثم جاء جبار بن صخر) بن
فقام عن يسار رسول الله ?، فأخذ بيدينا جميعا، فدفعنا حتى أقامنا خلفه)) رواه مسلم.

(5/47)


أمية بن خنساء بن سنان السلمى الأنصاري شهد بدرا، وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة، ثم شهد أحدا، وما بعدها من المشاهد وكان أحد السبعين ليلة العقبة، وآخى رسول الله ? بينه وبين المقداد بن الأسود، يكنى أبا عبدالله توفي بالمدينة سنة ثلاثين. قال ابن إسحاق: كان خارصا بعد عبدالله بن رواحة. (فأخذ بيدينا) بالتثنية. وفي مسلم: بأيدينا أي بلفظ الجمع. (فدفعنا) أي أخرنا. قال الطيبي: لعله ? أخذ بيمينه شمال أحدهما، وبشماله يمين الآخر فدفعهما. (حتى أقامنا خلفه) فيه أن الإمام إذا كان معه عن يمينه مأموم، ثم جاء مأموم آخر، ووقف عن يساره، فله أن يدفعهما خلفه إذا كان لوقوفهما خلفه مكان، أو يتقدمهما. يدل عليه حديث سمرة الآتي في الفصل الثاني. وفيه أن موقف الرجلين مع الإمام في الصلاة خلفه. قال النووي: في الحديث فوائد: منها: جواز العمل اليسير في الصلاة، وأنه يكره إن كان لحاجة، فإن لم يكن لحاجة كره. ومنها: أن المأموم الواحد يقف على يمين الإمام، وإن وقف على يساره حوله الامام. ومنها: أن المأمومين يكونان صفا وراء الإمام كما لو كانوا ثلاثة أو أكثر. وهذا مذهب العلماء كافة إلا ابن مسعود وصاحبيه يعني الأسود وعلقمة، فإنهم قالوا: يقف الاثنان عن جانبيه قال: وأجمعوا إذا كانوا ثلاثة أنهم يقفون وراءه- انتهى. قلت: روى مسلم في صحيحه عن علقمة والأسود أنهما دخلا على عبدالله فقال أصلي من خلفكم؟ قالا: نعم فقام بينهما وجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله ثم ركعنا فوضعنا أيدينا على ركبنا، فضرب أيدينا ثم طبق بين يديه ثم جعلهما بين فخذيه، فلما صلى قال هكذا فعل رسول الله ?. وروى أحمد عن الأسود قال: دخلت أنا وعمي علقمة على ابن مسعود بالهاجرة قال: قأقام الظهر ليصلي فقمنا خلفه فأخذ بيدي ويد عمي ثم جعل أحدها عن يمينه والآخر عن يسار، فصففنا صفا واحدا ثم قال: هكذا كان رسول الله ? يصنع إذا كانوا ثلاثة، وأجاب عنه ابن سيرين بأن ذلك

(5/48)


كان لضيق المكان أو لعذر آخر لا على أنه من السنة. رواه الطحاوي وقال الحازمي: أنه منسوخ؛ لأنه إنما تعلم ابن مسعود هذه الصلاة عن النبي ? بمكة إذ فيها التطبيق وأحكام أخرى، هي الآن متروكة وهذه من جملتها، ولما قدم النبي ? المدينة تركه بدليل حديث جابر، فإنه شهد المشاهد التى بعد بدر- انتهى. قال ابن الهمام: وغاية ما فيه خفاء الناسخ على عبدالله وليس ذلك ببعيد، إذا لم يكن دأبه عليه السلام إلا إمامة الجمع الكثير دون الاثنين إلا في الندرة كهذه القصة وحديث اليتيم وهو داخل في بيت امرأة. (يعنى حديث أنس الآتي) فلم يطلع عبدالله على خلاف ما علمه- انتهى. وقال ابن سيد الناس: وليس ذلك أي وقوف الاثنين خلف الإمام شرطا عند أحد منهم، ولكن الخلاف في الأولى والأحسن. (رواه مسلم) في آخر صحيحه في أثناء الحديث الطويل. وأخرجه البيهقي (ج3 ص95) مختصرا وأبوداود مطولا، وهذا الذي ذكر المصنف بعضا منه، وروى أحمد عن جابر قال: قام النبي ? يصلي المغرب فجئت فقمت
1114- (3) وعن أنس، قال: ((صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي ?، وأم سليم خلفنا)).
عن يساره فنهاني فجعلني عن يمينه، ثم جاء صاحب لي فصفنا خلفه- الحديث.

(5/49)


1114- قوله: (صليت أنا ويتيم) بالرفع عطفا على الضمير المرفوع. قال صاحب العمدة: اليتيم هو ضميرة جد حسين بن عبدالله بن ضميرة. قال ابن الحذاء: كذا سماه عبدالملك بن أبي حبيب، ولم يذكره غيره، وأظنه سمعه من حسين بن عبدالله أو من غيره من أهل المدينة. قال ضميرة: هو ابن أبي ضميرة مولى رسول الله ?. واختلف في اسم أبي ضميرة، فقيل: روح، وقيل غير ذلك- انتهى. وقال النووي: اسم اليتيم ضميرة بن سعد الحميري. وقال المنذري: اليتيم وهو ابن أبي ضميرة مولى رسول الله ?، له ولأبيه صحبة، وعدادهما في أهل المدينة (في بيتنا) متعلق بصليت. (وأم سليم خلفنا) وفي البخاري: وأمي أم سليم خلفنا. قال العيني: وأمي عطف على اليتيم، وأم سليم عطف بيان، وكانت مشتهرة بهذه الكنية، واسمها سهلة. وقيل: رميلة أو رميثة أو الرميصاء أو الغميصاء، زوجة أبي طلحة، وكانت فاضلة دينة- انتهى. قلت: أم سليم هي بنت ملحان بكسر الميم وإسكان اللام، واسمه مالك بن خالد بن زيد بن حرام من بنى النجار، وكانت أم سليم تحت مالك بن النضر، فولدت له أنسا في الجاهلية، وأسلمت مع السابقين من الأنصار، فغضب مالك وخرج إلى الشام، ومات بها فتزوجها بعده أبوطلحة زيد بن سهل الأنصاري، فولدت له عبدالله وأبا عمير، واسم والدة أم سليم مليكة بالتصغير بنت مالك بن عدي بن زيد مناة بن عدي، فهي جدة أنس لأمه. وفي الحديث دليل على صحة الجماعة في النفل في البيوت، وعلى صحة الصلاة للتعليم والتبرك كما تدل عليه القصة، وعلى أن مقام الاثنين خلف الإمام، وعلى أن أمامة المرأة للرجال غير جائزة؛ لأنها لما زحمت عن مساواتهم في مقام الصف كانت من أن تتقدمهم أبعد، وعلى وجوب ترتيب مواقف المأمومين، وأن الأفضل يتقدم على من دونه في الفضل، ولذلك قال النبي ?: ليلينى منكم أولوا الأحلام والنهى، وعلى صحة صلاة الصبي المميز، وإن الصبي يعتد بوقوفه ويسد الجناح، وهو الظاهر من لفظ اليتيم إذ لا يتم بعد

(5/50)


الاحتلام، ويؤيده جذبه ? لابن عباس من جهة اليسار إلى جهة اليمين، وصلاته معه وهو صبي، وعلى أن الصبي الواحد يقوم مع الرجل صفا، فإن اليتيم لم يقف منفردا بل صف مع أنس، وعلى أن المرأة لا تصف مع الرجال، وعلى أنها تقوم صفا وحدها إذا لم يكن معها امرأة غيرها، فعدم امرأة تنضم إليها عذر في ذلك، فإن انضمت المرأة مع الرجل أجزأت صلاتها؛ لأنه ليس في الحديث إلا تقريرها على التأخر، وأنه موقفها، وليس فيه دلالة على فساد صلاتها لو صلت في غيره، وذهب أبوحنيفة إلى أنه تفسد صلاة الرجل دون المرأة، ولا دليل على ذلك. قال الحافظ: في الحديث أن المرأة لا تصف مع الرجال، وأصله ما يخشى من الافتتان بها، فلو خالفت أجزأت صلاتها عند الجمهور، وعند الحنفية: تفسد صلاة الرجل دون المرأة، وهو عجيب، وفي توجيهه تعسف، حيث قال قائلهم: دليله قول ابن مسعود أخروهن من حيث
رواه مسلم.
_______________________________________________

(5/51)


أخرهن الله، والأمر للوجوب وحيث ظرف مكان، ولا مكان يجب تأخيرهن فيه إلا مكان الصلاة، فإذا حاذت الرجل فسدت صلاة الرجل؛ لأنه ترك ما أمر به من تأخيرها، وحكاية هذا تغني عن تكلف جوابه، والله المستعان. فقد ثبت النهى عن الصلاة في الثوب المغصوب، وأمر لابسه أن ينزعه، فلو خالف فصلى فيه ولم ينزعه أثم وأجزأته صلاته، فلم يقال في الرجل الذي حاذته المرأة ذلك وأوضح منه لو كان لباب المسجد صفة مملوكة فصلى فيها شخص بغير إذنه مع اقتداره على أن ينتقل عنها إلى أرض المسجد بخطوة واحدة صحت صلاته وأثم، وكذلك الرجل مع المرأة التي حاذته، ولا سيما إن جاءت بعد أن دخل في الصلاة فصلت بجنبه- انتهى كلام الحافظ. وقال الشوكاني في السيل الجرار: إذا لم تقف المرأة في موقفها الذي عينه رسول الله ? لها، وهو وقوفها في صف النساء أو وقوفها وحدها بعد الرجال فقد صارت بذلك عاصية، وأما فساد صلاتها بذلك، فلا دليل يدل عليه، وهكذا لا دليل يدل على فساد صلاة الرجال؛ لأن غاية الأمر دخول الأجنبية معهم ونظرهم إليها، وذلك لا يوجب فساد الصلاة، بل يكون من وقف بجنبها مختارا لذلك، أو نظر إليها عاصيا، وصلاته صحيحة، وأما من لم يقف بجنبها ولا نظر إليها فليس بعاص فضلا عن كون صلاته تفسد بمجرد دخولها معهم في الصلاة ومشاركتها لهم في الائتمام بإمامهم. والحاصل أن التسرع إلى إثبات مثل هذه الأحكام الشرعية بمجرد الرأي الخالي عن الدليل ليس من دأب أهل الأنصاف ولا من صنيع المتورعين - انتهى. واستدل الزيلعي والخطابي وابن بطال بالحديث على صحة صلاة المنفرد خلف الصف، قال الزيلعي: أحكام الرجال والنساء في ذلك سواء. وقال ابن بطال: لما ثبت ذلك للمرأة كان للرجال أولى، ورد هذا الاستدلال بأنه إنما ساغ ذلك للمرأة لامتناع أن تصف مع الرجال بخلاف الرجل، فان له أن يصف معهم وأن يزاحمهم وأن يجذب رجلا من حاشية الصف فيقوم معه فافترقا. قال ابن خزيمة: لا يصح الاستدلال

(5/52)


به؛ لأن المرأة خلف الصف وحده منهي عنها باتفاق ممن يقول تجزئه أو لا تجزئه، وصلاة المرأة وحدها إذا لم يكن هناك امرأة أخرى مأمور بها، فكيف يقاس مأمور على منهي - انتهى. (رواه مسلم). الصواب أن يقول متفق عليه، واللفظ للبخاري كما قال الحافظ في بلوغ المرام، أو يقول رواه البخاري كما قال المجد بن تيمية في المنتقى، فإن هذه الرواية أخرجها البخاري في كتاب الصلاة في باب المرأة وحدها تكون صفا من طريق سفيان بن عيينة عن إسحاق عن أنس، فالعجب من المصنف أنه عزا الحديث إلى مسلم فقط مع أن مسلما لم يروه بهذا اللفظ. والظاهر أن المصنف تبع في ذلك الجزري حيث عزاه في جامع الأصول (ج6:ص391) لمسلم والنسائي فقط. قال الحافظ في الفتح: هذا الحديث طرف من حديث اختصره سفيان، وطوله مالك كما تقدم في باب الصلاة على الحصير - انتهى. قلت: الحديث المطول أخرجه أحمد ومالك والبخاري ومسلم والترمذي وأبوداود والنسائي
1115- (4) وعنه، ((أن النبي ? صلى به وبأمه أو خالته، قال: فأقامني عن يمينه، وأقام المرأة
خلفنا))
والظاهر أنه قضية؛ لأن المراد بالعجوز في قوله: والعجوز من وراءنا في الحديث المطول هي مليكة جدة أنس التي دعته لطعام صنعته لا أم سليم.

(5/53)


1115- قوله: (صلى به) أي بأنس. (وبأمه) أي أم سليم. (أو خالته) شك من الراوي، واسم خالته أم حرام بنت ملحان. (قال) أي أنس. (فأقامني) أي أمرني بالقيام. (عن يمينه، وأقام المرأة خلفنا) في الحديث دليل على أنه إذا حضر مع إمام الجماعة رجل وامرأة كان موقع الرجل عن يمينه وموقف المرأة خلفهما. وإنها لا تصف مع الرجال. واعلم أنه اختلفت الروايات في صلاة النبي ? في بيت أنس، ففي بعضها أن مليكة جدة أنس دعته لطعام صنعته، فأكل منه ثم قال: قوموا فلأصلي بكم. قال أنس: فقام رسول الله ? على حصير، وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من وراءنا، أخرجه أحمد (ج3:ص 131، 149) ومالك وأصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه. وفي بعضها أنه دخل على أم سليم فأتته بتمر وسمن، وكان صائما، فقال أعيدوا تمركم في وعائه، وسمنكم في سقائه، ثم قام إلى ناحية البيت فصلى ركعتين، وصلينا معه-الحديث. أخرجه أحمد من طريق حميد عن أنس في (ج3:ص108، و188) وعند أبي داود من طريق ثابت عن أنس أنه دخل على أم حرام فأتوه بسمن وتمر، فقال: ردوا هذا في وعائه، وهذا في سقائه، فاني صائم، ثم قام فصلى بنا ركعتين تطوعا، فقامت أم سليم وأم حرام خلفنا، قال ثابت: ولا أعلمه إلا قال: أقامني عن يمينه، وفي بعضها: أنه صلى في بيت أم حرام، فأقام أنسا عن يمينه، وأم حرام خلفهما، وهو عند أحمد (ج3:ص204) من طريق ثابت عن أنس. وفي بعضها أنه صلى، ومعه أنس وأم سليم فجعل أنسا عن يمينه وأم سليم خلفهما، وهو عند أحمد أيضا (ج3:ص217) من طريق ثابت. وروى أحمد (ج3:ص194-195) والنسائي من طريق شعبة عن عبدالله بن المختار عن موسى بن أنس عن أنس أن النبي ? جعل أنسا عن يمينه، وأمه وخالته خلفهما. وروى أحمد (ج3:ص160و193-194 و217 و239 و242) ومسلم وأبوداود والنسائي هذا المعنى أيضا من حديث ثابت عن أنس، وفي بعضها أنه صلى بأنس وبإمراة من أهله فجعله عن يمينه، والمرأة خلفهما وهو عند أحمد (ج3:ص258

(5/54)


و261) وأبي داود والنسائي وابن ماجه، وفي بعضها ما يدل على أنه كان يزورهم، فربما تحضره الصلاة، وهو عند أحمد (ج3:ص212) ومسلم، وهو يدل على أنه كان في بعض أحيانه يصلي الفريضة عندهم. وفي بعضها ورد التصريح بأنه صلى بهم تطوعا، كما في رواية لأحمد (ج3:ص160) وأبي داود. وقد ظن بعضهم هذا الاختلاف موجبا للاضطراب. والحق أنه لا اضطراب ههنا؛ لأن صلاته ? في بيت أنس وأمه وخالته وجدته، ليست حادثة واحدة، بل هي حوادث متعددة مختلفة، كما يدل عليه
رواه مسلم.
1116- (5) وعن أبي بكرة، ((أنه انتهى إلى النبي ? وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، ثم مشى إلى الصف فذكر ذلك للنبي ?، فقال: زادك الله حرصا، ولا تعد))
اختلاف سياق هذه الروايات، فلا تعارض بينها. كذا حققه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي. (رواه مسلم) من طريق شعبة عن عبدالله بن المختار عن موسى بن أنس. وأخرجه أيضا أحمد (ج3:ص258 وص261) وأبوداود والنسائي وابن ماجه من هذا الطريق، لكنهم أبهموا المرأة. فلفظ أحمد وأبي داود: أن رسول الله ? أم أنسا وامرأة منهم. ولفظ النسائي: صلى بي وبمرأة من أهلي. ولفظ ابن ماجه: صلى بامرأة من أهله وبي.

(5/55)


1116- قوله: (أنه انتهى إلى النبي ? وهو راكع) أي والحال أن النبي ? راكع. وفي رواية النسائي: أنه دخل المسجد والنبي ? راكع. وعند الطبراني. أنه دخل المسجد، وقد أقيمت الصلاة، فانطلق يسعى، وللطحاوي: جئت ورسول الله ? راكع وقد حفزني النفس، فركعت دون الصف. (فركع) أي كبر قائما وركع. (قبل أن يصل إلى الصف) ليدرك النبي ? في الركوع. (ثم مشى إلى الصف) ليس هذا عند البخاري، وإنما هو عند أحمد (ج5 ص45) وأبي داود، ولفظهما: فركع دون الصف ثم مشى إلى الصف. (فذكر) على البناء للمفعول، وقيل: معلوم. (ذلك) أي الذي فعله أبوبكرة من السعي والركوع دون الصف، والمشي إلى الصف راكعا. وفي رواية للطبراني: فلما انصرف رسول الله ? قال: أيكم دخل الصف وهو راكع؟ ولأبي داود: فلما قضى النبي ? صلاته قال: أيكم الذي ركع دون الصف ثم مشى إلى الصف؟ فقال أبوبكرة أنا. وفي رواية أخرى للطبراني فقال: من الساعي؟ وله أيضا فقال: أيكم صاحب هذا النفس، قال: خشيت أن تفوتني الركعة معك، وله أيضا في رواية في آخر الحديث: صل ما أدركت واقض ما سبقك. (زادك الله حرصا) أي على طلب الخير. (ولا تعد) أي أن منشأ هذا الفعل، هو الحرص على العبادة وإدراك فضل الإمام، والحرص على الخير مطلوب محبوب، لكن لا تعد إلى مثل هذا الفعل لأجله؛ لأن الحرص لا يستعمل على وجه يخالف الشرع، وإنما المحمود أن يأتي به على وفق الشرع. وقوله: لا تعد بفتح أوله وضم العين من العود. قال الحافظ في التلخيص (ص110): اختلف في معنى قوله: ولا تعد: فقيل: نهاه عن العود إلى الإحرام وخارج الصف، وأنكر هذا ابن حبان، وقال: أراد لا تعد في إبطاء المجيء إلى الصلاة، يعني أنه نهاه عن التأخر عن الصلاة حتى تفوته الركعة مع الامام. وقال ابن القطان الفاسي تبعا للمهلب بن أبي صفرة معناه: لا تعد إلى

(5/56)


دخولك في الصف، وأنت راكع فإنها كمشية البهائم. ويؤيده رواية حماد بن سلمة في مصنفه عن الأعلم عن الحسن عن ابي بكرة: أنه دخل المسجد، ورسول الله ? يصلي وقد ركع، فركع ثم دخل الصف وهو راكع فلما انصرف النبي ? قال: أيكم دخل في الصف وهو راكعن فقال له أبوبكرة: أنا، فقال: زادك الله حرصا ولا تعد، وقال غيره: بل معناه لا تعد إلى إتيان الصلاة مسرعا، واحتج بما رواه ابن السكن في صحيحه بلفظ: أقيمت الصلاة فانطلقت أسعى حتى دخلت في الصف، فلما قضى الصلاة قال: من الساعي آنفا، قال أبوبكرة أنا، فقال زادك الله حرصا ولا تعد- انتهى. وقال في الفتح قوله: "لا تعد" ضبطناه في جميع الروايات بفتح أوله وضم العين من العود، أي لا تعد إلى ما صنعت من السعي الشديد، ثم من الركوع دون الصف، ثم من المشي إلى الصف. وقد ورد ما يقتضي ذلك صريحا في طرق حديثه، كما تقدمت، وحكى بعض شراح المصابيح أنه روي بضم أوله وكسر العين من الإعادة، ويؤيد الروايات المشهورة ما ورد من الزيادة في آخر الحديث عند الطبراني: صل ما أدركت واقض ما سبقك. وروى الطحاوي: بإسناد حسن عن أبي هريرة مرفوعا: إذا أتى احدكم الصلاة فلا يركع دون الصف حتى يأخذ مكانه من الصف- انتهى. وقال: الجزري لا تعد بفتح التاء وضم العين وإسكان الدال من العود، أي لا تعد ثانيا إلى مثل ذلك الفعل، وهو المشي إلى الصف في الصلاة. ويحتمل أن يكون نهاه عن اقتدائه منفردا. ويحتمل أن يكون عن ركوعه قبل الوصول إلى الصف، والظاهر أنه نهى عن ذلك كله. وقد أبعد من قال: ولا تعد بضم التاء وكسر العين من الإعادة أي لا تعد الصلاة التي صليتها، وأبعد منه من قال إنه بإسكان العين وضم الدال من العدو أي لا تسرع، وكلاهما لم يأت به رواية، وإنما يحملهم على ذلك في أمثاله من تحريفهم ألفاظ النبوة وتغييرها كونهم لم يحفظوها أو ما وصلت إليهم بالرواية، فيذكرون ما يحتمله الخط لعدم معرفتهم باللفظ المروي- انتهى.

(5/57)


واخنلف في الركوع دون الصف، فذهب مالك والليث إلى أن الداخل إذا خاف فوت الركعة بأن يرفع الإمام رأسه من الركوع إن تمادى حتى يصل إلى الصف أن له أن يركع دون الصف، ثم يدب راكعا إذا كان قريبا، وحد القرب أن يصل إلى الصف قبل سجود الامام. وقيل: يدب قدر ما بين الفرجتين. وقيل: ثلاثة صفوف. وكره ذلك الشافعي. وفرق أبوحنيفة بين الجماعة والواحد، فكرهه للواحد، وأجازه للجماعة. وما ذهب إليه مالك روي عن زيد بن ثابت وابن مسعود وعبدالله بن الزبير وأبي أمامة وعطاء. وروى الطبراني في الأوسط من حديث ابن وهب عن ابن جريج عن عطاء سمع ابن الزبير على المنبر يقول: إذا دخل أحدكم المسجد، والناس ركوع فليركع حين يدخل، ثم يدب راكعا حتى يدخل في الصف، فإن ذلك السنة، قال: قد رأيته يصنع ذلك. قال ابن جريج: وقد رأيت عطاء يصنع ذلك، قال الطبراني: تفرد به ابن وهب، ولم يروه عنه غير حرملة، ولا يروى عن ابن الزبير إلا بهذا الإسناد- انتهى. قلت: قد رواه البيهقي (ج3 ص16) من

(5/58)


طريق سعيد بن الحكم بن أبي مريم عن ابن وهب. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص96) بعد غزوة للطبراني: رجاله رجال الصحيح. قلت: القول الراجح المعتمد المعول عليه هو المنع لحديث أبي بكرة، ولما روى الطحاوي من حديث أبي هريرة مرفوعا بإسناد حسن: إذا جاء أحدكم الصلاة فلا يركع دون الصف حتى يأخذ مكانه من الصف، وإليه ذهب أبوهريرة، كما أخرج عنه ابن عبدالبر وابن أبي شيبة، وبه قال الحسن وإبراهيم. واستدل بحديث أبي بكرة على أن من أدرك الإمام راكعا دخل معه، واعتد بتلك الركعة وإن لم يدرك شيئا من القيام والقراءة؛ لأن أبابكرة ركع خلف الصف مخافة أن تفوته الركعة، فدعا له بزيادة الحرص، ولم يأمره بإعادة تلك الركعة، وهذا مذهب الجمهور. وذهب أبوهريرة وأهل الظاهر وابن خزيمة وأبوبكر الضبعي والبخاري إلى أنه لا تجزئه تلك الركعة إذا فاته القيام وقراءة فاتحة الكتاب وإن أدرك الركوع مع الإمام. وقد حكى هذا المذهب الحافظ في الفتح عن جماعة من الشافعية، وقواه الشيخ تقي الدين السبكي وغيره من محدثي الشافعية، ورجحه المقبلي، قال: وقد بحثت هذه المسألة وأحطتها في جميع بحثي فقها وحديثا، فلم أحصل منها غير ما ذكرت، يعني من عدم الاعتداد بادراك الركوع فقط، وهو القول الراجح عندي، فلا يكون مدرك الركوع مدركا للركعة لما فاته من القيام وقراءة فاتحة الكتاب، وهما من فروض الصلاة وأركانها، ولحديث: ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا. قال الحافظ: قد استدل به على أن من أدرك الإمام راكعا لم يحتسب له تلك الركعة للأمر بإتمامه ما فاته؛ لأنه فاته القيام والقراءة فيه- انتهى. وأما حديث أبي بكرة فليس فيه ما يدل على ما ذهب الجمهور إليه؛ لأنه كما لم يأمر بالإعادة فلم ينقل إلينا أنه اعتد بها، والدعاء بالحرص لا يستلزم الاعتداد بها؛ لأن الكون مع الإمام مأمور به سواء كان الشيء الذي يدركه المؤتم معتمدا به أم لا، كما في حديث: إذا جئتم إلى الصلاة

(5/59)


ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئا. رواه أبوداود وغيره، على أن النبي ? قد نهى أبا بكرة عن العود إلى مثل ذلك، والاستدلال بشيء قد نهي عنه لا يصح، كذا ذكره الشوكاني في النيل. قلت: زيادة الطبراني في آخر حديث أبي بكرة بلفظ: صل ما أدركت واقض ما سبقك تدل على عدم اعتداد تلك الركعة، ويدل عليه أيضا ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن معاذ بن جبل، قال: لا أجده على حال إلا كنت عليها، وقضيت ما سبقني، فوجده قد سبقه، يعني النبي ?، ببعض الصلاة أو قال: ببعض ركعة، فوافقه فيما هو فيه، وأتى بركعة بعد السلام، فقال?: إن معاذا قد سن لكم، فهكذا فاصنعوا. وقال شيخنا في شرح الترمذي بعد ترجيح قول أهل الظاهر ومن وافقهم: أما حديث أبي بكرة فواقعه عين، يعني أنه يجري فيه من الاحتمالات ما لا يجري في الأدلة القولية التي هي نص في فرضية القيام، وقراءة فاتحة الكتاب، والأمر بإتمامه ما فاته. ورجح الشوكاني في فتاواه التي سماه ولده أحمد بن محمد بن علي الشوكاني
رواه البخاري.
?الفصل الثاني?
1117- (6) عن سمرة بن جندب، قال: ((أمرنا رسول الله ? إذا كنا ثلاثة أن يتقدمنا أحدنا) رواه الترمذي.

(5/60)


بالفتح الرباني، القول باعتداد تلك الركعة خلاف ما حققه في شرح المنتقى، حيث جعل تلك الحالة التي وقعت للمؤتم وهي إدراك إمامه راكعا مخصصة من عموم أدلة إيجاب قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة على كل مصل. واستدل لذلك بما روى ابن خزيمة والدارقطني (132) والبيهقي (ج2 ص89) عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها قبل أن يقيم الإمام صلبه. وإليه ذهب بعض أهل الحديث في عصرنا. والجواب عنه أولا أن في سنده يحيى بن حميد، وهو مجهول الحال غير معتمد في الحديث كما قال البخاري في جزء القراءة، وضعفه الدارقطني، وذكره العقيلي في الضعفاء وقد تفرد بقوله: قبل أن يقيم الإمام صلبه. قال العقيلي: وقد رواه مالك وغيره من الحفاظ أصحاب الزهري، ولم يذكروا الزيادة الأخيرة، ولعلها كلام الزهري. وقال ابن أبي عدي بعد أن أورد الحديث: تفرد بهذه الزيادة، ولا أعرف له غيره. كذا في اللسان (ج6 ص250)، وفيه أيضا قرة بن عبدالرحمن، وهو متكلم فيه، وثانيا بعد تسليم صحة الزيادة المذكورة أنه قد عرف في موضعه أن مسمى الركعة جميع أركانها وأذكارها حقيقة شرعية وعرفية، وهما مقدمتان على اللغوية، كما تقرر في الأصول. وأما التقييد بقوله: قبل أن يقيم الإمام صلبه فلدفع توهم أن من دخل مع الإمام، ثم قرأ فاتحة الكتاب، وركع الإمام قبل فراغه منها غير مدرك. وارجع لمزيد التفصيل إلى دليل الطالب على أرجح المطالب (ص339- 345) للعلامة القنوجي، فإنه قد بسط الكلام في ذلك أشد البسط. (رواه البخاري) فيه نظر؛ لأن قوله: ثم مشى إلى الصف ليس في البخاري. والحديث أخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن حبان والبيهقي (ج3 ص106).

(5/61)


1117- قوله: (أن يتقدمنا أحدنا) اختلفت نسخ الترمذي في هذا الحرف: ففي بعضها كما وقع ههنا، وكذلك نقله الجزري في جامع الأصول (ج6 ص392) وفي بعضها أن يتقدم أحدنا، وهذه توافق ما نقله المجد ابن تيمية في المنتقى، وفي بعضها أن يتقدمنا إمامنا، وفي بعضها أن يتقدم منا أحدنا. قال الطيبي: قوله: أن يتقدمنا معمول لقوله: أمرنا على حذف الباء، أي بأن يتقدمنا أحدنا. وإذا كنا ظرف يتقدمنا، وجاز تقديمه على أن المصدرية للاتساع في الظروف- انتهى. والمعنى أمرنا بأن يكون أحدنا إماما. وفيه دليل على أن موقف الاثنين مع الإمام في الصلاة خلفه. (رواه الترمذي) من حديث إسماعيل بن مسلم المكي عن الحسن عن سمرة.
1118- (7) وعن عمار، أنه أم الناس بالمدائن، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه، فتقدم
حذيفة فأخذ على يديه،

(5/62)


قال الترمذي: حديث غريب، وقد تكلم بعض الناس في إسماعيل بن مسلم من قبل حفظه- انتهى. قلت: ونقل الشوكاني في النيل عن الأطراف لابن عساكر أنه نقل عن الترمذي أنه قال فيه: حسن غريب، قال وذكر ابن العربي أنه ضعفه، وليس فيما وقفنا عليه من نسخ الترمذي إلا أنه قال: إنه حديث غريب. ولعل المراد بقول ابن العربي أنه ضعفه، أي أشار إلى تضعيفه بقوله: وقد تكلم الناس في إسماعيل بن مسلم من قبل حفظه بعد أن ساق الحديث من طريقه، وإسماعيل هذا تابعي روى عن أبي طفيل عامر بن واثلة كان فقيها مفتيا ضعيفا في الحديث من قبل حفظه، يهم في الحديث، ويخطىء ويكثر الغلط، ضعفه الجوزجانى وأبوزرعة وأبوحاتم وابن حبان وأبوعلى الحافظ. وقال يحيى بن سعيد القطان: لم يزل مخلطا، كان يحدثنا بالحديث الواحد على ثلاثة ضروب. وقال ابن عيينة: كان يخطئ، أسأله عن الحديث، فما كان يدري شيئا. وقال أبوحاتم: ضعيف الحديث مختلط. وقال أبوطالب عن أحمد: منكر الحديث. وقال عبدالله بن أحمد عن أبيه: يسند عن الحسن عن سمرة أحاديث مناكير، وقال الفلاس: كان ضعيفا في الحديث يهم فيه، وكان صدوقا يكثر الغلط. وذكره العقيلي والدولابي والساجي وابن الجارود وغيرهم في الضعفاء. وقال ابن سعد في الطبقات (ج7 ص34) : أخبرنا محمد بن عبدالله الأنصاري، قال: كان له رأي وفتوى وبصر وحفظ للحديث وغيره، وكان الناس عليه، وعلى عثمان البتي، وكان مجلس إسماعيل ويونس بن عبيد واحدا، فكنت أجىء فأجلس إليهما، فأكتب على إسماعيل، وأدع يونس لنباهة إسماعيل عند الناس لما كان شهر به من الفتوى- انتهى. وقال الحافظ في التقريب: كان فقيها ضعيف الحديث- انتهى. وحديث سمرة هذا لم أجده في غير سنن الترمذي، ولم أجد أحدا نسبه إلى غيره، وقد تكلم الناس في سماع الحسن عن سمرة، لكنه مؤيد بما تقدم من حديثي جابر وأنس في الفصل الأول.

(5/63)


1118- قوله: (عن عمار أنه أم الناس) أي صلى بالناس إماما. (بالمدائن) بالهمز مدينة قديمة على دجلة وكانت دار مملكة الأكاسرة على سبعة فراسخ من بغداد. ولفظ أبي داود عن عدي بن ثابت: حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن، فأقيمت الصلاة، فتقدم عمار. (وقام على دكان) أي مكان مرتفع وحده بضم الدال المهملة وتشديد الكاف واحد دكاكين، وهي الحوانيت فارسي معرب، والنون مختلف فيها: فمنهم من يجعلها أصيلة، ومنهم من يجعلها زائدة. فالدكان هي الدكة بفتح الدال، وهو المكان المرتفع المبني للجلوس عليه. (يصلي) بالناس. (والناس) أي المقتدون به. (أسفل منه) أي في مكان أسفل منه. (فتقدم حذيفة) أي من الصف. (فأخذ على يديه) أي أخذ حذيفة على يدي عمار وأمسكهما، فجذب عمارا من خلفه لينزل إلى أسفل ويستوي
فأتبعه عمار حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ عمار من صلاته، قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله ? يقول: إذا أم الرجل القوم فلا يقيم في مقام ارفع من مقامهم، أو نحو ذلك؟ فقال عمار: لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي.

(5/64)


مع المقتدين. (فأتبعه) بالتشديد. (عمار) أي طاوع عمار حذيفة. (حتى أنزله) أي عمارا من الدكان. (إذا أم الرجل القوم) أي صار إماما لهم يصلي بهم. (أو نحو ذلك) عطف على مفعول يقول. وأو للشك من الراوي، أي قال هذا اللفظ أو نحوه. (فقال عمار) أي في جواب حذيفة. وفي أبي داود قال عمار، أي بدون الفاء. (لذلك) أي لأجل هذا الحديث. قال القاري: أي لأجل سماعي هذا المنهي منه أولا، وتذكرى بفعلك ثانيا. (اتبعتك) أي في النزول. (حين أخذت على يدى) بالتثنية. والحديث دليل على كراهة أن يرتفع الإمام في المكان على المأموم الذي يقتدي به، سواء كان المكان قدر قامة الرجل أو دونها أو فوقها، لكن في سنده رجل مهمول، كما يتقدم. ويؤيد منع ارتفاع الإمام مطلقا ما روى أبوداود والحاكم والبيهقي عن همام أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبومسعود بقيمصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى قد ذكرت حين مددتني. وقد سكت عنه أبوداود والمنذري. وقال النووي رواه أبوداود باسناده صحيح. وقال الحافظ في التلخيص (ص128): وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. وفي رواية للحاكم التصريح برفعه. وفيه أن حذيفة هو الإمام، وأبومسعود هو الذي أخذ بقيمصه فجذبه. ولا تخالف لأنهما قضيتان، ولا بعد أن حذيفة وقع له ذلك مع أبي مسعود قبل واقعته مع عمار. ويؤيد المنع أيضا ما روى الدارقطني والحاكم عن أبي مسعود، قال: نهى رسول الله ? أن يقوم الإمام فوق شيء، والناس خلفه، يعني أسفل منه. ذكره الحافظ في التلخيص وسكت عنه. وسكت عنه الحاكم والذهبي أيضا، وسيأتي هذا الحديث في آخر باب المشي مع الجنازة والصلاة عليها، قال الشوكاني في النيل: ظاهر النهي في حديث أبي مسعود أن ذلك محرم لو لا ما ثبت عنه ? من الارتفاع على المنبر، قال: والحاصل من الأدلة منع ارتفاع الإمام على المؤتمين من غير فرق بين المسجد وغيره، وبين القامة ودونها

(5/65)


وفوقها؛ لقول أبي مسعود كانوا ينهون عن ذلك، وقول أبي مسعود أيضا: نهى رسول الله ?-الحديث. وأما صلاته ? على المنبر فقيل: إنما فعل ذلك لغرض التعليم كما يدل عليه قوله الآتي: ولتعلموا صلاتى، وغاية ما فيه جواز وقوف الإمام على محل أرفع من المأمومين إذا أراد تعليمهم. قال ابن دقيق العيد: فيه أي في حديث سهل بن سعد الآتي دليل على جواز صلاة الإمام على أرفع مما عليه المأموم لقصد التعليم. فأما من غير هذا القصد فقد قيل: بكراهته، قال ومن أراد أن يجيز هذا الارتفاع من غير قصد التعليم فاللفظ لا يتناوله. والقياس لا يستقيم؛ لانفراد الأصل بوصف معتبر يقتضي المناسبة اعتباره- انتهى. على
رواه أبوداود.
1119- (8) وعن سهل بن سعد الساعدي، أنه سئل: من أي شيء المنبر؟ فقال: هو من أثل الغابة، عمله

(5/66)


أنه قد تقرر في الأصول أن النبي ? إذا نهى عن شيء نهيا يشمله بطريق الظهور، ثم فعل ما يخالفه كان الفعل مخصصا له من العموم دون غيره، حيث لم يقم دليل على التأسي به في ذلك الفعل، فلا تكون صلاته ? معارضة للنهي عن الارتفاع باعتبار الأمة، وهذا على فرض تأخر صلاته على المنبر عن النهي من الارتفاع، وعلى فرض تقدمها أو التباس المتقدم من المتأخر فيه الخلاف المعروف في الأصول في التخصيص بالمتقدم والملتبس- انتهى. كلام الشوكاني في النيل. وقال في السيل الجرار: في هذين الحديثين دليل على منع الإمام من الارتفاع عن المؤتم، ولكن هذا النهي يحمل على التنزيه لحديث صلاته ? على المنبر، ومن قال: إنه ? فعل ذلك للتعليم كما وقع في آخر الحديث فلا يفيده ذلك؛ لأنه لا يجوز له في حال التعليم إلا ما هو جائز في غيره، ولا يصح القول باختصاص ذلك بالنبي ?. وقد جمعنا في هذا البحث رسالة مستقلة جوابا عن سؤال بعض الأعلام، فمن أحب تحقيق المقام فليرجع إليها- انتهى. قلت: وذهب إلى الجواز مطلقا من غير كراهة ابن حزم، كما صرح به في المحلى (ج4 ص84) مستدلا بحديث سهل قال: وهو قول الشافعي وأبي سليمان، وبمثل قولنا يقول أحمد بن حنبل والليث بن سعد والبخاري وغيرهما- انتهى. والراجح عندي هو المنع. وأما حديث سهل فإنما فعل ذلك للتعليم، أي لغرض أن لا يخفي على أحد صلاته، وهذا لا يثبت منه الجواز مطلقا، والله أعلم. واختلفوا في قدر الارتفاع الممنوع. فقيل: قدر القامة. وقيل: قدر الذراع. وقيل: ما يقع به الامتياز، وهو الأوجه. ذكره الكمال وغيره. وكذا في الدر المختار. (رواه أبوداود) ومن طريقه أخرج البيهقي (ج3 ص109) وسكت عنه أبوداود، وقد تقدم أن في سنده رجلا مجهولا، لكنه مؤيد بحديثي أبي مسعود.

(5/67)


1119- قوله: (عن سهل) بسكون الهاء. (بن سعد) بسكون العين الساعدي. (أنه سئل) رواه البخاري من طريق أبي حازم سلمة بن دينار، قال: سألوا سهل بن سعد. (من أي شيء المنبر) النبوي المدني. فاللام فيه للعهد، إذ السؤال عن منبره ?. وفي رواية: أن رجالا أتوا سهل بن سعد الساعدي، وقد امتروا في المنبر ثم عوده فسألوه عن ذلك. (هو من أثل الغابة) وفي رواية، من طرفاء الغابة. والأثل بفتح الهمزة وسكون المثلة هو الطرفاء. وقيل: شجر يشبه الطرفاء بسكون الراء والمد إلا إنه أعظم منه. قال القسطلاني: الأثل شجر كالطرفاء لا شوك له، وخشبة جيد، يعمل منه القصاع والأواني، وورقه أشنان يغسل به القصارون؛ والغابة بالمعجمة والموحدة موضع معروف قرب المدينة من العوالي من جهة الشام، وأصلها كل شجر ملتف. (عمله) أي المنبر.
فلان مولى فلانة لرسول الله ?، وقام عليه رسول الله ? حين عمل ووضع، فاستقبل القبلة وكبر وقام الناس خلفه، فقرأ وركع، وركع الناس خلفه، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقري، فسجد على الأرض، ثم عاد إلى المنبر، ثم قرأ، ثم ركع، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقري، حتى سجد بالأرض)).

(5/68)


(فلان) بضم الفاء بالتنوين. واختلف في اسمه: فقيل: ميمون، وقيل: باقوم الرومي، وقيل: باقول، وقيل: صباح، وقيل: قبيصة المخزومي، وقيل: كلاب، وقيل: ميناء، وقيل: تميم الداري. قال الحافظ:وأشبه الأقوال بالصواب وأقربها قول من قال: هو ميمون لكون الإسناد من طريق سهل بن سعد أيضا. وأما الأقوال الأخر فلا اعتداد بها لوهائها. ويبعد جدا أن يجمع بينهما بأن النجار كانت له أسماء متعددة، وأما احتمال كون الجميع اشتركوا في عمله فيمنع منه قوله في كثير من الروايات لم يكن بالمدينة إلا نجار واحد، إلا أن كل يحمل على أن المراد بالواحد الماهر في صناعته، والبقية أعوانه فيمكن. (مولى فلانة) بعدم الصرف للثأنيث والعلمية. قال الحافظ: لا يعرف اسمها لكنها أنصارية، وقيل: اسمها عائشة، قاله البرماوى كالكرمانى. ورواه الطبراني في الأوسط من حديث جابر بلفظ: وأمرت عائشة فصنعت له منبره، لكن إسناده ضعيف. ولو صح لما دل على أن عائشة هى المرادة في حديث سهل هذا إلا بتعسف. وكان منبر النبي ? ثلاث درجات، واستمر على ذلك مدة الخلفاء الراشدين، ثم زاده مروان في خلافة معاوية ست درجات من أسفله، فهي من جملة ما أحدث في المساجد من البدع المكروهة. (لرسول الله ) أي لأجله. (وقام عليه) أي على المنبر. قال الحافظ: كانت صلاته على الدرجة العليا من المنبر. (حين عمل ووضع) بالبناء للمفعول فيهما أي حين صنع ووضع في مكانه المعروف بالمسجد. (وكبر) أي للتحريمة. (وقام الناس خلفه) اقتداء به. (ثم رجع القهقري) بالقصر منصوب على أنه مفعول مطلق بمعنى الرجوع إلى خلف، أي رجع الرجوع الذي يعرف بذلك، وإنما فعل بذلك لئلا يولى ظهره القبلة. (فسجد على الأرض) إلى جنب الدرجة السفلى من المنبر. (حتى سجد بالأرض) قال القسطلاني: لاحظ في قوله: على الأرض معنى الاستعلاء، وفي قوله: بالأرض معنى الإلصاق- انتهى. قيل: قوله عمله الخ زيادة في الجواب، كأنه قيل: المهم أن يعرف هذه

(5/69)


المسألة الغريبة، وإنما ذكر حكاية صنع الصانع تنبيها على أنه عارف بتلك المسألة وما يتصل بها من الأحوال والفوائد. والحديث قد استدل به البخاري على جواز الصلاة على المنبر والخشب. قال الحافظ: وفيه جواز اختلاف موقف الإمام والمأموم في العلو والسفل، وقد صرح بذلك البخاري في حكايته عن شيخه علي بن المديني عن أحمد بن حنبل، ولابن دقيق العيد في ذلك بحث كما تقدم، وفيه دليل على جواز العمل اليسير في الصلاة، لكن
هذا لفظ البخاري، وفي المتفق عليه نحوه، وقال في آخره: فلما فرغ أقبل على الناس، فقال: (( أيها الناس! إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتى)).
1120- (9) وعن عائشة، قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرته،

(5/70)


فيه إشكال على من حدد الكثير من العمل بثلاث خطوات، فإن منبر النبي ? كان ثلاث درجات، والصلاة كانت على العليا، ومن ضرورة ذلك أن يقع ما أوقعه من الفعل على الأرض بعد ثلاث خطوات فأكثر وأقله ثلاث. والذي يعتذر به عن هذا أن يدعى عدم التوالى بين الخطوات، فإن التوالى شرط في الإبطال، أو ينازع في كون قيام هذه الصلاة فوق الدرجة العليا، ذكره ابن دقيق العيد. (هذا لفظ البخاري) في باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب. وأشار المصنف بهذا إلى أن هذا الحديث من الفصل الأول، وإنما أورده هنا تأسيا بالمصابيح، حيث ذكره في الحسان ليبين أنه مقيد لما قبله، يعني أن ارتفاع الإمام عن المأموم مكروه إلا لغرض التعليم. (وفي المتفق عليه نحوه) أخرجه البخاري في باب الخطبة على المنبر من كتاب الجمعة، وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي. (وقال) أي الراوى (في آخره) أي في آخر الحديث: المتفق عليه. (فلما فرغ) أي من الصلاة. (أقبل على الناس) بوجهه الشريف. (فقال) مبينا لأصحابه حكمة ذلك. (إنما صنعت هذا) أي ما ذكر من الصلاة على المكان المرتفع. (لتأتموا بي) أي لتقتدوا بي في الصلاة أولا. (ولتعلموا) بكسر اللام وفتح المثناة الفوقية والعين وتشديد اللام، أي لتتعلموا، فخذفت إحدى التائين تخفيفا (صلاتى) أي كيفيتها ثانيا. وقد عرف منه أن الحكمة في صلاته في أعلى المنبر ليراه من قد يخفى عليه رؤيته إذا صلى على الأرض. وفيه جواز قصد تعليم المأمومين أفعال الصلاة بالفعل.

(5/71)


1120- قوله: (صلى رسول الله ? ) أي التراويح، قاله القاري. (في حجرته ) اختلف في تفسيره الحجرة، فالأكثر على أن المراد بها المكان الذي اتخذه حجرة في المسجد من الحصير للاعتكاف في رمضان. وقيل: المراد حجرته بيته، فقد روى البخاري من حديث عبدة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة عن عائشة، قالت: كان رسول الله ? يصلي من الليل في حجرته. وجدار الحجرة قصير، فرأى الناس شخص النبي ? ، فقام أناس يصلون بصلاته-الحديث. قال الحافظ: قوله: في حجرته ظاهره أن المراد حجرة بيته. ويدل عليه ذكر جدار الحجرة. وأوضح منه رواية حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عند أبي نعيم بلفظ: كان يصلي في حجرة من حجر أزواجه. ويحتمل أن المراد الحجرة التي كان احتجرها في المسجد بالحصير، كما في الرواية التي بعد هذه، يعني ما رواه البخاري وغيره من حديث أبي سلمة عن عائشة أن النبي ? كان له حصير يبسطه بالنهار ويحتجره بالليل،
والناس يأتمون به من وراء الحجرة))

(5/72)


فثاب إليه أناس فصفوا، قال الحافظ: غرض البخاري من إيراده بيان أن الحجرة المذكورة في الرواية التي قبل هذه كانت حصيرا. وقال العيني: لعل مراده منه بيان أن الحجرة المذكورة في الحديث المذكور قبل هذا كانت حصيرا، والأحاديث يفسر بعضها بعضا، وكل موضع حجر عليه فهو حجرة- انتهى. وفي حديث زيد بن ثابت الذي رواه البخاري بعد رواية عائشة السابقة، أن رسول الله ? اتخذ حجرة من حصير في رمضان فصلى فيها ليالي، فصلى بصلاته ناس من أصحابه، فلما علم بهم جعل يقعد- الحديث. ولأحمد وأبي داود ومحمد بن نصر عن أبي سلمة عن عائشة أنها هي التي نصبت له الحصير على باب بيتها. قال الحافظ: فأما أن يحمل على التعدد أو على المجاز في الجدار وفي نسبته الحجرة إليها. وقال العيني بعد ذكر حديث زيد بن ثابت: وجاء في رواية: احتجر بخصفة أو حصير في المسجد. وفي رواية: صلى في حجرتي، روته عمرة عن عائشة، وفي رواية: فأمرني فضربت له حصيرا يصلي عليه. ولعل هذه كانت في أحوال- انتهى. قلت: الراجح عندي هو الحمل على التعدد. (والناس يأتمون به) أي يقتدون به. (من وراء الحجرة) أي خلفها وفيه دليل على أن الحائل بين الإمام والمؤتمين غير مانع من صحة الصلاة؛ لأن مقتضاه أنهم كانوا يقتدون به، وهو داخل الحجرة، وهم خارجها، وقد بوب له أبوداود: باب الرجل يأتم بالامام، وبينهما جدار، وبوب البخاري على روايتي عمرة وأبي سلمة عن عائشة، وحديث زيد بن ثابت: باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة، وذكر فيه قول الحسن: لا بأس أن تصلي وبينك وبينه نهر، وقول أبي مجلز (لاحق بن حميد التابعي المشهور): يأتم بالإمام وإن كان بينهما طريق أو جدار إذا سمع تكبير الامام. قال العيني: جواب إذا محذوف تقديره لا يضره ذلك، والمسألة فيها خلاف، لكن ما في الباب يدل على أن ذلك جائز، وهو مذهب المالكية أيضا، وهو المنقول عن أنس وأبي هريرة وابن سيرين وسالم. وكان عروة يصلي بصلاة

(5/73)


الإمام، وهو في دار بينها وبين المسجد طريق وقال مالك: لا بأس أن يصلي وبينه وبين الإمام نهر صغير أو طريق، وكذلك السفن المتقاربة، يكون الإمام في إحداها تجزيهم الصلاة معه. وكره ذلك طائفة، وروي عن عمر بن الخطاب إذا كان بينه وبين الإمام طريق أو حائط أو نهر فليس هو معه. وكره الشعبي وإبراهيم أن يكون بينهما طريق. وقال أبوحنيفة لا يجزيه إلا أن تكون الصفوف متصلة قي الطريق، وبه قال الليث والأوزاعي والأشهب- انتهى. قلت: مذهب الحنيفة أنه إنما يجوز ذلك بثلاثة شروط: الأول: أن لا يلتبس على المأموم حال الإمام، والثاني: أن لا يختلف المكان بينهما، والمسجد في حكم مكان واحد، والثالث: وهو تتمة الثاني أن لا يمنع التبعية في المكان. وأجابوا عن الأحاديث المذكورة بأنه لم يوجد فيها ما يخالف هذه الشروط؛ لأن المسجد كله مكان واحد. وفي المكان الواحد عند حيلولة الجدار يكفي علم انتقالات الإمام فقط ولو بمجرد صوته، وهو المفتى به، ولا يحتاج إلى المنافذ أو غيرها، واعتبروا في الصحراء تباعد قدر ثلاث صفوف إذ لم تتصل الصفوف، فإن كان بينهما طريق
رواه أبوداود.
?الفصل الثالث ?
1121- (10) عن أبي مالك الأشعري، قال: (( ألا أحدثكم بصلاة رسول الله ?؟ قال: أقام الصلاة، وصف الرجال، وصف خلفهم الغلمان، ثم صلى بهم، فذكر صلاته، ثم قال: هكذا صلاة ـ قال عبدالأعلى:

(5/74)


أو نهر تجرى فيه السفينة منعوا مطلقا، وعدوه كأنه مكان مختلف، واستدلوا لذلك بأثر عمر الذي ذكره العيني بلا سند. وقال ابن حجر: ليس في الحديث دليل لما قاله عطاء وغيره أن الشرط في صحة القدوة بشخص علمه بانتقالاته لا غير، أما أولا فلأنه لو اكتفى بذلك لبطل السعي المأمور به والدعاء إلى الجماعة، وكان كل أحد يصلي في بيته وسوقه بصلاة الإمام في المسجد وهو خلاف الكتاب والسنة، فاشترط اتحاد موقف الإمام والمأموم على ما فصل في الفروع؛ لأنه من مقاصد الاقتداء اجتماع جمع في مكان واحد عرفا، كما عهد عليه الجماعات في العصور الخالية، ومبنى العبادات على رعاية الاتباع. وأما ثانيا فلأن المراد بالحجرة كما قالوه المحل الذي اتخذه عليه السلام في المسجد من حصير حين أراد الاعتكاف. ويؤيده الخبر الصحيح أنه عليه السلام اتخذ حجرة من حصير صلى ليالي فيها- انتهى. (رواه أبوداود) في أواخر أبواب الجمعة من طريق يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة، وهو حديث صحيح سكت عنه أبوداود والمنذري، وقد أخرجه البخاري أيضا بنحوه، كما تقدم.