الخميس، 1 سبتمبر 2022

ج1.وج2.مرعاة المفاتيح للعلامة الشيخ ولي الدين أبي عبدالله محمد بن عبدالله الخطيب العمري التبريزي و

1. مرعاة المفاتيح للعلامة الشيخ ولي الدين أبي عبدالله محمد بن عبدالله الخطيب العمري التبريزي

مشكاة المصابيح
للعلامة الشيخ ولي الدين أبي عبدالله محمد بن عبدالله الخطيب العمري التبريزي
مع شرحه
مرعاة المفاتيح
للشيخ أبي الحسن عبيدالله بن العلامة محمد عبدالسلام المباركفوري حفظه الله
( الجزء الأول)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن بعض الإخوان سألني أن أعلق له شرحا لطيفا على مشكاة المصابيح للشيخ ولي الدين أبي عبدالله محمد بن عبدالله الخطيب العمري التبريزي، فأجبته إلى سؤاله رجاء المنفعة به. وأسأل الله تعالى أن ينفعنا به ومن كتبه أو سمعه أو قرأه أو نظر فيه، وأن يجعله خالصا لوجهه، موجبا للفوز لديه، وبالإخلاص إنما يتقبل العمل، ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)).
فأقول مستعينا بالله مهتديا به متوكلا عليه، وما توفيقي إلا بالله، وهو حسبي ونعم الوكيل: قال: (بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله) الخ، افتتح الكتاب بالبسملة ثم أتى بالحمدلة، موافقة لكتاب الله العظيم، فإن الصحابة افتتحوا كتابة الإمام الكبير بالتسمية والحمدلة، وتلوها، وتبعهم جميع من كتب المصحف بعدهم في جميع الأعصار، من يقول بأن البسملة آية من أول الفاتحة، ومن لا يقول ذلك. وعملا بحديث نبيه الكريم في بداءة كل أمر ذي بال ببسم الله الرحمن الرحيم، أخرجه الرهاوي في أربعينه من حديث أبي هريرة مرفوعا، وأخرج أبوداود والنسائي وابن ماجه وأبوعوانة والدارقطني وابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا: ((كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم))، وفي رواية: ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع)) حسنه ابن الصلاح وغيره، ولا منافاة بين روايتي التسمية والتحميد ؛ لأن المقصود منهما فيما نرى -

(1/1)


والله أعلم بمراد كلام نبيه - إنما هو الابتداء بذكر الله والثناء عليه، سواء يكون في ضمن البسملة أو الحمدلة، لا أن لفظ الحمد أو البسملة متعين، فالقدر الذي يجمع الأمرين هو ذكر الله، وقد حصل بالبسملة، وحينئذ فالحمدلة والبسملة والذكر سواء، ويدل على ذلك ما ورد في بعض طرق الحديث لفظ ((ذكر الله)) مصرحا، ففي مسند أحمد عن أبي هريرة مرفوعا ((كل أمر ذي بال لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر أو أقطع))، قال التاج السبكي في أول الطبقات الشافعية في الجمع بين الروايتين ما لفظه: وأما الحمد والبسملة فجائزان، يعني بهما ما هو الأعم منهما، وهو ذكر الله والثناء عليه على الجملة، إما بصيغة الحمد أو غيرها، ويدل على ذلك رواية ذكر الله، وحينئذ فالحمد والبسملة والذكر سواء، وجائزان يعني خصوص الحمد وخصوص البسملة، وحينئذ فرواية الذكر أعم، فيقضى لها على الروايتين الأخيرتين ؛ لأن المطلق إذا قيد بقيدين متنافيين لم يحمل على واحد منهما ويرجع إلى أصل الإطلاق، وإنما قلنا أن خصوص الحمدلة والبسملة متنافيان لأن البداءة إنما تكون بواحد، ولو وقع الابتداء بالحمد لما وقع بالبسملة وعكسه، ويدل على أن المراد الذكر، فتكون روايته هي
نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تكون للنجاة وسيلة

المعتبرة أن غالب الأعمال الشرعية غير مفتتحة بالحمد كالصلاة، فإنها مفتتحة بالتكبير والحج وغير ذلك، فإن قلت: لكن رواية بحمد الله أثبت من رواية بذكر الله، قلت: صحيح، ولكن لم قلت: إن المقصود بحمد الله خصوص لفظ الحمد، ولم لا يكون المراد ما هو أعم من لفظ الحمد والبسملة ؟ ويدل على ذلك ما ذكرت لك من الأعمال الشرعية التي لم يشرع الشارع افتتاحها بالحمد بخصوصه - انتهى كلام السبكي.

(1/2)


قوله (الحمد لله) الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري من نعمة أو غيرها، أتى بالجملة الاسمية واسم الذات للدلالة على الدوام والثبات. وقوله (الحمد لله) مطلق يتناول حمد الله تعالى نفسه، وأرفع حمد ما كان من أرفع حامد وأعرفهم بالمحمود وأقدرهم على إيفاء حقه، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك))، ويتناول حمد الحامدين له تعالى من ابتداء الخلق إلى انتهاء قولهم ((وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين))، (نحمده) استئناف، فأولا أثبت الحمد له بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت والدوام، سواء حمد أو لم يحمد، فهو إخبار متضمن للإنشاء، ثانيا أخبر عن حمده وحمد غيره معه بالجملة الفعلية التي للتجديد والحدوث بحسب تجدد النعماء وتعدد الآلاء وحدوثها في الآناء، وإظهار لتخصيص حمده لكن باستعانته، ونفى الحول والقوة ودفع الرياء والسمعة من نفسه، ومن ثم أتبعه بقوله: ((ونعوذ بالله من شرور أنفسنا)) وحاصل وجه التخصيص أنه تعالى لما كان مستحقا للحمد بإسباغ أنوع النعم علينا فلا بد أن نحمده، وأورد صيغة الجمع ليشمل جميع الخلق الجسماني والروحاني في الدارين، وقال الطيبي: الضمير المستكن في نحمده ونستعينه ونستغفره للمتكلم ومن معه من أصحابه الحاضرين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. (ونستعينه) أي في أداء الحمد وغيره من الأمور الدنيوية والأخروية، وفيه إشارة إلى أن حمده تعالى أمر لا يتيسر من الخلائق أجمعين إلا بإعانته تعالى، فيكون تبريا عن الحول والقوة. (ونستغفره) أي من سيئاتنا وتقصيراتنا ولو في أداء ذلك احمد، كما هو حقه من الصدق والإخلاص. (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا) أي من ظهور السيئات الباطنية التي جبلت الأنفس عليها، ومنها التقصير في الصدق والإخلاص، أي الحمد مع الرياء والسمعة، وكذا مع إثبات الحول والقوة. (ومن سيئات أعمالنا) أي من مباشرة الأعمال السيئة الظاهرة التي تنشأ عنها،

(1/3)


والمراد منها هو التصدي للتصنيف في علم الحديث مع قصور في تصحيح الطية وإخلاص الطوية، أو التقصير في الشكر على توفيقه تعالى لهذه النعمة العظيمة والمنحة الجليلة، أو التكلم بما لا يعنيه والغفلة عن ذكر الله تعالى، أو التهاون في الطاعات والعبادات وارتكاب المكروهات والمحرمات مطلقا، والأول أظهر. فتعوذ - رحمه الله - من ذلك لحصول الإخلاص. (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) لما أضيف الشرور والأعمال إلى الأنفس أوهم أن لها الاختيار والاستقلال بالأعمال، أتبعه بقوله (من يهده الله ...) الخ ليؤذن بأن كل ذلك منه تعالى، وليس للعبد إلا الكسب، وبعد الكسب الشقي والسعيد على حسب علمه الأزلي سبحانه
ولرفع الدرجات كفيلة. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بعثه وطرق الإيمان قد عفت

(1/4)


وتعالى. والضمير البارز ثابت في يهده، وأما في يضلله فغير موجود في أكثر نسخ المشكاة، وهو عمل بالجائزين، والأول أصل وفيه وصل والثاني فرع وفيه فصل، قاله القاري. وهذا الكلام وإن كان خبرا وبيانا للواقع وإثباتا لتفرد الله تعالى بالهداية والإضلال، لكنه في الحقيقة طلب وسؤال من الله للهداية والحفظ من الضلالة. والمعنى: لا هادي ولا مضل غيرك، فوفقني للهداية واحفظني من الضلالة، واعصمني من الغواية، فإنك على كل شيء قدير. (وأشهد أن لا إله إلا الله)الخ، أتبع الحمد بالشهادتين في الخطبة عملا بما روي عن أبي هريرة مرفوعا: ((كل خطبة ليس فيها شهادة كاليد الجذماء)) أخرجه أحمد وأبوداود في الأدب والترمذي في النكاح وحسنه. وأورد صيغة الجمع في الحمد والاستعانة والاستغفار والتعوذ نظرا إلى كثرة الآلاء والتقصيرات والذنوب وكشف الصفات. وأفرد الضمير في مقام التوحيد لأنه إثبات القدم وإسقاط الحدوث ومحل مشاهدة وحدة الذات وسقوط ما سوى الله، فأشار أولا إلى التفرقة، وثانيا إلى الجمع، قال القاري: وقد يقال: إن الأفعال المتقدمة أمور ظاهرية يحكم بوجودها على الغير أيضا بخلاف الشهادة فإنه أمر قلبي غيبي لا يعلم بحقيقته إلا هو - انتهى. يعني أن الشهادة خبر قاطع مطابق للواقع، فلم يكن للمصنف أن يحكم به بالجزم إلا على نفسه بخلاف الحمد وأخواته، والله أعلم. (شهادة) مفعول مطلق موصوف بقوله (تكون) الخ، والشهادة التي تكون سببا للخلاص من العذاب وكفيلة لرفع الدرجات في الجنان إنما هي التي تكون بالصدق والإخلاص ومواطأة القلب وموافقة الظاهر والباطن مع الاستقامة عليها ؛ لقوله عز وجل: ?إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ...?الآية [41: 30]، وقال القاري: والمعنى: أن الشهادة إذا تكررت وأنتجت ارتكاب الأعمال الصالحة واجتناب الأفعال الطالحة صارت سببا لعلو الدرجات، وكانت مانعة عن الوقوع في الدركات، وبما قررناه اندفع ما يرد على المصنف

(1/5)


من أن دخول الجنة بالإيمان ورفع الدرجات بالأعمال، ولكون التوفيق على هذا السبب من فضله لا ينافي قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((لن ينجو أحد منكم بعمله)). (عبده) إضافة تشريف وتخصيص، إشارة إلى كمال مرتبته في العبودية، وقدمه لأنه أشرف أوصافه وأعلاها وأفضلها وأغلاها، ولذا ذكره الله تعالى بهذا الوصف في كثير من المواضع فقال: ?سبحان الذي أسرى بعبده? [17: 1]، ?تبارك الذي نزل الفرقان على عبده? [25: 1]، ?فأوحى إلى عبده ما أوحى? [53: 9]، وفي الجمع بين الوصفين العبودية والرسالة تعريض للنصارى حيث غلوا في دينهم وأطروا في مدح نبيهم. (وطرق الإيمان) مبتدأ وقوله (قد عفت آثارها) خبر، أو الجملة حالية، والمعنى: أن الله أرسله في حال كمال احتياج الناس إليه - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم كانوا في غاية من الضلالة والجهالة، إذ لم يكن حي على وجه الأرض من يعرفها إلا أفراد من أتباع عيسى - عليه السلام -، استوطنوا زوايا الخمول ورؤوس الجبال وآثروا الوحدة والاعتزال (قد عفت آثارها) أي اندرس ما بقي من رسومها، من عفا الشيء عفوا وعفا وعفو إذا نقص ودرس وامحى، ومنه قولهم (عليه العفاء)، قال زهير:
………تحمل أهلها منها فبانوا……على آثار ما ذهب العفاء
آثارها، وخبت أنوارها، ووهنت أركانها، وجهل مكانها، فشيد صلوات الله عليه وسلامه من معالمها ما عفا، وشفى من العليل في تأييد كلمة التوحيد من كان على شفا، وأوضح سبيل الهداية لمن أراد أن يسلكها، وأظهر كنوز السعادة لمن قصد أن يملكها.

(1/6)


(وخبت أنوارها) من خبا يخبو خبوا وخبوا، يقال: "خبت النار أو الحدة" إذا خمدت وسكنت وطفئت، والمعنى: خفيت أنوارها وانطفأت بحيث لا يمكن اقتباس العلم المشبه بالنور في كمال الظهور (ووهنت) أي ضعفت حتى انعدمت (أركانها) من أساس التوحيد والنبوة والإيمان بالبعث والقيامة، وقيل: المراد الصلاة والزكاة وسائر العبادات (وجهل) بصيغة المجهول (مكانها) مبالغة في ظهور الجهل وغلبة الفسق وكثرة الظلم وقلة العدل، وقيل: المراد من طرق الإيمان الأنبياء والرسل والكتب المنزلة عليهم وأتباعهم من العلماء والأولياء. ومن عفو آثارها وخبو أنوارها ووهن أركانها ترك العمل بما جاءوا به من الشرائع، وأمروا به من الأعمال والأخلاق والآداب، وأظهروا من العلوم والمعارف وترك التعلم والتخلق والتأدب بها. ومن جهل مكانها عدم معرفة مراتبهم ومنازلهم وتناسى حقوقهم، ويحتمل أن يكون المراد بطرق الإيمان العلوم والمعارف والأعمال الصالحة والآداب المرضية والمجاهدات النفسية والرياضات البدنية والصفات الجميلة والأخلاق الحميدة التي يبلغ المتصف بها مرتبة كمال الإيمان، وبعفاء الآثار وخبو الأنوار ووهن الأركان وجهل المكان عدم سلوك هذه الطرق وعدم المبالاة بها والاهتمام بتحصيلها وتكميلها، والله أعلم. (فشيد) أي رفع وأعلى وأظهر وقوي بما أعطيه من العلوم والمعارف التي لم يؤت أحد مثله فيما مضى (صلوات الله) أي أنواع رحمته (عليه وسلامه) وفي بعض النسخ: صلوات الله وسلامه عليه، وهي جملة معترضة دعائية. (من معالمها) جمع المعلم وهو العلامة (ما عفا) ما موصولة أو موضوعة مفعول شيد، ومن بيانية متقدمة، والمعنى: أظهر وبين ما اندرس وخفي من آثار طرق الإيمان وعلامات أسباب العرفان والإيقان، وإن لم يبصرها الذين ختم الله على قلوبهم وأعمى أبصارهم وأصم آذانهم مع كمال وضوحها وغاية ظهورها. (وشفى) عطف على شيد (من العليل) بيان مقدم لـ"من" رعاية للسجع (في تأييد كلمة

(1/7)


التوحيد) متعلق بشفى ومفعوله قوله (من كان على شفا) أي وخلص من علة الجهل والشرك في تقوية كلمة الإيمان من كان مشرفا على الموت والهلاك، أو كان على حرف من الصراط السوي ومنحرفا عن الطريق المستقيم، أو أنقذ من كان قريبا من الوقوع في حفرة الجحيم، إشارة إلى قوله تعالى ?وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها? [3: 103]، والشفا حرف كل شيء وطرفه وحده (لمن أراد أن يسلكها) أنث الضمير لأن السبيل يذكر ويؤنث، أي بين وعين طريق الاهتداء إلى المطلوب لمن طلب وشاء من نفسه أن يدخل فيها (وأظهر كنوز السعادة) أي المعنوية وهي المعارف والعلوم والأعمال والأخلاق والشمائل والأحوال البهية المؤدية إلى الكنوز الأبدية والخزائن السرمدية من نعيم الجنة ورضوان الله ولقائه ورؤيته. (لمن قصد أن يملكها) وجه التخصيص أنهم هم المنتفعون بالإيضاح والإظهار، وإن كان بيان شرائع الإسلام وتعليم أمور الدين عاما لجميع الناس
أما بعد: فإن التمسك بهديه لا يستتب إلا بالاقتفاء لما صدر من مشكاته، والاعتصام بحبل الله لا يتم إلا ببيان كشفه، وكان كتاب المصابيح

(1/8)


لمن أراد سلوكها وقصد تملكها، ولمن أعرض عنها، كقوله تعالى: ?هدى للمتقين?. (أما بعد أتى به اقتداء به - صلى الله عليه وسلم - وبأصحابه، فإنهم كانوا يأتون به في خطبهم للانتقال من أسلوب إلى أسلوب آخر، ويسمى فصل الخطاب، واختلف في أول من قالها، فقيل: داود - عليه السلام -، رواه الطبراني مرفوعا من حديث أبي موسى الأشعري، وفي إسناده ضعف، وفيه أقوال أخرى ذكرها الحافظ في الفتح، و (أما) لتفصيل المجمل، وهو كلمة شرط محذوف فعله وجوبا، و (بعد) من الظروف الزمانية متعلق بالشرط المحذوف، وهو مبني على الضم لقطعه عن الإضافة والمضاف إليه منوي، والتقدير: مهما يذكر شيء من الأشياء بعد ما ذكر من البسملة والحمدلة والصلاة والثناء (فإن التمسك بهديه) بفتح الهاء وسكون الدال أي طريقه وسيرته، يقال ما أحسن هديه أي طريقه وهدى هديه أي سيرته (لا يستتب) بتشديد الباء أي لا يستقيم ولا يستمر، أو لا يتأتى ولا يتهيأ (إلا بالاقتفاء) أي بالاتباع (لما صدر) أي ظهر (من مشكاته) أي صدره، والمشكاة هي الكوة في الجدار غير النافذة، يوضع فيها المصباح أي السراج، استعيرت لصدره - صلى الله عليه وسلم -، شبه صدره الذي يفيض النور المقتبس من القلب على الخلق بالمشكاة التي فيها المصباح، وشبه قلبه المنور بنور الله تعالى بالمصباح المضيء (والاعتصام) بالنصب، ويجوز الرفع، أي التمسك والتشبث (بحبل الله) أي القرآن لما ورد في حديث الحارث الأعور عن علي مرفوعا في صفة القرآن ((هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم)) أخرجه الترمذي، وروى الحافظ أبوجعفر الطبري بسنده عن أبي سعيد مرفوعا ((كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض))، وروي من حديث عبدالله بن مسعود وزيد بن أرقم وحذيفة نحو ذلك. استعار الحبل للقرآن من حيث أن العمل بالقرآن سبب لحصول العلوم والمعارف التي هي وسيلة إلى الحياة الأبدية، كما أن الحبل وسيلة إلى الوصول إلى الماء الذي هو سبب

(1/9)


للحياة الدنيوية، أو من حيث أن التمسك بالقرآن سبب للنجاة عن التردي والخلاص من الوقوع في دركات جهنم، كما أن التمسك بالحبل سبب للسلامة عن التردي في البئر عند الاحتياج إلى الماء (إلا ببيان كشفه) أي السنة النبوية، والإضافة بيانية، قال الله تعالى: ?وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم? [16: 44]، ولا شك أنه لا يمكن الوصول إلى حقيقة معاني القرآن ولا يتيسر فهم مقاصده إلا بتبيينه - صلى الله عليه وسلم - وإيضاحه، فكان هو مبينا لمجملات القرآن ومفسرا لمشكلاته، وليس بيانه وتفسيره إلا في أحاديثه، فكل حديث ورد في الصلاة فهو بيان وتفسير لقوله تعالى: ?وأقيموا الصلاة? فإن الصلاة مجملة لم يبين أوقاتها وأعدادها وأركانها وشرائطها وواجباتها وسننها ومفسداتها إلى السنة، وكذا الزكاة والصوم والحج (وكان كتاب المصابيح).
قيل: إن البغوي لم يسم هذا الكتاب بالمصابيح نصا منه، وإنما صار هذا الاسم علما له بالغلبة من حيث أنه ذكر بعد قوله (أما بعد) فهذه ألفاظ صدرت عن صدر النبوة، وسنن سارت عن معدن الرسالة، وأحاديث جاءت عن سيد المرسلين وخاتم النبيين هن مصابيح الدجى ...الخ، وهو من أجمع الكتب في باب الحديث فإنه جمع فيه أحاديث الأحكام على ترتيب الأبواب

(1/10)


الفقهية بحيث يستحسنه الفقيه، ووضع الترغيب والترهيب على ما يقتضيه العلم ويرتضيه، ولو فكر أحد في تغيير باب عن موضعه لم يجد له موضعا أنسب مما اقتضى رأيه، ولذلك عكف عليه المتعبدون، واعتنى بشأنه العلماء بالقراءة والتعليق، فله شروح كثيرة، ذكرها جلبي في كشف الظنون، لكنه لطلب الاختصار ترك ذكر الأسانيد اعتمادا على نقل الأئمة، ولم يذكر كثيرا من الصحابة رواة الآثار، ولا تعرض لتخريج تلك الأخبار، بل قسم أحاديث كل باب إلى صحاح وحسان، واصطلح على أن جعل الصحاح ما هو في الصحيحين أو أحدهما، والحسان ما ليس في واحد منهما، والتزم أن ما كان فيها من ضعيف أو غريب أشار إليه ونبه عليه، وإن ما كان موضوعا أو منكرا لم يذكره ولا يشير إليه، هذا هو المشروط في الخطبة، لكن ذكر في أواخر باب مناقب قريش حديثا وقال في آخره: منكر، وقيل: قد ألحقه بعض المحدثين، قال النووي في التقريب تبعا لابن الصلاح: أما تقسيم البغوي أحاديث المصابيح إلى حسان وصحاح مريدا بالصحاح ما في الصحيحين وبالحسان ما في السنن فليس بصواب ؛ لأن في السنن الصحيح والحسن والضعيف والمنكر - انتهى.
قال السيوطي في التدريب (ص54): ومن أطلق عليها الصحيح كقول السلفي في الكتب الخمسة اتفق على صحتها علماء المشرق والمغرب، وكإطلاق الحاكم على الترمذي الجامع الصحيح، فقد تساهل. قال العراقي: وأجيب عن البغوي بأنه يبين عقب كل حديث الصحيح والحسن والغريب، قال: وليس كذلك، فإنه لا يبين الصحيح من الحسن فيما أورده من السنن، بل يسكت ويبين الغريب والضعيف غالبا، فالإيراد باق في مزجه صحيح ما في السنن بما فيه من الحسن، وقال شيخ الإسلام: أراد ابن الصلاح أن يعرف أن البغوي اصطلح لنفسه أن يسمي السنن الأربعة الحسان، ليغتني بذلك عن أن يقول عقب كل حديث أخرجه أصحاب السنن، فإن هذا اصطلاح حادث ليس جاريا على المصطلح العرفي - انتهى. قلت: وقد وقع له بعد ذلك الاصطلاح أن ذكر

(1/11)


أحاديث من الصحاح ليست في أحد من الصحيحين وأحاديث من الحسان هي في أحد الصحيحين، وأدخل في الحسان أحاديث ولم ينبه عليها، وهي ضعيفة واهية في غاية الضعف كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى. ثم إن الشيخ ولي الدين محمد بن عبدالله الخطيب كمل المصابيح وذيل أبوابه، فذكر الصحابي الذي روى الحديث عنه، وذكر الكتاب الذي أخرجه منه، وزاد على كل باب من صحاحه وحسانه إلا نادرا فصلا ثالثا، وسماه "مشكاة المصابيح"، فصار كتابا حافلا كما ترى، وله تصرفات أخرى أيضا في المصابيح، كما سيجيء ذكره في كلامه، نعم، لم يتعرض هو كالبغوي للكلام على الأحاديث التي أوردها من السنن والمسانيد التي لم يلتزم مصنفوها الصحة في الغالب طلبا للاختصار، ولا يخفى أنه يسوغ العمل بأحاديثها التي لم يقع التصريح بتحسينها أو تصحيحها منهم أو من غيرهم ممن يعتمد عليه إلا بعد البحث عنها، فما كان منها صحيحا أو حسنا أو ضعيفا يحتمل ضعفه يقبل، وما لم يكن كذلك يرد. قال في كشف الظنون: قيل عدد أحاديث المصابيح أربعة آلاف وسبعمائة وتسعة عشر حديثا، منها المختص بالبخاري ثلاثمائة وخمسة وعشرون حديثا، وبمسلم ثمانمائة وخمسة وسبعون حديثا، ومنها المتفق عليها ألف وإحدى وخمسون حديثا، والباقي من كتب أخرى، وقال ابن الملك: إن عدد الأحاديث المذكورة فيه أربعة آلاف وأربعمائة وأربعة وثمانون حديثا، منها ما هو من الصحاح ألفان وأربعمائة وأربعة وثلاثون حديثا.
الذي صنفه الإمام محي السنة قامع البدعة أبومحمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي - رفع الله

(1/12)


ومنها ما هو من الحسان، وهو ألفان وخمسون حديثا. (محي السنة) روي أنه لما جمع كتابه المسمى بشرح السنة رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقال له "أحياك الله كما أحييت سنتي"، فصار هذا اللقب علما له بطريق الغلبة (قامع البدعة) أي قاطعها ودافع أهلها أو مبطلها ومميتها (أبومحمد الحسين بن مسعود) هو الإمام الحافظ المجتهد المحدث المفسر أبومحمد الحسين بن مسعود بن محمد الشافعي صاحب معالم التنزيل في التفسير، وشرح السنة، والمصابيح، والجمع بين الصحيحين في الحديث والتهذيب في الفقه، وغير ذلك من التصانيف الحسان، كان بحرا في العلوم، إماما في الفقه والحديث والتفسير، أخذ الفقه عن القاضي حسين بن محمد صاحب التعليقة في الفقه، وحدث عنه، وعن أبي الحسن عبدالرحمن بن محمد الداودي، ويعقوب بن أحمد الصيرفي وغيرهم، وروى عنه أهل مرو وغيرهم، وبورك له في تصانيفه لقصده الصالح، فإنه كان من العلماء الربانيين، كان ذا تعبد ونسك وقناعة باليسير، وكان يأكل كسرة وحدها فعذلوه، فصار يأكلها بزيت، قال القاري: كان مفسرا محدثا فقيها. قال بعض مشايخنا: ليس له قول ساقط، وكان عابدا زاهدا جامعا بين العلم والعمل على طريقة السلف الصالحين. توفي بمروالروذ في شوال سنة 516هـ ست عشرة وخمسمائة، ودفن عند شيخه القاضي حسين بمقبرة الطالقاني، ولعله بلغ ثمانين سنة، وارجع إلى تذكرة الحفاظ (ج4: ص54-55)، ووفيات الأعيان (ج1: ص145-146)، وإتحاف النبلاء (244)، وأشعة اللمعات (ج1: ص28-29).

(1/13)


( الفراء) بالرفع على أنه صفة لأبي محمد الحسين كما يظهر من كلام ابن خلكان حيث قال: أبومحمد الحسين بن مسعود بن محمد المعروف بالفراء البغوي الفقيه، وقيل بالجر نعت لأبيه نسبة إلى عمل الفراء وصنعها وبيعها، قال الذهبي في ترجمة البغوي: هو أبومحمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء الشافعي، قال: وكان أبوه يعمل الفراء ويبيعها، قال في الإتحاف: يقال له الفراء وابن الفراء أيضا، قال القاري: وهو غير الفراء النحوي المشهور (البغوي) بالرفع صفة للحسين ؛ لأن المقصود ببيان النسبة البلدية وكذا الولادية والصناعية عند المحدثين هو العلم الأول إلا نادرا، والبغوي بفتح الباء الموحدة والغين المعجمة وبعدها واو، هذه النسبة إلى بلدة بخراسان بين مرو وهرات يقال له بغ وبغشور بفتح الباء الموحدة وسكون الغين المعجمة وضم الشين وبعدها واو ساكنة ثم راء معرب "باغ كور"، وهذه النسبة شاذة على خلاف القياس، قاله السمعاني في كتاب الأنساب، وقيل العلم المركب تركيبا مزجيا يحذف عجزه وينسب إلى صدره أو ينسب إليه برمته من دون حذف، فتقول: بعلي ومعدوي وبعلبكي ومعدي كربي في النسبة إلى بعلبك ومعدي كرب، والبغوي من هذا القبيل، وإنما جاءت الواو في النسبة إجراء للفظه بغ مجرى محذوف العجز كالدموي، فإنه يرد المحذوف إلى الاسم المحذوف منه إذا بقي على حرفين من أصوله فتقول في أب وأخ: أبوي وأخوي، ويجوز في مثل يد ودم أن يرد المحذوف، وهو الأفصح، وحينئذ إذا كان ياء قلبت واوا فيقال: يدوي ودموي، ويجوز النسبة
درجته - أجمع كتاب صنف في بابه، وأضبط لشوارد الأحاديث وأوابدها، ولما سلك - رضي الله عنه - طريق الاختصار وحذف الأسانيد تكلم فيه بعض النقاد وإن كان نقله - وإنه من الثقات -

(1/14)


على اللفظ فيقال: يدي ودمي، ولئلا يلتبس بالبغي بمعنى الزاني (أجمع كتاب) خبر كان (صنف في بابه) أي في باب الحديث فإنه جمع فيه الأحاديث المهمة على ترتيب الأبواب الفقهية، والمراد أنه من أجمع الكتب في باب الحديث، أو قاله مبالغة في مدحه، ويجوز مثل هذه المبالغة في مدح كتاب ترغيبا للطالبين وتشويقا لهم إليه (وأضبط) عطف على أجمع ؛ لأنه لما جرد عن الأسانيد وعن اختلاف الألفاظ وتكرارها في المسانيد صار أقرب إلى الحفظ والضبط، وأبعد من الغلط والخبط (لشوارد الأحاديث) جمع شاردة وهي النافرة والذاهبة عن الدرك، من إضافة الصفة إلى الموصوف، والأحاديث قيل جمع أحدوثة في الأصل كأساطيرة جمع أسطورة ثم جعل جمع حديث (وأوابدها) عطف تفسير، أي وحشياتها، جمع آبدة وهي الوحش والشيء الغريب، وأوابد الكلام غرائبه، شبهت الأحاديث بالوحوش لسرعة تنفرها وتبعدها عن الضبط والحفظ، ولذا قيل: "العلم صيد والكتابة قيد" قاله القاري، وقال السيد جمال الدين: المراد بالشوارد الأحاديث المخرجة في الأصول قد خفيت على الطالبين مواضع إيرادها، فكأنها نفرت منهم، وبالأوابد الأحاديث التي دلالتها على معانيها كانت خفية، فكأنها توحشت من الطلاب بالنظر إلى معانيها المقصودة، فبإيراد محي السنة إياها في الأبواب المناسبة ولمواضع اللائقة من كتاب المصابيح ظهرت معانيها واتضحت، فارتفع الشرود وانتفى التوحش منها، وصارت مأنوسة، ذكره في اللمعات (طريق الاختصار) أي بالاكتفاء على متون الأحاديث (وحذف الأسانيد) عطف تفسير على ذلك، والمراد بحذف الإسناد إما حذف الصحابي وترك المخرج في كل حديث، وهو مجاز من باب إطلاق الكل على البعض أي طرفي الإسناد، وهو مراد المصنف ظاهرا من قوله "لكن ليس ما فيه أعلام كالأغفال" فالشيء الذي ذكره المصنف في المشكاة زيادة على المصابيح هو ذكر الصحابي وبيان المخرج، وهو الذي أهمله صاحب المصابيح، وأما معناه الحقيقي على مصطلح أهل الحديث،

(1/15)


وهو حكاية طريق المتن بحيث يعلم جميع رواته، لكن المصنف اكتفى بذكر المخرج كما يقول: وإني إذا نسبت الحديث إليهم ...الخ، وعلى هذا يكون ذكر المخرج أي الصحابي للتبرك والتأكيد فقط (تكلم) جواب لما، أي طعن في بعض أحاديث كتابه حتى أن بعض الطاعنين أفردوا أحاديث من المصابيح ونسبوها إلى الوضع، ثم إنه لما نسبت إلى الأئمة المخرجين لها علم أن بعضها صحيح وبعضها حسن، كحديث أبي هريرة ((المرء على دين خليله)) فإنه أحد الأحاديث التي انتقدها الحافظ سراج الدين القزويني على المصابيح، وقال: إنه موضوع، وكذا أورده ابن الجوزي في الموضوعات، وقد حسنه الترمذي، وصححه الحاكم، وقال النووي: إسناده صحيح (بعض النقاد) بضم النون وتشديد القاف، وقال السيد جمال الدين: أي تكلم في حقه واعترض عليه بعض المبصرين بأن صحة الحديث وسقمه متوقفة على معرفة الإسناد، فإذا لم يذكر لم يعرف الصحيح من الضعيف فيكون نقصا (وإن كان نقله) أي نقل البغوي بلا إسناد، والواو وصلية (وإنه من الثقات) أي المعتمدين في نقل الأحاديث وبيان صحتها وحسنها وضعفها، روي بكسر الهمزة في "إنه" على أنه حال
كالإسناد، لكن ليس ما فيه أعلام كالأغفال، فاستخرت الله واستوفقت منه، فأعلمت ما أغفله فأودعت كل حديث منه في مقره كما رواه الأئمة المتقنون والثقات الراسخون، مثل أبي عبدالله محمد بن إسماعيل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/16)


من المضاف إليه في نقله، وروي بفتحها للعطف على اسم كان، يعني نقله بتأويل المصدر أي وإن كان نقله وكونه من الثقات كالإسناد (كالإسناد) أي كذكره (لكن ليس ما فيه أعلام) أعلام الشيء بفتح الهمزة آثاره التي يستدل بها، وهو جمع علم بفتحتين (كالأغفال) بالفتح وهي الأراضي المجهولة التي لا عمارة فيها ولا أثر تعرف به، جمع غفل بضم الغين المعجمة وسكون الفاء، وفي بعض النسخ بكسرة الهمزة فيهما، فهما مصدران لفظا وضدان معنى، وأراد بالأول كتابه المشكاة، وبالثاني المصابيح، وكان حقه أن يقول: لكن ليس ما فيه أغفال كالأعلام، ولعله قلب الكلام تواضعا مع البغوي وهضما لنفسه، والحاصل أنه ادعى أن في صنيع البغوي قصورا في الجملة، وهو عدم ذكر الصحابة أولا وعدم ذكر المخرج في كل حديث آخرا، فإن ذكرهما مشتمل على فوائد، قال القاري: أما ذكر الصحابي ففائدته أن الحديث تتعدد رواته وطرقه، وبعضها صحيح وبعضها ضعيف، فيذكر الصحابي ليعلم ضعف المروي من صحيحه، ومنها رجحان الخبر بحال الراوي من زيادة فقهه وورعه، ومعرفة ناسخه من منسوخه بتقدم إسلام الراوي وتأخره، وأما ذكر المخرج ففائدته تعيين لفظ الحديث، وتبيين رجال إسناده في الجملة، ومعرفة كثرة المخرجين وقلتهم في ذلك الحديث لإفادة الترجيح وزيادة التصحيح، ومنها الرجوع إلى الأصول عند الاختلاف في الفصول وغيرها من المنافع. (فاستخرت الله) لقوله تعالى: ?وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة?، ولما روى الطبراني في الصغير والأوسط من حديث أنس مرفوعا: ((ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد))، (واستوفقت منه) بتقديم الفاء على القاف، أي طلبت من الله التوفيق (فأعلمت ما أغفله) أي فبينت ما أهمله البغوي عمدا فإنه ترك ذكر الصحابة في كثير من الأحاديث، فالتزمت ذكر الصحابي في كل حديث، وأيضا لم يتعرض هو لذكر المخرج بحيث يعلم مخرج كل حديث بخصوصه وإن علم مجملا من اصطلاحه

(1/17)


في الصحاح والحسان أنه ذكر في القسم الأول أي الصحاح أحاديث الصحيحين أو أحدهما، وفي القسم الثاني أي الحسان أحاديث غيرهما، فذكرت المخرج في كل حديث بخصوصه، قال القاري: أي فبينت ما تركه بلا إسناد عمدا من ذكر الصحابي أولا وبيان المخرج آخرا بخصوص كل حديث التزاما (فأودعت كل حديث منه) أي من المصابيح (في مقره) أي وضعت كل حديث من الكتاب في محله الموضوع في أصله من كل كتاب وباب من غير تقديم وتأخير وزيادة ونقصان وتغيير (كما رواه الأئمة) أي أئمة الحديث الذين يقتدى بهم (المتقنون) أي الضابطون الحافظون الحاذقون لمروياتهم من أتقن الأمر إذا أحكمه، ومنه قوله تعالى: ?صنع الله الذي أتقن كل شيء? (الثقات) بكسر المثلثة جمع ثقة، وهم العدول والأثبات (الراسخون) أي الثابتون بمحافظة هذا العلم، المتمكنون فيه، من رسخ أي ثبت في موضعه، يقال رسخ الخبر في الصحيفة، والعلم في القلب، وفلان راسخ في العلم أي متمكن فيه (مثل أبي عبدالله محمد بن إسماعيل) هو أمير المؤمنين في حديث سيد المرسلين، إمام الأئمة المجتهدين، سلطان المحدثين، أبوعبدالله محمد بن
البخاري، وأبي الحسين مسلم بن الحجاج

(1/18)


إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن الأحنف بردزبه الجعفي مولاهم ولاء إسلام البخاري، صاحب الجامع الصحيح والتصانيف، جبل الحفظ وإمام الدنيا في ثقة الحديث، ومعجزة للرسول البشير النذير حيث وجد في أمته مثل هذا الفرد العديم النظير، فلم ير مثله من جهة الحديث وإتقانه، وفهم معاني كتاب الله وسنة رسوله، ومن حيثية حدة ذهنه، وذقة نظره، ووفور فقهه، وكمال زهده، وغاية ورعه، وقوة اجتهاده واستنباطه، وكثرة اطلاعه على طرق الحديث وعلله، ولد يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة 194هـ، وتوفي وقت العشاء ليلة السبت ليلة الفطر سنة 256هـ، ودفن يوم العيد بعد صلاة الظهر بخرتنك على فرسخين من سمرقند، وعمره اثنتان وستون سنة إلا ثلاثة عشر يوما، ولم يخلف ولدا، كانت أمه مستجابة الدعوات، توفي أبوه وهو صغير فنشأ في حجر والدته، ثم عمي، وقد عجز الأطباء عن معالجته، فرأت في المنام إبراهيم الخليل - عليه السلام - قائلا لها قد رد الله على ابنك بصره بكثرة دعائك له، فأصبح وقد رد الله عليه بصره، فنشأ متربيا في حجر العلم، مرتضعا من ثدي الفضل، ثم ألهم طلب الحديث وله عشر سنين، ورد على بعض مشايخه غلطا وهو في إحدى عشرة سنة، فأصلح كتابه من حفظ البخاري، سمع الحديث ببلده بخارى، ثم رحل في طلب هذا الشأن إلى جميع محدثي الأمصار، وسمع الكثير، وأخذ عنه الحديث خلق كثير في كل بلدة حدث بها، روى عنه الترمذي في جامعه كثيرا ومسلم في غير صحيحه، قال الفربري: سمع كتاب البخاري منه تسعون ألف رجل، قال البخاري: خرجت كتابي الصحيح من زهاء ستمائة ألف حديث، وما وضعت فيه إلا صحيحا، وارجع لترجمته إلى كتاب "سيرة البخاري" جزء كبير وتأليف مفرد مبسوط في ترجمة الإمام البخاري وذكر تصانيفه وبيان محاسن جامعه الصحيح وفضائله باللغة الأردية لوالدنا العلامة محمد عبدالسلام المباركفوري - رحمه الله -، وقد ذكر شيئا من ترجمته الشيخ الدهلوي في

(1/19)


أشعة اللعمات (ص9-13)، والعلامة القنوجي في إتحاف النبلاء (349-355)، وعلي القاري في المرقاة (13-16)، والحافظ في أواخر مقدمة الفتح (563-583)، وفي تهذيب التهذيب (ج9: ص47-55)، والقسطلاني في مقدمة إرشاد الساري (ج1: ص31-46)، والنووي في تهذيب الأسماء واللغات (ج1: ص67-76)، والسبكي في طبقات الشافعية (ج2: ص2-19)، والسمعاني في الأنساب (ورقة 68، 131)، والخطيب في تاريخ بغداد (ج2: ص4-34)، وابن خلكان في تاريخه، والذهبي في تذكرته، والمصنف في الإكمال وغيرهم، وأفرد بعضهم ترجمته في تأليفات مبسوطة كالذهبي وابن الملقن والأمير اليماني والعجلوني وغيرهم. (البخاري) نسبة إلى "بخارى" بلدة عظيمة من بلاد وراء النهر ؛ لتولده فيها وصار بمنزلة العلم له ولكتابه. (وأبي الحسين مسلم بن الحجاج) هو الإمام الحافظ الحجة أبوالحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، أحد الأئمة الحفاظ وأعلام المحدثين صاحب التصانيف، طلب علم الحديث صغيرا، ورحل إلى العراق والحجاز والشام ومصر، سمع من مشايخ البخاري وغيرهم كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه والقعنبي وغيرهم. وروى عنه أئمة من كبار عصره وحفاظ دهره، كأبي حاتم الرازي وابن خزيمة وغيرهما، وروى عنه الترمذي
القشيري، وأبي عبدالله مالك بن أنس الأصبحي

(1/20)


حديثا واحدا ((أحصوا هلال شعبان لرمضان)) ما له في جامع الترمذي غيره، ألف المؤلفات النافعة، وأنفعها صحيحه الذي فاق بحسن ترتيبه وحسن سياقه وبديع طريقته، قال مسلم: صنفت المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة، قال الحافظ: حصل لمسلم في كتابه حظ عظيم مفرط لم يحصل لأحد مثله، بحيث أن بعض الناس كان يفضله على صحيح محمد بن إسماعيل، وذلك لما اختص به من جمع الطرق وجودة السياق والمحافظة على أداء الألفاظ، كما هي من غير تقطيع ولا رواية بمعنى، وقد نسج على منواله خلق من النيسابوريين فلم يبلغوا شأوه، وحفظت منهم أكثر من عشرين إماما ممن صنف المستخرج على مسلم، وقال الخطيب: إنما قفا مسلم طريق البخاري ونظر في علمه وحذا حذوه، ولما ورد البخاري النيسابور في آخر مرة لازمه مسلم وداوم الاختلاف إليه، وقال الدارقطني: لولا البخاري لما ذهب مسلم وجاء، ولد سنة 204هـ، وقيل سنة 206هـ، وتوفي عشية يوم الأحد لأربع أو لخمس أو لست بقين من رجب سنة 261هـ، وعمره خمس وخمسون سنة، ودفن بنصر آباد ظاهر نيسابور يوم الاثنين، ملتقط من التذكرة للذهبي (ج2: 165-167)، ووفيات الأعيان (ج2: ص91)، وتهذيب التهذيب (ج10: 126-128)، والمرقاة (ج1: 16-17)، وإتحاف النبلاء (430-431)، وأشعة اللمعات (ج1: 13-14)، والإكمال للمصنف، وبستان المحدثين (116-117). (القشيري) بضم القاف وفتح الشين المعجمة وسكون المثناة من تحتها وبعدها راء، نسبة إلى قشير بن كعب، قبيلة كبيرة من العرب، (وأبي عبدالله مالك بن أنس) هو الإمام الحافظ فقيه الأمة، أحد أعلام الإسلام، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، كبير المتثبتين، صاحب المذهب، أبوعبدالله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان ويقال: عثمان بن جثيل، وقيل: خثيل بن عمرو بن ذي أصبح الحارث المدني (الأصبحي) بفتح الهمزة وسكون الصاد المهملة وفتح الباء الموحدة بعدها حاء مهملة، نسبة إلى ذي أصبح جده

(1/21)


التاسع، واسمه الحارث بن عوف، وهي قبيلة كبيرة من أكرم قبائل اليمن جاهلية وإسلاما، من يعرب بن يشجب بن قحطان، كان جده الأعلى الحارث بن عوف بن الأصبح، وهو بطن من الحمير، ولذا لقب بذي أصبح، واختلف في ولادته، فقيل: ولد سنة 90هـ، وقيل: سنة 94هـ، وقيل: سنة 95هـ، قال الذهبي في التذكرة: أما يحيى بن بكير فقال: سمعته يقول: ولدت سنة 93هـ ثلاث وتسعين، فهذا أصح الأقوال، انتهى. واختاره السمعاني في الأنساب، وقال: هذا متصل بالسند إلى يحيى بن بكير تلميذ الإمام، واختاره ابن فرحون، وقال: هو الأشهر، وحمل في بطن أمه ثلاث سنين، واختلف في تاريخ وفاته أيضا، قال ابن فرحون: والصحيح أنها كانت يوم الأحد لتمام اثنين وعشرين يوما من مرضه في ربيع الأول سنة 179هـ، فقيل: لعشر مضت، وقيل: لأربع عشرة، ولثلاث عشرة، ولإحدى عشرة، وقيل: لاثنتي عشرة من رجب، ودفن بالبقيع، قال المصنف في الإكمال: هو – أي مالك – إمام الحجاز، بل الناس في الفقه والحديث، وكفاه فخرا أن الشافعي من أصحابه، أخذ العلم عن الزهري ويحيى بن سعيد ونافع مولى ابن عمر وهشام بن عروة وربيعة بن عبدالرحمن وخلق كثير، قال الزرقاني: أخذ عن تسعمائة شيخ فأكثر، قال: والرواة عنه فيهم كثرة جدا، بحيث لا يعرف لأحد من الأئمة رواة
وأبي عبدالله محمد بن إدريس الشافعي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/22)


كرواته، وقال الذهبي: حدث عنه أمم لا يكادون يحصون، وروى سعيد بن أبي مريم عن أشهب بن عبدالعزيز قال: رأيت أباحنيفة بين يدي مالك كالصبي بين يدي أبيه. وقال الشافعي: قال لي محمد بن الحسن: أيهما أعلم صاحبنا أم صاحبكم ؟ يعني أباحنيفة ومالكا – رضي الله عنهما -، قال: قلت على الإنصاف ؟ قال: نعم، قال: قلت: ناشدتك الله، من أعلم بالقرآن صاحبنا أم صاحبكم ؟ قال: اللهم صاحبكم، قال: قلت: ناشدتك الله، من أعلم بالسنة صاحبنا أم صاحبكم ؟ قال: اللهم صاحبكم، قال: ناشدتك الله، من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتقدمين صاحبنا أم صاحبكم ؟ قال: اللهم صاحبكم، قال الشافعي: فلم يبق إلا القياس، والقياس لا يكون إلى على هذه الأشياء، فعلى أي شيء نقيس ؟ ذكره ابن خلكان، ساد مذهبه في الأندلس قضاء وفتيا ولا يزال هو السائد إلى اليوم في المغرب، وقد أطنب الناس من السلف والخلف في ذكر ترجمته في كتبهم، وصنف جمع منهم تأليفات مفردة بذكر أحواله، منهم الذهبي، وأبوبكر بن أحمد بن مروان المالكي المتوفى سنة 310هـ، وأبوالروح عيسى بن مسعود الشافعي المتوفى سنة 774هـ، وأبوعبدالله محمد بن أحمد التستري المالكي المتوفى سنة 345هـ، ومحمد أبوإسحاق بن القاسم بن شعبان المتوفى سنة 355هـ، ومحمد أبوبكر بن اللباد بن محمد المتوفى سنة 333هـ، والحافظ ابن حجر، والسيوطي وغيرهم، وقد ذكر شطرا صالحا من ترجمته، وكشف حال كتابه الموطأ الشاه عبدالعزيز في "بستان المحدثين"، والشيخ عبدالحي اللكنوي في مقدمة التعليق الممجد، والعلامة القنوجي في إتحاف النبلاء (ص338-339)، والحافظ في تهذيب التهذيب (ج10: ص3-9)، والمصنف في الإكمال، والقاري في المرقاة (ج1: 17-18)، وصاحب الأوجز في مقدمة شرحه للموطأ (ص11-35)، فعليك أن تراجع هذه الكتب، قال الذهبي في التذكرة (ج1: ص191): قد كنت أفردت ترجمة مالك في جزء وطولتها في تاريخي الكبير، قد اتفق لمالك

(1/23)


مناقب ما علمتها اجتمعت لغيره، أحدها: طول العمر، وعلو الرواية. وثانيها: الذهن الثاقب، والفهم، وسعة العلم، وثالثها: اتفاق الأئمة على أنه حجة، صحيح الرواية، ورابعتها: تجمعهم على دينه، وعدالته، واتباعه السنن، وخامستها: تقدمه في الفقه والفتوى، وصحة قواعده، عاش ستا وثمانين سنة – انتهى. وقدم المصنف عليه البخاري ومسلما مع كونه أولى وأحرى بالتقديم للشرط الذي لكتابيهما. وقال القاري: أخر عن البخاري ومسلم ذكرا وإن كان مقدما عليهما وجودا ورتبة وإسنادا لتقدم كتابيهما على كتابه ترجيحا لعدم التزامه تصحيحا – انتهى. (وأبي عبدالله محمد بن إدريس) هو الإمام العلم حبر الأمة صاحب المذهب ناصر الحديث المجدد لأمر الدين على رأس المائتين محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف القرشي المطلبي المكي، نزيل مصر أبوعبدالله (الشافعي) بكسر الفاء بعدها عين مهملة، نسبة إلى شافع، قيل: لقي شافع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مترعرع، وهذا وجه تخصيص النسبة إليه، ثم نسبه أهل مذهبه أيضا شافعي لأن الاسم إذا كان مختوما بياء مشددة، فإن كان قبلها أكثر من حرفين وجب حذفها، فتقول في النسبة إلى إسكندرية إسكندري، والشافعي من هذا القبيل، فقول العامة
وأبي عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/24)


"شافعوي" خطأ، ولد بغزة سنة 150هـ، على الأصح، وهي سنة وفاة أبي حنيفة، وحمل إلى مكة وهو ابن سنتين، وتوفي عند العشاء الآخر ليلة الجمعة آخر يوم من رجب سنة 204، ودفن بعد العصر يوم الجمعة بقرافة مصر، عاش أربعا وخمسين سنة، قال المصنف بعد ذكر شيء من مناقبه: وفضائله أكثر من أن تحصى، كان إمام الدنيا وعالم الناس شرقا وغربا، جمع الله له من العلوم والمفاخر ما لم يجمع لإمام قبله ولا بعده، وانتشر له من الذكر ما لم ينتشر لأحد سواه، سمع مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، ومسلم بن خالد، وخلقا سواهم كثيرا، حدث عنه أحمد بن حنبل، وأبوثور، وأبوإبراهيم المزني، والربيع بن سليم المرادي، وخلق كثير غيرهم، قدم بغداد سنة خمس وتسعين ومائة فأقام بها أشهرا، ثم خرج إلى مصر ومات بها، قال القاري: وصنف في العراق كتابه القديم المسمى بالحجة، ثم رحل إلى مصر سنة تسع وتسعين ومائة، وصنف كتبه الجديدة بها، ورجع عن تلك ومجموعها يبلغ مائة وثلاثة عشر مصنفا، وسار ذكرها في البلدان، وقصده الناس من الأقطار للأخذ عنه، وكذا أصحابه من بعده لسماع كتبه حتى اجتمع في يوم على باب الربيع تسعمائة راحلة، وابتكر أصول الفقه، وكتاب القسامة، وكتاب الجزية، وقتال أهل البغي، وكان حجة في اللغة والنحو. وقال ابن خلكان: كان الشافعي كثير المناقب، جم المفاخر، منقطع القرين، اجتمعت فيه من العلوم بكتاب الله وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكلام الصحابة وآثارهم واختلاف أقاويل العلماء وغير ذلك من معرفة كلام العرب واللغة العربية والشعر، حتى أن الأصمعي مع جلالة قدره في هذا الشأن قرأ عليه أشعار الهذليين ما لم يجتمع في غيره، حتى قال أحمد بن حنبل: ما عرفت ناسخ الحديث من منسوخه حتى جالست الشافعي. وقال أبوعبيد القاسم بن سلام: ما رأيت رجلا قط أكمل من الشافعي، قال ابن خلكان: والشافعي أول من تكلم في أصول الفقه، وهو الذي استنبطه، وقد اتفق العلماء قاطبة من

(1/25)


أهل الحديث والفقه والأصول واللغة والنحو وغير ذلك على ثقته وأمانته وعدالته وزهده وورعه ونزاهة عرضه وعفة نفسه وحسن سيرته وعلو قدره وسخائه. وأخبرني أحد المشايخ أنه عمل في مناقب الشافعي ثلاثة عشر تصنيفا – انتهى. قلت: بل زيادة على ذلك فقد ذكر في كشف الظنون أحدا وعشرين تصنيفا مع العزو إلى من صنف هذه التصانيف. وقال ابن ا لملقن في العقد المذهب: بلغ التصانيف في مناقب الشافعي إلى نحو أربعين مؤلفا بل زيادة على ذلك، وقال الحافظ في توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس: قد سبق إلى التأليف في ذلك من يتعسر استيعابهم بالذكر، أو يطمع في اللحاق بهم المتأخر ولو وسع المجال أو ضيق الفكر، ثم ذكر أسماء بعض من صنف في ذلك، وعليك أن تراجع توالي التأسيس، فقد ذكر فيه الحافظ شطرا صالحا من مناقبه. (وأبي عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل) بن هلال بن أسد الإمام الحافظ الحجة صاحب المذهب (الشيباني) نسبة إلى شيبان بن ذهل بن ثعلبة أحد أجداده، وهو مروزي الأصل، خرجت أمه من مرو وهي حامل فولدته ببغداد في ربيع الأول سنة 164هـ، وتوفي ضحوة نهار الجمعة لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول سنة 241هـ ببغداد، كان – رحمه الله – إماما في الفقه والحديث والزهد والورع والعبادة، وبه عرف الصحيح والسقيم والمجروح من المعدل، ونشأ ببغداد وطلب
وأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/26)


العلم وسمع الحديث من شيوخها، ثم رحل إلى مكة والكوفة والبصرة والمدينة واليمن والشام والجزيرة، فسمع من يحيى بن سعيد القطان، وابن عيينة، والشافعي، وعبدالرزاق بن الهمام، وخلق كثير، وروى عنه ابناه صالح وعبدالله، وابن عمه حنبل بن إسحاق، والبخاري، ومسلم، وأبوداود، وأبوزرعة، وأبوالقاسم البغوي، وخلق كثير سواهم، قال أبوزرعة: كانت كتبه اثني عشر جملا، وكان يحفظها على ظهر قلبه، وكان يحفظ ألف ألف حديث، قال الشافعي: خرجت من بغداد وما خلفت بها أحدا أتقى وأورع ولا أفقه ولا أعلم من أحمد بن حنبل، ودعي إلى القول بخلق القرآن فلم يجب، فضرب وحبس وهو مصر على الامتناع، وكان ضربه في العشر الأخير من شهر رمضان سنة عشرين ومائتين، وكان حبسه أيام المعتصم ثمانية وعشرين شهرا، ثم عرف المتوكل قدره وأكرمه وقدره، وألف المسند الكبير، أعظم المسانيد وأحسنها وضعا وانتقادا، انتقاه من أكثر من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألف حديث، ومناقبه كثيرة، وفضائله جمة، وله كرامات جليلة، وقد طول المؤرخون ترجمته، وترجمه الذهبي في النبلاء في مقدار خمسين ورقة، وأفردت ترجمته بمصنفات مستقلة بسيطة، قال الذهبي في التذكرة: سيرة أبي عبدالله – يعني الإمام أحمد – قد أفردها البيهقي في مجلد، وأفردها ابن الجوزي في مجلد، وأفردها شيخ الإسلام الأنصاري في مجلد لطيف – انتهى. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج1: ص75): لم يسق المؤلف – يعني مصنف التهذيب – قصة المحنة، وقد استوفاها ابن الجوزي في مناقبه في مجلد، وقبله شيخ الإسلام الهروي، وترجمته في تاريخ بغداد للخطيب (ج4: 412-423) مستوفاة – انتهى. قال ابن خلكان: وحرز من حضر جنازته من الرجال فكانوا ثمانمائة ألف، ومن النساء ستين ألفا، وقال أبوالحسن بن الزاغوني: كشف قبر أحمد حين دفن الشريف أبوجعفر بن أبي موسى إلى جانبه فوجد كفنه صحيحا لم يبل، وجنبه لم يتغير، وذلك بعد موته بمائتين وثلاثين سنة. (وأبي عيسى

(1/27)


محمد بن عيسى) بن سورة بن الضحاك السلمي الضرير البوغي (الترمذي) نسبة إلى ترمذ، واختلف في ضبطها كثيرا، والمعروف المشهور على الألسنة كسر التاء والميم وبينهما راء ساكنة بوزن "إثمد" كما ضبطها صاحب القاموس، قال السمعاني في الأنساب (ورقة 105): والناس مختلفون في كيفية هذه النسبة، بعضهم يقول بفتح التاء المنقوطة بنقطتين من فوق، وبعضهم يقول بكسرها، والمتداول على لسان تلك البلدة - وكنت أقمت بها اثني عشر يوما - فتح التاء وكسر الميم، والذي كنا نعرفه قديما كسر التاء والميم جميعا، والذي يقوله المتنوقون وأهل المعرفة بضم التاء والميم، وكل واحد يقول معنى لما يدعيه - انتهى. وقال الذهبي في التذكرة (ج1: ص188): قال شيخنا ابن دقيق العيد: وترمذ بالكسر هو المستفيض على الألسنة حتى يكون كالمتواتر، وهذه البلدة ترمذ قال السمعاني: مدينة قديمة على طرف نهر بلغ الذي يقال له جيحون، ولد سنة 209هـ، كتبه نصا العلامة الشيخ محمد عابد السندي المتوفى سنة 1257هـ بخطه على نسخة من
كتاب الترمذي المكتوبة سنة 1221هـ المصححة المقابلة على أصل صحيح معتمد، ذكره العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر في مقدمة تعليقه على الترمذي (77) قال: ولعله نقل ذلك استنباطا من كلام غيره من المتقدمين، وقد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/28)


صرح بذلك أيضا جسوس والبيجوري في شرحهما على الشمائل، وقد ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال أنه مات في رجب سنة 279هـ، وقال: وكان من أبناء السبعين، وقال القاري في شرح الشمائل بعد أن ذكر وفاته سنة 279هـ: وله سبعون سنة، وقال الصلاح الصفدي في نكت الهميان: ولد سنة بضع ومائتين، وقال ابن الأثير في جامع الأصول: ولد في ذي الحجة سنة مائتين(1)، فالله أعلم بصحة ذلك، والأكثر على أنه توفي ليلة الاثنين الثالث عشر من رجب سنة 279هـ، وقيل سنة 275هـ، وقيل سنة 277هـ، والصواب الأول، وهو – رحمه الله – أحد الأئمة الحفاظ الأعلام المبرزين الذين يقتدى بهم في علم الحديث، صنف الجامع والتواريخ والعلل تصنيف رجل عالم متقن، كان يضرب به المثل في الحفظ، قد امتحنه بعض المحدثين بأن قرأ له أربعين حديثا من غرائب حديثه، فأعادها من صدره فقال: ما رأيت مثلك. ونقل الحاكم أبوأحمد عن عمر بن علك أنه قال: مات البخاري فلم يخلف بخراسان مثل أبي عيسى في العلم والحفظ والورع والزهد، بكى حتى عمي وبقي ضريرا سنين، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان ممن جمع وصنف وحفظ وذاكر، وقال أبوالفضل البيلماني: سمعت نصر بن محمد الشيركوهي يقول: سمعت محمد بن عيسى الترمذي يقول: قال لي محمد بن إسماعيل - يعني البخاري-: ما انتفعت بك أكثر مما انتفعت بي، وقال ابن خلكان: وهو تلميذ أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، وشاركه في بعض شيوخه، مثل قتيبة بن سعيد، وعلي بن حجر، وابن بشار وغيرهم، وقال الشيخ أحمد المصري في مقدمة تعليقه: الترمذي تلميذ البخاري وخريجه، وعنه أخذ علم الحديث، وتفقه فيه، ومرن بين يديه، وسأله، واستفاد منه، وناظره فوافقه وخالفه كعادة هؤلاء العلماء في اتباع الحق حيث كان، وفي إنكار التقليد والإعراض عنه، وقد طاف البلاد وسمع خلقا
__________
(1) كذا نقله شيخنا في مقدمة شرح الترمذي (ص167) ، والذي في جامع الأصول طبعة مصر (ج1: ص114): ولد سنة تسع ومائتين.

(1/29)


من الخراسانيين والعراقيين والحجازيين كما في التهذيب، والرواة عنه كثيرون، ذكر بعضهم في تذكرة الحفاظ وفي التهذيب، وأهمهم عندنا ذكرا المحبوبي راوي كتاب الجامع عنه، ترجم له ابن العماد في شذرات الذهب (ج2: ص373) فقال: أبوالعباس المحبوبي محمد بن أحمد بن محبوب المروزي، محدث مرو وشيخها ورئيسها، توفي في رمضان سنة 346هـ، وله سبع وسبعون سنة، روى جامع الترمذي عن مؤلفه، وروى عن سعيد بن مسعود صاحب النضر بن شميل وأمثاله. ووصفه السمعاني في الأنساب (ورقة 511): شيخ أهل الثروة من التجار بخراسان وإليه كانت الرحلة، وقد أراد البخاري أن يشهد لتلميذه الترمذي شهادة قيمة فسمع منه حديثا واحدا كعادة كبار الشيوخ في سماعهم ممن هو أصغر منهم - انتهى كلام الشيخ أحمد مختصرا. قلت: بل سمع البخاري من الترمذي حديثين، ذكر أحدهما في تفسير سورة الحشر، والثاني في مناقب علي، وقال المصنف: وللترمذي تصانيف كثيرة في علم الحديث، وهذا كتابه الصحيح أحسن الكتب وأكثرها فائدة وأحسنها ترتيبها وأقلها تكرارا، وفيه ما ليس في غيره من ذكر المذاهب ووجوه الاستدلال وتبيين أنواع الحديث من الصحيح والحسن والغريب، وفيه جرح وتعديل، وفي آخر كتاب العلل، وقد جمع فيه فوائد حسنة لا يخفى قدرها على من وقف عليها(1). وارجع للبسط والتفصيل إلى مقدمة تحفة الأحوذي شرح
وأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، وأبي عبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) وكتاب العلل هذا الملحق بكتاب الجامع (سنن الترمذي) معروف بالعلل الصغير ، وقد شرحه ابن رجب الحنبلي المتوفى سنة 795 ، وطبع هذا الشرح في بغداد سنة 1396هـ بتحقيق السيد صحبي جاسم الحميدي البدري السامرائي ، وللترمذي أيضا كتاب العلل الكبير ، ذكره ابن النديم في الفهرست ص(339) قال السيد صبحي: لم أقف عليه ولعله فقد .

(1/30)


جامع الترمذي، وإلى مقدمة تعليق الترمذي للشيخ أحمد محمد شاكر المصري (وأبي داود سليمان بن الأشعث) بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو بن عمران الأزدي (السجستاني) بكسر السين المهملة وتفتح وبكسر الجيم وسكون السين الثانية بعدها تاء مثناة من فوقها وبعد الألف نون، نسبة إلى سجستان معرب سيستان الأقليم المشهور بين خراسان وكرمان، ويقال في النسبة إلى سجستان: "سجزي" أيضا، وقد نسب أبوداود وغيره كذلك، وهو عجيب التغير في النسب، ولد سنة 202هـ، وتوفي بالبصرة يوم الجمعة منتصف شوال سنة 275هـ عن ثلاث وسبعين سنة. وهو الإمام الثبت أحد حفاظ الحديث وعلله، وفي الدرجة العليا من النسك والصلاح وعلم الفقه والورع والإتقان، أحد من رحل وطوف البلاد وجمع وصنف وسمع بخراسان والعراق والجزيرة والشام والحجاز ومصر، وقدم بغداد مرارا، ثم نزل البصرة وسكنها، وأخذ عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وقتيبة بن سعيد وعبدالله بن مسلمة ومسدد بن مسرهد ومحمد بن بشار وغير هؤلاء أئمة الحديث ممن لا يحصى كثرة. وحدث عنه ابنه أبوبكر عبدالله بن أبي داود، وكان من أكابر الحفاظ ببغداد عالما متفقا عليه إمام بن إمام، وحدث عنه أيضا أبوعيسى الترمذي صاحب الجامع، وأبوعبدالرحمن النسائي صاحب السنن المشهورة، وأحمد بن محمد الخلال، وروى عنه شيخه أحمد بن حنبل فرد حديث أي حديث العتيرة، كان أبوداود يفتخر بذلك، وروى عنه خلق سوى هؤلاء، قال أبوبكر الخلال: أبوداود هو الإمام المقدم في زمانه، رجل لم يسبقه إلى معرفته بتخريج العلوم وبصره بمواضعه أحد في زمانه، وقال ابن حبان: أبوداود أحد أئمة الدنيا فقها وعلما وحفظا ونسكا وورعا وإتقانا، وقال الحافظ موسى بن هارون: خلق أبوداود في الدنيا للحديث وفي الآخر للجنة، وما رأيت أفضل منه، قال أبوداود: كتبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب، جمعت فيه أربعة آلاف حديث

(1/31)


وثمان مائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه وما يقاربه، وقال: ما ذكرت فيه حديثا أجمع الناس على تركه، وعرض كتابه هذا على شيخه أحمد بن حنبل فاستجاده واستحسنه، وارجع للبسط إلى تاريخ بغداد (ج9: ص55-59)، والتهذيب (ج4: 169-173)، والتذكرة (ج2: 168-170)، وبستان المحدثين، وإتحاف النبلاء (256-257)، وغير ذلك من كتب التواريخ والتراجم. (وأبي عبدالرحمن أحمد بن شعيب) بن علي بن سنان بن بحر بن دينار الحافظ الإمام القاضي صاحب السنن المشهورة (النسائي) نسبة إلى نسأ - بفتح النون والسين المهملة وبعدها همزة يعني بالقصر -، وهي مدينة بخراسان، وقال صاحب مجمع البحار في المغني: النسائي بنون مفتوحة وخفة سين مهملة ومد وهمزة نسبة إلى نسأ، مدينة بخراسان، وكذا ضبطه طاش كبرى زاده، قال شيخنا في مقدمة شرحه الجامع الترمذي (ص65): النسائي بالمد والنسائي بالقصر كلاهما صحيح، فإن الظاهر أن مدينة نساء التي هي بخراسان يقال لها نساء ونسأ بالوجهين انتهى. ولد سنة 214هـ أو سنة 215هـ أو سنة 221هـ على اختلاف الأقوال، والراجح هو القول الثاني، وتوفي برملة من أرض فلسطين، وقيل: بمكة يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من صفر، وقيل: من شعبان سنة 303. قال الذهبي في مختصره:

(1/32)


عاش ثمان وثمانين سنة. قال الحافظ: وكأنه بناه على ما تقدم من مولده فهو تقريب - انتهى. وهو - رحمه الله - أحد الأئمة الحفاظ العلماء الفقهاء، لقي المشايخ الكبار، وأخذ الحديث عن قتيبة بن سعيد وهناد بن السري ومحمد بن بشار وعلي بن حجر ومحمود بن غيلان وأبي داود سليمان بن الأشعث وغير هؤلاء من المشايخ الحفاظ، وأخذ عنه الحديث خلق كثير، ومنهم الطبراني والطحاوي وأبوبكر بن السني الحافظ، وله كتب كثيرة في الحديث والعلل وغير ذلك، قال أبوالحسين بن المظفر: سمعت مشايخنا بمصر يعترفون لأبي عبدالرحمن النسائي بالتقدم والإمامة، ويصفون من اجتهاده في العبادة بالليل والنهار ومواظبته على الحج والجهاد وإقامته السنن المأثورة واحترازه عن مجالس السلطان، وإن ذلك لم يزل دأبه إلى أن استشهد، وقال الحاكم: سمعت عمرو بن علي الحافظ غير مرة يقول: أبوعبدالرحمن مقدم على كل من يذكر بهذا العلم من أهل عصره، وقال مرة: سمعت عمرو بن علي يقول: النسائي أفقه مشايخ مصر في عصره، وأعرفهم بالصحيح والسقيم، وأعلمهم بالرجال، فلما بلغ هذا المبلغ حسدوه، فخرج إلى الرملة، فسئل عن فضائل معاوية فأمسك عنه، فضربوه في الجامع، فقال: أخرجوني إلى مكة، فأخرجوه وهو عليل، وتوفي مقتولا شهيدا، وقال: أما كلام أبي عبدالرحمن على فقه الحديث فأكثر من أن يذكر، ومن نظر في كتابه السنن تحير، قال السيد جمال الدين المحدث: صنف النسائي في أول الأمر كتابا يقال له السنن الكبير للنسائي، وهو كتاب جليل لم يكتب مثله في جمع طرق الحديث وبيان مخرجه، وبعده اختصره وسماه بالمجتنى - بالنون -، وسبب اختصاره أن أحدا من أمراء زمانه سأله أن جميع أحاديث كتابك صحيح ؟ فقال في جوابه: لا، فأمره الأمير بتجريد الصحاح وكتابة صحيح مجرد، فانتخب منه المجتنى، وكل حديث تكلم في إسناده أسقطه منه، فإذا أطلق المحدثون بقولهم "رواه النسائي" فمرادهم هذا المختصر المسمى بالمجتنى، لا الكتاب

(1/33)


الكبير، كذا في المرقاة، وقال ابن الأثير (ج1: ص116): وسأله بعض الأمراء عن كتابه السنن أكله صحيح ؟ فقال: لا، قال: فاكتب لنا الصحيح منه مجردا، فصنع المجتبى، فهو المجتبى من السنن، ترك كل حديث أورده في السنن (الكبيرة) مما تكلم في إسناده بالتعليل، رواه ابن عساكر، وسماه المجتنى بالنون أو الباء والمعنى قريب، والأشهر هو الأخير، وإذا أطلق أهل الحديث على أن النسائي روى حديثا فإنما يريدون المجتبى لا السنن الكبرى، وهي إحدى الكتب الستة، قال الحافظ أبوعلي: للنسائي شرط في الرجال أشد من شرط مسلم، وكذلك الحاكم والخطيب كانا يقولان: إنه صحيح، وإن له شرطا في الرجال أشد من شرط مسلم، لكن قولهم غير مسلم، قال البقاعي في شرح الألفية عن ابن كثير: إن في النسائي رجالا مجهولين إما عينا أو حالا، وفيهم المجروح، وفيه أحاديث ضعيفة ومعللة ومنكرة، وقال الشوكاني: وله مصنفات كثيرة في الحديث والعلل، منها السنن، وهي أقل السنن الأربع بعد الصحيح حديثا ضعيفا، قال الذهبي والتاج السبكي: إن النسائي أحفظ من مسلم صاحب الصحيح، هذا ملتقط من مقدمة تحفة الأحوذي (64-65)، والتذكرة (ج2: 266-269)، والتهذيب (ج1: 37-39)، وإتحاف النبلاء (189-190)، وبستان المحدثين، هذا وقد ادعى الشيخ تقي النقي العلامة عبدالصمد شرف الدين في مقدمته القيمة للسنن الكبرى (17-19) أن حكاية ابن
وأبي عبدالله محمد بن يزيد ابن ماجه القزويني،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/34)


الأثير المذكورة كذب وزور، ولنا في كلامه نظر لا يخفى على الباحث المتأمل. (وأبي عبدالله محمد بن يزيد ابن ماجه) بفتح الميم وتخفيف الجيم وبينهما ألف وفي الآخر هاء ساكنه لا تاء مربوطة (القزويني) بفتح القاف وسكون الزاي وكسر الواو وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون، نسبة إلى قزوين وهي من أشهر مدن عراق العجم، كانت ولادته سنة 209هـ، وتوفي يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء لثمان بقين من شهر رمضان سنة273هـ، وله أربع وستون سنة، وهو الحافظ الكبير المشهور المفسر أبوعبدالله محمد بن يزيد ابن ماجه الربعي بالولاء (نسبة إلى ربيعة) القزويني، مصنف كتاب السنن في الحديث، كان إماما في الحديث عارفا بعلومه وجميع ما يتعلق به، ارتحل إلى العراق والبصرة والكوفة وبغداد ومكة والشام ومصر والري لكتب الحديث، وله تفسير القرآن الكريم، وتاريخ مليح، وكتابه في الحديث أحد الصحاح الستة. قال الخليلي: ثقة كبير متفق عليه محتج به، له معرفة بالحديث وحفظ، وله مصنفات في السنن والتفسير والتاريخ، قال: وكان عارفا بهذا الشأن، سمع أصحاب مالك والليث. وعنه أبوالحسن القطان وخلق سواه، قال السندي في مقدمة تعليقه على سنن ابن ماجه: قد اشتمل هذا الكتاب من بين الكتب الست على شؤون كثيرة انفرد بها عن غيره. والمشهور أن ما انفرد به يكون ضعيفا، وليس بكلي، لكن الغالب كذلك، ولقد ألف الحافظ الحجة العلامة أحمد بن أبي بكر البوصيري في زوائده تأليفا نبه على غالبها. وقال السيوطي في حاشية الكتاب: قال الحافظ نقلا عن الرافعي أنه قال: سمعت والدي يقول: عرض كتاب السنن لابن ماجه على أبي زرعة الرازي فاستحسنه، وقال: لم يخطئ إلا في ثلاثة أحاديث، وقال في حاشية النسائي نقلا عن غيره: إن ابن ماجه قد انفرد بإخراج أحاديث عن رجال متهمين بالكذب ووضع الأحاديث، وبعض تلك الأحاديث لا تعرف إلا من جهتهم، مثل حبيب بن أبي حبيب كاتب مالك، والعلاء بن زيد، وداود بن

(1/35)


المحبر، وعبدالوهاب بن الضحاك، وإسماعيل بن زياد السكوني وغيرهم، وأما ما حكاه ابن طاهر عن أبي زرعة الرازي أنه نظر فيه فقال: لعله لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثا مما فيه ضعف، فهي حكاية لا تصح لانقطاع سندها، وإن كانت محفوظة فلعله أراد ما فيه من الأحاديث الساقطة إلى الغاية، أو أراد من الكتاب بعضه، ووجد فيه هذا القدر، وقد حكم أبوزرعة على أحاديث كثيرة منه بكونها باطلة أو ساقطة أو منكرة، وذلك محكي في كتاب العلل لأبي حاتم - انتهى. قال السندي: وبالجملة فهو دون الكتب الخمسة في المرتبة، فلذلك أخرجه كثير من عده في جملة الصحاح الستة، لكن غالب المتأخرين على أنه سادس الستة - انتهى. وقال الذهبي : سنن أبي عبدالله كتاب حسن، لولا ما كدر من أحاديث واهية ليست بالكثيرة، قال أبوالحسن القطان صاحب ابن ماجه: في السنن ألف وخمس مائة باب، وجملة ما فيها أربعة آلاف حديث، وقال ابن الأثير: كتابه كتاب مفيد قوي النفع في الفقه لكن فيه أحاديث ضعيفة جدا بل منكرة، حتى نقل عن المزي أن الغالب فيما تفرد به - يعني بذلك ما انفرد به من الحديث عن الأئمة الخمسة - الضعف، ولذا لم يضفه غير واحد إلى الخمسة بل جعلوا السادس الموطأ، وفيه عدة أحاديث ثلاثيات من طريق جبارة بن المغلس، وفيه حديث في فضل قزوين منكر بل موضوع،
وأبي محمد عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/36)


ولذا طعنوا فيه، وفي مصنفه، وواضعه رجل اسمه ميسرة، قال الحافظ في التهذيب (ج9: ص531): كتابه في السنن جامع جيد كثير الأبواب والغرائب، وفيه أحاديث ضعيفة جدا حتى بلغني أن السري كان يقول: مهما انفرد بخبر فيه فهو ضعيف غالبا، وليس الأمر في ذلك على إطلاقه باستقرائي، وفي الجملة ففيه أحاديث كثيرة منكرة، ونقل القاري عن الحافظ أنه قال: وأول من أضاف ابن ماجه إلى الخمسة الفضل بن طاهر حيث أدرجه معها في أطرافه، وكذا في شروطه الأئمة الستة، ثم الحافظ عبدالغني في كتاب الإكمال في أسماء الرجال الذي هذبه الحافظ المزي، وقدموه على الموطأ لكثرة زوائده على الخمسة بخلاف الموطأ، انتهى. تنبيه: اختلف في ماجه فقيل: إنه لقب والد محمد بن يزيد، وقيل: إنه اسم أمه، قال القاري في المرقاة ما لفظه: بإثبات ألف يعني في ابن ماجه خطا، فإنه بدل من ابن يزيد، ففي القاموس: ماجه لقب والد محمد بن يزيد صاحب السنن لا جده، وفي شرح الأربعين: أن ماجه اسم أمه – انتهى. وقال صاحب الحطة: والصحيح أن ماجه أمه، وعلى كلا القولين يكتب الألف على لفظ ابن في الرسم ليعلم أنه وصف لمحمد لا لما يليه، فهو مثل عبدالله بن مالك ابن بحينة، وإسماعيل بن إبراهيم ابن علية، وفي إنجاح الحاجة: "ماجه" على ما ذكر المجد في القاموس، والنووي في تهذيب الأسماء، لقب والده لا جده – انتهى. والصحيح هو الأول – انتهى ما في الحطة -. قال في تاج العروس شرح القاموس (ج2: ص102) ما لفظه: "ماجه" بسكون الهاء كما جزم به الشمس بن خلكان: لقب والد محمد بن يزيد القزويني صاحب السنن لا جده – أي لا لقب جده – كما زعمه بعض. قال شيخنا: وما ذهب إليه المصنف فقد جزم به أبوالحسن القطان، ووافقه على ذلك هبة ا لله بن زاذان وغيره، قالوا: وعليه فيكتب ابن ماجه بالألف لا غير. وهناك قول آخر ذكره جماعة وصححوه وهو أن ماجه اسم لأمه – انتهى. (وأبي محمد عبدالله بن عبدالرحمن) بن فضل بن بهرام بن

(1/37)


عبدالصمد التميمي السمرقندي (الدارمي) بكسر الراء المهملة - نسبة إلى دارم بن مالك بطن كبير من تميم. ولد سنة 181هـ، وتوفي يوم التروية ودفن يوم عرفة، وقيل: مات يوم الخميس يوم عرفة ودفن يوم الجمعة للعاشر من ذي الحجة سنة 255هـ، وله من العمر أربع وسبعون سنة، وهو الإمام الحافظ شيخ الإسلام عالم سمرقند صاحب المسند المشهور، وهو على الأبواب لا على الصحابة على خلاف اصطلاح المحدثين. سمع النضر بن شميل ويزيد بن هارون وجعفر بن عون وطبقتهم بالحرمين وخراسان والشام والعراق ومصر. وحدث عنه مسلم وأبوداود والترمذي وعبدالله بن الإمام أحمد والنسائي خارج سننه وآخرون، وقال الخطيب: كان أحد الحفاظ والرحالين، موصوفا بالثقة والصدق والورع والزهد، استقضى على سمرقند فأبى فألح عليه السلطان فقضى بقضيه واحدة ثم استعفى فأعفي – إلى أن قال: وكان على غاية العقل وفي نهاية الفضل، يضرب به المثل في الديانة والحلم والاجتهاد والعبادة والتقلل. صنف المسند والتفسير وكتاب الجامع. قال أحمد بن حنبل وذكر الدارمي: عرضت عليه الدنيا فلم يقبل. وقال أبوحاتم بن حبان: كان من الحفاظ المتقنين وأهل الورع في الدين ممن حفظ وجمع وتفقه وحدث، وأظهر
وأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني، وأبي بكر بن الحسين البيهقي،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/38)


السنة في بلده ودعا إليها وذب عن حريمها وقمع من خالفها، وقال الحاكم أبوعبدالله: كان من حفاظ الحديث المبرزين، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: إمام أهل زمانه، وارجع لكشف حال مسنده وبيان مرتبته إلى تدريب الراوي (57)، ومقدمة المشكاة في مصطلح الحديث للشيخ الدهلوي، وثبت الشيخ محمد عابد السندي، وتوضيح الأفكار للأمير الصنعاني. (وأبي الحسن علي بن عمر) بن أحمد بن مهدي البغدادي الحافظ الشهير صاحب السنن (الدارقطني) بالدال المهملة بعدها ألف ثم راء مهملة مفتوحة وقاف مضمومة وطاء مهملة ساكنة وفي آخرها نون - منسوب إلى دار القطن محلة كبيرة كانت ببغداد قديما. ولد سنة 305هـ أو سنة 306هـ، ومات يوم الأربعاء لثمان خلون من ذي القعدة سنة 385هـ، وله ثمانون سنة. قال الذهبي في التذكرة (ج3: ص199-202): سمع البغوي وابن أبي داود وابن صاعد وابن دريد وخلائق ببغداد والبصرة والكوفة وواسط، وارتحل في كهولته إلى مصر وشام، وصنف التصانيف، حديث عنه الحاكم وأبوحامد الأسفرائني وتمام الرازي والحافظ عبدالغني الأزدي وأبوبكر البرقاني وأبوذر الهروي وأبونعيم الأصبهاني – صاحب حلية الأولياء – وأبومحمد الخلال والقاضي أبوالطيب الطبري وأبومحمد الجوهري وأمم سواهم. قال الحاكم: صار الدارقطني أوحد عصره في الحفظ والفهم والورع وإماما في القراء والنحويين. وأقمت في سنة سبع وستين ببغداد أربعة أشهر، وكثر اجتماعنا فصادفته فوق ما وصف لي، وسألته عن العلل والشيوخ، وله مصنفات يطول ذكرها، فأشهد أنه لم يخلف على أديم الأرض مثله. وقال الخطيب: كان فريد عصره وإمام وقته، وانتهى إليه علم الأثر والمعرفة بالعلل وأسماء الرجال مع الصدق والثقة وصحة الاعتقاد والأخذ من علوم كالقراءات، فإن له فيها مصنفا سبق فيه إلى عقد الأبواب قبل فهرس الحروف، وتأسى القراء به بعده، ومن ذلك المعرفة بمذاهب الفقهاء، بلغني أنه درس الفقة على أبي سعيد الأصطخري، ومنها المعرفة بالآداب

(1/39)


والشعر فقيل: كان يحفظ دواوين جماعة، منها ديوان السيد الحميري، ولهذا نسب إلى التشيع، قال ابن الذهبي: ما أبعده من التشيع، قال القاضي أبوالطيب الطبري: الدارقطني أمير المؤمنين في الحديث، قال الذهبي: إذا شئت أن تبين براعة هذا الإمام فطالع العلل له فإنك تندهش ويطول تعجبك – انتهى ما في التذكرة مختصرا ملخصا. وارجع للتفصيل إلى إتحاف النبلاء (316-317)، وتاريخ ابن لخكان (ج1: ص331)، وبستان المحدثين (48-49). (وأبي بكر أحمد بن الحسين) بن علي بن عبدالله بن موسى الخسروجردي (البيهقي) نسبة لبيهق بموحدة مفتوحة ومثناة تحتية ساكنة وهاء مفتوحة فقاف، وهي قرية مجتمعة بنواحي نيسابور على عشرين فرسخا منها، ولد بخسروجرد – قرية من قراها – في شعبان سنة 384هـ، وتوفي في العاشر من جمادى الأولى سنة 458هـ بنيسابور، وله من العمر أربع وسبعون سنة، ونقل إلى بيهق ودفن بخسروجرد، وقال أبوالحسن عبدالغافر في ذيل تاريخ نيسابور: أبوبكر البيهقي الفقيه الحافظ الأصولي الدين الورع، واحد زمانه في الحفظ وفرد أقرانه في الإتقان والضبط، من كبار أصحاب الحاكم (أبي عبدالله بن البيع في
وأبي الحسين رزين بن معاوية العبدري،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/40)


الحديث)، ويزيد عليه بأنواع من العلوم، كتب الحديث وحفظه من صباه وتفقه وبرع وأخذ في الأصول وارتحل إلى العراق والجبال والحجاز ثم صنف، وتواليفه تقارب ألف جزء ما لم يسبقه إليه أحد، وجمع بين علم الحديث والفقه وبيان علل الحديث ووجه الجمع بين الأحاديث، طلب منه الأئمة الانتقال من الناحية إلى نيسابور لسماع الكتب، فأتى في سنة إحدى وأربعين وأعدوا له المجلس لسماع كتب المعرفة، وحضره الأئمة، وكان على سيرة العلماء قانعا باليسير. قال الذهبي: ولم يكن عنده سنن النسائي ولا جامع الترمذي ولا سنن ابن ماجه، بلى كان عنده الحاكم فأكثر عنه، وعدنه عوال، وبورك له في عمله لحسن مقصده وقوة فهمه وحفظه، وعمل كتبا لم يسبق إلى تحريرها، منها الأسماء والصفات مجلدان، والسنن الكبير عشر مجلدات، ومعرفة السنن والآثار أربع مجلدات، وشعب الإيمان مجلدان، ودلائل النبوة ثلاث مجلدات، والسنن الصغير مجلدان، والزهد مجلد، والبعث مجلد، والدعوات مجلد، ونصوص الشافعي ثلاث مجلدات، والمدخل مجلد، والترغيب والترهيب مجلد، ومناقب الشافعي، ومناقب أحمد، وكتب عديدة لا أذكرها، قال إمام الحرمين أبوالمعالي: ما من شافعي إلا وللشافعي عليه منة إلا أبابكر البيهقي فإن له منة على الشافعي لتصانيفه في نصرة مذهبه، سمع أباعبدالله الحاكم وأبابكر بن فورك وأباعلي الروذباري وخلقا بخراسان وبغداد والكوفة، وحدث عنه شيخ الإسلام أبوإسماعيل الأنصاري بالإجازة وولده إسماعيل بن أحمد وأبوعبدالله الفزاري وخلق كثير – انتهى كلام الذهبي مختصرا، وقد بسط ترجمته في إتحاف النبلاء (190-191)، وبستان المحدثين (54-55). (وأبي الحسن رزين) بفتح الراء وكسر الزاي، ابن معاوية السرقسطي (العبدري) بفتح العين المهملة وسكون الموحدة وفتح الدال المهملة وبالراء المخففة - منسوب إلى عبدالدار بن قصي بطن من قريش، وهذه النسبة على خلاف قواعد النسبة، وهو الذي جمع الكتب الستة في كتابه تجريد

(1/41)


الصحاح الستة، وهو أكبر الكتب الذي رآها ابن الأثير الجزري وأعمها، حيث حوى الكتب الستة التي هي أم كتب الحديث وأشهرها، لكن قد أودع فيه أحاديث في أبواب غير تلك الأبواب أولى بها، وكرر فيه أحاديث كثيرة وترك أكثر منها، وفيه أيضا أحاديث كثيرة لا توجد في كتب أصول الستة، وقد اعتمد في ترتيب كتابه هذا على أبواب البخاري، وذكر فيه أيضا أقوال التابعين والأئمة سيما فقه مالك، كما يظهر من كلام ابن الأثير في مقدمة كتابه جامع الأصول لأحاديث الرسول، قال الشوكاني في الفوائد المجموعة (19): لقد أدخل رزين بن معاوية العبدري في كتابه الذي جمع بين دواوين الإسلام بلايا وموضوعات لا تعرف ولا يدرى من أين جاء بها، وذلك خيانة المسلمين، وقد أخطأ ابن الأثير خطأ بينا بذكر ما زاده رزين في جامع الأصول، ولم ينبه على عدم صحته في نفسه إلا نادرا كقوله بعد ذكر هذه الصلاة أي صلاة الرغائب المشهورة التي اتفق الحفاظ على أنها موضوعة ما لفظه: هذا الحديث مما وجدته في كتاب رزين ولم أجده في واحد من الكتب الستة، والحديث مطعون فيه – انتهى كلام الشوكاني، قال المؤلف في الإكمال، وطاش كبرى زاده في مفتاح السعادة (ج2: ص12): مات رزين بعد العشرين
وغيرهم، وقليل ما هو. وإني إذا نسبت الحديث إليهم كأني أسندت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنهم قد فرغوا منه، وأغنونا عنه، وسردت الكتب والأبواب كما سردها، واقتفيت أثره فيها، وقسمت كل باب غالبا على فصول ثلاثة: أولها ما أخرجه الشيخان أو أحدهما،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/42)


وخمس مائة، وقال العلامة القنوجي البوفالي في الإتحاف (35): توفي سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، فالله أعلم، (وغيرهم) بالجر عطفا على أبي عبدالله، وقيل: بالرفع، عطفا على "مثل"، (وقليل ما) ما زائدة إبهامية تزيد الشيوع والمبالغة في القلة (هو) أي غيرهم والإفراد للفظ (غيرهم) وهو مبتدأ، خبره "قليل" يعني غير الأئمة الثلاثة عشر المذكورين قليل، كالنووي وابن حبان وابن عبدالبر وغيرهم، ولما قال فيما قدمه "فأعلمت ما أغفله" استشعر اعتراضا بأن الإعلام الحقيقي إنما هو بإيراد الإسناد الكلي ليترتب عليه معرفة رجاله التي يتوقف عليها الحكم بصحة الحديث وحسنه وضعفه وسائر أحواله، وأيضا كان طعن بعض النقاد على صاحب المصابيح من جهة ترك ذكر الإسناد وهو باق على حاله ؛ لأنه لم يتأت ذكر الإسناد بذكر أحد من المؤلفين، فاعتذر عن الإشكال، فقال: (وإني إذا نسبت) أي كل حديث (إليهم) أي إلى بعض الأئمة المذكورين المعروفة كتبهم بأسانيدهم (كأني أسندت) أي الحديث برجاله (إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي فيما إذا كان الحديث مرفوعا وهو الغالب ؛ (لأنهم قد فرغوا منه) أي من الإسناد الكامل بذكرهم على حد قوله: ?اعدلوا هو أقرب للتقوى? [ 5: 8]، (وأغنونا) بهمزة قطع، أي جعلونا في غنى وكفاية (عنه) أي عن ذكر الإسناد، وقال القاري: أي عن تحقيق الإسناد من وصله وقطعه ووقفه ورفعه وضعفه وحسنه وصحته ووضعه، ومن ثم لزم الأخذ بنص أحدهم على صحة السند أو الحديث أو على حسنه أو ضعفه أو وضعه، (وسردت الكتب والأبواب) أي أوردتها ووضعتها متتابعة ومتوالية (كما سردها) أي رتبها وعينها البغوي في المصابيح، (واقتفيت) أي اتبعت (أثره) بفتحتين، وقيل: بكسر الهمزة وسكون المثلثة، أي طريقة (فيها) أي في الكتب والأبواب من غير تقديم وتأخير وزيادة وتغيير، فإن ترتيبه على وجه الكمال وتبويبه في غاية من الحسن، (وقسمت) بالتخفيف (غالبا) أي في غالب الأحوال، وقيد

(1/43)


الغالبية بمعنى الأكثرية ؛ لأنه قد لا يوجد الفصل الأول أو الثاني أو الثالث أو الثاني والثالث كلاهما في بعض الأبواب كما يأتي (أولها) أي أول الفصول في هذا الكتاب بدل قول البغوي في المصابيح "من الصحاح" (ما أخرجه) أي رواه (الشيخان أو أحدهما) أي بزعم صاحب المصابيح لما سيأتي من قوله "وإن عثرت على اختلاف في الفصلين" أو المراد في الغالب، والنادر كالمعدوم، والمراد بالشيخين في اصطلاح المحدثين: البخاري ومسلم، والإخراج والتخريج هو إيراد المحدث الحديث بسنده في كتابه، ويقال له الرواية أيضا، فلا يقال في حق أحد ممن جمع الأحاديث في مؤلفاتهم ونقلوها من كتب الأصول الصحاح الستة والمسانيد والمعاجم والسنن وأمثالها كالبغوي في المصابيح والخطيب في المشكاة والحميدي في الجمع بين الصحيحين وابن الأثير في جامع الأصول والسيوطي في جمع
واكتفيت بهما وإن اشترك فيه الغير لعلو درجتهما في الرواية. وثانيها ما أورده غيرهما من الأئمة المذكورين. وثالثها ما اشتمل على معنى الباب من ملحقات مناسبة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/44)


الجوامع، والمناوي في الجامع الأزهر، والهيثمي في مجمع الزوائد، والروداني المغربي المالكي في جمع الفوائد وأمثالهم أنه أخرجه أو خرجه أو رواه في كتابه ؛ لأنه لم يرو هؤلاء تلك الأحاديث في كتبهم بأسانيدهم، بل نقلوها من الكتب المروية فيها مع ذكر الصحابة وذكر من خرجها من المحدثين، والفرق بين المخرج اسم فاعل والمخرج في قولهم في بعض الأحاديث "عرف مخرجه" أو "لم يعرف مخرجه" أن المخرج - بالتشديد أو التخفيف على صيغة اسم الفاعل - هو ذاكر الحديث على سبيل الرواية كالبخاري مثلا، وأما المخرج المذكور في القول المتقدم فهو – بفتح الميم والراء اسم مكان -، بمعنى محل خروجه، وهو الصحابي الراوي للحديث، أو رجاله الراوون له ؛ لأنه خرج منهم، وقد يطلق لفظ الإخراج أو التخريج على ذكر الحديث وإيراده مطلقا أي أعم من أن يذكره بسنده على سبيل الرواية، أو يذكره على سبيل النقل من الأصول مع ذكر المخرج أي الصحابي، والمخرج أي المحدث الذي رواه في كتابه، وعلى هذا يجوز أن يقال: خرجه أو أخرجه الخطيب في المشكاة، والهيثمي في مجمع الزوائد ونحو ذلك، فيكون الإخراج والتخريج أعم من الرواية، ثم رأيت الجزائري قال في توجيه النظر (142): أما المخرج – بفتح الميم – هو في الأصل بمعنى مكان الخروج، فأطلق على الموضع الذي ظهر منه الحديث، وهم الرواة الذين جاء عنهم، وأما التخريج فيطلق على معنيين: أحدهما إيراد الحديث بإسناده في كتاب أو إملاء، وأكثر ما تقع هذه العبارة للمغاربة، والأولى أن يقولوا: الإخراج كما يقوله غيرهم، الثاني: عزو الأحاديث إلى من أخرجها من الأئمة، ومنه قيل: "خرج فلان أحاديث كتاب كذا"، و"فلان له كتاب في تخريج أحاديث الإحياء"، ونحو ذلك – انتهى. وقد أطلق بعضهم لفظ الرواية على ذكر الحديث معلقا من غير سند، كما قال المجد بن تيمية في المنتقى وحفيده في فتاواه وابن قدامة في المغني والخطيب في المشكاة في حديث أبي هريرة الذي ذكره

(1/45)


مسلم تعليقا بلفظ: ((إذا قرئ فأنصتوا)) رواه مسلم. وهذا الإطلاق غير جيد عندي، بل غير صحيح، (واكتفيت بهما) أي بذكرهما في التخريج، (وإن اشترك) وصلية لا تطلب جزاء وجوابا (فيه لغير) أي في تخريج الحديث وروايته غيرهما من المحدثين كبقية الكتب الستة ونحوها (لعلو درجتهما) ورفعة شأنهما على سائر المخرجين مع الفرق بينهما (في الرواية) متعلق بالعلو أي في شرائط إسنادها والتزم صحتها ما لم يلتزمه غيرهما من المحدثين فلا يحتاج مع تخريجهما إلى ذكر رواية غيرهما الذين اشتركوا فيه في نفس صحة الحديث وإن كان لرواية الغير مدخل في تقوية الحديث وتأييده وتوكيده، لكن ما ذكرت الغير طلبا للاختصار، (وثانيها) أي الفصول، وهو المعبر عنه في المصابيح بقوله "الحسان" (على معنى الباب) أي على معنى عقد له الباب (من ملحقات) بفتح الحاء، ومن بيانية لما اشتمل (مناسبة) بكسر السين صفة لملحقات، والمراد بها زيادات ألحقها صاحب المشكاة على وجه
مع محافظة على الشريطة وإن كان مأثورا عن السلف والخلف، ثم إنك إن فقدت حديثا في باب فذلك عن تكرير أسقطه، وإن وجدت آخر بعضه متروكا على اختصاره أو مضموما إليه تمامه فعن داعي اهتمام أتركه وألحقه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/46)


المناسبة بكل كتاب وباب غالبا لزيادة الفائدة (مع محافظة على الشريطة) أي من إضافة الحديث إلى راويه من الصحابة والتابعين ونسبته إلى مخرجه من الأئمة المذكورين. ولما كان صاحب المصابيح ملتزما للأحادث المرفوعة في كتابه في الفصلين ولم يلتزم المصنف ذلك نبه عليه بقوله (وإن كان) أي المشتمل (مأثورا) أي منقولا ومرويا (عن السلف) المتقدمين وهم الصحابة (والخلف) أي المتأخرين وهم التابعون، يعني أنه لم يلتزم ذكر الأحاديث المرفوعة في ما زاد من الفصل الثالث، بل أورد فيه بعض ما روي من أقوال الصحابة والتابعين وأفعالهم المناسبة للباب أيضا، ومن المعلوم أنه يطلق عليه أيضا لفظ الحديث، واعلم أنه لم يذكر البغوي في المصابيح القسم الأول والثاني بعنوان الفصل، بل عبر الأول أي أحاديث الشيخين أو أحدهما بقوله "من الصحاح"، والثاني أي أحاديث غيرهما بقوله "من الحسان"، وهو اصطلاح حادث، ولا مشاحة فيه، وقد تقدم، وعبرهما صاحب المشكاة بالفصل الأول والثاني، وزاد الفصل الثالث من عند نفسه، وأورد الأحاديث فيه من الكتب المذكورة من الصحيحين وغيرهما، وذكر أيضا الآثار الموقوفة، والتزم ذكر الراوي من الصحابة والتابعين وذكر المخرج من الأئمة المحدثين، (ثم إنك إن فقدت حديثا) من ههنا شرع في بيان بعض تصرفاته في المصابيح، أي بعد ما ذكرت لك أيها الناظر في كتابي هذا أني التزمت متابعة صاحب المصابيح في كل باب إن فقدت من محله حديثا من أصله الذي هو المصابيح (في باب) مثلا أو في كتاب وما وجدته بالكلية (فذلك) الفقدان وعدم الوجد ليس صادرا عن سهو بل صدر (عن تكرير) أي عن تكرار وقع في المصابيح (أسقطه) أي لم أذكر الحديث في الباب الذي ذكره فيه في المصابيح ؛ لكونه وقع مكررا فحذفته لأجل التكرار، وذكرته في موضع آخر بعينه من غير تغيير، (وإن وجدت آخر) أي حديثا آخر (بعضه) بالنصب بدل من آخر (متروكا) حال (على اختصاره) الضمير فيه للحديث،

(1/47)


ويؤيده قوله (أو مضموما إليه تمامه) وقيل لمحي السنة، والأول أظهر فإنه حينئذ يكون الكلام على نسق واحد، وأما على الثاني فيحصل تفكيك الضمير ثم المعنى، أو وجدت حديثا آخر مضموما إليه تمامه الذي أسقطه البغوي أو أتى به في محل آخر (فعن داعي اهتمام) الفاء جزائية، أي فذلك الترك أو الضم لم يقع اتفاقا، وإنما صدر عن موجب اهتمام، وقيل: عن بمعنى اللام أي لأجل باعث اهتمام اقتضى أني (أتركه) على اختصاره في الأول (وألحقه) الواو بمعنى أو أي وألحقه في الثاني ؛ لفوات الداعي والباعث على اختصاره، فهو لف ونشر مرتب، والمعنى أنه قد يكون حديث اختصره الشيخ البغوي فأتركه أنا أيضا على اختصاره، وقد أضم
وإن عثرت على اختلاف في الفصلين من ذكر غير الشيخين في الأول وذكرهما في الثاني فاعلم أني بعد تتبعي كتابي الجمع بين الصحيحين للحميدي،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/48)


إليه بقية الحديث، وذلك لشيء يدعوني إلى تركه على اختصاره أو إلى ضم بقيته إليه، أما الداعي إلى تركه مختصرا فهو أن يكون جزء من حديث طويل مناسبا للباب دون باقي أجزائه، أو يكون حديث مشتملا على معان كثيرة يقتضي كل باب معنى من معانيه أي يكون جزء منه مناسبا لهذا الباب، وجزء آخر لباب آخر، وهكذا، وأورد الشيخ كلا في بابه فأقتفي أثره في الإيراد أي أختصره وأقتصر على جزء منه في هذا الباب، وأذكر جزء آخر في ذلك الباب، وما لم يكن على هذين الوصفين ألحقت معه بقيته، وإن ذكره الشيخ مختصرا، وحاصل المعنى أن بعض الروايات كان مختصرا عن حديث طويل وكان جزء منه مناسبا للباب دون باقي أجزائه، فتركه في المشكاة أيضا على الاختصار، وما كان يقتضي إتمام الحديث بجميع أجزائه أتمه في المشكاة، (وإن عثرت) اطلعت (على اختلاف) بيني وبين صاحب المصابيح (في الفصلين) الأول والثاني دون الثالث فإنه ليس محلا للخلاف، وبيان الاختلاف قوله (من ذكر غير الشيخين في الأول) أي في الحديث المذكور في الفصل الأول (وذكرهما في الثاني) من الفصلين بأن يسند بعض الأحاديث فيه إليهما أو إلى أحدهما (كتابي الجمع) تثنية مضاف أي كتابين أحدهما (الجمع بين الصحيحين) أي بين كتابي البخاري ومسلم المسمين بالصحيحين (للحميدي) متعلق بالجمع، وهو بالتصغير نسبة لجده الأعلى حميد الحافظ أبي عبدالله محمد بن أبي نصر فتوح بن عبدالله بن حميد بن يصل(1) الأزدي الأندلسي(2) الميورقي القرطبي، سمع بالأندلس ومصر والشام والعراق وسكن بغداد، وكان من كبار تلامذة ابن حزم، حدث عنه فأكثر، وعن أبي عبدالله القضاعي وأبي عمر ابن عبدالبر وأبي القاسم الجياني الدمشقي وأبي بكر الخطيب وغيرهم، ولم يزل يسمع ويكثر
__________
(1) بفتح الياء المثناة من تحتها وكسر الصاد المهملة وبعدها لام .
(2) نسبة إلى ميورقة بفتح الميم وضم المثناة من تحتها وسكون الواو وفتح الراء والقاف وبعدها هاء ساكنة .

(1/49)


ويجد حتى كتب عن أصحاب الجوهري وابن المذهب، سمع بإفريقية كثيرا ولقي بمكة كريمة المروزية راوية البخاري أول رحلته وكان في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، قال يحيى بن البناء: كان الحميدي من اجتهاده ينسخ بالليل في الحر، فكان يجلس في إجانة ماء يتبرد به، وقال الحسين بن محمد بن خسرو: جاء أبوبكر بن ميمون فدق على الحميدي وظن أنه قد أذن له فدخل فوجده مكشوف الفخذ، فبكى الحميدي، فقال: والله لقد نظرت إلى موضع لم ينظره أحد منذ عقلت، وقال يحيى بن إبراهيم السلماسي: قال أبي: لم تر عيناي مثل الحميدي في فضله ونبله وغزارة علمه وحرصه على نشر العلم، قال: وكان ورعا ثقة إماما في الحديث وعلله ورواته، متحققا في علم التحقيق والأصول على مذهب أصحاب الحديث بموافقة الكتاب والسنة، فصيح العبارة متبحرا في علم الأدب والعربية والترسل، وله كتاب الجمع بين الصحيحين وهو مشهور، وأخذه الناس عنه، وله أيضا تاريخ علماء الأندلس سماه "جذوة المقتبس" في مجلد واحد، ذكر في خطبته أنه كتبه من حفظه، وذكره
وجامع الأصول اعتمدت على صحيحي الشيخين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/50)


الأمير أبونصر علي بن ماكولا صاحب كتاب الإكمال فقال: أخبرنا صديقنا أبوعبدالله الحميدي، وهو من أهل العلم والفضل والتيقظ، وقال: لم أر مثله في عفته ونزاهته وورعه وتشاغله بالعلم، وقال القاضي عياض: أبوعبدالله الحميدي سمع بميورقة عن أبي محمد بن حزم قديما، وكان يتعصب له ويميل إلى قوله، وكان قد أصابته فيه فتنة علماء شددوا على ابن حزم، فخرج الحميدي إلى المشرق، قال الذهبي: روى عنه محمد بن علي الخلال وإسماعيل بن محمد الطلحي وشيخه أبوبكر الخطيب وآخرون، وكان صاحب حديث كما ينبغي علما وعملا، وكان ظاهريا ويسر ذلك بعض الأسرار – انتهى مختصرا. قال ابن الصلاح في الفائدة الرابعة من مقدمته: ويكفي وجوده في كتاب من اشترط الصحيح، وكذلك ما يوجد في الكتب المخرجة من تتمة لمحذوف أو زيادة شرح وكثير من هذا موجود في الجمع للحميدي، فربما نقل من لا يميز بعض ما يجده فيه عن الصحيحين أو أحدهما وهو مخطئ لكونه من تلك الزيادات التي لا وجود لها في واحد من الصحيحين. قال العراقي: وهذا مما أنكر على الحميدي ؛ لأنه جمع بين كتابين فمن أين تأتي الزيادة ؟ قال: واقتضى كلام ابن الصلاح أن الزيادات التي تقع في كتاب الحميدي لها حكم الصحيح، وليس كذلك ؛ لأنه ما رواه بسنده كالمستخرج ولا ذكر أنه يزيد ألفاظا واشترط فيها الصحة حتى يقلد في ذلك، قال الحافظ: قد اشار الحميدي إجمالا وتفصيلا إلى ما يبطل ما اعترض به عليه، أما إجمالا فقال في خطبة الجمع: وربما زدت زيادات من تتمات وشرح بعض ألفاظ الحديث ونحو ذلك، وقفت عليها في كتب من اعتنى بالصحيح كالإسماعيلي والبرقاني، وأما تفصيلا فعلى قسمين: جلي، وخفي، أما الجلي فيسوق الحديث، ثم يقول في أثنائه: "إلى هنا انتهت رواية البخاري، ومن هنا رواه البرقاني"، وأما الخفي فإنه يسوق الحديث كاملا أصلا وزيادة، ثم يقول: أما من أوله إلى كذا فرواه فلان، وما عداه زاده فلان، أو يقول: لفظة كذا زادها

(1/51)


فلان، ونحو ذلك، وإلى هذا أشار ابن الصلاح بقوله: "ربما نقل من لا يميز"، وحينئذ فلزيادته حكم الصحة لنقله لها عمن اعتنى بالصحيح، كذا في التدريب (33-34)، مات ببغداد ليلة الثلاثاء السابع عشر من ذي الحجة سنة 488هـ، وكان مولده قبل العشرين وأربعمائة، (وجامع الأصول) بالجر عطفا على الجمع أي والآخر جامع الأصول أي الكتب الستة للإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد المشهور بابن الأثير الجزري صاحب النهاية في غريب الحديث. كان عالما محدثا لغويا، روى عن خلق من الأئمة الكبار، كان بالجزيرة، وانتقل منها إلى الموصل سنة خمس وستين وخمسمائة، ولم يزل بها إلى أن قدم بغداد حاجا وعاد إلى الموصل، ومات بها يوم الخميس سلخ ذي الحجة سنة 606هـ، كذا في الإكمال، وقال ابن خلكان في تاريخه (ج1: ص441): قال أبوالبركات بن المستوفي في تاريخه في حقه: أشهر العلماء ذكرا، وأكبر النبلاء قدرا، وأحد الأفاضل المشار إليهم، وفرد الأماثل المعتمد في الأمور عليهم، أخذ النحو عن شيخه أبي محمد سعيد بن المبارك الدهان، وسمع الحديث متأخرا، ولم تتقدم روايته، وله المصنفات البديعة، منها: جامع الأصول في أحاديث الرسول، جمع فيه بين الصحاح الستة، وهو على وضع كتاب
ومتنيهما، وإن رأيت اختلافا في نفس الحديث فذلك من تشعب طرق الأحاديث،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/52)


رزين إلا أن فيه زيادات كثيرة عليه، ومنها: كتاب النهاية في غريب الحديث، وكتاب الشافي في شرح مسند الإمام الشافعي، وغير ذلك من التصانيف، وكانت ودلاته بجزيرة ابن عمر في أحد الربيعين سنة 544هـ، ونشأ بها ثم انتقل إلى الموصل، ثم عرض له مرض كف يديه ورجليه فمنعه من الكتابة مطلقا، وقام في داره يغشاه الأكابر والعلماء – انتهى مختصرا، وهو أخو عزالدين بن الأثير الجزري صاحب الكامل في التاريخ، وأسد الغابة في معرفة الصحابة. (ومتنيهما) عطف بيان، قال القاري: وإنما لم يكتف بهما لأنه ربما يحتمل أن يتوهم أن تتبعه واستقراءه غير تام، فإذا وافق الحميدي وصاحب جامع الأصول يصير الظن قويا بصحة استقرائه للموافقة، ولو اكتفى بتتبع الجمع بين الصحيحين وجامع الأصول لاحتمل وقوع القصور في استقرائهما، فبعد اتفاق الأربعة يمكن الحكم بالجزم على سهو البغوي – انتهى. وتوضيح الكلام في هذا المقام أن المصنف يقول: قد تقرر أن ما أورده الشيخ محي السنة من الأحاديث في القسم الأول فهو من الشيخين منهما أو من أحدهما، وما أورده في القسم الثاني فهو من غيرهما من الأئمة المذكورين، وقد يذكر الشيخ حديثا في الأول ونسبته أنا إلى غير الشيخين، وذلك مذكور في مواضع، كما في الفصل الأول من باب سنن الوضوء، ومن باب فضائل القرآن، ومن باب السلام من كتاب الآداب وغيرها، ونسبت بعض أحاديث القسم الثاني إلى الشيخين، كما في الفصل الثاني من باب ما يقرأ بعد التكبير، وباب الموقف وغيرهما، فاعلم أن عذري في ذلك ودليلي عليه أني تتبعت كتابين جمع فيهما أحاديث الشيخين، أحدهما كتاب الجمع بين الصحيحين للحميدي، والثاني: جامع الأصول لابن الأثير الجزري، ولم أقتصر في معرفة أحاديث الشيخين على تتبع هذين الكتابين، بل اعتمدت على صحيحي الشيخين ومتنيهما أي أصل كتابيهما ونفسيهما دون الجمع بين الصحيحين، وجامع الأصول المشتملين عليهما المغايرين لهما كالشرحين لهما، فما وجدت

(1/53)


من الأحاديث للشيخين في الكتابين المذكورين وفي أصلي صحيحيهما نسبتها إليهما، وما لم أجد لم أنسب إليهما، وإن كان مخالفا لما ذكره الشيخ محي السنة، وهذا ادعاء منه كمال التتبع والتصفح لأحاديث الشيخين، يعني لو اقتصرت على تتبع الكتابين وقلت: ليس هذا الحديث للشيخين لكان لقائل أن يقول: لعله يكون في متني صحيحيهما، ووقع القصور في استقراء الحميدي والجزري، ولو اقتصرت على متني صحيحيهما يقال: لعله يوجد في كتابي الجمع بين الصحيحين وجامع الأصول، ووقع القصور في استقراء المصنف وتتبعه، فتتبعت الكل ليحصل الوثوق والاعتماد في هذه النسبة على وجه الكمال، أي ويقع الجزم بسهو الشيخ في المصابيح بلفظ، وأنا أوردته في المشكاة بلفظ آخر مخالفا للفظه في المصابيح (فذلك) أي الاختلاف ناشئ (من تشعب طرق الأحاديث) أي اختلاف أسانيدها وتعددها، إذ كثيرا ما يقع للشيخين وغيرهما سوق الحديث الواحد من عدة طرق بألفاظ مختلفة، فاللفظ الذي أورده الشيخ لعله جاء بطريق، واللفظ الذي أوردته جاء من طريق آخر، لما كان ههنا محل أن يقال:
ولعلي ما اطلعت على تلك الرواية التي سلكها الشيخ – رضي الله عنه – وقليلا ما تجد أقول "ما وجدت هذه الرواية في كتب الأصول"، أو "وجدت خلافها فيها"، فإذا وقفت عليه فانسب القصور إلى لقلة الدراية، لا إلى جناب الشيخ – رفع الله قدره في الدارين -، حاشا لله من ذلك، رحم الله من إذا وقف على ذلك نبهنا عليه، وأرشدنا طريق الصواب، ولم آل جهدا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/54)


فلم لم تورد بلفظ الشيخ، ولم اخترت هذا اللفظ ؟ قال في جوابه: (ولعلي ما اطلعت على تلك الرواية التي سلكها الشيخ) أي اختارها وأوردها في مصابيحه، فلما لم أطلع عليها كيف أوردها. أي فآتي باللفظ الذي وقفت عليه (وقليلا ما) زيادة "ما" لتأكيد القلة ونصب "قليلا" على المصدرية لقوله (أقول) أي وتجدني أقول قولا قليلا ما، في أي غاية من القلة، والمقول قوله (ما وجدت هذه الرواية) التي أوردها الشيخ في المصابيح مثلا (في كتب الأصول)، المراد بها كتب أئمة المحدثين ومؤلفاتهم التي هي أصول الروايات ومعادنها والعمدة في هذا الباب (ووجدت) من جملة المقول، أو للتنويع (خلافها فيها) أي خلاف هذه الرواية في الأصول (فإذا وقفت عليه) أي على قولي هذا، فالضمير راجع إلى المصدر المفهوم من قوله "أقول"، (فأنسب) بضم السين أي مع هذا (القصور) أي التقصير في التتبع (إلى لقلة الدراية) أي درايتي وتتبع روايتي، (لا) أي لا تنسب القصور (حاشا لله) أي تنزيها لله (من ذلك) أي من نسبة القصو إلى الشيخ. قال بعضهم : "حاشا" حرف جر وضعت موضع التنزيه والبراءة، وفي مغني اللبيب: الصحيح أنها اسم مرادف للتنزيه من كذا، وحينئذ قوله (لله) بيان للمنزه والمبرأة، كأنه قال: "براءة وتنزيه"، ثم قال "لله" بيانا للمبرأ والمنزه، فلامه كاللام في "سقيا لك"، فعلى هذا يقال: معنى عبارة المشكاة أن الشيخ مبرأ ومنزه عن قلة الدراية، ثم أتى لبيان المنزه والمبرأة بقوله "لله"، وكان الظاهر أن يقول "الله" بلا لام، وكأنها لإفادة معنى الاختصاص، فكأنه يقول: تنزيهه مختص لله، وله أن ينزهه، وليس لغيره ذلك، ويحتمل أن يكون التقدير: وأقول في حقه التنزيه لله لا لأمر آخر، وقيل "حاشا" فعل، وفسر الآية أي قوله تعالى: ?حاش لله? في سورة يوسف بأن معناها جانب يوسف الفاحشة لأجل الله، وعلى هذا يرجع عبارة المشكاة إلى أنه جانب الشيخ ذلك القصور لأجل الله، لا لغرض آخر، أو

(1/55)


قولنا في حقه "حاشا" إنما هو لله لا لأمر آخر، وقيل معناه: معاذ الله، فمراد المصنف أن ما قلت في شأن الشيخ قلت خالصا لوجه الله، لا لغرض آخر ؛ لأني أعوذ بالله من غرض آخر، (إذا وقف على ذلك) أي على ما ذكر من الرواية التي أوردها الشيخ ولم أجدها في الأصول (طريق الصواب) أي إليه بنسبة الرواية وتصحيحها إلى الباب والكتاب إما بالمشافهة حال الحياة، أو بكتابة حاشية أو شرح بعد الممات، (ولم آل) بمد الهمزة وضم اللام من ألا يألو في الأمر إذا قصر (جهدا) بالضم المشقة، أي لم أترك سعيا واجتهادا، فيكون منصوبا
في التنقير والتفتيش بقدر الوسع والطاقة، ونقلت ذلك الاختلاف كما وجدت، وما أشار إليه – رضي الله عنه – من غريب أو ضعيف أو غيرهما بينت وجهه غالبا، وما لم يشر إليه مما في الأصول فقد قفيت في تركه إلا في مواضع لغرض، وربما تجد مواضع مهملة وذلك حيث لم أطلع على راويه فتركت البياض، فإن عثرت عليه فألحقه به – أحسن الله جزاءك -، وسميت الكتاب بمشكاة المصابيح، وأسأل الله التوفيق والإعانة والهداية والصيانة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/56)


على المفعولية لتضمين الألو معنى الترك، أو لم أقصر لكم في السعي والاجتهاد، فيكون منصوبا بنزع الخافض، أو هو منصوب على أنه حال أو تمييز (في التنقير) أي البحث والتجسس عن طرق الأحاديث، واختلاف ألفاظها في كتب الأصول (والطاقة) عطف بيان (ونقلت ذلك الاختلاف كما وجدت) أي بعد بذل السعي الموفور في المطابقة بين أحاديث المصابيح، وأحاديث الكتب الستة حيث بقي الاختلاف نقلت ذلك الاختلاف كما وجدت في الأصول بلا زيادة ونقصان وتغيير لإظهار أصل الحال، كما أقول "ما وجدت هذه الرواية في كتب الأصول، أو وجدت خلافها" وأنا أنسب القصور في التتبع إلي لا إلى صاحب المصابيح (وما أشار إليه) الشيخ محي السنة (من غريب) بيان لما أي من حديث غريب (أو غيرهما) اعتبارا لا حقيقة من نحو منكر أو شاذ أو معلل (بينت وجهه) أي وجه غرابته أو ضعفه أو نكارته، وذلك ما ينقل المؤلف عن الأئمة كلاما يحكم فيه بضعف الحديث أو غرابته مثلا (غالبا) أي في أكثر المواضع، ولعل ترك التبيين في بعض المواضع لعدم الاطلاع على وجه ما أشار إليه البغوي من غرابة الحديث أو ضعفه أو لأمر آخر (وما لم يشر) أي الشيخ البغوي (إليه مما في الأصول) أي مما أشير إليه من المنقطع والموقوف والمرسل في جامع الترمذي، وسنن أبي داود، والبيهقي، وهو كثير (فقد قفيته) بالتشديد أي اتبعته تاسيا به، قال في مختصر النهاية: قفيته وأقفيته: تبعته واقتديت به (في تركه) أي في ترك الإشارة (إلا في مواضع) قليلة أبينها (لغرض) وذلك أن بعض الطاعنين أفرزوا أحاديث من المصابيح ونسبوها إلى الوضع، ووجدت الترمذي صححها أو حسنها، وغير الترمذي أيضا كما تقدم التنبيه على ذلك فبينته لرفع تهمة الوضع منها، ومن الغرض أيضا، كما قال الطيبي: إن الشيخ شرط في خطبة المصابيح أنه أعرض عن ذكر المنكر وقد أتى في كتابه بكثير منه وبين في بعضها كونه منكرا وترك في بعضها، فبينت أنه منكر إظهار للواقع (وربما تجد) في

(1/57)


المشكاة (مواضع مهملة) أي غير مبين فيها ذكر مخرجيها (وذلك) الإهمال وعدم التبيين (حيث لم أطلع على راويه) أي مخرجه (فتركت البياض) أي عقب الحديث، دلالة على ذلك (فإن عثرت عليه) أي على مخرجه (فألحقه) أي ذكر المخرج (به) أي بذلك الحديث، واكتبه في موضع البياض، ونحن نذكر أسماء المخرجين في مواضع البياض حسب ما يتيسر لنا، إن شاء الله تعالى (وسميت الكتاب بمشكاة المصابيح) قال الطيبي: روعي المناسبة بين الاسم والمعنى، فإن المشكاة يجتمع فيها الضوء فيكون أشد
وتيسير ما أقصده وأن ينفعني في الحياة وبعد الممات وجميع المسلمين والمسلمات، حسبي الله، ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تقويا بخلاف المكان الواسع، والأحاديث إذا كانت غفلا عن سمة الرواة انتشرت، وإذا قيدت بالراوي انضبطت واستقرت في مكانها – انتهى. وقال الشيخ الدهلوي في اللمعات: قد عرفت أن المشكاة هي الكوة الغير نافذة في الجدار التي توضع فيها المصابيح، فوجه التسمية أنه كما يوضع المصباح في الكوة كذلك وضع كتاب المصابيح في كتاب المشكاة ؛ لأنه يشتمل عليه اشتمال المشكاة على المصباح، أو لأن الأحاديث التي ذكرت في هذا الكتاب كل منها كالمصباح، فهذا الكتاب كالكوة التي وضع فيها المصابيح المتعددة – انتهى. وقد علمت مما تقدم أن المشكاة تكملة للمصابيح، وتذييل لأبوابه، جمعه مؤلفه بإشارة شيخه الحسين بن عبدالله بن محمد الطيبي المتوفى سنة 743هـ، وفرغ من تأليفه آخر يوم الجمعة من رمضان عند رؤية هلال شوال سنة 737. وله أيضا أسماء رجال المشكاة فرغ من تصنيفه يوم الجمعة عشرين رجب سنة 740هـ، جمعه بمعاونة شيخه العلامة الطيبي، وقد عرض الكتابين عليه فاستحسنهما واستجادهما .

(1/58)


وللمشكاة شروح عديدة: فأول من شرحها هو شيخه الطيبي، سماه "الكاشف عن حقائق السنن"، وشرحه أنفس الشروح وأحسنها. قال في مقدمة شرحه: كنت قبل قد استشرت الأخ في الدين المساهم في اليقين بقية الأولياء قطب الصلحاء شرف الزهاد والعباد في الدين محمد بن عبدالله الخطيب بجمع أصل من الأحاديث المصطفوية، فاتفق رأينا على تكملة المصابيح وتهذيبه وتشذيبه وتعيين روايته ونسبة الأحاديث إلى الأئمة المتقنين، فما قصر فيما أشرت إليه من جمعه، فبذل وسعه واستفرغ طاقته فيما رمت منه، فلما فرغ من إتمامه شمرت عن ساق الجد في شرح معضله وحل مشكله وتلخيص عويصه وإبراز نكاته ولطائفه على ما يستدعيه غرائب اللغة والنحو ويقتضيه علم المعاني والبيان، بعد تتبع الكتب المنسوبة إلى الأئمة، معلما لكل مصنف بعلامة مختصة به، فعلامة معالم السنن وأعلامها (خط) وشرح السنة (حس) وشرح صحيح مسلم (مح) والفائق للزمخشري (فا) ومفردات راغب (غب) ونهاية الجزري (نه) والشيخ التوربشتي (تو) والقاضي ناصر الدين البيضاوي (قض) والمظهر (مظ) والأشرف (شف) وما لا ترى عليه علامة فأكثرها من نتائج خاطري، فإن ترى فيه خللا فسدده – جزاك الله خيرا -، فإن نظرت بعين الإنصاف لم تر مصنفا أجمع ولا أوجز منه ولا أشد تحقيقا في بيان حقائق السنة ودقائقها، وسميته "بالكاشف عن حقائق السنن"- انتهى.

(1/59)


وشرحه علم الدين السخاوي المتوفى سنة 643هـ، وعبدالعزيز الأبهري المتوفى في حدود سنة 895هـ، وسماه "منهاج المشكاة"، وهو تاريخ تأليفه. وشرحه أحمد بن الحجر المكي الهيثمي بالفوقية صاحب الزواجر والصواعق وغيرهما المتوفى سنة 975هـ، قال الشيخ عبدالحق الدهلوي في زاد المتقين في ترجمته: وشرح دارد بر شمائل ترمذي وبر أربعين نووي وبر مشكاة نيز نوشته كه دروي داد فقاهت داده – انتهى. وعلى المشكاة حاشية لعلي بن محمد بن علي المعروف بالسيد الشريف، والسيد السند الجرجاني وهي مختصرة من شرح الطيبي مع بعض زيادات قليلة. وحاشية

(1/60)


للسيد جمال الدين المحدث. وللعلامة علي بن سلطان المعروف بالقاري المتوفى سنة 1014هـ شرح عظيم ممزوج على المشكاة مسمى "بالمرقاة" جمع فيه جميع الشروح والحواشي واستقصاها. ثم جاء بعده واحد من الفضلاء فزاد في كل باب فصلا آخر فصار كله أربعة فصول مما وجد بعدهما في الدواوين المعتبرة للأئمة السبعة من كل حديث استدل به مجتهد في مذهبه، فكان كالشرح لهذين الكتابين وسماه "أنوار المشكاة"، ومن شروح المشكاة لمعات التنقيح، وأشعة اللمعات، الأول بالعربية وهو شرح لطيف بين الإيجاز والإطناب، والثاني بالفارسية، كلاهما للعلامة الشيخ عبدالحق الدهلوي المتوفى سنة 1052هـ، وللحافظ ابن حجر تأليف خرج فيه أحاديث المصابيح والمشكاة، اسمه "هداية الرواة إلى تخريج المصابيح والمشكاة"، ذكره صاحب كشف الظنون، وهو أيضا مذكور في فهرس تصانيف الحافظ، واعلم أنه أنكر على القاري أن يكون للسيد الشريف حاشية على المشكاة حيث قال في المرقاة في شرح حديث ((خرج معاوية على حلقة فقال: ما أجلسكم ؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال: آلله وما أجلسكم إلا هذا ؟ ...الحديث، قال السيد جمال الدين: قوله ((آلله) بالجر لقول المحقق الشريف في حاشيته: همزة الاستفهام وقعت بدلا عن حرف القسم ويجب الجر معها – انتهى. وهو يشعر بأن خلاصة الطيبي حاشية من المحقق الشريف الجرجاني على المشكاة كما هو المشهور بين الناس، وهو بعيد جدا، أما أولا فلأنه غير مذكور في أسامي مؤلفاته، وأما ثانيا فإنه مع جلالة قدره كيف يختصر كلام الطيبي اختصارا مجردا لا يكون معه تصرف مطلقا كما لا يخفى – انتهى كلام القاري. قلت: فيه نظر، فقد نسبها إليه جماعة، منهم المصطفى بن عبدالله المعروف بكاتب جلبي، وبحاجي خليفة في كشف الظنون، ومنهم السخاوي في "الضوء اللامع" نقلا عن سبط السيد الشريف، وحاشية السيد الشريف هذه موجودة في مكتبة خدا بخش خان بعظيم آباد. بتنه (الهند). قال القاري في المرقاة

(1/61)


(ج1: ص10): قيل أحاديث المصابيح أربعة آلاف وأربعمائة وأربعة وثلاثون حديثا، وزاد صاحب المشكاة ألفا وخمسمائة وأحد عشر حديثا، فصار المجموع خمسة آلاف وتسعمائة وخمسة وأربعين، وينضبط بستة آلاف إلا كسر خمس وخمسين – انتهى. قلت: ما نقل القاري من قول البعض في عدد أحاديث المصابيح هو مخالف لما ذكره حاجي خليفة جلبي في كشف الظنون وابن الملك في شرح المصابيح، فالله أعلم. هذا ولم أقف على ترجمة صاحب المشكاة وعلى مولده ووفاته ولا على مذهبه مع الجهد البالغ في التتبع، وقال الشيخ أبوبكر شاويش ناشر مشكاة المصابيح بتحقيق العلامة الشيخ ناصر الدين الألباني في مقدمته: صاحب المشكاة من علماء القرن الثامن للهجرة، ولم نجد له فيما بين أيدينا ترجمة وافية إلا أن من عرضوا له ذكروه بالعلم والصلاح. قال فيه شيخه العلامة حسن بن محمد الطيبي أحد شراح المشكاة: بقية الأولياء، قطب الصلحاء. وقال عنه الملا علي القاري صاحب مرقاة المفاتيح: "مولانا الحبر العلامة والبحر الفهامة مظهر الحقائق وموضح الدقائق الشيخ التقي النفي وإن فيما ألفه لدليلا واضحا على سعة علمه ووفرة فضله، ولا نعرف تاريخ وفاته على الضبط كما لا نعرف تاريخ ولادته غير أننا نستطيع الجزم بأنه توفي بعد سنة (737)، وهي السنة التي أكمل فيها كتابه المشكاة.
1- عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيات،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/62)


1- قوله (عن عمر بن الخطاب) هو أبوحفص عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبدالعزى العدوي القرشي المدني، يجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في كعب بن لؤي. أحد فقهاء الصحابة، ثاني الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد ضجيعي المصطفى، وأول خليفة دعي "أمير المؤمنين"، أسلم سنة ست من النبوة، وقيل: سنة خمس بعد أربعين رجلا، وإحدى عشرة امرأة، ويقال: به تمت الأربعون، ظهر الإسلام بإسلامه، وسمي "الفاروق" لذلك، شهد بدرا والمشاهد كلها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولي الخلافة بعد أبي بكر بعهده إليه ونصه عليه. وله مشاهد في الإسلام وفتوحات مشهورة في العراق والشام، عن ابن عمر مرفوعا: ((إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه))، ولما دفن قال ابن مسعود: ذهب اليوم بتسعة أعشار العلم، وكان أشدهم في أمر الله، له خمسمائة وتسعة وثلاثون حديثا، اتفقا على عشرة، وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر، قاله الخزرجي، طعنه نصراني اسمه : أبولؤلؤة، غلام مغيرة بن شعبة بالمدينة في صلاة الصبح من الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة 23 من الهجرة، وله من العمر ثلاث وستون سنة، ودفن يوم الأحد في أول المحرم سنة 24هـ، وكانت خلافته عشر سنين ونصفا، وصلى عليه صهيب ودفن في الحجرة النبوة، ومناقبه جمة، روى عنه أبوبكر وباقي العشرة، وخلق كثير من الصحابة والتابعين .

(1/63)


(إنما الأعمال بالنيات) أشار المصنف بالبداية بهذا الحديث قبل الشروع في ذكر الكتب والأبواب إلى حسن نيته في تأليفه هذا الكتاب، وأنه قصد به وجه الله فقط، وأراد به تنبيه الطالب على تحسين النية وترغيبه إلى تصحيح الطوية، وكان المتقدمون يستحبون تقديم هذا الحديث أمام كل شيء ينشأ ويبتدأ من أمور الدين لعموم الحاجة إليه، ولهذا صدر به المصنف تبعا للبخاري وغيره، فينبغي لمن أراد أن يصنف كتابا أن يبدأ به. قال عبدالرحمن بن مهدي: لو صنفت كتابا في الأبواب لجعلت حديث عمر بن الخطاب في الأعمال بالنيات في كل باب، وعنه أنه قال : من أراد أن يصنف كتابا فليبدأ بحديث الأعمال بالنيات، وقد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدر هذا الحديث، وهو أحد الأحاديث التي يدور عليها الدين، اتفق ابن مهدي والشافعي وابن حنبل وابن المديني وأبوداود والترمذي وغيرهم على أنه ثلث الإسلام، ومنهم من قال: ربعه، وقد تكلم العلماء على هذا الحديث في أوراق وأطالوا فيه الكلام، والظاهر عندي في معناه أن الأعمال فيه على عمومها لا يختص منها شيء، فالمراد بها مطلق الأفعال الاختيارية الصادرة عن المكلفين، وتقدير الكلام: الأعمال واقعة أو متحققة أو حاصلة بالنيات، فيكون إخبارا عن الأعمال الاختيارية أنها لا تقع إلا عن قصد من العامل، هو سبب عملها ووجودها، فهي مقدمة عقلية ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - تمهيدا لما بعدها من المقدمات الشرعية وتوضيحا لها، ولا استبعاد فيه، ومنه قوله : ((لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبوعبيدة بن الجراح))، ويكون قوله بعد ذلك: ((وإنما لامرئ ما نوى)) إخبارا عن حكم الشرع، وهو أن حظ العامل من عمله نيته، فإن كانت صالحة
وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/64)


فعمله صالح فله أجره، وإن كانت فاسدة فعمله فاسد فعليه وزه، فالذي يرجع إليه من العمل نفعا وضرا هي النية، فإن العمل بحسبها يحسب خيرا وشرا، ويجزى المرء بحسبها على العمل ثوابا وعقابا، وإذا تقرر هاتان المقدمتان ترتب عليهما قوله: (فمن كانت هجرته إلى الله تعالى ورسوله - أي قصدا ونية – فهجرته إلى الله ورسوله) أجرا وثوابا ... إلى آخر الحديث، وعلى هذا فالنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي أي القصد، لا الشرعي هو توجه القلب نحو الفعل ابتغاء لوجه الله وامتثالا لحكمه، وذلك ليحسن تطبيقه على ما بعده وتقسيمه بقوله (فمن كانت هجرته ...)الخ، فإنه تفصيل لما أجمل، فالحديث ورد لبيان الفرق بين النية الفاسدة والصحيحة الصالحة، فالأولى مذمومة ضارة، والثانية محمود نافعة، ولم يرد لبيان ما فيه النية وما ليس فيه فلم يتعرض لوجود النية وعدمها ولم يختص بعمل دون عمل ولا بحكم دون حكم كما يشعر به تفاريع الشافعية والحنفية، وقد بسط المعنى الذي ذكرناه العلامة السندهي في تعليقه على البخاري فارجع إليه، وقيل: التقدير في قوله (الأعمال بالنيات) صالحة أو فاسدة أو مقبولة أو مردودة أو مثاب عليها أو غير مثاب عليها بالنيات، فيكون خبرا من الحكم الشرعي، وهو أن صلاحها وفسادها بحسب صلاح النية وفسادها كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالخواتيم)) أي إن صلاحها وفسادها وقبولها وعدمها بحسب الخاتمة، وقوله بعد ذلك ((وإنما لكل امرئ ما نوى)) إخبار أنه لا يحصل له من عمله إلا ما نواه به، فإن نوى خيرا حصل له خير، إن نوى به شرا حصل له شر، وليس هذا تكريرا محضا للجملة الأولى، فإن الجملة الأولى دلت على أن صلاح العمل وفساده بحسب النية المقتضية لإيجاده، والجملة الثانية دلت على أن ثواب العامل على عمله بحسب نيته الصالحة، وأن عقابه عليه بحسب نيته الفاسدة، وقد تكون نيته مباحة فيكون مباحا، فلا يحصل له ثواب ولا عقاب،

(1/65)


فالعمل في نفسه صلاحه وفساده بحسب النية الحاصلة عليه المقتضية لوجوده، وثواب العامل وعقابه وسلامته بحسب النية التي صار بها العمل صالحا أو فاسدا أو مباحا، (وإنما لامرئ ما نوى) وكذا لامرأة ما نوت ؛ لأن النساء شقائق الرجال (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله) الخ، هو تفصيل ما أجمله أولا كما تقدمت الإشارة إليه، وقد ذكرنا هناك في تقدير الكلام ما يدل على التغاير بين الشرط والجزاء، وقيل: اتحد الشرط والجزاء لقصد المبالغة في التعظيم، ولإرادة التحقير في ما سيأتي فيكون التغاير معنى بدليل قرائن السياق بأن يراد المعهود المستقر في النفس كقولهم "أنت أنت" أي الصديق الخالص، وقولهم "هم هم" أي الذين لا يقدر قدرهم، وغير ذلك من الأمثلة، فالمهاجر إلى دار الإسلام حبا لله ورسوله ورغبة في تعلم دين الإسلام وإظهار دينه هو المهاجر إلى الله ورسوله، وكفاه شرفا وفخرا أنه حصل له ما نواه من هجرته إلى الله ورسوله، ولهذا المعنى أقتصر في جواب هذا الشرط على إعادته بلفظه ؛ لأن حصول ما نواه بهجرته نهاية المطلوب في الدنيا والآخرة. (ومن كانت هجرته إلى دنيا) فعلى من الدنو، لا تنون ؛
يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/66)


لأن ألفها مقصورة للتأنيث، أو هي تأنيث أدنى، وهي كافية في منع الصرف، وتنوينها في لغية شاذ، ولإجرائها مجرى الأسماء وخلعها عن الوصفية نكرت كرجعى، ولو بقيت على وصفيتها لعرفت كالحسنى (يصيبها) أي يحصلها (أو امرأة) قيل خصت بالذكر تنبيها على سبب الحديث وإن كانت العبرة بعموم اللفظ، وهو قصة مهاجر أم قيس المروية في المعجم الكبير للطبراني بإسناد رجاله ثقات، قال الحافظ بعد ذكره: لكن ليس فيه أن حديث الأعمال سيق بسبب ذلك، ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك – انتهى. وقال ابن رجب في شرح الأربعين: قد اشتهر أن قصة مهاجر أم قيس هي كانت سبب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (من كانت هجرته إلى دنيا ...)الخ، وذكر كثير من المتأخرين في كتبهم، ولم نر لذلك أصلا يصح – انتهى. قال الحافظ: لم نقف على تسمية مهاجر أم قيس، ونقل ابن دحية أن اسمها قيلة، وقال العلامة القنوجي في عون الباري: لم يسم هذا الرجل أحد ممن صنف في الصحابة فيما رأيته، والظاهر أن التنصيص على المرأة من باب التنصيص على الخاص بعد العام للاهتمام، والنكرة إذا كانت في سياق الشرط تعم، ونكتة الاهتمام الزيادة في التحذير ؛ لأن الافتتان بها أشد، وإنما وقع الذم ههنا على مباح، ولا ذم فيه ولا مدح ؛ لكون فاعله أبطن خلاف ما أظهر، إذ خروجه في الظاهر ليس لطلب الدنيا، وإنما خرج في صورة طلب فضيلة الهجرة. (فهجرته إلى ما هاجر إليه) أي منصرفة إلى الغرض الذي هاجر إليه، وفيه تحقير لما طلبه من أمر الدنيا واستهانة به، حيث لم يذكر بلفظه، وأيضا أن الهجرة إلى الله ورسوله واحدة فلا تعدد فيها، فلذلك أعاد الجواب فيها بلفظ الشرط، والهجرة لأمور الدنيا لا تنحصر، فقد يهاجر الإنسان لطلب الدنيا مباحة تارة ومحرمة تارة، وإفراد ما يقصد الهجرة من أمور الدنيا لا تنحصر، فلذلك قال: (فهجرته إلى ما هاجر إليه) يعني كائنا ما كان، واعلم أن النية في اللغة نوع من القصد والإرادة،

(1/67)


وفي كلام العلماء تقع بمعنيين: أحدهما تمييز العبادات بعضها عن بعض كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلا، وتمييز رمضان من صيام غيره، أو تمييز العبادات من العادات كتمييز الغسل من لجنابة من غسل التبرد والتنظف ونحو ذلك، وهذه النية هي التي توجد كثيرا في كلام الفقهاء في كتبهم. والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو لله وحده لا شريك له أم لله وغيره، وهذه هي النية التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه، وهي التي توجد كثيرا في كلام السلف المتقدمين، وهي التي يتكرر ذكرها في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - تارة بلفظ النية وتارة بلفظ الإرادة وتارة بلفظ مقارب لذلك، قيل: وحديث الباب دل على هذه النية بالقصد، وإن كان يدخل في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (وإنما لامرئ ما نوى) المعنى الأول أيضا، وفي بعض المسائل المتفرعة على المعنى الأول اختلاف مشهور بين العلماء، كما أنهم اختلفوا في اشتراط النية للطهارة بعد اتفاقهم على اشتراطها في العبادات المقصودة لقوله تعالى: ?وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين? [98: 5]، وهذا الخلاف يرجع إلى أن الطهارة هل هي عبادة مستقلة أم هي شرط من شروط الصلاة كإزالة النجاسة وستر العورة، فمن لم يشترط لها النية جعلها كسائر شروط الصلاة، ومن اشترط لها النية جعلها
متفق عليه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/68)


عبادة مستقلة، فإذا كانت عبادة في نفسها لم تصح بدون النية، وهذا قول جمهور العلماء مالك والشافعي وأبي ثور وداود، قال ابن رجب: ويدل على صحة ذلك تكاثر النصوص الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الوضوء يكفر الذنوب والخطايا وأن من توضأ كما أمر كان كفارة لذنوبه، وهذا يدل على أن الوضوء المأمور به في القرآن عبادة مستقلة بنفسها حيث رتب عليه تكفير الذنوب، والوضوء الخالي من النية لا يكفر شيئا من الذنوب بالاتفاق، فلا يكون مأمورا به ولا تصح به الصلاة، ولهذا لم يرد في شيء من بقية شرائط الصلاة كإزالة النجاسة وستر العورة ما ورد في الوضوء من الثواب. (متفق عليه) أي اتفق البخاري ومسلم على روايته، ويقال عند المحدثين للحديث الذي اتفق الشيخان على روايته من صحابي واحد "متفق عليه"، أي بين الشيخين، وهذا الحديث قد اتفق العلماء على صحته وتلقيه بالقبول، قال الحافظ: ولم يبق من أصحاب الكتب المعتمدة عليها من لم يخرجه سوى مالك، فإنه لم يخرجه في موطئه، ووهم من زعم أنه في الموطأ مغترا بتخريج الشيخين له، والنسائي من طريق مالك، ورده السيوطي في تنوير الحوالك بقوله: في موطأ محمد بن الحسن عن مالك أحاديث يسيرة زائدة على سائر الموطآت، منها حديث ((إنما الأعمال بالنية))، وبذلك يتبين صحة قول من عزى روايته إلى الموطأ، ووهم من خطأه في ذلك – انتهى.
كلمة الناشر للطبعة الثانية

(1/69)


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد: فإن العصر الذي نعيش فيه هو عصر الإعلام والنشر، وللناس فيه عناية كبيرة بشؤون المطابع والمكتبات، حتى نرى أنهم يطبعون وينشرون ما فيه وصمة للعلم ومضرة بالغة للمجتمع. أما العلوم الدينية التي تضمن السعادة الأبدية للإنسانية كلها وتطهر المجتمع من الفواحش والدنايا فقد قل بها اهتمام الناس، واشتغلوا عنها بتوافه الأمور، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، والمدارس الدينية العربية بالهند التي تعتبر معاقل الدين وحصونه هي الأخرى قد عكفت على تدريس العلوم وتلقينها، وأهملت ناحية التأليف والطبع والنشر، مع أنها كانت معقد آمال الناس في الأوساط الدينية، وكان من واجبها أن لا تتخلف في مجال مهم مثل التأليف والنشر، وقد شعرت بعض المدارس بهذا النقص، فحاولت التفادي منه ونجحت، ولكن معظم المدارس العربية لا تزال على الحالة التي أشرنا إليها.
وبناء على ذلك كانت الجامعة السلفية قد جعلت من أهدافها – منذ أن أنشئت – الاهتمام بشؤون التأليف والطبع والنشر بجانب الشؤون الدراسية والتعليمية، ولتحقيق هذا الهدف قد تم في الجامعة إنشاء قسم خاص يهتم بشؤون التأليف والنشر، وهو قسم دار الترجمة والتأليف والنشر، وقد أبدى هذا القسم نشاطا ملموسا في ترجمة بعض الكتب المهمة النافعة وطبعها ونشرها في الهند وخارجها.

(1/70)


ومن أكبر مشاريع الدار وأهمها مشروع طبع كتاب "مرعاة المفاتيح" شرح مشكاة المصابيح لفضيلة العلامة المحدث الكبير الشيخ أبي الحسن عبيدالله الرحماني – حفظه الله تعالى -، وكان هذا الكتاب قد طبع جزء منه في باكستان وجزآن في الهند، ولكنه نظرا إلى أهمية موضوعه وطرافة مباحثه كان في حاجة إلى أن يعاد طبعه على طريقة علمية حديثة، بحيث يسهل تناوله للقراء في الهند وغيرها من البلاد الإسلامية والعربية. ومن المتوقع أن يقع الكتاب وفق هذه الطبعة الثانية في 12 جزء، وكل جزء يحتوي على نحو 600 صفحة بالقطع الكبير. والدار حينما تحملت مسؤولية هذا المشروع الكبير – مع كثرة نفقاتها – لم تهدف إلا إلى نشر العلوم الدينية والتعريف بما قام به العلماء السلفيون بالهند من خدمة العلوم الإسلامية واللغة العربية، وما كان لهم من الإسهام في بناء صرح الثقافة الإسلامية في شبه القارة.
ونحن إذ نقدم الجزء الأول من كتاب مرعاة المفاتيح نسأل الله عز وجل أن يكتب له القبول لدى القراء والباحثين، ويوفقنا لإتمام هذا المشروع الكبير، ويجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، فهو نعم المولى ونعم النصير.
……………………( إدارة البحوث الإسلامية )
مقدمة الطبعة الثانية
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد ! فهذه فصول مفيدة تشتمل على:
1- مقدمة الناشر للطبعة الأولى بعد تلخيصها وترجمتها إلى العربية.
2- ترجمة الشارح – حفظه الله -.
3- ذكر بعض ما يمتاز به هذا الشرح من الميزات والخصائص.
4- رسالة لطيفة في بيان مصطلحات علم الحديث التي لا بد من استحضارها لكل من يرغب في مطالعة الحديث والتوسع فيها.
أحببت أن ألحقها بمرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ؛ ليكون القارئ على بصيرة عن الكتاب وصاحبه.

(1/71)


وقد تركت ترجمة الإمام البغوي – رحمه الله -، والتعريف بكتابه – المصابيح -، وكذلك التعريف بمشكاة المصابيح الذي هو تكملة للمصابيح، وترجمة مؤلفه الخطيب العمري – رحمه الله -؛ لأن الشارح – حفظه الله – قد تعرض لهذه الأمور في الشرح بما فيه غنى عن إعادة ذكرها هنا.
عبدالرحمن عبيدالله الرحماني المباركفوري.
مقدمة الناشر للطبعة الأولى
حامدا ومصليا ومسلما
اعلم أن الشاه ولي الله الدهلوي – رحمه الله – قد قرر في المبحث السابع من كتابه "حجة الله البالغة" باعتبار فهم المعاني الشرعية من الكتاب والسنة والاستنباط منهما والعمل بهما، مدرستين مستقلتين للتفكير: أهل الحديث، وأهل الرأي. فذكر في إحداهما فقهاء أهل الحديث من مؤلفي الصحاح الستة وغيرهم مع الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، كمجتهدي الأمة – ونسب رئاسة المدرسة الأولى إلى إبراهيم النخعي وأبي حنيفة وأصحابه. ثم قارن بين أصول استدلال المدرستين وطرق الاستنباط والتخريج لهما. وعلاوة على شرحه الأحاديث فيه شرحا فقهيا، أرسخ قواعد حرية التفكير وسعة النظر باختياره طريقة المدرسة الثانية في شرحه لموطأ الإمام مالك، وترجمته "المسوى والمصفى" لتبقى الأمة المسلمة متحدة عملا مع اختلافها فكرا ونظرا، متمشية على منهاج السلف الأول.
ثم روج الشاه ولي الله – رحمه الله – تدريس الصحاح الستة على طريقة أهل الحديث بجنب التأليف والتصنيف ؛ لأن موضوع تلك الكتب جمع سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كاملة حيث يهتدى بها في جميع نواحي الحياة البشرية قاطبة. ثم من أعظم أوصافها وخصائصها أنها تحمل في طيها سعة النظر، وليس في جمع وتدوين أحاديثها ولا في تبويبها ولا في طرق الاستدلال والاستنباط منها تحديد واقتصار.

(1/72)


فيورد أصحابها كل ما روي من الأحاديث والآثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالحين، سواء كان دليلا لطائفة أو عليها، لا يتعلق لهم بذلك غرض، فيعملون في ثبوت تلك المرويات والاحتجاج بها حرية التفكير والبحث التي تورث الذهن استعداد النقد المثمر البناء.
ولعل هذا هو السبب الأكبر في اختياره مسلك الفقهاء المحدثين أساسا لتوحيد صفوف الفرق المسلمة فكريا وعمليا، وجعله موضوعا لبعض مؤلفاته.
ولعله قد شعر بأنه قد ساد على العالم الإسلامي بعد القرن العاشر من الهجري عامة ؛ إما الفقه الجامد أو القاصر، أو التصوف المتخشن المفضي إلى الإلحاد، وإن كان هناك شيء في المدارس باسم علوم الحديث فهو تابع للفقه المعاصر، ولم يكن يتعرض للروايات إلا في مجالس الوعظ والقصص بغض النظر عن رطبها ويابسها وصحيحها وسقيمها، أو لتأييد المذاهب الفقهية مهما كانت درجتها في الصحة والثبوت.
ولتحقيق أهداف الفقهاء المحدثين بدأ الشيخ ولي الله – رحمه الله – حركة تجديد عهد المحدثين، وسقى هذا النبت حفيده الشيخ إسماعيل الشيهد (م 1246هـ)، ثم ترعرع بعده وأثمر هذا الشجر عند طبقة من المحققين الذين استفادوا منه، أعني بهم المحدث الكبير شيخ الكل السيد نذير حسين الدهلوي (م 1320هـ)، التلميذ الخاص للشاه محمد إسحاق (م 1262هـ)، والسيد أباالطيب محمد صديق حسن خان (م 1307هـ)، التلميذ الممتاز والمجاز للشاه محمد يعقوب (م 1282هـ)، ابن بنت الشاه عبدالعزير – رحمه الله -.
فالمحدث الدهلوي السيد نذير حسين – رحمه الله – نشر هذه الحركة المقدسة تدريسا، والسيد النواب – رحمه الله – قد أسهم فيها بتأليف الكتب الكثيرة والتزامه بطبع المؤلفات النافعة النادرة الوجود على حسابه الخاص وتوزيعها في العالم الإسلامي، { مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها }.

(1/73)


وألف السيد صديق حسن خان – رحمه الله – على أساس خطة التفكير الفقهي للشاه ولي الله – رحمه الله – في سنة 1278هـ شرحا لبلوغ المرام باللغة الفارسية باسم "مسك الختام"، وفي سنة 1294هـ "عون الباري" شرح تجريد صحيح البخاري للشرجي، وفي سنة 1299هـ "السراج الوهاج" شرح تلخيص الصحيح لمسلم للمنذري. هذا بجنب طبعه لاستفادة أهل العلم وأصحاب التحقيق "نيل الأوطار" سنة 1297هـ، وفتح الباري سنة 1300هـ بالمطبعة الأميرية ببولاق ( مصر ) بمبالغ باهضة مع عنايته واهتمامه بترجمة كتب الصحاح الستة مع موطأ الإمام مالك وطبعها ؛ ليستنير عامة الناس من أنوار علوم السنة رأسا وبدون واسطة.
ومن تلامذة المحدث الدهلوي العلامة الشيخ أبوالطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي (م1329هـ) ألف "عون المعبود" شرح سنن أبي داود، والشيخ أبوالعلي محمد عبدالرحمن المباركفوري (م1352هـ) شرح الجامع للترمذي باسم "تحفة الأحوذي"، والشيخ محمد أبوالحسن السيالكوتي شرح صحيح البخاري باللغة الأردية في 30 مجلدا، وسماه فيض الباري، والشيخ عبدالأول الغزنوي الأمرتسري (م 1331هـ) بن محمد(1) بن العارف بالله الشيخ عبدالله الغزنوي – رحمهم الله تعالى – ترجم مشكاة المصابيح وعلق عليها وطبعها.
ومن مفاخر علماء أهل الحديث في شبه القارة الهندية أنه باهتمامهم فحسب طبع أول مرة عدة من كتب الحديث القيمة، أمثال: السنن للنسائي، والسنن للدارقطني، والتلخيص الحبير، وغيرها، وإنها لحقيقة ثابتة أن تلك المطبوعات هي التي يستفيد بها أصحاب التدريس والإفتاء وأهل التحقيق، فلله الحمد على ذلك.
__________
(1) المعلق على تفسير "جامع البيان" وناشر "المسوى والمصفى" الأول .

(1/74)


وعلى كل حال فقد استمرت نهضة تجديد وإحياء السنة بكل قوتها وحيويتها بفضل مساعي جماعة أهل الحديث الهندية وجهودها العلمية والعملية، واستنارت بأشعة هذا النور العظيم أرجاء العالم الإسلامي النائية، واعترف عديد من أهل العلم والتحقيق في العالم الإسلامي في العهد الحاضر بسبق علماء أهل الحديث في الهند في ميدان نشر علوم السنة وطبع كتبها. فالشيخ العلامة رشيد رضا المغفور له يقدر ويحسن جهودهم بما نصه: "ولولا عناية إخواننا علماء الهند بعلوم الحديث في هذا العصر لقضي عليها بالزوال من أمصار الشرق، فقد ضعفت في مصر والشام والعراق والحجاز منذ القرن العاشر حتى بلغت منتهى الضعف في أوائل القرن الرابع عشر..." (مقدمة مفتاح كنوز السنة ).
ويمدحهم محقق آخر من مصر الشيخ عبدالعزيز الخولي: "... ولا يوجد في الشعوب الإسلامية من وفى الحديث قسطه من العناية في هذا العصر مثل إخواننا مسلمي الهند، أولئك الذين وجد بينهم حفاظ للحديث، ودارسون لها على نحو ما كانت تدرس في القرن الثالث، حرية في الفهم، ونظر في الأسانيد، كما طبعوا كثيرا من كتبها النفيسة التي كادت تذهب بها يد الإهمال، وتقضي عليها غير الزمان....، وإن أساس تلك النهضة في البلاد الهندية أفذاذ أجلاء تمخضت بهم العصور الحديثة، وانتهجوا في تحصيل العلوم نهج السلف، فنبه شأنهم وعلا أمرهم وذاع صيتهم،

(1/75)


فكان لها الأثر الصالح والسبق الواضح، ومن أشهر هؤلاء الأعلام ولي الله الدهلوي صاحب التصانيف، أشهرها "حجة الله البالغة"، والسيد صديق حسن خان ملك بهوبال صاحب التصانيف الكثيرة، ومن حسناته ( يعني السيد حسن خان ) طبع فتح الباري ونيل الأوطار وتفسير الحافظ ابن كثير...، طبعت هذه على نفقته في المطبعة الأميرية بمصر، فكانت من أنجح وسائل إحياء السنة...، وفي الهند الآن طائفة تهتدي بالسنة في كل أمور الدين، ولا تقلد أحدا من الفقهاء ولا المتكلمين وهي طائفة المحدثين".…( مفتاح السنة ص169).
ومحقق آخر الشيخ محمد منير الدمشقي يبدي رأيه عن حركة إحياء السنة هذه بما يأتي: "وهي نهضة عظيمة، أثرت على باقي البلاد الإسلامية، فاقتدى بها غالب البلاد الإسلامية في طبع كتب الحديث والتفسير". ( أنموذج من الأعمال الخيرية ص(468).
ويكتب عن "السيد صديق حسن خان": "كم له من أياد بيضاء في خدمة العلم والعلماء، وإن جحد فضله الحاسدون وضعفاء العقول المتصنعون". ( أنموذج ص388).
هذه هي حكاية ما أنجزه علماء أهل الحديث في شبه القارة الهندية من الأعمال الذهبية في سبيل إحياء السنة وتجديد نهضة الشاه ولي الله – رحمه الله – باختصار، ولو سلك مسلكه واختار منهجه العلماء المنتسبون إلى أسرته أيضا لكان الوضع الديني لبلادنا مختلفا تماما عن الوضع الحالي.

(1/76)


وقد حدث – مع الأسف الشديد – أن طائفة من علماء أسرته قد ترك منهج تدريسه، وترويج علوم الحديث لبعض مصالحها الخاصة بعد وفاته بمدة لا تطول، ولا شك أن تلك الطائفة قد ساهمت في نشر الدين بجهود لا تنكر قيمتها، ولكنهم لم يرضوا بإعطاء علوم الحديث حظها من عنايتهم، فإنهم جعلوا نصب أعينهم عند الاشتغال بعلم الحديث مقاصد خاصة، مثل بعض سلفهم من المؤلفين وشراح الحديث، ودرسوا هذه الكتب التي أساسها على الاجتهاد، على طريقة أصحاب الرأي، معرضين عن منهج الشاه ولي الله – رحمه الله -، وزينت تلك الكتب بحواش مفيدة ولكن غلبت عليهم العصبية الطائفية في شرح وتطبيق بعض الأحاديث وتعيين درجتها من الصحة والضعف.
ويبذل قصارى الجهد في إبعاد الطالب عن تأثير ما ورد في المواضع المختلف فيها من الكتاب، والتعليق يكون مخالفا للمتن، والحديث المعارض للمذهب في نظر المحشي أو المدرس يعرض للتأويل والتوجيه، ولكن الذي حظي بالموافقة لمذهبهم يقبل من غير أن ينظر إلى مرتبته من الصحة والضعف، والغرض من هذا التكلف أن لا يتسع طلبة الحديث فكرا وصدرا بل ينحصروا في حصار خاص، ويتقيدوا بقالب معين، وإذا انبعث فيهم شعور بالنقد والتحقيق فلا يكون إيجابيا ومنتجا بل سلبيا وجارحا.
ولو طالع أحد حواشي وتعليقات من هو في الطبقة العليا من فقهاء الهند على كتب الحديث على سبيل المثال، لوجد لما ادعيناه في السطور الأولى أسسا ثابتة فيها، أعني بها حواشي الشيخ أحمد علي السهارنبوري (م1297هـ) على صحيح البخاري، والجامع للترمذي ومشكاة المصابيح، وحواشي الشيخ عبدالغني المجددي (م 1296هـ)، والشيخ محمد التهانوي على سنن ابن ماجه وسنن النسائي، وحاشية النواب محمد قطب الدين الدهلوي (م 1289هـ) باللغة الأردية على مشكاة المصابيح.

(1/77)


واستمر على هذا المنهاج في التأليف والتدريس من جاء بعدهم عامة إلا من شاء الله منهم، ولا يخفى أن هذا الوضع قد يشوش أذهان طلاب الحديث، حيث يكون التعليق مخالفا للمتن، ولذا شعرنا بحاجة إلى حواشي وتعليقات على كتب الأحاديث المتداولة بين المدارس الدينية في بلادنا تحل تلك المشكلة ولا تشوش بنفسها ذهن الطالب، بل تؤيد اتجاه أئمة الحديث وتوضحه، وروعي فيها المعايير المحايدة للمحدثين في الجرح والتعديل والبحث والتمحيص، ولوحظ فيها الأصول الفقهية للشاه ولي الله – رحمه الله -، واحترم فيها جميع السلف من المحدثين والفقهاء، بدون فرق بين مذهب ومذهب.
وتقع مسؤولية هذا العمل الجليل على عواتق علماء أهل الحديث في شبه القارة الهندية، وقد اعتنوا به شيئا ما، فحواشي سنن ابن ماجه (1312هـ)، وسنن أبي داود (1318هـ) للشيخ محمد بن نور الدين الهزاروي التلميذ الراشد للشيخ العلامة حسين بن محسن اليماني البهوبالي (م 1327هـ) طبعت في أصح المطابع بلكنؤ، وحاشية سنن النسائي للشيخ أبي عبدالرحمن محمد البنجابي (م 1315هـ)، والشيخ أبي يحيى محمد الشاهجهانفوري (م1338هـ) تلميذي المحدث الدهلوي السيد نذير حسين، طبعت في المطبع الأنصاري بدلهي سنة 1315هـ، ويندرج تحتها تنقيح الرواة حاشية على المشكاة للشيخ السيد أحمد حسن الدهلوي (م1328هـ) تلميذ شيخ الكل السيد نذير حسين الدهلوي – رحمهم الله -، ولكن جمعية أهل الحديث في شبه القارة الهندية قد تعرضت فيما بعد لحوادث – ليس هذا محل تفصيلها -، فتوقف هذا العمل الجليل من جرائها لفترة طويلة، ولكن كل فرد من أفرادها مازال يشعر بالحاجة إليه.
ـــــــــــــ

(1/78)


والغرض من إطالة هذه الحكاية الممتعة للمسامع إزاحة الستار عما يكمن وراء الحوار، والمحادثات والمقترحات التي كانت تمتد إلى ساعات طويلة بيني وبين صديقي المغفور له الحافظ محمد زكريا، وقد لقيته إبان الحرب العالمية الثانية – كما أذكر – حينما كنت مقيما ببلدة فيروزبور ( البنجاب الشرقي ) للتدريس والخطابة، وقد كثرت اللقاءات، ووحدة الذوق والفكر دائما يحدونا إلى اللقاء والمحادثة، وأكبر همنا كان التخطيط لإحياء نهضة سلفنا – عمل نشر علوم الحديث – من جديد.
ـــــــــــــ
وعلى بعد 30 ميلا من المدينة الصناعية لائل بور ( البنجاب الغربي ) وفي ناحيتها الغربية الجنوبية تقع قرية تسمى "جهوك دادو طور"، يسكنها العالم الرباني الشيخ محمد الباقر، تلميذ المحدث الحافظ عبدالمنان الوزير آبادي (م 1334هـ)، والمستفيض من علوم ومعارف الشيخ عبدالجبار الغزنوي (م1332هـ) – رحمهما الله وغفر لهما -، وصديقنا المرحوم الحافظ محمد زكريا كان أكبر أولاده، وقد ولد في نفس القرية سنة 1332هـ غالبا –، غيب القرآن وتعلم اللغة الأردية في بيته، وقرأ مبادئ اللغة العربية في قرية قريبة من مديرية شيخوبورة، وأقام مدة يسيرة بمدرسة تقوية الإسلام أمرتسر – البنجاب -، ثم ارتحل إلى كوجرانواله وتتلمذ على الشيخ العلامة الحافظ محمد – حفظه الله ونفع بعلومه -، والشيخ محمد إسماعيل – رحمه الله -، وقرأ عليهما الصحاح الستة وغيرها من كتب الحديث والعلوم، وحصل منهما الشهادة والإجازة، وبما أنه كان يميل إلى الكتابة والتأليف ونشر الكتب – وهذا هو وجه الرابطة بيني وبينه لأني أيضا كنت أميل إليه من بدء شعوري – فترجم رسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية، و"والوابل الصيب" لابن القيم – رحمهما الله – إلى اللغة الأردية، وطبعها على رغبتي ومشورتي، ثم

(1/79)


شرح "زرادي" بالأردية، وسماه "الهادي"، وكذلك طبع مقالتي الوجيزة "الإمام الشوكاني" في سنة 1364هـ، وعلاوة عليها ترجم رسالة للرازي "عصمة الأنبياء"، وشرح كتاب "أبواب الصرف" للشيخ الحافظ محمد اللكهوي، ولم يطبعا بعد.
ولكن واحسرتاه ! هذا الشاب الطويل القامة النحيف الجسم، المليء بالعلم والذوق السليم كان مصابا بمرض المعدة، وازداد مرضه تدريجا حتى قضى على حياته، وتوفاه الأجل المحتوم في آخر شوال سنة 1368هـ، الموافق أغسطس سنة 1949م – إنا لله وإنا إليه راجعون، وقد توفي والده الشيخ محمد الباقر أيضا.
وبعد انقسام شبه القارة إلى الدولتين: الهند والباكستان عام 1366هـ الموافق لعام 1947م هاجرت من فيروزبور الهند إلى باكستان، ولقاء صديقنا هناك كان أمرا طبيعيا، وشعرنا بأنه قد حان موعد تعبير الأحلام التي كنا نحلم بها – وكانت المقترحات والمشورات والمشاريع السابقة مواضيع لقاءنا -، فقررنا إحياء مشروع سلفنا بتحشية وطبع كتب الحديث وما يتعلق بها، وأن نبدأ العمل بمشكاة المصابيح، وطلب مني التعليق عليه فاعتذرت بعدم استعدادي له، وعرضت عليه اسم فضيلة الشيخ عبيدالله الرحماني المباركفوري – حفظه الله وبارك في حياته ونفع بعلومه -، فوافق عليه والتمس هو من الشيخ الرحماني المباركفوري – حفظه الله – بالقيام لهذه الخدمة الجليلة الشأن، فقبل الشيخ اقتراحنا بكل بشاشة وفرح، ولكن قدر مدة تكميل العمل بأربع سنوات على الأقل، وبدأ العمل في 1367هـ الموافق 1947م.
ــــــــــــ

(1/80)


وكنت قد انتقلت ذاك الوقت على طلب مخدومنا الشيخ العلام السيد محمد داود الغزنوي – رحمه الله – إلى مدرسته تقوية الإسلام في لاهور ؛ لأقوم بخدمة التدريس فيها، ونزل الصديق الحافظ محمد زكريا لطباعة بعض الكتب لاهور، وأقام عندي عدة شهور، وشعرنا بأنه لا ينبغي الانتظار لتكميل حاشية المشكاة، بل لابد من بدء عمل آخر، فقررنا طبع سيرة المحدث الدهلوي السيد نذير حسين – رحمه الله – "الحياة بعد المماة" طباعة ممتازة أنيقة.
وبما أنه كان لا يوجد في ذاك الوقت سنن أبي داود في المكاتب فصممنا على طبعه بتعليق جديد، وبدأت بتأليف "فيض الودود" تعليق سنن أبي داود على إلحاحه، واعتنى هو لتسيير العمل بمساعدة مالية، وفي أثنائه غادر هو لاهور إلى بيته واشتد مرضه، وبعد أيام جاء نعي وفاته المؤلم، اهتز له كل من كان يعرفه، وخاصة كاتب هذه السطور، {فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر }.
ــــــــــــ
ومكتبتي التي ضاعت بفيروز بور قد أسستها من جديد بلاهور – باسم المكتبة السلفية، وعمل تأليف فيض الودود تعليق سنن أبي داود، وإن لم يتعد على جزئين فقط، ولكن لم تمض فترة إلا أن قيض الله سبحانه وتعالى أسبابا لا نتوقعها لتأليف وطبع كتاب عظيم "التعليقات السلفية على سنن النسائي" في غضون أربع سنوات تحت إشراف وعناية المكتبة السلفية، { وهذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر }.
وبعد سنة فصاعدا قد علمنا بأن فضيلة الشيخ عبيدالله الرحماني قد أرسى قواعد شرح جليل لمشكاة المصابيح بدل تعليق بسيط عليه، وأكمل الجزء الأول منه وأرسله إلينا للطبع، وإنها لحقيقة أننا ما كنا مستعدين له في ذاك الوقت؛ لأن جمعية قرية صغيرة ما كانت تستطيع أن تتحمل نفقات الطبع الباهضة، ثم الموانع والمشاكل في كل مرحلة حالت دون

(1/81)


طبعه، ولكن الله تعالى بفضله وكرمه أزال جميع الموانع، ووفق عبدا ضعيفا من عباده أن يوفي بما عهد به صديقه، وذلك من ثمرات إخلاص المغفور له، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.
وهل يخفى على أحد الحاجة إلى شرح مفصل للمشكاة ؟ ولا شك في أن شرح شيخ مؤلف المشكاة العلامة حسين بن محمد الطيبي (م743هـ) "الكاشف عن حقائق السنن" يعد من أحسن الشروح له، لكنه لم يطبع بعد، ويتبعه مرتبة المرقاة لملا علي بن سلطان محمد القارئ (م1014هـ)، واللمعات للشيخ عبدالحق الدهلوي (م1052هـ)، وهما شرحان جيدان من حيث جمع المواد المتعلقة بإيضاح المطالب وغيره، ولكن التزم فيهما تمثيل مدرسة خاصة في الفقهيات، ثم إنهما لا يشفيان غليل الباحث في باب تخريج ونقد الأحاديث مع أن الحاجة إليه شديدة في شرح المشكاة خاصة بالفصل الثالث منه. ونظرا إلى ذلك فقد حبذنا عمل فضيلة الشيخ عبيدالله الرحماني بكل سرور وانشراح، فإن الله تعالى قد هيأ أسبابا لملأ فراغ كبير في هذا الباب.
ونحمد الله على إحسانه وكرمه أن مرعاة المفاتيح يعد شرحا عديم النظير غير مسبوق به بما يمتاز به من الأوصاف والخصائص، يحتوي بما في الشروع السابقة ويذكرنا القرن العاشر في باب التحقيق مصداقا لـ"كم ترك الأول للآخر".
وإن هذا الكتاب لا يفي بحاجة المرقاة واللمعات فحسب، بل يغني عن كثير من الكتب في باب تخريج الأحاديث وتنقيحها – إن شاء الله -، ونتضرع إلى الله تعالى أن يوفق الشارح لتكميل هذا العمل، وينعم عليه بحسن القبول والإفادة العامة.

(1/82)


والحاجة إلى تعليق على المشكاة التي لمسناها لغرض خاص باقية حتى الآن، ولا ندري من يوفق له ومتى؟ والحاشية شبه الشرح للمشكاة "تنقيح الرواة في تخريج أحاديث المشكاة" التي مر ذكرها فوق قد طبع نصفها الأول قبل مدة طويلة، وقد عثرنا على أوراق نصفها الأخير هذه الأيام، ولكنها في حاجة ماسة إلى إعادة النظر فيها، بل شيء من آخرها مخروم ويحتاج إلى كتابتها من جديد، ومن أماني المشرفين على المكتبة السلفية بلاهور طبعها ونشرها في أقرب فرصة.
ولا نزال نلمس الحاجة إلى مشكاة مترجمة تحتوي على مقتضى القديم والحديث مع ترجمتها الموثوق بها، وقد استكمل ترجمة نصفها الأول الشيخ محمد إسماعيل على اقتراح كاتب هذه السطور، ستكون هذه المشكاة المترجمة عديمة النظير إن شاء الله.
ولا يخفى على أحد أن إشاعة ونشر تفسير القرآن الكريم في ضوء الأحاديث والآثار وعلوم الحديث خالصة من واجبات جماعة أهل الحديث التي تمتاز بها، وقد أدى هذا الواجب أسلافها في الماضي القريب بأحسن وجه، وإن العصر الذي نعيش فيه مليء بالمخاطر، والحاجة ماسة إلى دفع مهاجمات ومهاترات المنكرين لحجية الحديث والمتخبطين في ملتويات التأويل والتوجيه، وعمل أصحاب الحديث وأنصاره أضعف بكثير وأبطأ بإزاء دعاية تلك القوى المعارضة، فهل من سبيل لمقاومة هذا السيل العارم، فهل ينظرون في سبيل مقاومة هذا الاتجاه الزائف ؟
والحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين.
( أبوالطيب محمد عطاء الله حنيف – كان الله له ).
ترجمة الشارح – حفظه الله وبارك في حياته -.
هو أبوالحسن عبيدالله بن العلامة محمد عبدالسلام بن خان محمد بن أمان الله بن حسام الدين.

(1/83)


ولد في محرم الحرام سنة 1327هـ ببلدة مباركفور التابعة المديرية أعظم كره إحدى مديريات الولاية الشمالية ( اتربرديش) في الهند، وتدرس كتب الأردية والفارسية الرائجة في المدارس الأهلية آنذاك في المدرسة العالية ببلدة مئو من بلاد أعظم كره، وكتب النحو والصرف والأدب والفقه والمنطق والهندسة أمثال الكافية لابن حاجب وشرحها لملا جامي وشرح الوقاية ومشكاة المصابيح والسراجية في علم الفرائض وشرح التهذيب وشرح الشمسية المعروف بالقطبي وديوان المتنبي وأقليدس على والده العلامة محمد عبدالسلام صاحب سيرة البخاري – رحمه الله – حينما كان هو مدرسا في مدرسة سراج العلوم بقرية بونديهار من قرى مديرية كونده في الولاية الشمالية، ثم انتقل مع والده – رحمه الله إلى دار الحديث الرحمانية بدلهي، وكمل دراسته هناك، وتخرج على أيدي الأساتذة المتخصصين في كل فن من فنون العلم، فدرس من كتب الحديث الصحيحين للإمامين البخاري ومسلم، والموطأ للإمام مالك على العلامة المحدث الشيخ أحمد الله البرتابكرهي ثم الدهلوي – رحمه الله -، تلميذ الشيخ السيد نذير حسين المحدث الدهلوي، والشيخ حسين بن محسن الأنصاري الخزرجي، وقد كتب هو له الإجازة برواية كتب الحديث، وهي محفوظة عندنا، وكتب العلوم العقلية الآلية من المنطق والفلسفة والهيأة وعلم الكلام وكتب الفقه مع أصوله كشرح هداية الحكمة للصدر الشيرازي، والشمس البازغة وشرح السلم للمولوي حمد الله والقاضي مبارك، وشرح العقائد النسفية وشرح المواقف والتصريح وشرح الجغميني وشرح المطالع ومسلم الثبوت والتلويح مع التوضيح والجزأين الأخيرين من الهداية والتفسير للبيضاوي على العلامة الشيخ غلام يحيى الكانبوري، ونور الأنوار وتفسير الجلالين وجامع الترمذي والمقامات الحريرية وديوان الحماسة على الشيخ الحافظ عبدالرحمن النكرنهسوي، والهدية السعيدية وسنن أبي داود على الشيخ أبي طاهر البهاري، والمقدمة لابن خلدون وشيئا من

(1/84)


الشمس البازغة على العلامة الشيخ عبدالغفور الجيراجبوري، والفوز الكبير في أصول التفسير على الشيخ محمد إسحاق الآروي، ودرس أيضا صدرا من شرح المطالع على العلامة الشيخ عبدالوهاب الآروي، وشيئا من تفسير البيضاوي على العلامة المحدث محمد الكوجرانوالي البنجابي، وحصل شهادة العالمية من المدرسة الرحمانية سنة خمس وأربعين بعد الألف وثلاثمائة 1345 من الهجرة، وقرأ أيضا في أيام العطلة المدرسية أوائل جامع الترمذي، وقدرا معتدا به من شرح النخبة ومقدمة ابن الصلاح والسراجية في علم الفرائض على الإمام المحدث الشيخ عبدالرحمن المباركفوري صاحب تحفة الأحوذي – رحمه الله – في بيته، وأجاز له الشيخ – رحمه الله – برواية كتب الحديث شفاها.
ونظرا إلى ذكائه ونجاحه في الاختبار دائما بالدرجة الممتازة عينه الشيخ عطاء الرحمن صاحب دار الحديث الرحمانية والمشرف الوحيد عليها والمتكفل لجميع ما تحتاج إليها من النفقات مدرسا فيها في نفس السنة التي تخرج فيها.
وكما هو معلوم لدى الإخوان أن الشيخ الأجل المحدث المباركفوري قد كف بصره قبل أن يكمل شرحه – تحفة الأحوذي -، وكان بحاجة إلى عالم له مناسبة خاصة بعلوم الحديث وفنونه، يساعده في عمله ذاك، فاختار الشيخ المباركفوري – رحمه الله – لذلك فضيلة والدنا الشيخ عبيدالله الرحماني المباركفوري لمساعدته، فأرسله الشيخ عطاء الرحمن على اقتراح الشيخ

(1/85)


المباركفوري – رحمه الله – إليه، فقضى لديه سنتين خير مساعد له في تكميل الجزئين الأخيرين لشرح جامع الترمذي – تحفة الأحوذي – مع زميله الفاضل الشيخ عبدالصمد المباركفوري، والعالم الشيخ محمد اللاهوري البنجابي، وقرأ عليه أطرافا من الصحاح الستة وغيرها، وبذل جهده في الاستغراف من بحار علومه والتأدب بآدابه والاستفادة من فوائده، ثم استدعاه الشيخ عطاء الرحمن للتدريس في دار الحديث الرحمانية , وفوض إليه تدريس كتب الحديث، خاصة جامع الترمذي وسنن أبي داود والصحيح الإمام البخاري والموطأ للإمام مالك مع خدمة الإفتاء، فاشتغل به إلى أن انقسم الهند إلى الدولتين: الباكستان والهند في أغسطس عام 1947م الموافق لعام 1366هـ، وقفلت دار الحديث الرحمانية لأجل هجرة مشرفه الشيخ عبدالوهاب نجل الشيخ عطاء الرحمن – رحمهما الله – إلى كراتشي ( الباكستان ).
وهو مرجع للمسلمين فيما يشكل عليهم من الأمور الدينية والمسائل الشرعية ؛ لما أن فتاواه تكون مدعمة بالدلائل من الكتاب والسنة، ولا يبالي في ذلك لومة لائم، وقد طبع كثير منها في مجلتي "محدث" و"مصباح" وغيرهما.
وقد بدأ تأليف شرح المشكاة – مرعاة المفاتيح – الذي بأيدي القارئين في عام 1948م الموافق لعام 1367هـ بأمر الحافظ محمد زكريا اللائلبوري – رحمه الله -، وأمر والده التقي الورع الزاهد الشيخ محمد باقر – أطال الله حياته -، وهو إلى الآن مشتغل به حسبما تسنح له فرصة، ويجد إفاقة من الأمراض التي لازمته من مدة طويلة – عجل الله شفاءه ووفقه لخدمة سنة رسوله وتكميل الشرح -، إلى جانب رده على المسائل التي ترد إليه كل يوم، وله بحوث قيمة في بعض المسائل طبعت في أجزاء، منها "بيان الشرعة في بيان محل أذان خطبة الجمعة"، عين فيها محل أذان خطبة الجمعة من المسجد، وبحث بسيط في عقد التأمين، وغير ذلك.

(1/86)


وقد وفقه الله لزيارة الحرمين الشريفين أربع مرات: الأولى في رمضان سنة 1366هـ الموافق لعام 1947م مع العلامة الشيخ خليل بن محمد بن حسين بن محسن الأنصاري، وفدا إلى المغفور له الملك عبدالعزيز – برد الله مضجعه -، في شأن مدرسة دار الحديث الأهلية بالمدينة المنور، فقابل الوفد المغفور له الملك عبدالعزيز ونائبه في الحجاز إذ ذاك جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز – حفظه الله -، ولقي في الرياض الشيخ محمد بن عبداللطيف ومحمد بن إبراهيم وعمر بن حسن، وفي الطائف عبدالله بن حسن آل الشيخ، وفي المدينة عبدالله بن مزاحم وغيرهم من المشايخ، واعتمر أولا في آخر رمضان ثم في شوال حين رجوعه من المدينة، ورجع الوفد بعد قضاء مهمته ونجاحه فيها في أوائل ذي القعدة في نفس السنة، ثم إن والدنا الشارح - طالت حياته في صحة وعافية – قد أدى فريضة الحج عام 1375هـ الموافق لعام 1956م عن نفسه، وبعده في عام 1382هـ الموافق لعام 1963م وعام 1391هـ الموافق لعام 1971م نيابة، تقبل الله حجه ومد في أجله ووفقه لإتمام عمله، آمين.
بيان بعض ميزات الشرح وخصائصه
الكتاب بأيدي الناظرين والعيان أصدق شاهد، فلا حاجة إلى التنبيه على ما التزمه الشارح – حفظه الله وبارك في حياته – فيه من الأمور التي لا بد من مراعاتها في شرح مشكاة المصابيح، وما أودعه من بدائع الفوائد الجليلة ونفائس الأبحاث الممتعة التي لا غنى لأحد ممن يشتغل بالحديث تدريسا وقراءة، ولكن لا بأس أن نشير إلى لمعة من خصائصه ونذكر بعض ميزاته ؛ ليكون من أول الأمر بصيرة لأولي الأبصار، فيقع في قلوبهم بانشراح وارتياح، ولو قلنا: إن الأمور التي راعاها المؤلف في هذا الشرح الجليل لا توجد مجتمعة في شرح آخر من شروح المشكاة لم يكن فيه شيء من المبالغة أصلا، وهاك بعض ميزاته:

(1/87)


1- وضع المؤلف – طال بقاؤه – أرقاما مسلسلة لأحاديث الكتاب ؛ ليكون حصرا صحيحا لأحاديثه، ولأن عد الأحاديث بالأرقام المسلسلة خير الطرق لنشر كتب الحديث وشروحها في هذا العصر، ولتكون هذه الأرقام المسلسلة كالأعلام للحديث، ثم وضع بجنبها أرقاما مسلسلة لأحاديث كل باب علحدة وجعلها بين القوسين ( ) ؛ ليمتاز عن الرقم المسلسل لأحاديث الكتاب، ولا يخفى فائدة هذا العمل على القارئ والباحث.
2- وضع أربع فهارس: أحدها فهرس الكتب والأبواب والفصول حسب ما وقع في المشكاة. وثانيها: فهرس الأحاديث مع أبوابها وفصولها مع أرقامها المسلسلة وبعض أبحاث الشرح المهمة. ثالثها: فهرس الأعلام للصحابة والتابعين وغيرهم ممن لهم ذكر أو رواية في كتاب المشكاة، وللأئمة أصحاب الأصول المذكورين في أول المشكاة. رابعها: فهرس للأماكن التي ورد ذكرها في متن الحديث مرتبا على حروف المعجم، وقد جعل فهارس هذا الجزء في أوله مع بيان رقم الصفحة، وهكذا يفعل في بقية الأجزاء، إن شاء الله تعالى.
3- كتب ترجمة كل علم من الصحابة والتابعين وغيرهم بقدر الحاجة في أول موضع ذكر فيه من المشكاة، وكذا وصف كل مكان في أول موضع وقع فيه.
4- أوفى القول في توضيح الأحاديث وتشريحها، وذكر من معاني الأحاديث المشتملة على مسائل الفقه والكلام ما هو الصحيح الراجح المعول عليه عند السلف الصالح من الصحابة والتابعين وفقهاء المحدثين – رضي الله عنهم -، وكثيرا ما أطنب الكلام في الرد على التأويلات الواهية المزخرفة التي اخترعها أهل الهوى من المبتدعين والمقلدين الجامدين المتعصبين لصوغ الأحاديث النبوية على مسالكهم الزائغة وأهوائهم الباطلة.
5- أجاب بأحسن وجه عن المطاعن التي يوردها المقلدون على مسالك فقهاء أهل الحديث في شروحهم وحواشيهم وتعليقاتهم على كتب الحديث.

(1/88)


6- ذكر اختلاف الفقهاء وأقوالهم في مسائل الخلاف مع سرد حجج هذه الأقوال، ثم عين القول الراجح المعول عليه عنده، وأيده بالأحاديث والآثار، وأجاب عن دلائل الأقوال المرجوحة بوجوه متعددة.
7- اعتنى بحل الإشكالات ودفع المعارضات عناية تامة.
8- أشار عند البحث في بعض المسائل إلى مظانها من الكتب المطولة من شرح الحديث والفقه الجامع والسنن والمسانيد والجوامع والمعاجم والرجال مع أرقام الصفحات ؛ لكي يسهل الرجوع إليها لمن يريد التوسع في الكلام، وصنع هذا حيث رأى أنه لو بسط القول فيه على الوجه الذي أراد أفضى ذلك إلى التطويل الذي لا يحتمل، والإطناب الذي يوقع في الضجر والملال.
9- التزم تخريج ما أورده المؤلف في الفصل الأول والثالث من أحاديث الصحيحين أو أحدهما إن اشترك فيها الغير من أصحاب السنن والمسانيد والمعاجم، والتزم أيضا أن يخرج أحاديث الفصل الثاني والثالث، من روايات غير الشيخين إن رواها غير من سماه المؤلف، واستدرك أيضا ما وقع من المؤلف من ترك البياض بعد ذكر الحديث دون عزوه لأحد، فبين الشارح من أخرجه.
10- وفي كثير من مثل هذا يذكر تلك الكتب بقيد الباب والصفحة.
11- التزم الكلام على أحاديث غير الصحيحين وانتقادها حسب ما تيسر وسنح له وبين درجتها من الصحة أو الضعف، معتمدا في كل ذلك على كلمات أئمة هذا الفن الجليل الشأن.
12- أشار إلى ما وقع للمؤلف من الأوهام والأخطاء في سوق ألفاظ الحديث، وفي وضع حديث الصحيحين أو أحدها في الفصل الثاني، وحديث غيرهما في الفصل الأول، وفي تخريج بعض الأحاديث، وغير ذلك مما أخذه الشارح على المؤلف واستدركه عليه، لا يخفى على من طالع الشرح بالإمعان.
13- عنى بذكر الأحاديث والآثار المؤيدة لأحاديث غير الصحيحين مع بيان درجتها من الصحة أو الضعف، وربما أشار إليها بقوله: وفي الباب عن فلان عند فلان، وعن فلان عند فلان.
14- سرد الحديث بتمامه إن ذكره المؤلف مختصرا.

(1/89)


هذا، وغير ذلك من المحاسن التي تظهر لمن يطالع الكتاب بإمعان النظر، والله الموفق.
ــــــــــــ
تحفة أهل الفكر في مصطلح أهل الأثر
جمعها وألفها
عبدالرحمن بن عبيدالله الرحماني المباركفوري
خريج الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة لطيفة في بيان مصطلحات علم الحديث مما لا بد لطالب الحديث أن يحفظها قبل الشروع في قراءة كتب الحديث، وأن يستحضرها عند الخوض في هذا الفن الجليل، وقد ذكرناها من غير تطويل وإطناب لتقاصر الهمم، ومن شاء البسط والتفصيل رجع إلى الكتب المبسوطة في علم مصطلح الحديث، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــ
علم الحديث، غايته، وثمرته، وأنواعه.
علم الحديث: هو علم يعرف به أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وأحواله.
موضوعه : ذات الرسول - صلى الله عليه وسلم - من حيث أنه رسول الله، لا من حيث أنه إنسان.
غايته وثمرته : الفوز بسعادة الدارين.
…وعلم الحديث بإطلاقه عام كلي ينقسم إلى ثلاثة أقسام: 1- العلم برواية الحديث. 2- علم مصطلح الحديث. 3- العلم بدراية الحديث.
(1) العلم برواية الحديث: هو علم يشتمل على نقل ما أضيف إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو إلى من دونه من الصحابي أو التابعي قولا أو فعلا أو تقريرا أو صفة.
(2) علم مصطلح الحديث: هو علم بأصول وقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن من حيث الرد والقبول.
موضوعه: السند والمتن من حيث الرد والقبول.
غايته وثمرته: تمييز ما يقبل من ذلك وما يرد، ومعرفته.
اسمه: علم مصطلح الحديث، ويسمى أصول الحديث، وعلوم الحديث.
(3) العلم بدراية الحديث: هو علم يبحث فيه عن المعنى المفهوم من ألفاظ الحديث، وعن المراد منها، مبنيا على قواعد العربية وضوابط الشريعة ومطابقا لأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -.
موضوعه: أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - من حيث دلالتها على المعنى المفهوم والمراد.

(1/90)


غايته: التحلي بالآداب النبوية والتخلي عما يكرهه وينهاه.
واعلم أنه قسم كل قسم من الأقسام المذكورة إلى أقسام يسمى كل واحد منها باسم، ومن أراد معرفة ذلك رجع إلى الكتب المبسوطة في علم أصول الحديث.
الحديث والخبر والأثر
الحديث: لغة: الجديد، واصطلاحا: هو ما أضيف إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خلقي أو خلقي، أو ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إلى من دونه من الصحابي والتابعي كذلك، ويجمع على أحاديث على خلاف القياس.
الخبر والنبأ: الخبر لغة يطلق على ما هو أعم من النبأ، فيشمل الأخبار الجليلة والتافهة، بخلاف النبأ فإنه خاص بما له خطب وشأن.
واصطلاحا: مرادف للحديث، وقيل: هما متباينان، فالحديث ما جاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والخبر ما جاء عن غيره، وقيل في بيان التباين بينهما: أن الحديث ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين، والخبر ما جاء عن أخبار الملوك والسلاطين والأيام الماضية، ولهذا يقال لمن اشتغل بالسنة محدث، ولمن اشتغل بالتواريخ أخباري، وقيل: بينهما عموم وخصوص مطلق، فالحديث ما جاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والخبر ما جاء عنه أو عن غيره، وعلى هذا فكل حديث خبر وليس كل خبر حديث.
السنة: هي أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وتقريراته وصفاته، فهي مرادفة للحديث.
الأثر: لغة: بقية الشيء، واصطلاحا: ما روي عن الصحابة والتابعين من أقوال أو أفعال، وعند المحدثين الأثر مرادف للخبر والحديث، وفي التدريب "يقال: أثرت الحديث بمعنى رويته، ويسمى المحدث أثريا نسبة للأثر".
الحديث القدسي والفرق بينه وبين القرآن الكريم
الحديث القدسي: هو ما نقل إلينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع إسناده إياه إلى ربه عز وجل.

(1/91)


والفرق بينه وبين القرآن الكريم أن القرآن لفظه ومعناه من الله سبحانه وتعالى، ويتعبد بتلاوته، ويشترط في إثباته التواتر.
والحديث القدسي ليس لفظه من الله تعالى، ولا يتعبد بتلاوته، ولا يشترط في ثبوته التواتر.
قال الكرماني: القرآن لفظ معجز، ونزل بواسطة جبريل عليه السلام، وهذا غير معجز، وبدون الواسطة، ومثله يسمى بالحديث القدسي والإلهي والرباني.
الفرق بين الحديث القدسي وبين غير القدسي
فإن قلت: الأحاديث كلها كذلك، كيف وهو لا ينطق عن الهوى ؟ قلت: الفرق بأن القدسي مضاف إلى الله تعالى، ومروي عنه بخلاف غيره، وقد يفرق بأن القدسي ما يتعلق بتبرئة ذاته تعالى وصفاته الجلالية والكمالية.
قال الطيبي: القرآن هو اللفظ المنزل به جبريل – عليه السلام – على النبي - صلى الله عليه وسلم -، والقدسي: إخبار الله معناه بالإلهام أو المنام، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته بعبارة نفسه، وسائر الأحاديث لم يضفها إلى الله، ولم يروها عنه.
ولراوي الحديث القدسي صيغتان:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عز وجل.
قال الله تعالى فيما رواه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والمعنى واحد.
والأحاديث القدسية أكثر من مائة حديث، منها ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي ذر – رضي الله عنه – عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن الله تعالى أنه قال: ((يا عبادي ! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم حراما، فلا تظالموا...)) الحديث.
أقسام الخبر باعتبار طرق وصوله إلينا
الخبر ينقسم بهذا الاعتبار إلى متواتر وآحاد.
المتواتر: لغة: المتتابع، واصطلاحا: هو ما نقله إلينا جماعة كثيرون تحيل العادة تواطؤهم وتوافقهم على الكذب، عن جماعة كذلك، ويكون إخبارهم عن شيء محسوس من مشاهد أو مسموع، كأن يقول: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل كذا، أو سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا.

(1/92)


شروط التواتر: وشروطه أربعة: (1) أن يرويه عدد كثيرون بلا حصر. (2) أن يرووا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء في جميع طبقات السند. (3) أن تحيل العادة تواطؤهم وتوافقهم على الكذب. (4) أن يكون انتهاء خبرهم مستندا إلى الحس من مشاهد أو سماع.
والمتواتر يفيد العلم اليقيني الضروري، وهو الذي يضطر إليه الإنسان، بحيث لا يمكنه دفعه، وقيل: لا يفيد إلا العلم النظري، وليس بشيء ؛ لأن العلم بالتواتر يحصل لمن ليس له أهلية النظر مثل العامي.
والمتواتر نوعان: لفظي، ومعنوي.
المتواتر اللفظي: هو ما تواتر لفظه ومعناه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كحديث: ((من كذب علي متعمدا....)) الخ.
المتواتر المعنوي: ما تواتر معناه دون لفظه، أو هو ما تواتر القدر المشترك فيه، كحديث المسح على الخفين، وحديث رفع اليدين في الدعاء.
هذا، وقسم بعضهم التواتر إلى أربعة أقسام: أحدها:
تواتر الإسناد: وهو أن يروي الحديث من أول الإسناد إلى آخره جماعة يستحيل اجتماعهم على الكذب، وهذا هو التواتر المشهور عند المحدثين. والثاني:
تواتر الطبقة: كتواتر القرآن، فإنه تواتر على البسيطة شرقا وغربا، درسا وتلاوة، حفظا وقراءة، وتلقاه الكافة عن الكافة طبقة عن طبقة، ولا يحتاج إلى إسناد يكون عن فلان عن فلان، بل هو شيء ينقله أهل المشرق والمغرب عن أمثالهم جيلا عن جيل، لا يختلف فيه مؤمن ولا كافر منصف غير معاند، وهذا القسم من المتواتر يعسر إيراد إسناد له على قواعد المحدثين فضلا عن أسانيد. والقسم الثالث:
تواتر عمل وتواتر توارث: وهو أن يعمل به في كل قرن من عهد صاحب الشريعة إلى يومنا هذا جم غفير من العاملين، بحيث يستحيل عادة تواطؤهم على الكذب أو غلط، كالسواك في الوضوء مثلا، فهو سنة، واعتقاد سنيته فرض ؛ لأنه ثابت بالتواتر العملي. والقسم الرابع:

(1/93)


تواتر القدر المشترك: وهو ما تختلف فيه ألفاظ الرواة، بأن يروي قسم منهم واقعة وغيره واقعة أخرى، وهلم جرا، غير أن هذه الوقائع تكون مشتملة على قدر مشترك، فهذا القدر المشترك يسمى بالمتواتر المعنوي أو المتواتر من جهة المعنى، وهذا كتواتر المعجزة، فإن مفرداتها ولو كانت آحادا لكن القدر المشترك متواتر قطعا.
أخبار الآحاد
الآحاد جمع أحد بمعنى واحد. و
خبر الواحد: في اللغة: ما يرويه شخص واحد، وفي الاصطلاح: ما لم يصل حد التواتر، أو لم يتوفر فيه شروط المتواتر، وهو يفيد الظن. وقيل: العلم النظري، وقال ابن حزم – رحمه الله – في الإحكام: إن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوجب العلم والعمل به معا.
ويطلق المحدثون أخبار الآحاد على ما عدا المتواتر، وهي تنقسم إلى مشهور، وعزيز، وغريب.
المشهور والمستفيض: المشهور لغة: ما اشتهر على الألسنة وإن كان كذبا، واصطلاحا: ما رواه عدد محصور فوق الاثنين، وسمي بذلك لشهرته، ويقال له المستفيض أيضا، وسمي بذلك لانتشاره، من فاض الماء يفيض فيضا، وقيل: بينهما عموم وخصوص مطلق، فالمستفيض ما كان عدد الرواة في ابتداء السند وانتهائه سواء، والمشهور يشمل ما كان كذلك وما كان العدد فيه مختلفا.
العزيز: لغة: النادر والقوي والشاق، واصطلاحا: ما رواه اثنان ولو في طبقة، وسمي بذلك إما لندرته وقلة وجوده، أو لكونه عز أي قوي بمجيئه من طريق آخر، أو لمشقة الحصول عليه عند البحث عنه.
تنبيه
لا يشترط لكون الحديث صحيحا أن يكون عزيزا عند الجمهور، خلافا لمن اشترط ذلك كأبي علي الجبائي والحاكم وابن العربي، وثمرة الخلاف تظهر في أن الغريب لا يكون صحيحا عند أبي علي
الجبائي ومن رأى رأيه ؛ لكونه قد جاء من طريق واحد، ومن شرط الصحيح عندهم أن يأتي من طريقين على الأقل، أما عند غيرهم فيكون صحيحا لعدم اشتراطهم بذلك.

(1/94)


الغريب: لغة: فعيل من الغرابة، وهي النزوح عن الوطن، وفي الاصطلاح: هو ما رواه راو واحد، ويسمى الفرد، وسمي غريبا لانفراد راويه عن غيره به كالغريب الذي شأنه الانفراد والنزوح عن وطنه.
وينقسم الغريب إلى مطلق ونسبي.
الغريب المطلق: ويسمى الفرد المطلق: هو ما وقع الغرابة والتفرد في أصل السند، وهو طرفه الذي فيه الصحابي، كأن ينفرد به تابعي واحد عن الصحابي ولا يتابع عليه، وقد يستمر التفرد في جميع رواته أو أكثرهم.
الغريب النسبي: ويسمى الفرد النسبي: هو ما وقع الغرابة والتفرد فيه في أثناء السند في تابع التابعي أو فيمن دونه من رجال السند، وصورة ذلك أن يروي الحديث عن الصحابي أكثر من واحد من التابعين ثم ينفرد بروايته عن واحد منهم شخص واحد، وسمي بذلك لأن التفرد وقع فيه بالنسبة إلى شخص معين، وقد يكون الحديث مشهورا في نفسه أي في الواقع.
وإطلاق الفرد على الغريب قليل ؛ لأن الغريب والفرد وإن كانا مترادفين إلا أن المحدثين قد غايروا بينهما من حيث كثرة الاستعمال وقلته، فالفرد أكثر ما يطلقونه على الفرد المطلق والغريب على الفرد النسبي، وهذا من حيث إطلاق الاسم عليهما، أما من حيث استعمالهم الفعل المشتق منه فلا يفرقون، فيقولون في المطلق والنسبي كليهما: تفرد به فلان، أو أغرب به فلان.
تقسيم الآحاد إلى مقبول ومردود
تنقسم أخبار الآحاد من مشهور وعزيز وغريب إلى مقبول ومردود.
المقبول: ما ترجح صدق ناقله، وهو يوجب العمل عند الجمهور.
المردود: هو الذي لم يترجح صدق المخبر به.
وخبر الواحد المقبول مفيد للظن، وقد يفيد العلم النظري إذا احتف بالقرائن.
والخبر المحتف بالقرائن أنواع:

(1/95)


1- ما أخرجه الشيخان في صحيحهما مما لم يبلغ حد التواتر، ولم يكن مما انتقده أحد من الحفاظ، فإنه قد حفت به قرائن قوية كافية لحصول العلم النظري، منها جلالتهما في هذا الشأن، وتقدمهما في تمييز الصحيح من السقيم على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول.
2- الخبر المشهور إذا كانت له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة والعلل القادحة.
3- الخبر المسلسل بالأئمة الحفاظ المتقنين، حيث لا يكون غريبا، كالحديث الذي يرويه الإمام أحمد
وشريك له عن الشافعي، ثم الشافعي رواه وشريك له عن مالك بن أنس، ويرويه مالك عن نافع مثلا، فهذه القرائن الثلاثة تختص الأولى منها بما في الصحيحين، والثانية بما له طرق متعددة، والثالثة بما رواه الأئمة المتقنون.
العلم النظري: هو العلم الحاصل عن النظر والاستدلال.
العلم الضروري: هو الذي يضطر إليه الإنسان بحيث لا يمكنه دفعه.
والفرق بينه وبين العلم النظري أن العلم الضروري يحصل بلا استدلال ولكل سامع.
والنظري لا يتأتى إلا بالاستدلال على الإفادة، ولا يحصل إلا لمن له أهلية النظر.
تقسيم الخبر المقبول إلى صحيح وحسن لذاته ولغيره
تنقسم أخبار الآحاد المقبولة إلى أربعة أقسام: (1) الصحيح لذاته. (2) الصحيح لغيره. (3) الحسن لذاته. (4) الحسن لغيره.
الصحيح لذاته: هو ما روي بنقل عدل تام الضبط عن مثله متصل السند غير معل ولا شاذ.
العدل: المراد بالعدل عدل تام الرواية، وهو المسلم البالغ والعاقل السالم من الفسق بارتكاب كبيرة أو إصرار على صغيرة، والسالم أيضا مما يخل بالمروءة، وقيل: هو المتصف بالعدالة، وهي التمسك بأحكام الشرع وآدابه فعلا وتركا، وقيل: العدل عند المحدثين من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة، وينبغي أن يعلم أن عدل الرواية أعم من عدل الشهادة، فإن عدل الشهادة مخصوص بالحر وعدل الرواية يشمل الحر والعبد.
التقوى: هي اجتناب الأعمال السيئة من شرك وفسق وبدعة.

(1/96)


المروءة: هي الاحتراز عما يذم عرفا عند ذوي العقول السليمة.
وتثبت العدالة بالاستفاضة والشهرة، كعدالة مالك والشافعي، وبتنصيص عالمين عليها، والأصح أنه يكفي في التعديل والتجريح عدل واحد، ويشترط في التجريح ذكر السبب.
الضبط: هو الحزم في الحفظ، وهو نوعان: (1) ضبط الصدر. (2) ضبط الكتاب.
ضبط الصدر: أن يثبت ما سمعه في صدره، بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء.
ضبط الكتاب: هو أن يحفظ كتابه من التغيير والتبديل، ويصونه لديه منذ سمع فيه وصححه إلى أن يؤديه منه.
ويعرف ضبط الراوي بموافقة الثقات المتقنين غالبا، ولو من حيث المعنى، ولا تضر مخالفته النادرة، فإن كثرت اختل ضبطه ولا يحتج بحديثه، وارجع لتفصيل الكلام في معنى العدالة والمروءة إلى "توجيه النظر" للجزائري (ص 25-30).
متصل السند: هو ما سلم إسناده من انقطاع مطلقا، بحيث يكون كل من رجاله سمع ذلك المروي من شيخه.
المعل والمعلل: لغة: ما فيه علة، واصطلاحا: ما فيه علة خفية قادحة في صحة الخبر، كالإرسال الخفي ونحوه.
العلة القادحة: هي ما تعرض للصحيح بحسب الظاهر بالتأمل في طرق الحديث، كأن يكون معروفا عن صحابي ويروى عن غيره، وكأن يكون مرسلا أو منقطعا أو موقوفا فيروى متصلا، والعلة قد تكون في المتن، وقد تكون في الإسناد.
الشاذ: هو لغة: المنفرد، أي من تفرد من الجملة وخرج منها، واصطلاحا: ما خالف فيه الراوي من هو أرجح وأوثق منه.
الصحيح إسنادا: هو الذي اتصل سنده برواية الثقات الضابطين.
…ولا تلازم بين صحة الحديث وصحة الإسناد، فقد يصح الإسناد لاستجماع شروطه من الاتصال والعدالة والضبط، ولا يصح المتن لشذوذ أو علة، وقد لا يصح السند ويصح المتن لوجوده من طريق أخرى معتمدة، والصحيح بهذا التعريف المتقدم يشمل المرفوع والموقوف.
مراتب الصحيح

(1/97)


تختلف مراتب الصحيح بسبب تفاوت الأوصاف المقتضية للصحة، فما يكون رواته في الدرجة العليا من العدالة والضبط وسائر الصفات التي توجب الترجيح كان أصح مما دونه، وبهذا الاعتبار يرجع تقسيم الصحيح إلى سبعة أقسام، وهي:
(1) ما اتفق عليه الشيخان: البخاري ومسلم. (2) ما انفرد به البخاري. (3) ما انفرد به مسلم. (4) ما كان على شرطهما ولم يخرجاه. (5) ما كان على شرط البخاري. (6) ما كان على شرط مسلم. (7) ما صح عند غيرهما ممن التزم الصحة من الأئمة كابن خزيمة وابن حبان وغيرهما مما لم يروياه، ولم يكن على شرطهما لا اجتماعا ولا انفرادا.
شرط الشيخين: المراد بشرط الشيخين أو أحدهما أن يكون الحديث مرويا برجال موجودة في كتابيهما أو في أحدهما، مع مراعاة الكيفية التي التزمها الشيخان في الرواية عنهم.
…وهذه المراتب السبع كل واحدة منها مقدمة على التي تليها.
الصحيح لغيره: هو ما كانت شروطه أخف من شروط الصحيح لذاته، وانجبر بكثرة الطرق، وقيل: هو الحسن لذاته إذا تعددت طرقه، فبذلك يقوى ويرتفع عن درجة الحسن إلى درجة الصحيح لكن لا لذاته.
الحسن لذاته: هو ما رواه عدل خفيف الضبط متصل السند غير معل ولا شاذ، ولم يوجد ما ينجبر به ذلك القصور، فهو جامع لشروط الصحيح لذاته، إلا أن الضبط خف في بعض رواته ولم يوجد ما يجبر به ذلك القصور، ويشارك الصحيح أيضا في الاحتجاج به وإن كان دونه رتبة وقوة.
والحسن على مراتب كالصحيح، أي تتفاوت مراتبه متنا وإسنادا كالصحيح.
الحسن لغيره: هو الخبر المتوقف عن قبوله إلا إذا قامت قرينة ترجح جانب قبوله كحديث مستور الحال إذا تعددت طرقه.
ألقاب للحديث تشمل الصحيح والحسن

(1/98)


الجيد والقوي: الجيد والقوي مرادفان للصحيح بالمعنى المتقدم، وليسا نوعين آخرين، قال السيوطي: الجودة قد يعبر بها عن الصحة، فيتساوى حينئذ الجيد: الصحيح، إلا أن المحقق منهم لا يعدل عن الصحيح إلى جيد إلا لنكتة، كأن يرتقي الحديث عنده من الحسن لذاته، ويتردد في بلوغه الصحيح، فالوصف به حينئذ أنزل رتبة من الوصف بصحيح، وكذا القوي.
الصالح: هو يشمل الصحيح والحسن لصلاحيتهما للاحتجاج، ويستعمل أيضا في ضعيف يصلح للاعتبار.
الثابت والمجود: هما أيضا يشملان الصحيح والحسن وليسا نوعين آخرين.
معنى قول بعض المحدثين: "حديث حسن صحيح".
قد يجمع الترمذي وغيره بين الصحيح والحسن في موصوف واحد، فيقول: هذا حديث حسن صحيح، مع أن الحسن أقل درجة من الصحيح وقاصر عنها، وذلك لأحد أمرين:
1- حصول التردد من ذلك الإمام في الناقل إذا تفرد برواية الحديث هل هو من أهل تمام الضبط، فيعتبر حديثه صحيحا، أو من الذين خف ضبطهم فيكون حديثه حسنا، وتقدير العبارة: حسن أو صحيح، ويكون أقل رتبة مما قيل فيه: صحيح، بالجزم.
2- كون الحديث مرويا بإسنادين، هو من أحدهما صحيح، ومن الثاني حسن، فيكون إطلاق الصحة والحسن عليه باعتبار إسنادين أحدهما صحيح والآخر حسن، ويكون الحديث أقوى مما قيل فيه صحيح فقط.
قول الترمذي: "حسن غريب".
قد استشكل قول الترمذي "حسن غريب" بأن الحديث الحسن عنده "ما روي من غير وجه"، والغريب "ما تفرد به راو واحد"، فإذا جمع بين الوصفين جاء الإشكال للتنافي بين الوصفين.
والجواب عنه أن اصطلاح الترمذي هذا يحمل على كل حديث وصفه الترمذي بالحسن فقط، أي من غير صفة أخرى، أما ما وصفه بالحسن والغرابة معا فالمراد به الحسن على اصطلاح جمهور المحدثين، لا على اصطلاحه، ولا منافاة بين الحسن والغريب على اصطلاحهم، أو أشار به إلى اختلاف الطرق، بأن جاء في بعض الطرق غريبا وفي بعضها حسنا يعني أنه غريب من هذا الإسناد

(1/99)


الخاص وحسن من وجه آخر، أو غريب سندا وحسن متنا ؛ لكونه مرويا عن جماعة من الصحابة.
وقيل: الواو بمعنى "أو" بأنه يشك ويتردد في أنه غريب أو حسن لعدم معرفته جزما.
الضعيف: هو ما فقد صفة أو أكثر من صفات الصحيح والحسن وشروطهما، وأنواعه كثيرة كما سيأتي.
حكم زيادة الثقة: ومما يحسن العناية به من أنواع علوم الحديث زيادات الثقة، وهي كما تقع في المتن تقع في السند أيضا برفع موقوف أو وصل منقطع أو نحو ذلك، وهي ثلاثة أقسام:
1- ما كان منافيا لما قد رواه الثقات أو الأوثق منه فهذا مردود، وتسمى رواية الثقات أو الأوثق محفوظا، ورواية الثقة شاذا.
فالخبر المحفوظ: ما رواه الثقات أو الأوثق منافيا لما رواه الثقة.
والشاذ: ما رواه الثقة مخالفا لما رواه الثقات أو الأوثق منه.
2- ما رواه الثقة ولم يخالف غيره من الثقات أو الأوثق منه، فهذا مقبول.
3- ما زاده الثقة مع نوع مخالفة ومنافاة لما ليست فيه تلك الزيادة، ولكن هذه المخالفة منحصرة في تقييد المطلق أو تخصيص العام، فهذا حكمه القبول على الراجح.
وإذا وقعت المخالفة من الثقة للضعيف فالراجح يقال له المعروف ومقابله المنكر.
فالمعروف: ما رواه الثقة مخالفا لما رواه الضعيف.
والمنكر: ما رواه الضعيف مخالفا للثقة.
والفرق بين الشاذ والمنكر أن بينهما عموما وخصوصا من وجه، يجتمعان في اشتراط المخالفة ويفترقان في أن الشاذ راويه ثقة أو صدوق، والمنكر راويه ضعيف، فبينهما عموم وخصوص من وجه.
المتابعة
المتابعة: هي لغة: الموافقة، واصطلاحا: أن تحصل المشاركة للراوي في الرواية، وهي نوعان:
المتابعة التامة: وهي أن تحصل المشاركة للراوي نفسه.
المتابعة القاصرة: وهي أن تحصل المشاركة في شيخ الراوي أو فيمن فوقه من الرجال إلى الصحابي.
المتابع: بكسر الباء، ويسمى تابعا: هو الخبر المشارك لخبر آخر في اللفظ أو المعنى فقط مع الاتحاد في الصحابي.

(1/100)


المتابع: بفتح الباء، هو الخبر الذي شارك راويه غيره في اللفظ والمعنى أو المعنى فقط.
الشاهد: هو الحديث المشارك لحديث آخر في اللفظ والمعنى أو المعنى فقط مع الاختلاف في الصحابي.
فالفرق بين الشاهد والمتابع اختلاف الصحابي في الشاهد واتحاده في المتابع، وقد يطلق كل من المتابع والشاهد على الآخر.
الاعتبار والاستشهاد: هو تتبع طرق الحديث الذي ظن أنه فرد من الجوامع والمسانيد والأجزاء وغيرها ؛ ليعلم هل له متابع أو شاهد أم لا.
تقسيم الخبر المقبول إلى معمول به وغير معمول به
(1) المحكم: هو الحديث المقبول الذي سلم من معارضة مثله ينقض معناه، وحكمه وجوب العمل به، وغالب الأحاديث من هذا النوع.
(2) مختلف الحديث: الحديث المقبول المعارض بمثله مع إمكان الجمع بينهما بغير تعسف وتكلف.
(ألف) وإذا تعارض حديثان مقبولان وأمكن الجمع بينهما والتوفيق بدون تكلف وتعسف فلا يصار إلى غيره.
( ب ) وإن لم يمكن الجمع بينهما بحث عن التاريخ، فإن علم فالمتأخر هو الناسخ للمتقدم ويعمل به.
( ج ) وإن لم يعرف التاريخ وأمكن ترجيح أحد الخبرين بوجه من وجوه الترجيح المتعلقة بالمتن أو الإسناد فالمصير إلى الترجيح، ويقدم الراجح على المرجوح.
( د ) وإن لم يمكن الجمع ولا النسخ ولا الترجيح توقف عن العمل بهما حتى يتبين للناظر وجه الترجيح بينهما.
هذا إذا كان المتعارضان قويين، فإن كانت المعارضة من الضعيف للقوي فلا عبرة بها ؛ لأن القوي لا تؤثر فيه معارضة الضعيف.
النسخ وطرق معرفته
النسخ: في اللغة: الإزالة والنقل، وفي الاصطلاح: رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر عنه.

(1/101)


ويعرف النسخ بأمور: (1) ما ورد في النص وهو أصرحها، كحديث بريدة: (( كنت نهيتكم عن زيارة القبور...)) الحديث. (2) ما أخبر الصحابي بتأخره، كقول جابر: (( كان آخر الأمرين من رسول الله ترك الوضوء مما مست النار ))، (3) تعقل الراوي الناسخ والمنسوخ، كقول الصحابي: (( رخص لنا في المتعة، فمكثنا ثلاثا ثم نهانا عنه )). (4) ما عرف بالتاريخ.
والإجماع ليس بناسخ، بل هو دال على النسخ.
وجوه الترجيح بين ما ظاهره التعارض
طرق الترجيح بين مختلف الحديث كثيرة جدا، قد عد الحازمي في كتابه "الناسخ والمنسوخ" خمسين وجها، وأوصلها غيره إلى أكثر من مائة كما استوفى ذلك العراقي في نكته، وقال القاسمي في قواعد التحديث: الترجيح قد يكون باعتبار الإسناد، وباعتبار المتن، وباعتبار المدلول، وباعتبار أمر خارج، فهذه أربعة أنواع، ثم ذكر وجوه الترجيح باعتبار الإسناد، وعد ثمانية عشر وجها، منها: (1) الترجيح بكثرة الرواة، فيرجح ما رواته أكثر لقوة الظن به، وإليه ذهب الجمهور. (2) ترجيح رواية الكبير على الصغير ؛ لأنه أقرب إلى الضبط إلا أن يعلم أن الصغير مثله في الضبط أو أكثر ضبطا منه. (3) ترجيح رواية الأوثق. (4) ترجيح رواية الأحفظ. (5) أن يكون أحدهما من الخلفاء الأربعة دون الآخر. (6) أن يكون أحدهما صاحب الواقعة ؛ لأنه أعرف بالقصة. (7) ترجيح رواية من دام حفظه وعقله ولم يختلط على من اختلط في آخر عمره ولم يعرف هل روى الخبر حال سلامته أو حال اختلاطه. (8) تقديم الأحاديث التي في الصحيحين على الأحاديث الخارجة عنهما.
ثم ذكر وجوه الترجيح باعتبار المتن، وعد سبعة طرق، منها: (1) يقدم الخاص على العام. (2) يقدم ما كان حقيقة شرعية أو عرفية على ما كان حقيقة لغوية. (3) يقدم المقيد على المطلق.

(1/102)


ثم ذكر للترجيح باعتبار المدلول أربعة أوجه، منها: (1) يقدم ما كان مقررا لحكم الأصل والبراءة على ما كان ناقلا. (2) أن يكون أحدهما أقرب إلى الاحتياط فإنه أرجح. (3) يقدم المثبت على المنفي ؛ لأن مع المثبت زيادة علم.
ثم بين وجوه الترجيح باعتبار أمور خارجة، وعد سبعة وجوه، منها: (1) أن يكون أحدهما قولا والآخر فعلا، فيقدم القول ؛ لأن له صيغة والفعل لا صيغة له. (2) أن يكون أحدهما موافقا لعمل الخلفاء الأربعة دون الآخر ؛ فإنه يقدم الموافق (4) أن يكون أحدهما أشبه بظاهر القرآن دون الآخر، فإنه يقدم.
ثم قال: وللأصوليين مرجحات أخر في الأقسام الأربعة منظور فيها، ولا اعتداد عندي بمن نظر فيما سقناه ؛ لأن القلب السليم لا يرى فيه مغمزا.
الخبر المردود وأسباب رده
الخبر المردود: هو الذي لم يترجح صدق المخبر به، وله أنواع كثيرة، وهي ترجع في الجملة إلى سببين: (1) السقوط في السند. (2) الطعن في بعض رواته.
السقوط في السند: هو عدم اتصاله. و
الطعن في الراوي: أن يكون مجروحا بأمر يرجع إلى ديانته أو ضبطه.
أنوع المردود باعتبار السقوط
المعلق: وهو ما حذف من مبدأ سنده راو فأكثر على التوالي، ويعزى الحديث إلى من فوق المحذوف، مأخوذ من تعليق الجدار والطلاق لاشتراكهما في قطع الاتصال، وإنما عد هذا ونحوه من أنواع المردود للجهل بحال الراوي المحذوف.
وللتعليق صور، منها:
1- أن يحذف جميع السند، ويقول مثلا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا.
2- أن يحذف جميع السند إلا الصحابي.
3- أن يحذف جميعه إلا الصحابي والتابعي.
4- أن يحذف من حدثه ويضيفه إلى من فوقه.
وإذا قال محدث: جميع من أحذفه ثقات، فقد اختلف في قبول ذلك وعدمه، وعند الجمهور لا يقبل إلا إن جاء مسمى من وجه آخر، وعرف بالعدالة والضبط ؛ لأن ذلك المحذوف قد يكون ثقة عنده ومجروحا عند غيره.

(1/103)


وقال ابن حجر نقلا عن ابن الصلاح: أنه إن وقع الحذف في كتاب التزمت صحته كصحيح البخاري فما أتى فيه بصيغة الجزم دل على أنه ثبت إسناده عنده، فهو في حكم الصحيح، وما أتى فيه بغير صيغة الجزم ففيه مقال، أي ليس فيه حكم بصحته، ومع ذلك فإيراده في كتاب الصحيح مشعر بصحة أصله إشعارا يؤنس به ويركن إليه، وعلى الناظر إذا أراد الاستدلال أن ينظر في رجاله وحال سنده ليرى صلاحيته للحجة وعدمها.
وصيغ الجزم عند البخاري: جاء، روى، قال، ونحوه ببناء الفاعل.
ومن صيغ التمريض عنده: قيل، ذكر، روي، حكي، يروى، يذكر، يقال، يحكى عن فلان، مبنيا للمفعول.
المرسل: وهو ما كان السقوط فيه من آخر السند بعد التابعي، كأن يقول التابعي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، أو فعل كذا، أو فعل بحضرته كذا، أو أمر بكذا.
أو هو ما سقط منه الصحابي سواء أكان الراوي المرسل تابعيا كبيرا أو صغيرا، وهو لغة: من قولهم: ناقة رسل أي سريعة، فكأن المرسل أسرع إلى الحديث فحذف بعض إسناده، وقد يطلق المرسل على المنقطع والمعضل الآتي ذكرهما.
المعضل: وهو لغة: مأخوذ من أعضله بمعنى أعياه، وقيل: من قولهم: أمر عضيل أي مستغلق شديد، واصطلاحا: هو ما سقط من سنده راويان أو أكثر على التوالي قبل الصحابي، والفرق بينه وبين المعلق أن بينهما
عموما وخصوصا من وجه، يجتمعان فيما إذا كان الساقط اثنين أو أكثر في بدء السند، وينفرد المعضل إذا وقع السقوط في غير بدئه كوسطه مثلا.
المنقطع: هو ما سقط من سنده راو أو أكثر بشرط عند التوالي، وقيل: هو ما لم يتصل سنده من أي وجه وبأي حال كان انقطاعه، فيكون المنقطع على هذا أعم الأنواع الثلاثة.

(1/104)


حكم المنقطع والمعضل والمرسل: عد المنقطع والمعضل من أنواع المردود ؛ للجهل بحال المحذوف والمحذوفين، وكذلك المرسل ؛ لأن المحذوف فيه يحتمل أن يكون صحابيا أو تابعيا، وعلى الثاني يحتمل أن يكون ضعيفا أو ثقة، وعلى الثاني يحتمل أن يكون أخذ عن صحابي أو تابعي، وعلى الثاني يعود الاحتمال السابق ويتعدد، وإذا عرف من عادة تابعي أن لا يرسل إلا عن ثقة فقد اختلف في مراسيله، فذهب جمهور المحدثين إلى التوقف لبقاء الاحتمال، وهو أحد قولي أحمد، وثانيهما، وهو قول المالكية والحنفية: يقبل مطلقا، وقال الشافعي: يقبل إذا اعتضد بمجيئه من وجه آخر يباين الطريق الأولى، وهذا الخلاف في مراسيل غير الصحابة، وأما مرسل الصحابي فحجة عند الجميع.
تقسيم السقوط من السند
السقوط من السند قسمان:
(1) السقوط الواضح الجلي: وهو الذي يحصل الاشتراك في معرفته، ككون الراوي مثلا لم يعاصر من روى عنه على زعمه، أو هو ما يعرف بعدم ملاقاة الراوي لشيخه، إما لأنه لم يدرك عصره، أو أدركه ولكن لم يجتمع به، وليس له منه إجازة ولا وجادة.
المرسل الجلي: الإسناد الذي يكون السقوط فيه واضحا، ولذلك يحتاج إلى علم التاريخ ؛ لأنه يتضمن مواليد الرواة ووفياتهم وأزمان طلبهم وارتحالهم.
(2) السقوط الخفي: وهو الذي لا يدركه إلا الجهابذة المطلعون على طرق الحديث وعلل الأسانيد دون غيرهم كما في المدلس.
المدلس: بفتح اللام – هو ما رواه راو عمن لقيه ولم يسمع منه بلفظ يوهم السماع منه، كعن أو قال أو أن فلانا قال كذا، وهو مأخوذ من الدلس – بالتحريك – وهو اختلاط الظلام بالنور، فكأن المدلس أظلم الأمر على الناظر والسامع لتغطيته وجه الصواب.
والتدليس نوعان: (1) تدليس الإسناد. (2) تدليس الشيوخ.

(1/105)


(1) تدليس الإسناد: هو أن يروي عمن لقيه وسمع منه لكن لم يسمع منه ذلك الحديث الذي دلسه عنه، أو يروى عمن لقيه ولم يسمع منه شيئا بلفظ موهم أنه سمعه منه، كأن يقول: عن فلان، أو قال فلان، وهو ثلاثة أقسام:
1- تدليس القطع: ويسمى تدليس الحذف، وهو أن يسكت الراوي بين صيغ الأداء ناويا بذلك القطع أو الحذف.
2- تدليس العطف: وهو أن يصرح الراوي بالتحديث عن شيخ له، ويعطف عليه شيخا آخر لم يسمع منه ذلك الحديث.
3- تدليس التسوية: وهو أن يسقط الراوي ضعيفا بين ثقتين لقي أحدهما الآخر، ويروي الحديث عن شيخه الثقة عن الثقة الثاني بلفظ يوهم الاتصال كعن ونحوها ؛ ليصير الإسناد كله ثقات، وهو شر أنواع التدليس.
(2) تدليس الشيوخ: هو أن يسمي شيخه الذي سمع منه بغير ما اشتهر عند الناس من اسم أو لقب أو كنية، قاصدا تعمية أمره على السامع.
وقد ذم جماعة من العلماء التدليس بأنواعه حتى قال شعبة: لأن أزني أحب إلي من أن أدلس، وقال: التدليس أخو الكذب.
قال ابن الصلاح: والصحيح التفصيل بين ما صرح فيه بالسماع فيقبل، وبين ما أتى بلفظ محتمل فيرد.
المرسل الخفي: هو ما رواه الراوي عن معاصر له لم يعرف اللقاء بينهما، وليس له منه إجازة ولا وجادة، بلفظ موهم للاتصال، كعن وقال.
فالفرق بين المدلس والمرسل الخفي أن التدليس يختص بمن روى عمن عرف لقاؤه إياه، فأما إن عاصره ولم يعرف اللقاء بينهما فهو المرسل الخفي.
ويعرف الإرسال الخفي والتدليس بأمور، منها: أن يعرف عدم اللقاء بين الراوي والمروي عنه بنص بعض الأئمة على ذلك، ومنها: أن يعرف عدم سماعه مطلقا أو لذلك الحديث بخصوصه بنص إمام على ذلك، أو إخبار المدلس والمرسل نفسه بذلك في بعض طرق الحديث، أو نحو ذلك.
وجوه الطعن في الراوي
وهي عشرة، خمسة منها تتعلق بالعدالة، وخمسة تتعلق بالضبط.
فالخمسة التي تتعلق بالعدالة، هي (1) الكذب. (2) التهمة بالكذب. (3) الفسق. (4) الجهالة. (5) البدعة.

(1/106)


والخمسة التي تتعلق بالضبط، هي (1) فحش الغلط. (2) الغفلة. (3) الوهم. (4) مخالفة الثقات. (5) سوء الحفظ، وترتيبها حسب تأثيرها في الرد كالآتي:
الوجه الأول: كذب الراوي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويسمى خبر الكاذب عليه - صلى الله عليه وسلم -: الموضوع، من قولهم: وضع فلان، إذا ألصق به وافترى عليه.
فالحديث الموضوع: هو الحديث الذي رواه راو عرف بتعمد الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ويعرف الوضع بإقرار الواضح نفسه باختلاقه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو بحال المروي، كأن يكون مناقضا للقرآن أو السنة المتواترة، أو يكون مخالفا للحس والمشاهدة غير قابل للتأويل، أو يكون المروي خبرا عن أمر عظيم تتوافر الدواعي على نقله ثم لا ينقله إلا راو واحد، أو يتضمن المروي وعيدا شديدا على أمر صغير، أو وعدا عظيما على أمر حقير.
والأمور الداعية إلى الوضع كثيرة، منها:
1- قصد التقرب إلى الله تعالى بوضع ما يرغب الناس في طاعته ويرهبهم عن معصيته، كما فعل المتصوفة.
2- التزلف إلى ولاة الأمر والحكام بوضع ما يوافق أهواءهم.
3- قصد إفساد الدين على أهله كما فعل الزنادقة.
4- غلبة الجهل كبعض المتعبدين.
5- فرط العصبية وانتصار للرأي كبعض المقلدين.
6- الإغراب لقصد الاشتهار.
7- التكسب والارتزاق بما يضع من الأحاديث كما هو شأن القصاصين.
ورواية الموضوع حرام بالاتفاق إلا مقرونا ببيانه على سبيل القدح ؛ ليحذره من يغتر به من الجهلة والعوام.
الوجه الثاني: التهمة بالكذب، وذلك أن يعرف الراوي بالكذب في كلامه مع الناس، أو أن ينفرد بما يخالف القواعد المعلومة من الدين بالضرورة، ويسمى رواية المتهم بالكذب متروكا.
فالحديث المتروك: هو الحديث الذي رد بسبب تهمة راويه بالكذب، كرواية من يكون معروفا بالكذب في كلامه، وإن لم يظهر منه وقوع ذلك في الحديث النبوي.

(1/107)


الوجه الثالث، والرابع، والخامس: فحش الغلط، وكثرة الغفلة، والفسق بما لم يبلغ حد الكفر، ويقال للحديث الذي في سنده راو فاحش الغلط، أو كثير الغفلة، أو الفاسق: المنكر.
فالحديث المنكر: هو الحديث الذي رواه راو فحش غلطه أو كثرت غفلته أو ظهر منه الفسق بما لم يبلغ حد الكفر، ويسمى هذا القسم من الحديث منكرا على رأي من لم يشترط في المنكر مخالفة الضعيف للثقة، أي لم يقصر المنكر على ما خالف الضعيف الثقة، وينبغي أن يعلم أن المراد بالفسق: الفسق في العمل دون الاعتقاد، فإن ذلك داخل في البدعة، وأكثر ما يستعمل البدعة في الاعتقاد، والكذب وإن كان داخلا في الفسق لكنهم عدوه أصلا على حدة لكون الفسق به أشد وأغلظ.
الوجه السادس: الوهم، وهو أن يروى الحديث على سبيل التوهم، ويسمى حديث من عرف بالوهم المعل
والمعلل، ويحصل معرفة ذلك بكثرة التتبع والاستقراء والنظر في اختلاف رواته وضبطهم وإتقانهم حتى يطلع على وهم الراوي.
فالحديث المعلل: هو الحديث الذي ظاهره الصحة، وقد اطلع فيه على علة خفية قادحة في صحته.
والوهم كما يقع في السند – وهو الغالب - كرفع موقوف، ووصل منقطع، يقع في المتن.
وهو من أغمض أنواع علوم الحديث وأدقها، ولا يطلع عليه إلا من رزق فهما ثاقبا واطلاعا واسعا بمراتب الرواة، وإدراكا تاما بالأسانيد والمتون.
الوجه السابع: مخالفة الراوي للثقات، وتتضمن المخالفة ستة أنواع:
الأول المدرج: بفتح الراء – مأخوذ من قولهم: أدرجت الشيء في الشيء، إذا أدخلته فيه وضمنته إياه، وهو ما اطلع على زيادة في سنده أو متنه ليست منه، وهو نوعان: (1) مدرج الإسناد. (2) مدرج المتن.
مدرج الإسناد: هو ما كانت المخالفة فيه بتغيير سياق الإسناد، وله أقسام:
1- أن يروي الحديث جماعة بأسانيد مختلفة، فيرويه عنهم راو فيجمع الكل على إسناد واحد من تلك الأسانيد، ولا يبين الاختلاف.

(1/108)


2- أن يكون المتن عند راو بإسناد واحد إلا طرفا منه فإنه عنده بإسناد آخر، فيرويه عنه راو تاما بالإسناد الأول.
3- أن يكون عند الراوي متنان مختلفان بإسنادين مختلفين، فيرويهما راو عنه مقتصرا على أحد الإسنادين، أو يروي أحد الحديثين المختلفين بإسناده الخاص به ويزيد فيه من المتن الآخر ما ليس بذلك الإسناد، أي ما ليس في الأول.
4- أن يسوق الراوي الإسناد فيعرض له عارض فيقول كلاما من قبل نفسه، فيظن بعض من سمعه أن ذلك الكلام هو متن ذلك الإسناد، فيرويه عنه كذلك.
5- أن يسمع الخبر عن شيخه إلا طرفا منه فيسمعه عنه بواسطة ثم يرويه تاما محذوف الواسطة.
مدرج المتن: هو أن يقع في المتن كلام ليس منه كدمج موقوف بمرفوع من غير بيان، أو هو ما ذكر فيه الراوي وأدخل وضم إليه ما ليس منه موصولا بلا فصل، فيتوهم أنه من الحديث، وهو قد يكون في أول الحديث وفي وسطه وفي آخره، وهو الأكثر.
ودواعي الإدراج كثيرة، منها: (1) تفسير الألفاظ الغريبة في الحديث. (2) استنباط حكم من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. (3) تبيان حكم شرعي.
ويعرف الإدراج بأمور، منها:
(ألف) أن يرد رواية مفصلة للقدر المدرج مما أدرج فيه، بأن يصرح بعض الرواة أو الراوي الذي ذكر ذلك الكلام بفصل تلك العبارة المدرجة عن متن الحديث ويضيفها إلى قائلها.
( ب ) أن يصرح الصحابي بأنه لم يسمع تلك الجملة من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
( ج ) أن يستحيل أن يكون ذلك من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الثاني: المقلوب: ويسمى المنقلب من الانقلاب، والمقلوب لغة: اسم مفعول من "قلب الشيء" إذا صرفه عن وجهه، واصطلاحا: هو ما كانت المخالفة فيه بالتقديم والتأخير، أو هو ما انقلب فيه على أحد الرواة لفظ في متنه أو اسم راو أو نسبة في سنده، فقدم ما حقه التأخير أو أخر ما حقه التقديم، أو وضع شيئا مكان شيء آخر فتغير بذلك معناه.

(1/109)


وتبين من التعريف أن المقلوب قسمان: (1) المقلوب في المتن. (2) المقلوب في السند، وهو أن يكون الحديث مشهورا براو فيجعل مكانه راو آخر، أي يبدل براو آخر من طبقته، أو يكون مشهورا بإسناد فيأتي بإسناد آخر مكانه لغرض الإغراب ونحوه، أو يقع القلب في اسم الراوي بالتقديم والتأخير، ومن القلب أن يؤخذ إسناد متن فيجعل على متن آخر، ويؤخذ متن هذا فيجعل بإسناد آخر، كما فعل أهل بغداد مع الإمام البخاري امتحانا واختبارا، فردها كلها على وجهها، ويشترط لجواز ذلك عدم الاستقرار عليه بعد انتهاء الغرض.
الثالث: المزيد في متصل الأسانيد: وهو ما كان المخالفة فيه بزيادة راو في أثناء السند الذي ظاهره الاتصال، ومن لم يزدها أتقن ممن زادها.
وشرطه أن يصرح من لم يزدها بالسماع في موضع الزيادة، وإلا فمتى كان الإسناد الخالي من الزيادة معنعنا في موضع الزيادة ترجحت الزيادة، وكان الحكم للإسناد المزيد فيه.
الرابع: المضطرب: بكسر الراء – من الاضطراب، وهو لغة: الاختلاف، من قولهم: اضطرب القوم، إذا اختلفت كلمتهم، واصطلاحا: هو أن تقع المخالفة فيه بإبدال راو براو، أو مروي بمروي، ولا مرجح لإحدى الروايتين على الأخرى، وقيل: المضطرب ما روي على أوجه مختلفة متفاوتة من غير ترجيح لإحدى الطرق سواء كان الاختلاف من راو واحد، بأن رواه مرة على وجه ومرة على وجه أخرى مخالف للأول، أو أكثر من واحد بأن رواه جماعة كل على وجه مخالف للآخر، فإن ترجحت إحدى الطرق لا يكون الحديث مضطربا.
وينقسم المضطرب إلى ثلاثة أقسام: (1) مضطرب سندا فقط. (2) مضطرب متنا فقط. (3) مضطرب فيهما.
الخامس: المصحف: وهو ما كانت المخالفة فيه بتغيير حرف فأكثر بتغيير النقط مع بقاء صورة الخط كمراجم ومزاحم وستا وشيئا وحميل وجميل.
والتصحيف لغة: الخطأ في الصحيفة باشتباه الحروف مؤلدة، وقد تصحف عليه لفظ كذا.
والتصحيف أكثر ما يقع في المتون، وقد يقع في الأسماء.

(1/110)


السادس: المحرف: هو ما كانت المخالفة فيه بتغيير حرف فأكثر بتغيير في الشكل مع بقاء صورة الخط: كسليم وسليم، وأبي وأبي، ولا يجوز التغيير في الحديث سواء كان تغيير كلمة بكلمة أو حرف بحرف أو هيأة بهيأة، وكذا اختصار الحديث ورواية بعضه دون بعض، أو رواية الحديث بالمعنى، إلا لعالم بمدلولات الألفاظ ومقاصدها وما يحيل معانيها، وإذا كان ما تركه غير متعلق بما رواه بحيث لا يختل البيان ولا تختلف الدلالة إذا قطع بأداء المعنى.
الوجه الثامن: الجهالة – بفتح الجيم -، وهي عدم معرفة عيب الراوي أو حاله، بأن لا يعلم فيه تجريح أو تعديل، وأسبابها ثلاثة:
1- كثرة نعوت الراوي من اسم أو كنية أو لقب أو حرفة أو صفة، فيشتهر بشيء منها، فيذكر بغير ما اشتهر به لغرض من الأغراض، فيظن أنه آخر، فيحصل الجهل بحاله.
2- كون الراوي مقلا من الحديث فلا تكثر الرواية والأخذ عنه.
3- عدم تسمية الراوي اختصارا من الراوي عنه، كأن يقول: أخبرني رجل أو شيخ أو فلان، ويسمى هذا القسم الأخير المبهم.
فالمبهم: هو من لم يصرح باسمه لأجل الاختصار ونحوه، وحكم روايته عدم القبول على الأصح ولو أبهم بلفظ التعديل كأن يقول أخبرني الثقة.
والمجهول نوعان: (1) مجهول العين. (2) مجهول الحال.
(1) مجهول العين: هو ما انفرد بالرواية عنه راو واحد، فلا يقبل حديثه كالمبهم إلا أن يوثقه غير من انفرد عنه، وكذلك من انفرد عنه إذا كان من أهل الجرح والتعديل.
(2) مجهول الحال: ويسمى مستور الحال، وهو أن يروي عنه اثنان فصاعدا ولم يوثقه أحد، وحكم روايته التوقف فيها حتى تتبين حاله وتتضح.
الوجه التاسع: البدعة، وهي لغة: مأخوذة من الابتداع، وهو الاختراع على غير مثال سابق، وشرعا: المحدث في الدين، أي ما لم يكن عليه أمره - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه، أي ليس عليه أثارة من كتاب الله ولا من سنة رسوله، ولا فعله أو أمر به أصحاب رسوله، ويعتقد من الدين، وهو نوعان:

(1/111)


1- ما يوجب كفر صاحبه، كأن يكون منكرا لأمر مجمع عليه متواتر من الشرع معلوم من الدين بالضرورة، فهذا لا يقبل حديثه مطلقا.
2- ما يستلزم فسق صاحبه، وهذا يقبل منه الرواية إن لم يكن داعية إلى بدعته ولا راويا لما يقوي
بدعته، فإن كان داعية إليها أو روى ما يقويها ردت روايته، وهذا على المذهب المختار عند الجمهور، وهو الصحيح.
الوجه العاشر: سوء الحفظ، والمراد بسيء الحفظ هو من لم تترجح إصابته على خطئه.
وسوء الحفظ نوعان: (1) ما كان ملازما للراوي في جميع حالاته، وسيء الحفظ من نشأ على سوء الحفظ ولزمه ذلك في جميع أحواله، ويسمى حديث من هذا شأنه شاذا على رأي بعض المحدثين. (2) ما طرأ عليه سوء الحفظ لكبر سنه أو لذهاب بصره أو لضياع كتبه، بأن كان يعتمدها فرجع إلى حفظه فساء، ويسمى هذا المختلط، وحكم روايته أن ما حدث به قبل الاختلاط وهو معلوم متميز يقبل، وما حدث به بعده لا يقبل، وإذا لم يتميز توقف فيه.
وإذا توبع حديث من لازمه سوء الحفظ أو طرأ عليه ولم تتميز روايته بمعتبر فوقه أو مثله صار حديثهما حسنا لغيره، ومثل رواية هذين الموصوفين بسوء الحفظ في هذا الحكم بعد المتابعة، رواية المستور والإسناد المرسل وكذا المدلس إذا لم يعرف المحذوف منه، والحاصل أنه إذا توبع من سيء الحفظ والمختلط والمستور والمرسل والمدلس بمن يعتبر ويخرج حديثه للمتابعة والاستشهاد يصير حديثهم حسنا لغيره باعتبار المجموع من المتابع والمتابع.
تنبيه
لم يذكر النووي وابن الصلاح لقبول الحديث الضعيف سوى هذا الشرط "كونه في فضائل الأعمال ونحوها"، وذكر الحافظ له ثلاثة شروط: أحدها: أن يكون الضعف غير شديد، فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب، ومن فحش غلطه، نقل العلائي الاتفاق عليه. الثاني: أن يندرج تحت أصل معمول به. الثالث: أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته بل يعتقد الاحتياط.
مباحث الإسناد

(1/112)


الإسناد: حكاية طريق المتن أي رفع الحديث وعزوه إلى قائله.
السند: بالتحريك، لغة: المعتمد، واصطلاحا: هو الطريق الموصلة إلى المتن، أي سلسلة الرجال الموصلين إلى المتن، وسمي بذلك لاعتماد المحدث في صحة الحديث وضعفه عليه، فالسند رواة الحديث، والإسناد فعل الرواة، وقد يطلق الإسناد على السند أيضا فيكون الإسناد مرادفا للسند.
المتن: بالسكون، لغة: ما صلب وارتفع من الأرض، واصطلاحا: ما ينتهي إليه السند من الكلام، وسمي بذلك لأن المسند يقوي الحديث بالسند ويرفعه إلى قائله.
المسند: بفتح النون، له ثلاثة معان:
1- الحديث المرفوع المتصل سندا، يعني ما اتصل سنده من راويه إلى منتهاه مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسيأتي أيضا.
2- كل كتاب جمع فيه مسندات كل صحابي، أي مروياته على حدة، فهو اسم مفعول.
3- أن يطلق ويراد به الإسناد فيكون مصدرا ميميا.
المسند: بكسر النون، هو من يروى الحديث بسنده سواء كان عنده علم به أو ليس له إلا مجرد روايته، وتميز في ذلك حتى اشتهر فيه.
المحدث: هو من يشتغل بعلم الحديث رواية ودراية، ويطلع على كثير من الروايات وأحوال رواتها، فهو أرفع من المسند.
الحافظ: هو مرادف للمحدث عند كثير من المحدثين، وقيل: الحافظ أرفع درجة من المحدث بحيث يكون ما يعرفه من كل طبقة أكثر مما يجهله.
…والحديث ينقسم باعتبار منتهى الإسناد إلى ثلاثة أقسام: مرفوع، موقوف، مقطوع.
المرفوع: ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير، صريحا أو حكما، وأنواعه ستة:
1- المرفوع القولي صريحا: قول الصحابي: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا، أو قوله أو قول غيره: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا.
2- المرفوع الفعلي صريحا: قول الصحابي: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل كذا، أو قوله أو قول غيره: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل كذا.

(1/113)


3- المرفوع التقريري صريحا: قول الصحابي: فعلت بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا، أو قوله أو قول غيره: فعل فلان بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا، ولا يذكر إنكاره.
4- المرفوع القولي حكما: أن يخبر الصحابي الذي لم يأخذ عن الإسرائيليات بما لا مجال للاجتهاد فيه كالإخبار عن الأمور الماضية من بدأ الخلق وقصص الأنبياء، أو عن الأمور الآتية كالفتن وأحوال يوم القيامة، وكذا الإخبار عما يحصل بفعله ثواب مخصوص أو عقاب مخصوص.
5- المرفوع الفعلي حكما: أن يفعل الصحابي ما لا مجال للاجتهاد والرأي فيه كصلاة علي – رضي الله عنه – الكسوف في كل ركعة أكثر من ركوعين.
6- المرفوع التقريري حكما: أن يخبر الصحابي أنهم كانوا يفعلون في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا، ولا ينكر عليهم، ومن الصيغ التي لها حكم الرفع قول الصحابي: من السنة كذا، وأمرنا بكذا، نهينا عن كذا، أو يحكم الصحابي على فعل من الأفعال بأنه طاعة لله تعالى أو لرسوله أو معصية.
الموقوف: ما أضيف إلى الصحابي من قول أو فعل أو تقرير.
الصحابي: من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنا به ومات على الإسلام ولو تخللت ذلك ردة في الأصح، فمن لقيه - صلى الله عليه وسلم - في كفره، أو ارتد بعد لقائه - صلى الله عليه وسلم - في الإسلام ومات على الردة فلا يعد من الصحابة.
…والمراد باللقي ما هو أعم من المجالسة والمماشاة والجلوس معه - صلى الله عليه وسلم - قليلا أو كثيرا، والصحبة تعرف بالتواتر أو الاستفاضة أو بإخبار بعض الصحابة أو بعض ثقات التابعين أو بإخباره عن نفسه أنه صحابي إذا كانت دعواه ممكنة.
المقطوع: ما أضيف إلى التابعي أو من دونه من قول أو فعل أو تقرير.
التابعي: من لقي الصحابي مؤمنا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومات على ذلك.

(1/114)


…والفرق بين المقطوع والمنقطع أن القطع من صفات المتن أي المقطوع من مباحث المتن، كالرفع والوقف، والمراد به المتن الذي انتهى سنده إلى التابعي أو من دونه، والانقطاع من صفات الإسناد كالإرسال والتعليق، يعني أن المنقطع من مباحث السند، والمراد به السند الذي سقط منه واحد أو أكثر بشرط عدم التوالي كما تقدم.
…والمحدثون قد يطلقون الأثر على الخبر الموقوف والمقطوع أيضا، فكل منهما يقال له أثر.
المخضرم: هو الذي أدرك زمن الجاهلية والإسلام ولم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمخضرمون معدودون في كبار التابعين على الأصح، سواء عرف أن الواحد منهم كان مسلما في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كالنجاشي أم لا، والمخضرمون أكثر من عشرين نفسا.
المسند: هو ما رفعه الصحابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد ظاهره الاتصال.
المتصل: ويسمى الموصول، وهو ما اتصل سنده سواء كان مرفوعا إليه - صلى الله عليه وسلم - أو موقوفا.
المعنعن: هو ما يقال في سنده: عن فلان عن فلان، قيل: إنه مرسل حتى يتبين اتصاله، والجمهور على أنه متصل إذا أمكن لقاء من أضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضا مع براءة المعنعن من التدليس وإلا فليس بمتصل.
المؤنن: هو ما يقال في سنده: "حدثنا فلان أن فلانا"، وهو كالمعنعن.
علو السند ونزوله
…العلو عبارة عن قلة رجال السند، والنزول عبارة عن كثرتهم، وهما من صفات الإسناد.
…والسند من حيث علوه ونزوله قسمان: عال، ونازل.
السند العالي: ما كان عدد رجاله قليلا بالنسبة إلى سند آخر يرد به ذلك الحديث بعينه يكون عدد رجاله كثيرا.
السند النازل: هو ما كان عدد رجاله كثيرا بالنسبة إلى سند آخر يرد به ذلك الحديث بعينه يكون عدد رجاله قليلا.
…والعلو في السند نوعان:
(1) العلو المطلق: هو ما انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدد قليل بالنسبة إلى سند آخر ورد به ذلك الخبر بعدد كثير، وضده النزول المطلق.

(1/115)


(2) العلو النسبي: هو ما انتهى سنده إلى إمام من أئمة الحديث كشعبة ومالك والبخاري وأحمد ومسلم مثلا بعدد قليل بالنسبة إلى سند آخر ورد به ذلك الخبر بعدد كثير، وضده النزول النسبي.
…وإنما كان العلو مرغوبا فيه عند المحدثين لكونه أقرب إلى الصحة وقلة الخطأ ؛ لأنه ما من راو من رجال الإسناد إلا والخطأ جائز عليه، فكلما كثرت الوسائط وطال السند كثرت مظان تجويز الخطأ، وكلما قلت قلت.
…وإذا كانت في السند النازل مزية ليست في العالي كأن يكون رجاله أوثق منه أو أحفظ أو أفقه أو الاتصال فيه أظهر فلا تردد في أن السند النازل أولى من العالي.
…وتتفرع من العلو النسبي أربعة أنواع: (1) الموافقة (2) البدل (3) المساواة (4) المصافحة.
الموافقة: هي أن يصل الراوي إلى شيخ أحد من المصنفين من غير طريقه مع علو إسناده على إسناد المصنف، كأن يكون مسلم مثلا روى حديثا عن يحيى عن مالك عن نافع عن ابن عمر، فترويه أنت بإسناد آخر عن يحيى بعدد أقل مما لو رويته من طريق مسلم، فقد حصلت لك الموافقة مع مسلم في شيخه يحيى مع علو الإسناد على الإسناد إليه.
البدل: ويسمى الإبدال، وهو أن يصل إلى شيخ شيخ أحد المصنفين من غير طريقه، وصورته في المثال السابق أن ترويه بإسناد آخر عن مالك، أو عن نافع، أو عن ابن عمر بعدد أقل أيضا، فيكون تلميذ مالك في هذا الإسناد الآخر بدلا عن يحيى، وقد يسمى هذا موافقة بالنسبة إلى الشيخ الذي يجتمع فيه إسنادك بإسناد مسلم كمالك ونافع.
المساواة: وهي تساوي عدد الإسناد من الراوي إلى آخره مع إسناد أحد المصنفين، كأن يروي النسائي مثلا حديثا بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه أحد عشر نفسا، فيقع لنا ذلك الحديث بعينه بسند آخر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقع بيننا وبينه - صلى الله عليه وسلم - فيه أحد عشر نفسا، فنساوي النسائي من حيث العدد مع قطع النظر عن ملاحظة ذلك الإسناد الخاص.

(1/116)


قال السيوطي: ولا يوجد ذلك الآن في حديث بعينه، بل يوجد التساوي في مطلق العدد، والعلو في تلك المساواة غير ظاهر، إلا أن يقال: إن العلو فيها باعتبار أن الراوي لو روى عن أحد المصنفين للكتب المذكورة لكان العدد أكثر.
المصافحة: هي أن يستوي عدد رجال الإسناد من الراوي إلى آخر الإسناد مع إسناد تلميذ أحد المصنفين، أو هي أن تقع المساواة للراوي مع تلميذ أحد المصنفين على الوجه المشروح، وسميت بذلك لأن العادة
جرت في الغالب بالمصافحة بين المتلاقين، فكأن الراوي لقي المصنف وصافحه، ومثالها يفهم مما ذكر في المساواة قبلها.
…والنزول أيضا أقسام كالعلو، ويقابل كل قسم منها قسما من أقسام العلو.
رواية الأقران: القرينان هما المتقارنان في السن والأخذ عن المشايخ، ورواية الأقران: هي أن يروي قرين عن قرينه كرواية سليمان بن مهران الأعمش عن سليمان بن طرخان التيمي وهما قرينان، وبعبارة أخرى: هي أن يشترك تلميذان في الرواية عن شيخ، ويكون أحد التلميذين قد روى عن زميله وقرينه.
المدبج: بفتح الدال المهملة وتشديد الباء الموحدة، مأخوذ من ديباجتي الوجه، وهما الخدان لتساويهما وتقابلهما، وهو اصطلاحا: أن يشترك التلميذان في الرواية عن شيخ، ويكون كل واحد من التلميذين قد روى عن الآخر، كرواية عائشة عن أبي هريرة ورواية أبي هريرة عنها، وكرواية مالك والأوزاعي، ورواية أحمد بن حنبل وعلي بن المديني، كل عن الآخر.
…والمدبج أخص مطلقا من رواية الأقران، ومن فوائد معرفة هذا النوع الأمن من أن يظن زيادة في السند، أو يظن إبدال "عن" بالواو.
رواية الأكابر عن الأصاغر: هو أن يروي الراوي عمن هو دونه في السن أو في مقدار الحفظ والعلم أو في كليهما، كرواية الزهري عن مالك، ورواية مالك عن عبدالله بن دينار.
…ومن هذا النوع رواية الآباء عن الأبناء، ورواية الصحابة عن التابعين، والشيخ عن تلميذه.

(1/117)


…ومن فوائد هذا النوع دفع توهم الانقلاب في السند ؛ لأن الغالب رواية الأصاغر عن الأكابر.
رواية الأصاغر عن الأكابر: هي رواية الشخص عمن فوقه في السن أو في قدر العلم والحفظ، وهي الأصل والطريقة المسلوكة المألوفة غالبا، ومن هذا النوع رواية الأبناء عن الآباء عن الأجداد.
السابق واللاحق: هو أن يشترك اثنان متقدم ومتأخر موتا في الرواية عن شيخ واحد مع التباعد بين وفاتيهما، مثال ذلك الإمام مالك روى عنه الزهري وتوفي سنة 124هـ، وأحمد بن إسماعيل السهيمي وتوفي سنة 259هـ، وبين وفاتيهما مائة وخمسة وثلاثون سنة، فالزهري يقال له السابق والسهيمي يقال له اللاحق.
…ومن فوائد معرفة هذا النوع الأمن من أن يظن سقوط شيء من إسناد المتأخر، أي انقطاعه.
المهمل: هو أن يروي الراوي عن اثنين متفقين في الاسم فقط، أو مع اسم الأب، أو مع اسم الجد، أو مع النسبة، ولم يتميزا بما يخص كل واحد منهما، فإن كانا ثقتين لم تضر الجهالة بهما، وإن كان أحدهما ثقة والآخر ضعيفا ضرت الجهالة، مثال الأول: ما وقع من البخاري في روايته عن أحمد غير منسوب عن ابن وهب، فإنه إما أحمد بن صالح أو أحمد بن عيسى، وكلاهما ثقة، ومثال الثاني: سليمان بن داود الخولاني، وهو ثقة، وسليمان بن داود اليمامي، وهو ضعيف.
والفرق بين المبهم والمهمل أن المبهم لم يذكر اسمه، وأما المهمل فذكر اسمه لكن مع الاشتباه.
من حدث ونسي
من حدث ونسي: هو أن ينكر الشيخ رواية ما حدث به تلميذه عنه، فإن كان الإنكار بصيغة الجزم واليقين كأن يقول: كذب علي، أو ما رويت له ذلك، أو كذبت علي، أو ما حدثتك بهذا، فحكمه رد تلك الرواية، ولا يكون ذلك قادحا في عدالة واحد منهما، إذ ليس أحدهما أولى بالطعن فيه من الآخر، وإن أنكر على سبيل التردد والشك كأن يقول: ما أذكر هذا، أولا أعرفه، أو نحو ذلك، فيقبل هذا المروي محمولا على نسيان الشيخ وتذكر التلميذ، إذ المثبت الجازم مقدم على النافي المتردد.

(1/118)


المسلسل: هو ما اتفق رواته في صيغ الأداء أو غيرها من الصفات والحالات، كمسلسل التشبيك باليد والمصافحة والقبض على اللحية.
…وحالات الرواة أفعالهم وأقوالهم، وحالات الرواية ما يتعلق بصيغ الأداء أو بزمنها ومكانها.
…وهو نوع واسع جدا، ومن فوائده اشتماله على مزيد الضبط من رواته، وصيغ الأداء على ثمان مراتب:
صيغ الأداء: (1) سمعت وحدثني (2) ثم أخبرني وقرأت عليه (3) ثم قرئ عليه وأنا أسمع (4) ثم أنبأني. (5) ثم ناولني (6) ثم شافهني بالإجازة (7) ثم كتب إلي بالإجازة (8) ثم عن ونحوها مثل "قال" و"ذكر" و"روى".
تحمل الحديث وأداؤه
تحمل الحديث: هو روايته وأخذه عن المشايخ، ويشترط في الأصح في ذلك اعتبار الفهم والتمييز.
الأداء: هو تحديث الشيخ تلاميذه بما كان قد تحمله، ويشترط فيمن يحتج بروايته العدالة والضبط، وقد تقدم معنى الضبط والعدالة.
طرق تحمل الحديث وصيغ الأداء
(1) السماع من لفظ الشيخ: وهو أعلى طرق تحمل الحديث، وكيفيته: أن يقرأ الشيخ من كتابه أو حفظه والطالب يسمع إملاء أو غير إملاء، ويقول في الأداء: سمعت أو حدثني، واللفظ الأول – أي سمعت – أصرح في التعبير عن سماع قائله ؛ لأنه لا يحتمل الواسطة، وأما حدثني فقد استعملت في الإجازة تدليسا، وأرفع صيغ الأداء وأعلاها ما وقع منها في الإملاء ؛ لما فيه من تثبت الشيخ وتيقظ الطالب وانتباهه فهما لذلك أبعد من الغفلة وأقرب إلى التحقيق، وقوله "سمعت وحدثني" يدلان على أن الراوي وحده سمع من لفظ الشيخ، فإنه شاركه غيره قال: سمعنا أو حدثنا، وأما الصيغة الثالثة: أي أخبرني، والرابعة: أي
قرأت عليه، فهما للقراءة على الشيخ كما سيأتي، وهما تدلان على أن التلميذ قرأ على الشيخ بنفسه، فإن جمع فقال: أخبرنا أو قرأنا عليه فهي كقوله: قرئ عليه وأنا أسمع، فإنه يدل على أن غير الراوي شاركه في القراءة والعرض على الشيخ.

(1/119)


…ولا فرق بين التحديث والإخبار لغة، أما في اصطلاح المحدثين فالشائع عندهم التفريق بينهما بتخصيص التحديث بما سمع من لفظ الشيخ، والإخبار بالعرض والقراءة عليه.
(2) القراءة على الشيخ: ويسميها البعض عرضا ؛ لأن القارئ يعرض على الشيخ ما يقرأه، سواء قرأ الطالب بنفسه على الشيخ من حفظه أو كتابه، أو قرأ عليه غيره وهو يسمع، وسواء أكان الشيخ حافظا لما يقرأ عليه أو لا، ولكن أمسك أصله هو أو ثقة غيره، ويقال في الأداء: قرأت على فلان، أو قرئ على فلان وأنا أسمع، ويجوز له أن يعبر بما سبق من صيغ الأداء بشرط أن يقيد بالقراءة لا مطلقا، نحو حدثني فلان قراءة عليه.
…واختلف في أن العرض مساو للسماع من لفظ الشيخ رتبة أو فوقه أو دونه، والراجح أن العرض دون السماع من لفظ الشيخ.
…والإنباء عند متقدمي المحدثين بمعنى الإخبار، أما عند متأخريهم فللإجازة كعن فإنها في اصطلاحهم للإجازة.
…وعنعنة المعاصر محمولة على سماعه ممن عنعن عنه إلا أن يكون معروفا بالتدليس فيشترط فيه ثبوت اللقاء بين الراوي والمروي عنه ولو مرة واحدة على المذهب المختار ؛ ليحصل الأمن في باقي العنعنة عن كونه من المرسل الخفي.
(3) الإجازة: وهي الإذن في الرواية لفظا أو كتابة، أي إذن الشيخ لتلميذه بأن يروي عنه مسموعاته، وإن لم يسمعها منه أو يقرأها عليه، وهي أنواع:
1- منها: الإجازة لمعين بمعين، نحو أجزتك أن تروي عني صحيح البخاري، ولا يناوله إياه، وهي أعلى أنواع الإجازة المجردة عن المناولة، ولا خلاف في جواز الرواية بذلك والعمل بها.
2- ومنها: الإجازة لمعين بغير معين، نحو أجزتك رواية مسموعاتي.
3- ومنها: الإجازة لغير معين بمعين، نحو أجزت لمن أدركني رواية صحيح مسلم.
4- ومنها: الإجازة لغير معين بغير معين، نحو أجزت لأهل زماني رواية مسموعاتي.
5- ومنها: الإجازة لمعدوم تبعا لموجود، نحو أجزت لفلان ومن يولد بعد بكذا.

(1/120)


…وفي جواز الرواية بهذه الأنواع كلها خلاف ما عدا الأول.
المشافهة: هي أن يشافه الشيخ تلميذه بالإذن له بالرواية عنه، ويقول في الأداء: شافهني بالإذن، فتستعمل المشافهة في الإجازة المتلفظ بها دون الإجازة بالمكاتبة، وإنما يقال فيها: كتب إلي.
(4) المناولة: وهي إعطاء الشيخ الطالب شيئا من مروياته، وهي نوعان:
1- المناولة المقرونة بالإجازة: وهي أن يناول الشيخ الطالب أصله أو فرعا مقابلا به، أو يحضر الطالب أصل الشيخ ويقول له الشيخ: هذا روايتي عن فلان فاروه عني، أو أجزت لك روايته.
…وشرطه أن يمكن الشيخ الطالب على أصله تمليكا بالبيع أو الهبة أو عارية لينقل عنه ويقابل عليه ثم يرده، وأما إذا ناوله الأصل وأذن له بالرواية عنه ثم استرده في الحال فلا مزية لها على الإجازة المعينة ؛ لعدم احتواء الطالب على الكتاب المجاز به، وقد تقدمت صورة الإجازة المعينة.
2- المناولة المجردة عن الإجازة: بأن يناوله أصله أو ما قام مقامه مقتصرا على قوله: هذا سماعي أو روايتي عن فلان، ولم يعتبر بها عند الجمهور.
…وصورة الأداء بالإجازة أو المناولة: حدثني فلان إجازة، أو مناولة، وكذا أخبرني إجازة، أو مناولة، أو نحو ذلك.
(5) المكاتبة: وهي أن يكتب الشيخ مسموعه لحاضر أو غائب، سواء كتب بخطه أم كتب عنه بأمره، وهي نوعان أيضا: (1) مقرونة بالإجازة، وهي في الصحة والقوة مثل المناولة المقرونة بالإذن. (2) مجردة عنها، فهي في الحكم كالمناولة المجردة عن الإذن.
…وصورة الأداء: حدثني فلان مكاتبة، أو كتب إلي فلان، أو نحو ذلك.
(6) الإعلام: وهو أن يقول الشيخ للطالب: إن هذا الكتاب أو الحديث من مسموعاتي عن فلان.
(7) الوصية: وهي أن يوصي الشيخ عند موته أو سفره لشخص معين بكتاب مروي له، ويقال في الأداء: أوصى إلي فلان، أو حدثني فلان وصية.

(1/121)


(8) الوجادة: وهي أن يجد الطالب كتابا أو حديثا بخط يعرف كاتبه، فيقول في الأداء: وجدت بخط فلان كذا وكذا، أو قرأت بخط فلان كذا وكذا، والمروي بالوجادة من قبيل المنقطع الذي فيه شائبة الاتصال.
…ويشترط لصحة الرواية بكل من الإعلام والوصية والوجادة أن يكون مقرونا بالإجازة والإذن بالرواية على الصحيح، وإلا فلا عبرة بها كالإجازة العامة في المجاز له.
الإجازة العامة في المجاز به: كأن يقول الشيخ لتلميذه: أجزت لك أن تروي عامة مروياتي، وما أشبه ذلك، وتقبل على الأصح.
الإجازة العامة في المجاز له: وهي أن يقول الشيخ: أجزت لجميع المسلمين أو لمن أدرك حياتي أو نحوه، فلا عبرة بها على الأصح عند المحدثين.
المتفق والمفترق: هو أن تتفق أسماء الرواة وأسماء آبائهم فصاعدا أو كناهم أو أنسابهم وتختلف أشخاصهم، كالخليل بن أحمد - يطلق على جماعة، منهم النحوي صاحب العروض، ومنهم المزني.
وفائدة معرفة هذا النوع الأمن من اللبس، فربما يظن الأشخاص شخصا واحدا كما وقع لجماعة.
المؤتلف والمختلف: هو أن تتفق أسماء الرواة خطا وتختلف نطقا، سواء كان مرجع الاختلاف النقط أو الحركات، كسلام وسلام، ومسور ومسور.
…وفائدة هذا النوع الأمن من التصحيف والتحريف.
المتشابه: هو أن تتفق أسماء الرواة نطقا وخطا وتختلف أسماء آبائهم نطقا لا خطا، وسمي بذلك لتشابهه بالنوعين اللذين قبله ؛ لأنه مركب منهما، نحو محمد بن عقيل ومحمد بن عقيل، أو بالعكس نحو شريح بن النعمان، وسريج بن النعمان، ويتركب من المتشابه ومما قبله من المؤتلف والمختلف أنواع.
معنى الطبقة ومراتب الجرح والتعديل
الطبقة: عبارة عن جماعة اشتركوا في السن واللقي الذي هو الأخذ عن المشايخ، مثل الصحابة والتابعين.
…وفائدة معرفة طبقات الرواة الأمن من تداخل المشتبهين، وإمكان الوقوف على تبيين التدليس والاطلاع على حقيقة المراد من العنعنة.

(1/122)


…وللجرح مراتب أسوأها الوصف بما دل على المبالغة، مثل قولهم: فلان أكذب الناس، أو إليه المنتهى في الوضع، أو هو ركن الكذب، أو معدنه، أو نحو ذلك، ثم دجال، أو كذاب، أو وضاع، أو يضع الحديث، أو يكذب.
…وأسهل الألفاظ الدالة على الجرح قولهم: فلان لين، أو سيء الحفظ، أو فيه أدنى مقال.
…وبين أسوأ الجرح وأسهله مراتب، مثل قولهم: فلان متروك، أو ساقط، أو فاحش الغلط، أو منكر الحديث، وهي أشد من قولهم فلا ضعيف، أو ليس بالقوي، أو فيه مقال.
…وأرفع مراتب التعديل الوصف بما دل على المبالغة فيه، كالوصف بأفعل، مثل فلان أوثق الناس، وكذا قولهم: فلان إليه المنتهى في التثبت، ثم ما تأكد بصفة أو صفتين من الصفات الدالة على التعديل، مثل: ثقة ثقة، أو ثقة حافظ، أو عدل ضابط.
…وأدنى مراتب التعديل ما أشعر بالقرب من أسهل التجريح، مثل قولهم: فلان شيخ، يروى حديثه، ولا بأس به، ونحو ذلك.
…واعلم أنهم اختلفوا في عدد مراتب ألفاظ التجريح والتعديل وبيانها وترتيبها، فجعل ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل وتبعه ابن الصلاح في مقدمته، لكل منهما أربع مراتب، وجعل العراقي في شرح ألفيته خمس مراتب، والسخاوي في شرح الألفية، والسندي في شرح النخبة ست مراتب، من أحب الوقوف عليها وعلى أحكامها رجع إلى الكتب المذكورة وغيرها من الكتب المبسوطة في أصول الحديث.
التعديل والتزكية تقبل إذا صدرت من عارف بأسبابها ولو كان واحدا على الأصح، ويقدم الجرح على التعديل إذا تعارضا ؛ لأن المجرح معه زيادة علم خفيت على المعدل، ولكن يشترط لتقديم الجرح على التعديل أن يكون الجرح مفسرا ومبينا، ويصدر من عارف بأسبابه ؛ لأنه إن كان غير مفسر لم يقدح فيمن ثبتت عدالته، وإن كان صادرا من غير عارف بالأسباب لم يعتبر به أيضا، فإن خلا عن التعديل قبل مجملا غير مبين السبب.
ومن الأمور المهمة فيما يتعلق بالرواة معرفة طبقاتهم ومواليدهم ووفياتهم وأحوالهم.

(1/123)


ومنها معرفة كنى المسمين ممن اشتهر باسمه وله كنيته لئلا يظن أنه آخر.
ومعرفة من اشتهر بكنيته وله اسم.
ومعرفة من كنيته اسمه.
ومعرفة من كثرت كناه.
ومعرفة من اختلف في كنيته.
ومعرفة من وافقت كنيته اسم أبيه.
ومعرفة من وافق اسمه كنية أبيه.
ومعرفة من وافق اسم شيخه اسم أبيه.
ومعرفة من وافق اسم الراوي عنه اسم شيخه.
ومعرفة من اتفق اسمه اسم أبيه واسم جده.
ومعرفة من اتفق اسمه واسم شيخه واسم شيخ شيخه.
ومعرفة من نسب إلى غير أبيه.
ومعرفة من نسب إلى أمه.
ومعرفة من نسب إلى غير ما يسبق إلى الذهن والفهم.
ومعرفة المفردة من الأسماء والكنى والأنساب: وهي التي لم يشارك صاحبها أحد في التسمية والكنية واللقب، أي التي لم يسمع بها إلا واحد.
ومعرفة الأنساب والألقاب، والنسبة تقع تارة إلى القبائل، وتارة إلى الأوطان، وقد تقع إلى الصنائع والحرف والعاهات.
…وقد تقع الأنساب ألقابا، ومن المهم أيضا معرفة أسباب الألقاب والأنساب، إذ قد تكون على خلاف الظاهر.
ومنها معرفة الموالي من الرواة، والولاء ثلاثة أنواع:
(1) ولاء العتاقة، وهي الأكثر، وكثير من الرواة نسب إلى قبيلة معتقه.
(2) ولاء بالإسلام: وهو أن يسلم رجل على يد رجل آخر فينسب إلى قبيلته.
(3) ولاء بالحلف – بالكسر – وهي المعاقدة والمعاهدة على التناصر والتآزر، ولفظ المولى مشترك بين المولى الأعلى، هو المعتق – بالكسر -، والمحالف – بالفتح -، ومن أسلم على يديه غيره، وبين المولى الأسفل وهو العتيق، والمحالف – بالكسر -، والمسلم على يد الغير.
ومنها معرفة الإخوة والأخوات ؛ للأمن من اللبس والسلامة من أن يظن المتعدد واحدا، أو يظن غير الأخ أخا للاشتراك في اسم الأب، وارجع لأمثلة ذلك كله إلى الكتب المبسوطة في علم مصطلح الحديث.
الرحلة في طلب الحديث، وكيفية كتابته وتصنيفه

(1/124)


صفة كتابة الحديث: هي أن يكتبه بخط واضح جلي مبينا مفسرا، ويشكل المشكل منه، وينقط ويكتب الساقط من أصله على الحاشية اليمنى إن أمكن وإلا ففي اليسرى، ولا يكتب بين الأسطر.
الرحلة في طلب الحديث: ينبغي للطالب قبل الرحلة أن يبدأ بحديث أهل بلدته فيستوعبه، ثم يرحل لتحصيل ما ليس عنده من المتون والأسانيد، ويكون اعتناؤه بتكثير المسموع أولى من اعتنائه بتكثير الشيوخ.
سماع الحديث: أن يكون الطالب يقظا عند سماع الحديث من لفظ الشيخ أم القراءة عليه، وأن لا يتشاغل بما يخل من كلام أو قراءة أو كتابة شيء غير المسموع.
عرض الحديث: هو أن يقابل الطالب مع الشيخ سواء كان مع الشيخ أصله أم عول على حفظه، أو يقابل مع ثقة غيره، أو يقابل بنفسه على أصل الشيخ أو فرع مقابل عليه.
إسماع الحديث: هو أن يكون الشيخ يقظا وقت الإسماع والتحديث، غير مشغول بما يخل، وأن يكون أداؤه من أصله الذي سمع فيه، أو من فرع مقابل عليه، فإن تعذر فيجبره بالإجازة.
آداب الشيخ والطالب
يشتركان في تصحيح النية، وبذل النصيحة للمسلمين، وتطهير القلب من أغراض الدنيا، والعمل بالعلم، وتحسين الخلق.
وينفرد الشيخ بأن يسمع إذا احتيج إليه مع رغبته في الخير للطالب، ويقبل على الحاضرين، ويفتتح مجلسه بالتحميد والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويختمه كذلك، وأن يجلس بالوقار والسكينة، وأن يستنصت الطلاب، وإن رفع أحدهم صوته زجره ؛ لأن رفع الصوت عند حديثه عليه الصلاة والسلام
مثل رفعه عنده، وقد نهى الله عن ذلك، وأن لا يقوم لأحد أثناء التحديث، ولا يحدث قائما ولا عجلا ولا في الطريق إلا لحاجة.

(1/125)


وينفرد الطالب بأن يوقر الشيخ ويعظمه، ولا يمنعه الكبر أو الحياء من الاستفادة والسعي التام في التحصيل وأخذ العلم ولو عمن هو دونه في السن أو القدر أو النسب، وأن لا يكتم شيئا من العلم، ولا يمتنع من إفادة غيره من الطلبة، وأن يصبر على جفاء الشيخ، ويعتني بالضبط والتقييد وكثرة المذاكرة لما كتبه ليرسخ في ذهنه، ويكتب ما سمعه تاما.
التصنيف في الحديث
الكتب المصنفة في الحديث أنواع:
1- الجوامع
الجامع: كل كتاب يكون جامعا لأحاديث الأبواب الثمانية، أي لأحاديث العقائد، والأحكام، والرقاق، وآداب الأكل والشرب والسفر والقيام والقعود، والتفسير، والتاريخ والسير، والفتن، وأحاديث المناقب والمثالب، مثل الجامع الصحيح للبخاري.
2- المسانيد
المسند: كل كتاب جمع فيه مرويات كل صحابي على حدة من غير تقييد بصحة الحديث وحسنه، ولا بمناسبة لباب ونحوه، ووقع ترتيب الصحابة فيه باعتبار فضلهم أو سبقهم إلى الإسلام أو قرابتهم منه - صلى الله عليه وسلم -، كمسند الإمام أحمد بن حنبل ( رح ).
3- السنن
السنن: كل كتاب جمع فيه الأحاديث على الأبواب الفقهية، بأن يجمع في كل باب ما ورد فيه ما يدل على حكمه وجوبا أو ندبا أو كراهة أو حلا أو حرمة، مثل السنن الأربعة.
4- المعاجم
المعجم: كل كتاب ذكر فيه الأحاديث على ترتيب الشيوخ، سواء اعتبر فيه تقدم وفاة الشيخ أو توافق حروف التهجي أو الفضيلة أو التقدم في العلم والتقوى، والغالب فيه الترتيب على حروف الهجاء، كالمعاجم الثلاثة للطبراني.
5- الأجزاء
الجزء: ما يجمع فيه أحاديث رجل واحد، سواء كان ذلك الرجل من الصحابة أو من بعدهم، كجزء حديث أبي بكر مثلا، وجزء حديث مالك.
أو ما يذكر فيه الأحاديث المتعلقة بموضوع واحد، كجزء رفع اليدين في الصلاة للإمام البخاري، ويقال له الرسالة أيضا، وقد يطلق كل واحد منهما على الآخر.
6- الأربعون

(1/126)


الأربعون حديثا: هو ما يجمع في باب واحد أو أبواب شتى بسند واحد أو أسانيد متعددة، كأربعين حديثا للنووي وغيره.
7- الأفراد أو المفردات
الفرد أو المفرد: ما لم يروه إلا راو واحد، أو ما يحتوي على أحاديث شخص واحد، مثل أحاديث أبي هريرة.
8- الغرائب
الغريب: هو ما وقع في موضع من سنده التفرد.
9- التراجم
التراجم: هو مجموع الأحاديث التي رويت بإسناد واحد، كمالك عن نافع عن ابن عمر.
10- المشيخة
المشيخة: هو ما جمع فيه مرويات شيخ مخصوص ومسموعاته.
11- العلل
العلل: هي الكتب التي يجمع فيها الأحاديث المعلولة مع بيان عللها.
12- المستخرجات
المستخرج: كل كتاب يخرج فيه أحاديث كتاب آخر بأسانيد صحيحة من غير طريق صاحب الكتاب، ويجتمع معه في شيخه أو فيمن فوقه من الرجال، كمستخرج أبي نعيم الأصبهاني على الصحيحين.
13- المستدركات
المستدرك: كل كتاب استدرك فيه ما فات صاحب كتاب آخر على شريطته، كمستدرك الحاكم على الصحيحين.
14- الأطراف
الأطراف: هو أن يذكر طرف الحديث الدال على بقيته، ويجمع أسانيده إما مستوعبا أو مقيدا بكتب مخصوصة، كتحفة الأشراف بمعرفة الأطرف للمزي.
15- المسلسلات
المسلسلات: وهو كل كتاب جمع فيه الأحاديث التي تتابع رجال إسناده واحدا فواحدا على صفة واحدة أو حالة واحدة، للرواة تارة وللرواية تارة أخرى.
16- الأمالي
الأمالي: جمع الإملاء، وهو كل كتاب جمع فيه الأحاديث التي أملاه عالم على تلاميذته، وصفة الإملاء أن يقعد عالم وحوله تلامذته بالمحابر والقراطيس، فيتكلم العالم بما فتح الله عليه من العلم، ويكتبه التلامذة، فيصير كتابا، ويسمونه الإملاء والأمالي.
ــــــــــــــ

(1/127)


انتهت الرسالة بعونه تعالى وحسن توفيقه، وبنعمته تتم الصالحات، وقد استفدت في جمعها من الكتب المؤلفة في هذا الفن، وكان جل اعتمادي في تهذيبها وتنسيقها على "اجتناء الثمر لمصطلح أهل الأثر" و"أطيب المنح في علم المصطلح"، و"سح المطر على قصب السكر"، فجزى الله مؤلفيها، فإن الفضل في هذا الباب راجع إليهم.
وهذا آخر ما أردنا إيراده المقدمة للطبعة الثانية للجزء الأول من المرعاة، ولله الحمد أولا وآخرا.
عبد الرحمن عبيد الله الرحماني المباركفوري
…………………… 6/ رجب سنة 1393هـ.
(1) كتاب الإيمان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/128)


(كتاب الإيمان) الكتاب مصدر بمعنى المكتوب، مأخوذ من "الكتب" بمعنى الجمع والضم، أي هذا مجموع الأحاديث الواردة في الإيمان، والكتاب عند المصنفين: عبارة عن طائفة من المسائل اعتبرت مستقلة شملت أنواعا أي أبوابا، أو لم تشمل، وإنما عنون به مع ذكره الإسلام أيضا لأنهما بمعنى واحد في الشرع، وعلى اعتبار المعنى اللغوي من الفرق يكون فيه إشارة إلى أنه الأصل، وقدمه لأنه أفضل الأمور على الإطلاق وأشرفها، ولأنه أول واجب على المكلف؛ ولأنه شرط لصحة العبادات المتقدمة على المعاملات، والكلام في الإيمان على أنواع: الأول: في معناه اللغوي، وقد أوضحه الزمخشري وابن تيمية وغيرهما، والثاني: في معناه الشرعي، واختلفوا فيه على أقوال، فقال الحنفية: الإيمان هو مجرد تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما علم مجيئه به بالضرورة تفصيلا في الأمور التفصيلية وإجمالا في الأمور الإجمالية، تصديقا جازما ولو بغير دليل، فالإيمان بسيط عندهم غير مركب، لا يقبل الزيادة والنقصان من حيث الكمية، فجعلوه كالكلي المتواطئ لا تفاوت في صدقه على أفراده، واستدلوا على ذلك بوجوه، ذكرها العيني في شرح البخاري وغيره في غيره، لا يخلو واحد منها من الكلام، ثم المتكلمون منهم جعلوا الإقرار شرطا لإجراء الأحكام، فمن صدق فهو مؤمن بينه وبين الله وإن لم يقر بلسانه، وقال الفقهاء منهم: الإقرار بالشهادتين ركن لكنه ليس بأصلي له كالتصديق، بل هو ركن زائد، ولهذا يسقط حالة الإكراه والعجز، قال القاري: والحق أنه ركن عند المطالبة به وشرط لإجراء الأحكام عند عدم المطالبة – انتهى. وفي المسايرة: وجعل الإقرار بالشهادتين ركنا من الإيمان هو الاحتياط بالنسبة إلى جعله شرطا خارجا عن حقيقة الإيمان – انتهى. وإنما جعل هؤلاء الإقرار بالشهادتين وبالتزام الطاعة ركنا أو شرطا لإخراج تصديق أبي طالب وهرقل والذين قال الله فيهم: ?وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما

(1/129)


وعلوا? [27: 14] من مسمى الإيمان الشرعي، وقال المرجئة: هو اعتقاد فقط، والإقرار باللسان ليس بركن فيه ولا شرط، فجعلوا العمل خارجا من حقيقة الإيمان كالحنفية وأنكروا جزئيته، إلا أن الحنفية اهتموا به وحرضوا عليه وجعلوه سببا ساريا في نماء الإيمان، وأما المرجئة فهدروه وقالوا: لا حاجة إلى العمل، ومدار النجاة هو التصديق فقط، فلا يضر المعصية عندهم مع التصديق، وقال الكرامية: هو نطق فقط، فالإقرار باللسان يكفي للنجاة عندهم سواء وجد التصديق أم لا، وقال السلف من الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من أصحاب الحديث: هو اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، فالإيمان عندهم مركب ذو أجزاء، والأعمال داخلة في حقيقة الإيمان، ومن ههنا نشأ لهم القول بالزيادة والنقصان بحسب الكمية، فهو كالكلي المشكك عندهم، واحتجوا لذلك بالآيات والأحاديث، وقد بسطها البخاري في جامعه، والحافظ ابن تيمية في كتاب الإيمان، قيل وهو مذهب المعتزلة والخوارج، إلا أن السلف لم يجعلوا أجزاء الإيمان متساوية الأقدام، فالأعمال عندهم كواجبات الصلاة لا
?الفصل الأول?
2- (1) عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: ((بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم إذ طلع علينا رجل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/130)


كأركانها، فلا ينعدم الإيمان بانتفاء الأعمال، بل يبقى مع انتفائها، ويكون تارك الأعمال وكذا صاحب الكبيرة مؤمنا فاسقا لا كافرا بخلاف جزئيه: التصديق والإقرار، فإن فاقد التصديق وحده منافق، والمخل بالإقرار وحده كافر، وأما المخل بالعمل وحده ففاسق ينجو من الخلود في النار ويدخل الجنة. وقال الخوارج والمعتزلة: تارك الأعمال خارج من الإيمان لكون أجزاء الإيمان المركب متساوية الأقدام في أن انتفاء بعضها – أي بعض كان – يستلزم انتفاء الكل، فالأعمال عندهم ركن من أركان الإيمان كأركان الصلاة، ثم اختلف هؤلاء، فقالت الخوارج: صاحب الكبيرة وكذا تارك الأعمال كافر مخلد في النار، والمعتزلة أثبتوا الواسطة فقالوا: لا يقال له مؤمن ولا كافر، بل يقال له فاسق مخلد في النار، وقد ظهر من هذا أن الاختلاف بين الحنفية وأصحاب الحديث اختلاف معنوي حقيقي لا لفظي كما توهم بعض الحنفية، والحق ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة والمحدثون لظاهر النصوص القرآنية والحديثية، ومحل الجواب عن دلائل الحنفية هو المطولات، والثالث في أن الإيمان هل يزيد وينقص؟ قيل: هو من فروع اختلافهم في حقيقة الإيمان، والرابع: في أن الإسلام مغاير للإيمان شرعا، أو هما متحدان، فقال بعضهم بالترادف والتساوي، وإنهما عبارة عن معنى واحد، وإليه ذهب البخاري، وقيل بالتغاير والاختلاف والتباين، وقيل: إن بينهما عموما وخصوصا مطلقا، وقال بعضهم: إن بينهما عموما وخصوصا من وجه، وقيل: إنهما مختلفان باعتبار المفهوم، متحدان في المقاصد، والتفصيل في إحياء العلوم للغزالي، وشرحه للزبيدي الحنفي، والخامس: في قران المشيئة بالإيمان، ومحل بسط الدلائل والجواب عن أدلة الأقوال الزائغة هو المطولات مثل شرح مسلم للنووي، والفتح للحافظ، وكتاب الإيمان لابن تيمية، والعمدة للعيني، وحجة الله للشيخ ولي الله الدهلوي.

(1/131)


2- قوله: (عن عمر بن الخطاب) قال القرطبي: هذا الحديث يصلح أن يقال له "أم السنة" لما تضمنه من جمل علم السنة، قال الطيبي: ولهذه النكتة استفتح به البغوي كتابه "المصابيح" و"شرح السنة" اقتداء بالقرآن في افتتاحه بالفاتحة؛ لأنها تضمنت علوم القرآن إجمالا – انتهى. وبالجملة إنه حديث جليل فيه وحده كفاية لمن تأمل فيه، سمي "حديث جبريل" و"أم الأحاديث"؛ لأن العلوم الشرعية التي يتكلم عليها فرق المسلمين من الفقه والكلام والمعارف والأسرار كلها منحصرة فيه، راجعة إليه، ومتشعبة منه، كما أن فاتحة الكتاب تسمى أم القرآن وأم الكتاب؛ لاشتمالها على المعاني القرآنية والمقاصد الفرقانية إجمالا. (بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم إذ طلع علينا رجل) أي بين أوقات نحن حاضرون عنده فاجأنا وقت طلوع ذلك الرجل فأصله "بين" عوض بما عن كلمة أوقات المحذوفة التي تقتضيها بين عند الإضافة إلى الجملة، وهو ظرف زمان مثل إذ بمعنى المفاجأة، يضافان إلى الجملة الاسمية تارة، وإلى
شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/132)


الفعلية أخرى، ويكون العامل معنى المفاجأة في إذ ويكون بينما ظرفا لفاجأنا المقدر، وإذ مفعول به لهذا المقدر بمعنى الوقت، ونحن مبتدأ وعند ظرف مكان ذات يوم ظرف لقوله عند باعتبار أن فيه معنى الاستقرار، أي بين أوقات نحن حاضرون عنده، فنحن مخبر عنه بجملة ظرفية، والمجموع صفة المضاف إليه المحذوف وزيادته ذات لدفع توهم التجوز بأن يراد باليوم مطلق الزمان لا النهار، وقيل: ذات مقحم، وقيل: بمعنى الساعة، وكان مجيء هذا الرجل في آخر عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يدل عليه رواية ابن مندة في كتاب الإيمان بإسناده الذي هو على شرط مسلم، فجاء بعد إنزال جميع الأحكام لتقرير أمور الدين التي بلغها متفرقة في مجلس واحد لتضبط وتحفظ. وسبب ورود الحديث ما في مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سلوني، فهابوه أن يسألوه، فجاء رجل فجلس عند ركبتيه، وقوله: طلع علينا رجل، أي ظهر علينا رجل في غاية الأبهة ونهاية الجلالة، كما تطلع علينا الشمس، وفيه دليل على تمثل الملائكة بأي صورة شاءوا من صور بني آدم كقوله تعالى: ?فتمثل لها بشرا سويا? [19: 17]، وقد كان جبريل يتمثل بصورة دحية وغيره كما في هذا الحديث. (شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر) بإضافة شديد إلى ما بعده إضافة لفظية مفيدة للتخفيف فقط، صفة رجل، واللام في الموضعين عوض عن المضاف إليه العائد إلى الرجل، أي شديد بياض ثيابه شديد سواد شعره، والمراد به شعر اللحية كما في رواية ابن حبان ((شديد سواد اللحية))، (لا يرى عليه أثر السفر) روي بصيغة المجهول الغائب ورفع الأثر، وهو رواية الأكثر والأشهر، وروي بصيغة المتكلم المعلوم ونصب الأثر، والجملة حال من رجل أو صفة له، والمراد بالأثر ظهور التعب والتغير والغبار. (ولا يعرفه منا أحد) استند في ذلك عمر إلى صريح قول الحاضرين، ففي رواية لأحمد: فنظر القوم بعضهم إلى بعض فقالوا: ما نعرف هذا، والمعنى تعجبنا من إتيانه وترددنا

(1/133)


في أنه من الملك والجن، إذ لو كان بشرا من المدينة لعرفناه، أو كان غريبا لكان عليه أثر السفر. (حتى جلس) غاية لمحذوف دل عليه طلع؛ لأنه بمعنى أتى، أي أقبل واستأذن حتى جلس متوجها ومائلا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. (فأسند ركبتيه إلى ركبتيه) أي إلى ركبتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الجلوس على الركبة أقرب إلى التواضع والأدب، وإيصال الركبة بالركبة أبلغ في الإصغاء وأكمل في الاستئناس (على فخذيه) أي على فخذي النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما تفيده رواية ابن خزيمة في صحيحه وغيره، وحديث ابن عباس وأبي عامر الأشعري عند أحمد بإسناد حسن، ورواه النسائي من حديث أبي هريرة وأبي ذر بلفظ: حتى وضع يده على ركبتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسنده صحيح، والظاهر أنه أراد بذلك جبريل المبالغة في تعمية أمره؛ ليقوى الظن بأنه من جفاة الأعراب، ولهذا تخطى الناس حتى انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا استغرب الصحابة صنيعه. (وقال: يا محمد) أي بعد ما قال: "السلام عليك" كما في حديث أبي هريرة وأبي ذر عند أبي داود والنسائي، ووقع في حديث ابن عمر عند الطبراني وفي حديث عمر عند أبي عوانة في صحيحه وفي حديث أبي هريرة عند البخاري في تفسير سورة لقمان أنه قال له: "يا رسول الله"، ويجمع بأنه بدأ أولا
أخبرني عن الإسلام، قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/134)


ببداءة اسمه قصدا للتعمية، فصنع صنيع الأعراب، ثم خاطبه بعد ذلك بقوله "يا رسول الله"، (أخبرني عن الإسلام) فيه أنه قدم السؤال عن الإسلام وثنى بالإيمان وثلث بالإحسان، وفي رواية أبي عوانة بدأ بالإسلام وثنى بالإحسان وثلث بالإيمان، وفي حديث أبي هريرة عند البخاري قدم السؤال بالإيمان وثنى بالإسلام وثلث بالإحسان، قال الحافظ: لا شك أن القصة واحدة، واختلفت الرواة في تأديتها، وليس في السياق ترتيب، ويدل عليه رواية مطر الوراق عند أبي عوانة، فالحق أن الواقع أمر واحد، والتقديم والتأخير وقع من الرواة، عبروا عنه بأساليب مختلفة. واعلم أن البغوي ذكر في المصابيح السؤال عن الإيمان وجوابه مقدما على الإسلام، هو خلاف ما وقع في حديث عمر عند مسلم وغيره، ففي إيراد الحديث بهذا اللفظ اعتراض فعلي من صاحب المشكاة على البغوي في المصابيح. (وتقيم) أي وأن تقيم، وكذا بالنصب في تؤتي وتصوم وتحج. (الصلاة) أي المكتوبة كما في حديث أبي هريرة عند مسلم (الزكاة) أي المفروضة (البيت) أي الحرام، قال فيه للعهد، أو اسم جنس غلب على الكعبة علما، واللام فيه جزء كما في النجم (إن استطعت إليه سبيلا) المراد بهذه الاستطاعة: الزاد والراحلة، وكان طائفة لا يعدونهما منها، ويثقلون على الحاج فنهو عن ذلك، وإيراد الأفعال المضارعة لإفادة الاستمرار التجددي لكل من الأركان الإسلامية، وحكم الإسلام يظهر بالشهادتين، وإنما أضاف إليهما الأعمال المذكورة لأنها أظهر شعائره وأعظمها. (قال) أي الرجل (صدقت) بفتح الفوقية، دفعا لتوهم أن السائل ما عده من الصواب (قال) أي عمر (فعجبنا له) أي للسائل (يسأله ويصدقه) سبب تعجبهم أن هذا خلاف عادة السائل الجاهل، إنما هذا كلام خبير بالمسؤول عنه، ولم يكن في ذلك الوقت من يعلم هذا غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس هذا السائل ممن عرف بلقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بالسماع منه (فأخبرني عن الإيمان، قال: أن

(1/135)


تؤمن بالله) دل الجواب على أنه - صلى الله عليه وسلم - علم أنه سأله عن متعلقات الإيمان لا عن معنى لفظه، وإلا لكان الجواب: الإيمان التصديق، وقال الطيبي: هذا يوهم التكرار وليس كذلك، فإن قوله "أن تؤمن بالله" مضمن معنى تعترف به، ولهذا عداه بالباء أي أن تصدق معترفا بكذا، والإيمان بالله هو التصديق بوجوده، وأنه متصف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص (وملائكته) أي تصدق بوجودهم وأنهم – كما وصفهم الله – عباد مكرمون، وقدم الملائكة على الكتب والرسل نظرا للترتيب الواقع؛ لأنه سبحانه وتعالى أرسل الملك بالكتاب إلى الرسول، وليس فيه تمسك
وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/136)


لمن فضل الملك على الرسول. (وكتبه) أي تصدق بأنها كلام الله، وأن ما تضمنته حق (ورسله) أي تصدق بأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله. ودل الإجمال في الملائكة والكتب والرسل على الاكتفاء بذلك في الإيمان بهم من غير تفصيل إلا من ثبتت تسميته فيجب الإيمان به على التعيين. (واليوم الآخر) أي يوم القيامة؛ لأنه آخر أيام الدنيا، والمراد بالإيمان به التصديق بما يقع فيه من الحساب والميزان والجنة والنار، (وتؤمن) أي وأن تؤمن (بالقدر) بفتح الدال ويسكن ما قدره الله وقضاه، والمراد أن الله علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد، فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته، وهذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية، وسيجيء الكلام عليه في كتاب القدر، وأعاد العامل ومتعلقه تنبيها على الاهتمام بالتصديق به لشرف قدره وتعاظم أمره. (خيره وشره) بالجر بدل من القدر (فأخبرني عن الإحسان) أي الإحسان في العبادة، وهو إتقانها والإخلاص فيها والخشوع وفراغ البال حال التلبس بها ومراقبة المعبود، قال الحافظ: وأشار في الجواب إلى حالتين أرفعهما أن يغلب عليه مشاهدة الحق حتى كأنه يراه بعينه هو قوله "كأنك تراه" أي وهو يراك، والثانية: أن يستحضر أن الحق مطلع عليه، يرى كل ما يعمل، وهو قوله "يراك"، وهاتان الحالتان يثمرهما معرفة الله وخشيته، وقال النووي: معناه أنك إنما تراعي الآداب المذكورة إذا كنت تراه ويراك لكونه يراك لا لكونك تراه، فهو دائما يراك فأحسن عبادته وإن لم تره، فتقدير الحديث: فإن لم تكن تراه فاستمر على إحسان العبادة فإنه يراك (كأنك تراه) صفة مصدر محذوف، أي عبادة شبيهة بعبادتك حين تراه، أو حال من الفاعل أي حال كونك مشبها بمن يراه، قاله الكرماني، وقال العيني: التقدير: الإحسان عبادتك الله تعالى حال كونك في عبادتك مثل حال كونك رائيا، وهذا التقدير أحسن وأقرب للمعنى من تقدير الكرماني؛ لأن

(1/137)


المفهوم من تقديره أن يكون هو في حال العبادة مشبها بالرائي إياه، وفرق بين عبادة الرائي بنفسه وعبادة المشبه بالرائي بنفسه – انتهى. وقال السندهي: وليس المقصود على تقدير الحالية أن ينتظر بالعبادة تلك الحال فلا يعبد قبل تلك الحال، بل المقصود تحصيل تلك الحال في العبادة، والحاصل أن الإحسان هو مراعاة الخشوع والخضوع وما ي معناهما في العبادة على وجه مراعاته لو كان رائيا، ولا شك أنه لو كان رائيا حال العبادة لما ترك شيئا مما قدر عليه من الخشوع وغيره، ولا منشأ لتلك المراعاة حال كونه رائيا إلا كونه رقيبا مطلعا على حاله، وهذا موجود وإن لم يكن العبد يراه تعالى. ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في تعليله: فإن لم تكن تراه فإنه يراك، أي هو يكفي في مراعاة الخشوع على ذلك الوجه، فإن على هذا وصلية لا شرطية، والكلام بمنزلة فإنك وإن لم تكن تراه فإنه يراك – انتهى. (فإن لم تكن تراه) أي تعامله معاملة من تراه (فإنه يراك) أي فعامل معاملة من يراك أو فأحسن في عملك فإنه يراك.
قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أماراتها، قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البيان، قال: ثم انطلق، فلبثت مليا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/138)


فالفاء دليل الجواب وتعليل الجزء الأول؛ لأن ما بعدها لا يصلح للجواب؛ لأن رؤية الله للعبد حاصلة سواء رآه العبد أم لا، بل الجواب محذوف استغناء عنه بالمذكور؛ لأنه لازمه، كذا في المرقاة. (عن الساعة) أي عن وقت قيامها (ما المسؤول) ما نافية (عنها) أي عن وقتها (بأعلم من السائل) الباء مزيدة لتأكيد النفي، والمقام يقتضي أن يقال: لست بأعلم بها منك، لكنه عدل إشعارا بالتعميم تعريضا للسامعين أن كل سائل ومسؤول فهو كذلك، قال الحافظ: هذا وإن كان مشعرا بالتساوي في العلم لكن المراد التساوي في العلم بأن الله تعالى استأثر بعلمها؛ لقوله بعد خمس: لا يعلمها إلا الله – انتهى. فهو كناية عن تساويهما في عدم العلم، وإنما سأل جبريل ليعلمهم أن الساعة لا يسأل عنها (عن أماراتها) بفتح الهمزة جمع أمارة أي علامة، والمراد منها ما يكون من نوع المعتاد ويكون سابقا على غير المعتاد مثل طلوع الشمس من مغربها (أن تلد الأمة ربتها) أي تحكم البنت على الأم من كثرة العقوق حكم السيدة على أمتها، ولما كان العقوق في النساء أكثر خصصت البنت والأمة بالذكر، ووقع في الرواية الأخرى ربها على التذكير والمراد بالرب والربة السيد والسيدة، أو المالك والمالكة، واختلفوا في معنى ذلك على وجوه، والأوجه عندنا ما قدمنا من أنه يكثر العقوق في الأولاد فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة بالسب والضرب والاستخدام، فأطلق عليها ربها مجازا لذلك، قال الحافظ: أو المراد بالرب المربي، فيكون حقيقة، وهذا أوجه الأوجه عندي لعمومه؛ ولأن المقام يدل على أن المراد حالة تكون مع كونها تدل على فساد الحال مستغربة، ومحصلة الإشارة إلى أن الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور بحيث يصير المربى مربيا، والسافل عاليا، وهو مناسب لقوله في العلامة الأخرى ((أن تصير الحفاة العراة ملوك الأرض)) انتهى. (الحفاة) بضم الحاء جمع الحافي، وهو من لا نعل له (العراة) جمع العاري،

(1/139)


وهو المجرد عن الثياب (العالة) جمع عائل، وهو الفقير من عال يعيل إذا افتقر، أو من عال يعول، إذا افتقر وكثر عياله (رعاء الشاء) بكسر الراء والمد جمع راع والشاء جمع شاة (يتطاولون في البنيان) أي يتفاضلون في ارتفاعه وكثرته ويتفاخرون في حسنه وزينته، وهو مفعول ثان إن جعلت الرؤية فعل البصيرة، أو حال إن جعلتها فعل الباصرة، والمراد أن أسافل الناس يصيرون رؤساءهم، وتكثر أموالهم حتى يتباهون بطول البنيان وزخرفته وإتقانه (قال) أي عمر: (ثم انطلق) أي السائل (فلبثت مليا) بفتح الميم وتشديد الياء، من الملاوة، أي زمانا أو مكثا طويلا، وبينته رواية أبي داود والنسائي والترمذي، قال عمر: فلبثت ثلاثا، وهو مخالف لحديث أبي هريرة من أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكره في ذلك المجلس، وجمع النووي بين الحديثين بأن عمر لم يحضر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في المجلس، بل كان ممن قام، إما مع الذين توجهوا في طلب الرجل أو لشغل آخر، ولم يرجع مع من رجع لعارض عرض له
ثم قال لي: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبرئيل أتاكم يعلمكم دينكم)) رواه مسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/140)


فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحاضرين في الحال ولم يتفق الإخبار لعمر إلا بعد ثلاثة أيام، ويدل عليه قوله: فقال لي: يا عمر، فوجه الخطاب له وحده بخلاف إخباره الأول (فإنه جبريل) أي إذا فوضتم العلم إلى الله ورسوله فإنه جبريل على تأويل الإخبار أي تفويضكم ذلك سبب للإخبار به، وقرينة المحذوف قوله (الله ورسوله أعلم) فالفاء فصيحة لأنها تفصح عن شرط محذوف (أتاكم) استئناف بيان أو خبر لجبريل على أنه ضمير الشأن (يعلمكم دينكم) جملة حالية من الضمير المرفوع في أتاكم أي عازما تعليمكم، فهو حال مقدرة لأنه لم يكن وقت الإتيان معلما، أو مفعول له بتقدير اللام كما في رواية، أسند التعليم إليه مجازا لأنه السبب فيه، أو لأن غرضه من السؤال كان التعليم، فأطلق عليه المعلم لذلك، وفيه دلالة على أن السؤال الحسن يسمى علما وتعليما، لأن جبريل لم يصدر منه سوى السؤال ومع ذلك فقد سماه معلما، وقد اشتهر قولهم "السؤال نصف العلم"، فإن قيل: قد فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بين الإسلام والإيمان، وجعل الأعمال كلها من الإسلام لا من الإيمان، والمشهور عن السلف وأهل الحديث أن الإيمان قول وعمل ونية، وأن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان، وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم، تدل على دخول الأعمال في الإيمان النصوص الصريحة من آيات القرآن والأحاديث الصحيحة، وأيضا ظاهر سؤال جبريل عن الإسلام والإيمان وجوابه يقتضي تغايرهما، وأن الإيمان تصديق بأمور مخصوصة، والإسلام إظهار أعمال مخصوصة، وتقدم عن البخاري أنه يرى أنهما عبارة عن معنى واحد، قلت: عقد البخاري على حديث جبريل هذا بابا في صحيحه ليرد ذلك التأويل إلى مسلكه وطريقته فارجع إليه، وقال البغوي في الكلام على حديث جبريل هذا: جعل النبي- صلى الله عليه وسلم - الإسلام اسما لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسما لما بطن من

(1/141)


الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، والتصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد وجماعها الدين، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أتاكم يعلمكم دينكم))، والتصديق والعمل يتناولهما اسم الإيمان والإسلام جميعا، يدل عليه قوله سبحانه تعالى: ?إن الدين عند الله الإسلام? [3: 18]، ?ورضيت لكم الإسلام دينا? [5: 3]، ?ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه? [3: 83]، فأخبر سبحانه وتعالى أن الدين الذي رضيه ويقبله من عباده هو الإسلام، ولا يكون الدين في محل القبول والرضاء إلا بانضمام التصديق إلى العمل – انتهى. وقيل: فسر في الحديث الإيمان بالتصديق والإسلام بالعمل، وإنما فسر إيمان القلب والإسلام في الظاهر لا الإيمان الشرعي والإسلامي الشرعي، ولا شك في تغايرهما لغة، وأجاب ابن رجب في شرح الأربعين (19) بوجه آخر، ومحصل جوابه أن الإيمان والإسلام يفترقان إذا اجتمعا، وحيث أفرد كل منهما بالذكر فلا فرق بينهما، وارجع للتفصيل إلى شرح الأربعين وكتاب الإيمان لابن تيمية. (رواه مسلم) هذا الحديث تفرد به مسلم عن البخاري بإخراجه، قال الحافظ: وإنما لم يخرجه البخاري
3- (2) ورواه أبوهريرة مع اختلاف، وفيه: ((وإذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لاختلاف فيه على بعض رواته – انتهى. وحديث عمر هذا أخرجه أيضا أحمد وأبوداود في السنة والترمذي والنسائي في الإيمان وابن ماجه في السنة وابن خزيمة وأبوعوانة وابن حبان وغيرهم، وفي الباب عن غير واحد من الصحابة، ذكرهم الحافظ في الفتح والعيني في العمدة.

(1/142)


3- (رواه أبوهريرة) الدوسي اليماني الصحابي الجليل حافظ الصحابة الفقيه كان من أوعية العلم ومن كبار أئمة الفتوى مع الجلالة والعبادة والتواضع، واختلف في اسمه واسم أبيه اختلافا كثيرا يبلغ إلى نحو ثلاثين قولا، وأشهر ما قيل فيه: إنه كان في الجاهلية عبد شمس أو عبد عمرو، وفي الإسلام عبدالله أو عبدالرحمن، وقال أبوأحمد الحاكم في الكنى: أصح شيء عندنا في اسم أبي هريرة: عبدالرحمن بن صخر، وقد غلبت عليه كنيته فهو كمن لا اسم له غيرها، أسلم عام خيبر وشهدها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لزمه وواظب عليه رغبة في العلم راضيا بشبع بطنه، فكانت يده مع يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يدور معه حيث ما دار، وكان من أحفظ الصحابة، وكان يحضر ما لا يحضر سائر المهاجرين والأنصار؛ لاشتغال المهاجرين بالتجارة والأنصار بحوائطهم، وقد شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه حريص على العلم والحديث، وقال أبوهريرة: يا رسول الله إني قد سمعت منك حديثا كثيرا وأنا أخشى أن أنسى، فقال: ابسط رداءك، قال: فبسطته فغرف بيده فيه، ثم قال: ضمه فضممته، فما نسيت شيئا بعد، وقال البخاري: روى عنه أكثر من ثمانمائة رجل من بين صاحب وتابع، وممن روى عنه من الصحابة ابن عباس وابن عمر وجابر بن عبدالله وأنس وواثلة، ولم يزل يسكن المدينة وبها كانت وفاته سنة 57هـ، وقيل سنة 58هـ، وقيل سنة 59هـ، وهو ابن ثمان وسبعين، وقيل مات بقصره بالعقيق، فحمل إلى المدينة وصلى عليه الوليد بن عقبة بن أبي سفيان، وكان يومئذ أميرا على المدينة، كذا في الاستيعاب، قال أبوهريرة: كنت أرعى غنما وكان لي هرة صغيرة ألعب بها فكنوني بها، وقيل: رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي كمه هرة فقال: يا أباهريرة، وهو أكثر الصحابة رواية بإجماع، روى له خمسة آلالف حديث وثلاثمائة وأربعة وستون حديثا، اتفقا على ثلاثمائة وخمسة وعشرين، وانفرد البخاري بثلاثة

(1/143)


وتسعين ومسلم بمائة وتسعين، ذكره العيني (ج1: ص124)، (مع اختلاف) أي بين بعض ألفاظهما (وفيه) أي في مروي أبي هريرة (الصم) أي عن قبول الحق (البكم) أي عن النطق بالصدق جعلوا لبلادتهم وحماقتهم كأنه أصيبت مشاعرهم مع كونها سليمة تدرك ما ينتفعون به (ملوك الأرض) زاد مسلم: فذاك من أشراطها، وقوله (ملوك الأرض) منصوب على أنه مفعول ثان لرأيت، أو على أنه حال، ومضمون ما ذكر من أشراط الساعة في هذين الحديثين يرجع إلى أن الأمور توسد إلى غير أهلها كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عن الساعة: ((إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة))، فإنه إذا صار الحفاة العراة
في خمس لا يعلمهن إلا الله ثم قرأ: ?إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث...? الآية [31: 4]، متفق عليه.
4- (3) وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/144)


رعاء الشاء، وهم أهل الجهل والجفاء رؤساء الناس وأصحاب الثروة والأموال حتى يتطاولون في البنيان، فإنه يفسد بذلك نظام الدين والدنيا، فإنه إذا كان رؤوس الناس من كان فقيرا عائلا فصار ملكا على الناس سواء كان ملكه عاما أو خاصا في بعض الأشياء، فإنه لا يكاد يعطي الناس حقوقهم بل يستأثر عليهم بما استولى عليهم من المال، وإذا كان مع هذا جاهلا جافيا فسد بذلك الدين؛ لأنه لا يكون له همة في إصلاح دين الناس ولا تعليمهم، بل همته في جمع المال وإكثاره ولا يبالي بما أفسده من دين الناس ولا بمن ضاع من أهل حاجاتهم. (في خمس) أي معرفة وقت الساعة هي واحدة من خمس لا يعملهن إلا الله، وقيل: أي علم وقت قيام الساعة داخل في خمس من الغيب، فهو مرفوع المحل على الخبرية، تدل عليه رواية أبي نعيم في الحلية، وفيها قال: فمتى الساعة؟ قال: هي في خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله، ووجه الانحصار في هذه الخمس مع أن الأمور التي لا يعلمها إلا الله كثيرة هو أنهم سألوا الرسول عن هذه الخمس، فنزلت الآية جوابا لهم، أو أن هذه الخمسة أمهاتها وأصولها وما سواها راجعة إليها، والمراد من العلم في الحديث والآية العلم الكلي، وإليه إشارة بقوله: ?وعنده مفاتح الغيب? [6: 59]، فلا يعترض بما صدر عن الأولياء وبما يخبر به بعض الكهنة والمنجمين؛ لأن علم الجزئيات ليس بعلم في الحقيقة، فالعلم هو العلم الكلي، أو لأنه من الظن لا من العلم، فافهم، الآية تمامها: ?ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت. إن الله عليم خبير? [31: 34]. (متفق عليه) أي اتفق الشيخان على رواية أصل حديث أبي هريرة، مع قطع النظر عن خصوص الزيادة المذكورة، فإنها تفرد بها مسلم عن البخاري، نعم هي رواية الإسماعيلي كما ذكره الحافظ في الفتح، وحديث أبي هريرة أخرجه أيضا أبوداود والنسائي وابن ماجه ورواه النسائي أيضا عن أبي ذر مقرونا مع أبي هريرة.

(1/145)


4- (وعن ابن عمر) المراد به حيث أطلق عبدالله بن عمر بن الخطاب، وإن كان لعمر أبناء آخرون أيضا، كما أنه يراد بابن عباس وابن مسعود وابن الزبير عند الإطلاق هو عبدالله، بسط ترجمته الذهبي في تذكرته، والحافظ في الإصابة، وهو أبوعبدالرحمن عبدالله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي المكي، أسلم بمكة قديما مع أبيه وهو صغير وهاجر معه واستصغر عن أحد وشهد الخندق وله خمس عشرة سنة وما بعدها، وهو أحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية، وأحد العبادلة الأربعة، وكان من أهل الورع والعلم والزهد، شديد التحري والاحتياط والاتباع للأثر، قال جابر بن عبدالله: ما منا أحد إلا مالت به الدنيا ومال بها، ما خلا عمر وابنه عبدالله، وقال ميمون بن مهران: ما رأيت أورع من ابن عمر، ولا أعلم من ابن عباس، وقال نافع: ما مات ابن عمر حتى أعتق ألف إنسان، أو زاد، وهو الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه رجل صالح، ومناقبه وفضائله كثيرة جدا، روي له ألفا حديث وستمائة وثلاثون حديثا، اتفقا منها على مائة وسبعين حديثا، وانفرد البخاري بأحد وثمانين، ومسلم بأحد
((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/146)


وثلاثين، وهو أكثر الصحابة رواية بعد أبي هريرة، ولد بعد البعثة بقليل، وما بعد الحج سنة 73هـ، وقيل: سنة 74هـ، بعد قتل ابن الزبير بثلاثة أشهر، وقيل: بستة أشهر، ودفن بالمحصب أو بفخ أو بذي طوى، وكلها مواضع بقرب مكة، ذكر الزبير أن عبدالملك لما أرسل إلى الحجاج أن لا يخالف ابن عمر شق عليه ذلك، فأمر رجلا معه حربة يقال: إنها كانت مسمومة، فلما دفع الناس من عرفة لصق ذلك الرجل به فأمر الحربة على قدمه فمرض منها أياما ثم مات وله 84 سنة، وقيل 86، روى عن خلق كثير. (بني الإسلام) ذكر المصنف هذا الحديث في كتاب الإيمان ليبين أن الإسلام يطلق على الأفعال، وأن الإسلام والإيمان بمعنى واحد، ولاشتماله على لفظ البناء الدال على تركب الإيمان صراحة، ولاحتوائه على أهم أجزاء الإيمان، وقد تقدم أن الإيمان عند السلف مركب ذو أجزاء، وأن الأعمال داخلة في حقيقتها. (على خمس) أي خمس دعائم، كما في رواية عبدالرزاق ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة، أو خصال أو قواعد أو نحو ذلك، مثلت حالة الإسلام مع أركانه الخمس بحالة خباء أقيمت على خمسة أعمدة وقطبها الذي تدور عليه الأركان هو الشهادة المشبهة بالعمود الوسط للخيمة، وبقية شعب الإيمان وخصاله بمنزلة الأوتاد للخباء وتتمة لها، فإذا فقد منها شيء نقص الخباء وهو قائم لا ينقض بنقص ذلك بخلاف نقص هذه الدعائم الخمس، فإن الإسلام يزول بفقدها جميعا بغير إشكال، وكذلك يزول بفقد الشهادتين، واختلفوا في ترك الصلاة، فذهب أحمد وطائفة من السلف والخلف إلى أن تركها كفر، واستدلوا بأحاديث متعددة تدل على كون تاركها كافرا، قال محمد بن نصر: هو قول جمهور أهل الحديث، وذهب طائفة منهم إلى أن من ترك شيئا من أركان الإسلام الخمس عمدا أنه كافر، قال النووي: حكم الإسلام في الظاهر يثبت بالشهادتين، وإنما أضيف إليهما الصلاة ونحوها لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها، وبقيامه بها يتم إسلامه، وتركه لها يشعر بانحلال

(1/147)


قيد انقياده أو اختلاله، فإن قيل المبنى لا بد أن يكون غير المبنى عليه، أجيب بأن الإسلام عبارة عن المجموع، والمجموع غير كل واحد من أركانه، أو يقال: إن المراد بالإسلام هو التذلل العام الذي هو اللغوي لا التذلل الشرعي الذي هو فعل الواجبات حتى يلزم بناء الشيء على نفسه، ومعنى الكلام أن التذلل اللغوي يترتب على هذه الأفعال مقبولا من العبد طاعة وقربة. (شهادة أن لا إله إلا الله) بالجر على البدل من خمس، ويجوز الرفع على حذف الخبر، والتقدير: منها شهادة أن لا إله إلا الله، أو على حذف المبتدأ والتقدير: أحدها شهادة أن لا إله إلا الله، ويجوز النصب بتقدير أعني. (وإقام) أصلة إقامة، حذفت تاؤه للازدواج، وقيل: هما مصدران (الصلاة) المفروضة أي المداومة عليها، أو الإتيان بها بشروطها وأركانها (وإيتاء الزكاة) أي إعطائها أهلها (والحج وصوم رمضان) لم يذكر الجهاد؛ لأنه من فروض الكفاية وتلك فرائض الأعيان، ولم يذكر
متفق عليه.
5- (4) وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول "لا إله إلا الله"، وأدناها إماطة الأذى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإيمان بالأنبياء والملائكة وغير ذلك مما تضمنه حديث جبريل؛ لأن المراد بالشهادة تصديق الرسل بكل ما جاء به، فيستلزم جميع ما ذكر من المعتقدات، والواو لمطلق الجمع فلا يرد أن الصوم فرض في السنة الثانية من الهجرة، والحج سنة ست أو تسع على أنه ورد في رواية لمسلم بتقديم الصوم على الحج، ووجه الحصر في الخمس أن العبادة إما قولية وهي الشهادة، أو غير قولية فهي إما تركي وهو الصوم، أو فعلي وهو إما بدني وهو الصلاة، أو مالي وهو الزكاة، أو مركب منهما وهو الحج (متفق عليه) أخرجه البخاري في الإيمان وفي التفسير، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي والنسائي في الإيمان.

(1/148)


5- قوله: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) البضع بكسر الباء وقد تفتح: القطعة من الشيء، وهو في العدد ما بين الثلاث إلى التسع؛ لأنه قطعة من العدد، وكونه عددا مبهما مقيدا بما بين الثلاث إلى التسع هو الأشهر، وفيه أقوال أخرى ذكرها العيني، واختلفت الروايات الصحيحة في ذكر العدد من غير شك، ففي مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي (بضع وسبعون)، وفي رواية البخاري (بضع وستون)، فرجح الحليمي وعياض والنووي الرواية الأولى؛ لأنها زيادة من ثقة فتقبل وتقدم، وليس في رواية الأقل ما يمنعها ويخالفها، قال الحافظ: لا يستقيم ذلك إذ الذي زادها لم يستمر على الجزم، لاسيما مع اتحاد المخرج، وقد رجح ابن الصلاح الأقل لكونه المتيقن – انتهى. وقيل: هو كناية عن الكثرة، وليس المراد التحديد، فإن كثيرا من أسماء العدد تجيء كذلك، ويحمل الاختلاف على تعدد القضية ولو من جهة راو واحد، و( الشعبة) بالضم القطعة والفرقة، وهي واحدة "الشعب" وهي أغصان الشجر، والمراد في الحديث الخصلة أي الإيمان ذو خصال متعددة، وكما شبه الإسلام في حديث ابن عمر المتقدم بخباء ذات أعمدة وأطناب شبه الإيمان في هذا الحديث بشجرة ذات أغصان وشعب، ومن المعلوم أن الشعب وكذا الأوراق والثمار أجزاء للشجرة، والأغصان والأوراق والثمار قد تكون وقد لا تكون مع بقاء الشجرة، كذلك الأعمال قد تكون وقد لا تكون مع بقاء أصل الإيمان، فنسبة الأعمال إلى الإيمان كنسبة الأغصان والأوراق والثمار إلى الشجرة، (فأفضلها) هو جزاء شرط محذوف، كأنه قيل: إذا كان الإيمان ذا شعب يلزم التعدد، وحصول الفاضل والمفضول بخلافه إذا كان أمرا واحدا، (قول لا إله إلا الله) المراد به مجموع الشهادتين عن صدق قلب، أو الشهادة بالتوحيد فقط لكن عن صدق قلب على أن الشهادة بالرسالة شعبة أخرى (وأدناها) أو أدونها مقدارا ومرتبة، بمعنى أقربها تناولا وأسهلها تواصلا من الدنو بمعنى القرب (إماطة الأذى) أي إزالته

(1/149)


وتنحيته وإبعاده، والأذى اسم لما يؤذي
عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) متفق عليه.
6- (5) وعن عبدالله بن عمرو – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الطريق كالشوك والحجر والنجاسة ونحوها، وفي الحديث إشارة إلى أن مراتب الإيمان متفاوتة (والحياء) بالمد (شعبة) أي عظيمة (من الإيمان) أي من شعبه، وهو في اللغة تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، وقد يطلق على مجرد ترك الشيء بسبب، والترك إنما هو من لوازمه، وفي الشرع خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، ولهذا جاء في الحديث: ((الحياء خير كله))، فإن قيل: الحياء من الغرائز، فكيف جعل شعبة من الإيمان؟ أجيب بأنه قد يكون غريزة، وقد يكون تخلقا، ولكن استعماله على وفق الشرع يحتاج إلى اكتساب وعلم ونية، فهو من الإيمان لهذا، ولكونه باعثا على أفعال الطاعة وحاجزا عن فعل المعصية، ولا يقال: رب حياء يمنع عن قول الحق أو فعل الخير، فكيف يصح أن يقال: الحياء خير كله، ولا يأتي إلا بخير؛ لأن ذلك ليس شرعيا بل هو عجز وخور، وإنما تسميته حياء من إطلاق بعض أهل العرف، أطلقوه مجازا لمشابهته الحياء الحقيقي الشرعي، وإنما أفرد الحياء بالذكر من بين سائر الشعب لأنه كالداعي إلى سائر الشعب، فإن الحي يخاف فضيحة الدنيا والآخرة فيأتمر وينزجر، وقال الطيبي: معنى إفراد الحياء بالذكر بعد دخوله في الشعب كأنه يقول: هذه شعبة واحدة من شعبه، فهل تحصى شعبه كلها؟ هيهات إن البحر لا يغرف، قال القاضي عياض: تكلف جماعة حصر هذه الشعب بطريق الاجتهاد وفي الحكم يكون ذلك مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - صعوبة، ثم إنه لا يلزم معرفة أعيانها، ولا يقدح عدم معرفة حصر ذلك على التفصيل في الإيمان، إذ أصول الإيمان وفروعه معلومة محققة، والإيمان بأنها هذا العدد واجب في الجملة – انتهى. (متفق

(1/150)


عليه) أي اتفق الشيخان على رواية أصل الحديث، وليس المراد أنهما اتفقا على خصوص اللفظ الذي ذكره، فلا يعترض بأن قوله ((بضع وسبعون)) من إفراد مسلم، وكذا قوله ((فأفضلها)) إلى قوله ((عن الطريق)) من إفراده فلا يكون متفقا عليه.
6- قوله: (وعن عبدالله بن عمرو) كتب بالواو ليتميز عن عمر، ومن ثمة لم يكتب حالة النصب لتميزه عنه بالألف، وهو ابن العاص السهمي القرشي أبومحمد، أسلم قبل أبيه، وكان بينه وبين أبيه في السن اثنتي عشرة سنة، وقيل: إحدى عشرة، وكان غزير العلم كثير الاجتهاد في العبادة، وكان أكثر حديثا من أبي هريرة لأنه كان يكتب وأبوهريرة لا يكتب، ومع ذلك فالذي روي له قليل بالنسبة إلى ما روي لأبي هريرة، روي له سبعمائة حديث، اتفقا منها على سبعة عشر، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بعشرين، روى عنه خلق كثير، كان يلوم أباه على القتال في الفتنة بأدب وتؤدة، ويقول: واصفين مالي ولقتال المسلمين لوددت أني مت قبلها بعشرين سنة، توفي بمكة أو بالطائف أو بمصر في ذي الحجة من سنة (63)، أو (65)، أو (67)، وقيل مات سنة (72)، أو (73)، عن
((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/151)


اثنتين وسبعين سنة. (المسلم) أي الكامل، نحو زيد الرجل، أي كامل في الرجولة، والمال الإبل، والناس العرب، وقيل: معناه: المسلم الممدوح، قال ابن جني: من عادتهم أن يوقعوا على الشيء الذي يخصونه بالمدح اسم الجنس، ألا ترى كيف سموا الكعبة بالبيت، وكتاب سيبويه بالكتاب – انتهى. فإن قيل: إنه يستلزم أن من اتصف بهذا خاصة كان كاملا، أجيب بأن المراد هو الكامل مع مراعاة باقي الأركان والصفات، قال الخطابي: المراد أفضل المسلمين من جمع إلى أداء حقوق الله، وأداء حقوق المسلمين – انتهى. واقتصر على الثاني لأن الأول مفهوم بالطريق الأولى، ويمكن أن يكون هذا واردا على سبيل المبالغة تعظيما لترك الإيذاء، فهو محصور فيه على سبيل الادعاء، وأمثاله كثيرة، والحاصل أن القصر فيه باعتبار تنزيل الناقص منزلة المعدوم، فلا حاجة إلى تقدير الكمال، ويحتمل أن يكون المراد بذلك أن يبين علامة المسلم التي يستدل بها على إسلامه، وهي سلامة المسلمين من لسانه ويده كما ذكر مثله في علامة المنافق (من) أي إنسان كان ذكرا أو أنثى (سلم المسلمون) أي والمسلمات إما تغليبا، أو تبعا كما في سائر النصوص والمخاطبات، ويلحق بهم أهل الذمة حكما، فذكر المسلمين خرج مخرج الغالب؛ لأن محافظة المسلم على كف الأذى عن أخيه المسلم أشد تأكيدا، ولأن الكفار بصدد أن يقاتلوا وإن كان فيهم من يجب الكف عنه، ووقع في رواية ابن حبان: من سلم الناس (من لسانه) أي بالشتم واللعن والغيبة والبهتان والنميمة والسعي إلى السلطان وغير ذلك، (ويده) بالضرب والقتل والهدم والدفع والكتابة بالباطل ونحوها، وخصا بالذكر لأن أكثر الأذى بهما، أو أريد بهما مثلا، وقدم اللسان لأن الإيذاء به أكثر وأسهل، ولأنه أشد نكاية، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لحسان: اهج المشركين فإنه أشق عليه من رشق النبل، ولأنه يعم الأحياء والأموات، وابتلي به الخاص ولعام خصوصا في هذه الأيام، وعبر

(1/152)


به دون القول ليشمل إخراجه استهزاء لغيره، وقيل: خص اليد مع أن الفعل قد يحصل بغيرها لأن سلطنة الأفعال إنما تظهر بها إذ بها البطش والقطع والوصل والمنع والإعطاء والأخذ ونحوه، وقال الزمخشري: لما كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدي غلبت، فقيل في كل عمل "هذا مما عملته أيديهم" وإن لم يكن وقوعه بها، ثم الحد والتعزير وتأديب الأطفال والدفع لنحو الصيال ونحوها فهي استصلاح وطلب السلامة، أو مستثنى شرعا، أو لا يطلق عليه الأذى عرفا. (والمهاجر) هو بمعنى الهاجر وإن كان لفظ المفاعل يقتضي وقوع فعل من اثنين لكنه هنا للواحد كالمسافر بمعنى السافر، والمنازع بمعنى النازع، لأن باب فاعل قد يأتي بمعنى فعل (هجر) أي ترك وهذه الهجرة ضربان: ظاهرة، وباطنة، فالباطنة ترك ما تدعوا إليه النفس الأمارة بالسوء والشيطان، والظاهرة الفرار بالدين من الفتن، وكان المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتكلوا على مجرد تحولهم من دارهم حتى يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيه، ويحتمل أن يكون ذلك بعد انقطاع الهجرة لما فتحت مكة تطييبا لقلوب من لم يدرك ذلك، بل حقيقة الهجرة تحصل لمن هجر ما نهى
ما نهى الله عنه))، وهذا لفظ البخاري، ولمسلم قال: ((إن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي المسلمين خير؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده)).
7- (6) وعن أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/153)


الله عنه، فاشتملت هاتان الجملتان على جوامع من معاني الحكم والأحكام، كذا في الفتح، وفي الحديث بيان شعبتين من شعب الإيمان وهما سلامة المسلمين من لسان المسلم ويده، وهجر ما نهى الله عنه. (هذا لفظ البخاري) وأخرجه أبوداود والنسائي، (ولمسلم) أي في صحيحه عن عبدالله بن عمرو (خير) أي أفضل وأكمل، ورواه البخاري من حديث أبي موسى بلفظ ((قالوا: أي الإسلام أفضل؟ قال: من سلم المسلمون...))الخ، والمراد أي ذوي الإسلام، أو أي أصحاب الإسلام، وفيه بيان للتأويل الذي ذكرناه في قوله ((المسلم)) من أنه محمول على التفضيل، والمراد المسلم الكامل، أو أفضل المسلمين، هذا، وقد ثبت من كون من سلم الناس من أذاه أفضل المسلمين وأخيرهم وأكملهم أن بعض خصال المسلمين المتعلقة بالإسلام أفضل من بعض، وحصل منه القول بقبول الإيمان للزيادة والنقصان، ففيه رد على المرجئة فإنه ليس عندهم إيمان وإسلام ناقص.

(1/154)


7- قوله: (وعن أنس) بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام الأنصاري الخزرجي النجاري، خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نزيل البصرة، خدمه عشر سنين بعد ما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهو ابن عشر سنين، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألفا حديث ومائتا حديث وست وثمانون حديثا، اتفقا على مائة وثمانية وستين حديثا منها، وانفرد البخاري بثلاثة وثمانين، ومسلم بأحد وتسعين، وكان أكثر الصحابة ولدا، قالت أمه: يا رسول الله خويدمك أنس ادع الله له، فقال: اللهم بارك في ماله وولده وأطل عمره واغفر ذنبه، فقال: لقد دفنت من صلبي مائة إلا اثنين، وكان له بستان يحمل في سنة مرتين، وفيه ريحان يجيء منه ريح المسك، وقال لقد بقيت حتى سئمت من الحياة وأنا أرجو الرابعة أي المغفرة، قيل: عمر مائة سنة وزيادة، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة سنة (93هـ)، روى عنه خلق كثير، وكنيته أبوحمزة، وهي اسم بقلة كان يحبها، ومنه حديث أنس: ((كناني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببقلة كنت أجتنيها))، (لا يؤمن) أي لا يكمل إيمان من يدعي الإيمان، فالمراد بالنفي كمال الإيمان ونفي اسم الشيء على معنى نفي الكمال عنه مستفيض في كلامهم كقولهم: فلان ليس بإنسان. (حتى أكون) بالنصب بأن مضمرة، وحتى جارة، ومعنى هذه الغاية أعني حتى أكون ههنا وفي أمثاله هو أنه لا يكمل الإيمان بدون هذه الغاية، لا أن حصول هذه الغاية كافية في كمال الإيمان وإن لم يكن هناك شيء آخر. (أحب) بالنصب لأنه خبر أكون، وهو أفعل التفضيل بمعنى المفعول، وهو على خلاف القياس وإن كان كثيرا، إذ القياس أن يكون بمعنى الفاعل، وقال ابن
من والده وولده والناس أجمعين)) متفق عليه.
8- (7) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/155)


مالك: إنما يشذ بناءه للمفعول إذا خيف اللبس بالفاعل، فإن أمن بأن لم يستعمل للفاعل، أو قرن به ما يشعر بأنه للمفعول لا يشذ...الخ، وفصل بينه وبين معموله "من والده" لأن الممتنع الفصل بأجنبي لا مطلقا، والظرف فيه توسع فلا يمنع. (من والده) المراد به ذات له ولد، أو هو بمعنى ذو ولد نحو لابن وتامر، فيتناول الأب والأم كليهما، أو يقال: اكتفى بذكر أحدهما كما يكتفى عن أحد الضدين بالآخر، ولم يذكر النفس لأنها داخلة في عموم قوله "والناس أجمعين"، أو لم تكن حاجة إلى ذكرها مع ذكر الوالد والولد لأنهما أعز على العاقل من الأهل والمال، بل ربما يكونان أعز من نفس الرجل على الرجل، فذكرهما إنما هو على سبيل التمثيل، فكأنه قال "حتى أكون أحب إليه من جميع أعزته"، ويعلم منه حكم غير الأعزة؛ لأنه يلزم في غيرهم بالطريق الأولى. (وولده) أي الذكر والأنثى (والناس أجمعين) هو من عطف العام على الخاص، وهو كثير كقوله تعالى: ?ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم? [15: 87]، قال الخطابي: لم يرد بالحب حب الطبع، بل أراد به حب الاختيار المسند إلى الإيمان؛ لأن حب الإنسان أهله وماله طبع مركوز فيه، خارج عن حد الاستطاعة، ولا سبيل إلى قلبه، قال: فمعناه لا يصدق في إيمانه حتى يفدي في طاعتي نفسه ويؤثر رضاي على هواه وإن كان فيه هلاكه – انتهى. وحاصله ترجيح جانبه - صلى الله عليه وسلم - في أداء حقه بالتزام طاعته، واتباع طريقته على كل من سواه، قال النووي: المحبة أصلها الميل إلى ما يوافق المحب، ثم الميل قد يكون بما يستلذه بحواسه كحسن الصورة والصوت والطعام وبما يستلذه بعقله كمحبة الفضل والجمال، وقد يكون لإحسانه إليه ودفعه المضار عنه، ولا يخفى أن المعاني الثلاثة كلها موجودة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لما جمع من جمال الظاهر والباطن وكمال أنواع الفضائل، وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايتهم إلى الصراط المستقيم ودوام النعيم،

(1/156)


والإبعاد من الجحيم، ولا شك أن الثلاثة فيه أكمل مما في الوالدين لو كانت فيها فيجب كونه أحب منهما؛ لأن المحبة ثابتة لذلك، حاصلة بحسبها، كاملة بكمالها، ومن محبته وحقه نصرة سنته والذب عن شريعته وقمع مخالفيها وامتثال أوامره وتمني إدراكه في حياته ليبذل نفسه وماله دونه، والحديث صريح في أن محبة الرسول من أمور الإيمان، والناس فيها متفاوتون وهو يستلزم زيادة الإيمان ونقصانه. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والنسائي في الإيمان وابن ماجه في السنة.
8- قوله: (ثلاث) مبتدأ والجملة الشرطية خبر، وجاز مع أنه نكرة لأن التقدير خصال ثلاث، أو ثلاث خصال، أو تنوينه للتعظيم فجاز الابتداء به، ويجوز أن تكون الشرطية صفة له ويكون الخبر من كان (من كن) أي حصلن فيه فهي تامة، أو من كن مجتمعة فيه وهي ناقصة (وجد بهن) أي بسبب وجودهن في نفسه (حلاوة الإيمان) أي حسنه
من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/157)


من حلي فلان في عيني وبعيني بالكسر يحلى بالفتح: إذا حسن وأعجب، أو لذته وطعمه من حلاله الشيء يحلو: أي لذ فهو حلو وهو نقيض المر، والأظهر الثاني على ما لا يخفى، فالمراد بحلاوة الإيمان التلذذ بالطاعات، وتحمل المشاق في رضى الله ورسوله، وإيثار ذلك على عرض الدنيا، وذلك لأن المرء إذا تأمل أن الشارع لا يأمر ولا ينهى إلا بما فيه صلاح عاجل أو خلاص آجل يصير هواه تبعا له فيلتذ بامتثال أوامره، وتحمل المشقة في رضى الله ورسوله، قال الحافظ في الفتح: قوله حلاوة الإيمان استعارة تخييلية، شبه رغبة المؤمن في الإيمان بشيء حلو، وأثبت له لازم ذلك الشيء، وأضافه إليه، وفيه تلميح إلى قصة المريض والصحيح؛ لأن المريض الصفراوي يجد طعم العسل مرا، والصحيح يذوق حلاوته على ما هي عليه، وكلما نقصت الصحة شيئا ما نقص ذوقه بقدر ذلك، فكانت هذه الاستعارة من أوضح ما يقوي استدلال المصنف أي البخاري على الزيادة والنقص – انتهى. وإنما عبر الالتذاذ بالطاعات بالحلاوة لأنها أظهر اللذائذ الحسية، وإن كان لا نسبة بين هذه اللذة واللذات الحسية، وهذه الأمور الثلاثة عنوان لكمال الإيمان المحصل لتلك اللذة التي ربما تغلب على جميع لذات الدنيا، قال البيضاوي: وإنما جعل هذه الأمور الثلاثة عنوانا لكمال الإيمان لأن المرء إذا تأمل أن المنعم بالذات هو الله تعالى، وأن لا مانح ولا مانع في الحقيقة سواه، وأن ما عداه وسائط، وأن الرسول هو الذي يبين له مراد ربه اقتضى ذلك أن يتوجه بكليته نحوه، فلا يحب إلا ما يحب ولا يحب من يحب إلا من أجله، وإن يتيقن أن جملة ما وعدوا وعد حق يقينا ويخيل إليه الموعود كالواقع، فيحسب أن مجالس الذكر رياض الجنة، وأن العود إلى الكفر إلقاء في النار – انتهى ملخصا، قال القاضي عياض: هذا الحديث بمعنى حديث ((ذاق طعم الإيمان من رضي الله ربا...))الخ، وذلك أنه لا تصح محبة الله ورسوله حقيقة وحب الآدمي في الله ورسوله وكراهة

(1/158)


الرجوع في الكفر إلا لمن قوي الإيمان في نفسه، وانشرح له صدره، وخالط لحمه ودمه، هذا هو الذي وجد حلاوته، قال: والحب في الله من ثمرات حب الله (من كان) لا بد من تقدير مضاف قبله؛ لأنه على الوجه الأول إما بدل أو بيان أو خبر لمبتدأ محذوف هو "هي" أو "هن"، أو "إحداها" وعلى الثاني خبر، أي محبة من كان (الله ورسوله) برفعهما (أحب إليه) بالنصب على أنه خبر كان (مما سواهما) من نفس وأهل ومال وكل شيء، ولم يقل ممن سواهما ليعم من يعقل ومن لا يعقل، ومحبة العبد ربه بفعل طاعته وترك مخالفته، وكذلك محبة الرسول، وثنى الضمير في سواهما مع أنه رد على الخطيب قوله ((ومن يعصهما فقد غوى)) فقال: ((بئس الخطيب أنت)) إيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين لا كل واحدة منهما، فإنها وحدها ضائعة لاغية، وأمر بالإفراد في حديث الخطيب إشعارا بأن كل واحد من المعطوفين مستقل باستلزام الغواية، إذ العطف في تقدير التكرير، والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم، وله أجوبة أخرى ذكرها الحافظ في الفتح (ومن أحب) أي
عبدا لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)) متفق عليه.
9- (8) وعن العباس بن عبدالمطلب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/159)


وثانيتها محبة من أحب (لا يحبه) أي لشيء (إلا لله) استثناء مفرغ، والجملة حال من الفاعل أو المفعول أو منهما. (ومن يكره) أي وثالثتها كراهة من كره (أن يعود) أي يصير أو يرجع ويتحول (في الكفر بعد أن أنقذه الله) أي أخلصه: قال الحافظ: الإنقاذ أعم من أن يكون بالعصمة منه ابتداء بأن يولد على الإسلام ويستمر، أو بالإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان كما وقع لكثير من الصحابة، وعلى الأول فيحمل قوله "يعود" على معنى الصيرورة بخلاف الثاني فإن العود فيه على ظاهره – انتهى، و"في" هذا بمعنى "إلى" كما في قوله تعالى: ?أو لتعودن في ملتنا? [7: 88]، أي تصيرن إلى ملتنا (كما يكره) الكاف للتشبيه وما مصدرية، أي مثل كرهه (أن يلقى) في محل النصب؛ لأنه مفعول يكره، وأن مصدرية أي الإلقاء وهو على صيغة المجهول (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه.

(1/160)


9- قوله: (وعن العباس بن عبدالمطلب) أي عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكنيته أبوالفضل، وكان أسن من النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنتين، وقيل بثلاث سنين، وضاع وهو صغير فنذرت أمه إن وجدته أن تكسو البيت الحرير، فوجدته فكست البيت الحرير، فهي أول عربية كست ذلك، وكان إليه في الجاهلية سقاية الحاج وعمارة البيت، والمراد بها أنه كان يحمل قريشا على عمارته بالخير وترك السيئات فيه وقول الهجر، وحضر بيعة العقبة مع الأنصار قبل أن يسلم، وشهد بدرا مع المشركين مكرها، فأسر فافتدى نفسه وابن أخيه عقيل بن أبي طالب ورجع إلى مكة، فيقال: إنه أسلم وكتم قومه ذلك وصار يكتب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأخبار، ثم هاجر قبل الفتح بقليل، وشهد الفتح وثبت يوم حنين، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من آذى العباس فقد آذاني، فإنما عم الرجل صنو أبيه))، أخرجه الترمذي في قصة، قال سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب: كان العباس أعظم الناس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والصحابة يعترفون للعباس فضله ويشاورونه ويأخذون رأيه، وقال مجاهد: أعتق العباس عند موته سبعين مملوكا، وقال ابن عبدالبر: كان رئيسا في الجاهلية، وإليه العمارة والسقاية وأسلم قبل فتح خيبر، وكان أنصر الناس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أبي طالب، وكان جوادا مطعما وصولا للرحم ذا رأي حسن ودعوة مرجوة، وكان لا يمر بعمر وعثمان وهما راكبان إلا نزلا حتى يجوز إجلالا له، وفضائله ومناقبه كثيرة وترجمته مطولة في تاريخ دمشق، مات بالمدينة يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت من رجب، أو رمضان سنة 32هـ، وهو ابن (88) سنة ودفن بالبقيع، روي له خمسة وثلاثون حديثا، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري
ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا)) رواه مسلم.

(1/161)


10- (9) وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله: ((والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بحديث، ومسلم بثلاثة، روى عنه جماعة (ذاق طعم الإيمان) أي حلاوة الإيمان ولذته (من رضي الله بالله ربا) منصوب على التمييز وكذا أخواته، قال صاحب التحرير: معنى رضيت بالشيء: قنعت به، واكتفيت به، ولم أطلب معه غيره، فمعنى الحديث: لم يطلب غير الله تعالى ولم يسع في غير طريق الإسلام ولم يسلك إلا ما يوافق شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا شك في أن من كانت هذه صفته فقد خلصت حلاوة الإيمان إلى قلبه وذاق طعمه، وقال القاضي عياض: معنى الحديث: صح إيمانه واطمأنت به نفسه وخامر باطنه؛ لأن رضاه بالمذكورات دليل لثبوت معرفته ونفاذ بصيرته ومخالطة بشاشته قلبه؛ لأن من رضي أمرا سهل عليه فكذا المؤمن إذا دخل قلبه الإيمان سهل عليه طاعات الله تعالى ولذت له (رواه مسلم) وكذا أحمد (ج1: ص208) والترمذي في الإيمان وصححه.

(1/162)


10- قوله: (لا يسمع بي) هو جواب القسم، والباء زائدة، وقيل: بمعنى من، قال القاري: والأظهر أنها لتأكيد التعدية كما في قوله تعالى: ?ما سمعنا بهذا? [38: 7]، وضمن معنى الإخبار أي ما يسمع مخبرا ببعثي، وحاصل المعنى لا يعلم برسالتي (أحد) أي ممن هو موجود في زمني وبعدي إلى يوم القيامة فكلهم ممن يجب عليه الدخول في طاعته (من هذه الأمة) أي أمة الدعوة وهم الخلق جميعا، ومن تبعيضية، وقيل: بيانية (يهودي ولا نصراني) صفتان لأحد، وحكم المعطلة وعبدة الأوثان يعلم بالطريق الأولى؛ لأن اليهود والنصارى لهم كتاب، فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتابا فغيرهم ممن لا كتاب له أولى، أو بدلان عنه بدل البعض من الكل، وخصا بالذكر لأن كفرهما أقبح لكونهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، قال تعالى: ?يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل? [7: 157] وعلى كل لا زائدة لتأكيد الحكم (ثم يموت) ثم للاستبعاد كما في قوله تعالى: ?ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها? [32: 22]، أي ليس أحد أظلم ممن بينت له آيات الله الظاهرة والباطنة ودلائله القاهرة فعرفها ثم أنكرها أي بعيد عن العاقل، قاله الطيبي (إلا كان) أي في علم الله، أو بمعنى يكون وتعبيره بالمضي لتحقق وقوعه، وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال، قال القاري: "لا" في لا يسمع بمعنى ليس، و"ثم يموت" عطف على يسمع المثبت، و"لم يؤمن" عطف على يموت، أو حال من فاعله وليس لنفي هذا المجموع، وتقديره: ليس أحد يسمع بي ثم يموت ولم يؤمن، أو غير مؤمن كائنا من أصحاب شيء إلا من أصحاب النار – انتهى. وذلك لأن معجزته القرآن المستمر إلى يوم القيامة مع خرقه العادة في
رواه مسلم.
11- (10) وعن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/163)


أسلوبه وأخباره بالمغيبات، وعجز الجن والإنس عن أن يأتوا بسورة مثله يوجب الإيمان برسالته، ويوجب الدخول على الكل في طاعته، فمن لم يؤمن بما أرسل به كان من أصحاب النار. قال النووي: في الحديث نسخ الملل كلها برسالة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وفي مفهومه دلالة على أن من لم يبلغه دعوة الإسلام فهو معذور. (رواه مسلم) هو من إفراد مسلم من بين أصحاب الكتب الستة.
11- قوله: (وعن أبي موسى الأشعري) نسبة إلى الأشعر، أحد أجداده وهو عبدالله بن قيس بن سليم بن حضار الأشعري، مشهور باسمه وكنيته معا، قيل: إنه قدم مكة قبل الهجرة، فأسلم ثم هاجر إلى الحبشة، ثم قدم المدينة مع أصحاب السفينتين بعد فتح خيبر، وقيل: بل رجع إلى بلاد قومه، ولم يهاجر إلى الحبشة، ثم خرج من بلاد قومه في سفينة فألقتهم الريح بأرض الحبشة، فوافقوا بها جعفر بن أبي طالب، فأقاموا عنده ورافقوه إلى المدينة، وهذا قول الأكثر، وهو أصح، واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على بعض اليمن كزبيد وعدن وأعمالهما، واستعمله عمر على البصرة بعد المغيرة فافتتح الأهواز ثم الأصبهان ثم استعمله عثمان على الكوفة، ثم كان أحد الحكمين بصفين، ثم اعتزل الفريقين، وكان حسن الصوت بالقرآن، وفي الصحيح المرفوع: ((لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود))، وقال أبوعثمان النهدي: صليت خلف أبي موسى فما سمعت في الجاهلية صوت صنج ولا بربط ولا نأي أحسن من صوت أبي موسى بالقرآن، وكان عمر إذا رآه قال: ذكرنا يا أباموسى، وفي رواية: شوقنا إلى ربنا، فيقرأ عنده، وكان أبوموسى هو الذي فقه أهل البصرة وأقرأهم، وأخرج البخاري عن الحسن قال: ما أتاها – يعني البصرة – راكب خير لأهلها منه، يعني من أبي موسى، قال الشعبي: كتب عمر في وصيته أن لا يقر لي عامل أكثر من سنة، واقروا الأشعري أربع سنين، ومناقبه كثيرة، له ثلاثمائة وستون حديثا، اتفقا على خمسين، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة وعشرين، روى

(1/164)


عن خلق، مات سنة (50)، وقيل بعد ذلك، وهو ابن (63)، قيل: بالكوفة، وقيل: بمكة. (ثلاثة) مبتدأ تقديره: ثلاثة رجال، أو رجال ثلاثة (لهم أجران) أي لكل واحد أجران يوم القيامة، وهو مبتدأ وخبر، والجملة خبر المبتدأ الأول (رجل) خبر مبتدأ محذوف، تقديره: أولهم أو أحدهم بدل من ثلاثة بدل البعض، بالنظر إلى كل رجل بدل الكل بالنظر إلى المجموع، وقيل: غير ذلك، وحكم المرأة الكتابية حكم الرجل كما هو مطرد في جل الأحكام، حيث يدخلن مع الرجال بالتبعية إلا ما خصه الدليل (من أهل الكتاب) في محل الرفع؛ لأنه صفة لرجل، ولفظ الكتاب عام ومعناه خاص أي المنزل من عند الله، والمراد به التوراة والإنجيل، كما تظاهرت به نصوص الكتاب والسنة، حيث يطلق
آمن بنبيه وآمن بمحمد ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/165)


أهل الكتاب، ويؤيد العموم أي الحمل على أهل التوراة والإنجيل، أعني اليهود والنصارى ما رواه أحمد في مسنده (ج5: ص259) عن أبي أمامة قال: إني لتحت راحلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، فقال قولا حسنا جميلا وقال فيما قال: ((من أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين، وله ما لنا، وعليه ما علينا، ومن أسلم من المشركين فله أجره، وله ما لنا وعليه ما علينا))، وما رواه النسائي في آداب القضاة (ج2: ص265) عن ابن عباس في تأويل قوله عز وجل: ?ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون? [5: 44] من حديث طويل وفيه فقال الله تبارك وتعالى: ?يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته? [57: 28] أجرين بإيمانهم بعيسى وبالتوراة والإنجيل، وبإيمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -...الحديث، ويؤيده أيضا أن الحديث مستفاد من قوله تعالى: ?أولئك يؤتون أجرهم مرتين? [28: 53]، وأنه نزل في عبدالله بن سلام وأشباهه، كما رواه الطبراني من حديث رفاعة القرظي، والطبري عن علي بن رفاعة القرظي وغيره أنها نزلت في رفاعة القرظي، وعبدالله بن سلام، وسلمان وغيرهم من أهل الكتاب الذين كانوا بالمدينة، وأما ما ورد في البخاري (ج1: ص490) في كتاب الأنبياء، وإذا آمن بعيسى ثم آمن بي بدل قوله "من أهل الكتاب" وهو يدل على أن المراد في حديث الباب أهل الإنجيل أي النصارى فقط، فهو محمول على اقتصار الراوي واختصاره، والأصل كما ذكره آخرون، فإن قيل: حمل الكتاب على العموم حتى يشمل اليهود صعب جدا؛ لأنهم كفروا بعيسى – عليه السلام – فحبط إيمانهم بموسى، ثم إنهم لما آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - لم يبق لهم إلا عمل واحد، وهو الإيمان بنبينا - صلى الله عليه وسلم - فلا يستحقون عليه إلا أجرا واحدا، قلنا: من دخل في اليهودية من غير بني إسرائيل ولم يكن بحضرة عيسى عليه السلام فلم تبلغه دعوته، يصدق عليه أنه يهودي مؤمن، إذ

(1/166)


هو مؤمن بنبيه موسى عليه السلام، ولم يكذب نبينا آخر بعده، فمن أدرك بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - ممن كان بهذه المثابة وآمن به لا يشكل أنه يدخل في حديث أبي موسى، ومن هؤلاء عرب نحو اليمن متهودون ولم تبلغهم دعوة عيسى لكونه أرسل إلى بني إسرائيل خاصة إجماعا دون غيرهم، وكذا يدخل في قوله "أهل الكتاب" يهود المدينة الذين كانوا بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما دخلوا في قوله تعالى: ?أولئك يؤتون أجرهم مرتين? لأنه لم تبلغهم دعوة عيسى عليه السلام؛ لكونها لم تنتشر في أكثر العباد فاستمروا على يهوديتهم مؤمنين بنبيهم موسى عليه السلام إلى أن جاء الإسلام فآمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: الظاهر أنه بلغ عبدالله بن سلام وأصحابه ممن أسلموا من يهود المدينة خبر عيسى عليه السلام كسائر الأخبار تحمل من بلد إلى بلد من غير أن يبلغ إليه الدعوة إلى شريعته بخصوصها، فآمنوا به وصدقوه، فحاشا مثل ابن سلام وأضرابه مع سعة علومهم، وكمال عقولهم، وسلامة فطرتهم، أن يبلغ إليهم خبر عيسى ثم يكذبوه، فلا نسيء الظن بهم، وإذا كان الأمر كذلك فقد كفاهم تصديقهم به إجمالا لاستحقاق أجر إيمانهم عن عهدة التزام شريعته؛ لأنه لم تبلغهم الدعوة إلى شريعته بخصوصها
والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة يطأها فأدبها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/167)


فلم يكن عليهم إلا التصديق مجملا، وحينئذ بقاءهم على اليهودية لا يمنع من إحراز الأجر، ثم لما آمنوا بنبينا - صلى الله عليه وسلم - حصل لهم الأجر مرتين، نعم يخرج من الحديث يهود الشام من بني إسرائيل الذين بعث فيهم عيسى ودعاهم إلى شريعته، فكذبوه وكفروا به، فلا يحصل لهم بالإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أجر واحد، وقال الطيبي: يحتمل إجراء الحديث على عمومه، إذ لا يبعد أن يكون طريان الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - سببا لثوابه على الإيمان السابق وسببا لقبول تلك الأعمال والأديان، وإن كانت منسوخة كما ورد في الحديث ((إن مبرات الكفار وحسناتهم مقبولة بعد إسلامهم)) – انتهى. واعلم أنه قال بعضهم: إن الكتابي الذي يضاعف أجره مرتين هو الذي بقي على ما بعث به نبيه من غير تبديل وتحريف، فمن كان على الحق في شرعه عقدا وفعلا إلى أن آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فله الأجر مرتين، ومن بدل منهم أو حرف لم يبق له أجر في دينه، فليس له أجر إلا بإيمانه بنبينا - صلى الله عليه وسلم -. قلت: هذا خلاف نص الحديث؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك في أهل زمانه من اليهود والنصارى، وحالهم في التحريف والتبديل معلوم، وقال الحافظ: ويشكل عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى هرقل: ((أسلم يؤتك الله أجرك مرتين))، وهرقل ممن دخل النصرانية بعد التبديل، ثم إن الكرماني قال: هذا مختص بمن آمن من أهل الكتاب في عهد البعثة، فلا يشمل من آمن منهم في زماننا، وعلل ذلك بأن نبيهم بعد البعثة إنما هو محمد - صلى الله عليه وسلم - باعتبار عموم بعثته، قال الحافظ: وقضيته أن ذلك أيضا لا يتم لمن كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن خصه بمن لم تبلغه الدعوة فلا فرق في ذلك بين عهده وبعده، فما قاله شيخنا أظهر، أراد به ما قاله من أن هذه الثلاثة المذكورة في الحديث مستمرة إلى يوم القيامة، وتعقبهما العيني بما يطول

(1/168)


الكلام بذكره، ثم إنه مخصوص بما عدا أكابر الصحابة بالإجماع، فيدخل في هذا الحكم كل صحابي لا يدل دليل على زيادة أجره على من كان كتابيا، والله أعلم. (والعبد المملوك) وصف به لأن جميع الناس عباد الله، فأراد تمييزه بكونه مملوكا للناس (إذا أدى حق الله) مثل الصلاة والصوم ونحوهما (وحق مواليه) من خدمتهم الجائزة جهده وطاقته، وجمع الموالي لأن المراد بالعبد جنس العبيد، حتى يكون عند التوزيع لكل عبد مولى؛ لأن مقابلة الجمع بالجمع أو ما يقوم مقامه مفيدة للتوزيع، أو أراد أن استحقاق الأجرين إنما هو عند أداء حق جميع مواليه لو كان مشتركا بين طائفة مملوكا لهم، لا يقال: إنه يلزم أن يكون أجر المماليك ضعف أجر السادات؛ لأنه قد يكون للسيد جهات أخر يستحق بها أضعاف أجر العبد، أو المراد ترجيع العبد المؤدي للحقين على العبد المؤدي لأحدهما (كانت عنده أمة) في محل الرفع؛ لأنها صفة رجل، وارتفاع أمة لكونها اسم كانت (يطأها) أي يحل وطؤها سواء صارت موطوءة أو لا، وهو في محل الرفع؛ لأنه صفة لأمة (فأدبها) بأن راضها بحسن الأخلاق وحملها على جميل الخصال من الأدب، وهو حسن الأحوال والأخلاق، فالتأديب
فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها فله أجران ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/169)


يتعلق بالمروءات والأمور الدنيوية، وهو عطف على يطأها (فأحسن تأديبها) أن استعمل معها الرفق واللطف واجتنب العنف والضرب، وبذل الجهد في إصلاحها (وعلمها) ما لا بد من أحكام الشريعة لها (فأحسن تعليمها) بتقديم الأهم فالأهم (ثم أعتقها) بعد ذلك كله، عطفه بثم خلا الجميع فإنه عطفه بالفاء، قال العيني: لأن التأديب والتعليم يتعقبان على الوطأ، بل لابد ههنا من نفس الوطأ، بل قبله أيضا لوجوبهما على السيد بعد التملك بخلاف الإعتاق، أو لأن الإعتاق نقل من صنف من أصناف الأناسي إلى صنف آخر منها، ولا يخفى ما بين الصنفين المنتقل منه والمنتقل إليه من البعد من الضدية في الأحكام، والمنافاة في الأحوال، فناسب لفظ دال على التراخي بخلاف التأديب – انتهى. (فله) أي فللرجل الأخير (أجران) أجر على إعتاقه وأجر على تزوجه، فالأجران على هذين العملين على الإعتاق؛ لأنه عبادة بنفسها، وعلى النكاح لأن التزوج بعد العتق عبادة أخرى، وفائدة ذكر التأديب والتعليم أنها أكمل للأجر إذ تزوج المرأة المؤدبة المعلمة أكثر بركة وأقرب أن تعين زوجها على دينه، ولم يقتصر على قوله أولا فلهم أجران، مع كونه داخلا في الثلاثة بحكم العطف؛ لأن الجهة كانت فيه متعددة، هي التأديب والتعليم والعتق والتزوج، وكانت مظنة أن يستحق الأجر أكثر من ذلك، فأعاد قوله "فله أجران" إشارة إلى أن المعتبر من الجهات أمران: وهو الإعتاق والتزوج، ولذا ذكر عقبهما قوله "فله أجران"، بخلاف التأديب والتعليم، فإنهما موجبان للأجر في الأجنبي والأولاد وجميع الناس، فلا يكون مختصا بالإماء، فلم يبق الاعتبار إلا في الجهتين: العتق والتزويج؛ لأنه يصير محسنا إليها إحسانا أعظم بعد إحسان أعظم بالعتق؛ لأن الأول فيه تخليص من الرق وأسره، والثاني فيه الترقي إلى إلحاق المقهور بقاهره، وقيل: في بيان تكرير الحكم غير ذلك، ويجوز أن يعود الضمير في "فله" إلى كل واحد من الثلاثة، فيكون التكرير

(1/170)


للتأكيد أو لطول الكلام، فيكون كالفذلكة ويمكن أن يكون من باب اختصار الراوي أو نسيانه، قلت: هذان الأخيران هو الظاهر؛ لأن الحديث أخرجه البخاري في العلم، وفي العتق، وفي الجهاد، وفي الأنبياء، وفي النكاح، ومسلم في الإيمان مطولا، وفي النكاح مختصرا، والنسائي مطولا ومختصرا، والترمذي وابن ماجه الثلاثة في النكاح، وعند الجميع كرر الحكم في الأمور الثلاثة، ما خلا البخاري في العلم، والنسائي في النكاح، واعلم أنه لا مفهوم للعدد المذكور في حديث أبي موسى، فالمراد هذه الأشياء وأمثالها، وليس المقصود بذكرها نفي ما عداها، فإن التنصيص باسم الشيء لا يدل على نفي الحكم عما عداه، وهو مذهب الجمهور، وهذا لأن عدد الذين يؤتون أجرهم مرتين بلغ بالتتبع إلى عشرين، بل يحصل بمزيد التتبع أكثر من ذلك، وقد ذكر بعضها العزيزي في السراج المنير (ج1: ص189)، والحافظ في الفتح في شرح باب اتخاذ السراري (ج11: ص38)، والعلقمى والسيوطي، وقال بعضهم: الظاهر أن المراد بالحديث لهم أجران على كل عمل لا أن لهم أجرين على العملين، إذ ثبوت أجرين على
متفق عليه.
12- (11) وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/171)


عملين لا يختص بأحد دون أحد، نعم يمكن لهؤلاء أن يكون لهم أجران على كل عمل من جميع أعمالهم، والله تعالى أعلم. وقيل: في وجه التخصيص لهؤلاء الثلاثة أن في هذه الخصال الثلاثة أشكالا لا يتعقل حصول الأجرين فيها لما قد يتوهم في العبد أنه مملوك لمولاه، فلعله لا يستحق الأجر والثواب في خدمته؛ لأنه يؤدي بخدمته ما لزمه من حق مولاه، وكذلك تزوجها لغرض نفسه وفائدته، فلا يحصل له فيه الأجر أيضا، وكذلك قد يخطر في البال أن مؤمن أهل الكتاب لابد أن يكون مؤمنا بنبينا - صلى الله عليه وسلم - لما أخذ الله عليهم العهد والميثاق، فإذا بعث فإيمانه مستمر، فكيف يتعدد إيمانه حتى يتعدد أجره؟ وأيضا يتبادر إلى بعض الأذهان أن الإيمان عمل واحد، فإن أصل جميع الأديان السماوية واحد لا فرق إلا في الفروع، فاعتبار الإيمان بعيسى أو بموسى أولا، ثم اعتبار الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ثانيا وعدهما شيئين ربما يستبعد، فنبه في الحديث أن الإيمان التفصيلي بعد بعثة محمد بأنه هو الموصوف والمنعوت في الكتابين مغاير للإيمان الإجمالي بأن الموصوف بكذا هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فثبت التعدد وصرح بأن الإيمان وإن كان عملا واحدا إجمالا لكنه لما تعلق بعيسى أو بموسى بخصوصه تفصيلا، ولا شك أنه عمل ثم تعلق بمحمد كذلك صار متعددا، أو صار عملين وحصل إيمانان بالنظر إلى التفصيل، وفي وجه التخصيص بهؤلاء الثلاثة أقوال أخر، وأورد المصنف هذا الحديث في الإيمان؛ لأنه يدل على فضل من آمن من أهل الكتاب بنبينا - صلى الله عليه وسلم - وأن له ضعف أجر من لم يكن كتابيا، فإيمانه بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من هذه الجهة أفضل من إيمان غيره، والله أعلم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في العلم والعتق والجهاد والأنبياء والنكاح، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضا الترمذي والنسائي وابن ماجه في النكاح.

(1/172)


12- قوله: (أمرت) على صيغة المجهول أي أمرني الله؛ لأنه لا آمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا الله (أن أقاتل) أي بأن أقاتل، وحذف الجار من أن كثير سائغ مطرد، وأن مصدرية تقديره: مقاتلة الناس (حتى يشهدوا) أي يقروا ويذعنوا (أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله) جعلت غاية المقاتلة وجود ما ذكر فمقتضاه أن من شهد وأقام وآتى عصم دمه ولو جحد باقي الأحكام، لكنه ليس كذلك، والجواب أن الشهادة بالرسالة تتضمن التصديق بجميع ما جاء به مع أن نص الحديث وهو قوله "إلا بحق الإسلام" يدخل فيه جميع ذلك، فكأنه أراد الخمسة التي بني الإسلام عليها، فإن قيل: فلم لم يكتف به ونص على الصلاة والزكاة؟ أجيب بأن ذلك لعظمهما والاهتمام بأمرهما؛ لأنهما أم العبادات البدنية والمالية وأساسهما والعنوان لغيرهما، قلت: والذي يتبين ويظهر من ألفاظ أحاديث الباب أن كلمتي الشهادتين بمجردهما تعصم من أتى بهما ويصير بذلك مسلما، فإذا دخل في الإسلام فإن أقام الصلاة وآتى الزكاة وقام بشرائع
ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/173)


الإسلام فله ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، وإن أخل بشيء من هذه الأركان فإن كانوا جماعة لهم منعة قوتلوا، وقد ظن بعضهم أن معنى الحديث أن الكافر يقاتل حتى يأتي بالشهادتين ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، وجعلوا ذلك حجة على خطاب الكفار بالفروع، وفي هذا نظر، وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتال الكفار تدل على خلاف ذلك (ويقيموا الصلاة) أي يداوموا على الإتيان بشروطها، والمراد بالصلاة المفروضة منها لا جنسها، واستدل بالحديث على مذهب الشافعي ومالك أن تارك الصلاة عمدا يقتل حدا، ومذهب أحمد أن تاركها يقتل كفرا وردة، وفي هذا الاستدلال نظر للفرق بين أقاتل وأقتل، فالكلام في المقاتلة لا في القتل، ومقاتلة الإمام لتاركي الصلاة إلى أن يأتوا بها محل وفاق، مع أنه منقوض بترك الزكاة فإنه لم يقل بقتل تاركها. وقد أطنب ابن دقيق العيد في شرح العمدة في الإنكار على من استدل بهذا الحديث على جواز قتل تارك الصلاة، قال: ولا يلزم من إباحة المقاتلة إباحة القتل...الخ. (ويؤتوا الزكاة) فيه دليل لقتال مانعي الزكاة، ولا نزاع فيه، ومن ثم قاتلهم الصديق، وأجمع عليه الصحابة، ولم ينقل أنه قتل أحدا منهم صبرا، قلت: وكذا لا نزاع في من ترك سائر أركان الإسلام أن يقاتلوا عليها كما يقاتلوا على ترك الصلاة والزكاة. (فإذا فعلوا ذلك) أي المذكور من الشهادة والصلاة والزكاة، ويسمى القول فعلا؛ لأنه فعل اللسان أو تغليبا (عصموا) بفتح الصاد أي منعوا وحفظوا (مني) أي من أتباعي أو من قبلي وجهة ديني (دماءهم وأموالهم) استباحتهم بالسيف والنهب (إلا بحق الإسلام) الإضافة لامية، ويجوز أن تكون بمعنى "في" وبمعنى "من" على ما لا يخفى، والاستثناء مفرغ، والمستثنى منه أعم عام الجار والمجرور، والعصمة متضمنة لمعنى النفي حتى يصح تفريغ الاستثناء، إذ هو شرط أي إذا فعلوا ذلك لا يجوز إهدار دمائهم واستباحة أموالهم بسبب من الأسباب إلا بحق الإسلام من

(1/174)


نحو قصاص أو حد أو غرامة متلف ونحو ذلك (وحسابهم) فيما يسرون من الكفر والمعاصي بعد ذلك (على الله) أي كالواجب على الله في تحقق الوقوع، وكان الأصل فيه أن يقال: وحسابهم لله، أو إلى الله، والمعنى أن أمور سرائرهم إلى الله، وأما نحن فنحكم بالظاهر، فنعاملهم في الدنيا بمقتضى ظاهر أقوالهم وأفعالهم، ففيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما يقتضيه الظاهر، ومقتضى الحديث قتال كل من امتنع من التوحيد، فيدخل فيه أهل الكتاب الملتزمون لأداء الجزية وكذا المعاهد، والجواب من أوجه، منها دعوى النسخ بأن يكون الإذن بأخذ الجزية، والمعاهدة متأخرا عن هذه الأحاديث، بدليل أنه متأخر عن قوله ?اقتلوا المشركين? [9: 5]، ومنها أن يكون من العام الذي أريد به الخاص، فيكون المراد بالناس في قوله "أقاتل الناس" أي المشركين من غير أهل الكتاب، ويدل عليه رواية النسائي بلفظ "أمرت أن أقاتل المشركين"، فإن قيل: إذا تم هذا في أهل الجزية لم يتم
متفق عليه، إلا أن مسلما لم يذكر ((إلا بحق الإسلام)).
13- (12) وعن أنس أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/175)


في المعاهدين ولا في منع الجزية، أجيب بأن الممتنع في ترك المقاتلة رفعها لا تأخيرها مدة كما في الهدنة، ومقاتلة من امتنع من أداء الجزية بدليل الآية، ومنها أن يقال: الغرض من ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام وسبب السبب سبب، فكأنه قال: حتى يسلموا أو يلتزموا ما يؤديهم إلى الإسلام، قال الحافظ: وهذا أحسن، وفي الحديث رد على المرجئة في قولهم: إن الإيمان غير مفتقر إلى الأعمال، وفيه تنبيه على أن الأعمال من الإيمان، والحديث موافق لقوله تعالى: ?فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم? [9: 5]. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الإيمان والصلاة، ومسلم في الإيمان، (إلا أن مسلما لم يذكر إلا بحق الإسلام) لكنه مراد، والحديث أخرجه أيضا الشيخان من حديث أبي هريرة والبخاري من حديث أنس ومسلم من حديث جابر.

(1/176)


13- قوله: (من صلى صلاتنا) منصوب بنزع الخافض، وهو في نفس الأمر صفة لمصدر محذوف، أي من صلى صلاة كصلاتنا، ولا يوجد إلا من معترف بالتوحيد والنبوة، ومن اعترف بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد اعترف بجميع ما جاء به عن الله تعالى، فلهذا جعل الصلاة علما لإسلامه، ولم يذكر الشهادتين لأنهما داخلتان في الصلاة (واستقبل قبلتنا) إنما ذكره والصلاة متضمنة له مشروطة به؛ لأن القبلة أعرف من الصلاة، فإن كل أحد يعرف قبلته، وإن كان لا يعرف صلاته، ولأن من أعمال صلاتنا ما هو يوجد في صلاة غيرنا كالقيام والقراءة، واستقبال قبلتنا مخصوص بنا، ثم لما ذكر من العبادات ما يميز المسلم من غيره أعقبه بذكر ما يميزه عادة وعبادة (وأكل ذبيحتنا) فإن التوقف عن أكل الذبائح كما هو من العادات، فكذلك هو من العبادات الثابتة في كل ملة، كذا في شرح الطيبي، والذبيحة: فعيلة بمعنى مفعولة، والتاء للجنس كما في الشاة، وقيل في تخصيص هذه الثلاثة من بين سائر الأركان وواجبات الدين أنها أظهرها وأعظمها وأسرعها علما بها إذ في اليوم الأول عن الملاقاة مع الشخص يعلم صلاته وطعامه غالبا، بخلاف نحو الصوم فإنه لا يظهر الامتياز بيننا وبينهم به، ونحو الحج فإنه قد يتأخر إلى شهور وسنين وقد لا يجب عليه أصلا (فذلك) أي من جمع هذه الأوصاف الثلاثة، وهو جواب الشرط وذلك مبتدأ وخبره (المسلم) أو هو صفة وخبره (الذي له ذمة الله وذمة رسوله) أي أمانهما وعهدهما وضمانهما من وبال الكفار وما شرع لهم من القتل والقتال وغيرهما، أي يرتفع عنه هذا (فلا تخفروا الله في ذمته) بضم التاء من الإخفار، والهمزة فيه للسلب، أي لسلب الفاعل عن المفعول أصل الفعل نحو أشكيته أي أزلت شكايته، وكذلك أخفرته أي أزلت خفارته، ويقال أخفره: إذا نقض عهده وغدر به، أي لا تخونوا الله في عهده ولا تتعرضوا في حقه من ماله ودمه وعرضه، أو الضمير للمسلم أي فلا تنقضوا عهد الله بحذف المضاف وإقامة

(1/177)


المضاف إليه مقامه، في ذمته أي مادام هو في أمانه، وقال التوربشتي:
رواه البخاري.
14- (13) وعن أبي هريرة قال: أتى أعرابي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال: ((تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المعنى أن الذي يظهر عن نفسه شعار أهل الإسلام والتدين بدينهم، فهو في أمان الله لا يستباح منه ما حرم من المسلم، فلا تنقضوا عهد الله فيه – انتهى، وإنما اكتفى في النهي بذمة الله وحده ولم يذكر الرسول كما ذكر أولا لأنه ذكر الأصل لحصول المقصود به ولاستلزامه عدم إخفاره ذمة الرسول، وأما ذكره أولا فللتأكيد وتحقيق عصمته مطلقا، وفي الحديث دليل كالذي قبله على أن أمور الناس محمولة على الظاهر دون باطنها، فمن أظهر شعار الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك، وفيه أنه لابد للمؤمن من الأعمال خلافا للمرجئة. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا النسائي في الإيمان.

(1/178)


14- قوله: (أتى أعرابي) أي بدوي منسوب إلى الأعراب، وهم سكان البادية، قال بعضهم: الأعرابي السائل في حديث أبي هريرة هذا هو ابن المنتفق على ما رواه البغوي وابن السكن والطبراني في الكبير وأبومسلم الكجي في السنن، وزعم الصيرفي أن اسم ابن المنتفق هذا لقيط بن صبرة، وافد بني المنتفق، قلت: في قول هذا البعض عندي نظر، فإن قصة سؤال ابن المنتفق شبيهة بسياق حديث أبي أيوب عند مسلم دون سياق حديث أبي هريرة كما لا يخفى على من له اطلاع على الروايات، وقال العيني: هو سعد بن الأخرم، وفيه أيضا نظر. (دلني) بضم الدال وفتح اللام المشددة (على عمل) صفة أنه (إذا عملته دخلت الجنة) دخولا أوليا (قال: تعبد الله) مرفوع المحل بالخبرية لمبتدأ محذوف، أي هو يعني العمل الذي إذا عملته دخلت الجنة هو عبادة الله، قال النووي: العبادة هي الطاعة مع خضوع، فيحتمل أن يكون المراد بالعبادة هنا معرفة الله تعالى، والإقرار بوحدانيته، وهو شامل للنبوة لأنه لا يعتبر بدونها، فذكره مغن عن ذكرها، قال: فعلى هذا يكون عطف الصلاة والزكاة والصوم عليها لإدخالها في الإسلام، فإنها لم تكن دخلت في العبادة، وعلى هذا إنما اقتصر على هذه الثلاث لكونها من أركان الإسلام وأظهر شعائره، والباقي ملحق بها، ويحتمل أن يكون المراد بالعبارة الطاعة مطلقا، فيدخل جميع وظائف الإسلام فيها فعلى هذا يكون عطف الصلاة وغيرها من باب ذكر الخاص بعد العام، تنبيها على شرفه ومرتبته، وأما قوله: (لا تشرك به شيئا) فإنما ذكره بعد العبادة لأن الكفار يعبدونه سبحانه في الصورة ويعبدون معه أوثانا يزعمون أنها شركاء، فنفى هذا (الصلاة المكتوبة) أي المفروضة (الزكاة المفروضة) فرق بن القيدين للتفنن، أي كراهية لتكرير اللفظ الواحد، وقيل: عبر في الزكاة بالمفروضة للاحتراز عن صدقة التطوع، فإنها زكاة لغوية، وقيل: احترز من الزكاة المعجلة قبل الحول ،

(1/179)


وتصوم رمضان، قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فلما ولى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا)) متفق عليه.
15- (14) وعن سفيان بن عبدالله الثقفي قال: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، وفي رواية: غيرك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإنها زكاة وليست مفروضة (وتصوم رمضان) ولا يكون إلا مفروضا، ولذا لم يقيده (لا أزيد على هذا) أي ما ذكر (شيئا) من عند نفسي (ولا أنقص منه) برأيي، ولما كانت العبادة شاملة لفعل الواجبات وترك المنكرات صح إثبات النجاة له بمجرد ذلك (من سره...)الخ، الظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - علم أنه يوفي ما التزم، وأنه يدوم على ذلك ويدخل الجنة، ولم يخبر السائل بالتطوع في هذا الحديث، وكذا في حديث طلحة الآتي في قصة الأعرابي وغيرهما، بل أقره على الحلف بترك التطوعات في حديث طلحة؛ لأن أصحاب هذه القصص كانوا حديثي عهد بالإسلام، فاكتفى منهم بفعل ما وجب عليهم لئلا يثقل ذلك عليهم فيملوا، حتى إذا انشرحت صدورهم للفهم عنه والحرص على تحصيل ثواب المندوبات سهلت عليهم، وقيل: لئلا يعتقدوا أن التطوعات واجبة، واعلم أنه لم يأت ذكر الحج في هذا الحديث، وكذا لم يذكر في بعض هذه الأحاديث الصوم، ولم يذكر في بعضها الزكاة، وذكر في بعضها صلة الرحم، وفي بعضها ذكر الإيمان فتفاوت هذه الأحاديث في عدد خصال الإيمان زيادة ونقصانا وإثباتا وحذفا، وأجاب القاضي عياض وغيره بما ملخصه: أن سبب ذلك تفاوت الرواة في الحفظ والضبط، فالاقتصار على بعض الخصال إنما لقصور حفظ الراوي عن تمامه، وليس هذا باختلاف صادر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد استحسن النووي هذا الجواب، وقال العيني بعد ذكره: والأحسن أن يقال: إن رواة هذه الأحاديث متعددة، وكل ما روى واحد منهم بزيادة على ما رواه غيره أو بنقص لم يكن بتقصير

(1/180)


الراوي وإنما وقع ذلك بحسب اختلاف الموقع واختلاف الزمان – انتهى. وفي الحديث دليل على أنه لابد من أعمال الجوارح في الإيمان خلافا للمرجئة.
15- قوله: (وعن سفيان بن عبدالله) بن ربيعة بن الحارث الثقفي الطائفي، يكنى أباعمرو، وقيل: أباعمرة، أسلم مع وفد ثقيف، واستعمله عمر على صدقات الطائف، روى عنه أولاده عاصم وعبدالله وعلقمة وعمرو وأبوالحكم وغيرهم، قال ابن عبدالبر: هو معدود في أهل الطائف، له صحبة وسماع ورواية، كان عاملا لعمر بن الخطاب على الطائف، ولاه عليها إذ عزل عثمان بن أبي العاص عنها، ونقل عثمان حينئذ إلى البحرين – انتهى. قال الخزرجي: انفرد له مسلم بحديث، وقال القاري: مروياته خمسة أحاديث – انتهى. (الثقفي) بفتحتين نسبة إلى قبيلة ثقيف. (قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك) أي بعد سؤالك، طلب منه - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمه كلاما جامعا لأمر الإسلام كافيا حتى لا يحتاج بعده إلى غيره (وفي رواية غيرك) أي لا أسأل عنه أحدا غيرك، والأول مستلزم
قال: قل: آمنت بالله، ثم استقم))، رواه مسلم.
16- (15) وعن طلحة بن عبيدالله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/181)


لهذا؛ لأنه إذا لم يسأل أحدا بعد سؤاله لم يسأل غيره، وبهذا يظهر وجه أولوية الأول يجعله أصلا والثاني رواية خلافا لما فعل النووي في أربعينه، قاله القاري، (قل آمنت بالله) أي جدد إيمانك بالله ذكرا بقلبك ونطقا بلسانك وعملا بمقتضاه بجوارحك، وفي رواية ((قل ربي الله)) أي وحد ربك، وأراد به التوحيد الكامل الذي يحرم صاحبه على النار، هو تحقيق معنى لا إله إلا الله، فإن الإله هو المعبود الذي يطاع فلا يعصى خشية وإجلالا ومهابة ومحبة ورجاء وتوكلا ودعاء، والمعاصي كلها قادحة في هذا التوحيد؛ لأنها إجابة لداعي الهوى، وهو الشيطان، وعلى رواية الكتاب المعنى أظهر، فإن الإيمان يدخل فيه الأعمال الصالحة عند السلف ومن تابعهم من أهل الحديث (ثم استقم) الاستقامة: هي سلوك الطريق المستقيم، وهو الدين القويم من غير تعويج عنه يمنه ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك، فصارت هذه الوصية جامعة لخصال الدين كلها، فالحديث من جوامع الكلم الشامل لأصول الإسلام: التوحيد والطاعة، وهو مطابق لقوله تعالى: ?إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا? [41: 30] أي لم يحيدوا عن التوحيد، والتزموا طاعته سبحانه إلى أن توفوا على ذلك، وهو معنى الحديث، ولا يخفى مناسبة الحديث لكتاب الإيمان، فإن يدل على وجوب امتثال الطاعات والانتهاء عن المعاصي، ففيه رد على المرجئة (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه والحاكم وابن حبان في صحيحه.

(1/182)


16- قوله: (وعن طلحة بن عبيدالله) بن عثمان التيمي القرشي المدني، يكنى أبامحمد، يجتمع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأب السابع كأبي بكر، أحد العشرة وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، والخمسة الذين أسلموا على يد الصديق، والستة أصحاب الشورى الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض، شهد المشاهد كلها غير بدر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه مع سعيد بن زيد يتعرفان خبر العير التي كانت لقريش مع أبي سفيان، ثم رجعا إلى المدينة فقدماها يوم وقعة بدر، وقد ضرب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسهمه، وآجره فيها وأبلى يوم أحد بلاء شديدا، ووقى النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده فشلت، وجرح يومئذ أربعة وعشرين جراحة، وقيل خمسا وسبعين جراحة بين طعنة وضربة ورمية، وكان أبوبكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك يوم كله لطلحة، وروى من وجوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: طلحة ممن قضى نحبه، وروي أيضا أنه نظر إليه فقال: من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - ((طلحة خير))، و(( طلحة الفياض)) و((طلحة الجواد))، له ثمانية وثلاثون حديثا، اتفقا منها على حديث، وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بثلاثة، وقال القسطلاني: له في البخاري أربعة أحاديث، استشهد يوم الجمل، أتاه سهم غرب لا يدرى من رماه واتهم به مروان، لعشر خلون من جمادى الأولى سنة (36) عن (64) سنة، وقيل (63)، وقيل غير ذلك، ودفن بالبصرة، وقال ابن قتيبة: دفن بقنطرة قرة ثم رأته بنته بعد ثلاثين سنة في المنام أنه يشكر إليها النداوة، فأمرت
قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول: حتى دنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خمس صلوات

(1/183)


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فاستخرج طريا، ودفن بدار البحرتين بالبصرة، روى له جماعة، وقال ابن عبدالبر: لا يختلف العلماء في أن مروان قتل طلحة يوم الجمل، قال الخزرجي: خلف طلحة ثلاثين ألف ألف درهم، ومن العين ألفي ألف ومائتي ألف دينار. (جاء رجل) قيل: هو ضمام بن ثعلبة وافد بني سعد بني بكر، وفيه نظر، والتفصيل في الفتح (ج1: ص56) وفي مقدمته، (من أهل نجد) صفة رجل، ونجد من بلاد العرب خلاف الغور، والغور: هو تهامة، وكل ما ارتفع من تهامة أي مكة إلى أرض العراق فهو نجد، وهو في الأصل ما ارتفع من الأرض (ثائر الرأس) أي منتفش شعر الرأس ومنتشره من عدم الارتفاق والرفاهة، ففيه إشارة إلى قرب عهده بالوفادة، من ثار الغبار: إذا ارتفع وانتشر، أطلق اسم الرأس على الشعر مجازا تسمية للحال باسم المحل، أو مبالغة بجعل الرأس كأنه المنتشر، أو يكون هو من باب حذف المضاف بقرينة عقلية، وهو مرفوع على أنه صفة، وقيل: إنه منصوب على الحالية من رجل لوصفه بقوله من أهل نجد، والإضافة في ثائر الرأس لفظية فلا تفيد إلا تخفيفا، ويجوز وقوع صاحب الحال نكرة إذا اتصف بشيء كما في المبتدأ أو أضيف أو وقع بعد نفي (نسمع) بصيغة المتكلم المعلوم على الصحيح (دوي صوته) بالنصب على أنه مفعوله، وفي بعض النسخ يسمع بالياء مجهولا ورفع دوي على النيابة عن الفاعل، وكذا الوجهان في قوله ((لا نفقه)) بالنون والياء، قال العيني: رواية النون فيهما هي المشهورة، وعليها الاعتماد، والدوي: بفتح الدال وكسر الواو وتشديد الياء، قال الخطابي: الدوي: صوت مرتفع متكرر لا يفهم، وإنما كان كذلك لأنه نادى من بعد، ويقال: الدوي شدة الصوت وبعده في الهواء وعلوه، والمعنى نسمع شدة صوته وبعده في الهواء فلا يفهم منه شيء كدوي النحل والذباب (ما يقول) في محل النصب على أنه مفعول، أو في الرفع على النيابة والمعنى نسمع كلامه ولا نفهمه لبعده (حتى) للغاية بمعنى

(1/184)


إلى أن (دنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ففهمنا كلامه (فإذا) للمفاجأة (هو) أي الرجل (يسأل عن الإسلام) أي عن شرائعه وفرائضه، يدل عليه ما زاد البخاري في آخر حديث طلحة هذا في كتاب الصيام، فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرائع الإسلام، ويحتمل أنه سأل عن حقيقة الإسلام، وإنما لم يذكر له الشهادة لأنه علم أنه يعلمها، أو علم أنه يسأل عن الشرائع الفعلية، أو ذكر الشهادة له ولم يسمعها طلحة منه لبعد موضعه، أو نسيها أو اختصرها لشهرتها، ولم يذكر الحج؛ لأن الراوي اختصره، ويؤيده ما ذكرنا من الزيادة في آخر هذا الحديث، فقد دخل فيه باقي المفروضات بل والمندوبات (خمس صلوات) الرفع على الصحيح، على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الإسلام، أو هي خمس صلوات، أو مبتدأ محذوف الخبر من شرائعه أداء خمس صلوات، ويجوز النصب بتقدير خذ أو صل، قال
في اليوم والليلة، فقال: هل علي غيرهن؟ فقال: لا، إلا أن تطوع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/185)


العيني: ويجوز الجر على أنه بدل من الإسلام، قال القاري: لا يصح الجر رواية ولا دراية، أما الأول فيظهر من تتبع النسخ المصححة، وأما الثاني فلأن البدل والمبدل لا يكونان إلا في كلام شخص واحد...الخ. (هل علي غيرهن) أي هل يجب علي من الصلاة غير الصلوات الخمس في اليوم والليلة، أو الجار خبر مقدم وغيرهن مبتدأ مؤخر (فقال: لا) أي لا يجب عليك غيرها، وفيه حجة على من أوجب الوتر، وهو الحنفية، وأجاب القاري عنه بأن هذا قبل وجوب الوتر، أو إنه تابع للعشاء، وقال العيني: لم يكن الوتر واجبا حينئذ، يدل عليه أنه لم يذكر الحج – انتهى. وتعقب بأن هذا يحتاج إلى معرفة التاريخ، ودونها خرط القتاد، على أنه موقوف على ثبوت وجوب صلاة الوتر، ولا دليل على وجوبها لا من كتاب ولا من سنة صحيحة ولا من إجماع، بل الأمر على عكس ما قالوا، فإن الدلائل الصحيحة الصريحة من السنة قائمة على عدم وجوبها كما ستعرف إن شاء الله، فلا يصح أن يقال: إن هذا كان قبل وجوب الوتر، وأما قول العيني "يدل عليه أنه لم يذكر الحج" ففيه أنه إنما يتم ذلك إذا ثبت أنه لم يفرض الحج حينئذ، وفيه نظر؛ لأنه يحتمل أن الرجل سأل عن حاله خاصة، حيث قال ((هل علي غيرها)) فأجابه – عليه السلام – بما عرف من حاله، ولعله ممن لم يكن الحج واجبا عليه، والظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكره له لكن اختصره الراوي، يدل عليه رواية البخاري في الصيام، فأخبره بشرائع الإسلام كما تقدم، فحصره - صلى الله عليه وسلم - جنس الصلاة الواجبة في اليوم والليلة في الخمس ونفي وجوب الصلاة الأخرى مع ذكر باقي الواجبات يدل على عدم وجوب الوتر، وأما قول القاري: إنه تابع للعشاء، ففيه أنه قد أنكر أبوبكر بن مسعود الكاساني الحنفي كونه تابعا للعشاء حيث قال في بدائعه (ج1: ص270): وذا – أي كون تقديم العشاء شرطا عند التذكر – لا يدل على التبعية كتقديم كل فرض على ما يعقبه من الفرائض، ولهذا اختص بوقت

(1/186)


استحسانا فإن تأخيرها إلى آخر الليل مستحب، وتأخير العشاء إلى آخر الليل يكره أشد الكراهة، وذا أمارة الأصالة، إذ لو كانت تابعة للعشاء لتبعته في الكراهة والاستحباب جميعا، انتهى. (إلا أن تطوع) بتشديد الطاء والواو، وأصله "تتطوع" بتائين، فأدغمت إحداهما في الطاء، ويجوز تخفيف الطاء على حذف إحداهما، قال النووي: المشهور التشديد، ومعناه: إلا أن تفعله بطواعيتك. واعلم أن هذا الاستثناء يجوز أن يكون منقطعا بمعنى لكن، ويجوز أن يكون متصلا، واختارت الشافعية والحنابلة الانقطاع، والمعنى: لكن يستحب لك أن تطوع، وتمسكوا به على أنه لا يلزم إتمام النفل بالشروع، بل يستحب فقط فيجوز قطعه، ولا يجب القضاء عمدا قطعه أو من عذر، واختارت الحنفية والمالكية الاتصال فإنه هو الأصل في الاستثناء، واستدلوا به على أن من شرع في صلاة نفل أو صوم نفل وجب عليه إتمامه، ولا يجوز القطع إلا بعذر، ثم اختلفوا فقال الحنفية: يلزم القضاء مطلقا عمدا قطعه أو عذرا،
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/187)


وقالت المالكية: لا يلزم القضاء إلا إذا قطعه عمدا من غير عذر، وقال القرطبي المالكي: نفى في الحديث وجوب شيء آخر، والاستثناء من النفي إثبات، فيلزم أن يكون التطوع واجبا، ولا قائل لوجوبه لاستحالته، فتعين أن يكون المراد إلا أن تشرع في تطوع فيلزمك إتمامه – انتهى. قالت الحنفية: ويدل على كون الاستثناء في الحديث للاتصال حديث عائشة عند أحمد والنسائي والترمذي، وفيه أنه قال: صوما يوما مكانه، فأمر بالقضاء، فدل على أن الشروع ملزم، وأن القضاء بالإفساد واجب. وأجيب عن تقرير القرطبي أولا بأنه مغالطة؛ لأن الاستثناء ههنا من غير الجنس؛ لأن التطوع لا يقال فيه: عليك، فكأنه قال: لا يجب عليك شيء إلا إن أردت أن تطوع، فذلك لك، وقد علم أن التطوع ليس بواجب فلا يجب شيء آخر أصلا، وثانيا: بأن الحنفية لا يقولون بفرضية الإتمام، بل بوجوبه، واستثناء الواجب من الفرض منقطع لتبيانهما، فلا يصح حملهم الاستثناء في الحديث على الاتصال، وثالثا: بأن الاستثناء من النفي عندهم ليس للإثبات، بل مسكوت عنه. ورابعا بما قاله بعض العلماء الحنفية: إن الحديث خارج عن موضع النزاع، فإن الإيجاب المذكور فيه إنما هو الإيجاب من جهة الوحي، ومسألة لزوم النفل بالشروع إنما هو إيجاب العبد على نفسه شيئا بخيرته وطوعه. وخامسا: بأنه قال - صلى الله عليه وسلم - في الزكاة مثل ما قال في الصلاة والصوم، لكن لا يمشي تقرير القرطبي وغيره ممن قال بوجوب الإتمام في الزكاة، قال السندهي الحنفي: لا يظهر هذا في الزكاة إذ الصدقة قبل الإعطاء لا تجب، وبعده لا توصف بالوجوب، ولا يقال: إنه صار واجبا بالشروع فلزم إتمامه، فالوجه أنه استثناء منقطع، أي لكن التطوع جائز أو خير، ويمكن أن يقال من باب المبالغة في نفي واجب آخر، على معنى ليس عليك واجب آخر إلا التطوع، والتطوع ليس بواجب، فلا واجب غير المذكور – انتهى. قال القاري مجيبا عن الثاني: بأنه ممنوع، فإن الواجب

(1/188)


عندنا فرض عملي لا اعتقادي، وبهذا الاعتبار يطلق عليه أنه فرض، فالمراد بالفرض في الحديث المعنى الأعم، مع أنه لا محذور في جعل الاستثناء منقطعا لصحة الكلام، فيكون المعنى: لكن التطوع باختيارك، أي ابتداء كما هو مذهبنا، قلت: الفرق بين الفرض والواجب بالمعنى الاصطلاحي، ثم تقسيم الفرض إلى الفرض الاعتقادي والعملي، وجعل الواجب الاصطلاحي فرضا عمليا من المصطلحات الحادثة لم يعرفها الصحابة، فلا ينبغي أن يحمل الحديث على مصطلحات الفنون الحادثة بعد عصر الصحابة، والظاهر بل المتعين في معناه على كون الاستثناء للانقطاع هو أن يقال لكن يستحب لك أن تطوع، أو لكن التطوع باختيارك انتهاء كما هو في طواعيتك ابتداء، ويؤيده حديث أم هانئ عند الترمذي وغيره، وفيه الصائم المتطوع أمير أو أمين نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر، ويؤيده أيضا ما رواه النسائي عن عائشة مرفوعا: إنما مثل صوم التطوع مثل الرجل الذي يخرج من ماله الصدقة، فإن شاء أمضاها، وإن شاء حبسها، وقال القاري مجيبا عن الثالث: بأنه مدخول، فإن هذا إنما يرد عليهم لو استدلوا بهذا الحديث، وتقدم أن دليلهم الآية والإجماع، وإنما حملوا لفظ الحديث على المعنى المستفاد منهما يعني بالآية قوله تعالى:

(1/189)


?لا تبطلوا أعمالكم? [47: 33]. قلت: قد استدل بهذا الحديث غير واحد من الحنفية والمالكية على مذهبهم، وذكروه في معرض الاستدلال، كما صرح به العيني في شرح البخاري، والقرطبي في شرح مسلم، والزرقاني في شرح الموطأ وغيرهم، وأما الاحتجاج بالآية والإجماع فهو مخدوش كما ستعرف، فلا يصح حمل هذا الحديث على ما ذهبوا إليه في معناه، وذلك لفساد البناء، وأما حديث عائشة الذي جعلوه قرينة على حمل الاستثناء على الاتصال، فالجواب عنه أن الأمر فيه للاستحباب لا للوجوب، والقرينة على ذلك حديث أبي سعيد عند البيهقي، وسنذكره على أن حديث عائشة مرسل، والمرسل على الصحيح ليس بحجة، قال الخلال: اتفق الثقات على إرساله، وشذ من وصله، وتوارد الحفاظ على الحكم بضعف حديث عائشة هذا، ضعفه أحمد والبخاري والنسائي بجهالة زميل، كذا في الفتح، قلت: قد استدل عامة الحنفية على لزوم الإتمام بعد الشروع بقوله تعالى: ?لا تبطلوا أعمالكم? وبإجماع الصحابة على وجوب الإتمام، وبالقياس على الحج والعمرة. وأجيب عن الاستدلال بالآية بوجوه: الأول أنه يلزم الحنفية حيث استدلوا بها أن يقولوا إن الإتمام فرض، وهم إنما يقولون بوجوبه، قال القاري: هذا مدفوع بأن الآية قطعية، والدلالة ظنية – انتهى. وفيه أن هذا لا يفيد الحنفية بل يضرهم، إذ يقطع أصل الاستدلال؛ لأن أحاديث أم هانئ وعائشة وأبي سعيد وما في معناها وإن كانت ظنية لكن دلالتها على التخير قطعية بلا شبهة، ومن المعلوم أن مناط الاستدلال هي الدلالة لا الثبوت، وعلى هذا ففي الاستدلال بالآية المذكورة على وجوب الإتمام ترجيح ما هو ظني الدلالة على ما هو قطعي الدلالة، ولا شك أنه ترجيح المرجوح، وذا لا يجوز عند أحد، والثاني: أن الآية المذكورة عامة، قال ابن المنير المالكي: ليس في تحريم الأكل في صوم النفل من غير عذر إلا الأدلة العامة كقوله لا تبطلوا أعمالكم، إلا أن الخاص مقدم على العام كحديث سلمان – انتهى. والثالث:

(1/190)


أن المراد في الآية بالإبطال هو الإبطال الأخروي بالرياء والسمعة، لا الإبطال الفقهي، قال ابن عبدالبر المالكي: من احتج في هذا بقوله لا تبطلوا أعمالكم فهو جاهل بأقوال أهل العلم، فإن الأكثر على أن المراد بذلك النهي عن الرياء، كأنه قال: لا تبطلوا أعمالكم بالرياء، بل أخلصوها لله، وقال الآخرون: لا تبطلوا أعمالكم بارتكاب الكبائر، ولو كان المراد بذلك النهي عن إبطال ما لم يفرض الله عليه، ولا أوجب على نفسه بنذر أو غيره لامتنع عليه الإفطار إلا بما يبيح الفطر من الصوم الواجب، وهم لا يقولون بذلك – انتهى. وقال الشيخ محمد أنور الحنفي: أما الاستدلال بقوله تعالى: ?لا تبطلوا أعمالكم? فليس بناهض؛ لأن الآية إنما سيقت لبطلان الثواب لا للبطلان الفقهي، كما يدل عليه السياق، فهي كقوله تعالى: ?لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى? [2: 262]–انتهى. والرابع: ما ذكره الشيخ بحر العلوم اللكنوي الحنفي في شرح مسلم الثبوت (58 من طبعة الهند): إن ههنا كلامان عويصان: الأول أن الدليل لو تم لدل على وجوب الإتمام، فتركه يكون إثما، وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم إفساد صوم النفل بالأكل، ولا ينفع حينئذ ما في فتح القدير أنه – عليه الصلاة والسلام– لعله قضاه، فإن الكلام في نفس الإفطار فإنه حينئذ مشتمل على ترك الواجب، فإن قلت: لعله يكون الإفطار في صيام التطوع رخصة مطلقا كما أنه رخصة في الفرض في حق المسافر، قلت: فأين الوجوب فإن

(1/191)


الواجب ما يأثم بتركه، ولا مخلص عند هذا العبد إلا بإبداء عذر (أي معين لا احتمالا) أو بإثبات المنسوخية، أو بالقول بأن الوجوب كوجوب الصلاة على من استأهل في الآخر، فتدبر، الثاني: أن بعض الصوم لما لم يكن صوما لم يكن فيه إبطال العمل، فإنه ما عمل إلا بعد الصوم، وليس بعمل، فالإفطار لا يوجب إبطال العمل، فتأمل فيه – انتهى. وأجاب بعضهم عن الثاني بأن بعض الصوم وإن لم يكن عملا بالفعل لكنه في معرض أن يصير عملا، فتركه إبطال للعمل، وتعقب بأن إطلاق العمل على ما هو معرض أن يصير عملا لا شك أنه مجاز، وعلى هذا فيلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، وهو لا يجوز عند الحنفية، وأجيب عن الاحتجاج بإجماع الصحابة بأنه مجرد دعوى بلا سند، فلا يقبل، قال القاري: هو مردود؛ لأن ذكر السند ليس بشرط لصحة الإجماع، مع أن الآية سند معتمد لصحة الإجماع، قلت: لم يثبت نصا عن أحد من الصحابة أنه ذهب إلى وجوب الإتمام بعد الشروع، فضلا عن إجماعهم على ذلك فلا يلتفت إلى دعوى الإجماع مع وجود النصوص الصريحة على عدم الوجوب، وأما الاستناد بالآية فقد عرفت فساده، وأما الجواب عن القياس فهو أن الحج امتاز عن غيره بلزوم المضي في فاسده، فكيف في صحيحه، وكذلك امتاز بلزوم الكفارة في نفله كفرضه، ويرد على أصل مذهب الحنفية بأن النفل إذا كان واجبا بالشروع كما في كتب الأصول ففي التلويح (ج1: ص306 – طبعة مصر): والنفل لا يضمن بالترك، وأما إذا شرع فيه، وأفسد فقد صار بالشروع واجبا فيقضي – انتهى. وفي كشف الأسرار (ج1: ص135): وأما إذا شرع النفل ثم أفسده، فإنما يجب القضاء؛ لأنه بالشروع صار ملحقا بالواجب، لا لأنه نفل كما قبل الشروع – انتهى. فيلزم حينئذ أن لا يكون النفل من حيث أنه نفل عبادة عملا، وعلى هذا فالمسائل التي تتعلق بنفس النفل لا يكون لها مصداق في الواقع، مثل قولهم: صلاة المفترض خلف المتنفل لا تجوز، فتأمل. وقالت الشافعية: الدليل على كون

(1/192)


الاستثناء في الحديث منقطعا ما روى النسائي وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أحيانا ينوي صوم التطوع ثم يفطر، وفي البخاري أنه أمر جويرية بنت الحارث أن تفطر يوم الجمعة بعد أن شرعت، ولم يأمرها بالقضاء، وروى البيهقي عن أبي سعيد قال: صنعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - طعاما، فلما وضع قال رجل أنا صائم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((دعاك أخوك وتكلف لك، أفطر فصم مكانه إن شئت))، قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: إسناده حسن – انتهى. ففي هذه الأحاديث الثلاثة، وحديثي أم هانئ وعائشة المتقدمين دليل على أن الشروع في العبادة لا يستلزم الإتمام إذا كانت نافلة، بهذه النصوص في الصوم، وبالقياس في الباقي إلا الحج. وأجاب العيني عن ذلك بأن حديث النسائي لا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - ترك القضاء، وإفطاره - صلى الله عليه وسلم - ربما كان لعذر مثل الجوع أو غيره، وحديث جويرية إنما أمرها بالإفطار عند تحقق واحد من الأعذار كالضيافة، أو لأنها صامت بغير إذنه واحتاج إليها، وليس فيه أنها تركت القضاء، وكل ما جاء من أحاديث الباب محمول على مثل هذا – انتهى. وقال الزرقاني: وإذا احتمل ذلك سقط به الاستدلال؛ لأن القصتين من وقائع الأحوال التي لا عموم لها، وقد قال تعالى: ?لا تبطلوا أعمالكم? – انتهى. قلت: إبداء مثل هذه الاحتمالات من غير منشأ وقرينة تدل عليها مما لا يلتفت إليه، فإنه تحكم محض، يفعله صاحبه ترويجا لدعواه وتمشية لمذهبه، ولو كان القضاء
وصيام شهر رمضان، فقال: هل علي غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع، قال: وذكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة، فقال: هل علي غيرها؟ فقال: لا، إلا أن تطوع ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/193)


واجبا لأمر - صلى الله عليه وسلم - جويرية بالقضاء، ونقل إلينا ألبتة، فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولو سلم أنه وقع القضاء منهما لما كفى لإثبات وجوب القضاء، فإن الفعل لا يدل على الوجوب، فيحتمل أن قضاءهما كان ندبا، لا لأنه واجب، وأما قول الزرقاني ففيه أن قوله - صلى الله عليه وسلم - وأمره وفعله وتقريره حجة لكل شخص في كل زمان ومكان وحال، ما لم يدل دليل على الخصوصية، وقد تقدم أن الاستناد بالآية على وجوب الإتمام جهل، وقال العيني: ولو وقع التعارض بين الأخبار فالترجيح معنا لثلاثة أوجه، أحدها: إجماع الصحابة. والثاني: أحاديثنا مثبتة، وأحاديثهم نافية، والمثبت مقدم. والثالث: أنه احتياط في العبادة. قلت: قد عرفت فيما تقدم أن دعوى الإجماع باطلة، وأما قوله: إن أحاديث الحنفية تقدم على أحاديث الشافعية لكون الأولى مثبتة والثانية نافية، ففيه أن تقديم المثبت على النافي إنما هو إذا كانت أحاديث الطرفين متساوية في القوة والضعف، وهاهنا أحاديث النفي أرجح وأقوى من حيث الكثرة والصحة، وأحاديث الإثبات مرجوحة ضعيفة، فتقدم أحاديث النفي عليها، وليس الاحتياط في جعل الشيء واجبا من غير دليل قوي، بل الاحتياط في العمل بالسنة الصحيحة سواء كانت مثبتة للوجوب أو نافية له مع أن الأصل براءة الذمة، فافهم. (وصيام شهر رمضان) عطف على خمس صلوات، وجملة السؤال والجواب معترضة (قال) أي طلحة راوي الحديث (وذكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة) هذا قول الراوي، كأنه نسي ما نص عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو التبس عليه فقال: (وذكر له الزكاة)، هذا يؤذن بأن مراعاة الألفاظ معتبرة في الرواية، فإذا التبس عليه يشير في لفظه إلى ما ينبئ عنه كما فعل الراوي هاهنا، وفي رواية البخاري في الصيام: قال: فأخبرني بماذا فرض الله علي من الزكاة، قال: فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرائع الإسلام أي بنصب الزكاة

(1/194)


ومقاديرها وغير ذلك مما يتناول الحج وأحكامه وجميع المنهيات، وأما تعقب الأبي بإرجاع لفظ الشرائع إلى ما ذكر قبله لأن العام المذكور عقب خاص يرجع إلى ذلك الخاص على الصحيح، فهو مردود عليه، فإن الصحيح والحق في مثل هذا أن ذكر العام بعد الخاص يكون للتعميم ولدفع توهم اختصاص الحكم بالخاص المذكور قبله، فافهم، قال الحافظ: تضمنت هذه الرواية أن في القصة أشياء أجملت منها بيان نصب الزكاة، فإنها لم تفسر في الروايتين، وكذا أسماء الصلوات، وكان السبب فيه شهرة ذلك عندهم، أو القصد من القصة بيان أن المتمسك بالفرائض ناج وإن لم يفعل النوافل – انتهى. (فقال: لا، إلا أن تطوع) قيل: يعلم منه أنه ليس في المال حق سوى الزكاة بشروطها، قال القاري: وهو ظاهر إن أريد به الحقوق الأصلية المتكررة تكررها وإلا فحقوق المال كثيرة كصدقة الفطر والنفقات الواجبة، قلت: الكلام في حقوق المال وليس شيء من هذه الأشياء من حقوق المال بمعنى أنه يوجبه المال بل يوجبه أسباب أخر كالفطر والقرابة والزوجية وغير ذلك
قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفلح الرجل إن صدق))، متفق عليه.
17- (16) وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: إن وفد عبدالقيس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/195)


( والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه) أي لا أزيد على شرائع الإسلام ولا أنقص منها شيئا، والدليل عليه ما في رواية البخاري (ج1: ص254) في الصيام لا أتطوع شيئا ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا، قيل: كيف أقره على حلفه وقد ورد النكير على من حلف أن لا يفعل خيرا؟ وأجيب بأن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، وهذا جار على الأصول بأن لا إثم على غير تارك الفرائض، فهو مفلح وإن كان غيره أكثر فلاحا منه، وقال الباجي: يحتمل أنه سومح في ذلك لأنه في أول الإسلام (أفلح الرجل إن صدق) قال ابن بطال: دل هذا على أنه إن لم يصدق في التزامها أنه ليس بمفلح، وهذا خلاف قول المرجئة، وليس فيه تسويغ لترك السنن لما قال القرطبي: لم يسوغ له تركها دائما ولكن لقرب عهده بالإسلام اكتفى منه بالواجبات، وأخره حتى يأنس وينشرح صدره ويحرص على الخير، فيسهل عليه المندوبات – انتهى، وفي الحديث رد على المرجئة إذ شرط في فلاحه أن لا ينقص من الأعمال والفرائض المذكورة، وهو يقولون: التصديق وحده كاف للنجاة، لا حاجة إلى العمل، ولا يضر المعصية مع التصديق (متفق عليه) وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي.

(1/196)


17- قوله: (وعن ابن عباس) هو عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب القرشي الهاشمي، أبوالعباس المكي ثم المدني ثم الطائفي، ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه، وأمه أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث أخت ميمونة أم المؤمنين، ولد بالشعب قبل الهجرة بثلاث سنين، وتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وقال أحمد: خمس عشرة سنة، والأول أثبت، كان يقال له: الحبر والبحر لكثرة علمه، وترجمان القرآن. دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة والفقه والعلم وتأويل الكتاب، ورأى جبرائيل – عليه السلام – مرتين، قال مسروق: كنت إذا رأيت ابن عباس قلت: أجمل الناس، وإذا نطق قلت: أفصح الناس، وإذا حدث قلت: أعلم الناس، وكان عمر يدنيه ويقربه ويشاوره مع أجلة الصحابة، ومناقبه كثيرة وفضائله مشهورة، بسط ترجمته الحافظ في الإصابة، وابن عبدالبر في الاستيعاب. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفا وستمائة وستين حديثا، اتفقا على خمسة وسبعين، وانفرد البخاري بثمانية وعشرين، ومسلم بتسعة وأربعين، روى عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين، مات بالطائف سنة 68، وهو ابن 71 سنة على الصحيح، في أيام ابن الزبير، وصلى عليه محمد بن الحنفية، وقد كف بصره في آخر عمره، وقال الخزرجي: ابن عباس سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسة وعشرين حديثا، وباقي حديثه من الصحابة، واتفقوا على قبول مرسل الصحابي – انتهى. (إن وفد عبدالقيس) الوفد جمع وافد، وهو الذي أتى إلى الأمير برسالة من قوم، وقيل: الوفد الجماعة المختارة من
لما أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من القوم أو من الوفد؟ قالوا: ربيعة، قال: مرحبا بالقوم أو بالوفد غير خزايا ولا ندامى)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/197)


القوم ليتقدموهم إلى لقي العظماء والمصير إليهم في المهمات، وعبدالقيس: أبوقبيلة عظيمة تنتهي إلى ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، وربيعة: قبيلة عظيمة في مقابلة مضر، وكان قبيلة عبدالقيس ينزلون البحرين وحوالي القطيف وما بين هجر إلى الديار المضرية، وقال صاحب التحرير: وفد عبدالقيس كانوا أربعة عشر راكبا، كبيرهم الأشج العصري، وقيل: كانوا ثلاثة عشر راكبا، كما في المعرفة لابن مندة، وقيل: كانوا أربعين رجلا، رواه الدولابي، وجمع بأن لهم وفادتين: إحداهما في سنة خمس أو قبلها أو سنة ست، وكان عدد الوفد فيها ثلاثة عشر راكبا، وكان فيهم الأشج العصري. وثانيتهما كانت في سنة الوفود، وكان عددهم حينئذ أربعين رجلا، وكان فيهم الجارود العبدي، أو يقال بأن الأربعة عشر كانوا رؤوس الوفد وأشرافهم وكان الباقون أتباعا، وقال العيني (ج1: 309) جملة الجمع تكون خمسة وأربعين نفسا، فعلمنا أن التنصيص على عدد معين لم يصح، ولهذا لم يخرجه البخاري ومسلم بالعدد المعين، ثم ذكر العيني نقلا عن شرح مسلم للنووي سبب قدومهم، قال القاضي: كان وفودهم عام الفتح قبل خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة، قال الحافظ: "تبع القاضي فيه الواقدي وليس بجيد؛ لأن فرض الحج كان سنة ست على الأصح، ولكن القاضي يختار أن فرض الحج كان سنة تسع حتى لا يرد على مذهبه أنه على الفور". (لما أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي حضروه (من القوم أو من الوفد) شك من الراوي، والسؤال للاستئناس، أو ليعرفوا فينزلوا منازهم (قالوا ربيعة) أي قال بعض الوفد: نحن ربيعة أو وفد ربيعة، على حذف مضاف، وفي نسخة بالنصب أي نسمى ربيعة، وفيه التعبير عن البعض بالكل؛ لأنهم بعض ربيعة، وهذا من بعض الرواة فإن عند البخاري في الصلاة: فقالوا: إنا هذا الحي من ربيعة (قال: مرحبا بالقوم أو بالوفد) أي أصاب الوفد رحبا – بضم الراء – أي سعة، والرحب – بالفتح -: الشيء الواسع أو

(1/198)


أتى القوم موضعا واسعا، فالباء زائدة في الفاعل، ومرحبا مفعول به لمقدر، أو أتى الله بالقوم مرحبا، فالباء للتعدية ومرحبا مفعول مطلق، وقيل: هو من المفاعيل المنصوبة بعامل مضمر لازم إضماره لكثرة دورانه على ألسنة العرب، ويقال: هذا لتأنيس الوافد وإزالة الاستحياء عن نفس من أتى من باغي خير وقاصد حاجة (غير خزايا) بفتح الخاء جمع خزيان من الخزي وهو الذل والإهانة، أي غير أذلاء مهانين، ونصب غير على الحال من الوفد، والعامل فيه الفعل المقدر في مرحبا، وفي رواية للبخاري مرحبا بالوفد الذين جاءوا غير خزايا، قال القاري: وجوز جره على أنه بدل من القوم، وقال العيني: ويروى غير بكسر الراء على أنه صفة للقوم، فإن قلت: إنه نكرة كيف وقعت صفة للمعرفة؟ قلت: للمعرف بلام الجنس قرب المسافة بينه وبين النكرة فحكمه حكم النكرة إذ لا توقيت فيه ولا تعيين – انتهى. (ولا ندامى) جمع نادم على غير قياس، إذ قياسه نادمين، لكنه اتبع خزايا تحسينا للكلام، كما قالوا العشايا والغدايا، والقياس الغدوات جمع غداة لكنه اتبع لما يقارنه ،
قالوا: يا رسول الله، إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/199)


وإذا أفردت لم يجز إلا الغدوات، وقيل: هو جمع ندمان بمعنى نادم من الندامة كما حكى القزاز والجوهري وغيرهما من أهل اللغة. وعلى هذا يكون الجمع على الأصل ولا يكون من باب الاتباع، والمعنى: ما كانوا بالإتيان إلينا خاسرين خائبين؛ لأنهم أسلموا طوعا من غير حرب أو سبي يخزيهم ويفضحهم. (قالوا: يا رسول الله) فيه دليل على أنهم كانوا حين المقابلة مسلمين، وكذا في قولهم "كفار مضر" وفي قولهم "الله ورسوله أعلم". (لا نستطيع أن نأتيك) أي في جميع الأزمنة (إلا في الشهر الحرام) المراد به الجنس، فيشمل الأربعة الحرم، ويؤيده رواية البخاري في المغازي بلفظ (إلا في أشهر الحرم)، وفي المناقب (إلا في كل شهر حرام)، وقيل: اللام للعهد، والمراد شهر رجب، وفي رواية للبيهقي التصريح به، وكانت مضر تبالغ في تعظيم شهر رجب، فلهذا أضيف إليهم في حديث أبي بكرة عند البخاري حيث قال: ((رجب مضر))، والظاهر أنهم يخصونه بمزيد التعظيم مع تحريمهم القتال في الأشهر الثلاثة الأخرى إلا أنهم ربما أنسوها بخلافه، وإنما قالوا ذلك اعتذارا عن عدم الإتيان إليه - صلى الله عليه وسلم - في غير هذا الوقت؛ لأن الجاهلية كانوا يحاربون بعضهم بعضا، ويكفون في الأشهر الحرم تعظيما لها وتسهيلا على زوار البيت الحرام من الحروب والغارات الواقعة منهم في غيرها، ومن ثم كان يمكن مجيء هؤلاء إليه – عليه الصلاة والسلام – فيها دون ما عداها، قال الحافظ: وفيه دليل على تقدم إسلام عبدالقيس على قبائل مضر الذين كانوا بينهم وبين المدينة، ويدل على سبقهم إلى الإسلام أيضا ما رواه البخاري في الجمعة عن ابن عباس قال: إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجد عبدالقيس بجواثي من البحرين، وإنما جمعوا بعد رجوع وفدهم إليهم، فدل على أنهم سبقوا جميع القرى إلى الإسلام – انتهى. واحفظه فإنه ينفعك في مسألة الجمعة في القرى. (وبيننا وبينك هذا الحي)

(1/200)


الجملة حال من فاعل نأتيك، أو بيان لوجه عدم الاستطاعة، والحي: هو اسم لمنزل القبيلة ثم سميت القبيلة به اتساعا لأن بعضهم يحيى ببعض (من كفار مضر) كلمة من للبيان، ومضر هو ابن نزار بن معد بن عدنان، فهو أخو ربيعة أبي عبدالقيس (بأمر فصل) الفصل بمعنى الفاصل كالعدل بمعنى العادل، أي يفصل بين الحق والباطل، أو بمعنى المفصل المبين المكشوف، حكاه الطيبي، وقال الخطابي: الفصل هو الواضح البين الذي ينفصل به المراد ولا يشكل، وقيل: المحكم، والأمر بمعنى الشأن، واحد الأمور، والباء صلة والمراد به معنى اللفظ ومورده، وقيل: الأمر واحد الأوامر أي القول الطالب للفعل والباء للاستعانة، والمراد به اللفظ والمأمور به محذوف، أي مرنا بعمل بقولك آمنوا أو قولوا آمنا كذا في المرقاة. (نخبر) بالرفع على أنه صفة ثانية لأمر أو استئناف، وبالجزم على أنه جواب الأمر (من وراءنا) بفتح الميم، والهمزة موصولة أي من استقروا خلفنا (وندخل) برفع اللام وجزمها عطفا على نخبر الموجه بوجهين (به) أي بسبب قبول أمرك والعمل به (الجنة) هذا لا ينافي قوله - صلى الله عليه وسلم - ((لن يدخل الجنة
وسألوه عن الأشربة، فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع، أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/201)


أحد منكم بعمله؛ لأن المراد نفي كون العمل سببا مستقلا في الدخول مع قطع النظر عن كونه من الرحمة والفضل، إذ القصد به الرد على من يرى عمله متكفلا بدخولها من غير ملاحظة لكونها من جملة رحمة الله، أو المراد الجنة العالية أو أن درجاتها بالعمل ودخولها بالفضل. (وسألوه عن الأشربة) جمع شراب وهو ما يشرب أي عن حكم ظروف الأشربة، فالمضاف محذوف، أو التقدير عن الأشربة التي تكون في الأواني المختلفة فعلى هذا يكون محذوف الصفة، والمراد عن حكمها (فأمرهم بأربع) أي بأربع خصال، أو بأربع جمل بقولهم حدثنا بحمل من الأمر في رواية البخاري في المغازي (ونهاهن عن أربع) أي أربع خصال وهي أنواع الشرب باعتبار أصناف الظروف الآتية (قالوا: الله ورسوله أعلم) تأدبا وطلبا للسماع منه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن القوم كانوا مؤمنين (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) برفع شهادة لا غير على أنها خبر مبتدأ محذوف هو هو، أي الإيمان بالله وحده الذي هو بمعنى الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله...الخ (وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان) برفع الثلاثة على ما سيأتي بيانها، وقيل: بجرها عطفا على الإيمان في قوله: أمرهم بالإيمان بالله وحده، (وأن تعطوا من المغنم) بفتح الميم والنون أي الغنيمة (الخمس) بضم الميم وسكونها، وأن تعطوا في محل الرفع عطفا على قوله وصيام رمضان، فيكون واحدا من الأركان. قال الطيبي: في الحديث إشكالان: أحدهما: أن المأمور به واحد والأركان تفسير للإيمان بدلالة قوله ((أتدرون ما الإيمان بالله وحده))، وقد قال أربع أي الإيمان واحد والموعود بذكره أربع، فأين الثلاثة الباقية؟ وثانيهما: أن الأركان أي المذكورة خمسة، وقد ذكر أولا أنها أربعة، وأجيب عن الأول بأنه جعل الإيمان أربعا نظرا إلى أجزائه المفصلة، يعني أن الإيمان باعتبار أجزائه المفصلة أربع وهو في حد ذاته واحد، والمعنى: أنه اسم جامع للخصال الأربع

(1/202)


التي ذكر أنه يأمرهم بها ثم فسرها، فهو واحد بالنوع متعدد بحسب وظائفه، كما أن المنهي عنه وهو الانتباذ فيما يسرع إليه الإسكار واحد بالنوع متعدد بحسب أوعيته، وعن الثاني بأن عادة البلغاء إذا كان الكلام منصبا لغرض من الأغراض جعلوا سياقه له، وكأن ما سواه مطروح، فهاهنا ذكر الشهادتين ليس مقصودا؛ لأن القوم كانوا مؤمنين مقرين بكلمتي الشهادة، ولكن ربما كانوا يظنون أن الإيمان مقصور عليهما كما كان الأمر في صدر الإسلام، قال فلهذا لم يعد الشهادتين في الأوامر، وقال الكرماني: لم يجعل الشهادة بالتوحيد وبالرسالة من الأربع لعلمهم بذلك، وإنما أمرهم بأربع لم يكن في علمهم أنها دعائم الإيمان، وإلى هذا نحا القرطبي فقال: ذكر الشهادتين تبركا بهما كما في قوله ?واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه? [8: 41]،
ونهاهم عن أربع، عن الحنتم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/203)


ومحمل كلام الطيبي والكرماني والقرطبي أن ذكرهما ليس مقصودا من الأربع، بل هو جملة معترضة بين الأربع وبين مبينها، ويؤيده رواية البخاري (ج2: ص612) في الأدب: ((أربع وأربع، أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان وأعطوا خمس ما غنمتم...)) الحديث. ويؤيده أيضا حديث أبي سعيد الخدري عند أحمد (ج3: ص23) في قصة وفد عبدالقيس من طريق يحيى بن سعيد عن ابن عروبة، وفيه ((آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا))، فهذا ليس من الأربع ((وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان وأعطوا من الغنائم الخمس...)) الحديث. لكن ينافي قولهم ويعارض حديث أبي سعيد هذا رواية البخاري في المغازي بلفظ: ((آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله، وعقد واحدة، وفي فرض الخمس، وعقد بيده))، وفي رواية أبي داود: ((وعقد بيده واحدة)) فدلت هذه الروايات أن الشهادة إحدى الأربع، لا يقال: إن العقد كان للإشارة إلى التوحيد؛ لأن المعهود فيها الإشارة بنصب المسبحة دون العقد، والراوي ذكر العقد، وكذا يخالفهم ما في رواية البخاري في أوائل المواقيت ولفظه: ((آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله))، ثم فسرها لهم ((شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله...)) الحديث، فهذا أيضا يدل على أنه عد الشهادتين من الأربع؛ لأنه أعاد الضمير في قوله ((ثم فسرها)) مؤنثا فيعود على الأربع، ولو أراد تفسير الإيمان لأعاده مذكرا، لكن يمكن أن يقال: إنه أنث الضمير نظرا إلى أن المراد بالإيمان الشهادة أو إلى أنه خصلة، وأجيب أيضا عن الإشكال الثاني بأنه عد الصلاة والزكاة واحدة؛ لأنها قرينتها في كتاب الله، وتكون الرابعة أداء الخمس، وقيل: أداء الخمس داخل في عموم إيتاء الزكاة فلم يعده مستقلا. والجامع بينهما أنهما إخراج مال معين في حال دون حال، هذا، وما ذكرناه في توضيح الإشكال ورفعه يوافق حديث جبريل

(1/204)


ومذهب السلف في الإيمان من كون الأعمال داخلة في حقيقته، فإنه قد فسر الإسلام في حديث جبريل بما فسر به الإيمان في قصة وفد عبدالقيس، فدل هذا على أن الأشياء المذكورة – وفيها أداء الخمس – من أجزاء الإيمان، وأنه لابد في الإيمان من الأعمال خلافا للمرجئة. قال الحافظ معتذرا عن عدم ذكر الحج في الحديث: إنما أخبرهم ببعض الأوامر؛ لكونهم سألوه أن يخبرهم بما يدخلون بفعله الجنة، فاقتصر لهم على ما يمكنهم فعله في الحال، ولم يقصد إعلامهم بجميع الأحكام التي تجب عليهم فعلا وتركا، ويدل على ذلك اقتصاره في المناهي على الانتباذ في الأوعية مع أن في المناهي ما هو أشد في التحريم من الانتباذ، لكن اقتصر عليها لكثرة تعاطيهم لها – انتهى. (ونهاهم عن أربع) أي خصال (عن الحنتم) بدل من قوله عن أربع بإعادة الجار، وهو من إطلاق المحل وإرادة الحال أي ما في الحنتم ونحوه، وصرح بالمراد في رواية للنسائي فقال: ((وأنهاكم عن أربع ما ينتبذ في الحنتم...))الحديث، والحنتم – بفتح الحاء المهملة وسكون النون وفتح المثناة من فوق -: هي الجرة مطلقا، وقيل: خضراء، وقيل: حمراء، أعناقها من جنوبها يجلب فيها الخمر من مضر، وقيل: من الطائف، وقيل: هي جرار تعمل من طين ودم وشعر، أقوال للصحابة وغيرهم، ولعلهم كانوا ينتبذون في ذلك كله
والدباء والنقير والمزفت، وقال: احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم)) متفق عليه، ولفظه للبخاري.
18- (17) وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحوله عصابة من أصحابه: ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/205)


( والدباء) بضم المهملة وتشديد الموحدة والمد وقد يقصر: وعاء القرع وهو اليقطين اليابس، وهو جمع والواحدة دباءة، ومن قصر قال: "دباة" (والنقير) بفتح النون وكسر القاف: أصل النخلة ينقر وسطه فيتخذ من وعاء وينبذ فيه (والمزفت) بتشديد الفاء أي المطلي بالزفت أي القار، وربما قال ابن عباس المقير بدل المزفت، ومعنى النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية بخصوصها لأنه يسرع فيها الإسكار، فربما شرب منها من لا يشعر بذلك، ثم ثبتت الرخصة في الانتباذ في كل وعاء مع النهي عن شرب كل مسكر كما سيأتي في باب النقيع. (احفظوهن) أي الكلمات المذكورات (وأخبروا بهن) بفتح الهمزة (من وراءكم) بفتح من وهي موصولة، ووراءكم يشمل من جاءوا من عندهم، وهذا باعتبار المكان، ويشمل من يحدث لهم من الأولاد وغيرهم، وهذا باعتبار الزمان، فيحتمل إعمالها في المعنيين حقيقة ومجازا (متفق عليه) وأخرجه أيضا أبوداود والترمذي والنسائي وغيرهم (ولفظه للبخاري) يعني لمسلم معناه، فبهذا المعنى صار الحديث متفقا عليه.

(1/206)


18- قوله: (وعن عبادة) بضم العين وتخفيف الموحدة (بن الصامت) بن قيس الأنصاري الخزرجي المدني، يكنى أباالوليد، شهد العقبتين وبدرا والمشاهد كلها، وهو أحد النقباء، ثم وجهه عمر إلى الشام قاضيا ومعلما، فأقام بحمص ثم انتقل إلى فلسطين ومات بها في الرملة، وقيل: ببيت المقدس سنة 34 وهو ابن 72سنة، وقيل عاش إلى خلافة معاوية، وهو أحد من جمع القرآن في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، رواه البخاري في تاريخه الصغير وابن سعد عن محمد بن كعب القرظي، وكان طويلا جسيما جميلا فاضلا، قال سعيد بن عفير: كان طوله عشرة أشبار. له مائة وأحد وثمانون حديثا، اتفقا منها على ستة، وانفرد البخاري بحديثين، وكذا مسلم، روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين. (وحوله) نصب على الظرفية خبر لقوله (عصابة) بالكسر اسم جمع كالعصبة لما بين العشرة إلى الأربعين من العصب وهو الشد، كأن بعضهم يشد بعضا، والجملة حالية (من أصحابه) في محل الرفع؛ لأنه صفة لعصابة، أي عصابة كائنة من أصحابه، وكلمة (من) للتبعيض، ويجوز أن تكون للبيان (بايعوني) أي عاقدوني، سميت المعاهدة على الإسلام بالمبايعة تشبيها لنيل الثواب في مقابلة الطاعة بعقد البيع الذي هو مقابلة مال، ووجه المفاعلة أن كلا من المتبايعين يصير كأنه باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته كما في قوله تعالى: ?إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة? [9: 111]. (لا تشركوا بالله شيئا) مفعول به أو مفعول مطلق (ولا تسرقوا) من سرق بالفتح يسرق بالكسر سرقا، وهو أخذ مال الغير محرزا بخفية (ولا تقتلوا أولادكم) خص القتل بالأولاد لأنه قتل وقطيعة رحم، فالعناية بالنهي عنه
ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/207)


آكد ولأنه كان شائعا فيهم، هو وأد البنات خوف لحوق عيب وعار، وقتل البنين خشية إملاق وإقتار، أو خصهم بالذكر لأنهم بصدد أن لا يدفعوا عن أنفسهم (ولا تأتون ببهتان) الباء للتعدية والبهتان - بالضم - الكذب الذي يبهت سامعه أي يدهشه لفظاعته (تفترونه) أي تخلقونه، صفة بهتان (بين أيديكم وأرجلكم) أصل هذا كان في بيعة النساء، وكنى بذلك عن نسبة المرأة الولد الذي تزني به أو تلتقطه إلى زوجها كذبا؛ لأن بطنها الذي يحمله بين يديها وفرجها الذي تلد منه بين رجليها، ثم لما استعمل هذا اللفظ في بيعة الرجال احتيج إلى حمله على غير ما ورد فيه أولا، فقيل معناه: لا تأتوا ببهتان من قبل أنفسكم ومن عند ذواتكم، فاليد والرجل كنايتان عن الذات؛ لأن معظم الأفعال يقع بهما، وقد يعاقب الرجل بجناية قولية، فيقال له: هذا بما كسبت يداك. أو معناه: لا تنسبوا مبنيا على ظن فاسد وغش مبطن من ضمائركم وقلوبكم التي بين أيديكم وأرجلكم، فالأول كناية عن إلقاء البهتان من تلقاء أنفسهم، والثاني: عن إنشاء البهتان من دخيلة قلوبهم مبنيا على الغش المبطن. وقيل معناه: لا تبهتوا الناس بالعيوب كفاحا مواجهة، كما يقال: فعلت هذا بين يديك أي بحضرتك، وأراد هاهنا الأيدي، وذكر الأرجل تأكيدا له (ولا تعصوا) بضم الصاد، وفي رواية للبخاري: ((ولا تعصوني)) وهو مطابق للآية، (في معروف) قال في النهاية: هو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله تعالى والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات – انتهى. ونبه بذلك على أن طاعة المخلوق إنما تجب فيما كان غير معصية لله، فهي جديرة بغاية التوقي في معصية الله (فمن وفى) أي ثبت على ما بايع عليه بتخفيف الفاء وتشديدها وهما بمعنى (فأجره على الله) قال الحافظ: أطلق هذا على سبيل التفخيم لأنه لما ذكر المبايعة المقتضية لوجود العوضين أثبت ذكر الأجر في موضع أحدهما، وأفصح في رواية الصنابحي عن عبادة في

(1/208)


هذا الحديث في الصحيحين بتعيين العوض فقال: بالجنة، وعبر هنا بلفظ على للمبالغة في تحقيق وقوعه كالواجبات. فإن قيل: لم اقتصر على المنهيات ولم يذكر المأمورات؟ فالجواب: أنه لم يهملها بل ذكرها على طريق الإجمال في قوله ((ولا تعصوا))، إذ العصيان مخالفة الأمر، والحكمة في التنصيص على كثير من المنهيات دون المأمورات أن الكف أيسر من إنشاء الفعل؛ لأن اجتناب المفاسد مقدم على اجتلاب المصالح والتخلي عن الرذائل قبل التحلي بالفضائل، وترك سائر المنهيات لزيادة الاهتمام بالمذكورات، وفيه رد على المرجئة الذين يقولون بأن التصديق وحده كاف للنجاة، وأنه لا تضر المعصية مع الإيمان. (ومن أصاب من ذلك) أي من المذكور (فعوقب به) هو أعم من أن تكون العقوبة حدا أو تعزيرا، واختلفوا في أنه يعم العقوبات الشرعية ويشمل العقوبات القدرية كالمصائب والآلام والأسقام وغيرها أم لا؟ فقيل: نعم، كما في الحديث: ((لا يصيب المسلم نصب ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها الرجل إلا كفر الله بها من خطاياه))، وقيل: لا، لحديث
فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/209)


خزيمة بن ثابت عند أحمد في مسنده (ج5: ص214، 215) بإسناد حسن: ((من أصاب ذنبا أقيم عليه حد ذلك الذنب فهو كفارته))، فإنه صريح في أن المراد عن العقوبة المذكورة في الحديث الحدود دون المصائب، وقال الحافظ: يحتمل أن يراد أن المصائب تكفر ما لا حد فيه. (فهو) العقاب، وهذا مثل هو في قوله تعالى: ?اعدلوا هو أقرب للتقوى? [5: 8]، (كفارة له) زاد في رواية للبخاري: ((وطهور)) بفتح الطاء أن يكفر إثم ذلك ولم يعاقب به في الآخرة، قال النووي: عموم هذا الحديث مخصوص بقوله تعالى: ?إن الله لا يغفر أن يشرك به? [4: 48]، فالمرتد إذا قتل على الردة لا يكون القتل له كفارة – انتهى. ويستفاد من الحديث أن إقامة الحد كفارة للذنب ولو لم يتب المحدود، وهو قول الجمهور، وقيل: لا بد من التوبة، وبذلك جزم بعض التابعين، وهو قول للمعتزلة، ووافقهم ابن حزم، ومن المفسرين البغوي وطائفة يسيرة – انتهى. قلت: الأول قول مجاهد وزيد بن أسلم والثوري والإمام أحمد، ورجحه ابن جرير وضعف القول بخلاف ذلك ووهنه جدا، قال الحافظ في الفتح: واستدل البغوي ومن وافقه باستثناء من تاب في قوله تعالى: ?إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم? [5: 34]، قال: والجواب في ذلك أنه في عقوبة الدنيا ولذلك قيدت بالقدرة عليه. انتهى. (ثم ستره الله) أي ذلك الشيء المصاب (فهو إلى الله) أي أمره وحكمه من العفو العقاب مفوض إليه فلا يجب عليه عقاب عاص كما لا يجب عليه ثواب مطيع على المذهب الحق، وفيه رد على الخوارج الذين يكفرون بالذنوب، ورد على المعتزلة الذين يوجبون تعذيب الفاسق إذا مات بلا توبة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأنه تحت المشيئة، ولم يقل: لا بد أن يعذبه (إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه) يشمل من تاب من ذلك ومن لم يتب، وقال بذلك طائفة، وذهب الجمهور إلى أن من تاب لا يبقى عليه مؤاخذة ومع ذلك فلا يأمن مكر الله؛ لأنه لا إطلاع له هل قبلت توبته أو لا، وقيل:

(1/210)


يفرق بين ما يجب فيه الحد وما لا يجب، كذا في الفتح. اعلم أنه ذهب أكثر العلماء ومنهم الشافعية إلى أن الحدود كفارات وسواتر، واستدلوا بحديث عبادة هذا، وهو صريح في ذلك، ويؤيده ما رواه غير واحد من الصحابة منهم علي بن أبي طالب، أخرج حديثه أحمد والترمذي في الإيمان وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه، ومنهم أبوتميمة الجهيمي أخرجه حديثه الطبراني بإسناد حسن، ومنهم خزيمة بن ثابت أخرج حديثه أحمد، وقد تقدم لفظه، ومنهم ابن عمر وأخرج حديثه الطبراني مرفوعا، واختلفت الحنفية فيه، فقال أبولحسن الطالقاني الحنفي كما في طبقات الشافعية وأبوبكر الكاساني صاحب البدائع: إن الحدود كفارات، وصرح صاحب الدر المختار بأنها ليست بكفارة بل هي روادع وزواجر فقط. واستدل له بقوله تعالى: ?ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم? [5: 33] في آية المحاربة، فإنه يدل على أنه يعذبون في الآخرة بعد إقامة الحد عليهم في

(1/211)


الدنيا فلم يكن الحد كفارة لهم، وأجيب بأن الآية نزلت في العرنيين، ومعلوم أنهم كانوا ارتدوا بعد إسلامهم، وحينئذ فالآية خارجة عن موضع النزاع؛ لأن المسألة إنما كانت في المسلمين؛ لأن التكفير في حق المشركين لم يقل به أحد، والآية وإن لم تأخذ الكفر والارتداد في العنوان بل أدارت الحكم على وصف قطع الطريق وهو يقتضي أن يدور الحكم على هذا الوصف سواء كان من المسلم أو المرتد أو الكافر أو الذمي، ولا يقتصر على المرتد والكافر فقط، لكن يمكن أن يقال: إنه جرى ذكر العذاب في الآخرة في الآية لحال الفاعلين أي لحال كفرهم لا لحال الفعل، فإن المعصية الواحدة تختلف شدة وضعفا باعتبار حال الفاعلين، فقد تكون المعصية من المؤمن ويخف العذاب عليها رعاية لإيمانه، وقد تكون تلك المعصية بعينها من الكافر ويزاد في عقوبته لحال كفره، فقطع الطريق من المسلمين شنيع، وهو من المرتدين أشنع، وعلى هذا فلا دليل في الآية على أن المسلم لو فعل ذلك ثم أقيم عليه الحد كان له عذاب في الآخرة أيضا؛ لأنه ليس جزاء للفعل على هذا التقدير بل الشناعة في الجزاء بشناعة الفاعلين، كذا قرره الشيخ محمد أنور الحنفي. ويمكن أن يقال: إنه يحتمل أن يكون حديث عبادة مخصصا لعموم الآية أو مبينا أو مفسرا لها، واستدلوا له أيضا بقوله تعالى: ?فمن تاب من بعده ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم? [5: 39] في آية حد السرقة، قيل: هو دليل صريح على أن إقامة الحد لا تكون كفارة إلا بعد التوبة من ظلمه وإصلاح عمله. وأجيب عنه بأنه لا دليل في الآية على ذلك؛ لأن ظاهر معنى الآية: أن من تاب من بعد ظلمه، أي سرقته يعني حسن حاله في المستقبل وأصلح عمله وعزم على ترك العود إلى مثل ذلك فيقبل الله توبته ويرحمه ويطهره من جميع الذنوب، وأما ذنب هذه السرقة فقد زال بنفس إقامة حد السرقة، ولم يتوقف على التوبة، وبالجملة الآية إنما تتعلق بالتوبة والإصلاح في الاستقبال لا

(1/212)


بما تقدم من ذنب السرقة، وقيل: معنى الآية: فمن تاب أي من السرقة وأصلح أمره فإن الله يتوب عليه، أي يغفر له ويتجاوز عنه ويقبل توبته أي يسقط عنه حق الله، وأما حق الآدميين من القطع، ورد المال فلا يسقط، نعم إن عفا قبل الرفع إلى الإمام سقط القطع، كما ذهب إليه الشافعي، واستدل له أيضا بقوله تعالى: ?فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم? [24: 4-5] في آية حد القذف، قيل: هو أقوى دليل على أن إقامة الحد لا تطهر القاذف من الذنب ولا تخرجه من الفسق إلا بعد التوبة، وإنما وعد الله المغفرة والرحمة لمن تاب بعد ذلك وأصلح عمله. وأجيب عنه بأن حد القذف ليس هو الجلد فقط، بل هو مجموع أمرين أو ثلاثة أمور: الجلد، وعدم قبول الشهادة، والحكم بكونه فاسقا، لكن بينها فرق وهو أن الجلد لا يرتفع بالتوبة، فإنه يجلد التائب كالمصر بالإجماع، وأما عدم قبول الشهادة والحكم بالفسق فيزولان بالتوبة بناء على أن الاستثناء يتعلق بالجملتين، وهذا عند الأئمة الثلاثة، خلافا لأبي حنيفة، فإنه ذهب إلى أنه لا يقبل شهادة القاذف أبدا أي مادام حيا وإن تاب، وهذا لأن الاستثناء عنده يرجع إلى الجملة الأخيرة فقط، فلا يزول عنده بالتوبة إلا اسم الفسق، وأما عدم قبول الشهادة فيبقى على حاله بعد التوبة، وإصلاح العمل أيضا كالجلد، ففرق أبوحنيفة بين القذف

(1/213)


وسائر الكبائر مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر والميسر، فقال بقبول الشهادة من التائبين من هذه المعاصي بعد إقامة الحدود عليهم كالأئمة الثلاثة، وخالفهم في التائب من ذنب القذف، فلم يقبل شهادته أبدا، وإذا كان عدم قبول الشهادة داخلا في حد القذف وجزءا منه خلافا لسائر الحدود، حتى إنه لا يقبل شهادته بعد التوبة أيضا عند أبي حنيفة، ظهر منه أن حكم حد القذف مخالف لحكم سائر الحدود، فلا يتطهر القاذف من ذنب القذف إلا بالتوبة كما نص على ذلك الآية بخلاف سائر الحدود، فإنها تكون كفارة ومطهرة بنفسها من غير احتياج إلى التوبة بعد إقامة الحد، واستدل له أيضا بما سيأتي في باب الشفاعة في الحدود من حديث أبي أمية المخزومي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بلص قد اعترف اعترافا...الحديث، وفيه ((فأمر به فقطع فجيء به، فقال له رسول ا لله - صلى الله عليه وسلم -: استغفر الله وتب إليه، فقال: أستغفر الله وأتوب إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم تب عليه)) أخرجه أبوداود والنسائي وابن ماجه، قالو: لو كان الحد كفارة لما احتاج إلى الاستغفار بعد القطع مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالاستغفار، فعلم أن الحدود أصلها للزجر لا للستر والتكفير. وأجيب عنه بأن معنى قوله ((تب)) أي في الاستقبال بأن لا تفعله ثانيا، فيخرج الحديث عما نحن فيه ولا يتم الاستدلال، وقال السندي في حاشية النسائي: قوله ((استغفر الله)) – أي في حديث أبي أمية المذكور – لعل المراد الاستغفار والتوبة من سائر الذنوب، أو لعله قال ذلك ليعزم إلى عدم العود إلى مثله، فلا دليل لمن قال الحدود ليست كفارات لأهلها مع ثبوت كونها كفارات بالأحاديث الصحاح التي كادت تبلغ حد التواتر، كيف والاستغفار مما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((استغفر لذنبك))، وقد قال الله تعالى: ?لقد تاب الله على النبي? [9: 117] لمعان ومصالح ذكروا في محله،

(1/214)


فمثله لا يصلح دليلا على بقاء ذنب السرقة، والله تعالى أعلم – انتهى. وقال القاري: هذا منه - صلى الله عليه وسلم - يدل على أن الحد ليس مطهرا بالكلية مع فساد الطوية وإنما هو مطهر لعين ذلك الذنب، فلا عقاب عليه ثانيا من جهة الرب – انتهى. وتوقف بعض العلماء في كون الحدود كفارات ولم يقضوا في ذلك بشيء؛ لحديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا)) أخرجه الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأخرجه البزار وأحمد أيضا، واختلف في وصله وإرساله، وأجيب عنه بأن حديث عبادة أصح وصحته متفق عليها، بخلاف حديث أبي هريرة على ما نص عليه القاضي وغيره، فلا تعارض لكون حديث عبادة واجب التقديم فلا وجه للتوقف في كون الحدود كفارة، ولو سلم التساوي والمعارضة جمع بينهما بأنه يمكن أن يكون حديث أبي هريرة ورد أولا قبل أن يعلمه الله ثم أعلمه بعد ذلك، قال القاضي: فإن قيل: حديث عبادة هذا كان بمكة ليلة العقبة لما بايع الأنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيعة الأولى بمنى، وأبوهريرة إنما أسلم بعد ذلك بسبع سنين عام خيبر، فكيف يكون حديثه متقدما؟ قيل: يمكن أن يكون أبوهريرة ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما سمعه من صحابي آخر كان سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - قديما، ولم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك أن الحدود كفارة كما سمعه عبادة، انتهى. وقال الحافظ: الحق عندي أن حديث أبي هريرة صحيح، وهو سابق عن حديث عبادة، والمبايعة المذكورة
متفق عليه.
19- (18) وعن أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أضحى أو فطر إلى المصلى فمر على النساء فقال: يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/215)


في حديث عبادة على الصفة المذكورة لم تقع ليلة العقبة، ثم ذكر نص بيعة ليلة العقبة من مغازي ابن إسحاق وغيره، وقال بعد سرد الروايات من صحيحي البخاري ومسلم والنسائي والطبراني: فهذه أدلة ظاهرة في أن هذه البيعة صدرت بعد نزول آية الممتحنة بل بعد صدور بيعة النساء بل بعد فتح مكة وذلك بعد إسلام أبي هريرة – انتهى. هذا، وقد أطال الحافظ البحث هاهنا، وتقبه العيني فارجع إلى الفتح والعمدة وتأمل في تعقبات العيني (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم.

(1/216)


19- قوله: (وعن أبي سعيد الخدري) بضم الخاء وسكون الدال المهملة نسبة إلى خدرة، وهو أبجر بن عوف أحد أجداد أبي سعيد، اسمه سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري الخزرجي، اشتهر بكنيته، استصغر يوم أحد فرد ثم غزا بعد ذلك اثنتي عشرة غزوة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأول مشاهده الخندق، واستشهد أبوه يوم أحد، روي له ألف حديث ومائة وسبعون حديثا، اتفقا منها على ستة وأربعين، وانفرد البخاري بستة عشر، ومسلم باثنين وخمسين، روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين، قال ابن عبدالبر: كان ممن حفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سننا كثيرة، وروى عنه علما جما، وكان من نجباء الأنصار وعلمائهم وفضلائهم، قال حنظلة بن أبي سفيان عن أشياخه: لم يكن أحد من أحداث أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفقه من أبي سعيد، مات بالمدينة سنة (63) أو (64) أو (65)، وقيل: سنة (74). (في أضحى) بفتح الهمزة والتنوين واحدة أضحاة، لغة في الأضحية، أي في عيد أضحى على حذف المضاف، بل غلب على عيد النحر فحينئذ مغن عن التقدير كالفطر، وفي بعض النسخ بترك التنوين، سمي بذلك لأنه يفعل وقت الضحى وهو ارتفاع النهار. (أو فطر) شك من الراوي (إلى المصلى) هو موضع صلاة العيد في الجبانة (يا معشر النساء) أي جماعتهن، قال الليث: المعشر: كل جماعة أمرهم واحد (أريتكن) بضم الهمزة وكسر الراء على صيغة المجهول، أي أراني الله إياكن (أكثر أهل النار) بالنصب على الحال بناء على أن أفعل لا يتعرف بالإضافة كما صار إليه الفارسي وغيره، قيل: المراد أن الله تعالى أراهن في ليلة الإسراء، والظاهر أن هذه الرؤية وقعت في صلاة الكسوف كما يدل عليه رواية ابن عباس الآتية في صلاة الكسوف، وقيل: أريتكن متعد إلى ثلاثة مفاعيل: الأول التاء التي هي مفعول ناب عن الفاعل، والثاني: كن، والثالث: أكثر، أي أخبرت وأعلمت على طريق الوحي بأنكن أكثر دخولا في النار من الرجال،

(1/217)


والصدقة تقي منها، قال – عليه السلام -: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة))، ولا يعارض هذا ما أخرجه أبويعلى عن أبي هريرة في حديث الصور الطويل مرفوعا: ((فيدخل الرجل على اثنتين وسبعين زوجة مما ينشئ الله وزوجتين من ولد آدم)) وغير ذلك من الأحاديث
فقلنا: وبم يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/218)


الدالة على كون الزوجتين من نساء الدنيا، وكثرة النساء في الجنة دون النار لأنه يحتمل أن يكون ذلك في أول الأمر قبل خروج العصاة من النار بالشفاعة، وقيل: كانت الأكثرية عند مشاهدته إذ ذاك ولا تنسحب على مجموع الزمان، فتأمل (وبم) أصله بما حذفت ألف ما الاستفهامية بدخول حرف الجر عليها تخفيفا، والباء للسببية متعلقة بمقدر بعدها، والواو للعطف على مقدر قبله، والتقدير: كيف يكون ذلك وبأي شيء نكن أكثر أهل النار، أو ما ذنبنا وبم...الخ. (تكثرن اللعن) في مقام التعليل، وكان المعنى لأنكن تكثرن اللعن، وهو في اللغة الطرد والإبعاد، وفي الشرع الإبعاد من رحمة الله تعالى، قال القاري: لعل وجه التقييد بالإكثار أن اللعن يجري على ألسنتهن لاعتيادهن من غير قصد لمعناه السابق فخفف الشارع عنهن ولم يتوعدهن بذلك إلا عند إكثاره، قال: وقد يستعمل في الشتم والكلام القبيح، يعني عادتكن إكثار اللعن والشتم والإيذاء باللسان، انتهى. (وتكفرن) بضم الفاء، قال الراغب: الكفر في اللغة: ستر الشيء، وكفر النعمة وكفرانها سترها بترك أداء شكرها، والكفران في جحود النعمة أكثر استعمالا، والكفر في الدين أكثر والكفور فيهما. (العشير) أي المعاشر، وهو المخالط، والمراد به الزوج أو أعم من ذلك، وكفران العشير جحد نعمته وإحسانه واستقلال ما كان منه. (ما رأيت ناقصات عقل ودين) من مزيدة للاستغراق بمجيئها بعد النفي، صفة لمفعوله المحذوف، أي ما رأيت أحدا من ناقصات. العقل: غزيرة في الإنسان يدرك بها المعنى ويمنعه عن القبائح، وهو نور الله في قلب المؤمن. (أذهب) بالنصب، وهو صفة أخرى للمفعول المحذوف إن كان رأيت بمعنى أبصرت، وهو مفعول ثان له إن كان بمعنى علمت، والمفضل عليه مفروض مقدر، وهو أفعل التفضيل من الإذهاب لمكان اللام في قوله (للب الرجل) أي أكثر إذهابا للب، وهذا جائز على رأي سيبويه حيث جوزه من الثلاثي المزيد، واللب: العقل الخالص من شوائب الهوى،

(1/219)


وسمي بذلك لكونه خالص ما في الإنسان من قواه كاللباب من الشيء، وقيل: ما ذكا من العقل، فكل لب عقل ولا يعكس. (الحازم) الضابط لأمره من الحزم، وهو ضبط الرجل أمره وأخذه بالثقة، وهذه مبالغة في وصفهن بذلك؛ لأن الضابط لأمره إذا كان ينقاد لهن فغير الضابط أولى (من إحداكن) متعلق بأذهب (وما نقصان ديننا وعقلنا) هذا استفسار منهن عن وجه نقصان دينهن، وذلك لأنه خفي عليهن ذلك حتى استفسرن، وما ألطف ما أجابهن به - صلى الله عليه وسلم - من غير تعنيف ولا لوم بل خاطبهن على قدر عقولهن وفهمهن (أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل) إشارة إلى قوله تعالى: ?فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان? [2: 282]؛ لأن الاستظهار بأخرى مؤذن بقلة ضبطها وهو مشعر بنقص عقلها (فذلك) بكسر الكاف خطابا للواحدة التي تولت الخطاب، ويجوز
من نقصان عقلها، قال: أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان دينها))، متفق عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/220)


فتحها على أنه للخطاب العام، والإشارة للحكم السابق (من نقصان عقلها) فيه دلالة على أن ملاك الشهادة العقل مع اعتبار الأمانة والصدق، وعلى أن شهادة المغفل ضعيف وإن كان قويا في الدين والأمانة. (قال) هو موجود في أكثر النسخ، وأما في أصل السيد جمال الدين ومتن صحيح البخاري فغير موجود، قاله القاري. (فذلك من نقصان دينها) قال النووي: قد يستشكل معنى وصفه - صلى الله عليه وسلم - النساء بنقصان الدين لتركهن الصلاة والصوم في زمن الحيض، وليس بمشكل، فإن الدين والإيمان والإسلام مشتركة في معنى واحد، وقد قدمنا أن الطاعات تسمى إيمانا ودينا، وإذا ثبت هذا علمنا أن من كثرت عبادته زاد إيمانه ودينه، ومن نقصت عبادته نقص إيمانه ودينه – انتهى. قال الحافظ: وليس المقصود بذكر النقص في النساء لومهن على ذلك؛ لأنه من أصل الخلقة، لكن التنبيه على ذلك تحذيرا من الافتتان بهن، ولذا رتب العذاب على ما ذكر من الكفران وغيره لا على النقص، وليس نقص الدين منحصرا فيما يحصل به الإثم بل في أعم من ذلك، فإنه قد يكون على وجه لا إثم فيه كمن ترك الجمعة أو الغزو أو غير ذلك مما لا يجب عليه لعذر، وقد يكون على وجه هو مكلف به كترك الحائض الصلاة والصوم، قال: فالنقص أمر نسبي، فالكامل مثلا ناقص عن الأكمل ومن ذلك الحائض لا تأثم بترك الصلاة زمن الحيض لكنها ناقصة عن المصلي. وفي الحديث دليل على أن جحد النعم حرام، وكذا كثرة استعمال الكلام القبيح كاللعن والشتم. واستدل النووي على أنهما من الكبائر بالتوعد عليهما بالنار، وفيه ذم اللعن وهو الدعاء بالإبعاد من رحمة الله، وهو محمول على ما إذا كان في معين، وفيه إطلاق الكفر على الذنوب التي لا تخرج من الملة تغليظا على فاعلها، لقوله في رواية أخرى ((بكفرهن)) ففيه دلالة على جواز إطلاق الكفر على غير الكفر بالله ككفر العشير والإحسان والنعمة والحق، لكنه كفر دون كفر أي كفر أدون وأخف من الكفر بالله،

(1/221)


فالكفر متنوع متفاوت زيادة ونقصانا بعضه أخف من بعض، فكما أن الإيمان ذو شعب كثيرة، أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق وبينها مراتب كثيرة، كذلك في الكفر مراتب بعضها أخف من بعض، وبين أعلاه وأدناه مراتب كثيرة، أو يقال: إن الكفر نوعان: كفر بالله، وله أربعة أقسام: كفر إنكار، وجحود، وعناد، ونفاق، على ما قاله الأزهري، وكفر بغير الله، وهو كفر دون كفر، أي مغاير للكفر بالله، فالأول مخرج من الملة موجب للخلود، والثاني موجب للفسوق فقط غير موجب للخلود، مثلا الرجل يقر بالوحدانية والنبوة بلسانه ويعتقد ذلك بقلبه لكنه يرتكب الكبائر من القتل والسعي في الأرض بالفساد وكفران الحقوق والنعم ونحو ذلك، ويوجد في ذلك صحة تأويل الأحاديث التي أطلق فيه الكفر على الكبائر مثل قوله: ((وقتاله كفر))، وقوله: ((من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر))، وغير ذلك، فلا حجة فيها للخوارج الذين يكفرون مرتكب الكبيرة. (متفق عليه) وأخرجه
20- (19) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى: ((كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أيضا النسائي وابن ماجه، وأخرجه مسلم عن أبي هريرة وابن عمر أيضا وأخرجاه عن جابر أيضا.

(1/222)


20- قوله: (قال الله تعالى) هذا من الأحاديث الإلهية، وتسمى القدسية والربانية، وهي أكثر من مائة، وقد جمعها بعضهم في جزء كبير، والفرق بين الحديث القدسي وبين القرآن أن الأول يكون بإلهام أو منام أو بواسطة ملك بالمعنى فيعبره بلفظه وينسبه إلى ربه، والثاني لا يكون إلا بإنزال جبريل باللفظ المعين، وهو أيضا متواتر بخلاف الأول فلا يكون حكمه حكمه في الفروع وبقية الأحاديث وإن كانت كلها بالوحي لقوله تعالى: ?وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى?، لكنها لم يضفها إلى الله تعالى ولم يروها عنه تعالى، فهي في الدرجة الثالثة، وإن شئت التفصيل فارجع إلى قواعد التحديث (39-44). (كذبني) بتشديد الذال المعجمة من التكذيب، وهو نسبة المتكلم إلى أن خبره خلاف الواقع، والمعنى نسب إلي الكذب حيث أخبرته أني أعيده يوم القيامة، وهو ينكر البعث ويكذبني في ذلك الإخبار (ابن آدم) المراد به بعض بني آدم وهم من أنكر البعث من العرب وغيرهم من عباد الأوثان والدهرية وغيرهم.( ولم يكن) أي ما صح وما استقام وما كان ينبغي له (ذلك) أي التكذيب (وشتمني) ابن آدم أي بعضهم، وهم من ادعى أن لله ولدا من اليهود والنصارى، ومن مشركي العرب من قال إن الملائكة بنات الله، والشتم توصيف الشيء بما فيه ازدراء ونقص، وإثبات الولد له كذلك؛ لأنه قول بمماثلة الولد في تمام حقيقته، وهي مستلزمة للإمكان المتداعي إلى الحدوث، وذلك غاية النقص في حق البارئ تعالى، ولأن الحكمة في التوالد استبقاء النوع فلو كان البارئ تعالى متخذا ولدا لكان مستخلفا خلفا يقوم بأمره بعد عصره، فيلزم زواله وفناءه سبحانه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. (ولم يكن له ذلك) أي الشتم. (فقوله لن يعيدني) الإعادة هي الإيجاد بعد العدم المسبوق بالوجود، فالمعنى لن يحييني بعد موتي كما بدأني أي أوجدني عن عدم وخلقني ابتداء أي إعادة مثل بدئه إياي أو لن يعيدني مماثلا لما بدأني عليه. (وليس أول

(1/223)


الخلق) من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف، أي ليس الخلق الأول للمخلوقات أو من قبيل حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي ليس أول خلق الخلق، والخلق بمعنى المخلوق، أو اللام عوض عن المضاف إليه أي أول خلق الشيء (بأهون) الباء زائدة للتأكيد، من هان الأمر: إذا سهل (علي من إعادته) أي المخلوق أو الشيء، بل هو يستويان في قدرتي بل الإعادة أسهل عادة لوجود أصل البنية وأثرها، أو أهون على زعمكم وبالنسبة إليكم، ففيه إشارة إلى تحقيق المعاد وإمكان الإعادة، وهو أن ما يتوقف عليه تحقق البدن من أجزائه وصورته لو لم يكن وجوده ممكنا لما وجد أولا وقد وجد، وإذا أمكن
وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفوا أحد)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/224)


لم يمتنع لذاته وجوده ثانيا وإلا لزم انقلاب الممكن لذاته ممتنعا لذاته وهو محال، وتنبيه على مثال يرشد العامي وهو ما يرى في الشاهد أن من اخترع صنعة لم ير مثلها ولم يجد لها أصلا، صعب عليه ذلك وتعب فيها تعبا شديدا وافتقر فيها إلى مكابدة أفعال ومعاونة أعوان ومرور أزمان، ومع ذلك فكثيرا لا يستت له الأمر ولا يتم له المقصود، ومن أراد إصلاح منكسر أو إعادة منهدم، وكانت العدد حاصلة والأصول باقية هان عليه ذلك وسهل جدا، فيا معشر الغواة ! تحيلون إعادة أبدانكم وأنتم تعترفون بجواز ما هو أصعب منها، بل هو كالمتعذر بالنسبة إلى قدركم وقواكم، وأما بالنسبة إلى قدرة الله تعالى فلا سهولة ولا صعوبة، يستوي عنده تكوين بعوض طيار وتخليق فلك دوار كما قال: ?وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر? [54: 50]، والحاصل أن إنكارهم الإعادة بعد أن أقروا بالبداية تكذيب منهم له تعالى، والجملة حالية وعاملها قوله في "فقوله" وصاحبها الضمير المضاف إليه في قوله (اتخذ الله ولدا) أي اختاره سبحانه، وإنما كان ذلك شتما لما فيه من التنقيص؛ لأن الولد إنما يكون أي عادة عن والدة تحمله ثم تضعه ويستلزم ذلك سبق نكاح، والتناكح يستدعي باعثا له على ذلك، والله تعالى منزه عن جميع ذلك (وأنا الأحد) أي المنفرد المطلق ذاتا وصفاتا، وقيل: إن أحدا وواحدا بمعنى، وأصل أحد وحد بفتحتين، وقيل: ليسا مترادفين بل بينهما فرق من حيث اللفظ والمعنى جميعا من وجوه، ذكره القسطلاني في شرح البخاري نقلا عن شرح المشكاة. والجملة حالية كما مر (الصمد) فعل بمعنى مفعول كالقنص والنقص، وهو السيد المصمود أي المقصود إليه في الحوائج، الغني عن كل أحد (لم ألد ولم أولد) لأنه لما كان الواجب الوجود لذاته قديما موجودا قبل وجود الأشياء وكان كل مولود محدثا انتفت عنه الولدية، ولما كان لا يشبهه أحد من خلقه ولا يجانسه حتى يكون له من جنسه صاحبة فيتوالد انتفت عنه

(1/225)


الوالدية. ومن هذا قوله: ?أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة? [6: 102]. (ولم يكن لي كفوا) بضم الكاف والفاء وسكونها مع الهمزة وضمهما مع الواو، ثلاث لغات متواترات يعني مثلا وهو خبر كان وقوله (أحد) اسمها أخر عن خبرها رعاية للفاصلة، ولي متعلق بكفوا وقدم عليه لأنه محط القصد بالنفي، ونفي الكفو يعم الوالدية والزوجية وغيرها، قال الطيبي: ذكر الله تعالى تكذيب ابن آدم وشتمه وعظمتهما، ولعمري أن أقل الخلق وأدناه إذا نسب ذلك إليه استنكف وامتلأ غضبا وكاد يستأصل قائله، فسبحانه ما أحمله وما أرحمه ?وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا? [18: 57] ثم انظر إلى كل واحد من التكذيب والشتم وما يؤديان إليه من التهويل والفظاعة، أما الأول فإن منكر الحشر يجعل الله عزوجل كاذبا، والقرآن الذي هو مشحون بإثباته مفترى، ويجعل كلمة الله تعالى في خلق السموات والأرض عبثا ولعبا. قال الله تعالى: ?إن ربكم الله الذي خلق
21- (20) وفي رواية ابن عباس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/226)


السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرض يدبر الأمر? إلى قوله: ?ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون? [10: 3، 4] علل الله خلق السماوات والأرض والاستواء على العرض لتدبير العالم بالجزاء من ثواب المؤمن وعقاب الكافر، ولا يكون ذلك إلا في القيامة، فيلزم منه أن لو لم يكن الحشر لكان ذلك عبثا ولهوا. وقال تعالى: ?وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين? [21: 16] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك. وأما الثاني فإن قائله يحاول إزالة المخلوقات بأسرها وتخريب السماوات من أصلها، قال تعالى: ?تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا. أن دعوا للرحمن ولدا? [19: 90-91]، ثم تأمل في مفردات التركيب لفظة لفظة فإن قوله (لم يكن له ذلك) من باب ترتيب الحكم على الوصف المناسب المشعر بالعلية؛ لأن قوله (لم يكن له ذلك) نفي الكينونة التي بمعنى الانتفاء، كقوله تعالى: ?ما كان لكم أن تنبتوا شجرها? [27: 60]، أراد أن تأتي ذلك محال من غيره تعالى ومنه قوله تعالى: ?ما كان لنبي أن يغل? [3: 161] معناه: ما صح له ذلك، يعني أن النبوة تنافي الغلول، فحينئذ يجب أن يحمل لفظ ابن آدم على الوصف الذي يعلل الحكم به بحسب التلميح وإلا لم يكن لتخصيص لفظ ابن آدم دون الناس والبشر فائدة، وذلك من وجوه، أحدها: أنه تمليح إلى قوله: ?ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم? [7: 11] من الله تعالى عليهم بها، المعنى إنا أنعمنا عليكم بإيجادكم من العدم، وصورناكم في أحسن تقويم ثم أكرمنا الملائكة المقربين بالسجود لأبيكم لتعرفوا قدر الإنعام فتشكروا، فقلبتم الأمر فكفرتم ونسبتم المنعم المتفضل إلى الكذب، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ?وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون? [56: 82] أي شكر رزقكم. وثانيها: تلميح إلى قوله تعالى: ?أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة

(1/227)


فإذا هو خصيم مبين? [36: 77] المعنى أم تر أيها المكذب إلى أنا خلقناك من ماء مهين، خرجت من إحليل أبيك واستقرت في رحم أمك فصرت تخاصمني بحججك وبرهانك فيما أخبرت به من الحشر والنشر بالبرهان فأنت خصيم لي بين الخصومة، وما أحسن موقع المفاجأة التي يعطيها قوله تعالى: ?فإذا هو خصيم مبين?. وثالثها إلى قوله تعالى: ?أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم? [36: 81] المعنى أو ليس الذي خلق هذه الأجرام العظام بقادر على أن يخلق مثل هذا الجرم الصغير الذي خلق من تراب ثم من نطفة، وكذلك قوله: (أنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد) أوصاف مشعرة بعلية الحكم، أما قوله (الأحد) فإنه بنى لنفي ما يذكر معه من العدد، فلو فرض له ولد يكون مثله، فلا يكون أحدا، والصمد هو الذي يصمد إليه في الحوائج، فلو كان له ولدا لشركه فيه، فيلزم إذا فساد السماوات والأرض، وقوله (كفوا) أي صاحبة لا ينبغي له لأنه لو فرض له ذلك للزم منه الاحتياج إلى قضاء الشهوة، وكل ذلك وصف له بما فيه نقص وإزراء، وهذا معنى الشتم، والله أعلم – انتهى كلام الطيبي.
21- قوله: (وفي رواية ابن عباس) أي في هذا الحديث، قال الحافظ بعد ذكر الاختلاف بين روايتي أبي هريرة
وأما شتمه إياي فقوله: لي ولد، وسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا)) رواه البخاري.
22- (21) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تعالى: ((يؤذيني ابن آدم يسب الدهر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/228)


وابن عباس: وهو محمول على أن كلا من الصحابيين حفظ في آخره ما لم يحفظ الآخر (لي ولد) اسم جنس يشمل الذكر والأنثى (وسبحاني) وفي نسخة صحيحة بالفاء، وكذا في البخاري، وهو مضاف إلى ياء المتكلم، أي نزهت ذاتي (أن أتخذ) أي من أن أتخذ، وأن مصدرية (صاحبة) أي زوجة (أو ولدا) أو للتنويع لا للشك، ومناسبة الحديث لكتاب الإيمان من حيث إنكار الحشر والنشر ونسبة الولد إلى الله تعالى ضد للإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالله المنعوت في حديث جبريل. (رواه البخاري) عن أبي هريرة في بدء الخلق، وفي تفسير سورة الإخلاص، وعن ابن عباس في تفسير سورة البقرة، وأخرجه أحمد والنسائي أيضا عن أبي هريرة.

(1/229)


22- قوله: (يؤذيني ابن آدم) أي يقول في حقي ما أكره، وينسب إلي ما لا يليق لي أو ما يتأذى به من يجوز في حقه التأذي، وهذا من المتشابهات، والله تعالى منزه عن أن يلحقه أذى، إذ هو محال عليه، فإما أن يفوض أو يؤول كما تقدم، ويقال: هو من التوسع في الكلام، والمراد أن من وقع ذلك منه تعرض لسخط الله وغضبه. وقال الطيبي: الإيذاء إيصال المكروه إلى الغير قولا أو فعلا أثر فيه أو لم يؤثر، وإيذاء الله تعالى عبارة عن فعل ما يكرهه ولا يرضى به وكذا إيذاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, وقال تعالى: ?إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة? [33: 57]، (يسب الدهر) بصيغة المضارع استئناف بيان، يعني يقول إذا أصابه مكروه من موت أو هرم أو تلف مال أو غير ذلك: تبا للدهر وبؤسا له ويا خيبة الدهر ونحو ذلك، والدهر اسم لمدة العالم من مبدأ تكوينه إلى انقراض العالم، كانت الجاهلية تضيف المصائب والنوائب للدهر الذي هو من الليل والنهار، وهم في ذلك فرقتان، فرقة لا تؤمن بالله ولا تعرف إلا الدهر الليل والنهار اللذان هما محل للحوادث وظرف لساقط الأقدار، فتنسب المكاره إليه على أنها من فعله، ولا ترى أن لها مدبرا غيره، وهذه الفرقة هي الدهرية من الكفار والفلاسفة الدورية المنكرين للصانع، المعتقدين أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه، وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى، فكابروا المعقول وكذبوا المنقول، ولهذا قالوا: ?وما يهلكنا إلا الدهر? [45: 24] أي مر الزمان وطول العمر واختلاف الليل والنهار، وفرقة تعرف الخالق وتنزهه من أن تنسب إليه المكاره فتضيفها إلى الدهر والزمان، وعلى هذين الوجهين كانوا يسبون الدهر ويذمونه، وقد يقع من بعض عوام المؤمنين غفلة وجهالة، قال المحققون من نسب شيئا من الأفعال إلى الدهر حقيقة كفر، ومن جرى هذا اللفظ على لسانه غير معتقد لذلك فليس بكافر لكنه يكره له ذلك

(1/230)


لشبهه بأهل
وأنا الدهر بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار)) متفق عليه.
23- (22) وعن أبي موسى قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله، يدعون له
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكفر في الإطلاق (وأنا الدهر) برفع الراء، قيل: هو الصواب، ويؤيده الرواية التي فيها: ((فإن الله هو الدهر))، وهو مضاف إليه أقيم مقام المضاف، أي أنا خالق الدهر أو صاحب الدهر، فحذف اختصارا للفظ وتوسعا في المعنى، وقيل: التقدير مقلب الدهر ولذا عقبه بقوله: بيدي الأمر أقلب الليل والنهار، وقيل: الدهر في قوله (وأنا الدهر) غير الأول، فإنه بمعنى زمان مدة العالم من مبدأ التكوين إلى أن ينقرض العالم، والثاني مصدر بمعنى الفاعل ومعناه أنا الداهر المتصرف المدبر المفيض لما يحدث، واستضعف هذا القول لعدم الدليل عليه، وقيل: الأظهر في معناه أنا فاعل ما يضاف إلى الدهر من الخير والشر والمسرة والمساءة، فإذا سب ابن آدم الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور عاد سبه إلي؛ لأني فاعلها وإنما الدهر زمان جعلته ظرفا لمواقع الأمور. قال عياض: زعم بعض من لا تحقيق له أن الدهر من أسماء الله تعالى، وهو غلط، فإن الدهر مدة زمان الدنيا، وقال ابن كثير: قد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى أخذا من هذا الحديث – انتهى. ويروى بنصب الدهر على الظرفية، أي أنا المتصرف في الدهر، أو أنا مدة الدهر، أقلب ليله ونهاره، أو أنا باق مقيم أبدا لا أزول (بيدي الأمر) بالإفراد وفتح الياء وتسكن، وجوز التثنية وفتح الياء المشددة للتأكيد والمبالغة، أي الأمور كلها خيرها وشرها حلوها ومرها مما تنسبونها إلى الدهر تحت تصرفي (أقلب الليل والنهار)، وعند أحمد (ج2: ص496) بسند صحيح عن أبي هريرة: ((لا تسبوا الدهر فإن الله تعالى قال: أنا الدهر، الأيام والليالي لي أجددها وأبليها، وآتي بملوك بعد ملوك))، ولا

(1/231)


تخفى مطابقة الحديث لكتاب الإيمان على من تأمل في معناه. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود.
23- قوله: (ما أحد أصبر) أي ليس أحد أشد صبرا، وهو حبس النفس على المكروه، والله تعالى منزه عن ذلك، فالمراد لازمه وهو حبس العقوبة عن مستحقها إلى زمن آخر وتأخيرها أي ترك المعاجلة بالعقوبة، وقال الحافظ: أصبر: أفعل تفضيل من الصبر ومن أسمائه الحسنى الصبور، ومعناه: الذي لا يعاجل العصاة بالعقوبة، وهو قريب من معنى الحليم، والحليم أبلغ في السلامة من العقوبة (على أذى) قيل: إنه اسم مصدر آذى يؤذي بمعنى المؤذي، صفة محذوف أي كلام مؤذ قبيح صادر من الكفار (يسمعه) صفة أذى، وهو تتميم لأن المؤذى إذا كان بمسمع من المؤذي كان تأثير الأذى أشد، وهذا بالنسبة إلينا وإلا فالمسموع وغيره معلوم عنده تعالى (من الله) متعلق بقوله أصبر لا بيسمعه (يدعون له) بسكون الدال، وقيل بتشديدها أي ينسبون إليه، والجملة استئناف بيان للأذى، واستشكل بأن الله تعالى منزه عن تعلق الأذى به؛ لكونه صفة نقص، وهو منزه عن كل نقص، وأجيب بأن المراد أذى يلحق
الولد ثم يعافيهم ويرزقهم)) متفق عليه.
24- (23) وعن معاذ كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - على حمار ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل، فقال: ((يا معاذ هل تدري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/232)


رسله وصالحي عباده، إذ في إثبات الولد له إيذاء لهم؛ لأنه تكذيب لهم في نفي الصاحبة والولد عن الله وإنكاره لمقالتهم، فأضيف الأذى لله تعالى للمبالغة في الإنكار عليهم والاستعظام لمقالتهم (ثم يعافيهم) بدفع المكاره والبليات والمضرات عنهم (ويرزقهم) السلامة وأصناف الأموال، ولا يعجل تعذيبهم، فهو أصبر على الأذى من الخلق، لكن لا يؤخر النقمة قهرا بل تفضلا مع القدرة على الانتقام، وفي الحديث إشارة إلى أن الصبر على احتمال الأذى محمود، وترك الانتقام ممدوح، ولهذا كان جزاء كل عمل محصورا وجزاء الصبر غير محصور، قال تعالى: ?إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب? [39: 10] (متفق عليه) أخرجه البخاري في التوحيد باللفظ الذي ذكره المصنف، إلا أن فيه سمعه بصيغة الماضي مكان قوله "يسمعه"، وأخرجه أيضا في الأدب، وأخرجه مسلم في باب الكفار من كتاب صفة القيامة، وأخرجه النسائي في النعوت.

(1/233)


24- قوله: (عن معاذ) بضم الميم هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عائذ بن عدي الأنصاري الخزرجي، أبوعبدالرحمن المدني، أسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة، وشهد بدرا وما بعدها، وكان إليه المنتهى في العلم بالأحكام والقرآن، روى الترمذي وغيره عن أبي قلابة عن أنس مرفوعا في ذكر بعض الصحابة: وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا ومتصلا: ((يأتي معاذ يوم القيامة أمام العلماء برتوة))، وقال ابن مسعود: كنا نشبهه بإبراهيم – عليه السلام -، وكان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين، وقال الأعمش عن أبي سفيان حدثني أشياخ لنا فذكر قصة فيها فقال عمر: عجزت النساء أن تلدن مثل معاذ، لولا معاذ لهلك عمر، وبعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - قاضيا ومعلما إلى اليمن، وقال أبونعيم في الحلية: إمام الفقهاء وكنز العلماء، شهد العقبة وبدرا والمشاهد وكان من أفضل شباب الأنصار حلما وحياء وسخاء وكان جميلا وسيما، ومناقبه كثيرة جدا، روى عنه خلق من الصحابة والتابعين، له مائة وسبعة وخمسون حديثا، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة ومسلم بحديث، قدم اليمن في خلافة أبي بكر، وكانت وفاته بالطاعون في الشام سنة سبع عشرة أو التي بعدها، وهو قول الأكثر، وعاش أربعا وثلاثين سنة، وقيل غير ذلك (كت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم -) الردف بكسر الراء وسكون الدال، والرديف: الراكب خلف الراكب بإذنه، وردف كل شيء مؤخره، وأصله من الركوب على الردف وهو العجز، ولهذا قيل للراكب الأصلي: ركب صدر الدابة، وردفت الرجل إذا ركبت وراءه وأردفته إذا أركبته وراءك (على حمار) اسمه عفير تصغير أعفر، أهداه المقوقس أو فرزة بن عمرو (ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل) بفتح الراء وسكون الحاء المهملة، وهو للبعير كالسرج للفرس، والمراد قدر مؤخرة الرحل

(1/234)


ما حق الله على عباده، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاله النووي، والمؤخرة: هي العود التي يجعل خلف الراكب يستند إليه، بضم الميم وسكون الهمزة بعدها خاء مكسورة، وقد تفتح، وفيه لغة أخرى بفتح الهمزة والخاء المشددة المكسورة وقد تفتح، وفائدة ذكره المبالغة في شدة قربه؛ ليكون أرقع في نفس سامعه أنه ضبط ما رواه (ما حق الله على عباده، وما حق العباد على الله) قال الطيبي: الحق نقيض الباطل؛ لأنه ثابت والباطل زائل، ويستعمل في الواجب واللازم والجدير والنصيب والملك، وحق الله تعالى بمعنى الواجب واللازم، وحق العباد بمعنى الجدير لأن الإحسان إلى من لم يتخذ ربا سواه جدير في الحكمة أن يفعله، قال هذا هو الوجه، وقيل: حق العباد على الله تعالى ما وعدهم به من الثواب والجزاء، ومن صفة وعده أن يكون واجب الإنجاز فهو حق بوعده الصدق، وقوله الحق الذي لا يجوز عليه الكذب في الخبر ولا الخلف في الوعد، أو المراد أنه كالواجب في تحققه وتأكده، أو قال حقهم على الله على جهة المقابلة والمشاكلة لحقه عليهم، فالله تعالى لا يجب عليه شيء بحكم الأمر، إذ لا آمر فوقه، ولا حكم للعقل لأنه كاشف لا موجب، قال الحافظ: وتمسك بعض المعتزلة بظاهره ولا متمسك لهم مع قيام الاحتمال (قال: فإن) أي إذا فوضت فاعلم أن (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا) المراد بالعبادة عمل الطاعات واجتناب المعاصي، عطف عليها عدم الإشراك لأنه تمام التوحيد، والحكمة في عطفه على العبادة أن بعض الكفرة كانوا يدعون أنهم يعبدون الله، ولكنهم يعبدون آلهة أخرى، فاشترط نفي ذلك، والجملة حالية، والتقدير: يعبدونه في حال عدم الإشراك به، قال ابن حبان: عبادة الله إقرار باللسان وتصديق بالقلب

(1/235)


وعمل الجوارح، ولهذا قال في الجواب: فما حق العباد إذا فعلوا ذلك؟ فعبر بالفعل ولم يعبر بالقول كذا في الفتح (وحق العباد) بالنصب ويجوز رفعه (أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا) من الأشياء أو الإشراك، وفي رواية لمسلم: ((أتدري ما حقهم عليه إذا فعلوا ذلك؟)) والإشارة إلى ما تقدم من قوله: يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وفي رواية للبخاري: ((إذا فعلوه))، قال القاري: أي لا يعذبهم عذابا مخلدا، فلا ينافي دخول جماعة النار من عصاة هذه الأمة كما ثبت به الأحاديث الصحيحة – انتهى. قلت: لا حاجة إلى هذا التأويل فإن عدم التعذيب إنما هو لمن عبده ولم يشرك به شيئا، والمراد بالعبادة عمل الطاعات واجتناب المعاصي مع الإقرار باللسان والتصديق بالقلب كما علمت، ومن كان كذلك لا يعذب مطلقا ويدخل الجنة أولا معافى، ومن هاهنا ظهر أن الوعد المذكور في الحديث إنما هو بعد ملاحظة جميع ما ورد في الشرع من الأوامر والنواهي، ومراعاة جميع الفرائض والواجبات الشرعية، ثم الاتكال فيما وراء ذلك من فضائل الأعمال وفواضلها أي السنن والنوافل، وهذا لأن الإنسان أرغب في دفع المضرة من جلب المنفعة ،
قلت: يا رسول الله أفلا أبشر به الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا)) متفق عليه.
25- (24) وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعاذ رديفه على الرحل، قال: يا معاذ ! قال: ((لبيك يا رسول الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/236)


فإذا علم أن الإقرار والتصديق والعمل بالفرائض والاجتناب عن المعاصي يكفي له في نجاته من العذاب وتخليصه منه ذهب يقنع ويتكاسل عن السنن والمستحبات ولا يجتهد في تحصيل الدرجات العليا، وهذا أمر كأنه جبل عليه، ولا شك أن الاكتفاء بالفرائض والواجبات والتقاعد عن السنن والنوافل نقيصة وحرمان عن المدارج العالية، فمنع النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذا أن يخبر به لئلا يتكلوا وليجتهدوا في معالي الأمور، والدليل على أن المراد من الاتكال الآتي في الحديث الاتكال عن السنن والنوافل ما رواه الترمذي في صفة الجنة عن معاذ بن جبل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من صام رمضان وصلى الصلاة وحج البيت – لا أدري أذكر الزكاة أم لا – إلا كان حقا على الله أن يغفر له إن هاجر في سبيل الله أو مكث بأرضه التي ولد بها، قال معاذ: ألا أخبر بها الناس؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذر الناس يعملون فإن في الجنة مائة درجة، والفردوس أعلا الجنة وأوسطها، قال: فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس))، ففيه ذكر الفرائض أيضا والتحريض على الدرجة العلياء، ويدل عليه أيضا ما رواه أحمد عن معاذ، وسيأتي في آخر الفصل الثالث، فظهر أنه لم يرد في الحديث المجمل الاتكال عن الفرائض كيف وترك الفرائض لا يرجى من عوام المؤمنين وشأن الصحابة أرفع. (أفلا أبشر به الناس) الهمزة للاستفهام، ومعطوف الفاء محذوف، تقديره: أقلت ذلك فلا أبشر، وبهذا يجاب عما قيل إن الهمزة تقضي الصدارة والفاء تقتضي عدم الصدارة فما وجه جمعهما؟ قاله العيني. وقال القاري: الفاء في جواب الشرط المقدر أي إذا كان كذلك أفلا أبشرهم بما ذكرت من حق العباد، والبشارة: إيصال خبر إلى أحد يظهر أثر السرور منه على بشرته، وأما قوله: ?فبشرهم بعذاب أليم?، فمن الاستعارة التهكمية (لا تبشرهم) بذلك (فيتكلوا) منصوب في جواب النهي بتقدير أن بعد الفاء أي يعتمدوا ويتركوا الاجتهاد في حق الله

(1/237)


تعالى، فالنهي منصب على السبب والمسبب معا أي لا يكن منك تبشير فاتكال منهم، قال الطيبي: وإنما رواه معاذ مع كونه منهيا لأنه علم أن هذا الإخبار يتغير بتغير الأزمان والأحوال، والقوم يومئذ كانوا حديثي عهد بالإسلام ولم يعتادوا بتكاليفه، فلما استقاموا وتثبتوا أخبرهم به بعد ورود الأمر بالتبليغ والوعيد على الكتمان والتضييع، ثم إن معاذا مع جلالة قدره لم يخف عليه ثواب من نشر علما، ووبال من كتمه ضنا فرأى التحديث به واجبا، ويؤيده ما ورد في الحديث الذي يتلوه: فأخبر به معاذ عند موته تأثما. انتهى (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجهاد وفي الاستئذان وفي الرقاق وفي التوحيد، وأخرجه مسلم والترمذي في الإيمان وأبوداود في الجهاد مختصرا.
25- قوله: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ رديفه على الرحل) أي راكب خلفه - صلى الله عليه وسلم -، والجملة حالية معترضة بين اسم أن وخبرها، والرحل أكثر ما يستعمل في البعير لكن معاذا كان في تلك الحالة رديفه على حمار كما مر، فيأول بما تقدم في كلام النووي (قال: يا معاذ) في محل الرفع لأنه خبر أن المتقدمة (لبيك) بفتح اللام مثنى مضاف بني للتكرير والتكثير من
وسعديك، قال: يا معاذ ! قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: يا معاذ ! قال: لبيك يا رسول الله وسعديك – ثلاثا -، قال: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/238)


غير حصر، من لب أي أجاب أو أقام، أي أجبت لك إجابة بعد إجابة، أو أقمت على طاعتك إقامة بعد إقامة، وكان حقه أن يقال لبالك فثنى على معنى التأكيد، وقال العيني: قال ابن الأنباري: في لبيك أربعة أقوال، أحدها: إجابتي لك، مأخوذ من لب بالمكان وألب به: إذا أقام به، وقالوا: لبيك فثنوا لأنهم أرادوا إجابة بعد إجابة كما قالوا حنانيك أي رحمة بعد رحمة، والثاني: اتجاهي يا رب وقصدي لك، فثنى للتأكيد أخذا من قولهم داري تلب دارك أي تواجهها، والثالث: محبتي لك يا رب، من قول العرب امرأة لبة إذا كانت محبة لولدها عاطفة عليه. الرابع: إخلاصي لك يا رب، من قولهم: حسب لباب إذا كان خالصا محضا، ومن ذلك لب الطعام ولبابه (وسعديك) تثنية سعد، والمعنى أنا مسعد طاعتك إسعادا بعد إسعاد، فثنى للتأكيد وتكرير النداء بقوله (يا معاذ) لتأكيد الاهتمام بما يخبر به وليكمل تنبيه معاذ فيما يسمعه، فيكون أوقع في النفس وأشد في الضبط والحفظ (ثلاثا) أي قيلا ثلاثا، وهو يتعلق بقول كل واحد من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ أي وقع هذا النداء والجواب ثلاث مرات (ما من أحد) من زائدة لاستغراق النفي، وأحد مبتدأ وصفته قوله (يشهد) وخبر المبتدأ قوله: إلا حرمه الله على النار، وهو استثناء مفرغ أي ما من أحد يشهد محرم على شيء إلا محرما على النار، والتحريم بمعنى المنع، قاله القاري. وقال العيني: كلمة ما للنفي، وكلمة من زائدة لتأكيد النفي، وأحد اسم ما ويشهد خبرها وأن مفسرة، وإلا حرمه الله على النار استثناء من أعم عام الصفات، أي ما أحد يشهد كائنا بصفة التحريم، انتهى. فتأمل (صدقا) يجوز أن يكون حالا عن فاعل يشهد بمعنى صادقا، أو يكون صفة مصدر محذوف أي شهادة صدقا، وقال القاري: هو مصدر فعل محذوف أي يصدق صدقا، وقوله (من قلبه) صفة صدقا؛ لأن الصدق قد لا يكون من قلب أي اعتقاد كقول المنافقين: ?إنك لرسول الله?، وقال العيني: قوله من قلبه يجوز

(1/239)


أن يتعلق بقوله صدقا، أي يشهد بلفظه ويصدق بقلبه، فالشهادة لفظية، ويجوز أن يتعلق بقوله يشهد، فالشهادة قلبيه أي يشهد بقلبه ويصدق بلسانه، قال السندهي: الشهادة فعل اللسان، وفعل القلب لا يسمى شهادة، فجعل من قلبه متعلقا بيشهد على معنى أنه يشهد بالقلب غير ظاهر، نعم يمكن جعله متعلقا به على معنى شهادة ناشئة من مؤاطاة قلبه، لكن لا يبقى حينئذ لقوله صدقا كثير فائدة – انتهى. (إلا حرمه الله على النار) ظاهر هذا يقتضي عدم دخول جميع من شهد الشهادتين النار لما فيه من التعميم والتأكيد، وهو مصادم للأدلة القطعية الدالة على دخول طائفة من عصاة الموحدين النار ثم يخرجون بالشفاعة، وقد أجيب عنه بأجوبة، منها أن ذلك لمن قالها عند الندم والتوبة ومات على ذلك قبل أن يتمكن من الإتيان بفرض آخر، وهذا قول البخاري، ومنها أن المراد بالتحريم تحريم الخلود لا أصل الدخول، ومنها أنه خرج مخرج الغالب إذ الغالب
قال: يا رسول الله ! أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: إذا يتكلوا)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/240)


أن الموحد يعمل بالطاعات ويجتنب المعاصي، ومنها أن ذلك لمن قال الكلمة وأدى حقها وفريضتها ليكون الامتثال والانتهاء مندرجين تحت الشهادة، وهذا قول الحسن، ومنها أن المراد تحريم جملته؛ لأن النار لا تأكل موضع السجود من المسلم وكذا لسانه الناطق بالتوحيد، ومنها أن معناه حرمه الله على النار الشديدة المؤبدة التي أعدها للكافرين وإن عمل الكبائر، وقد أوضحه الشاه ولي الله في حجة الله، ومنها أن ذلك يختص لمن أخلص، والإخلاص يقتضي تحقيق القلب بمعناها، ولا يتصور حصول التحقيق مع الإصرار على المعصية لامتلاء القلب بمحبة الله تعالى وخشيته، فتنبعث الجوارح إلى الطاعة وتنكف عن المعصية، ومنها ما قاله الطيبي: إن قوله صدقا أقيم هنا مقام الاستقامة؛ لأن الصدق يعبر به قولا عن مطابقة القول المخبر عنه، ويعبر به فعلا عن تحري الأخلاق المرضية كقوله تعالى: ?والذي جاء بالصدق وصدق به? [39: 32]، أي حقق ما أورده قولا بما تحراه فعلا – انتهى. وحاصل ما قال: إن ذلك مقيد بمن عمل الأعمال الصالحة، قال ولأجل خفاء ذلك لم يؤذن لمعاذ في التبشير به، ومنها أنه مقيد بوجود شرائط وارتفاع موانع كما ترتب الأحكام على أسبابها المقتضية المتوقفة على انتفاء الموانع، فإذا تكامل ذلك عمل المقتضى علمه، وإنما يذكر الكلام في مواقع الوعد والبشارة مرسلا مع كون الشرائط والموانع معتبرة وملحوظة هناك لظهوره، ولأن المناسب للبشارة الإجمال والإبهام، فلا يتعرض فيها لتحقق الشرائط وانتفاء الموانع واستيفاء الأمور الواجبة، والحاصل أن الامتثال بالطاعات والاجتناب عن المعاصي مراعى هاهنا، وإن لم يذكر في العبارة، وهذا لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد كان فرغ من ذكر أكثر الفرائض والمناهي، وتفصيلها واحدة واحدة، والترغيب في الطاعات طاعة طاعة، والترهيب في المعاصي معصية معصية؛ لأن مثل هذا الحديث وقع لأبي هريرة كما رواه مسلم، وصحبته متأخرة عن نزول أكثر الفرائض، كذا

(1/241)


ورد نحوه من حديث أبي موسى رواه أحمد بإسناد حسن، وكان قدومه في السنة التي قدم فيها أبوهريرة، فاستغنى عن ذكرها في كل مرة؛ لأنه قد بين لهم أن الأعمال الصالحة لابد منها في الإيمان، وأن المعاصي مضرة موجبة لسخط الله، فحصلت غنية عن تكريرها في كل موضع لكون المعلوم كالمذكور، وإنما خص كلمة الشهادتين بالذكر من بين أجزاء الإيمان لكونها أصلا وأساسا للكل ومدارا للحياة الأبدية، وحاصل الكلام أن تحريم النار وإن حصل بالمجموع لكنه خص من هذا المجموع ما كان أهم من بينها وهو الكلمة، فهي كأصل الشجرة فإنه لا حياة لها بدون الأصل، وهو أحسن الأجوبة عندي، وهو نحو قول الحسن البصري. (فيستبشروا) بحذف النون؛ لأن الفعل ينصب بعد الفاء المجاب بها بعد النفي والاستفهام والعرض والتقدير: فأن يستبشروا أي يفرحوا بأن يظهر أثر السرور على بشرتهم (إذا يتكلوا) بتشديد المثناة الفوقية وكسر الكاف، وإذا حرف جواب وجزاء، وقد يستعمل لمحض الجواب كما هنا، أي لا تخبرهم بذلك لأنك إن أخبرتهم يعتمدوا على الكلمة والفرائض ويتركوا فضائل الأعمال وفواضلها من السنن والنوافل فينجروا
فأخبر بها معاذ عند موته تأثما)) متفق عليه
26- (25) وعن أبي ذر قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثوب أبيض وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/242)


إلى نقصان درجاتهم وتنزل حالاتهم، وهذا حكم الأغلب من العوام وإلا فالخواص كلما بشروا ازدادوا في العبادة، فتضمن هذا الحديث أنه يخص بالعلم قوم فيهم الضبط وصحة الفهم، ولا يبذل المعنى اللطيف لمن لا يستأهله، ومن يخاف عليه الترخص والاتكال لتقصير فهمه. (فأخبر بها) أي بهذه البشارة (عند موته) أي موت معاذ (تأثما) مفعول له، وهو بفتح الهمزة وتشديد المثلثة المضمومة، أي تجنبا وتحرزا عن الوقوع في إثم كتمان العلم، إذ في الحديث: ((من كتم علما ألجم بلجام من نار))، فإن قلت: سلمنا أنه تأثم من الكتمان، فكيف لا يتأثم من مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التبشير؟ أجيب بأن النهي كان مقيدا بالاتكال، فأخبر به من لا يخشى عليه ذلك، وإذا زال القيد زال المقيد، أو أن معاذا عرف أنه لم يكن المقصود من النهي التحريم بل هو محمول على التنزيه وإلا لما كان يخبر به أصلا، والحاصل أنه اطلع على أن النهي للمصلحة لا للتحريم، فلذلك أخبر لعموم الآية بالتبليغ، والله أعلم (متفق عليه) أخرجه البخاري في أواخر العلم، ومسلم في الإيمان، وهو من مسند أنس، ذكر فيه حكم الشهادتين، والذي قبله من مسند معاذ، ذكر فيه ما يتعلق بحق الله على العباد، قال الحافظ في شرح حديث معاذ المتقدم في باب اسم الفرس والحمار من كتاب الجهاد ما لفظه: تقدم في العلم من حديث أنس بن مالك أيضا لكن فيما يتعلق بشهادة أن لا إله إلا الله، وهذا فيما يتعلق بحق الله على العباد، فهما حديثان، ووهم الحميدي ومن تبعه حيث جعلوهما حديثا واحدا، نعم وقع في كل منهما منعه - صلى الله عليه وسلم - أن يخبر بذلك الناس لئلا يتكلوا، ولا يلزم من ذلك أن يكونا حديثا واحدا، وزاد في الحديث الذي في العلم: فأخبر به معاذ عند موته تأثما، ولم يقع ذلك هنا – انتهى.

(1/243)


26- قوله: (عن أبي ذر) الغفاري الزاهد المشهور الصادق اللهجة، في اسمه أقوال أشهرها جندب بن جنادة، كان من كبار الصحابة قديم الإسلام، يقال: أسلم بمكة بعد أربعة فكان خامسا في الإسلام ثم انصرف إلى بلاد قومه فأقام بها حتى قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة بعد الخندق، وله في إسلامه خبر حسن ذكره ابن عبدالبر في الاستيعاب، والحافظ في الإصابة، روي مرفوعا: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر))، حسنه الترمذي من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص، وقال أبوداود: كان يوازي ابن مسعود في العلم، ومناقبه وفضائله كثيرة جدا، روي له مائتا حديث وأحد وثمانون حديثا، اتفقا على اثني عشر، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بتسعة عشر، سكن الربذة إلى أن مات بها سنة (32) في خلافة عثمان، وكان يتعبد قبل أن يبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، روى عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين. (أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثوب أبيض) حال من النبي - صلى الله عليه وسلم - (وهو نائم) عطف على الحال (ثم أتيته وقد استيقظ) حال من الضمير المنصوب، وفائدة ذكر الثواب والنوم والاستيقاظ تقرير التثبت والإتقان فيما يرويه في
فقال: ((ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق؟ قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/244)


آذان السامعين ليتمكن في قلوبهم (ما من عبد قال لا إله إلا الله) وإنما لم يذكر "محمد رسول الله" لأنه معلوم أنه بدونه لا ينفع (ثم مات على ذلك) أي الإقرار والاعتقاد، وثم للتراخي في الرتبة؛ لأن العبرة بالخواتيم، وفيه إشارة إلى الثبات على الإيمان حتى الموت احترازا عمن ارتد ومات عليه، فحينئذ لا ينفع إيمانه السابق (إلا دخل الجنة) استثناء مفرغ، أي لا يكون له حال من الأحوال إلا حال استحقاق دخول الجنة، قال الحافظ: ليس في قوله ((دخل الجنة)) من الإشكال ما تقدم في السياق الماضي، أي في حديث أنس المتقدم؛ لأنه أعم من أن يكون قبل التعذيب أو بعده – انتهى. ففيه إشارة إلى أنه مقطوع له بدخول الجنة، لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرا عليها دخل الجنة أولا، وإن كان صاحب كبيرة مات مصرا عليها فهو تحت المشيئة، فإن عفى عنه دخل أولا وإلا عذب بقدرها ثم أخرج من النار وخلد في الجنة، كذا قرروا في شرح الحديث، والظاهر أن الذي مات على التوحيد موعود بهذا الحديث بدخول الجنة ابتداء، وقد تقدم أن الائتمار بالطاعات والانتهاء عن المعاصي مراعى في هذه الأحاديث، ورفع الموانع وتحقق الشرائط ملحوظ ومعتبر في مواقع الوعد والوعيد، وإنما ذكر الكلام مرسلا من غير تعرض للقيود لكونها معلومة، ولأن المناسب في حق الوعد والبشارة هو الإجمال والإبهام، وهذا كقولهم "من توضأ صحت صلاته" أي مع سائر الشرائط والأركان، وعلى هذا معنى الحديث: إن من مات مؤمنا بجميع ما يجب الإيمان به مؤتمرا بالطاعات ومحترزا عن المعاصي دخل الجنة ابتداء، والله أعلم. (قلت: وإن زنى وإن سرق) قال ابن مالك: حرف الاستفهام في أول هذا الكلام مقدر، ولابد من تقديره أي أدخل الجنة وإن زنى وإن سرق؟ وقال غيره: التقدير: أو إن زنى أو إن سرق دخل الجنة، وتسمى هذه الواو واو المبالغة، و"إن" بعدها وصلية، وجزاءها محذوف لدلالة ما قبلها عليه، قاله القاري. (قال: وإن زنى وإن سرق)

(1/245)


أي وإن ارتكب كل كبيرة فلابد من دخوله الجنة إما ابتداء إن عفي عنه، أو بعد دخوله النار حسبما نطقت به الأخبار، وإنما ذكر من الكبائر نوعين ولم يقتصر على واحد؛ لأن الذنب إما حق الله وهو الزنا، أو حق العباد وهو أخذ مالهم بغير حق، وفي تكريره أيضا معنى الاستيعاب والعموم كقوله تعالى: ?ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا? [19: 62] أي دائما، قاله الطيبي، وفيه دليل على أن الكبيرة لا تسلب اسم الإيمان فإن من ليس بمؤمن لا يدخل الجنة وفاقا، وأنها لا تحبط الطاعات لتعميمه - صلى الله عليه وسلم - الحكم وعدم تفصيله، وأن صاحبها لا يخلد في النار، وأن عاقبته دخول الجنة، ففيه رد على الخوارج والمعتزلة الذي يدعون وجود خلود من مات من مرتكبي الكبائر من غير
على رغم أنف أبي ذر))، وكان أبوذر إذا حدث بهذا قال: وإن رغم أنف أبي ذر، متفق عليه.
27- (26) وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبدالله ورسوله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/246)


توبة في النار (على رغم أنف أبي ذر) بفتح الراء وضمها وكسرها - أي كراهة منه (وإن رغم أنف أبي ذر) بكسر الغين وقيل بالفتح والضم، أي لصق بالرغام - بفتح الراء - وهو التراب، ويستعمل مجازا بمعنى كره أو ذل، إطلاقا لاسم السبب على المسبب، وأما تكرير أبي ذر فلاستعظام شأن دخول الجنة مع اقتراف الكبائر وتعجبه منه؛ وذلك لشدة نفرته من معصية الله تعالى وأهلها، وأما تكريره - صلى الله عليه وسلم - فلإنكار استعظامه وتحجيره واسعا، أي أتبخل يا أباذر برحمة الله، فرحمة الله واسعة على خلقه وإن كرهت ذلك، وأما حكاية أبي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رغم أنف أبي ذر فللتشرف والافتخار (متفق عليه) أخرجه البخاري في اللباس، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أحمد (ج5: ص166) وابن حبان وغيرهما أيضا.

(1/247)


27- قوله: (وأن عيسى عبدالله) قال النووي: هذا حديث عظيم الموقع، وهو من أجمع الأحاديث المشتملة على العقائد، فإنه جمع فيه ما يخرج عنه جميع ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعدهم، وقال الطيبي: في ذكر عيسى تعريض بالنصارى وإيذان بأن إيمانهم مع قولهم بالتثليث شرك محض، وكذا قوله (عبده ورسوله) تعريض باليهود في إنكارهم رسالته وانتمائهم إلى ما لا يحل من قذفه أمه (وابن أمته) تعريض بالنصارى وتقرير لعبديته، أي هو عبدي وابن أمتي، كيف ينسبونه إلى البنوة؟ وتعريض باليهود ببراءة ساحته من قذفهم، فالإضافة في أمته إذا للتشريف، (وكلمته) إشارة إلى أنه حجة الله على عباده، أبدعه من غير أب، وأنطقه في غير أوانه، وأحيى الموتى على يده، فالإضافة للتشريف، وقيل: سمي بكلمة الله لأنه أوجده بقوله ?كن?، فلما كان بكلامه سمي به، وقيل لما انتفع بكلامه سمي به، كما يقال: فلان سيف الله وأسد الله، وقيل: لما قال في صغره: ?إني عبدالله? (ألقاها إلى مريم) استئناف بيان، أي أوصلها الله تعالى إليها وحصلها فيها (وروح منه) قيل: سماه بالروح لما كان له من إحياء الموتى بإذن الله، فكان كالروح، أو لأنه ذو روح وجد من غير جزء من ذي روح كالنطفة المنفصلة عن حي وإنما اخترع اختراعا من عند الله تعالى، قال الطيبي: الإضافة في أمته للتشريف، وعلى هذا تسميته بالروح ووصفه بقوله ((منه)) إشارة إلى أنه – عليه الصلاة والسلام – مقربه وحبيبه، وتعريض باليهود بحطهم من منزلته، وتنبيه للنصارى على أنه مخلوق من المخلوقات، وهذا كقوله تعالى: ?وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا? [45: 13]، فمعنى قوله "روح منه" أي كائن منه وحاصل
والجنة والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)) متفق عليه.
28- (27) وعن عمرو بن العاص
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/248)


من عنده وهو خالقه وموجده بقدرته، كما أن معنى الآية أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه وحاصلة من عنده، أي أنه مكون كل ذلك وموجده بقدرته وحكمته ثم سخره لخلقه (والجنة) منصوب ويرفع (والنار حق) مصدر مبالغة في الحقية، وإنهما عين الحق، كزيد عدل، أو صفة مشبهة أي ثابت، وأفرد لأنه مصدر أو لإرادة كل واحدة منهما، وفيه تعريض بمن ينكر دار الثواب والعقاب (أدخله الله الجنة) ابتداء وانتهاء، والجملة جواب الشرط أو خبر المبتدأ (على ما كان) حال من ضمير المفعول من قوله "أدخله الله" أي كائنا على ما كان عليه موصوفا به (من العمل) من صلاح أو فساد، لكن أهل التوحيد لابد لهم من دخول الجنة، ويحتمل أن يكون معنى قوله "على ما كان من العمل" أي يدخل أهل الجنة الجنة على حسب أعمال كل منهم في الدرجات، كذا في الفتح، قال القسطلاني: في الحديث أن عصاة أهل القبلة لا يخلدون في النار لعموم قوله: ((من شهد أن لا إله إلا الله))، وأنه تعالى يعفو عن السيئات قبل التوبة واستيفاء العقوبة؛ لأن قوله (على ما كان من العمل) حال من قوله (أدخله الله الجنة)، ولا ريب أن العمل غير حاصل حينئذ بل الحاصل حال إدخاله استحقاق ما يناسب عمله من الثواب والعقاب، لا يقال: إن ما ذكر يستدعي أن لا يدخل أحد من العصاة النار؛ لأن اللازم منه عموم العفو وهو لا يستلزم عدم دخول النار؛ لجواز أن يعفو عن بعضهم بعد الدخول وقبل استيفاء العذاب، وقال الطيبي: التعريف في العمل للعهد والإشارة به إلى الكبائر، يدل له نحو قوله "وإن زنى وإن سرق" في حديث أبي ذر، وقوله (على ما كان) حال، والمعنى: من شهد أن لا إله إلا الله يدخل الجنة في حال استحقاقه العذاب بموجب أعماله من الكبائر، أي حال هذا مخالفة للقياس في دخول الجنة، فإن القياس يقتضي أن لا يدخل الجنة من شأنه هذا كما زعمت المعتزلة، وإلى هذا المعنى ذهب أبوذر في قوله ((وإن زنى وإن سرق))، ورد بقوله: ((وإن زنى وإن سرق على

(1/249)


رغم أنف أبي ذر)) – انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأنبياء، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضا أحمد في مسنده (ج5: ص314)، والنسائي في التفسير وفي اليوم والليلة.
28- قوله: (وعن عمرو) بالفتح (بن العاص) بن وائل السهمي القرشي، أسلم عام الحديبية، وأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - على جيش ذات السلاسل ثم استعمله على عمان فقبض النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أميرها، وكان أحد أمراء الأجناد في فتوح الشام، وافتتح مصر في عهد عمر بن الخطاب وعمل عليها له ولعثمان ثم عمل عليها زمن معاوية منذ غلب عليها معاوية إلى أن مات عمرو، أخرج أحمد من حديث ابن أبي مليكة عن طلحة أحد العشرة رفعه: ((عمرو بن العاص من صالحي قريش)) ورجال سنده ثقات إلا أن فيه انقطاعا بين ابن أبي مليكة وطلحة، وقال مجاهد عن الشعبي: دهاة العرب في الإسلام أربعة، فعد منهم عمرا، وقال فأما عمرو فللمعضلات، وقال أبوعمر: كان عمرو من أبطال قريش في الجاهلية
قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أبسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي، فقال: ما لك يا عمرو؟ قلت: أردت أن أشترط، قال تشترط ماذا؟ قلت: أن يغفر لي، قال: أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/250)


مذكورا بذلك فيهم، وفضائله ومناقبه كثيرة جدا، قال الخزرجي: له تسعة وثلاثون حديثا، اتفقا على ثلاثة، وانفرد البخاري بطرف حديث، ومسلم بحديثين، مات بمصر سنة (43) وله (90) سنة، ودفن بالمقطم، وخلف أموالا جزيلة، واعلم أنهم اختلفوا في لفظ العاصي المذكور هل هو بالياء أو بدونها؟ قال الزرقاني في شرح الموطأ: بالياء وبحذفها والصحيح بالياء، وقال في شرح المواهب: العاص بالياء وحذفها، والصحيح الأول عند أهل العربية، وهو قول الجمهور كما قال النووي وغيره، وفي تبصير المنتبه قال النحاس: سمعت الأخفش يقول: سمعت المبرد يقول: هو بالياء لا يجوز حذفها، وقد لهجت العامة بحذفها، قال النحاس: هذا مخالف لجميع النحاة يعني أنه من الأسماء المنقوصة فيجوز فيه إثبات الياء وحذفها، كذا في التعليق الممجد، وقال القاري: الأصح عدم ثبوت الياء إما تخفيفا أو بناء على أنه أجوف، ويدل عليه ما في القاموس: الأعياص من قريش أولاد أمية بن عبد شمس الأكبر، وهم العاص وأبوالعاص والعيص وأبوالعيص، فعلى هذا لا يجوز كتابة العاص بالياء ولا قراءته بها لا وقفا ولا وصلا، فإنه معتل العين، بخلاف ما يتوهم بعض الناس أنه اسم فاعل من عصى، فحينئذ يجوز إثبات الياء وحذفه وقفا ووصلا بناء على أنه معتل اللام – انتهى. (ابسط يمينك) أي افتحها ومدها (فلأبايعك) بكسر اللام وفتح العين على الصحيح، والتقدير لأبايعك تعليلا للأمر والفاء مقحمة، وقيل: بضم العين، والتقدير فأنا أبايعك، وأقحم اللام توكيدا، ويحتمل وجوها أخرى، ذكرها القاري، (فقبضت يدي) بسكون الياء وتفتح أي إلى جهتي (ما لك يا عمرو) أي أي شيء خطر لك حتى امتنعت عن البيعة (أردت أن أشترط) مفعوله محذوف أي شرطا أو شيئا يحصل لي به الانتفاع (قال: تشترط ماذا) قيل: حق ماذا أن يكون مقدما على تشترط؛ لأنه يتضمن معنى الاستفهام وهو يقتضي الصدارة، فحذف ماذا وأعيد بعد تشترط تفسيرا للمحذوف، وقيل: كأنه –

(1/251)


عليه الصلاة والسلام – لم يستحسن منه الاشتراط في الإيمان، فقال: أتشترط؟ إنكارا فحذف الهمزة ثم ابتدأ فقال: ماذا، أي ما الذي تشترط أو أي شيء تشترط، وقال المالكي في قول عائشة: أقول ماذا شاهد؟ على أن ما الاستفهامية إذا ركبت مع ذا تفارق وجوب التصدير فيعمل فيها ما قبلها رفعا ونصبا، فالرفع كقولك "كان ماذا"، والنصب كما في الحديث (أن يغفر لي) بالبناء للمفعول، وقيل: للفاعل أي الله (أما علمت يا عمرو) أي من حقك مع رزانة عقلك وجودة رأيك وكمال حذقك أن لا يكون خفي عن علمك (أن الإسلام) أي إسلام الحربي؛ لأن إسلام الذي لا يسقط شيئا من حقوق العباد، قاله القاري (يهدم) بكسر الدال أي يمحو ويسقط (ما كان قبله) من الكفر والمعاصي مطلقا مظلمة كانت أو غيرها صغيرة أو كبيرة (وأن الهجرة) من دار الحرب إلى دار الإسلام
تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟)) رواه مسلم، والحديثان المرويان عن أبي هريرة قال: قال الله تعالى: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك))، والآخر: ((الكبرياء ردائي)) سنذكرهما في بابي الرياء والكبر إن شاء الله تعالى.
? الفصل الثاني ?
29- (28) عن معاذ قال: قلت: يا رسول الله ! أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار، قال: لقد سألت عن أمر عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه، تعبد الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/252)


( تهدم ما كان قبلها) أي من الخطايا المتعلقة بحق الله لا التبعات، وتكفر الكبائر التي بين العبد ومولاه لا المظالم بين العباد وحقوق الآدميين (وأن الحج) أي المبرور (يهدم ما كان قبله) الحكم فيه كالذي قبله، قيل: وعليه الإجماع، وإنما حملوا الحديث في الحج والهجرة على ما عدا حقوق العباد والمظالم لما عرفوا ذلك من أصول الدين فردوا المجمل إلى المفصل، وعليه اتفاق الشارحين، وقد تكلم الطيبي في الحديث كلاما حسنا بحسب ما تقتضيه البلاغة، وهو كالتعقب على الشارحين، إن شئت الوقوف عليه فارجع إلى شرحه للمشكاة (رواه مسلم) في الإيمان، وأخرجه أحمد أيضا في مسنده (ج4: ص204، 205).
قوله: (والحديثان المرويان عن أبي هريرة) أي المذكوران هنا في المصابيح (قال الله تعالى...) الخ بيان للحديث (سنذكرهما في بابي الرياء والكبر) لف ونشر مرتب، أي لأن الحديثين أنسب بالبابين من هذا الباب.
(الفصل الثاني) أي المعبر به عن قوله من الحسان في المصابيح.

(1/253)


29- قوله: (عن معاذ) أي ابن جبل (أخبرني بعمل) التنوين للتعظيم أو للتنويع، أي بعمل عظيم أو معتبر في الشرع (يدخلني) من الإدخال، وهو بالرفع صفة العمل، وإسناد العمل إلى الإدخال مجازا، وبالجزم على أنه جزاء شرط محذوف هو صفة العمل، أي أخبرني بعمل إن عملته يدخلني الجنة، أو لأنه جواب الأمر؛ لأنه ترتب على فعل العمل المترتب على الإخبار، فترتبه على الإخبار إشارة إلى سرعة الامتثال بعد الاطلاع على حقيقة الحال، وعطف (يباعدني من النار) على يدخلني الجنة يفيد أن مراده دخول الجنة من غير سابقة عذاب (عن أمر عظيم) أي مستعظم الحصول لصعوبته على النفوس إلا من سهل الله عليه (وإنه ليسير) أي فعله سهل (على من يسره الله تعالى عليه) فيه إشارة إلى أن التوفيق كله بيد الله عز وجل (تعبد الله) خبر بمعنى الأمر، وهو خبر مبتدأ محذوف على تقدير أن المصدرية، واستعمال الفعل موضع المصدر مجاز، أي هو ذلك العمل أن تعبد الله، وقد تقدم معنى العبادة وبيان الحكمة في
ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا ?تتجافى جنوبهم عن المضاجع? حتى بلغ ?يعملون?، ثم قال: ألا أدلك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/254)


عطف عدم الإشراك على العبادة (ألا أدلك على أبواب الخير) أي الطرق الموصلة به، والمراد بها النوافل، يدل عليه قوله: ((صلاة الرجل في جوف الليل)) لئلا يلزم التكرار؛ لأنه قد تقدم ذكر الصلاة وغيرها من الفرائض، وجعل هذه الأشياء أبواب الخير لأن الصوم شديد على النفس وكذا إخراج المال في الصدقة وكذا الصلاة في جوف الليل، فمن اعتادها يسهل عليه كل خير؛ لأن المشقة في دخول الدار تكون بفتح الدار المغلق (الصوم جنة) بضم الجيم: الترس والوقاية، أي يقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات والمعاصي المؤدية إلى النار في الآخرة، كالمجن الذي يقي صاحبه عند القتال من الضرب، فالشبع مجلبة للآثام منقصة للإيمان، فإنه يوقع الإنسان في مداحض فيزيغ عن الحق ويغلب عليه الكسل، فيمنعه من وظائف العبادات ويكثر المواد الفضول فيه فيكثر غضبه وشهوته ويزيد حرصه، فيوقعه في طلب ما زاد على حاجته فيوقعه في المحارم (تطفئ الخطيئة) من الإطفاء يعني تذهبها وتمحو أثرها، أي إذا كانت متعلقة بحق الله، وإذا كانت من حقوق العباد فتدفع تلك الحسنة إلى خصمه عوضا من مظلمته، ونزل في الحديث الخطيئة منزلة النار المؤدية هي إليها على الاستعارة المكنية، ثم أثبت لها على الاستعارة التخييلية ما يلازم النار من الإطفاء (وصلاة الرجل في جوف الليل) مبتدأ حذف خبره، أي هي مما لا يكننه كنهها، أو هي مما نزلت فيها الآية المذكورة، أو هي من أبواب الخير، أو هي شعار الصالحين، والأظهر بل المتعين أن يقدر خبره كذلك، أي أنها تطفئ الخطيئة أيضا كالصدقة، يدل عليه ما أخرجه أحمد من رواية عروة بن النزال عن معاذ قال: أقبلت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك... فذكر الحديث، وفيه ((إن الصوم جنة، والصدقة وقيام العبد في جوف الليل يكفر الخطيئة))، (ثم تلا) يعني قرأ هاتين الآيتين عند ذكره فضل صلاة الليل ليبين بذلك فضل صلاة الليل (تتجافى جنوبهم) أي تتباعد (يدعون ربهم) بالصلاة

(1/255)


والذكر والقراءة والدعاء، ويدخل في عموم لفظ الآية من صلى بين العشائين ومن انتظر صلاة العشاء فلم يقم حتى يصليها لا سيما مع حاجته إلى النوم ومجاهدة نفسه على تركه لأداء الفريضة، ومن نام ثم قام من نومه بالليل للتهجد، وهو أفضل أنواع التطوع بالصلاة مطلقا، وربما دخل فيه من ترك النوم عند طلوع الفجر وقام إلى أداء صلاة الصبح لا سيما مع غلبة النوم عليه (حتى بلغ يعملون) بقية الآية:?خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون. فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون? [سورة السجدة ] (ألا أدلك برأس الأمر) أي مخبرا بأصله، والمراد بالأمر الدين الذي بعث به (وعموده) بفتح أوله أي ما يقوم به الدين ويعتمد عليه (وذروة سنامه) بكسر الذال وهو الأشهر وبضمها، وحكى
قلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه فقال: كف عليك هذا، فقلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/256)


فتحها: أعلى الشيء والجمع ذرى بالضم، والسنام بفتح السين ما ارتفع من ظهر الجمل قريب عنقه يقال له بالفارسية "كوهان شتر"، (رأس الأمر الإسلام) قد جاء تفسير الإسلام في رواية أخرى بالشهادتين، ففي رواية أحمد من طريق شهر بن حوشب عن ابن غنم عن معاذ أن رأس هذا الأمر أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، قال القاري: وهو من باب التشبيه المقلوب، إذ المقصود تشبيه الإسلام برأس الأمر؛ ليشعر بأنه من سائر الأعمال بمنزلة الرأس من الجسد في احتياجه إليه وعدم بقائه دونه (وعموده الصلاة) أي ما يقوم به الدين كما يقوم الفسطاط على عموده هي الصلاة، وفي الرواية المشار إليها ((وأن قوام هذا الأمر إقام الصلاة وإيتاء الزكاة))، (وذروة سنامه الجهاد) فيه إشارة إلى صعوبة الجهاد وعلو أمره، وهو يدل على أنه أفضل الأعمال بعد الفرائض كما هو قول الإمام أحمد وغيره من العلماء، قال التوربشتي: المراد بالإسلام كلمتا الشهادة، وبالأمر أمر الدين يعني ما لم يقر العبد بكلمتي الشهادة لم لكن له من الدين شيء أصلا، وإذا أقر بهما حصل له أصل الدين إلا أنه ليس له عمود، فإذا صلى وداوم على الصلاة قوي دينه ولكن لم يكن له رفعة وكمال، فإذا جاهد حصل لدينه رفعة (بملاك ذلك كله) الملاك بكسر الميم وفتحها لغة، والرواية الكسر: ما به إحكام الشيء وتقويته، أي بما به يملك الإنسان ذلك كله بحيث يسهل عليه جميع ما ذكر من تلك العبادات (فأخذ) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (بلسانه) الضمير راجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (كف) الرواية بفتح الفاء المشدد أي امنع (هذا) إشارة إلى اللسان، وتقديم المجرور على المنصوب للاهتمام به، وتعديته بعلى للتضمين أو بمعنى عن، وإيراد اسم الإشارة لمزيد التعيين أو للتحقير، وهو مفعول كف، والمعنى: لا تتكلم بما لا يعنيك، فإن من كثر من كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ولكثرة الكلام

(1/257)


مفاسد يطول إحصاءها وارجع لذلك إلى الإحياء (لمؤاخذون) بالهمزة ويبدل، أي هل يؤاخذنا ويعاقبنا أو يحاسبنا ربنا (بما نتكلم به) أي بجميعه، إذ لا يخفى على معاذ المؤاخذة ببعض الكلام (ثكلتك أمك) بكسر الكاف أي فقدتك، وهو دعاء عليه بالموت ظاهرا، ولا يراد وقوعه بل هو تأديب وتنبيه من الغفلة (وهل يكب) بفتح الياء وضم الكاف وتشديد الباء، من كبه إذا صرعه على وجهه، بخلاف أكب فإن معناه سقط على وجهه، وهو من النوادر، وهو عطف على مقدر، أي هل تظن غير ما قلت، وهل يكب (على وجوههم أو على مناخرهم) شك من الراوي، والمناخر جمع منخر بفتح الميم وكسر الخاء وفتحها ثقب الأنف
إلا حصائد ألسنتهم؟)) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.
30- (29) وعن أبي أمامة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/258)


والمراد هنا الأنف، والاستفهام للنفي، خصهما بالكب لأنهما أول الأعضاء سقوطا (إلا حصائد ألسنتهم) جمع حصيدة، فعيلة بمعنى مفعولة من حصد إذا قطع الزرع، وهذا إضافة اسم المفعول إلى فاعله، أي محصودات الألسنة، شبه ما يتكلم به الإنسان بالزرع المحصود بالمنجل، وهو من بلاغة النبوة، فكما أن المنجل يقطع ولا يميز بين الرطب واليابس والجيد والرديء، فكذلك لسان بعض الناس يتكلم بكل نوع من الكلام حسنا وقبيحا، والمعنى: لا يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم من الكفر والشرك والقول على الله بغير علم وشهادة الزور والسحر والقذف والشتم والكذب والغيبة والنميمة والبهتان ونحوها، وسائر المعاصي الفعلية لا يخلو غالبا من قول يقترن بها يكون معينا عليها، وهذا الحكم وارد على الأغلب؛ لأنك إذا جربت لم تجد أحدا حفظ اللسان عن السوء ولا يصدر عنه شيء يوجب دخول النار إلا نادرا (رواه أحمد) في مسنده (ج5: ص231)، (والترمذي) في الإيمان (وابن ماجه) في الفتن، وأخرجه أيضا النسائي، كلهم من طريق معمر عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن معاذ بن جبل، وقال الترمذي: حسن صحيح، قال ابن رجب في شرح الأربعين: وفيما قاله نظر من وجهين: أحدهما أنه لم يثبت سماع أبي وائل من معاذ وإن كان قد أدركه بالسن، وكان معاذ بالشام وأبووائل بالكوفة، ومازال الأئمة كأحمد وغيره يستدلون على انتفاء السماع بمثل هذا، وقد قال أبوحاتم الرازي في سماع أبي وائل من أبي الدرداء: قد أدركه وكان بالكوفة وأبوالدرداء بالشام يعني أنه لم يصح له سماع منه، وقد حكى أبوزرعة الدمشقي عن قوم أنهم توقفوا في سماع أبي وائل من عمر أو نفوه فسماعه من معاذ أبعد، والثاني: أنه قد رواه حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن شهر بن حوشب عن معاذ، خرجه الإمام أحمد مختصرا (ج5: ص248)، قال الدارقطني: وهو أشبه بالصواب؛ لأن الحديث معروف من رواية شهر على اختلاف عليه فيه. قلت: رواية شهر عن

(1/259)


معاذ مرسلة يقينا، وشهر مختلف في توثيقه وتضعيفه، قد خرجه الإمام أحمد (ج5: ص245) من رواية شهر عن عبدالرحمن بن غنم عن معاذ، وخرجه الإمام أحمد أيضا (ج5: ص237) من رواية عروة بن النزال بن عروة وميمون بن أبي شبيب كلاهما عن معاذ، ولم يسمع عروة ولا ميمون عن معاذ، وله طرق أخرى عن معاذ كلها ضعيفة – انتهى.
30- قوله: (وعن أبي أمامة) بضم الهمزة، اسمه صدي – بالتصغير - ابن عجلان بن وهب الباهلي، غلبت عليه كنيته، سكن مصر ثم انتقل منها إلى حمص فسكنها ومات بها، وكان من المكثرين في الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأكثر حديثه عند الشاميين، قال له - صلى الله عليه وسلم -: ((أنت مني وأنا منك))، ذكره الحافظ في الإصابة (ج2: ص172)، له مائتا حديث وخمسون حديثا، روى له البخاري خمسة أحاديث، ومسلم ثلاثة، روى عنه خلق كثير، مات سنة (81).
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله، فقد استكمل الإيمان))، رواه أبوداود.
31- (30) ورواه الترمذي عن معاذ بن أنس مع تقديم وتأخير، وفيه: ((فقد استكمل إيمانه)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/260)


وقيل: سنة (86) وهو ابن (91) سنة، وقيل: ابن (106) سنة، وهو آخر من مات بالشام من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قول بعضهم. (من أحب لله) أي لأجله ولوجهه لا لحظ نفسه (وأبغض لله) أي لكفره وعصيانه لا لإيذائه له (وأعطى لله) أي لثوابه ورضاه لا لميل نفسه وريائه (ومنع لله) أي لأمر الله فلا يصرف الزكاة عن كافر لخسته ولا عن هاشمي لشرفه بل لمنع الله لهما منها، وكذلك سائر الأعمال، فسكت لله وتكلم لله، واختلط بالناس لله واعتزل عن الخلق لله، كقوله تعالى حاكيا: ?إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين? [6: 162]، وإنما خص الأفعال الأربعة لأنها حظوظ نفسانية، إذ قلما يمحضها الإنسان لله، فإذا محضها مع صعوبة تمحيضها كان تمحيض غيرها بالطريق الأولى، ولذا أشار إلى استكمال الدين بتمحيضها بقوله (فقد استكمل الإيمان) بالنصب أي أكمله، وقيل بالرفع، أي تكمل إيمانه. (رواه أبوداود) في السنة وسكت عليه، وفي إسناده القاسم بن عبدالرحمن أبوعبدالرحمن الشامي، قال المنذري: قد تكلم فيه غير واحد – انتهى. وأخرجه أيضا الضياء المقدسي، قال العزيزي: بإسناد ضعيف، والطبراني في الأوسط، وفي إسناده صدقة بن عبدالله السمين، ضعفه البخاري وأحمد وغيرهما، وقال أبوحاتم: محله الصدق، كذا في مجمع الزوائد.

(1/261)


31- قوله: (ورواه الترمذي) أي في آخر أبواب الزهد (عن معاذ بن أنس) الجهني حليف الأنصار، قال ابن يونس: صحابي كان بمصر والشام، قد ذكر فيهما، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، وله رواية عن أبي الدرداء وكعب الأحبار، روى عنه ابنه سهل بن معاذ وحده، وهو لين الحديث إلا أن أحاديثه حسان في الفضائل والرغائب، قال الخزرجي: له ثلاثون حديثا، وروى البغوي في معجمه من طريقه ما يدل على أنه بقي إلى خلافة عبدالملك بن مروان. (مع تقديم وتأخير) ولفظه: ((من أعطى لله ومنع لله، وأحب لله وأبغض لله، وأنكح لله))، (وفيه) أي في حديث الترمذي أو في مروي معاذ (فقد استكمل إيمانه) أي بالإضافة، قال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث منكر، قال شيخنا في شرح الترمذي: لم يظهر لي وجه كون هذا الحديث منكرا – انتهى. ويمكن أن يقال: إن الترمذي أراد بقوله منكر أنه غريب من حديث معاذ بن أنس، فقد تفرد بروايته عنه ابنه سهل، فهو غريب من جهة هذا الطريق، والمنكر يطلق على معنيين: أحدهما ما خالف فيه الضعيف القوي، والثاني ما تفرد به الضعيف من دون اشتراط المخالفة، وهاهنا قد انفرد بروايته سهل بن معاذ عن أبيه، وقد ضعفه ابن معين، وقال أبوحاتم الرازي: لا يحتج به، ووقع في بعض نسخ الترمذي: "حديث حسن"، بدل قوله "منكر" فليحرر، ولعل الترمذي حسنه مع أن في سنده أبامرحوم عبدالرحيم بن ميمون، وضعفه ابن معين وتكلم فيه غير واحد، وسهل بن معاذ قد عرفت حاله؛ لأن أبامرحوم هذا قد قال فيه
32- (31) وعن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله)) رواه أبوداود.
33- (32) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/262)


النسائي: أرجو أنه لا بأس به، وقال الحافظ: صدوق، وسهل بن معاذ وثقه ابن حبان، وقال الحافظ: لا بأس به، إلا في رواية زبان عنه، وفي الاستيعاب وتهذيب التهذيب: هو لين الحديث إلا أن أحاديثه حسان في الفضائل والرغائب، ولأن له شاهدين، أحدهما حديث أبي أمامة، والثاني حديث أبي هريرة، أخرجه أحمد والبزار بلفظ: ((من سره أن يجد طعم الإيمان فليحب المرء لا يحبه إلا لله...)) الحديث، ورجاله ثقات، وحديث معاذ أخرجه أيضا الحاكم، وقال: صحيح الإسناد، وأخرجه أحمد بعين لفظ الترمذي من روايتين، من رواية عبدالله بن يزيد عن سعيد بن أبي أيوب عن عبدالرحيم بن ميمون عن سهل بن معاذ عن أبيه (ج3: ص440)، وهي طريق الترمذي، والأخرى من طريق ابن لهيعة عن زبان بن فائد عن سهل عن أبيه معاذ (ج3: ص438).

(1/263)


32- قوله: (أفضل الأعمال) أي من أفضل أعمال الإيمان (الحب في الله) أي لوجهه وفي سبيله لا لغرض آخر كميل قلب وإحسان، ومن لازم الحب في الله حب أولياءه وأصفياءه، ومن شرط محبتهم اقتفاء آثارهم وطاعتهم. (والبغض في الله) أي لأمر يسوغ له البغض كالفسق والظلم والكفر والعصيان. قال ابن رسلان: فيه دليل على أنه يجب أن يكون للرجل أعداء يبغضهم في الله كما يكون له أصدقاء يحبهم في الله، بيانه أنك إذا أحببت إنسانا لأنه مطيع لله ومحبوب عند الله، فإن عصاه فلا بد أن تبغضه لأنه عاص لله وممقوت عند الله، فمن أحب بسبب فبالضرورة يبغض لضده، وهذان وصفان متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، وهو مطرد في الحب والبغض في العادات – انتهى. (رواه أبوداود) قال المنذري: في إسناده يزيد بن أبي زياد الكوفي، ولا يحتج بحديثه، وقد أخرج له مسلم متابعة، وفيه أيضا رجل مجهول – انتهى. وأخرجه أحمد مطولا وفيه أيضا رجل لم يسم، وللحديث شواهد من حديث ابن عباس أخرجه الطبراني في الكبير، ومن حديث البراء بن عازب أخرجه أحمد والبيهقي، ومن حديث ابن مسعود أخرجه الطبراني في الصغير، وفيه عقيل بن الجعد قال البخاري: منكر الحديث.
33- قوله: (والمؤمن من أمنه الناس)) الخ كعلمه أي ائتمنوه يعني جعلوه أمينا عليها وصاروا منه على أمن؛ لكونه مجربا مختبرا في حفظها وعدم الخيانة فيها، يقال: أمنت زيدا على هذا الأمر وأتمنته أي جعلته أمينا وصرت منه على أمن، يعني المؤمن الكامل هو الذي ظهرت أمانته وعدالته وصدقه بحيث لا يخاف منه الناس على إذهاب مالهم وقتلهم ومد اليد على نسائهم، والمقصود أن الكمال في الإيمان لا يتحقق بدون هذا، ولا يكون المرء بدون هذا الوصف مؤمنا كاملا لا أنه
على دمائهم وأموالهم))، رواه الترمذي والنسائي.
34- (33) وزاد البيهقي في شعب الإيمان برواية فضالة: ((والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب)).

(1/264)


35- (34) وعن أنس قال: قلما خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذا تحقق هذا الوصف تحقق الكمال في الإيمان، وإن كان مع ترك الصلاة ونحوها، لجواز عموم المحمول من الموضوع، قاله السندهي. قال الطيبي: وفي ترتب من سلم على المسلم ومن أمنه على المؤمن رعاية للمطابقة لغة – انتهى. وقال القاري: حاصل الفقرتين إنما هو التنبيه على تصحيح اشتقاق الاسمين، فمن زعم أنه متصف به ينبغي أن يطالب نفسه بما هو مشتق منه، فإن لم يوجد فيه فهو كمن زعم أنه كريم ولا كرم له – انتهى. قال المناوي: وذكر المسلم والمؤمن بمعنى واحد تأكيد أو تقرير. (رواه الترمذي) وقال: حسن صحيح، (والنسائي) كلاهما في الإيمان، وأخرجه أيضا أحمد والحاكم وابن حبان.

(1/265)


34- (برواية فضالة) بفتح الفاء أي ابن عبيد الأنصاري الأوسي، كنيته أبومحمد، أسلم قديما، أول مشاهده أحد ثم شهد ما بعدها وبايع تحت الشجرة وشهد فتح مصر والشام قبلها ثم سكن الشام وولي الغزو، وولاه معاوية قضاء دمشق بعد أبي الدرداء، وكان ذلك بمشورة من أبي الدرداء، قال ابن حبان: مات في خلافة معاوية، وكان معاوية ممن حمل سريره، وكان معاوية استخلفه على دمشق في سفرة سافرها، أرخ المدائني وغيره وفاته سنة (53)، قال الخزرجي: له خمسون حديثا انفرد مسلم بحديثين. روى عنه جماعة. (والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله) يعني المجاهد ليس من قاتل الكفار فقط، بل المجاهد من جاهد نفسه وحملها وأكرهها على طاعة الله تعالى؛ لأن نفس الرجل أشد عداوة من الكفار؛ لأن الكفار أبعد منه، ولا يتفق التلاحق والتقاتل معهم إلا حينا بعد حين، وأما نفسه فأبدا يلازمه ويمنعه من الخير والطاعة، ولا شك أن القتال مع العدو الذي يلزم الرجل أهم من القتال مع العدو الذي هو بعيد منه. قال الطيبي: اللام في قوله (المجاهد) للجنس أي المجاهد الحقيقي الذي ينبغي أن يسمى مجاهدا من جاهد نفسه، وكان مجاهدته مع غيره بالنسبة إليه كلا مجاهدته، ونحوه قوله - صلى الله عليه وسلم - ((فذلك الرباط))، (والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب) قال القاري: أي ترك الصغائر والكبائر، وقيل: الذنب أعم من الخطيئة؛ لأنه يكون عن عمد بخلاف الخطيئة – انتهى. قال الطيبي: الحكمة في الهجرة أن يتمكن المؤمن من الطاعة بلا مانع، ويتخلص عن صحبة الأشرار المؤثرة بدوامها في اكتساب الأخلاق الذميمة والأفعال الشنيعة، فهي في الحقيقة التحرز عن ذلك، والمهاجر الحقيقي من يتحاشا عنها – انتهى. وحديث فضالة هذا أخرجه أيضا أحمد في مسنده (ج6: ص21، 22)، والحاكم في مستدركه بإسناد على شرط مسلم، وابن حبان في صحيحه، والطبراني في الكبير.

(1/266)


35- قوله: (قلما خطبنا) ما مصدرية أي قل خطبة خطبنا، ويجوز أن تكون كافة، وهو يستعمل في النفي ويدل
إلا قال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) رواه البيهقي في شعب الإيمان.
( الفصل الثالث )
عليه الاستثناء أي ما وعظنا (إلا قال) أي فيها، ولعل الحصر غالبي (لا إيمان لمن لا أمانة له) فإن المؤمن من أمنه الخلق على أنفسهم وأموالهم، فمن خان وجار فليس بمؤمن، أراد نفي الكمال دون الحقيقة، قاله المناوي. وقال القاري: انتفى كمال الإيمان بانتفاء الأمانة؛ لأنه يؤدي إلى استباحة الأموال والأعراض والأبضاع والنفوس، وهذه فواحش تنقص الإيمان وتقهقره إلى أن لا يبقى منه إلا أقله بل ربما أدت إلى الكفر، ومن ثم قيل: المعاصي بريد الكفر – انتهى. (ولا دين لمن لا عهد له) المراد به الزجر والردع ونفي الفضيلة والكمال دون الحقيقة، والمعنى أن من جرى بينه وبين أحد عهد وميثاق ثم غدر من غير عذر شرعي فدينه ناقص، قال الطيبي: وفي هذا الحديث إشكال، وهو أنه قد سبق أن الدين والإيمان الإسلام أسماء مترادفة، فلم فرق بينها وخص كل واحد منها بمعنى؟ والجواب: أنها وإن اختلفت لفظا فقد اتفقا هاهنا معنى، فإن الأمانة ومراعاتها إما مع الله تعالى فهي ما كلف به من الطاعة وسمي أمانة لأنه لازم الوجود كما أن الأمانة لازم الأداء، قال الله تعالى: ?إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان? [34: 72]، وإما مع الخلق فظاهر، ولأن العهد وتوثيقه إما مع الله تعالى فاثنان العهد الأول الذي أخذه على جميع ذرية آدم في الأزل، وهو الإقرار بربوبيته قبل الأجساد، مصداقه قوله تعالى: ?وإذ أخذ ربك من بني آدم...? الآية [7: 172]، والثاني ما أخذه عند هبوط آدم – عليه الصلاة والسلام – إلى الدنيا من متابعة هدى من الاعتصام بكتاب ينزله ورسول يبعثه، مصداقه قوله تعالى: ?قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم

(1/267)


مني هدى...? [2: 38]، وإما مع الخلق وحينئذ فمرجع الأمانة والعهد إلى طاعة الله بأداء حقوقه وحقوق العباد كأنه قال: لا إيمان ولا دين لمن لا يفي بعهد الله بعد ميثاقه، ولا يؤدي أمانة الله بعد حملها، وهي التكاليف من الأوامر والنواهي، ويشهد له قوله تعالى: ?وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين – إلى قوله – دين القيمة? [98: 5]، والتكرير المعنوي توكيد وتقرير – انتهى. (رواه البيهقي في شعب الإيمان) وكذا رواه في السنن الكبرى (ج6: ص288) قال القاري: وكذا رواه محي السنة أي صاحب المصابيح في شرح السنة بإسناده – انتهى. قلت: وأخرجه أيضا أحمد في المسند (ج3: ص135، 154، 210، 251)، وفي السنة (ص97)، وابن حبان وأبويعلى والبزار والطبراني في الأوسط والضياء في المختارة، قال العزيزي: إسناده قوي، وقال الهيثمي: فيه أبوهلال وثقه ابن معين وغيره، وضعفه النسائي وغيره – انتهى. وللحديث شاهدان من حديث أبي أمامة عند الطبراني في الكبير ومن حديث ابن مسعود ذكرهما الهيثمي، وقال الشيخ الألباني: رواه الضياء في الأحاديث المختارة (ق234/2) من طريقين عن أنس أحد إسناديه حسن وله شواهد.
قوله (الفصل الثالث) المراد به الأحاديث الملحقة بالباب ألحقها صاحب المشكاة غير مقيدة بأن تكون مما أخرجها الشيخان أو غيرهما من أصحاب السنن، ولا بأن تكون عن صحابي أو تابعي.
36- (35) عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله حرم الله عليه النار)) رواه مسلم.
37- (36) وعن عثمان – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/268)


36- قوله: (قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول) هذا ما يتكرر كثيرا، وقد اختلف في المنصوبين بعد سمعت، فالجمهور على أن الأول مفعول، وجملة يقول حال، أي سمعت كلامه؛ لأن السمع لا يقع على الذوات، ثم بين هذا المحذوف بالحال المذكور فهي حال مبينة لا يجوز حذفها، واختار الفارسي أن ما بعد سمعت إن كان مما يسمع كسمعت القرآن تعدت إلى مفعول واحد، وإلا كما هنا تعدت إلى مفعولين، فجملة يقول على هذا مفعول ثان (من شهد أن لا إله إلا الله...) الخ، أي صادقا من قلبه كما في حديث أنس في قصة معاذ، وقد تقدم الكلام على معنى الحديث هناك (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج5: ص318)، والترمذي في الإيمان.

(1/269)


37- قوله: (وعن عثمان) أي ابن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي القرشي المدني، يكنى أباعبدالله وأباعمرو، أمير المؤمنين ومجهز جيش العسرة ومشتري بئر رومة، وأحد العشرة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين أخبر عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات وهو عنهم راض، ولد بعد الفيل بست سنين، أسلم في أول الإسلام على يدي أبي بكر قبل دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دار الأرقم، وهاجر إلى الحبشة الهجرتين ولم يشهد بدرا لتخلفه على تمريض زوجته رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وضرب له النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بسهم، ولم يشهد بالحديبية بيعة الرضوان لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بعثه إلى مكة في أمر الصلح، فلما كانت البيعة ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - يده على يده وقال: هذه لعثمان، وسمي ذا النورين لجمعه بين بنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقية وأم كلثوم، واحدة بعد أخرى، قال ابن عمر: كنا نقول على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -: أبوبكر ثم عمر ثم عثمان، وقال ابن سيرين: كان يحيي الليل كله بركعة، ومناقبه وفضائله كثيرة شهيرة جدا، بويع له بالخلافة بعد دفن عمر بثلاثة أيام، وذلك غرة المحرم سنة (24)، وقتل مظلوما في ذي الحجة سنة (35) وهو ابن (82) سنة، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا أياما، له مائة وستة وأربعون حديثا، اتفقا على ثلاثة، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بخمسة، روى عنه خلق. قال عبدالله بن سلام: لقد فتح الناس على أنفسهم بقتل عثمان باب فتنة لا يغلق إلى يوم القيامة، وترجمته مستوفاة في تاريخ دمشق (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله) هذه الكلمة علم لكلمتي الشهادة، ولذا اقتصر عليها، قال النووي: في قوله (وهو يعلم) إشارة إلى الرد على غلاة المرجئة أن مظهر الشهادتين يدخل الجنة وإن لم يعتقد ذلك بقلبه، وقد قيد ذلك في حديث آخر بقوله ((غير شاك

(1/270)


فيهما))، وهذا يؤيد ما قلنا، قال القاضي: وقد يحتج به أيضا من يرى أن مجرد
رواه مسلم.
38- (37) وعن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثنتان موجبتان، قال رجل: يا رسول الله ما الموجبتان؟ قال: من مات يشرك بالله شيئا دخل النار، ومن مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة))، رواه مسلم.
39- (38) وعن أبي هريرة قال: ((كنا قعودا حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعنا أبوبكر وعمر – رضي الله عنهما – في نفر، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بين أظهرنا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معرفة القلب نافعة دون النطق بالشهادتين لاقتصاره على العلم، ومذهب أهل السنة أن المعرفة مرتبطة بالشهادتين لا تنفع أحداهما ولا تنجي من النار دون الأخرى إلا لمن لم يقدر على الشهادة بلسانه إذا لم تمهله المدة ليقولها بل اخترمته المنية، ولا حجة لمخالف الجماعة بهذا اللفظ، إذ قد ورد مفسرا في الحديث الآخر: ((من قال لا إله إلا الله ومن شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله))، وقد جاء هذا الحديث وأمثاله كثيرة، في ألفاظها اختلاف ولمعانيها عند أهل التحقيق ائتلاف – انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج1: 65، 69).

(1/271)


38- قوله: (وعن جابر) هو جابر بن عبدالله بن عمرو بن حرام الأنصاري الخزرجي السلمي أبوعبدالله، شهد العقبة الثانية مع أبيه وهو صغير ولم يشهد الأولى، قال ابن عبدالبر: ذكره بعضهم في البدريين ولا يصح لأنه قد روي عنه أنه قال: لم أشهد بدرا ولا أحدا، منعني أبي، وذكر البخاري أنه شهد بدرا وكان ينقل لأصحابه الماء يومئذ ثم شهد بعدها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمان عشرة غزوة، ذكر ذلك الحاكم أبوأحمد، وكان من المكثرين الحفاظ للسنن، وكف بصره في آخر عمره، روي عنه أنه قال: استغفر لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة البعير خمسا وعشرين مرة، وقال هشام بن عروة: رأيت لجابر بن عبدالله حلقة في المسجد النبوي يؤخذ عنه العلم، توفي بالمدينة سنة (73)، وقيل (74)، وقيل (77)، وقيل (78)، ويقال: مات وهو ابن (94) سنة، وصلى عليه أبان بن عثمان، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة في قول. له ألف وخمسمائة حديث وأربعون حديثا، اتفقا على ثمانية وخمسين حديثا، وانفرد البخاري بستة وعشرين، ومسلم بمائة وستة وعشرين (ثنتان) صفة مبتدأ محذوف أي خصلتان (موجبتان) يقال: أوجب الرجل إذا عمل ما يجب به الجنة أو النار، ويقال للحسنة والسيئة موجبة، فالوجوب عند أهل السنة بالوعد أو الوعيد، وعند المعتزلة بالعمل (ما الموجبتان) السببان، فإن الموجب الحقيقي هو الله تعالى (من مات يشرك بالله...) الخ فالموت على الشرك سبب لدخول النار وخلودها، والموت على التوحيد سبب لدخول الجنة (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد في مسنده (ج3: ص345، 374، 391)، وأخرج الطبراني في الكبير نحوه عن عمارة بن رويبة، وفيه محمد بن أبان وهو ضعيف.
39- قوله: (كنا قعودا) أي ذوي قعود أو قاعدين (في نفر) أي مع جماعة من الصحابة (من بين أظهرنا)

(1/272)


فأبطأ علينا وخشينا أن يقتطع دوننا وفزعنا فقمنا، فكنت أول من فزع، فخرجت أبتغي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتيت حائطا للأنصار لبني النجار، فدرت به هل أجد له بابا فلم أجد، فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة، والربيع الجدول، قال: فاحتفزت فدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبوهريرة؟ فقلت: نعم يا رسول الله، قال: ما شأنك؟ قلت: كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت علينا، فخشينا أن تقتطع دوننا ففزعنا فكنت أول من فزع، فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، وهؤلاء الناس ورائي، فقال: يا أباهريرة !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/273)


أظهر زائدة للتأكيد أي من بيننا (فأبطأ علينا) أي مكث وتوقف عنا كثيرا (أن يقتطع) بصيغة المجهول (دوننا) حال من الضمير المستتر في يقتطع، أي خشينا أن يصاب بمكروه من عدو أو غيره متجاوزا عنا وبعيدا منا (وفزعنا) بكسر الزاي أي اضطربنا. قال عياض: الفزع يكون بمعنى الروع، وبمعنى الهبوب للشيء والاهتمام به، وبمعنى الإغاثة، قال فتصح هنا هذه المعاني الثلاثة أي ذعرنا لاحتباس النبي- صلى الله عليه وسلم - عنا، ألا تراه كيف قال: وخشينا أن يقتطع دوننا؟ ويدل على الوجهين الآخرين قوله: فكنت أول من فزع – انتهى. وقال الطيبي: عطف أحد المترادفين على الآخر لإرادة الاستمرار كما في قوله تعالى: ?كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا? [54: 9]، أي كذبوه تكذيبا غب تكذيب – انتهى. (فقمنا) للتجسس والتحفص (فخرجت) أي من المجلس (أتيت حائطا) أي بستانا له حيطان أي جدران (لبني النجار) تخصيص بعد تعميم أو بدل بعض (فدرت به) أي بحول الحائط (فإذا ربيع) إذا للمفاجأة أي فاجأ عدم وجودي للباب روية نهر صغير (يدخل في جوف حائط) أي في جوف جدار من جدران ذلك الحائط، مبتدأ أو مستمد ذلك النهر (من بئر) مؤنثة مهموزة يجوز تخفيف همزها (خارجة) روي على ثلاثة أوجه: أحدها بالتنوين في بئر وفي خارجة على أن خارجة صفة لبئر، والثاني بئر خارجة بتنوين بئر وبهاء في آخر خارجه مضمومة، وهي هاء الضمير للحائط أي البئر في موضع خارج عن الحائط، والثالث من بئر خارجة بإضافة بئر إلى خارجة آخره تاء التأنيث، وهو اسم رجل، والوجه الأول هو المشهور الظاهر، قال النووي: هكذا ضبطناه بالتنوين في بئر وخارجة، وكذا نقله ابن الصلاح – انتهى. وقيل: البئر هنا البستان، سمي بما فيها من الآبار، يقولون: بئر بضاعة، وبئر أريس، وبئر خارجة، وهي بساتين. (والربيع الجدول) تفسير من بعض الرواة (فاحتفزت) بالزاي المعجمة أي تضاممت ليسعني المدخل (فقال: أبوهريرة؟) أي فقال النبي - صلى الله عليه

(1/274)


وسلم - أأنت أبوهريرة؟ خبر مبتدأ محذوف، والاستفهام إما للتقرير وهو الظاهر، وإما للتعجب لاستغرابه أنه من أين دخل عليه والطرق مسدودة (ما شأنك) أي ما حالك وما سبب مأتاك واضطرابك؟ (وهؤلاء الناس ورائي) أي ينتظرون علم ما وقع لك (فقال: يا أباهريرة) يقرأ بالهمز ولا يكتب، قاله
وأعطاني نعليه، فقال: اذهب بنعلي هاتين فمن لقيك من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة، فكان أول من لقيت عمر فقال: ما هاتان النعلان يا أباهريرة؟ قلت: هاتان نعلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثني بهما من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه بشرته بالجنة، فضرب عمر بين ثدي فخررت لإستي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/275)


القاري. (وأعطاني نعليه) الجملة حال (فقال) تأكيد للأول (اذهب بنعلي هاتين) قال الطيبي: لعل فائدة النعلين أن يبلغ مع الشاهد فيصدقوه وإن كان خبره مقبولا بغير هذا، وتخصيصهما بالإرسال إما لأنه لم يكن عنده غيرهما، وإما للإشارة إلى أن بعثته وقدومه لم يكن إلا تبشيرا وتسهيلا على الأمة رافعا للآصار التي كانت في الأمم السالفة، وإما للإشارة إلى الثبات بالقدم والاستقامة بعد الإقرار لقوله – عليه الصلاة والسلام -: ((قل آمنت بالله ثم استقم)) – انتهى. وقال النووي: أما إعطاءه النعلين فلتكون علامة ظاهرة معلومة عندهم يعرفون بها أنه لقي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويكون أوقع في نفوسهم لما يخبرهم به عنه - صلى الله عليه وسلم -، ولا ينكر كون مثل هذا يفيد تأكيدا وإن كان خبره مقبولا بغير هذا (مستيقنا بها) أي بمضمون هذه الكلمة (فبشره بالجنة) معناه أخبر أن من كانت هذه صفته فهو من أهل الجنة وإلا فأبوهريرة لا يعلم استيقان قلوبهم، وفي هذا دلالة ظاهرة لمذهب أهل الحق أن اعتقاد التوحيد لا ينفع دون النطق عند القدرة، ولا النطق دون الاعتقاد بالإجماع، بل لا بد منهما، وذكر القلب هنا للتأكيد ونفي توهم المجاز، وإلا فالاستيقان لا يكون إلا بالقلب (فكان أول من لقيت عمر) منصوب على أنه خبر كان، وقيل: مرفوع على الاسمية وأول بالعكس، قيل: وهو أولى لأنه وصف وهو بالخبرية أحرى (بعثني بهما من لقيت) بصيغة المتكلم أي بعثني بهما حال كوني قائلا أو مبلغا أو مأمورا بأن من لقيت يشهد...الخ (فضرب عمر بين ثديي) تثنية يدي بفتح الثاء، هو مذكر، وقد يؤنث في لغة قليلة، أي في صدري، قال القاري: لابد هنا من تقدير يدل عليه السياق من السباق واللحاق، يعني فقال عمر: ارجع قصدا للمراجعة بناء على رأيه الموافق للصواب، فأبيت وامتنعت عن حكمه امتثالا لظاهر أمره – عليه السلام – المقدم على أمر كل آمر، فضرب عمر بيده في صدري، فإنه يبعد كل

(1/276)


البعد ضربه ابتداء من غير باعث – انتهى. (فخررت) بفتح الراء (لأستي) بهمزة وصل، وهو اسم من أسماء الدبر، أي سقطت على مقعدي من شدة ضربه لي، قال النووي: أما دفع عمر – رضي الله عنه – فلم يقصد به سقوطه وإيذاءه، بل قصد رده عما هو عليه وضرب بيده في صدره ليكون أبلغ في زجره، قال القاضي عياض وغيره من العلماء: وليس فعل عمر ومراجعته النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتراضا عليه وردا لأمره، إذ ليس فيما بعث به أباهريرة غير تطييب قلوب الأمة وبشراهم، فرأى عمر أن كتم هذا عنهم أصلح لهم وأحرى أن لا يتكلوا، وأنه أعود عليهم بالخير من معجل هذه البشرى، فلما عرضه على
فقال: ارجع يا أباهريرة، فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجهشت بالبكاء، وركبني عمر وإذا هو على أثري، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما لك يا أباهريرة؟ قلت: لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به، فضرب بين ثديي ضربة خررت لإستي فقال: ارجع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عمر ما حملك على ما فعلت؟ قال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أبعثت أباهريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه بشره بالجنة؟ قال: نعم، قال: فلا تفعل، فإني أخشى أن يتكل الناس عليها، فخلهم يعملون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فخلهم)) رواه مسلم.
40- (39) وعن معاذ بن جبل قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مفاتيح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/277)


النبي - صلى الله عليه وسلم - صوبه فيه – انتهى. (فأجهشت بالبكاء) من الإجهاش، وروي جهشت - بكسر الهاء وغير همز - وهما صحيحان، وكلاهما بصيغة الفاعل، والجهش كالإجهاش أن يفزع الإنسان إلى إنسان ويلجأ إليه وهو متغير الوجه متهيء للبكاء ولما يبك بعد، كما يفزع الصبي إلى أمه (وركبني عمر) أي تبعني ومشى خلفي في الحال بلا مهلة، قاله النووي، وقال القاري: أي أثقلني عدو عمر من بعيد خوفا واستشعارا منه، كما يقال: ركبته الديون أي أثقلته يعني تبعني عمر (على أثري) فيه لغتان فصيحتان مشهورتان: فتحهما وهو الأصح، وكسر الهمزة وسكون الثاء أي عقبي (بأبي أنت وأمي) الباء متعلقة بمحذوف، قيل: هو اسم تقديره أنت مفدى بأبي، وقيل: فعل أي فديتك بأبي، وحذف هذا المقدر تخفيفا لكثرة الاستعمال وعلم المخاطب به (بشره بالجنة) بصيغة الماضي أي من لقيه بشره بالجنة (يتكل الناس عليها) أي على هذه البشارة الإجمالية (فخلهم) أي اتركهم بغير البشارة (يعملون) حال، فإن العوام إذا بشروا يتركون الاجتهاد في العمل بخلاف الخواص فإنهم إذا بشروا يزيدون في العمل (رواه مسلم) كان المناسب لدأبه أن يقول: روى الأحاديث الأربعة مسلم.

(1/278)


40- قوله: (مفاتيح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله) أي وأن محمدا رسول الله، قال الزين بن المنير: قول لا إله إلا الله لقب جرى على النطق بالشهادتين شرعا – انتهى. قال الطيبي: مفاتيح الجنة مبتدأ، وشهادة خبره، وليس بينهما مطابقة من حيث الجمع والإفراد، فهو من قبيل قول الشاعر: ومعي جياعا. جعل الناقة الضامرة من الجوع كأن كل جزء من معاها معي واحد من شدة الجوع، وكذا جعلت الشهادة المستتبعة للأعمال الصالحة التي هي كأسنان المفاتيح كل جزء منها منزلة مفتاح واحد – انتهى. قال القاري: والأظهر أن المراد بالشهادة الجنس، فشهادة كل أحد مفتاح لدخوله الجنة إما ابتداء أو انتهاء، والأعمال إنما هي لرفع الدرجات، أو لأن الشهادة لما كانت مفتاح أبواب
رواه أحمد.
41- (40) وعن عثمان – رضي الله عنه – قال: إن رجالا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - حين توفي حزنوا عليه حتى كاد بعضهم يوسوس، قال عثمان: وكنت منهم، فبينا أنا جالس مر علي عمر وسلم، فلم أشعر به فاشتكى عمر إلى أبي بكر – رضي الله عنهما – ثم أقبلا حتى سلما علي جميعا، فقال أبوبكر: ما حملك أن لا ترد على أخيك عمر سلامه؟ قلت: ما فعلت، فقال عمر: بلى والله لقد فعلت، قال: قلت: والله ما شعرت أنك مررت ولا سلمت، قال أبوبكر: صدق عثمان، قد شغلك عن ذلك أمر، فقلت أجل، قال: ما هو؟ قلت: توفى الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - قبل أن نسأله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/279)


الجنة فكأنها مفاتيح – انتهى. وفيه استعارة لأن الكفر لما منع من دخول الجنة شبه بالغلق المانع، ولما كان الإسلام سبب دخولها شبه بالمفاتيح بجامع أن كلا سبب للدخول ثم حذف أداة التشبيه وقلب زيادة في تحقيق معنى المشبه والمبالغة فيه (رواه أحمد) (ج5: ص242) من طريق إسماعيل بن عياش عن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي حسين عن شهر بن حوشب عن معاذ، ورواية شهر عن معاذ مرسلة، وشهر مختلف في توثيقه وتضعيفه، وإسماعيل بن عياش روايته عن أهل الحجاز ضعيفة، وهذا منها، قال الهيثمي: وأخرجه البزار أيضا، وفيه من الكلام ما في رواية أحمد.
41- قوله: (حين توفي) بضم التاء والواو ماض مجهول (حزنوا) بكسر الزاي (عليه) أي على موته وفقدان حضرته (يوسوس) قال القاري: أي يقع في الوسوسة بأن يقع في نفسه انقضاء هذا الدين وانطفاء نور الشريعة بموته – عليه الصلاة والسلام -، وخطور هذا بالنفوس الكاملة مهلك لها حتى يتغير حاله ويختلط كلامه ويدهش في أمره ويختل عقله ويجيء أحوال بقيتهم في آخر الكتاب من أن بعضهم أقعد وأسكت وبعضهم أنكر موته – عليه الصلاة والسلام – وأظهر الله فضل الصديق بثبات قدم صدقه – انتهى. قال الطيبي: الوسوسة حديث النفس وهو لازم، يقال: وسوس الرجل إذا أصيب في عقله وتكلم بغير نظام، ووسوس الرجل أي أصابته الوساوس فهو موسوس،ويقال لما يخطر بالقلب من شر أو لما لا خير فيه وسواس جمعه وساوس (وكنت منهم) أي من البعض الذي كاد أن يوسوس من شدة الحزن (فلم أشعر به) أي بمروره وسلامه لشدة ما أصابني من الذهول لذلك الهول، فعند أحمد في مسنده: فلم أشعر أنه مر ولا سلم (والله ما شعرت) بفتح العين ويضم أي ما علمت ولا فطنت (فقال أبوبكر) أي لعمر (صدق عثمان) في اعتذاره بعدم شعوره، وقال لي على وجه الالتفات (قد شغلك عن ذلك أمر) أي ألهاك عن الشعور أمر عظيم (توفى الله تعالى نبيه )

(1/280)


عن نجاة هذا الأمر , قال أبوبكر: قد سألته عن ذلك، فقمت إليه وقلت له: بأبي أنت وأمي أنت أحق بها، قال أبوبكر: قلت يا رسول الله ما نجاة هذا الأمر؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قبل مني الكلمة التي عرضت على عمي فردها فهي له نجاة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي قبض روحه (عن نجاة هذا الأمر) بفتح النون مصدر بمعنى الخلاص. قال الطيبي: يجوز أن يراد بالأمر ما عليه المؤمنون من الدين، أي نسأله عما نتخلص به من النار، وهو مختص بهذا الدين، وأن يراد ما عليه الناس من غرور الشيطان وحب الدنيا والتهالك فيها والركون إلى شهواتها وركوب المعاصي وتبعاتها، أي نسأله عن نجاة هذا الأمر الهائل – انتهى.كلام الطيبي. وتعقبه الشيخ عبدالحق الدهلوي في أشعة اللمعات بما محصله: أن في الوجه الأول نظرا فإن عثمان قد روى هو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة، فكيف يقول: إنه توفي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن نسأله عما نتخلص به من النار في الدين؟ ومن البعيد كل البعد أن يخفى على عثمان هذا العلم الذي هو من أول فرائض دين الإسلام، اللهم إلا أن يقال: إنه نسيه من شدة الحزن وذهل عنه من عظم المصيبة، والظاهر بل الصواب أنه أراد بقوله من نجاة هذا الأمر: النجاة من وسوسة الشيطان وحديثه كما يشير إليه سياق الحديث وسباقه، ورواية محمد بن جبير في هذه القصة صريحة في ذلك، وقد أخرج أبويعلى في مسنده عن محمد بن جبير أن عمر مر على عثمان وهو جالس في المسجد، فسلم عليه فلم يرد عليه، فدخل على أبي بكر فاشتكى ذلك إليه فقال: مررت على عثمان فسلمت عليه فلم يرد علي، فقال: أين هو؟ قال: هو في المسجد قاعد، فانطلقا إليه فقال له أبوبكر – رضي الله عنه -: ما منعك أن ترد على أخيك حين سلم عليك؟ قال: والله ما شعرت أنه مر بي وأنا أحدث نفسي ولم أشعر أنه سلم، فقال أبوبكر: فماذا تحدث

(1/281)


نفسك؟ قال: خلا بي الشيطان فجعل يلقي في نفسي أشياء ما أحب أني تكلمت بها وأن لي ما على الأرض، قلت في نفسي حين ألقى الشيطان ذلك في نفسي: يا ليتني سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما الذي ينجينا من هذا الحديث الذي يلقي الشيطان في أنفسنا، فقال أبوبكر: فإني والله لقد اشتكيت ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسألته ما الذي ينجينا من هذا الحديث الذي يلقي الشيطان في أنفسنا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ينجيكم من ذلك أن تقولوا مثل الذي أمرت به عمي عند الموت فلم يفعل))، قال البوصيري في الزوائد العشرة: سنده حسن كذا في جمع الجوامع للسيوطي – انتهى. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج1: ص8) بعد ذكره: رواه أبويعلى، وعند أحمد طرف منه وفي إسناده أبوالحويرث عبدالرحمن بن معاوية، وثقه ابن حبان والأكثر على تضعيفه – انتهى. (أنت أحق بها) أي بالمسألة والسبق بها والبحث عنها فإنك إلى كل خير أسبق (من قبل مني) أي بطوع ورغبة من غير نفاق وريبة (على عمي) أبي طالب (فهي) أي فهذه الكلمة وهي كلمة الشهادة (له نجاة) إما في بداية أو نهاية. قال الطيبي: كأنه - صلى الله عليه وسلم - يقول: النجاة في الكلمة التي عرضتها على مثل أبي طالب، وهو الذي عاش في الكفر سنين ونيف على السبعين، ولم يصدر عنه
رواه أحمد.
42- (41) وعن المقداد أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام بعز عزيز وذل ذليل،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/282)


كلمة التوحيد، ولو قالها مرة كان لي حجة عند الله باستخلاصه ونجاة له من عذابه وعقابه، فكيف بالمؤمن المسلم وهي مخلوطة بلحمه ودمه، فلو صرح – صلوات الله عليه – بها في كلامه لم يفخم هذا التفخيم، وهذا الحديث رواه الصحابي عن الصحابي يعني عثمان عن أبي بكر (رواه أحمد) (ج1: ص6) عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري قال: أخبرني رجل من الأنصار من أهل الثقة أنه سمع عثمان بن عفان يحدث: أن رجالا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -...الحديث، وعن يعقوب عن أبيه عن صالح عن الزهري قال: أخبرني رجل من الأنصار غير متهم أنه سمع عثمان بن عفان...الحديث، وفيه رجل لم يسم كما ترى، وقول الزهري "رجل من أهل الثقة وغير متهم" تعديل على الإبهام، وفيه اختلاف، وعند الجمهور لا يقبل حتى يسمي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد بعد ذكر الحديث من مسند أحمد بسنده الأول: رواه أحمد والطبراني في الأوسط باختصار وأبويعلى بتمامه والبزار نحوه، وفيه رجل لم يسم، ولكن الزهري وثقه وأبهمه – انتهى.

(1/283)


42- قوله: (وعن المقداد) بكسر الميم، هو المقداد بن عمرو بن ثعلبة البهراني الكندي حلفا، أبوالأسود أو أبوعمرو، المعروف بالمقداد بن الأسود نسبة إلى الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف الزهري؛ لأنه كان تبناه وحالفه في الجاهلية، فقيل: المقداد بن الأسود، كان من الفضلاء النجباء الكبار الخيار من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان سادسا في الإسلام وهاجر الهجرتين وشهد بدرا والمشاهد كلها، وكان فارسا يوم بدر حتى إنه لم يثبت أنه كان فيها على فرس غيره. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أمرني الله بحب أربعة... فذكر منهم المقداد، ومناقبه كثيرة، شهد فتح مصر، ومات في أرضه بالجرف على ثلاثة أميال من المدينة فحمل إليها ودفن بالبقيع وصلى عليه عثمان سنة (33) وهو ابن (70) سنة، له اثنان وأربعون حديثا، اتفقا على حديث، وانفرد مسلم بثلاثة، روى عنه جماعة (لا يبقى على ظهر الأرض) أي على وجهها من جزيرة العرب وما قرب منها، وقيل: هو محمول على العموم (بيت مدر ولا وبر) أي المدن والقرى والبوادي، وهو من وبر الإبل أي شعرها لأنهم كانوا يتخذون منه ومن نحوه خيامهم غالبا، والمدر جمع مدرة وهي قطعة الطين اليابس واللبنة والطين العلك أي اللزج الذي لا يخالطه رمل (كلمة الإسلام) هي مفعول أدخل، والضمير المنصوب فيه ظرف وقوله (بعز عزيز) حال أي أدخل الله تعالى كلمة الإسلام في البيت متلبسة بعز شخص عزيز، أي يعزه الله بها حيث قبلها من غير سبي وقتال (وذل) بضم الذال (ذليل) أي أو يذله الله بها حيث أباها بذل سبي أو قتال حتى ينقادون لها طوعا أو كرها، أو يذعن لها ببذل الجزية، والحديث مقتبس من قوله تعالى: ?هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون? [61: 9]، ثم فسر العز والذل بقوله إما يعزهم
إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها أو يذلهم فيدينون لها، قلت: فيكون الدين كله لله)) رواه أحمد.

(1/284)


43- (42) وعن وهب بن منبه قيل له: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: بلى، ولكن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الله أو يذلهم (فيدينون لها) بفتح الياء أي فيطيعون وينقادون لها، من دان الناس أي ذلوا وأطاعوا (قلت) القائل المقداد، والظاهر أنه قال في غير حضرته - صلى الله عليه وسلم - بل عند روايته (فيكون الدين كله لله )، قال الطيبي: أي إذا كان الأمر كذلك فتكون الغلبة لدين الله طوعا أو كرها – انتهى. وقيل: في آخر الزمان، أي حين ينزل عيسى – عليه السلام – من السماء ويقتل الدجال، لا يبقى على وجه الأرض محل الكفر، بل جميع الخلائق يصيرون مسلمين إما بالطوع والرغبة ظاهرا وباطنا، وإما بالإكراه والجبر، وإذا كان كذلك فيكون الدين كله لله، يشير إليه ما رواه مسلم عن عائشة قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى، فقلت: يا رسول الله، إن كنت لأظن حين أنزل الله عزوجل: ?هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق...?الآية, أن ذلك تام. قال: إن سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث ريحا طيبة فيتوفى كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم))، ويدل له حديث أبي هريرة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وتهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام)) (رواه أحمد) (ج6: ص103) بسند صحيح، وأخرجه أيضا الحاكم (ج4: ص430، 431)، والطبراني في الكبير والبيهقي، وأخرج أحمد (ج4: ص103)، والطبراني في الكبير والحاكم والبيهقي عن تميم الداري مرفوعا: ((ليبغلن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر))، وكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان

(1/285)


منهم كافرا الذل والصغار والجزية.
43- قوله: (وعن وهب بن منبه) بضم الميم وفتح النون وتشديد الباء الموحدة وكسرها، هو وهب بن منبه بن كامل اليماني الصنعاني أبوعبدالله الأنباري، من ثقات أوساط التابعين، قال مسلم بن خالد: لبث وهب أربعين سنة لم يرقد على فراشه، له في البخاري حديث واحد، رواه في كتاب العلم، مات سنة (114)، وقيل غير ذلك، وقيل: إن يوسف بن عمر ضربه حتى مات. (قيل له: أليس) كأن القائل أشار إلى ما ذكر ابن إسحاق في السيرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أرسل العلاء بن الحضرمي قال له: ((إذا سئلت عن مفتاح الجنة فقل: مفتاحها لا إله إلا الله))، وروي عن معاذ بن جبل نحوه، أخرجه البيهقي في الشعب وزاد: "لكن مفتاح بلا أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك"، وهذه الزيادة نظير ما أجاب به وهب، قال الحافظ: فيحتمل أن تكون مدرجة في حديث معاذ. (لا إله إلا الله) في محل الرفع على أنه اسم ليس، وخبره (مفتاح الجنة )، وقيل بالعكس، وقدم لشرفه (قال: بلى، ولكن) أي أقول بموجب ذلك، وإنها مفتاحها كما تقدم في الحديث السابق، ولكن لا يغتر أحد بذلك ويظن أنه بمجرد تلفظه بتلك الكلمة
ليس مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك))، رواه البخاري في ترجمة باب.
44- (43) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أحسن أحدكم إسلامه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/286)


التي هي المفتاح يفتح له الجنة حتى يدخلها مع الناجين وإن لم يعمل عملهم؛ لأنه وإن أتى بالمفتاح غير نافع له؛ لأنه (ليس مفتاح إلا وله أسنان) أي عادة هي الفاتحة (فإن جئت بمفتاح له أسنان) المراد بالأسنان: الأعمال الصالحة المنجية المتضمنة لترك الأعمال السيئة، وشبهها بأسنان المفتاح من حيث الاستعانة بها في فتح المغلقات وتيسير المستصعبات (فتح لك) أي أولا (وإلا) بأن جئت بمفتاح لا أسنان له (لم يفتح لك) أي فتحا تاما أو في أول الأمر، وهذا بالنسبة إلى الغالب، وإلا فالحق أن أهل الكبائر في مشيئة الله تعالى، ولا بد من هذا التأويل ليستقيم على مذهب أهل السنة، وقيل: معنى قول وهب "إن جئت بمفتاح له أسنان" جياد، فهو من باب حذف النعت إذا دل عليه السياق؛ لأن مسمى المفتاح لا يعقل إلا بالأسنان وإلا فهو عود أو حديدة، هذا، وفي ذكر المصنف قول ابن وهب إشارة إلى أنه اختار في معنى الأحاديث التي جاءت في ترتيب دخول الجنة وحرمة النار على مجرد الشهادتين قول من قال من العلماء: إن كلمة الشهادتين سبب مقتض لدخول الجنة والنجاة من النار، لكن له شروط وهي الإتيان بالفرائض، وموانع وهي اجتناب الكبائر، قال الحسن للفرزدق: إن للا إله إلا الله شروطا، فإياك وقذف المحصنة، وروي عنه أنه قال: هذا العمود فأين الطنب؟ يعني أن كلمة التوحيد عمود الفسطاط، ولكن لا يثبت الفسطاط بدون أطنابه، وهي فعل الواجبات وترك المحرمات، وقيل للحسن: إن ناسا يقولون: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال: من قال لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة، وقد تقدم الكلام فيه مفصلا. (رواه البخاري في ترجمة باب) من عادته أن يذكر بعد الباب حديثا معلقا مرفوعا أو موقوفا على صحابي أو تابعي بغير إسناد، فيه بيان ما يشتمل عليه أحاديث الباب ويضيف إليه الباب، وأثر وهب هذا ذكره البخاري في أول كتاب الجنائز تعليقا، ووصله في التاريخ الكبير، وأبونعيم في

(1/287)


الحلية، وقول المصنف "رواه البخاري" سهو منه، فإنه لم يروه البخاري في صحيحه، لا في ترجمة باب ولا في غيرها، بل ذكره معلقا، ولا يقال في مثل هذا "رواه" بل يقال: "ذكره".
44- قوله: (إذا أحسن أحدكم إسلامه) أي أجاد وأخلص، كقوله تعالى: ?بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن? [2: 113] قاله الطيبي، ووقع في مسند إسحاق بن راهويه: ((إذا حسن إسلام أحدكم))، وكأنه رواه بالمعنى؛ لأنه من لازمه، والمعنى: صار إسلامه حسنا باعتقاده وإخلاصه ودخوله فيه بالباطن والظاهر، وأن يستحضر عند عمله قرب ربه منه واطلاعه عليه، كما دل عليه تفسير الإحسان في حديث سؤال جبريل، وقد تقدم، والخطاب للحاضرين، والحكم عام لهم ولغيرهم باتفاق؛ لأن حكمه - صلى الله عليه وسلم - على الواحد حكم على الجماعة، ويدخل فيه النساء والعبيد لكن النزاع فيه كيفية
فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى لقي الله)) متفق عليه.
45- (44) وعن أبي أمامة أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما الإيمان؟ قال: ((إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/288)


التناول أهي حقيقة عرفية أو شرعية أو مجاز. (فكل حسنة يعملها) مبتدأ خبره (تكتب له بعشر أمثالها) فضلا من الله ورحمة، حال كونها منتهية (إلى سبع مائة ضعف) بكسر الضاد أي مثل، قال الأزهري: والضعف في كلام العرب المثل إلى ما زاد، وليس بمقصور على المثلين بل جائز في كلام العرب أن تقول: هذا ضعفه، أي مثلاه وثلاثة أمثاله؛ لأن الضعف في الأصل زيادة غير محصورة، ألا ترى إلى قوله تعالى: ?فأولئك لهم جزاء الضعف بما علموا? [34: 37] لم يرد مثلا ولا مثلين ولكن أراد بالضعف الأضعاف، فأقل الضعف محصور وهو المثل، وأكثره غير محصور. قال الطيبي: "إلى" لانتهاء الغاية، فيكون ما بين العشرة إلى سبع مائة درجات، بحسب الأعمال والأشخاص والأحوال – انتهى. وقد أخذ بعضهم فيما حكاه الماوردي بظاهر هذه الغاية فزعم أن التضعيف لا يتجاوز سبع مائة، ورد بقوله تعالى: ?والله يضاعف لمن يشاء? [2: 261]، قال الحافظ: والآية محتملة للأمرين، فيحتمل أن يكون المراد أنه يضاعف تلك المضاعفة بأن يجعلها سبع مائة، وهو الذي قاله البيضاوي، ويحتمل أنه يضاعف السبعمائة بأن يزيد عليها، والمصرح بالرد عليه حديث ابن عباس عند المصنف أي البخاري في الرقاق، ولفظه: ((كتب الله له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة))- انتهى. فالمراد بسبع مائة: الكثرة (تكتب بمثلها) من غير زيادة، والباء للمقابلة، قال القاري: أي كمية فضلا منه تعالى ورحمة، وإن كانت السيئات تتفاوت كيفية باختلاف الزمان والمكان وأشخاص الإنسان ومراتب العصيان (حتى لقي الله) إي إلى أن يلقى الله يوم القيامة فيجازيه أو يعفو عنه، وفي حديث أبي سعيد عند البخاري: ((والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها)). والعدول إلى الماضي لتحقق وقوعه، كقول تعالى: ?أتى أمر الله? [16: 1]، ولا يبعد تعلق "حتى" بالجملتين، وإرادة اللقي بمعنى الموت، قال الحافظ في شرح حديث أبي سعيد بلفظ: ((إذا أسلم العبد فحسن إسلامه

(1/289)


يكفر عنه كل سيئة زلفها...))الخ، والحديث يرد على من أنكر الزيادة والنقص في الإيمان؛ لأن الحسن تتفاوت درجاته – انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والبيهقي.
45- قوله: (ما الإيمان) أي علامته (قال: إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك) أي أحزنك ذنبك، قال الطيبي: يعني إذا صدرت منك طاعة وفرحت بها مستيقنا أنك تثاب عليها، إذا أصابتك معصية حزنت عليها، فذلك علامة الإيمان بالله واليوم والآخر (فأنت مؤمن) أي كامل الإيمان. قال المناوي: لفرحك بما يرضى الله وحزنك بما يغضبه، وفي
قال: يا رسول الله، فما الإثم؟ قال: إذا حاك في نفسك شيء فدعه)) رواه أحمد.
46- (45) وعن عمرو بن عبسة قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله من معك على هذا الأمر؟ قال: حر وعبد، قلت: ما الإسلام؟ قال: طيب الكلام وإطعام الطعام، قلت: ما الإيمان؟ قال: الصبر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحزن عليها إشعار بالندم الذي هو أعظم أركان التوبة (فما الإثم) أي ما علامته إذا لم يكن نص صريح أو نقل صحيح واشتبه أمره والتبس حكمه (إذا حاك في نفسك شيء) أي تردد ولم يطمئن به قلبك وأثر فيه تأثيرا يديم تنفيرا (فدعه) أي اتركه، وهو كقوله: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك))، وهذا بالنسبة إلى أرباب البواطن الصافية والقلوب الزاكية لا العوام الذين قلوبهم مظلمة بالمعاصي، فإنهم ربما يحسبون الإثم برا والبر إثما (رواه أحمد) (ج5: ص251، 252، 256)، وفي سنده يحيى بن أبي كثير، وهو مدلس، وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط. قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، إلا أن فيه يحيى بن أبي كثير، وهو مدلس وإن كان من رجال الصحيح – انتهى. وأخرجه أيضا ابن حبان والطبراني في الكبير والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان والضياء في المختارة كذا في الجامع الصغير، وأخرج أحمد والبزار والطبراني في الكبير عن أبي موسى نحوه.

(1/290)


46- قوله: (عن عمرو بن عبسة) بعين مهملة وموحدة وسين مهملة مفتوحات، ابن عامر بن خالد السلمي، كنيته أبونجيح، كان أخا أبي ذر لأمه، أسلم قديما بمكة، قال ابن سعد: يقولون: إنه رابع أو خامس في الإسلام، ثم رجع إلى بلاد قومه فأقام بها إلى أن هاجر بعد خيبر وقبل الفتح فشهدها، قال أبونعيم: كان قبل أن يسلم يعتزل عبادة الأصنام ويراها باطلا وضلالا، وكان يرعى فتظله غمامة، روى عنه ابن مسعود مع تقدمه وأبوأمامة الباهلي وسهل بن سعد، له ثمانية وأربعون حديثا، انفرد له مسلم بحديث يأتي في باب أوقات النهي، قال الحافظ في الإصابة (ج3: ص6) وتهذيب التهذيب (ج8: ص69): كانت وفاته في أواخر خلافة عثمان، فإني ما وجدت له ذكرا في الفتنة ولا في خلافة معاوية. (من معك على هذا الأمر) أي من يوافقك على ما أنت عليه من أمر الدين (قال: حر وعبد) قال القاري: أي كل حر وعبد، يعني مأمور بالموافقة، وقيل: أبوبكر وزيد، وقيل: أبوبكر وبلال، ويؤيده ما في إحدى روايات مسلم: ومعه يومئذ أبوبكر وبلال، ولعل عليا لم يذكر لصغره، وكذا خديجة لسترها وعدم ظهورها – انتهى. قلت: وكذا وقع في رواية لعمرو بن عبسة عند أحمد: ومعه أبوبكر وبلال، وفي أخرى عنده: من تابعك على أمرك هذا؟ قال: حر وعبد، يعني أبابكر وبلالا (ما الإسلام) أي علامته أو شعبه أو كماله (طيب الكلام وإطعام الطعام) ذكر الإطعام ليدخل فيه الضيافة وغيرها، وفيهما إشارة إلى الحث على مكارم الأخلاق وبذل الإحسان ولو بحلاوة اللسان. (ما الإيمان) أي ثمرته ونتيجته، أو خصاله وشعبه (قال) محصل خصال الإيمان أو ثمرة الإيمان (الصبر) أي على

(1/291)


والسماحة. قال: قلت: أي الإسلام أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده. قال: قلت: أي الإيمان أفضل؟ قال: خلق حسن، قال: قلت: أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت. قال: قلت: أي الهجرة أفضل؟ قال: أن تهجر ما كره ربك. قال: قلت: فأي الجهاد أفضل؟ قال: من عقر جواده وأهريق دمه. قال: قلت: أي الساعات أفضل؟ قال: جوف الليل الآخر)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الطاعة وعن المعصية وفي المعصية (والسماحة) أي السخاوة بالزهد في الدنيا والإحسان والكرم للفقراء، وقال الطيبي: فسر الإيمان بالصبر والسماحة لأن الأول يدل على ترك المنهيات، والثاني يدل على فعل المأمورات، كما فسره الحسن البصري بقوله: الصبر عن معصية الله، والسماحة على أداء فرائض الله، ثم جمع هاتين الخصلتين بالخلق الحسن، بناء على ما قالت الصديقة: ((كان خلقه القرآن))، أي يأتمر بما أمره الله، وينتهي عما نهى الله عنه، ويجوز أن يحملا على الإطلاق، ويكون قوله ((خلق حسن)) بعد ذكرهما كالتفسير له؛ لأن الصبر على أذى الناس والسماحة بالموجود يجمعهما الخلق الحسن – انتهى. (أي الإسلام أفضل) أي أي ذوي الإسلام وأهله أكثر ثوابا (أي الإيمان) أي أخلاقه أو خصاله أو شعبه (خلق حسن) بضم اللام وتسكن، وهو صفة جامعة للخصال السنية والشمائل البهية، والخلق: ملكة تصدر بها الأفعال عن النفس بسهولة من غير سبق روية، وتنقسم إلى فضيلة وهي الوسط، ورذيلة وهي الأطراف. (أي الصلاة أفضل) أي أركانها أو كيفياتها (قال: طول القنوت) أي القيام أو القراءة أو الخشوع، والأول أظهر. واختلف العلماء في أن طول القيام أفضل أو كثرة السجود، ويأتي الكلام فيه في الصلاة (أي الهجرة) أي أفرادها (أفضل) فإن الهجرة أنواع، إلى الحبشة عند إيذاء الكفارة للصحابة، ومن مكة إلى المدينة، وفي معناه الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وهجرة القبائل لتعلم المسائل من النبي - صلى الله عليه وسلم -،

(1/292)


والهجرة عما نهى الله عنه (أن تهجر ما كره ربك) فهذا النوع هو الأفضل؛ لأنه الأعم الأشمل (فأي الجهاد أفضل) أي أنواعه أو أهله، وهو الظاهر (من عقر) بصيغة المجهول (جواده) أي قتل فرسه (وأهريق دمه) بضم الهمزة وسكون الهاء، أي صب وسكب، يقال: أراق يريق، وهراق يهريق، بقلب الهمزة هاء، وأهراق يهريق بزيادتها، كما زيدت السين في استطاع، والهاء في مضارع الأول محركة وفي مضارع الثاني ساكنة، كذا قاله صاحب الفائق. وإنما كان هذا الجهاد أفضل لجمعه بين الإنفاق في سبيل الله، والشهادة في مرضاة الله (جوف الليل الآخر) صفة جوف أي النصف الأخير من الليل، وقيل: المراد به وسط النصف الثاني، وهو السدس الخامس من أسداس الليل، وهو الوقت الذي ورد فيه النزول الإلهي، وفي رواية لأحمد (ج4: ص187): ((جوف الليل الآخر أجوبه دعوة))، وروى الترمذي عن عمرو بن عبسة مرفوعا: ((أقرب ما يكون الرب من العبد في
رواه أحمد.
47- (46) وعن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من لقي الله لا يشرك به شيئا، ويصلي الخمس، ويصوم رمضان، غفر له، قلت: أفلا أبشرهم يا رسول الله؟ قال: دعهم يعملوا)) رواه أحمد.
48- (47) وعنه أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل الإيمان، قال: ((أن تحب لله، وتبغض لله، وتعمل لسانك في ذكر الله، قال: وماذا يا رسول الله؟ قال: وأن تحب للناس ما تحب لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله تلك الساعة فكن. (رواه أحمد) (ج4: ص385)، وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير، وفي إسنادهما شهر بن حوشب، وقد وثق على ضعف فيه، وأخرجه الطبراني في الكبير مختصرا من حديث أبي موسى ورجاله موثوقون.

(1/293)


47- قوله: (من لقي الله) أي مات (لا يشرك به شيئا) أي حال كونه غير مشرك (ويصلي الخمس، ويصوم رمضان) ترك ذكر الزكاة والحج لأنهما مختصان بالأغنياء، وخص الصلاة والصوم بالذكر لكونهما أفضل وأشهر وأعم (غفر له) أي غفر الله ذنوبه الصغائر والكبائر التي بينه وبين الله تعالى إن شاء، وأما حقوق العباد فيمكن أن يرضيهم الله تعالى من فضله (يعملوا) مجزوم على جواب الأمر، أي يجتهدوا في زيادة العبادة من السنن والنوافل، ولا يتكلوا على الشهادة والفرائض (رواه أحمد) (ج5: ص232) بسند صحيح.
48- قوله: (عن أفضل الإيمان) أي عن شعبه ومراتبه وأحواله أو خصال أهله (أن تحب) أي كل ما تحبه (لله) لا لغرض سواه (وتبغض) أي مبغوضك (لله) لا لطبع وهوى (وتعمل) من الإعمال بمعنى الاستعمال والإشغال (لسانك في ذكر الله) بأن لا يزال رطبا به بشرط الحضور. (وماذا يا رسول الله) أي وماذا أصنع بعد ذلك؟ "وماذا" إما منصوب بأصنع، أو مرفوع، أي أي شيء أصنعه؟ فعلى الأول مقول قال (وأن تحب) يكون منصوبا، وعلى الثاني مرفوعا، والواو للعطف على مقدر، والتقدير: أن تستقيم على ما قلنا وأن تحب (للناس) يحتمل التعميم ويحتمل التخصيص بالمؤمنين (ما تحب لنفسك) أي تحب لهم من الطاعات والمباحات الدنيوية والأخروية مثل الذي تحب لنفسك، والمراد أن تحب أن يحصل لهم مثل ما حصل لك لا عينه، سواء كان ذلك في الأمور المحسوسة أو المعنوية، وليس المراد أنك تحب أن ما عندك ينتقل إليهم، أو أنه بذاته يكون عندهم، إذ الجسم الواحد لا يكون في
رواه أحمد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/294)


مكانين؛ لأن قيام الجوهر أو العرض بمحلين محال، وهذا في عوام الناس، أما أهل الخصوص فلا يكمل إيمان أحدهم إلا إذا أحب أن يكون كل مسلم فوقه، ولذا قال الفضيل بن عياض لابن عيينة: إنك لا تكون ناصحا أتم النصح للناس إلا إذا كنت تحب أن كل مسلم يكون فوقك. وقال العلقمى: فإن قيل: ظاهر الحديث طلب المساواة، وكل أحد يحب أن يكون أفضل من غيره. يجاب بأن المراد الحث على التواضح، فلا يحب أن يكون أفضل من غيره ليرى عليه مزية. ويستفاد ذلك من قوله تعالى: ?تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين? [28: 83]، ولا يتم ذلك إلا بترك الحسد والحقد والغش، وكلها خصال مذمومة – انتهى. (رواه أحمد) (ج5: ص247) من طريقين، في أحداهما رشدين، وفي الأخرى ابن لهيعة، وكلاهما يرويان عن زبان، والثلاثة مضعفون، وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير، وفي سنده أيضا ابن لهيعة.
(1) باب الكبائر وعلامات النفاق
?الفصل الأول?
49- (1) عن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: ((قال رجل: يا رسول الله، أي الذنب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/295)


(باب الكبائر) جمع كبيرة، اعلم أنه ذهب الجمهور من السلف والخلف من جميع الطوائف إلى أن من الذنوب كبائر ومنها صغائر، وقد تظاهر على ذلك دلائل من الكتاب كقوله تعالى: ?إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم? [4:31]، وقوله تعالى: ?والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم? [53:32] وغير ذلك من الآيات، والسنة الصحيحة كالأحاديث التي دلت على انقسام المعاصي إلى ما تكفره الصلوات الخمس أو صوم رمضان أو الحج أو العمرة أو الوضوء أو صوم عرفة أو صوم عاشوراء أو فعل الحسنة أو غير ذلك مما جاءت به الأحاديث الصحيحة الثابتة، وإلى ما لا يكفره ذلك كما ثبت في الصحيح: ((ما لم يغش كبيرة)). وشذت طائفة فقالت: ليس في الذنوب صغيرة، بل كل ما نهى الله عنه كبيرة، ثم اختلف الجمهور في ضبط الكبيرة اختلافا كثيرا، فقيل كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، روي ذلك عن ابن عباس. وقيل ما وجبت فيه الحدود في الدنيا أو توجه إليها الوعيد بالنار في الآخرة، ومراد قائله: ضبط ما لم يرد فيه نص بكونه كبيرة. وقيل الأولى ضبطها بما يشعر بتهاون مرتكبها بدينه إشعارا دون الكبائر المنصوص عليها. والراجح أن كل ذنب نص على كبره أو عظمه أو توعد عليه بالعقاب في الآخرة أو ختم بالغضب أو اللعنة أو علق عليه حد أو شدد النكير عليه أو وصف فاعلها بالفسق فهو كبيرة. وذهب جماعة إلى أن الذنوب التي لم ينص على كونها كبيرة مع كونها كبيرة لا ضابط لها. قال الواحدى: ما لم ينص الشارع على كونه كبيرة فالحكمة في إخفاء أن يمتنع العبد من الوقوع فيه خشية أن يكون كبيرة كإخفاء ليلة القدر وساعة الجمعة والاسم الأعظم. هذا، وارجع للتفصيل إلى شرح مسلم للنووي في باب الكبائر من كتاب الإيمان، والفتح (ج5: ص526) في شرح باب عقوق الوالدين من الكبائر من أبواب الأدب، وفي شرح باب رمى المحصنات من كتاب المحاربين (ج6: ص383) والزواجر للهيتمي، والإحياء للغزالي

(1/296)


(وعلامات النفاق) تخصيص بعد تعميم.
49-قوله: (عن عبدالله بن مسعود) بن غافل بن حبيب الهذلي، يكنى أباعبدالرحمن، أسلم قديما في أول الإسلام قبل دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم وقبل عمر بزمان، وقيل: كان سادسا في الإسلام، ثم ضمه إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان من خواصه، وكان يعرف في الصحابة بصاحب النعلين والسواك والسواد والطهور، هاجر الهجرتين وشهد بدرا والمشاهد كلها، وصح عنه أنه قال: أخذت من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعين سورة. وكان يشبه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في سمته ودله وهديه، وشهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة فيما ذكر في حديث العشرة بإسناد حسن جيد. كان من كبار العلماء من الصحابة شهد فتوح الشام وولي القضاة بالكوفة وبيت مالها لعمر وصدرا من خلافة عثمان، ثم صار إلى المدينة فمات بها
أكبر عند الله؟ قال: ((أن تدعو لله ندا وهو خلقك. قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/297)


سنة (32) ودفن بالبقيع، وله بضع وستون سنة. مناقبه وفضائله كثيرة جدا، بسط ترجمته الحافظ في الإصابة (ج2 ص370، 368) وابن عبدالبر في الاستيعاب. روى ثمان مائة حديث وثمانية وأربعين حديثا، اتفقا على أربعة وستين، وانفرد البخاري بأحد وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين. روى عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين. (أي الذنب أكبر) وفي رواية أعظم (أن تدعو) أي تجعل كما في رواية وكقوله تعالى: ?لا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون? [2:22] (ندا) بكسر النون أي شريكا ونظيرا، والند في اللغة: المثل المناوي: أي المماثل المخالف المضاد المعادي، من ند ندودا إذا نفرا، وناددت الرجل أي خالفته، خص بالمخالف في الأفعال والأحكام المماثل في الذات والصفات، كما خص المساوي للمماثل في القدر والشكل فيما يشارك في القدر والمساحة، والشبه فيما يشارك في الكيفية، والمثل عام في جميع ذلك، والضد أحد المتقابلين لا يمكن اجتماعها (وهو خلقك) أي وغيره لا يستطيع خلق شيء، فوجود الخلق يدل على الخالق، واستقامة الخلق تدل على توحيده، إذ لو كان المدبر اثنين لم يكن على الاستقامة. والجملة حال من الله أو من فاعل " أن تدعو"، أي والحال أنه انفرد بخلقك ولم يخلقك غيره، ولم يقدر على أن يدفع السوء والمكاره منك غيره، بل لله عليك الأنعام بما لا تقدر على عده. وفي الخطاب إشارة إلى أن الشرك من العالم بحقيقة التوحيد أقبح منه من غيره، (قال ثم أي) استفهام بالتنوين بدل من المضاف إليه لكن يحذف التنوين وقفا بمعنى: أي شيء من الذنوب أكبر بعد الشرك، فثم لتراخي الرتبة (أن تقتل ولدك) أي الذي هو أحب الأشياء عند الإنسان عادة، ثم الحامل على قتله خوف أن يأكل معك، وهو في نفسه من أخس الأشياء، فإذا قارن القتل سيما قتل الولد سيما من العالم بحقيقة الأمر كما يدل عليه الخطاب زاد قبحا على قبح. (خشية) منصوب على أنه مفعول له (أن يطعم) بنصب أوله (معك) بخلا مع الوجدان أو

(1/298)


إيثارا لنفسه عليه عند الفقد، ولا اعتبار بمفهومه لأنه خرج مخرج الغالب لأنهم كانوا يقتلونهم لأجل ذلك، وهو معنى قوله: ?ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق? [17:31] أي فقر. (أن تزاني حليلة جارك) الحليلة بالحاء المهملة، وهي زوجته من حل يحل بالكسر، لأنها تحل له، فهي فعيلة بمعنى فاعلة، أو من حل يحل بالضم حلولا؛ لأنها تحل معه في فراش واحد. قال النووي: ومعنى "تزاني" أي تزني بها برضاها، وذلك يتضمن الزنا وإفسادها على زوجها واستمالة قلبها إلى الزاني، وذلك أفحش، وهو مع امرأة الجار أشد قبحا وأعظم جرما؛ لأن الجار يتوقع من جاره الذب عنه وعن حريمه، ويأمن بوائقه ويطمئن إليه، وقد أمر بإكرامه والإحسان إليه، فإذا قابل هذا كله بالزنا بامرأته وإفسادها عليه مع تمكنه منهما على وجه لا يتمكن غيره منه كان في غاية من القبح – انتهى. والحاصل أن هذه الذنوب أي الإشراك بالله والقتل
فأنزل الله تصديقها ((والذين لا يدعون مع الله إلها آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون – الآية)) متفق عليه.
50-(2) وعن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق
الوالدين،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/299)


والزنا في ذاتها قبائح أي قبائح، وقد قارنها من الأحوال ما جعلها في القبح بحيث لا يحيطها الوصف. وقال القاري: حاصل القيود من الند والولد والجار كمال تقبيح هذه الأصناف من هذه الأنواع لا أنها قيود احترازية. (فأنزل الله تصديقها) أي تصديق هذه المسألة أو الأحكام، ونصبه على أنه مفعول له أي أنزل الله هذه الآية تصديقا لها ?والذين لا يدعون مع الله إلها آخر? هذا من جملة الأخبار عن المبتدأ المتقدم وهو "عباد الرحمن" ?ولا يقتلون النفس التي حرم الله? أي قتلها (إلا بالحق) كالرجم والردة والقصاص، والمعنى: لا يقتلون نفس غير الحربي بوجه من الوجوه إلا بالحق، فهو استثناء مفرغ (الآية) وهي بتمامها في سورة الفرقان. فإن قلت: القتل والزنا في الآية مطلقان، وفي الحديث مقيدان. قلت: لأنها بالقيد أعظم وأفحش، ولا ما نع من الاستدلال لذلك بالآية. وقال القاري: في كون هذه الآية مصدقة للحديث دليل واضح لما تقدم من أن المقصود من الحديث إنما هو بيان مطلق الزنا والقتل، وأن ذكر الولد والخشية وحليلة الجار لبيان زيادة الفحش والتشنيع والتفضيح أو رعاية لحال السائل لا للتقييد، وإلا لم تكن الآية الدالة على أكبرية القتل والزنا لا بقيد مطابقة للحديث حتى تصدقه، بل كان الحديث مقيدا لها. والحديث أخرجه البخاري في تفسير سورة البقرة والفرقان وفي الأدب وفي المحاربة وفي التوحيد، ومسلم في الإيمان، والترمذي في تفسير سورة الفرقان، والنسائي في المحاربة. واعلم أنه لم يقع في كثير من النسخ المطبوعة في الهند، وفي النسخة التي طبعت على حاشية المرقاة عزو الحديث لأحد من مخرجيه من أئمة الحديث. والظاهر أنه سقط لفظ " متفق عليه" من تلك النسخ أو لم يكن موجودا في أصولها، والصواب وجود هذه اللفظة لوقوعها في النسخ المخطوطة التي ذكرها الشيخ أبوبكر زهير شاويش في مقدمته، ولما أنها ضبطها القاري في شرحه للمشكاة، وكانت عنده عدة نسخ مصححة مقروءة مسموعة

(1/300)


معتمدة، أخذ من مجموعها أصلا وصححه منها، وضبط في شرحه على ما ذكره في أول الشرح.
50-قوله: (الكبائر) المراد به أكبر الكبائر لما في رواية عند أحمد: من أكبر الكبائر، ولحديث عبدالله بن أنيس عند الترمذي بسند حسن مرفوعا قال: من أكبر الكبائر ... فذكر منها: اليمين الغموس، ولحديث ابن مسعود المتقدم، فإنه جعل فيه الشرك بالله أكبر الذنوب، ولحديث أنس عند البخاري في الديات وفيه: أكبر الكبائر ...الحديث. (الإشراك بالله) أي اتخاذ إله غير الله، المراد به مطلق الكفر، وتخصيص الشرك بالذكر لغلبته في الوجود لاسيما في بلاد العرب، فذكر تنبيها على غيره من أصناف الكفر (وعقوق الوالدين) بضم العين المهملة أي عصيان أمرهما وترك
وقتل النفس. واليمين الغموس))، رواه البخاري.
51- (3) وفي رواية أنس ((وشهادة الزور)) بدل اليمين الغموس، متفق عليه.
52- (4) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اجتنبوا السبع الموبقات،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/301)


خدمتها، مشتق من العق وهو الشق والقطع، والمراد به: صدور ما يتأذى به الوالد من ولده من قول أو فعل إلا في الشرك أو معصية ما لم يتعنت الوالد. وضبطه ابن عطية بوجوب طاعتهما في المباحات فعلا وتركا، واستحبابها في المندوبات وفروض الكفاية كذلك، ومنه تقديمها عند تعارض الأمرين. ثم اقترانه بالإشراك لما بينهما من المناسبة، إذ في كل قطع حقوق السبب في الإيجاد والإمداد، وإن كان ذلك لله حقيقة وللوالدين صورة، ونظيره قوله تعالى: ?واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا? [4:36]. وقوله: ?أن أشكر لي ولوالديك? [14:31]. (وقتل النفس) أي بغير حق (واليمين الغموس) أي الكاذبة، بفتح الغين المعجمة وضم الميم الخفيفة، وهو الحلف على ماض متعمدا للكذب، بأن يقول: والله ما فعلت كذا أو فعلت كذا، وهو يعلم أنه ما فعله، أو أنه فعله، أو أن يحلف كاذبا متعمدا ليذهب مال غيره، سمي غموسا لأنه يغمس أي يدخل صاحبه في الإثم ثم في النار. وقيل في الكفارة بناء على مذهب الشافعية (رواه البخاري) في الإيمان والنذور وفي الديات وفي استتابة المعاندين والمرتدين، وأخرجه أيضا أحمد، والترمذي في التفسير، والنسائي في المحاربة.

(1/302)


51-قوله: (وفي رواية أنس) خبر مقدم، والمبتدأ قوله (وشهادة الزور) بضم الزاي أي الكذب، وسمي زورا لميلانه عن جهة الحق. قال الحافظ: ضابط الزور وصف الشيء على خلاف ما هو به، وقد يضاف إلى القول فيشمل الكذب والباطل، وقد يضاف إلى الشهادة فيختص بها، وقد يضاف إلى الفعل ومنه "لابس ثوبي زور"، ومنه تسمية الشعر الموصول زورا. (بدل اليمين الغموس) منصوب على الظرفية، وعامله معنى الفعل الذي في "وفي رواية أنس"، "واليمين" بالرفع حكاية، وبالجر عملا بالإضافة. قيل: ولعل اختلاف أنس لابن عمرو لاختلاف المجلس، أو نيسان كل منهما، والله أعلم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الشهادات والأدب والديات، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضا الترمذي، والنسائي.
52-قوله: (اجتنبوا السبع) أي احذروا فعلها وابعدوا عنها (الموبقات) بموحدة مكسورة وقاف، أي المهلكات جمع موبقة. سميت بذلك لأنها سبب لإهلاك مرتكبها في الدنيا بما يترتب عليها من العقوبات وفي الآخرة من العذاب، والمراد بها الكبائر، كما ثبت في روايات وأحاديث أخرى، ذكرها الحافظ في شرح باب رمي المحصنات، وفي أواخر المحاربين. والتنصيص على عدد لا ينفي غيره وإلا فهي إلى السبعين أقرب، روي ذلك عن ابن عباس، وهو محمول على المبالغة بالنسبة إلى من اقتصر على سبع. وقيل في الجواب عن الحكمة في الاقتصار على سبع أنه علم أولا
قالوا: يارسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق. وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات))،
متفق عليه.
53- (5) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/303)


بالمذكورات ثم علم بما زاد، فيجب الأخذ بالزائد، أو أن الاقتصار وقع بحسب المقام بالنسبة إلى السائل أو من وقعت له واقعة، ونحو ذلك. (الشرك بالله) أي جعل أحد شريكا لله تعالى، قال المناوي: أكبر الكبائر وأعظمها: الشرك ثم القتل ظلما، وما عدا ذلك يحتمل أنه في مرتبة واحدة، فإن الواو لا تقتضي الترتيب، ويقال في كل واحدة: إنها من أكبر الكبائر – انتهى.بزيادة يسيرة. (والسحر) بكسر السين وسكون الحاء المهملتين، وهو أمر خارق للعادة صادر عن نفس شريرة، والذي عليه الجمهور أن له حقيقة تؤثر بحيث تغير المزاج. قال النووى: عمل السحر حرام، ومنه ما يكون كفرا ومنه ما لا يكون كفرا بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر وإلا فلا، وأما تعلمه وتعليمه فحرام، وفي حكم السحر ومتعلقاته اختلاف كثير وتفاصيل ومباحث ارجع لها إلى تفسير الفخر الرازي، وأحكام القرآن للجصاص الرازي، والفتح للحافظ. (إلا بالحق) أي بفعل موجب للقتل شرعا. (وأكل الربا) أي تناوله بأي وجه كان (وأكل مال اليتيم) أي بغير حق (والتولي) بكسر اللام أي الإدبار للفرار (يوم الزحف) أي يوم القتال في الجهاد، و"الزحف" بفتح الزاي وسكون الحاء اسم للجماعة التي يزحفون إلى العدو أي يمشون إليهم بمشقة، من زحف الصبي إذا دب على إسته. وقيل: سمي به لكثرته وثقل حركته كأنه يزحف. وقيل: اسم لجيش الكفار سموا بذلك لكثرة زحفهم على المسلمين، سموا بالمصدر للمبالغة. وإنما يكون التولي كبيرة إذا لم يزد عدد الكفار على مثلى المسلمين إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة. (وقذف المحصنات) أي الحرائر العفيفات، يعني رميهن بالزنا، جمع محصنة بفتح الصاد أي التي أحصنها الله من الزنا، وبكسر الصاد أي التي حفظت فرجها من الزنا (المؤمنات) احتراز عن قذف الكافرات، فإن قذفهن ليس من الكبائر، فإن كانت ذمية فقذفها من الصغائر ولا يوجب الحد، وفي قذف الأمة المسلمة التعزير دون الحد،

(1/304)


وإذا كان المقذوف رجلا يكون القذف أيضا من الكبائر، ويجب الحد أيضا، فتخصيصهن لمراعاة الآية والعادة (الغافلات) عن الفواحش وما قذفن به، كناية عن البريئات؛ لأن البريء غافل عما بهت به من الزنا، وأما غير الغافلات عن الفواحش فلا يحرم قذفهن إن كن معلنات. قال القاري: والغافلات مؤخر عن المؤمنات في الحديث عكس الآية على ما في النسخ المصححة، ووقع في شرح ابن حجر بالعكس وفق الآية (متفق عليه). وأخرجه أيضا أبوداود، والنسائي.
53- قوله: (لايزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الواو للحال، وظاهره دليل على أن صاحب الكبيرة ليس بمؤمن كما قالت الخوارج والمعتزلة، خلافا لأهل السنة فأوله بوجوه جمعا بينه وبين الدلائل من الكتاب والسنة.
ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن، ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن، فإياكم وإياكم))،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/305)


الصحيحة التي تدل على أن أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك، بل هم المؤمنون ناقصوا الإيمان، إن تابوا سقطت عقوبتهم، وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة. فمن الوجوه التي أول أهل الحق الحديث بها أن المراد المؤمن الكامل في إيمانه. ومنها أن معني نفي الإيمان نفي الأمان من عذاب الله؛ لأن الإيمان مشتق من الأمن. ومنها أن المراد بالمؤمن المطيع لله، يقال: آمن له، إذا انقاد وأطاع. ومنها أنه محمول على الزجر والوعيد للتنفير عنه. ومنها أنه محمول على الإنذار لمرتكب هذه الكبائر بسوء عاقبة الأمر، إذ مرتكبها لا يؤمن عليه أن يقع في الكفر الذي هو ضد الإيمان. ومنها أن المراد أن الإيمان إذ زنى الرجل خرج منه، وكان فوق رأسه مثل الظلة، فإذا انقطع رجع إليه. ومنها أن معنى مؤمن مستحي من الله؛ لأن الحياء شعبة من الإيمان، فلو استحى منه واعتقد أنه ناظر لم يرتكب هذا الفعل الشنيع، قاله الطيبي. ومنها أن صيغ الأفعال وإن كانت واردة على طريق الإخبار فالمراد منها النهي، ويشهد له أنه روي " لا يزن" بحذف الياء " ولا يشرب" بكسر الباء. ومنها أنه محمول على من فعله مستحلا مع عمله بتحريمه. ومنها أن معنى نفي كونه مؤمنا: أنه شابه الكافر في عمله، وموقع التشبيه أنه مثله في جواز قتاله في تلك الحالة ليكف عن المعصية، ولو أدى إلى قتله، فإنه لو قتل في تلك الحالة يكون دمه هدرا، فانتفت فائدة الإيمان في حقه بالنسبة إلى زوال عصمته في تلك الحالة. ومنها أن معناه ليس بمستحضر في حالة تلبسه بالكبيرة جلال من آمن به، فهو كناية عن الغفلة التي جلبتها له غلبة الشهوة. ومنها أن معنى " وهو مؤمن" أي مصدق بالعقاب عليه، إذ لو كان معه تصديق بالعقاب ما وقع في الذنب. وارجع لمزيد البسط والتوضيح إلى الفتح في أول الحدود. (ولاينتهب) انتهب ونهب إذا أغار على أحد وأخذ ماله قهرا (نهبة) بالضم. المال الذي ينهب جهرا قهرا ظلما لغيره، فهو مفعول

(1/306)


به، وبالفتح مصدر (يرفع الناس) صفة "نهبة" (إليه) أي إلى الناهب (فيها) أي لسببها ولأجلها أو في حال فعلها أو أخذها (أبصارهم) أي تعجبا من جرأته أو خوفا من سطوته، أي يتضرعون لديه ولا يقدرون على دفعه، أو هو كناية عن عدم التستر بذلك فيكون صفة لازمة للنهب بخلاف السرقة فإنه يكون خفية، والانتهاب أشد لما فيه من مزيد الجرأة وعدم المبالات، ولم يذكر الفاعل في الشرب وما بعده ففيه كما قال ابن مالك: حذف الفاعل لدلالة الكلام عليه، والتقدير: لا يشرب الشارب ... الخ، كقوله تعالى: ?ولا يحسبن الذين قتلوا? [ 3:168] في قراءة هشام أي حاسب – انتهى. ولا يرجع الضمير إلى الزاني لئلا يختص به، بل هو عام في كل من شرب وكذا في الباقي، ويجوز أن يكون في كل منهما ضمير مستتر يعود إلى مؤمن (ولا يغل أحدكم) الغلول الخيانة أو الخيانة في الغنيمة، والغل الحقد، ومضارع الأول بالضم، وهو المراد، والثاني بالكسر (حين يغل) أي يسرق شيئا من غنيمة أو يخون في أمانة (فإياكم إياكم) نصبه على التحذير،
متفق عليه.
54- (6) وفي رواية ابن عباس: ((ولا يقتل حين يقتل وهو مؤمن)). قال عكرمة: قلت لابن عباس: كيف ينزع الإيمان منه؟ قال: هكذا، وشبك بين أصابعه ثم أخرجها، فإن تاب عاد إليه هكذا، وشبك بين أصابعه، وقال أبوعبدالله: لا يكون هذا مؤمنا تاما، ولا يكون له نور الإيمان، هذا لفظ البخاري.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والتكرير للتوكيد والمبالغة، أي أحذركم من فعل هذه الأشياء المذكورة. (متفق عليه) إلا قوله: ((ولا يغل)) فإنه من إفراد مسلم، والحديث أخرجه البخاري في المطاعم والأشربة والحدود والمحاربين، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضا الترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وفي الباب عن جماعة من الصحابة، ذكر أحاديثهم الهيثمي في مجمع الزوائد.

(1/307)


54- (وفي رواية ابن عباس) أي في حديثه زيادة، وحديث ابن عباس هذا، أخرجه البخاري في المحاربين وفي الحدود (ولا يقتل) أي القاتل مؤمنا بغير حق (قال عكرمة) بكسر أوله وسكون الكاف وكسر الراء المهملة، هو عكرمة أبوعبدالله المدني مولى ابن عباس، أصله بربري، وهو أحد الأئمة الأعلام وأحد فقهاء مكة وتابعيها. قال في التقريب: ثقة، ثبت، عالم بالتفسير، لم يثبت تكذيبه عن ابن عمر، ولا يثبت عنه بدعة، من أوساط التابعين، مات بالمدينة سنة (107) وقيل غير ذلك، وله ثمانون سنة، روى عنه خلق كثير. وبسط ترجمته الحافظ في تهذيب التهذيب (ج7: ص263،273) من أحب البسط والتفصيل رجع إليه. (كيف ينزع) بضم الياء وفتح الزاي المعجمة (الإيمان منه) عند ارتكابه هذه الكبائر (قال: هكذا) أي تفسيره (وشبك) أو قال هكذا وفعل التشبيك، يعني جمع بين قوله "هكذا" وفعل التشبيك (ثم أخرجها) تعبير للأمر المعنوي بالمدرك الحسي تقريبا للفهم (فإن تاب) أي رجع المرتكب عن ذلك وأقلع (عاد إليه) الايمان، قيل: أي كماله ونوره، وجاء مثل ما قاله ابن عباس مرفوعا، فقد أخرج أبوداود، والحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة: ((إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان فكان عليه كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه الإيمان)). وعند الحاكم عنه أيضا مرفوعا: ((من زنى أو شرب الخمر نزع الله منه الإيمان كما يخلع الإنسان قميصه عن رأسه)). وأخرج الطبري عن ابن عباس مرفوعا: ((من زنى نزع الله منه نور الإيمان من قلبه، فإن شاء أن يرد إليه رده))، (وقال أبوعبدالله) أي الإمام البخاري في تأويل الحديث: (لايكون هذا مؤمنا تاما) أي كامل الإيمان (ولايكون له نور الإيمان) أي كماله، بل يقع في إيمانه نقصان أي نقصان، والحاصل أن الإيمان: تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان. ونوره أي كماله الأعمال الصالحة واجتناب المنهيات، فإذا أخل بالعمل أو ارتكب معصية مثل الزنا وشرب الخمر والسرقة ذهب نوره، وزال

(1/308)


كماله، وبقي صاحبه في الظلمة. (هذا لفظ البخاري) أي هذا التأويل الذي ذكرناه نقلا عن البخاري هو عن لفظ البخاري لا معناه. لكن لم نجد هذا القول في النسخ الموجودة الحاضرة عندنا من صحيحه، ولعله
55-(7) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((آية المنافق ثلاث - زاد مسلم: ((وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)) ثم اتفقا - إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في نسخة أخرى منه، أو في تصنيف آخر له، والله أعلم. قال ميرك: في قول المصنف " وفي رواية" وقوله: "وقال" وكذا في قوله: "وهذا لفظ البخاري" سماجة لا تخفى – انتهى.فتأمل.

(1/309)


55-قوله: (آية المنافق) الآية العلامة، واللام للجنس، وكان القياس جمع المبتدأ الذي هو" الآية" ليطابق الخير الذي هو (ثلاث) أي خصال، وأجيب بأن الثلاث اسم جمع، ولفظه مفرد على أن التقدير: آية المنافق معدودة بالثلاث. وقال الحافظ: الإفراد على إرادة الجنس، أي كل واحد منها آية. وقد روى أبوعوانه في صحيحه بلفظ ((علامات المنافق))، وأجيب أيضا بأنه مفرد مضاف فيعم، كأنه قال: آياته ثلاث. والنفاق لغة: مخالفة الباطن للظاهر، فإن كان في اعتقاد الإيمان فهو نفاق الكفر، ويقال النفاق الأكبر، وإلا فهو نفاق العمل، ويدخل فيه الفعل والترك، وتفاوت مراتبه، ويقال له: النفاق الأصغر، وهو ترك المحافظة على أمور الدين سرا، ومراعاتها علنا، وهو نفاق دون نفاق. (وإن صام وصلى) أي وإن عمل أعمال المسلمين من الصوم والصلاة وغيرهما من العبادات، وهذا الشرط اعتراض وارد للمبالغة لا يستدعى الجواب. (وزعم) أي ادعى (أنه مسلم) أي كامل (ثم اتفقا) أي البخاري ومسلم (إذا حدث) في كل شيء (كذب) بالتخفيف أي أخبر عنه بخلاف ما هو به قاصدا للكذب. (وإذا وعد) أي بالخير في المستقبل؛ لأن الشر يستحب إخلافه، بل قد يجيب. وقال العلقمي: الوعد يستعمل في الخير والشر، يقال: وعدته خيرا ووعدته شرا. فإذا أسقطوا الخير والشر قالوا في الخير: الوعد والعدة، وفي الشر: الإبعاد والوعيد. قال الشاعر:
وإني إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إبعادي ومنجز موعدي

(1/310)


(أخلف) أي لم يف بوعده، والاسم منه الخلف، ووجه المغايرة بين هذه وما قبلها: أن الإخلاف الذي هو لازم الوعد قد يكون بالفعل، وهو غير لازم التحديث الذي هو الكذب الذي لا يكون فعلا . وخلف الوعد لا يقدح إلا إذا كان العزم عليه مقارنا للوعد، أما لو كان عازما ثم عرض له مانع أو بدا له رأي فهذا لم يوجد منه صورة النفاق، قاله الغزالي. فخلف الوعد إن كان مقصودا حال الوعد أثم فاعله، وإلا فإن كان بلا عذر كره له ذلك أو بعذر فلا كراهة. وفي الطبراني من حديث سلمان يشهد له حيث قال: ((إذا وعد وهو يحدث نفسه أنه يخلف))، وكذا قال في باقي الخصال. وإسناده لا بأس به، ليس فيهم من أجمع على تركه، وهو عند أبي داود، والترمذي من حديث زيد بن أرقم بلفظ: ((إذا وعد الرجل أخاه، ومن نيته أن يفي له فلم يف فلا إثم عليه))، (وإذا أؤتمن) بصيغة المجهول، أي جعل أمينا على شيء (خان) بأن تصرف فيه على خلاف الشرع. وإنما خص هذه الثلاث بالذكر لاشتمالها على المخالفة التي هي مبنى النفاق من مخالفة السر العلن، فالكذب هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به، والأمانة حقها أن تؤدى إلى
56-(8) وعن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/311)


أهلها، فالخيانة مخالفة لها، والخلاف في الوعد ظاهر، ولذا صرح بأخلف، قاله الطيبي. فإن قلت إذا وجدت هذه الخصال في مسلم فهل يكون منافقا؟ أجيب بأنها خصال نفاق، لا نفاق، فهو على سبيل المجاز، أي صاحب هذه الخصال كالمنافق، وهو بناء على أن المراد بالنفاق نفاق الكفر. أو المراد الاعتياد، ولذا قيد هذا بإذا المقتصية للتكرار، يعني أن المتصف بذلك هو من اجتمعت فيه هذه الخصال، واعتادها وصارت له ديدنا وعادة، واستمر عليها حتى رسخت فيه، بحيث لم يبق للصدق فيه مذهب، ولا للأمانة ممكن، ومن كان كذلك فهو بالحري أن يسمى منافقا، فإنه لا يوجد على هذه الصفة إلا من طبع على قلبه وختم على سمعه وبصره، فأما المؤمن المقترن بتلك الخصال فإنه إن فعلها مرة تركها أخرى، وإن أسر عليها زمانا أقلع عنها زمانا آخر، وإن وجدت فيه خلة عدمت منه أخرى، فمجموع الخصال الخمس على وجه الاعتياد لا يوجد في غير المنافق بنفاق الكفر. أو المراد الإنذار والتحذير من أن يعتاد هذه الخصال فتفضي به إلى النفاق الحقيقي، أي نفاق الاعتقاد والكفر. أو المراد بالنفاق هو النفاق العملي لا النفاق الإيماني أي الاعتقادي، وهذا ارتضاه القرطبي، وهذه الأجوبة كلها مبنية على أن اللام في المنافق للجنس، وقيل: إنها للعهد إما منافقي زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإما منافق خاص شخص بعينه. وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يواجههم بصريح القول فيقول منافق، وإنما يشير إشارة. قال الحافظ: تمسك هؤلاء بأحاديث ضعيفة جاءت في ذلك لو ثبت شيء منها لتعين المصير إليه، وأحسن الأجوبة ما ارتضاه القرطبي – انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: الأمر كما قال الحافظ من أن أحسن الأجوبة ما ارتضاه القرطبي، وقد نقل الترمذي هذا القول عن أهل العلم مطلقا – انتهى. والحديث أخرجه البخاري في الإيمان والوصايا والشهادات والأدب، ومسلم، والترمذي، والنسائي في الإيمان.

(1/312)


56- قوله: (أربع) أي خصال أربع، أو أربع من الخصال مبتدأ، خبره (من كن فيه كان منافقا خالصا) أي في هذه الخصال فقط لا في غيرها، أو شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال، أو المراد اجتمعن فيه على وجه الاعتياد والاستمرار والرسوخ كما تقدم، وقيل وصفه بالخلوص، يؤيد قول من قال: إن المراد النفاق العملي لا الإيماني، أو النفاق العرفي لا الشرعي؛ لأن الخلوص بهذين المعنيين لا يستلزم الكفر الملقي في الدرك الأسفل من النار. (حتى يدعها) أي يتركها (وإذا حدث كذب) قيل: ومن حدث عن عيش له سلف فبالغ فهذا لا يضر، وإنما يضر من حدث عن الأشياء بخلاف ما هي عليه قاصدا للكذب. (وإذا عاهد غدر) أي نقض العهد ابتدأ وترك الوفاء لما عاهد عليه
وإذا خاصم فجر))، متفق عليه.
57-(9) وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل المنافق كالشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة))، رواه مسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/313)


(وإذا خاصم فجر) أي في خصومته، أي مال عن الحق وقال الباطل والكذب. قال أهل اللغة: أصل الفجور الميل عن القصد. وقال القاري: أي شتم ورمى بالأشياء القبيحة. فإن قيل: ظاهر الحديث المتقدم يقتضي الحصر في ثلاث، فكيف جاء في هذا الحديث أربع، أجاب القرطبي باحتمال أنه استجد له - صلى الله عليه وسلم - من العلم بخصالهم ما لم يكن عنده. وأجيب أيضا بأن في رواية لمسلم ما يدل على عدم الحصر، فإن لفظها: ((من علامة المنافق ثلاث))، فيكون قد أخبر ببعض العلامات في وقت وبعضها في وقت آخر. وقيل: التخصيص بالعدد لا يدل على نفي الزائد، وقد تحصل من الحديثين خمس خصال، الثلاثة السابقة في الأول، والغدر في المعاهدة، والفجور في الخصومة، فهي متغايرة باعتبار تغاير الأوصاف واللوازم. ووجه الحصر فيها أن إظهار خلاف ما في الباطن إما في الماليات وهو ما إذا أؤتمن، وإما في غيرها، وهو إما في حالة الكدورة فهو إذا خاصم، وإما في حالة الصفاء، فهو إما مؤكد باليمين فهو إذا عاهد، أو لا فهو إما بالنظر إلى المستقبل فهو إذا وعد، وإما بالنظر إلى الحال فهو إذا حدث، لكن هذه الخمسة في الحقيقة ترجع إلى الثلاث؛ لأن الغدر بالعهد منطو تحت الخيانة في الأمانة، والفجور في الخصومة داخل تحت الكذب في الحديث، كذا في شرح القسطلاني (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد، والترمذي، والنسائي، وأبوداود.

(1/314)


57-قوله: (كالشاة العائرة) أي المترددة (بين الغنمين) أي قطيعين وثلثين من الغنم لا تدري أيهما تتبع، فإن الغنم اسم جنس يقع على الواحد والجمع. وقال السندهي: الغنم جمع، ففي الحديث تثنية الجمع بتأويله بالجماعة. نقل السيوطي عن الزمخشري أنه قال في المفصل: قد يثنى الجمع على تأويل الجماعتين والفرقتين، ومنه هذا الحديث – انتهى. والعائرة هي التي تطلب الفحل فتردد بين قطيعين ولا تستقر مع أحداهما، والمنافق مع المؤمنين بظاهره ومع المشركين بباطنه، تبعا لهواه وغرضه الفاسد، وميلا إلى ما يتبعه من شهواته، فصار بمنزلة تلك الشاة، وبذلك وصفهم الله تعالى في قوله: ?مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء? [4:143]، قال الطيبي: وخص الشاة العائرة بالذكر إيماء بمعنى سلب الرجولية عن المنافقين من طلب الفحل للضراب (تعير) بفتح أوله، أي تردد وتذهب، من عار الفرس عيارا انفلت وذهب هنا وهنا من مرجه (إلى هذه) أي القطيعة (مرة وإلى هذه) أي القطيعة الأخرى (مرة) أخرى ليضربها فحلها، فلا ثبات لها على حالة واحدة، وإنما هي أسير شهوتها (رواه مسلم) في صفات المنافقين قبل صفة القيامة من أواخر صحيحه، وأخرجه أيضا أحمد، والنسائي، وزاد: ((لا تدري أيهما تتبع)).
?الفصل الثاني?
58- (10) عن صفوان بن عسال قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي، فقال له صاحبه: لا تقل نبي، إنه لو سمعك لكان له أربع أعين، فأتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألاه عن تسع آيات بينات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/315)


58-قوله: (صفوان) بفتح الصاد وسكون الفاء (ابن عسال) بالمهملة وتشديد الثانية، المرادي الجملى، غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - اثنتي عشرة غزوة، وسكن الكوفة. له عشرون حديثا، روى عنه ابن مسعود مع جلالته وزر بن حبيش وعبدالله بن سلمة المرادي وغيرهم. (قال يهودي لصاحبه) أي من اليهود (اذهب بنا) الباء للمصاحبة أو التعدية (لا تقل نبي) مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو نبي. وهو مقولة القول كما في قوله تعالى: ?يقال له إبراهيم? [21:60] أي هو إبراهيم. (إنه) بكسر الهمزة استئناف، فيه معني التعليل أي لأنه (لو سمعك) أي سمع قولك "إلى هذا النبي" (لكان له أربع أعين) قال التوربشتي: أي يسر بقولك "هذا النبي" سرورا يمد الباصرة فيزداد به نورا على نور، كذي عينين أصبح يبصر بأربع، فإن الفرح يمد الباصرة، كما أن الهم والحزن يخل بها، ولذا يقال لمن أحاطت به الهموم: أظلمت عليه الدنيا. وبذلك شهد التنزيل: ?وابيضت عيناه من الحزن? – انتهى. قال السندهي: هو كناية عن زيادة الفرح وفرط السرور، إذ الفرح يوجب قوة الأعضاء، وتضاعف القوى يشبه تضاعف الأعضاء الحاملة لها. (فسألاه) أي امتحانا (عن تسع آيات بينات) أي واضحات، والآية العلامة الظاهرة تستعمل في المحسوسات كعلامة الطريق، والمعقولات كالحكم الواضح والمسألة الواضحة، والمراد في الحديث إما المعجزات التسع كما هو المراد في قوله تعالى: ?أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات? [27:11]، وبقية التسع هي العصا والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنون ونقص من الثمرات. وعلى هذا فالجواب في الحديث متروك، ترك ذكره الراوي استغناء بما في القرآن أو بغيره، وقوله: ((لا تشركوا..الخ)) كلام مستأنف ذكره عقب الجواب، وإما الأحكام العامة الشاملة للملل كلها كما جوز ذلك في قوله تعالى: ?ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات? [17:101] الخ . وعلى هذا فالمذكور في الحديث هو الجواب،

(1/316)


لكن زيد فيه ذكر "وعليكم خاصة يهود" استئنافا لزيادة الإفادة، ولذا غير السياق وذهب المظهر والنور التوربشتي من شراح المصابيح إلى أن الآيات المذكورة في قوله تعالى: ?ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات? هي الأحكام التي تعبد بها قوم موسى، وهي التي سئل عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجاب عنها لا المعجزات، وقالا: إن هذا الحديث من أظهر الدلائل على ذلك، فإنه رواه الترمذي في سننه وقال: وفي رواية فسألاه عن قول الله تعالى: ?ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات? فعلم أن الحديث وإن كان في جواب اليهود بين فإنه مشتمل على بيان الآية. وقال ابن كثير في تفسيره: ?ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات...? الآية، يخبر تعالى أنه بعث موسى بتسع آيات بينات، وهي الدلائل القاطعة
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرفوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تولوا للفرار يوم الزحف، وعليكم خاصة اليهود
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/317)


على صحة نبوته وصدقة فيما أخبره به عمن أرسله إلى فرعون، وهي العصا واليد والسنون والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، آيات مفصلات. قال ابن عباس: فهذه الآيات التسع هي المرادة هنا، وهي المعنية في قوله تعالى: ?وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف... - إلى قوله -: في تسع آيات إلى فرعون وقومه، إنهم كانوا قوما فاسقين? [27:10-12] فذكر هاتين الآيتين العصا واليد، وبين الآيات الباقية في سورة الأعراف وفصلها، وقد أوتي موسى - عليه السلام - آيات أخر كثيرة، منها ضربه الحجر بالعصا، وخروج الماء منه، ومنها تظليلهم بالغمام، وإنزال المن والسلوى، وغير ذلك مما أوتوه بنو إسرائيل بعد مفارقتهم بلاد مصر، ولكن ذكر ههنا التسع الآيات التي شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر، فكانت حجة عليهم، فخالفوها وعاندوها كفرا وجحودا، وأما الحديث الذي رواه أحمد وفيه: حتى نسأله عن هذه الآية ?ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات?... الحديث، فهو حديث مشكل، وعبدالله بن سلمة (يعني راوي هذا الحديث عن صفوان) في حفظه شيء، وقد تكلموا فيه، ولعله اشتبه عليه التسع الآيات بالعشر الكلمات، فإنها وصايا في التوراة لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون، فإن هذه الوصايا ليس فيها حجج على فرعون وقومه، وأي مناسبة بين هذا وبين إقامة البراهين على فرعون؟ وما جاء هذا الوهم إلا من قبل عبدالله بن سلمة، فإن له بعض ما ينكر- انتهى مختصرا. (ولا تمشوا ببريء) بهمزة وإدغام، أي بمتبرئ من الإثم، والباء للتعدية، أي لا تسعوا ولا تتكلموا بسوء فيمن ليس له ذنب (إلى ذي سلطان) أي صاحب سلطنة وقوة وحكم وغلبة وشوكة (ليقتله) يعني كي لا يقتله مثلا. (ولا تسحروا) بفتح الحاء المهملة، فإن بعض أنواعها كفر وبعضها فسق. (ولا تأكلوا الربا) أي لا تعاملوا بالربا ولا تأخذوه. (ولا تقذفوا) بكسر الذال (محصنة) بفتح الصاد وكسرها، أي لا ترموا بالزنا

(1/318)


عفيفة. قال ثعلب: كل امرأة عفيفة فهي محصنة ومحصنة، وكل امرأة متزوجة فهي محصنة بالفتح لا غير. (ولا تولوا) بضم التاء واللام، من ولى يولي تولية إذا أدبر، أي ولا تولوا أدباركم، ويجوز أن تكون بفتح التاء واللام من التولي وهو الإعراض والإدبار، أصله تتولوا فحذف إحدى التائين. (للفرار) أي لأجله. وفي بعض النسخ الفرار بلا لام العلة منصوبا على أنه مفعول له، قاله القاري. (يوم الزحف) أي يوم لقاء العدو في الحرب، والزحف الجيش يزحفون إلى العدو، أي يمشون (وعليكم) ظرف وقع خبرا مقدما (خاصة) منونا حال والمستتر في الظرف عائد إلى المبتدأ أي مخصوصين بهذه العاشرة، أو حال كون عدم الاعتداء مختصا بكم دون غيركم من الملل أو تمييز، والخاصة ضد العامة (اليهود) نصب على التخصيص والتفسير أي أعني اليهود، ويجوز أن تكون خاصة بمعنى خصوصا، ويكون اليهود
أن لا تعتدوا في السبت))، قال فقبلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبي. قال فما يمنعكم أن تتبعوني؟ قالا: إن داود - عليه السلام - دعا ربه أن لا يزال من ذريته نبي، وإنا نخاف إن تبعناك أن يقتلنا اليهود، رواه الترمذي وأبوداود والنسائي.
59-(11) وعن أنس قال: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث من أصل الإيمان، الكف عمن قال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/319)


معمولا لفعله المحذوف، أي أخص اليهود خصوصا. (ألا تعتدوا) بتأويل المصدر في محل الرفع على أنه مبتدأ من الاعتداء (في السبت) أي لا تتجاوزوا أمر الله في تعظيم السبت، بأن لا تصيدوا السمك فيه، وقيل "عليكم" اسم فعل بمعنى خذوا، و"أن لا تعتدوا" مفعوله أي الزموا ترك الاعتداء. (نشهد أنك نبي) إذ هذا العلم من الأمي معجزة، لكن نشهد أنك نبي إلى العرب (أن تتبعوني) بتشديد التاء، وقيل بالتخفيف أي من أن تقبلوا نبوتي وتتبعوني في الأحكام الشرعية (دعا أن لا يزال من ذريته نبي) أي فنحن ننتظر ذلك النبي لنتبعه. وهذا منهم تكذيب لقولهم نشهد أنك نبي، وأنهم ما قالوا عن صدق اعتقاد ضرورة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يدعى ختم النبوة به - صلى الله عليه وسلم -، فالقول بأنه نبي يستلزم صدقه فيه، وانتظار نبي آخر ينافيه، فانظر إلى تناقضهم وكذبهم، قاله السندهي. وقال الطيبي: يعني دعا داود - عليه السلام - أن لا ينقطع النبوة عن ذريته إلى يوم القيامة، فيكون دعاءه مستجابا البتة؛ لأنه لا يرد الله تعالى دعاء نبي، فإذا كان كذلك فيكون نبي في ذريته ويتبعه اليهود، وربما يكون لهم الغلبة والشوكة، فإن تركنا دينهم واتبعناك لقتلنا اليهود إذا ظهر لهم نبي وقوة، وهذا كذب منهم وافتراء على داود - عليه السلام -؛ لأنه لم يدع بهذا الدعاء، ولا يجوز لأحد أن يعتقد في داود - عليه السلام - هذا الدعاء؛ لأنه قرأ في التوراة والزبور بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه خاتم النبيين وأنه ينسخ به جميع الأديان والكتب، فكيف يدعو على خلاف ما أخبره الله تعالى به من شأن محمد - صلى الله عليه وسلم - -انتهى. ولئن سلم فعيسى من ذرية داود وهو نبي باق إلى يوم الدين، ظهرت المعجزات على يده أيضا فلم يصدقوه، فعلم أن التكذيب عادة لهم، وعذرهم هذا كذب وافتراء. والحديث يدل على جواز تقبيل اليد والرجل، ويأتي الكلام عليه في باب المصافحة والمعانقة (رواه الترمذي) في

(1/320)


آخر الاستئذان والأدب وفي تفسير سورة بني إسرائيل، وقال: حديث حسن صحيح. (وأبو داود) لم أجده في سننه. وقال الحافظ في الدراية: رواه الأربعة إلا أبا داود. وهذا يدل على أن أبا داود لم يخرجه في سننه، ويدل عليه أيضا أنه لم يعز هذا الحديث أحد لأبي داود (والنسائي) في المحاربة، وأخرجه أيضا أحمد في مسنده (ج4 ص239،240)، وابن ماجة في الأدب مختصرا، والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح لا نعرف له علة بوجه من الوجوه ووافقه الذهبي، وأخرجه أيضا الطيالسي، وأبونعيم، والبيهقي، والطبراني، وابن جرير وغيرهم.
59-قوله: (ثلاث) خصال (من أصل الإيمان) أي أساسه وقاعدته، أحداها أو منها (الكف عمن قال
لا إله إلا الله لا تكفره بذنب ولا تخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار))، رواه أبو داود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/321)


لا إله إلا الله) أي وأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن قال كلمتي الشهادة وجب الامتناع عن التعرض بنفسه وماله (لا تكفره) بالتاء نهى وبالنون نفي، وكلاهما مروي وهو بيان للكف ولذا قطعه عنه، والتكفير والإكفار نسبة أحد إلى الكفر (بذنب) أي سوى الكفر ولو كبيرة، وفيه رد على الخوارج لأنهم يكفرون من يصدر منه ذنب (ولا تخرجه) بوجهين (من الإسلام بعمل) ولو كبيرة سوى الكفر، خلافا للمعتزلة في إخراج صاحب الكبيرة إلى منزلة بين المنزلتين (والجهاد ماض) أي الخصلة الثانية اعتقاد كون الجهاد ماضيا أو ثانيتها الجهاد أو الجهاد من أصل الإيمان، وماض خبر مبتدأ محذوف أي هو ماض ونافذ وجار ومستمر (مذ) وفي نسخة منذ (بعثني الله) أي من ابتدأ زمان بعثني الله إلى المدينة أو بالجهاد (إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة) أي عيسى أو المهدي (الدجال) مفعول له. قال القاري: وبعد قتل الدجال لا يكون الجهاد باقيا، أما على يأجوج ومأجوج فلعدم القدرة عليهم. وعند ذلك لا وجوب عليهم بنص آية الأنفال، وأما بعد إهلاك الله إياهم لا يبقى على وجه الأرض كافر ما دام عيسى - عليه الصلاة والسلام - حيا في الأرض، وأما على من كفر من المسلمين بعد عيسى - عليه الصلاة والسلام - فلموت المسلمين كلهم عن قريب بريح طيبة، وبقاء الكفار إلى قيام الساعة، وتجيء هذه الحكاية في ذكر الدجال (لا يبطله) بضم أوله (جور جائر ولا عدل عادل) أي لا يسقط الجهاد كون الإمام ظالما أو عادلا. وفيه رد على المنافقين وبعض الكفرة، فإنهم زعموا أن دولة الإسلام تنقرض بعد أيام قلائل، كأنه قيل الجهاد ماض، أي أعلام دولته منشورة، وأولياء أمته منصورة، وأعداء ملته مقهورة إلى يوم الدين. وقال المظهر: يعني لا يجوز ترك الجهاد بأن يكون الإمام ظالما بل يجب عليهم موافقته، ولا بأن يكون الإمام عادلا بحيث يحصل سكون المسلمين وتقويتهم، فلا يخافون من الكفار ولا يحتاجون إلى

(1/322)


الغنائم؛ لأن القصد من الجهاد هو إعلاء كلمة الله، فاحتيج لهذا نفيا إلى هذا التوهم، وإن كان من شأن عدل العادل أنه لا يتوهم فيه إبطال الجهاد بل تقويته. فعلى هذا يكون النفي بمعنى النهى . قال الطيب: ويمكن أن يجرى على ظاهر الإخبار كما هو عليه، ويكون تأكيدا للجملة السابقة، أي لا يبطله أحد إلى خروج الدجال. (والإيمان بالأقدار) أي الخصلة الثالثة، أو الإيمان بالأقدار من أصل الإيمان، يعني بأن جميع ما يجري في العالم هو من قضاء الله وقدره. وفيه رد على المعتزلة لإثباتهم للعباد القدرة المستقلة (رواه أبوداود) في الجهاد، وسكت عليه هو والمنذري، لكن في سنده يزيد بن أبي نشبة - بضم النون وسكون الشين المعجمة -، وهو مجهول، كما في التقريب. واعلم أن بعض العلماء قد أجاز العمل والاحتجاج بكل ما سكت عنه أبوداود؛ لما روي عنه أنه قال: ما كان في كتابي هذا من حديث فيه وهن شديد بينته، وما لم أذكر

(1/323)


فيه شيئا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض. قال: وذكرت فيه الصحيح وما يشبهه وما يقاربه. قال النووي في التقريب وابن الصلاح في مقدمته بعد نقل كلام أبي داود هذا: فعلى هذا ما وجدنا في كتابه مذكورا مطلقا وليس في واحد من الصحيحين، ولا نص على صحته أحد ممن يميز بين الصحيح والضعيف والحسن ولا ضعفه، عرفنا أنه من الحسن عند أبي داود. زاد ابن الصلاح: وقد يكون في ذلك ما ليس بحسن عند غيره ولا مندرج في حد الحسن-انتهى. والحق عندي أن لا يعتمد على مجرد سكوت أبي داود، وأن لا يطلق القول بجواز الاحتجاج والعمل بما سكت عنه، لما يجري في كلامه المتقدم من احتمالات تضعف بل تبطل المذهب المذكور: (1) مثل أن يتكلم على وهن إسناد مثلا في مقام، فإذا عاد لم يبينه اكتفاء بما تقدم، ويكون كأنه قد بينه. (2) ومثل أن يكون سكوته هنا لوجود شاهد أو متابع، أو يكون ذلك لكونه من صحيح حديث المختلط أو المدلس، أو لكونه في الفضائل . (3) ومثل ما أشار إليه شيخ الإسلام زكريا الأنصاري من أنه قد يقع البيان في بعض النسخ دون بعض، ولا سيما رواية أبي الحسن بن العبد، فإن فيها من كلام أبي داود شيئا زائدا على رواية أبي على اللؤلؤي. قال السخاوي في شرح ألفية العراقي (ص29) وسبقه ابن كثير وقال: الروايات عن أبي داود لكتابه كثيرة جدا، ويوجد في بعضها من الكلام بل والأحاديث ما ليس في الأخرى، قال: وأبي عبيد الآجري عنه أسئلة في الجرح والتعديل والتصحيح والتعليل، ومن ذلك أحاديث ورجال قد ذكرها في سننه. قال السخاوي: فينبغي عدم المبادرة لنسبة السكوت إلا بعد جمع الروايات واعتماد ما اتفقت عليه لما تقدم –انتهى. (4) ومثل ما يشير إليه حصره التبيين في الوهن الشديد حيث قال: ما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بينته، وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح وبعضها أصح من بعض – انتهى. إذ مفهومه أن غير الشديد لا يبينه. (5) ومثل أن الصلاحية في كلامه أعم من أن تكون

(1/324)


للاحتجاج أو للاستشهاد، فما ارتقى إلى درجة الصحة أو الحسن فهو بالمعنى الأول، وما عداهما فهو بالمعنى الثاني، وما قصر عن ذلك فهو الذي فيه وهن شديد، وقد التزم بيانه. (6) ومثل أن تكون الصلاحية على ظاهرها في الاحتجاج، ولا ينافيه وجود الضعيف؛ لأنه يخرج الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره، وهو أقوى عنده من آراء الرجال. قال العراقي في ألفيته:
………كان أبو داود أقوى ما وجد يرويه والضعيف حيث لا يجد
………في الباب غيره فذاك عنده من رأي أقوى قاله ابن منده
(7) ومثل أن يكون استعمال "أصح" في كلام أبي داود المتقدم بالمعنى اللغوي، بل استعمله كذلك غير واحد، منهم الترمذي، فإنه يورد الحديث من جهة الضعيف ثم من جهة غيره. ويقول عقب الثاني: إنه أصح من حديث فلان الضعيف، وصنيع أبي داود يقتضيه لما في المسكوت عليه من الضعيف بالاستقراء، كما في حديث ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سمع المنادي فلم يمنع من اتباعه عذر - قالوا: وما العذر؟ قال: حزن أو مرض – لم تقبل منه الصلاة التي صلى)). فان أباداود رواه وسكت عليه. وقد قال المنذري في مختصره: في إسناده أبوجناب يحيى بن أبي حية الكلبي، وهو ضعيف. وقد يكون هو ضعيفا عند أبي داود نفسه،
1- أي من قبل سوء حفظ رواية ونحو ذلك كالمجهول عينا أو حالا لا مطلق الضعف الذي يشمل ما كان رواية منهما بالكذب، قاله السخاوي.

(1/325)


كما يؤخذ من كلام العماد بن كثير. (8) ومثل ما ذكره ابن الصلاح في مقدمته (ص18) بعد نقل كلام أبي داود الذي قدمناه: فعلى هذا ما وجدنا في كتابه مذكورا مطلقا، وليس في واحد من الصحيحين، ولا نص على صحته أحد ممن يميز بين الصحيح والحسن عرفناه بأنه من الحسن عند أبي داود، وقد يكون في ذلك ما ليس بحسن عند غيره ولا مندرج فيما حققنا ضبط الحسن به على ما سبق... الخ. قال العلامة الأمير اليماني في تلقيح الأفكار شرح تنقيح الأنظار في مصطلح الآثار - بعد نقل كلام أبي داود المتقدم عن ابن الصلاح ما لفظه: فإن قلت: أجاز ابن الصلاح والنووي وغيرهما من الحفاظ العمل بما سكت عنه أبوداود لأجل هذا الكلام المروي عنه وأمثاله، قلت: قال الحافظ ابن حجر: إن قول أبي داود "وما فيه وهن شديد بينته" يفهم منه أن الذي يكون فيه وهن غير شديد لا يبينه، ومن هنا تبين لك أن جميع ما سكت عنه أبوداود لا يكون من قبيل الحسن الاصطلاحي، بل هو على أقسام، منها: ما هو صحيح أو على شرط الصحة. ومنها: ما هو من قبيل الحسن لذاته. ومنها: ما هو من قبيل الحسن إذا اعتضد، وهذان القسمان كثير في كتابه جدا. وفيه ما هو ضعيف لكنه من رواية من لم يجمع على تركه غالبا، وكل من هذه الأقسام عنده تصلح للاحتجاج بها كما نقل ابن مندة عنه أنه يخرج الحديث الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره، وأنه أقوى عنده من رأي الرجال. وكذا قال ابن عبدالبر: كل ما سكت عليه أبوداود فهو صحيح عنه، لاسيما إن كان لم يذكر في الباب غيره، ونحو هذا ما روينا عن الإمام أحمد فيما نقله ابن المنذر وغيره أنه كان يحتج بعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إذا لم يكن في الباب غيره. ثم ذكر الحافظ قولا عن الإمام أحمد أصرح مما تقدم في تقديم الحديث الضعيف على الرأي، ثم قال: فهذا نحو مما يحكى عن أبي داود، ولا عجب فإنه من تلامذة الإمام أحمد، فغير مستنكر أن يقول بقوله، بل حكى النجم الطوخي عن العلامة تقي الدين

(1/326)


ابن تيمية أنه قال: اعتبرت مسند أحمد فوجدته موافقا لشرط أبي داود. ومن هنا يظهر لك طريق من يحتج بكل ما سكت عنه أبوداود، فإنه يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء في الاحتجاج ويسكت عليها، مثل ابن لهيعة وصالح مولى التوأمة وعبدالله بن محمد بن عقيل وموسى بن وردان وسلمة بن الفضل ودلهم بن صالح وغيرهم، فلا ينبغي للناقد أن يقلده في السكوت على أحاديثهم، ويتابعه في الاحتجاج بهم، بل طريقه أن ينظر هل لذلك الحديث متابع يعتضد به، أو هو غريب فيتوقف فيه، لاسيما إن كان مخالفا لرواية من هو أوثق منه فإنه ينحط إلى قبيل المنكر، وقد يخرج أحاديث من هو أضعف من هؤلاء بكثير كالحارث ابن وجيه وصدقة الدقيقي وعمرو بن واقد العمري ومحمد بن عبدالرحمن البيلماني وأبي حيان الكلبي وسليمان بن أرقم وإسحاق بن عبدالله بن أبي فروة وأمثالهم في المتروكين، وكذلك ما فيه من الأسانيد المنقطعة، وأحاديث المدلسين بالعنعنة، والأحاديث التي فيها أبهمت أسماؤهم فلا يتجه الحكم بأحاديث هؤلاء بالحسن من أجل سكوت أبي داود؛ لأن سكوته تارة اكتفاء بما تقدم من الكلام في ذلك الراوي في نفس كتابة، وتارة يكون لذهول منه، وتارة يكون لظهور شدة ضعف ذلك الراوي، أو لاتفاق الأئمة على طرح روايته كأبي حدير
60- (12) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا زنى العبد خرج منه الإيمان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/327)


ويحي بن العلاء وغيرهما، وتارة يكون من اختلاف الرواة عنه، وهو الأكثر، فإن في رواية أبي الحسن بن العبد عنه من الكلام على جماعة من الرواة والأسانيد ما ليس في رواية اللؤلؤي، وإن كانت روايته عنه أشهر. ثم عد أمثلة من أحاديث السنن تؤيد ما قاله، ثم قال: والصواب عدم الاعتماد على مجرد سكوته لما وصفنا من أنه يحتج بالأحاديث الضعيفة ويقدمها على القياس إن ثبت ذلك عنه. والمعتمد أن مجرد سكوته لا يدل على ذلك، فكيف يقلده فيه، هذا جميعه إن حملنا قوله "وما لم أقل فيه بشيء فهو صالح" على أن مراده صالحة للحجة، وهو الظاهر. وإن حملناه على ما هو أعم من ذلك وهو الصلاحية للحجية وللاستشهاد والمتابعة فلا يلزم منه أنه يحتج بالضعيف. ويحتاج إلى تأمل تلك المواضع التي سكت عليها وهي ضعيفة هل منها إفراد أو لا، إن وجد فيها إفراد تعين الحمل على الأول، وإلا حمل على الثاني، وعلى كل تقدير فلا يصلح ما سكت عليه للاحتجاج مطلقا – انتهى. وقال النووي: إلا أن يظهر في بعضها أمر يقدح في الصحة أو الحسن وجب ترك ذلك، أو كما قال. ولفظ الحافظ ابن حجر نقلا عن النووي أنه قال: في سنن أبي داود أحاديث ظاهرها الضعف لم يبينها مع أنه متفق على ضعفها، فلا بد من تأويل كلامه. قال: والحق أن ما وجدناه في سننه مما لم ينبه عليه ولم ينص على صحته أو حسنه من يعتمد عليه فهو حسن، وإن نص على ضعفه من يعتمد عليه أو رأي العارف في سنده ما يقتضي الضعف، ولا جابر له حكم بضعفه، ولا يلتفت إلى سكوت أبي داود. قال الأمير اليماني: وهو الحق، لكن خالف ذلك في مواضع كثيرة في شرح المهذب وفي غيره من تصانيفه، فاحتج بأحاديث كثيرة من أجل سكوت أبي داود عليها، فلا يغتر بذلك، انتهى كلام الأمير اليماني في تلقيح الأفكار. هذا وقد اعتنى الحافظ المنذري في مختصره بنقد الأحاديث المذكورة في سنن أبي داود بين ضعف كثير مما سكت عنه، فيكون ذلك خارجا عما يجوز العمل به، وما سكتا

(1/328)


عليه جميعا فلا شك أنه صالح للاحتجاج إلا في مواضع يسيرة قد نبهت على بعضها في هذا الشرح، ومنها حديث أنس هذا، فقد سكتا عنه جميعا مع أن فيه يزيد بن أبي نشبة، وهو مجهول.
60- قوله: (إذا زنى) أي أخذ وشرع في الزنا (العبد) أي المؤمن (خرج منه الإيمان) حمله بعضهم على ظاهرة وقال: يسلب الإيمان حال تلبس الرجل بالزنا، فإذا فارقه وتاب عاد إليه. وقيل: المراد نور الإيمان وكماله. وقد تقدم أن الإيمان اسم لمجموع الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح. ونور الإيمان وكماله هي الأعمال الصالحة واجتناب المناهي، فإذا زنى ذهب منه نوره وبقي صاحبه في الظلمة. وقيل: معناه خرج منه أعظم شعب الإيمان، وهو الحياء من الله تعالى. أو يصير كأنه خرج، إذ لا يمنع إيمانه عن ذلك كما لا يمنع من خرج منه الإيمان. وقال التوربشتي: هذا من باب الزجر والتهديد، وهو كقول القائل لمن اشتهر بالرجولية والمروءة ثم فعل ما ينافي شيمته: عدم عند الرجولية والمروءة، تعييرا أو تنكيرا لينتهي عما صنع، واعتبارا وزجرا للسامعين لطفا بهم، وتنبيها على أن
وكان فوق رأسه كالظلة، فإذا خرج من ذلك العمل رجع إليه الإيمان))، رواه الترمذي وأبو داود.
?الفصل الثالث?
61- (13) عن معاذ قال: أوصاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعشر كلمات، قال: ((لا تشرك بالله شيئا وإن قتلت وحرقت، ولا تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/329)


الزنا من شيم أهل الكفر وأعمالهم، فالجمع بينه وبين الإيمان كالجمع بين المتنافيين. (وكان) وفي بعض النسخ "فكان" وهكذا وقع عند الترمذي (فوق رأسه كالظلة) بضم الظاء وتشديد اللام، هو أول سحابة تظلل. وفيه إشارة إلى أنه وإن خالف حكم الإيمان فإنه تحت ظله لا يزول عنه حكم الإيمان ولا يرتفع عنه اسمه. (فإذا خرج من ذلك العمل) قيل: أي بالتوبة الصحيحة (رجع إليه الإيمان) أي نوره وكماله، ويؤيده ما تقدم من حديث ابن عباس أخرجه أبوجعفر الطبري من طريق مجاهد عنه مرفوعا: ((من زنى نزع الله نور الإيمان من قلبه، فإن شاء أن يرده إليه رده)). ولا يخفى مناسبة الحديث للباب على المتأمل. (رواه الترمذي) لم يروه الترمذي بل ذكره معلقا في الإيمان من جامعه. (وأبوداود) في السنة، وسكت عليه هو والمنذري، واللفظ للترمذي، وأخرجه أيضا البيهقي والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما، ووافقه الذهبي.

(1/330)


61-قوله: (أوصاني) أي أمرني (بعشر كلمات) أي بعشرة أحكام من الأوامر والنواهي. (لا تشرك بالله شيئا) أي بقلبك أو بلسانك أيضا، فإنه أفضل عند الإكراه. (وإن قتلت وحرقت) من التحريق، وكلاهما بالبناء للمفعول، أي وإن عرضت للقتل والتحريق. شرط جيء به للمبالغة فلا يطلب جوابا. قال ابن حجر المكي الهيتمي: شرط للمبالغة باعتبار الأكمل من صبر المكره على الكفر على ما هدد به، وهذا فيمن لم يحصل بموته وهن الإسلام، وإلا كعالم وشجاع يحصل بموته ذلك فالأولى له أن يأتي بما أكره عليه ولا يصبر على ما هدد، ولو بنحو ضرب شديد أو أخذ مال له وقع كما أفاد ذلك قوله تعالى: ?من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان? الآية [16:106]. (ولا تعقن) بضم العين وفتح القاف المشددة وتشديد النون، أي لا تخالفنهما أو أحدهما في ما لم يكن معصية. (من أهلك) أي امرأتك أو جاريتك أو عبدك بالطلاق أو البيع أو العتق أو غيرهما (ومالك) بالتصرف في مرضاتهما. قال ابن حجر: شرط للمبالغة باعتبار الأكمل أيضا، أي لا تخالف وأحدا منهما وإن غلا في شيء أمرك به، وإن كان فراق زوجة أو هبة مال. أما باعتبار أصل الجواز فلا يلزمه طلاق زوجة أمره بفراقها وإن تأذيا ببقائها إيذاء شديدا؛ لأنه قد يحصل له ضرر بها، فلا يكلفه لأجلها، إذ من شأن شفقتهما أنهما لو تحققا ذلك لم يأمراه به، فإلزامهما له به مع ذلك حمق منهما، ولا يلتفت إليه.
ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمدا، فإن من ترك صلاة مكتوبة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله، ولا تشربن خمرا، فإنه رأس كل فاحشة، وإياك والمعصية، فإن بالمعصية حل سخط الله، وإياك والفرار من الزحف وإن هلك الناس، وإذا أصاب الناس موت وأنت فيهم فاثبت، وأنفق على عيالك من طولك، ولا ترفع عنهم عصاك أدبا، وأخفهم في الله))، رواه أحمد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/331)


وكذا إخراج ماله (متعمدا) احتراز من السهو والنسيان والضرورة (فقد برئت منه ذمة الله) بكسر الراء أي لا يبقى في أمن من الله في الدنيا والآخرة. قال ابن حجر: كناية عن سقوط احترامه؛ لأنه بذلك الترك عرض نفسه بالعقوبة بالحبس عند جماعة من العلماء، ولقتله حدا لا كفرا بشرط إخراجها عن وقتها الضروري، وأمره بها في الوقت عند أئمتنا الشافعية، ولقتله كفرا فلا يصلى عليه ولا يكفن بمقابر المسلمين عند أحمد وآخرين. (فإنه) أي شربها (رأس كل فاحشة) أي قبيحة؛ لأن المانع من الفواحش هو العقل، ولذا سمي عقلا لأنه يعقل صاحبه عن القبائح، فيزاوله عن الإنسان يقع في كل فاحشة عرضت له، ولذا سميت أم الخبائث. وورد في رواية "الخمر جماع الإثم" كما سميت الصلاة أم العبادات؛ لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر. (وإياك والمعصية) تحذير وتعميم بعد تخصيص، وإيذان بأن المعاصي السابقة أعظمها ضررا. (فإن بالمعصية حل سخط الله) أي نزل وثبت على فاعلها، واسم إن ضمير الشان المحذوف أي فإنه (وإياك والفرار من الزحف) تخصيص بعد تعميم (وإن هلك الناس) أي بالفرار أو القتل، وإن وصلية. قال ابن حجر: شرط للمبالغة باعتبار الأكمل أيضا، وإلا فقد علم من قوله تعالى: ?الآن خفف الله عنكم? الآية [8:66] أن الكفار حيث زادوا على المثلين جاز الانصراف. (وإذا أصاب الناس موت) أي طاعون ووباء (وأنت فيهم) الجملة حالية (فاثبت) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وقع الطاعون ببلد وأنتم فيهم فلا تخرجوا منه، وإذا وقع ببلد ولستم فيه فلا تدخلوا إليه)). ومحل الأمرين حيث لا ضرورة إلى الخروج أو الدخول، وإلا فلا إثم كما هو الظاهر. (على عيالك) بكسر العين أي من تجب عليك نفقته شرعا (من طولك) بفتح أوله أي فضل مالك، وفي معناه الكسب بقدر الوسع والطاقة على طريق الاقتصاد. (ولا ترفع عنهم عصاك أدبا) مفعول له أي للتأديب لا للتعذيب. والمعنى إذا استحقوا الأدب بالضرب فلا تسامحهم.

(1/332)


(وأخفهم في الله) أي أنذرهم في مخالفة أوامر الله بالنصيحة والتعليم، وبالحمل على مكارم الأخلاق. (رواه أحمد) (ج5 ص238) وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير. قال المنذري: وإسناد أحمد صحيح لو سلم من الانقطاع، فإن عبدالرحمن بن جبير بن نفير لم يسمع من معاذ - انتهى. وأخرجه الطبراني في الأوسط عنه قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال: يارسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمنى عملا إذا عملته دخلت الجنة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تشرك بالله وإن قتلت أو حرقت ...)) الحديث، وفيه عمر بن واقد، ضعفه البخاري وجماعة، وقال الثوري: كان صدوقا. كذا في مجمع الزوائد.
62-(14) وعن حذيفة قال: إنما النفاق كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأما اليوم فإنما هو الكفر أو الإيمان، رواه البخاري.
(2) باب في الوسوسة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/333)


62- قوله: (وعن حذيفة) أي موقوفا . وهو حذيفة بن اليمان بن حسيل - مصغرا -، ويقال: حسل بكسر فسكون -، ابن جابر العبسى أو عبدالله الكوفي، حليف بني عبدالأشهل من الأنصار، صحابي جليل من السابقين، أسلم هو وأبوه وأراد حضور بدر فأخذهما المشركون فاستحلفوهما فحلفا لهم أن لا يشهدا، فقال لهما النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم)). وشهدا أحدا، فقتل أباه اليمان يومئذ بعض المسلمين وهو يحسبه من المشركين، وشهد حذيفة الخندق وله بها ذكر حسن وما بعدها، وكان عمر يسأله عن المنافقين، وهو معروف في الصحابة بصاحب سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأسر إليه بعض أسماء المنافقين، وكان عمر ينظر إليه عند موت من مات منهم، فإن لم يشهد جنازته حذيفة لم يشهدها عمر. وصح في مسلم عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه بما كان وما يكون حتى تقوم الساعة (يعني من الفتن والحوادث). ومناقبه كثيرة مشهورة استعمله عمر على المدائن فلم يزل بها حتى مات بعد قتل عثمان بأربعين يوما سنة (36) في أول خلافة علي. وكانت له فتوحات سنة (22) في الدينور وماسبذان وهمدان والري وغيرها. له مائة حديث وأحاديث، اتفقا على اثني عشر، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بسبعة عشر. روي عنه جماعة من الصحابة والتابعين. (إنما النفاق كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي حكم النفاق بعدم التعرض لأهله والستر عليهم كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمصالح كانت مقتصرة على ذلك الزمان، منها أن المؤمنين إذا ستروا على المنافقين أحوالهم خفي على المخالفين حالهم، وحسبوا أنهم من جملة المسلمين فيجتنبوا عن مخاشنتهم لكثرتهم، بل أدى ذلك إلى أن يخافوا وتقل شوكتهم. ومنها أن الكفار إذا سمعوا مخاشنة المسلمين مع من يصحبهم كان ذلك سببا لنفرتهم منه. ومنها أن من شاهد حسن خلقه - عليه السلام - مع مخالفه رغب في

(1/334)


صحبته ووافق معه سرا وعلانية ودخل في دين الله بوفور ونشاط. (فأما اليوم) أي بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - (فإنما هو) أي الأمر والحكم، يدل عليه سياق الكلام. أي الشأن الذي استقر عليه الشرح (الكفر أو الإيمان) والضمير المبهم يفسره ما بعده، وأو للتنويع، يعني فأما اليوم فلم تبق تلك المصالح، فنحن إن علمنا أنه كافر سرا أجرينا عليه أحكام الكافرين وقتلناه. قال الحافظ في الفتح: مراد حذيفة نفي اتفاق الحكم لا نفي الوقوع؛ لأن النفاق إظهار الإيمان وإخفاء الكفر، ووجود ذلك ممكن في كل عصر، وإنما اختلف الحكم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتألفهم ويقبل ما أظهروه من الإسلام ولو ظهر منهم احتمال خلافه، وأما بعده فمن أظهر شيئا فإنما يؤاخذ به ولا يترك لمصلحة التألف؛ لعدم الاحتياج إلى ذلك – انتهى. (رواه البخاري) في الفتن.
(باب في الوسوسة) الوسوسة الصوت الخفي، ومنه: وسواس الحلي لأصواتها، وقيل: ما يظهر في القلب من الخواطر
?الفصل الأول?
63- (1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تجاوز عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل به أو تتكلم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن كانت تدعو إلى الرذائل والمعاصي تسمى وسوسة، وإن كانت تدعو إلى الخصائل المرضية والطاعات تسمى إلهاما، ولا تكون الوسوسة إلا مع التردد والتزلزل من غير أن يطمئن إليه أو يستقر عنده

(1/335)


63-قوله: (إن الله تجاوز) أي عفا (عن أمتي) أي امة الإجابة. وفي رواية "تجاوز لي عن أمتي" أي لم يؤاخذهم بذلك لأجلي. وفيه إشارة إلى عظم قدر الأمة المحمدية لأجل نبيها - صلى الله عليه وسلم -، فله المنة العظمى التي لا منتهى لها علينا. وفيه إشعار بإختصاصها بذلك، بل صرح بعضهم بأنه من خصائص هذه الأمة (ما وسوست به صدورها) الجملة في محل النصب على المفعولية، و"ما" موصول، و"وسوست" صلته، و"به" عائد إلى الموصول، و"صدورها" بالرفع فاعل وسوست، أي ما خطر في قلوبهم من الخواطر الردية. وروي بالنصب على الظرفية. وقيل على أنه مفعول به بناء على أن وسوست بمعنى حدثت، ووقع فيه التجريد بأن يجرد شخصا من نفسه ويحدثها (مالم تعمل) أي ما دام لم يتعلق به العمل في العمليات بالجوارح (أو تتكلم) أي ما لم تتكلم به في القوليات باللسان على وفق ذلك. قال الطيبي: الوسوة ضرورية إختيارية، فالضرورية: ما يجري في الصدر من الخواطر ابتداء ولا يقدر الإنسان على دفعه، فهو معفو عنه عن جميع الأمم، قال تعالى: ?لا يكلف الله نفسا إلا وسعها? [2: 286 ] والاختيارية: هي التي تجري في القلب وتستمر وهو يقصد أن يعمل به ويتلذذ منه، كما يجري في القلب حب امرأة ويدوم إليه ويقصد الوصول إليه، وما أشبه ذلك من المعاصي، فهذا النوع عفا الله عن هذه الأمة تشريفا وتكريما لنبينا - صلى الله عليه وسلم - و أمته، وإليه ينظر قوله تعالى: ?ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا? [2: 286 ]. وأما العقائد الفاسدة ومساوي الأخلاق وما ينضم إلى ذلك فإنها بمعزل عن الدخول في جملة ما وسوست به الصدور- انتهى. قال القاري: هو كلام حسن، ولذا قيده النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "ما لم تعمل به أو تكلم" إشارة إلى أن وسوسة الأعمال والأقوال معفوة قبل ارتكابها. وأما الوسوسة التي لا تعلق لها بالعمل والكلام من الأخلاق والعقائد فهي ذنوب بالاستقرار – انتهى. وقال

(1/336)


الحافظ في الفتح في شرح باب من هم بحسنة أو سيئة من الرقاق: قسم بعضهم ما يقع في النفس أقساما، أضعفها أن يخطر له ثم يذهب في الحال، وهذا من الوسوسة، وهو معفو عنها، وهو دون التردد، وفوقه أن يتردد فيه فيهم به ثم ينفر عنه فيتركه ثم يهم به ثم يترك كذلك ولا يستمر على قصده، وهذا هو التردد، فيعفي عنه أيضا. وفوقه أن يميل إليه ولا ينفر عنه لكن لا يصمم على فعله، وهذا هو الهم، فيعفي عنه أيضا. وفوقه أن يميل إليه ولا ينفر منه بل يصمم على فعله، فهذا هو العزم، وهو منتهى الهم، وهو على قسمين: الأول أن يكون من أعمال القلوب صرفا كالشك في الوحدانية أو النبوة، فهذا كفر، ويعاقب عليه جزما، ودونه المعصية التي لا تصل إلى الكفر كمن يحب ما يبغضه الله، ويبغض
متفق عليه.
64-(2) وعنه قال: ((جاء ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه: إنا نجد في أنفسنا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/337)


يحبه الله، فهذا يأثم به، ويلتحق بذلك الكبر والبغي ونحوهما. ولم يقع البحث والنزاع في هذا القسم. والقسم الثاني أن يكون من أعمال الجوارح كالزنا والسرقة. وهو الذي وقع النزاع فيه، فذهب طائفة إلى عدم المؤاخذة بذلك أصلا، وذهب كثير من العلماء إلى المؤاخذة بالعزم المصمم. قلت: وهو الراجح المعمول عليه. قال الحافظ: واستدلوا بقوله: ?ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم? [2: 225 ] وحملوا حديث أبي هريرة هذا على الخطرات، ثم افترق هؤلاء فقالت طائفة: يعاقب عليه صاحبه في الدنيا خاصة بنحو الهم والغم. وقالت طائفة: بل يعاقب عليه يوم القيامة لكن بالعتاب لا بالعذاب – انتهى.كلام الحافظ ملخصا. وقال الحفني ملخصا لكلام السبكي الكبير في الحلبات: إن المراتب خمسة: هاجس وخاطر وحديث نفس وهم وعزم، فالشيء إذا وقع في القلب ابتداء ولم يحل في النفس سمي هاجسا، فإذا كان موفقا ودفعه من أول الأمر لم يحتج إلى المراتب التي بعدها: فإذا جال أي تردد في نفسه بعد وقوعه ابتداء ولم يتحدث بفعل ولا عدمه سمى خاطرا، فإذا حدثته نفسه بأن يفعل أو لا يفعل على حد سواء من غير ترجيح لأحدهما على الآخر سمي حديث نفس، فهذه الثلاثة لا عقاب عليها إن كانت في الشر، ولا ثواب عليها إن كانت في الخير، فإذا فعل ذلك عوقب أو أثيب على الفعل لا على الهاجس والخاطر وحديث النفس، فإذا حدثته نفسه بالفعل وعدمه مع ترجيح الفعل لكن ليس ترجيحا قويا بل هو مرجوح كالوهم سمي هما، فهذا يثاب عليه إن كان في الخير، ولا يعاقب عليه إن كان في الشر، فإذا قوي ترجح الفعل حتى صار جازما مصمما بحيث لا يقدر على الترك سمي عزما، فهذا يثاب عليه إن كان في الخير، ويعاقب عليه إن كان في الشر. وقوله " ما لم تعمل به أو تكلم" ظاهره أنه إذا فعل ذلك عوقب على نفس حديث النفس بزيادة على عقاب الفعل، وليس مرادا، بل المراد أنه إذا حصل الفعل عوقب على نفس الفعل لا على ما قبله، فهو كالاستثناء

(1/338)


المنقطع. وقال السبكي الكبير في شرح المنهاج وولده في منع الموانع ما حاصله: أن عدم المؤاخذة بحديث النفس والهم إنما هو بشرط عدم التكلم والعمل، حتى إذا عمل يؤاخذ بشيئين همه وعمله ولا يكون همه مغفورا وحديث نفسه إلا إذا لم يتعقبه العمل، كما هو ظاهر الحديث. وارجع لمزيد البحث والتفصيل إلى الإحياء للغزالي. وفي الحديث من الفقه أن حديث النفس وما يوسوس به قلب الإنسان لا حكم له في شيء من الدين، فلا يقع الطلاق ولا يلزم الظهار ولا يكون قاذفا ولا يحكم بالعتاق إذا حدث نفسه بالطلاق والظهار والقذف والعتاق ما لم يتكلم بذلك، ولا يؤمر بإعادة الصلاة إذا حدث نفسه فيها (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد وأصحاب السنن.
64- قوله: (إنا نجد) واقع موقع الحال، أي سألوه مخبرين أنا نجد، أو قائلين على احتمال فتح الهمزة والكسرة.
ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال: أو قد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذاك صريح الإيمان))،
رواه مسلم.
65- (3) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/339)


وقيل: على الفتح مفعول ثان لسألوه، ثم الكسر أوجه حتى يكون بيانا للمسئول عنه (ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به) أي نجد في قلوبنا أشياء قبيحة نحو من خلق الله؟ وكيف هو؟ ومن أي شيء هو؟ وما أشبه ذلك ما نتعاظم به؛ لعلمنا أنه لا يليق شيء منها أن نعتقده، ونعلم أنه قديم خالق الأشياء كلها ليس بمخلوق، فما حكم جريان هذه الأشياء في خواطرنا؟ وتعاظم تفاعل بمعنى المبالغ؛ لأن زيادة المبنى لزيادة المعنى، أي نستعظم غاية الاستعظام، وقوله "أحدنا" بالرفع ومعناه: يجد أحدنا التكلم به عظيما لقبحه (أو قد وجدتموه) الهمزة للاستفهام، والواو للعطف على مقدر، أي أحصل ذلك وقد وجدتموه؟ والضمير لما يتعاظم أي ذلك الخاطر في أنفسكم تقريرا وتوكيدا، فالوجدان بمعنى المصادقة، أو المعنى أحصل ذلك الخاطر القبيح وعلمتم أن ذلك مذموم غير مرضي؟ فالوجدان بمعنى العلم (قال: ذاك) وفي بعض النسخ "ذلك"، وهو إشارة إلى مصدر يتعاظم (صريح الإيمان) أي خالصه. قال النووي: معناه استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلا عن اعتقاده إنما يكون ممن استكمل الإيمان استكمالا محققا، وانتفت عنه الريبة والشكوك. وقيل: معناه أن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغوائه، فينكد عليه بالوسوسة لعجزه عن إغوائه، وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء، ولا يقتصر في حقه على الوسوسة بل يتلاعب به كيف أراد، فعلى هذا معنى الحديث: سبب الوسوسة محض الإيمان أو الوسوسة علامة محض الإيمان – انتهى. أي لأن اللص لا يدخل البيت الخالي. قال محدث الهند الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة (ج1: ص132): اعلم أن تأثير وسوسة الشيطان يكون مختلفا بحسب استعداد الموسوس إليه، فأعظم تأثيره الكفر والخروج من الملة، فإذا عصم الله من ذلك بقوة اليقين انقلب تأثيره في صورة أخرى، وهي المقاتلات وفساد تدبير المنزل والتحريش بين أهل البيت وأهل

(1/340)


المدينة، ثم إذا عصم الله من ذلك أيضا صار خاطرا يجيء ويذهب ولا يبعث النفس إلى عمل لضعف أثره، وهذا لا يضر، بل إذا اقترن باعتقاد قبح ذلك كان ذلك دليلا على صراحة الإيمان، نعم أصحاب القوة القدسية لا يجدون شيئا من ذلك، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير)) انتهى (رواه مسلم) في الإيمان، وأخرجه أيضا أبوداود، وفي الباب عن عائشة وأنس وابن عباس وابن مسعود، ذكر أحاديثهم الهيثمي في مجمع الزوائد في باب الوسوسة من كتاب الإيمان.
65-قوله: (يأتي الشيطان أحدكم) أي يوسوس في صدره إبليس أو أحد أعوانه من شياطين الإنس والجن . (فيقول من خلق كذا) يعني السماء مثلا (من خلق كذا) أي الأرض، وغرضه أن يوقعه في الغلط والكفر (فإذا بلغه)
فليستعذ بالله ولينته)) متفق عليه .
66- (4) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا
_____________________________________________________

(1/341)


ضمير الفاعل لأحدكم، وضمير المفعول راجع إلى مصدر يقول، أي إذا بلغ أحدكم هذا القول، يعني من خلق ربك، أو التقدير: بلغ الشيطان هذا القول. (فليستعذ بالله) طردا للشيطان الذي أوقعه في هذا الخاطر الذي لا أقبح منه، فيقول بلسانه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قال الله تعالى: ?وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم? [7: 199]. (ولينته) بسكون اللام وتكسر، أي عن الاسترسال معه في ذلك، بل يلجأ إلى الله في دفعه، ويعلم أنه يريد إفساد دينه وعقله بهذه الوسوسة، فينبغي أن يجتهد في دفعها بالاشتغال بغيرها، ويبادر إلى قطعها بالإعراض عنها، فإنه تندفع الوسوسة عنه بذلك؛ لأن الأمر الطارئ بغير أصل يدفع بغير نظر في دليل، إذ لا أصل له ينظر فيه، قال الخطابي: لو أذن - صلى الله عليه وسلم - في محاجته لكان الجواب سهلا على كل موحد، ولكان الجواب مأخوذا من فحوى كلامه، فإن أول كلامه يناقض آخره؛ لأن جميع المخلوقات من ملك وإنس وجن وحيوان وجماد داخل تحت اسم الخلق، ولو فتح هذا الباب الذي ذكره للزم منه أن يقال: ومن خلق ذلك الشيء؟ ويمتد القول في ذلك إلى ما لا يتناهى، والقول بما لا يتناهى فاسد، فسقط السؤال من أصله، وقال الطيبي: لينته، أي ليترك التفكر في هذا الخاطر، وليستعذ بالله من وسوسة الشيطان، فإن لم يزل التفكر بالاستعاذة فليقم وليشتغل بأمر آخر، وإنما أمره بالاستعاذة والاشتغال بأمر آخر، ولم يأمر بالتأمل والاحتجاج؛ لأن العلم باستغناء الله عزوجل عن الموجد أمر ضروري لا يقبل المناظرة له وعليه، ولأن الاسترسال في الفكر في ذلك لا يزيد المرء إلى حيرة، ومن هذا حاله فلا علاج له إلا الملجأ إلى الله تعالى والاعتصام به. (متفق عليه) أخرجه البخاري في بدء الخلق، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضا أبوداود في السنة، والنسائي في اليوم والليلة، وفي روايتهما من الزيادة ((فقولوا الله أحد، الله الصمد...)) إلى آخر

(1/342)


السورة، ثم يتفل عن يساره، كما سيأتي في الفصل الثاني.
66- قوله: (لا يزال الناس يتساءلون) أي يسأل بعضهم بعضا، والتساؤل جريان السؤال بين الاثنين فصاعدا، ويجوز أن يكون بين العبد والشيطان أو النفس أو إنسان آخر، أي يجري بينهما السؤال في كل نوع. (حتى) يبلغ السؤال إلى أن (يقال: هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله) قيل: لفظ هذا مع عطف بيانه المحذوف، وهو المقول مفعول، يقال: أقيم مقام الفاعل، وخلق الله تفسير لهذا أو بيان أو بدل، وقيل: مبتدأ حذف خبره، أي هذا القول أو قولك هذا خلق الله الخلق معلوم مشهور، فمن خلق الله؟ والجملة أقيمت مقام فاعل يقال (فمن وجد من ذلك شيئا) إشارة إلى القول المذكور و"من ذلك" حال من "شيئا" أي من صادف شيئا من ذلك القول والسؤال أو وجد في خاطره شيئا من جنس ذلك المقال
فيقل آمنت بالله ورسله))، متفق عليه.
67- (5) وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة. قالوا: وإياك يا رسول الله؟ وإياي، ولكن الله أعاني عليه فأسلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(فليقل آمنت بالله ورسله) أي آمنت بالذي قال الله ورسله من وصفه تعالى بالتوحيد والقدم، وقوله سبحانه وإجماع الرسل هو الصدق والحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال. (متفق عليه) أي اتفق الشيخان على أصل الحديث، فإن السياق المذكور هنا إنما هو سياق مسلم، وسياق الحديث عند البخاري قد ذكره المصنف قبل ذلك، فكان الأولى بعد ذكر حديث أبي هريرة الذي فيه الأمر بالاستعاذة وعزوه للشيخين أن يعزو حديثه الثاني لمسلم فقط كما لا يخفى، وأخرجه أيضا أبوداود في السنة، والنسائي في اليوم والليلة، وفي الباب عن خزيمة بن ثابت وعائشة وعبدالله بن عمر، وذكر أحاديثهم الهيثمي في مجمع الزوائد.

(1/343)


67-قوله: (ما منكم من أحد) ما نافية، ومن زائدة لاستغراق النفي لجميع الأفراد، ومن في "منكم" تبعيضية، أي ما أحد منكم (إلا وقد وكل) على بناء المجهول من التوكيل بمعنى التسليط (قرينه من الجن) أي صاحبه منهم ليأمره بالشر، واسمه الوسواس (وقرينه من الملائكة) أي ليأمره بالخير واسمه الملهم. وليس هذا في المصابيح، وكذا ليس في رواية جرير عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه عن ابن مسعود عند مسلم، ووقع في رواية سفيان عن منصور عن جرير عنده: وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة. فاختار صاحب المشكاة هذه الرواية الجامعة (قالوا: وإياك يا رسول الله؟) أي لك قرين من الجن؟ والقياس وأنت يا رسول الله بالضمير المرفوع المنفصل، وكذا في الجواب يعني. (قال: وإياي) أي ولي ذلك، والقياس أن يقول: وأنا، فأقام الضمير المنصوب مقام المرفوع المنفصل وهو سائغ شائع، ويحتمل أن يكون المعنى: وإياك نعني في هذا الخطاب. فقال: نعم وإياي؛ لأن الخطاب في منكم عام لا يخص المخاطبين من الصحابة، بل كل من يصح أن يخاطب به داخل فيه، كأنه قيل: ما منكم يا بني آدم من أحد. وهذا إن قلنا: إن المتكلم لا يدخل في عموم الخطاب. وقيل: عطف على محل الضمير المجرور المقدر، تقديره: قالوا: وقد وكل به وإياك. قال: وكل به وإياي، كذا في المرقاة (ولكن) بالتشديد ويخفف (أعانني عليه) أي بالعصمة أو بالخصوصية (فأسلم) برفع الميم على بناء المضارع من السلامة، وفتحها على بناء الماضي من الإسلام، وهما روايتان مشهورتان، فمن رفع قال معناه: أسلم أنا من شره وفتنته؛ لأن القرين من الجن إنما هو الشيطان، والشيطان هو المصر على العتو والتمرد والمطبوع على الكفر، فأنى يتصور منه الإسلام. ومن فتح قال: إن القرين أسلم وصار مؤمنا. واختلفوا في الأرجح منهما، فقال الخطابي: الصحيح
فلا يأمرني إلا بخير))، رواه مسلم.

(1/344)


68- (6) وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المختار الرفع. ورجح القاضي عياض الفتح. قال النووي: هو المختار لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (فلا يأمرني إلا بخير) وقال التوربشتي: إذا صحت رواية الفتح فلا عبرة بهذا التعليل، أي الذي ذكره أصحاب القول الأول فإن الله هو القادر على كل شيء، ولا يستبعد من فضله أن يخص نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأمثال هذه الكرامة وبما هو فوقها – انتهى. واختلفوا على رواية الفتح فقيل: أسلم بمعنى استسلم وذل وانقاد، وقد جاء هكذا في غير صحيح مسلم فاستسلم، وقيل: معناه صار مسلما مؤمنا. قال النووي: وهذا هو الظاهر. قال القاضي: إن الأمة مجتمعة على عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه. وفي هذا الحديث إشارة إلى التحذير من فتنة القرين ووسوسته وإغواءه، فأعلمنا بأنه معنا لنحترز منه بحسب الإمكان (رواه مسلم) في صفة القيامة قبل صفة الجنة، وأخرجه أيضا أحمد، وفي الباب عن عائشة عند مسلم والنسائي.

(1/345)


68-قوله: (إن الشيطان يجري) أي يسري (من الإنسان) أي فيه (مجرى الدم) أي في عروقه. وقال الطيبي: عدى " يجري" بمن على تضمين معنى التمكن، أي يتمكن من الإنسان في جريانه في عروقه مجرى الدم، فالمجرى يجوز أن يكون مصدرا ميميا وأن يكون اسم مكان، وعلى الأول تشبيه شبه سريان كيد الشيطان وجريان وساوسه في الإنسان يجريان دمه في عروقه وجميع أعضائه، والمعنى أن الشيطان يتمكن من إغواء الإنسان وإضلاله تمكنا تاما، ويتصرف فيه تصرفا لا مزيد عليه، وعلى الثاني يجوز أن يكون حقيقة فإن الله تعالى قادر على أن يخلق أجساما لطيفة تسري في بدن الإنسان سريان الدم، فإن الشيطان مخلوقه من نار السموم، والإنسان من صلصال من حمأ مسنون، والصلصال فيه نارية وبه يتمكن من الجريان في أعضائه، ويجوز أن يكون مجازا، أي إن كيد الشيطان ووساوسه تجري في الإنسان حيث يجري فيه الدم، فالشيطان إنما يستحوذ على النفوس، وينفث وساوسه في القلوب بواسطة النفس الأمارة بالسوء، ومركبها الدم ومنشأ قواها منه، فعلاجه سد المجاري بالجوع والصوم؛ لأنه يقمع الهوى والشهوات التي هي من أسلحة الشيطان، فالشبع مجلبة للآثام منقصة للإيمان – انتهى. وفي الحديث الاستعداد للتحفظ من مكائد الشيطان فإنه يجري من الإنسان مجرى الدم، ولا يفارقه كما لا يفارقه دمه، فيتأهب الإنسان للاحتراز من وساوسه وشره. وسبب الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتته صفية وهو معتكف في المسجد، فلما رجعت انطلق معها، فمر به رجلان من الأنصار، فدعاهما فقال: إنما هي صفية، قالا سبحان الله، فذكره وأشار بذلك إلى أنه ينبغي التباعد من محل التهم، فما يفعله بعض من ادعى التصوف من مخالطة النساء والحدثان، ويقولون لا بأس علينا ولا يظن بنا أحد سوء من الجهل إذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى بذلك، وارجع لمزيد التفصيل إلى شرح البخاري للقسطلاني في شرح حديث صفية بنت حي في صفة إبليس من

(1/346)


متفق عليه .
69- (7) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بدء الخلق (متفق عليه) لم أجد حديث أنس هذا في صحيح البخاري، والظاهر أنه من إفراد مسلم، أخرجه في الاستيذان، يدل على ذلك قول الحافظ في شرح حديث صفية في باب: هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد من كتاب الصوم، نعم رواه مسلم من وجه آخر من حديث أنس الخ، ويدل عيه أيضا أن الشيخ عبدالغني النابلسي عزاه في ذخائر المواريث (ج1:ص61) لمسلم فقط، ويدل عليه أيضا أن المنذري سكت في مختصره عن عزو حديث أنس هذا إلى البخاري، وقال: أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة من حديث صفية بنت حي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدم في كتاب الصيام – انتهى. وحديث أنس هذا أخرجه أيضا أحمد وأبوداود في السنة.

(1/347)


69- قوله: (ما من بني آدم) أي ما من أولاده، والمراد هذا الجنس (مولود إلا يمسه الشيطان) رفع مولود على أنه فاعل الظرف لاعتماده على حرف النفي، والمستثنى منه أعم عام الوصف فالاستثناء مفرغ، يعني ما وجد من بني آدم مولود متصف بشيء من الأوصاف حال ولادته إلا بهذا الوصف أي مس الشيطان له، والمراد بالمس الحقيقي أي الحسي لقوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية للبخاري: ((كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه بإصبعيه حين يولد غير عيسى بن مريم، ذهب يطعن فطعن في الحجاب)). قال القرطبي: هذا الطعن من الشيطان هو ابتداء التسليط، فحفظ الله مريم وابنها ببركة دعوة أمها. (فيستهل) أي يصيح (صارخا) رافعا صوته بالبكاء، وهو حال مؤكدة، أو مؤسسة أي مبالغة في رفعه، أو المراد بالاستهلال مجرد رفع الصوت وبالصراخ البكاء (من مس الشيطان) أي لأجله، يعني سبب صراخ الصبي أول ما يولد الألم من مس الشيطان إياه. قال الطيبي: وفي التصريح بالصراخ إشارة إلى أن المس عبارة عن الإصابة بما يؤذيه لا كما قالت المعتزلة من أن مس الشيطان تخييل، واستهلاله صارخا من مسه تصوير لطمعه فيه، كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول: هذا ممن أغويه – انتهى. قال الحافظ: قد طعن صاحب الكشاف أي الزمخشري في معنى هذا الحديث وتوقف في صحته، فقال: إن صح فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها فإنهما كانا معصومين، وكذلك كل من كان في صفتهما لقوله تعالى: ?إلا عبادك منهم المخلصين? [15:40] قال واستهلال الصبي صارخا من مس الشيطان تخييل لطمعه فيه، كأنه يمسه ويضرب بيده عليه، ويقول هذا ممن أغويه. وأما صفة النخس كما يتوهمه أهل الحشو فلا، ولو ملك إبليس على الناس نخسهم لامتلأت الدنيا صراخا – انتهى. وكلامه متعقب من وجوه، والذي يقتضيه لفظ الحديث لا إشكال في معناه، ولا مخالفة لما ثبت من عصمة الأنبياء، بل ظاهر الخير أن إبليس ممكن من مس كل مولود عند ولادته، لكن

(1/348)


من كان من عباد الله المخلصين لم يضره ذلك المس أصلا، واستثنى من المخلصين مريم
غير مريم وابنها))، متفق عليه.
70- (8) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صياح المولود حين يقع نزغة من الشيطان))، متفق عليه).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وابنها فإنه ذهب يمس على عادته فحيل بينه وبين ذلك، فهذا وجه الاختصاص، ولا يلزم منه تسلطه على غيرهما من المخلصين. وأما قوله "لو ملك إبليس"... الخ فلا يلزم من كونه جعل له ذلك عند ابتداء الوضع أن يستمر ذلك في حق كل أحد. قال الحافظ: والجواب عن إشكال الإغواء يعرف مما قدمنا أيضا، وحاصله أن ذلك جعل علامة في الابتداء على من يتمكن من إغوائه – انتهى. وقال المولى سعد الدين: طعن أي الزمخشري أولا في الحديث بمجرد أنه لم يوافق هواه، وإلا فأي امتناع من أن يمس الشيطان المولود حين يولد بحيث يصرخ كما ترى وتسمع، ولا يكون ذلك في جميع الأوقات حتى يلزم امتلاء الدنيا بالصراخ، ولا تلك المسة للإغواء، وكفى بصحة هذا الحديث رواية الثقات وتصحيح الشيخين له من غير قدح من غيرهما – انتهى.(غير مريم وابنها) حال من مفعول يمس، قاله ابن حجر. واستثناءهما لإجابة دعوة حنة: امرأة عمران، أم مريم العذراء البتول حيث قالت: ?إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم? [3: 35]، وتفرد عيسى وأمه بالعصمة عن المس لا يدل على فضلهما على نبينا - صلى الله عليه وسلم -، إذ له فضائل ومعجزات لم تكن لأحد من النبيين، ولا يلزم أن يكون في الفاضل جميع صفات المفضول، قاله الطيبي. وقال النووي: ظاهر الحديث اختصاص هذه الفضيلة بعيسى وأمه، وأشار القاضي عياض أن جميع الأنبياء يشاركون فيها، أي لعصمتهم من الشيطان، وإنما نص على مريم وعيسى فقط لدعوة حنة، وغيرهما من بقية الأنبياء ملحق بهما. وقال صاحب اللمعات: الظاهر أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - مستثنى من هذا العموم، وأنه يخبر عن أحوال عامة

(1/349)


بني آدم سوى نفسه الكريمة، إذ شأنه أرفع وأعلى من أن يدخل في مثل هذا الحكم، إذا هو الطاهر المطهر من كل دنس، والمعصوم من آفات الشيطان وإفساده خصوصا في أول خلقه وحين ولادته. وقد قيل: إن المتكلم لا يدخل في عموم ما يخبر به الناس – انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في صفة إبليس وجنوده من بدء الخلق، وفي الأنبياء، وفي تفسير آل عمران، ومسلم في الأنبياء واللفظ المذكور للبخاري في الأنبياء.
70- قوله: (صياح المولود) أي سبب صيحته في بكاء (حين يقع)، أي يسقط وينفصل عن أمه (نزعة من الشيطان) بفتح النون وسكون الزاي، أي إصابة ما يؤذيه أو نخسة وطعنة منه يريد بها إيذاءه وإفساد ما ولد عليه من الفطرة الإسلامية، فإن النزغ هو النخس بالعود والدخول في أمر لإفساده (متفق عليه) اختلفت النسخ المطبوعة في الهند في ذكر هذا اللفظ فلم يقع في بعضها، وكذا لم يقع في النسخة التي على حاشية المرقاة، وهو موجود في الأصل الذي أخذه القاري في شرحه. قال القاري: المذكور في الجامع الصغير أنه من إفراد البخاري – انتهى. يعني فقوله " متفق عليه" محل نظر. قلت: هذا الحديث من إفراد مسلم، رواه في الأنبياء ولم يروه البخاري في صحيحه، وعزاه
71- (9) وعن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه يفتنون الناس، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئا. قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته. قال فيدنيه منه ويقول: نعم أنت)). قال الأعمش
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السيوطي في الجامع الصغير لمسلم فقط، وهو الصواب.

(1/350)


71- قوله: (إن إبليس يضع عرشه) أي سرير ملكه (على الماء) وفي رواية على البحر، ومعناه أن مركزه البحر، ومنه يبعث سراياه في نواحي الأرض، فالصحيح حمله على ظاهره، ويكون من جملة تمرده وطغيانه وضع عرضه على الماء، يعني جعله الله تعالى قادرا عليه استدراجا ليغتر بأن له عرشا كعرش الرحمن كما في قوله تعالى: ?وكان عرشه على الماء? [11: 7]، ويغر بعض السالكين الجاهلين بالله أنه الرحمن كما وقع لبعض الصوفية على ما ذكر في النفحات الإنسية، ويؤيده قصة ابن صياد حيث قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أرى عرشا على الماء. فقال له - صلى الله عليه وسلم -: ترى عرش إبليس)) . وقيل عبر عن استيلائه على إغوائه الخلق وتسلطه على إضلالهم بهذه العبارة، كذا في المرقاة. (ثم يبعث) أي يرسل (سراياه) جمع سرية وهي قطعة من الجيش توجه نحو العدو لتنال منه، والمراد جنوده وأعوانه (يفتنون الناس) بفتح الياء وكسر التاء، أي يضلونهم أو يمتحنونهم بتزيين المعاصي إليهم حتى يقعوا فيها (فأدناهم) أي أقربهم (منه) أي من إبليس (منزلة) أي مرتبة (أعظمهم فتنة) أي أكبرهم إضلالا (فعلت كذا وكذا) أي أمرت بشرب الخمر والسرقة مثلا (فيقول ما صنعت شيئا) أي عظيما أو معتدا به (ما تركته) أي فلانا (حتى فرقت بينه وبين امرأته) أي وسوسته، وأوقعت البغض والعداوة بينه وبين زوجته حتى فارقها (فيدنيه منه) أي فيقرب إبليس ذلك المغوي من نفسه، من الإدنا (نعم أنت) بكسر النون وسكون العين المهملة أي نعم الولد أنت، على أنه فعل مدح وفاعله مضمر على خلاف القياس، يعني يمدح إبليس صنيعه ويشكر فعله لإعجابه بصنيعه وبلوغ الغاية التي أرادها. وقيل حرف إيجاب، وأنت مبتدأ وخبره محذوف، أي أنت صنعت شيئا عظيما. (قال الأعمش) وهو أحد رواة الحديث، اسمه سليمان بن مهران - بكسر الميم - الأسدي الكاهلي مولاهم أبو محمد الكوفي، أحد الأعلام الحفاظ والقراء. رأى أنس بن مالك. وقيل

(1/351)


رآه رؤية بمكة يصلي خلف المقام. وروى عنه وعن عبدالله بن أبي أوفى ولم يسمع منهما. وذكر أبونعيم الأصفهاني: أن الأعمش رأى أنس بن مالك وابن أبي أوفى، وسمع منهما. والأول هو المشهور، وهو الصحيح. قال ابن المديني: له نحو ألف وثلثمائة حديث. قال ابن عيينة: كان أقرأ أصحابه وأحفظهم وأعلمهم، وكان يسمى المصحف لصدقه. قال الحافظ في التقريب في ترجمته: ثقة حافظ عارف بالقراءة ورع لكنه يدلس، من الخامسة، وهم الطبقة الصغرى من التابعين الذين
أراه قال: " فيلتزمه"، رواه مسلم.
72- (10) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الشيطان قد أيس من أن يعبده المصلون في جزية العرب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رأوا الواحد والاثنين من الصحابة، ولم يثبت لبعضهم السماع من الصحابة. مات سنة (47) أو (48) وكان مولده أول سنة (61). (أراه) بضم أوله أي أظن أبا سفيان طلحة بن نافع الراوي عن جابر. وقيل: ضمير المفعول لجابر (قال فيلتزمه) أي فيعانقه ويضمه إلى نفسه من غاية حبه التفريق بين الزوجين، وذلك لأن النكاح عقد شرعي يستحل به الزوج، وهو يريد حل ما عقده الشرع، ليستبيح ما حرمه فيكثر الزنا وأولاد الزنا، فيفسدوا في الأرض، ويهتكوا حدود الشرع، ويتعدوا حدود الله تعالى، قاله الطيبي. والقصد بسياق الحديث التحذير من التسبب في الفراق بين الزوجين؛ لما فيه من توقع وقوع الزنا وانقطاع النسل. (رواه مسلم) في صفة القيامة، وأخرجه أيضا أحمد، وفي الباب عن أبي موسى الأشعري وأبي ريحانة عند الطبراني في الكبير، وفي الأول عطاء بن السائب اختلط، وبقية رجاله ثقات، وفي الثاني يحيى بن طلحة اليربوعي ضعفه النسائي، وذكره ابن حبان في الثقات.

(1/352)


72-قوله: (إن الشيطان) أي إبليس رئيس الشياطين (قد أيس) وفي رواية يئس (من أن يعبده المصلون) قيل: المراد بعبادة الشيطان عبادة الصنم؛ لأنه الآمر به والداعي إليه بدليل قوله: ?يا أبت لا تعبد الشيطان? [19: 44] إذ المراد الأصنام، والمراد بالمصلين المؤمنون كما في قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((نهيتكم عن قتل المصلين)). سموا بذلك لأنها أشهر الأعمال وأظهر الأفعال الدالة على الإيمان؛ ولأن الصلاة هي الفارقة بين الكفر والإيمان. (في جزيرة العرب) الجزيرة هي كل أرض حولها الماء، فعليه بمعنى مفعوله من جزر عنها الماء أي ذهب، وقد اكتنفت تلك الجزيرة البحار والأنهار، كبحر البصرة وعمان وعدن إلى بركة بني إسرائيل التي أهلك الله فرعون بها وبحر الشام والنيل، أضيفت إلى العرب لأنها مسكنهم، ونقل عن مالك أن جزيرة العرب مكة والمدينة واليمن. قيل إنما خص جزيرة العرب لأنها معدن العبادة ومهبط الوحي، قاله القاري. وفي القاموس: جزيرة العرب ما أحاط به بحر الهند وبحر الشام ثم دجلة والفرات وما بين عدن أبين إلى أطراف الشام طولا ومن جدة إلى ريف العراق عرضا – انتهى. وعلى هذا هي شبه الجزيرة لا الجزيرة، فتسميتها بالجزيرة مجاز، ومعنى الحديث أن الشيطان قد أيس من أن يعود أحد من المؤمنين إلى عبادة الصنم، ويرتد إلى شركه في جزيرة العرب، والمراد الإخبار بأنه تعالى حفظ هذا المكان عن وقوع عبادة الصنم فيه، ولا يرد على ذلك ارتداد أصحاب مسيلمة والعنسي وغيرهما ممن ارتد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - في العرب؛ لأنهم لم يعبدوا الصنم. قال القاري: وفيه أن دعوة الشيطان عامة إلى أنواع الكفر غير مختص بعبادة الصنم، فالأولى أن يقال: إن المراد المصلين لا يجمعون بين الصلاة وعبادة الشيطان كما فعلته اليهود والنصارى – انتهى. وقال التوربشتي
ولكن في التحريش بينهم))، رواه مسلم.
?الفصل الثاني?

(1/353)


73- (11) عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه رجل فقال: ((إني أحدث نفسي بالشيء لأن أكون حممة أحب إلي من أن أتكلم به. قال: الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الجواب: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخبر عنهم أنهم لا يفعلون ذلك، وإنما أخبر عن اليأس الذي استشعر بالشيطان عنهم أن يعودوا في طاعته لما رآى من كثرتهم وعزتهم واجتماعهم وقوتهم، لكنه وقع ذلك مع يأسه منه، فلا تضاد بين هذا الحديث وبين القضية التي ذكرت، يعني أن قصده - صلى الله عليه وسلم - بسياق هذا الحديث هو الإخبار عن بلوغ أمر المسلمين ودولتهم حدا أيس الشيطان أن يقع الارتداد بعده، وليس غرضه - عليه الصلاة والسلام - الإخبار من عدم وقوع الارتداد البتة. قال صاحب اللمعات: وفيه بعد أيضا لأن الظاهر من يأسه هو عدم الوقوع، فهو كناية عنه. قال: ويمكن أن يقال: إن معني الحديث: أن الشيطان أيس من أن يستبدل دين الإسلام، وينهدم أساس الدين، ويظهر الإشراك ويستمر، ويسير الأمر كما كان من قبل، ولا ينافيه ارتداد من ارتد بل لو عبد الأصنام أيضا لم يضر في المقصود. (ولكن في التحريش) خبر لمبتدأ محذوف، أي هو في التحريش، أو ظرف لمقدر أي يسعى في التحريش (بينهم) أي في إغراء بعضهم على بعض، والتحريض بالشر بين الناس من قبل وخصومة، فهو لإيذائهم بالمرصاد. قيل: ولعله - صلى الله عليه وسلم - أخبر عما جرى فيما بعده من التحريش الذي وقع بين أصحابه، أي لكن الشيطان غير آيس من إغراء المؤمنين الساكنين فيها وحملهم على الفتن، بل له مطمع في ذلك، وكان كما أخبر فكان معجزة له - صلى الله عليه وسلم -. (رواه مسلم) في صفة القيامة، وأخرجه أيضا أحمد، والترمذي في أبواب البر والصلة.

(1/354)


73- قوله: (إني أحدث نفسي) أي أكلمها بالسر أي توسوسني (بالشيء) هو في قوة النكرة معنى وإن كان معرفة لفظا؛ لأن "ال" فيه للجنس مثل قول الشاعر:
ولقد أمر على اللئيم يسبني
والجملة الاسمية بعده صفة له، وهي قوله: (لأن أكون حممة) بضم ففتح أي فحما (أحب إلي من أن أتكلم به) أي أحدث نفسي بشيء لكوني حممة أحب إلي من التكلم بذلك الشيء من غاية قبحه لتعلقه بالخوض في ذات الله تعالى، وما لا يليق به سبحانه من تجسيم وتشبيه وتعطيل ونحوها، واللام للقسم أو للابتداء (قال) - صلى الله عليه وسلم - (الحمد لله) شكرا لما أنعم الله عليه وعلى أمته (الذي رد أمره إلى الوسوسة) قال القاري: الضمير فيه يحتمل أن يكون للشيطان وإن لم يجر له ذكر لدلالة السياق عليه، ويحتمل أن يكون للرجل، والأمر يحتمل أن يكون واحد الأوامر وأن يكون بمعنى الشأن، يعني كان
رواه أبو داود.
74- (12) وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن للشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشيطان يأمر الناس بالكفر قبل هذا، وأما الآن فلا سبيل له إليهم سوى الوسوسة، ولا بأس بها مع العلم بأنها قبيحة والتعوذ بالله منها، أو المعنى: الحمد لله الذي رد شأن هذا الرجل من الكفر إلى الوسوسة، وهي معفوة – انتهى.(رواه أبوداود) في الأدب، وأخرجه أيضا أحمد والنسائي وابن أبي شيبه، وصححه ابن حبان.

(1/355)


74- قوله: (إن للشيطان) أي إبليس أو بعض جنده (لمة) أي قربا أي وساوس، يوصلها إلى قلب العبد المكلف بحيث يقربه إلى المعاصي، واللمة بفتح اللام وشدة الميم من الإلمام ومعناه النزول والقرب والإصابة، والمراد بها ما يقع في القلب بواسطة الشيطان من خطرات الشر (بابن آدم) أي بهذا الجنس، فالمراد به الإنسان (وللملك لمة) المراد بها ما يقع في القلب من خطرات الخير، ولمة الشيطان تسمى وسوسة ولمة الملك إلهاما (فأما لمة الشيطان) أي وسوسته (فإبعاد) أي منه (بالشر) كالكفر والفسق والظلم (وتكذيب بالحق) أي في حق الله أو حق الخلق، أو بالأمر الثابت كالتوحيد والنبوة والبعث والقيامة والجنة والنار. قال المناوي: كان القياس مقابلة الشر بالخير أو الحق بالباطل، لكنه أتى بما يدل على أن كل ما جر إلى الشر باطل أو إلى الخير حق، فأثبت كلا ضمنيا (فإيعاد بالخير) كالصلاة والصوم (وتصديق بالحق) ككتب الله ورسله، والإيعاد في اللمتين من باب الإفعال، والوعيد في الاشتقاق كالوعد، إلا أن الإيعاد اختص بالشر عرفا، يقال: أوعد إذا وعد بالشر، إلا أنه استعمله في الخير للازدواج والأمر من عن الاشتباه بذكر الخير بعده. قال القاري: إن هذا التفصيل عند الإطلاق كما قال الشاعر:
وإني وإن أوعدته أو وعدته لملخف إيعادي ومنجز موعدي

(1/356)


وأما عند التقييد فالأولى أن يقال بالتجريد فيهما أو بأصل اللغة، واختيار الزيادة لاختيار المبالغة – انتهى. وقال الشاه ولي الله الدهلوي: الحاصل أن صورة تأثير الملائكة في نشأة الخواطر الأنس والرغبة في الخير، وتأثير الشياطين فيها الوحشة وقلق النفس والرغبة في الشر (فمن وجد) أي في نفسه أو أدرك وعرف (ذلك) أي لمة الملك على تأويل الإلمام أو المذكور (فليعلم أنه من الله) أي منة جسيمة ونعمة عظيمة واصلة إليه ونازلة عليه، إذ أمر الملك بأن يلهمه، أو فليعلم أنه مما يحبه الله ويرضاه (فليحمد الله) أي على هذه النعمة الجليلة حيث أهله لهداية الملك ودلالته على ذلك الخير (ومن وجد الأخرى) أي لمة الشيطان، ولم يصرح به كراهة لتوالي ذكره على اللسان، أو استهجانا لذكره (فليتعوذ بالله
من الشيطان الرجيم ثم قرأ: ?الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء?، رواه الترمذي. وقال هذا حديث غريب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/357)


من الشيطان الرجيم) وليخالفه، وفيه إيماء إلى أن الكل من الله، وإنما الشيطان عبد مسخر أعطي له التسليط على بعض أفراد الإنسان كما قال الله تعالى: ?إن عبادي ليس لك عليهم سلطان?[ 15: 42]، وإنما لم يقل هنا فليعلم أنه من الله تأدبا معه، إذ لا يضاف إليه إلا الخير (ثم قرأ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - استشهادا: ?الشيطان يعدكم الفقر? أي يخوفكم به ?ويأمركم بالفحشاء? أي البخل والحرص وسائر المعاصي، والمعنى الشيطان يعدكم الفقر ليمنعكم عن الإنفاق في وجوه الخيرات، ويخوفكم الحاجة لكم أو لأولادكم في ثاني الحال سيما في كبر السن وكثرة العيال، ويأمركم بالفحشاء أي المعاصي، وهذا الوعد والأمر هما المرادان في الحديث (رواه الترمذي) في تفسير البقرة، وأخرجه أيضا النسائي في التفسير، وابن حبان في صحيحه، وابن أبي حاتم، كلهم من طريق هناد بن السري عن أبي الأحوص عن عطاء بن السائب عن مرة الهمداني عن ابن مسعود. قال العزيزي: قال الشيخ: حديث صحيح (وقال هذا حديث غريب) وفي النسخ الموجودة للترمذي عندنا هذا حديث حسن غريب، وكذلك نقله الحافظ ابن كثير في تفسيره، والمناوي في الفيض عن الترمذي، فلعل نسخ السنن مختلفة، ويعني الترمذي بقوله غريب أنه تفرد أبو الأحوص سلام بن سليم برفعه في روايته عن عطاء بن السائب عن مرة الهمداني عن ابن مسعود، لكن قال الحافظ ابن كثير بعد نقل قول الترمذي: "لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث أبي الأحوص": كذا قال الترمذي وقد رواه أبوبكر بن مردويه في تفسيره عن محمد بن أحمد عن محمد بن عبدالله بن مسعود مرفوعا نحوه، لكن رواه مسعر عن عطاء بن السائب عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة عن ابن مسعود فجعله من قوله – انتهى. قال الألباني: وسند الحديث عندي ضعيف؛ لأن فيه عطاء بن السائب وقد اختلط – انتهى. وتعريف الغرابة وتفصيل أنواعها بالنظر إلى السند والمتن مذكور في أصول الحديث. وقد استشكلوا اجتماع الغرابة

(1/358)


والحسن بأن الترمذي اعتبر في الحسن تعدد الطرق كما صرح به في كتاب العلل، فكيف يكون غريبا؟ وأجيب بأن اعتبار تعدد الطرق في الحسن ليس على الإطلاق بل في قسم منه، وحيث حكم باجتماع الحسن والغرابة المراد قسم آخر. وقال بعضهم: أشار بذلك إلى اختلاف الطرق بأن جاء في بعض الطرق غريبا وفي بعضها حسنا. وقيل: حذف منه حرف أو فيشك الترمذي ويتردد في أنه غريب أو حسن لعدم معرفة جزما. وقيل: المراد بالحسن ههنا ليس معناه الاصطلاحي بل اللغوي بمعنى ما يميل إليه الطبع، وهذا القول بعيد جدا، قاله الشيخ عبدالحق الدهلوي في مقدمة شرحه للمشكاة. وقال الحافظ في شرح النخبة: الجواب (أي عن هذا الإشكال) أن الترمذي لم يعرف الحسن مطلقا، وإنما عرف بنوع خاص منه وقع في كتابه، وهو ما يقول فيه حسن من غير صفة أخرى، وذلك أنه يقول في بعض الأحاديث حسن وفي بعضها صحيح وفي بعضها غريب وفي بعضها حسن غريب وفي بعضها صحيح غريب وفي بعضها حسن صحيح غريب، وتعريفه إنما
75- (13) وعن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله؟ فإذا قالوا ذلك فقولوا: الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، ثم ليتفل عن يساره ثلاثا، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم))،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/359)


وقع على الأول فقط، وعبارته ترشد إلى ذلك حيث قال في آخر كتابه: وما قلنا في كتابنا حديث حسن إنما أردنا به حسن إسناده عندنا، إذ كل حديث يروي لا يكون رواية متهما بكذب، ويروى من غير وجه نحو ذلك، ولا يكون شاذا فهو عندنا حديث حسن. فعرف بهذا أنه إنما عرف الذي يقول فيه حسن فقط، أما ما يقول فيه حسن صحيح، أو حسن غريب، أو حسن صحيح غريب فلم يعرج على تعريف ما يقول فيه صحيح فقط أو غريب فقط، وكأنه ترك ذلك استغناء لشهرته عند أهل الفن، واقتصر على تعريف ما يقول في كتابه حسن فقط إما لغموضه، وإما لأنه اصطلاح جديد ولذلك قيده بقوله "عندنا"، ولم ينسبه إلى أهل الحديث كما فعل الخطابي – انتهى. وقال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في فتوى له: الذين طعنوا على الترمذي لم يفهموا مراده في كثير مما قاله فإن أهل الحديث قد يقولون هذا الحديث غريب أي من هذا الوجه، وقد يصرحون بذلك فيقولون غريب من هذا الوجه فيكون الحديث عندهم صحيحا معروفا من طريق واحد، فإذا روي من طريق آخر كان غريبا من ذلك الوجه وإن كان المتن صحيحا معروفا، فالترمذي إذا قال: حسن غريب، قد يعني به أنه غريب من ذلك الطريق لكن المتن له شواهد صار بها من جملة الحسن – انتهى.

(1/360)


75-قوله: (لا يزال الناس يتساءلون) أي لا ينقطعون عن سؤال بعضهم بعضا في أشياء (حتى يقال هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله) تقدم الكلام فيه، وقيل: المراد بالتساؤل حكاية النفس وحديثها ووسوستها، وهذا هو الظاهر من التفل والاستعاذة، ويؤيد الأول قوله: (فإذا قالوا ذلك فقولوا الله أحد) يعني قولوا في رد هذه المقالة أو الوسوسة: الله تعالى ليس مخلوقا بل هو أحد والأحد هو الذي لا ثاني له ولا مثل له في الذات والصفة. (الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) تقدم شرحه. قال الطيبي: الصفات الثلاث منبهة على أن الله تعالى لا يجوز أن يكون مخلوقا، أما أحد فمعناه الذي لا ثاني له ولا مثل، فإذا جعل مخلوقا لم يكن أحدا على الإطلاق؛ لأن خالقه أولى بالأحدية، والصمد هو السيد الذي يرجع الناس في أمورهم وحوائجهم إليه فيكون ذلك الخالق أولى منه، ولم يولد تصريح في النفي، ولم يلد ولم يكن له كفوا أحد يناديان بأنه إذا لم يكن له كفو وهو المساوي والولد الذي هو دونه في الإلهية فأحرى بأن لا يكون فوقه أحد – انتهى. (ثم ليتفل) بسكون اللام الأولى وتكسر وبضم الفاء وتكسر أي لييصق أحدكم أو هذا الرجل يعني الموسوس (عن يساره) كرامة لليمين، وقيل: اللمة الشيطانية عن يسار القلب والرحمانية عن يمينه. (ثلاثا) أي ليلق البزاق من الفم ثلاث مرات، وهو عبارة عن كراهة الشيء والنفور عنه مراغمة للشيطان وتبعيدا له. (وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم) الاستعاذة طلب المعونة من الله تعالى في دفع الشيطان. وفي الحديث استجاب التعوذ من الشيطان
رواه أبو داود، وسنذكر حديث عمرو بن الأحوص في باب خطبة يوم النحر إن شاءالله تعالى.
?الفصل الثالث?
76- (14) عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لن يبرح الناس يتسألون حتى يقولوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/361)


عند وسوسته مع التفل عن اليسار ثلاثا (رواه أبو داود) في السنة، وأخرجه أيضا النسائي في اليوم والليلة. قال المنذري: وفي سند الحديث سلمة بن الفضل قاضي الرى ولا يحتج به.
قوله (وسنذكر حديث عمرو بن الأحوص) أي المذكور هنا في المصابيح وهو ألا لا يجني جان إلا على نفسه، ألا لا يجني جان على ولد، ولا مولود على والده، ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلادكم هذه أبدا، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم فسيرضى به.

(1/362)


76-قوله: (لن يبرح الناس) بالموحدة والحاء المهملة أي لن يزاولوا ولن ينقطعوا (يتساءلون) أي متسائلين، يسأل بعضهم بعضا أو تحدثهم أنفسهم بالوسوسة، ويؤيد الأول رواية مسلم الآتية، ويجري بينهم السؤال في كل نوع (حتى يقولوا) أي حتى أن يقولوا (هذا الله خلق كل شيء) وفي أصل الحافظ والعيني والقسطلاني: "هذا الله خالق كل شيء"، قيل: إنه يحتمل أن يكون "هذا" مفعولا، والمعنى حتى يقولوا هذا القول، ويكون "الله خلق كل شيء الخ" تفسيرا لهذا أو بدلا أو بيانا، وأن يكون مبتدأ حذف خبره، أي هذا مسلم، وهو أن الله خلق كل شيء، وهو شيء، وكل شيء مخلوق، فمن خلقه؟ويحتمل أن يكون ((هذا الله)) مبتدأ وخبرا، و ((خلق كل شيء)) استئناف أو حال، وقد مقدرة، والعامل معنى اسم الإشارة، ويحتمل أن يكون هذا مبتدأ والله عطف بيان، وخلق كل شيء خبره (فمن خلق الله) قاسوا القديم على الحادث فإنه يحتاج إلى محدث، ويتسلسل إلى أن ينتهي إلى خالق قديم واجب الوجود لذاته، وفي الحديث إشارة إلى ذم كثرة السؤال لأنها تفضي إلى المحذور كالسؤال المذكور فإنه لا ينشأ إلا عن جهل مفرط. (رواه البخاري) أي في الاعتصام من طريق شبابة عن ورقاء عن عبدالله بن عبدالرحمن عن أنس، قال العيني: الحديث من إفراد البخاري من هذا الوجه (ولمسلم) أي في الإيمان من طريق محمد بن فضيل عن المختار بن فلفل عن أنس (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (قال الله عزوجل) فيكون من الأحاديث الربانية أي القدسية (إن أمتك) أي أمة الدعوة أو بعض أمة الإجابة بطريق الجهالة والوسوسة (لا يزالون يقولون) أي بعضهم لبعض أو في خواطرهم من غير اختيار، والأول هو الظاهر (ما كذا ما كذا) كناية عن كثرة السؤال، وقيل: وقال أي ما شأنه ومن خلقه (حتى يقولوا) أي حتى يتجاوزوا الحد

(1/363)


هذا الله خلق كل شيء، فمن خلق الله عزوجل؟)) رواه البخاري، ولمسلم قال: قال الله عزوجل: إن أمتك لا يزالون يقولون: ما كذا ما كذا حتى يقولوا هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله عزوجل؟)).
77- (15) وعن عثمان بن أبي العاص قال: قلت: ((يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وبين قرأتي يلبسها علي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثا، ففعلت ذلك فأذهبه الله عني))، رواه مسلم.
78- (16) وعن القاسم بن محمد أن رجلا سأله فقال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وينتهوا إلى أن يقولوا (هذا لله خلق الخلق فمن خلق الله عزوجل) والمقصود من الحديث إعلامه تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بما سيقع من أمته ليحذرهم منه.

(1/364)


77- قوله: (وعن عثمان بن أبي العاص) هو أبوعبدالله عثمان بن أبي العاص الثقفي الطائفي نزيل البصرة الصحابي الشهير، أسلم في وفد ثقيف فاستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على الطائف وأقره أبوبكر ثم عمر، ثم استعمله عمر على عمان وبحرين سنة خمس عشرة، ثم سكن البصرة حتى مات بها في خلافة معاوية، قيل سنة (55) وقيل سنة (51)، و كان هو الذي منع ثقيفا عن الردة خطبهم فقال: كنتم آخر الناس أسلاما فلا تكونوا أولهم ارتدادا. له تسعة وعشرون حديثا، انفرد له مسلم بثلاثة، روى عنه جماعة من التابعين (إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وبين قرأتي) أي نكدني فيها ومنعني لذتها والفراغ للخشوع فيها بالوساوس الذميمة والخطرات الرديئة (يلبسها علي) بالتشديد للمبالغة. قال القاري: وفي نسخه صحيحة ظاهرة بفتح أوله وكسر ثالثه أي يخلطها ويشككني فيها أي في كل واحدة من الصلاة والقراءة، والجملة بيان لقوله حال وما يتصل به (ذاك شيطان) أي الملبس أي خاص من الشياطين لا رئيسهم (يقال له خنزب) بخاء معجمة مكسورة ثم نون ساكنة ثم زاى مكسورة ومفتوحة كذا في النسخ المصححة، وهو من الأوزان الرباعية كزبرج ودرهم، ويقال أيضا بفتح الخاء والزاى حكاه القاضي عياض، ونظيره جعفر، ويقال أيضا: بضم الخاء وفتح الزاى حكاه ابن الأثير في النهاية وهو غريب، وهو في اللغة الجري على الفجور على ما يفهم من القاموس (واتفل) بضم الفاء وبكسر (على يسارك) أي عن يسارك، إشارة إلى كراهة الوسوسة والتنفر عنها (ثلاثا) أي ثلاث مرات لزيادة المبالغة في التنفر والتباعد (ففعلت ذلك) أي ما ذكره من التعوذ والتفل (فأذهبه الله) أي الوسواس. وفي الحديث أن التفل في الصلاة للضرورة لا يفسدها. وفي الباب أحاديث أخرى (رواه مسلم) في الطب، وأخرجه أيضا أحمد في مسنده (ج4:ص216).

(1/365)


78-قوله: (عن القاسم بن محمد) أي ابن أبي بكر الصديق التيمي أبي محمد المدني أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة من أكابر التابعين، وكان أفضل أهل زمانه. قال أيوب: ما رأيت أفضل منه. وقال يحيى بن سعيد:
إني أهم في صلاتي فيكثر ذلك علي. فقال له: أمض في صلاتك فإنه لن يذهب ذلك عنك حتى تنصرف وأنت تقول ما أتممت صلاتي))، رواه مالك .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما أدركنا أحدا بالمدينة نفضله على القاسم بن محمد. روى عن جماعة من الصحابة منهم عائشة ومعاوية وأبوهريرة وابن عباس وابن عمر، وعنه خلق كثير. قال ابن المديني: له مائتا حديث. مات سنة ستة ومائة وقيل غير ذلك (إني أهم في صلاتي) بكسر الهاء وتخفيف الميم، يقال: وهمت في الشيء بالفتح أهم وهما إذا ذهب وهمك إليه وأنت تريد غيره، ويقال: وهمت في الحساب أوهم وهما إذا غلطت فيه وسهوت (فيكثر) بالمثلثة معلوما ومجهولا من الكثرة أي يقع كثيرا، وروي "يكبر" بالموحدة المضمومة أي يعظم (ذلك) أي الوهم (على) بتشديد الياء (أمض في صلاتك) أي لا تلتفت إلى هذا الوهم ولا تعمل به ولا تقطع صلاتك (فإنه لن يذهب ذلك عنك) الضمير للشأن، والجملة تفسير له، وذلك إشارة للوهم المعنى به الوسوسة، والمعني لا يذهب عنك تلك الخطرات الشيطانية (حتى تنصرف) أي تفرغ من الصلاة وأنت تقول للوسواس أي الشيطان صدقت (ما أتممت صلاتي) لكن لا أقبل قولك ولا أتمها إرغاما لك ونقضا لما أردته مني، وهذا أصل عظيم لدفع الوساوس وقمع هواجس الشيطان في سائر الطاعات، بأن لا يلتفت إليها أصلا، ومعنى الأثر أن من يكثر عليه السهو في صلاته ويغلب على ظنه أنه قد أتمها لكن الشيطان يوسوس له فيبني على ظنه. وقال الباجي: هذا القول من القاسم للذي يستنكحه الوهم والسهو أي يغلبه ولا ينفك عنه فلا يكاد يثبت له يقين – انتهى. (رواه مالك) في باب العمل في السهو من موطئه ففيه عن مالك أنه بلغه أن رجلا سأل

(1/366)


القاسم بن محمد فقال إني أهم... الخ، فالأثر من بلاغات مالك. قال القاري عن سفيان: إذا قال مالك بلغني فهو إسناد قوي. وحكى ابن فرحون عن أبي داود أنه قال: مراسيل مالك أصح من مراسيل سعيد بن المسيب ومن مراسيل الحسن. ومالك أصح الناس مرسلا. وصنف ابن عبدالبر كتابا في وصل ما في الموطأ من المرسل والمنقطع والمعضل، قال: وجميع ما فيه من قوله "بلغني" ومن قوله "عن الثقة عنده" مما لم يسنده أحد وستون حديثا، كلها مسندة من غير طريق مالك إلا أربعة أحاديث ثم ذكرها. قال السيوطي في التدريب (73): قيل إن قول الراوي "بلغني" كقول مالك في الموطأ بلغني عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((للملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل إلا ما يطبق))، يسمى معضلا عند أصحاب الحديث، نقله ابن الصلاح عن الحافظ أبي نصر السجزى. قال العراقي: وقد استشكل لجواز أن يكون الساقط وأحدا، فقد سمع مالك عن جماعة من أصحاب أبي هريرة كسعيد المقبري ونعيم المجمر ومحمد بن المنكدر. والجواب أن مالكا وصله خارج الموطأ عن محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة، فعرفنا بذلك سقوط اثنين منه. قال السيوطي: بل ذكر النسائي في التمييز أن محمد بن عجلان لم يسمعه من أبيه، بل رواه عن بكير عن عجلان – انتهى.
(3) باب الإيمان بالقدر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/367)


(باب الإيمان بالقدر) هذا نوع تخصيص بعد تعميم، أو ذكر جزئي بعد الكلي اهتماما لما وقع فيه من الاختلاف الناشئ عن التحير في هذا الأمر. والقدر بفتحتين وهو المشهور، وقد تسكن داله. قال الراغب: القدر بوضعه يدل على القدرة وعلى المقدور الكائن بالعلم يتضمن الإرادة عقلا والقول نقلا، وحاصله وجود شيء في وقت وعلى حال يوفق العلم والإرادة والقول. وقدر الله الشيء بالتشديد قضاه، ويجوز بالتخفيف. وقال الجزري: القدر ما قضاه الله وحكم به من الأمور. وقال في القاموس: القدر محركة القضاء والحكم – انتهى. وهذا يدل على أن القدر والقضاء بمعنى واحد، وقد يفرق بينهما فقيل: القضاء الحكم بالكليات على سبيل الإجمال في الأزل، والقدر الحكم بوقوع الجزئيات التي لتلك الكليات على سبيل التفصيل فيما لا يزال. قال تعالى: ?وإن من شيء إلا عندنا خزائنه، وما ننزل إلا بقدر معلوم? [15: 21] وقيل: القضاء الإرادة الأزلية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب خاص، والقدر تعلق تلك الإرادة بالأشياء في أوقاتها، وعلى هذا يكون القضاء سابقا على القدر، قال تعالى: ?يمحو الله ما يشاء وثبت، وعنده أم الكتاب? [13: 39]، فالمحو والإثبات عبارة عن القدر، وفي قوله تعالى: ?وعنده أم الكتاب? إشارة إلى القضاء، وأرجع لتوضيح الآية إلى حاشية الجلالين للشيخ سليمان الجمل، فإنه أطال الكلام فيها وأجاد. وقال بعضهم: القدر هو التقدير، والقضاء هو الخلق بوفق التقدير نحو: ?فقضاهن سبع سموات? أي خلقهن، فيكون القدر سابقا على القضاء وعلى هذا المعنى جف القلم بما هو كائن عبارة عن التقدير. وفي قوله تعالى: ?كل يوم هو في شأن? [55: 29] إشارة إلى القضاء. وقيل: القضاء أخص من القدر لأنه الفصل من التقدير، والقدر هو التقدير والقضاء هو الفصل والقطع. وذكر بعضهم أن القدر بمنزلة المعد للكيل، والقضاء بمنزلة الكيل. وفي قول عمر لأبي عبيدة: "أفر من قضاء الله إلى قدر الله" تنبيه على أن=

2. : مرعاة المفاتيح

القدر ما لم يكن قضاء فمرجو أن يدفعه الله، فإذا قضى فلا مدفع له، ويشهد لذلك قوله تعالى: ?وكان أمرا مقضيا? [19: 21 ]، ?وكان على ربك حتما مقضيا? [19: 71] تنبيها على أنه صار بحيث لا يمكن تلافيه. وقال الغزالي في المقصد الأسنى في شرح الأسماء الحسنى: ههنا ثلاثة أشياء، الحكم والقضاء والقدر. ثم بين الفرق بينها بالتفصيل فارجع إليه. والإيمان بالقدر هو أن يعتقد أن كل ما يوجد في العالم من الخير والشر والضر والنفع حتى إن أفعال العباد من الإيمان والكفر والطاعة والعصيان والغواية والرشد بقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته وخلقه وتأثيره، غير أنه يرضى الإيمان والطاعة ووعد عليهما الثواب، ولا يرضى الكفر والمعصية وأوعد عليهما العقاب. قال أهل السنة: إن الله تعالى قدر الأشياء أي علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد منها ما سبق في عمله، فلا محدث في العالم العلوي والسفلي إلا وهو صادر عن علمه وقدرته وإرادته دون خلقه، وإن الخلق ليس لهم فيها إلا نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة وإن ذلك كله إنما حصل لهم بتيسير الله وبقدرة الله وإلهامه
?الفصل الأول?
79- (1) عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال وكان عرشه على الماء))، رواه مسلم.
80- (2) وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل شيء بقدر حتى العجز والكيس،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/369)


لا إله إلا هو ولا خالق غيره كما نص عليه القرآن والسنة، وقال ابن السمعاني: سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس والعقل، فمن عدل عن التوقيف فيه ضل وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء ولا ما يطمئن به القلب؛ لأن القدر سر من أسرار الله، اختص العليم الخبير به، وضرب دونه الأستار، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة، فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب. قيل: إن القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة، ولا ينكشف قبل دخولها، وارجع إلى كتاب الأسماء والصفات للبيهقي، وخلق أفعال العباد للإمام البخاري، ومدارج السالكين للإمام ابن القيم، وشرح الإحياء للعلامة الزبيدي، والجزء السادس من طبقات الشافعية الكبرى للعلامة السبكي، وحجة الله للشيخ ولي الله الدهلوى وغيرها من الكتب الكلامية.

(1/370)


79-قوله: (كتب الله مقادير الخلائق) جمع مقدار، وهو الشيء الذي يعرف به قدر الشيء وكميته كالمكيال والميزان، وقد يستعمل بمعنى القدر نفسه، وهو الكمية والكيفية أي أمر الله القلم أن يثبت في اللوح المحفوظ ما سيوجد من الخلائق ذاتا وصفة وفعلا وخيرا وشرا على ما تعلقت به إرادته الأزلية. قال النووي: قال العلماء المراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره لا أصل التقدير فإن ذلك أزلي لا أول له – انتهى. (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (وعرشه على الماء) وفي بعض النسخ وكان عرشه على الماء، أي بزيادة لفظ "كان" وكذا في المصابيح، ووقع في صحيح مسلم وعرشه على الماء بغير لفظ كان، وذكر الحافظ حديث عبدالله هذا نقلا عن مسلم بلفظ: "وكان عرشه على الماء" فليحرر، والمعنى كان عرشه قبل أن يخلق السموات والأرض على وجه الماء، وفيه إشارة إلى أن الماء والعرش كانا مبدأ هذا العالم، لكونهما خلقا قبل خلق السماوات والأرض، وقد روى أحمد والترمذي وصححه من حديث أبي رزين العقيلي مرفوعا: أن الماء خلق قبل العرش. وروى السدى في تفسيره بأسانيد متعددة: أن الله لم يخلق شيئا مما خلق قبل الماء. وأما حديث: أول ما خلق الله القلم. فسيأتي الكلام عليه في الفصل الثاني من هذا الباب (رواه مسلم) وأخرج أحمد والترمذي أول الحديث أي بدون قوله: وعرشه على الماء.
80-قوله: (كل شيء بقدر) بفتح الدال أي كل شيء لا يقع في الوجود إلا وقد سبق به علم الله ومشيئته وتقديره (حتى العجز والكيس) بفتح الكاف روي برفعهما عطفا على "كل" أو على أنه مبتدأ حذف خبره أي حتى العجز
رواه مسلم.
81- (3) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((احتج آدم وموسى عند ربهما فحج آدم موسى، قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/371)


والكيس كذلك أي كائنان بتقدير الله تعالى، وبجرهما عطفا على "شيء". قيل: والأوجه أن يكون حتى هنا جارة بمعنى إلى؛ لأن معنى الحديث يقتضي الغاية لأنه أراد بذلك أن اكتساب العباد وأفعالهم وإن كانت معلومة لهم ومرادة منهم فلا تقع مع ذلك منهم إلا بمشيئة الله تعالى، فكلها بتقدير خالقهم حتى الكيس الذي يتوسل صاحبه به إلى البغية، والعجز الذي يتأخر به عنها. قال عياض: يحتمل أن العجز ههنا على ظاهره، وهو عدم القدرة. وقيل: هو ترك ما يجب فعله والتسويف به وتأخيره عن وقته. قال: ويحتمل العجز عن الطاعات، ويحتمل العموم في أمور الدنيا والآخرة. والكيس ضد العجز وهو النشاط والحذق بالأمور، ومعناه أن العاجز قد قدرة عجزه، والكيس قد قدر كيسه – انتهى. وفي الحديث إثبات للقدر، وأنه عام في كل شيء، وأن جميع ذلك مقدر في الأزل، معلوم لله تعالى مراد له. (رواه مسلم) في القدر، وأخرجه أيضا مالك وأحمد (ج2: ص110) والبخاري في خلق أفعال العباد.

(1/372)


81-قوله: (احتج آدم وموسى) أي تحاجا وتناظرا (عند ربهما) هذه العندية عندية اختصاص وتشريف، لا عندية مكان فيحتمل وقوع ذلك في كل من الدارين الدنيا والآخرة، فقد اختلف في وقت هذه المحاجة، فقيل: وقعت في زمان موسى فأحي الله له آدم معجزة له فكلمه، أو كشف له عن قبره فتحدثا أو أراه الله روحه كما أرى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج أرواح الأنبياء أو أراه الله له في المنام ورؤياء الأنبياء وحي. وقيل كانت تلك المحاجة بعد وفاة موسى فالتقيا في البرزخ أو ما مات موسى فالتقت أرواحهما في السماء، وبذلك جزم ابن عبد البر والقابسي (فحج آدم موسى) أي غلب عليه بالحجة بأن ألزمه أن جملة ما صدر عنه لم يكن هو مستقلا بها متمكنا من تركها بل كان أمرا مقضيا، وما كان كذلك لا يحسن اللوم عليه عقلا، وأما اللوم شرعا فكان منتفيا بالضرورة، إذ ما شرع لموسى أن يلوم آدم في تلك الحال، وأيضا هو في عالم البرزخ وهو غير عالم التكليف ولا يتوجه فيه اللوم شرعا، وأيضا لا لوم على تائب معفو عنه (قال موسى) الخ جملة مبنية لمعنى فحج آدم وموسى ومفسره للجملة، وقوله في آخر الحديث "فحج آدم موسى" فذلك للتفصيل تقريرا وتثبيتا للأنفس على توطين هذا الاعتقاد، ويحتمل أن يقال: أن قوله "فحج" أولا تحرير للدعوى، وثانيا إثبات لها، فالفاء في الأولى للعطف، وفي الثاني للنتيجة، وهما متغايران في المعنى (أنت آدم) استفهام تقرير (خلقك الله بيده) هي محمولة على ظاهرها فنؤمن بها من غير تكييف وتشبيه وتعطيل ولا تتعرض لتأويلها مع اعتقاد أن الجارحة غير مرادة (ونفخ فيك) خصه بالذكر إكراما وتشريفا له، وأنه خلق إبداعا من غير واسطة أب وأم (من روحه) من زائدة على رأي، والنفخ بمعنى الخلق، والإضافة للتشريف أي خلق فيك الروح أو نفخ فيك من الروح الذي هو مخلوق

(1/373)


وأسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض. قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالة وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقربك نجيا، فبكم وجدت الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولا يد فيه لأحد (وأسجد لك ملائكته) أي أمرهم أن يسجدوا لك، والسجود في الأصل التذلل والتواضع مع التطامن، وفي الشرع وضع الجبهة وغيرها من أعضاء السجود على الأرض على قصد العبادة، والمراد هنا المعنى الشرعي، والدليل عليه ما رواه أحمد ومسلم مرفوعا من حديث أبي هريرة: إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار. قيل: كانت هذه السجدة لآدم تحية وسلاما وإكراما واحتراما وإ عظاما، وهي طاعة لله عزوجل لأنها امتثال لأمره، وقد كان هذا مشروعا في الأمم الماضية، ولكنه نسخ في ملتنا. وقد قواه الرازي في تفسيره ورجحه وضعف ما عداه. وقيل: إن المسجود له في الحقيقة هو الله تعالى وجعل آدم قبلة تفخيما لشأنه، واللام في لك حينئذ بمعنى إلى. وقيل: المراد به المعنى اللغوي أي التواضع والتذلل لآدم تحية وتعظيما كسجود إخوة يوسف. قال البغوي: هذا القول أصح، قال ولم يكن فيه وضع الوجه على الأرض، إنما كان انحناء، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك بالسلام – انتهى. (في جتنه) الخاصة به، والمراد بها جنة الخلد التي هي دار الجزاء في الآخرة، وهي وجودة من قبل آدم، هذا هو الحق (أهبطت الناس) أي كنت سببا لإهباط الناس وإنزالهم، فإنهم وإن لم يكونوا موجودين لكنهم كانوا على شرف الوجود، فكأنه جعلهم مهبطين منها (بخطيئتك) أي التي صدرت عنك غير لائقة بعلو مقامك، وهي أكله من الشجرة وإن كان نسيانا أو خطأ في الاجتهاد؛ لأن الكمل يعاتبون ويؤاخذون بما لا يؤاخذ به غيرهم، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وليس فيه ما يخل بالأدب مع الأب

(1/374)


لأنه يغتفر في بعض الأحوال ما لا يغتفر في بعض، كحالة الغضب والأسف والاحتجاج والمناظرة، وخصوصا ممن طبع على حدة الخلق وشدة الغضب، ولذلك لك لم يجترئ على هذا السؤال والاحتجاج من أولاد آدم غير موسى فإنه كان في طبعه شدة وحدة، وهذا من اختلاف الطبائع والأحوال (اصطفاك) أي اختارك (برسالته) بالإفراد لإرادة الجنس، وفي بعض النسخ برسالاته بالجمع لإرادته الأنواع، وليس فيه ما ينفي رسالة آدم لأن كلا ذكر ما هو الأشرف من صفات صاحبه، وتخصيص الشيء بالذكر لا ينفي ما عداه (وبكلامه) اختص بذلك لأنه لم يسمع كلام الله من غير واسطة أحد في الأرض غيره (وأعطاك الألواح) أي ألواح التوراة (فيها تبيان كل شيء) أي بيان كل شيء مما يحتاج إليه في أمر الدين، وهذا مستمد من قوله: ?وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء? [7: 145]، (وقربك نجيا) النجي المناجي، يستوي فيه الواحد والجمع، وهو حال من الفاعل أو المفعول أي وكلمك الله من غير واسطة ملك، أو المعنى وخصك بالنجوى (فبكم) مميزة محذوف أي فبكم زمانا (وجدت الله) أي علمته
كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين عاما. قال آدم: فهل وجدت فيها ?وعصى آدم ربه فغوى?؟ قال نعم. قال: أفتلومني على أن عملت عملا كتبه الله على أن أعمله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/375)


(كتب التوراة) أي أمر بكتب التوراة في الألواح (قبل أن أخلق) بصيغة المجهول (وعصى آدم ربه) أي فعل خلاف ما أمر به ربه (فغوى) أي فخرج بالعصيان من أن يكون راشدا في فعله، والغي ضد الرشد، ويطلق على مجرد الخطأ أيضا أي أخطأ صواب ما أمر به، وليس المراد أن لفظه بهذا التركيب بل معناه بالعبرية (أفتلومني) أي تجد هذا في التوراة فتلومني (كتبه الله علي) أي في الألواح (أن أعمله) بدل من ضمير كتبه المنصوب. قال التوربشتي: ليس معناه أنه ألزمه إياي وأوجبه علي فلم يكن لي في تناول الشجرة كسب واختيار، وإنما المعنى أن الله حكم قبل كوني بأنه كائن لا محالة، فهل يمكن أن يصدر عني خلاف علم الله، فكيف تغفل عن العلم السابق وتذكر الكسب الذي هو السبب وتنسى الأصل الذي هو القدر وأنت من المصطفين الذين يشاهدون سر الله؟ ولا يجوز للعاصي أن يعتذر بمثل هذا وبتمسك بالتقدير لأنه باق في دار التكليف وعالم الأسباب الذي لا يجوز فيه قطع النظر وصرفه عن الوسائط والأسباب، جار عليه أحكام المكلفين من العقوبة واللوم والتوبيخ وغيرها، وفي لومه وعقوبته زجر له ولغيره عن مثل هذا الفعل، وأما آدم فهو خارج عن هذا العالم المشهود وعن الحاجة إلى الزجر، فلم يبق في لومه سوى الإيذاء والتخجيل، ولأن الاحتجاج بالتقدير يكون على طريقين" الأول للاجتراء على المعاصي ودفع العار عن نفسه والتشجيع على الفواحش، ولا شك أنه وقاحة، والدليل لعدم استحياء العاصي من ربه تبارك وتعالى، وذلك لا يجوز عقلا ولا شرعا. والثاني ما يكون لتسلية النفس ودفع اضطرابها وقلقها الحاصل بسبب ارتكاب الخطيئة، ولا قبح فيه شرعا ولا عقلا، فلا بأس به، فمن أذنب وظلم على نفسه فاضطربت نفسه وانزعجت، فجعل يكشف همه ويزيل حزنه بتذكر القدر، فهذا التمسك بالقدر ليس لعدم المبالاة بالمعاصي، بل لتسلية النفس. واحتجاج آدم بالقدر كان من القسم الثاني. وتمسك العصاة بالقدر يكون من القسم الأول غالبا.

(1/376)


قال الإمام ابن القيم في مدارج السالكين (ج1:ص189، 190، 191): اعلم أنه لا عذر لأحد البتة في معصية الله تعالى ومخالفة أمره مع علمه بذلك وتمكنه من الفعل والترك، ولو كان له عذر لما استحق العقوبة واللوم لا في الدنيا ولا في العقبى، فالاعتذار بالقدر غير مقبول ولا يعذر به أحد، بل يزيد في ذنب الجاني ويغضب الرب عليه، ثم إن الاعتذار بالقدر يتضمن تنزيه الجاني نفسه وتنزيه ساحته وهو الظالم الجاهل، والجهل على القدر نسبة الذنب إليه، وتظليمه بلسان الحال أو القال بتحسين العبارة وتلطيفها كما قيل:
………ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
وقال آخر: ……
………أصبحت منفعلا لما تختاره … مني ففعلي كله طاعات
قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فحج آدم موسى،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال آخر شاكيا متظلما:
………إذا كان المحب قليل حظ فما حسناته إلا ذنوب
ولخصماء الله هناك تظلمات وشكايات، ولو فتشوا زوايا قلوبهم لوجدوا هناك خصما متظلما شاكيا يقول: لا أقدر أن أقول شيئا وإني في صورة ظالم، ويقول بحرفة وتنفس الصعداء مسكن بن آدم لا قادر ولا معذور، وقال آخر: ابن آدم كرة تحت صولجانات الأقدار يضربها واحد ويردها الآخر، وهل تستطيع الكرة الانتصاف من الصولجان؟ ومن له أدنى فهم وبصيرة يعلم أن هذا كله تظلم وشكاية وعتب، فتبا له ظالما في صورة مظلوم، وشاكيا والجناية منه، وقد جد في الإعراض وهو ينادي طردوني وأبعدوني، ولي ظهره الباب بل أغلقه على نفسه وأضاع مفاتيحه وكسرها ويقول:
دعاني وسد الباب دوني فهل إلى دخولي سبيل بينوا لي قضيتي
يأخذ الشفيق حجزته عن النار، وهو يجاذبه ثوبه ويغلبه ويقتحهما ويستغيث: ما حيلتي وقد قدموني إلى الحفيرة وقذفوني فيها. والله كم صاح به الناصح: الحذر الحذر إياك إياك، وكم أمسك بثوبه وكم أراه مصارع المقتحمين وهو يأبى إلا الاقتحام:

(1/377)


وكم سقت في آثاركم من نصيحة وقد يستفيد البغضة المتنصح
ياويله ظهيرا للشيطان على ربه، خصما لله على نفسه، جبري المعاصي قدري الطاعات، عاجز الرأي مضياع لفرصته، قاعد عن مصالحه معاتب لأقدار ربه، يحتج على ربه بما لا يقبله من عبده وامرأته وأمته إذا احتجوا به في التهاون في بعض أمره، فلو أمر أحدهم بأمر ففرط فيه أو نهاه عن شيء فارتكبه وقال: القدر ساقني إلى ذلك لما قيل منه هذه الحجة ولبادر إلى عقوبته، فإن كان القدر حجة لك أيها الظالم الجاهل في ترك حق ربك، فهلا كان حجة لعبدك وأمتك في ترك بعض حقك؟ بل إذا أساء إليك مسيء وجنى عليك جان واحتج بالقدر لاشتد غضبك عليه وتضاعف جرمه عندك ورأيت حجته داحضة، ثم تحتج على ربك به وتراه عذرا لنفسك، فمن أولى بالظلم والجهل ممن هذه حالة؟ (إلى آخر ما قال) (قبل أن يخلقني بأربعين سنة) قيل المراد بالأربعين سنة ما بين قوله تعالى: ?إني جاعل في الأرض خليفة? إلى نفخ الروح فيه، أو هي مدة لبثه طينا إلى أن نفخت فيه الروح، والأظهر أن ابتداء المدة وقت الكتابة في الألواح وآخرها ابتداء خلق آدم (فحج آدم موسى) تقدم بيان وجه غلبة آدم على موسى. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: لم يعذر الله أحدا قط بالقدر، ولو عذره به لكان أولياؤه وأنبياؤه أحق بذلك، وآدم إنما حج موسى لأنه لامه على المصيبة التي أصابت الذرية، فقال له: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة، كما في بعض الروايات، وما أصاب العبد من المصائب فعليه أن يسلم فيها لله تعالى ويعلم أنها مقدرة عليه، والحاصل أنه حصل من موسى ملام على المصيبة التي أصابت الذرية
رواه مسلم.
82- (4) وعن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق: ((إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/378)


بخروجهم من الجنة ونزولهم إلى دار المشقة والبلوى بسبب خطيئة أبيهم، فذكر موسى الخطيئة تنبيها على سبب المصيبة، فاحتج آدم بالقدر على المصيبة، وقال إن هذه البلية التي أصابت ذريتي بسبب خطيئتي كانت مكتوبة علي بقدره قبل أن أخلق بكذا وكذا سنة. والقدر يحتج به في المصائب والبلايا دون القبائح والمعاصي، وارجع لتوضيح هذا الجواب إلى شفاء العليل لابن القيم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج2: ص249، 265، 269، 288) والبخاري والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه بألفاظ مختلفة مختصرا ومطولا. ولعله لم يعزه المصنف إلى البخاري لكونه رواه مختصرا وإن كان الأحسن العزو مع التنبيه، وفي الباب عن عمر عند أبي داود وأبي عوانة وغيرهما، وجندب بن عبدالله عند النسائي، وأبي سعيد عند البزار.

(1/379)


82-قوله: (وهو الصادق) الأولى أن تجعل هذه الجملة اعتراضية لا حالية لتعم الأحوال كلها، وأن يكون من عادته ذلك فما أحسن موقعه ههنا، ومعناه الصادق في أقواله المتحري للصدق في جميع أفعاله، والمراد أنه الكامل في الصدق، أو الظاهر كونه صادقا بشهادة المعجزات الباهرة، وذكر ذلك تبركا وتلذذا وافتخارا. (المصدوق) في جميع ما أتاه من الوحي، يقال: صدقه زيد راست كفت باوزيد. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في أبي العاص بن الربيع: ((فصدقني))، وقال في حديث أبي هريرة: ((صدقك وهو كذوب))، وقال علي في حديث الإفك: ((سل الجارية تصدقك)) ونظائره كثيرة، وكذا قال السيد جمال الدين. (إن خلق أحدكم) بكسر الهمزة على الحكاية، ويجوز فتحها أي مادة خلق أحدكم أو ما يخلق منه أحدكم وهو الماء (يجمع في بطن أمه أربعين يوما) أي يتم جمعه في الرحم في هذه المدة، وهذا يقتضي التفرق (نطفة) حال من فاعل يجمع، أي النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله أن يخلق منها بشرا طارت في جسم المرأة تحت كل ظفر وشعر، ثم تمكث أربعين ليلة ثم تنزل دما في الرحم، فذلك جمعها، كذا فسره ابن مسعود فيما رواه ابن أبي حاتم وغيره، ويجوز أن يريد الجمع مكث النطفة في الرحم أربعين يوما يتخمر فيه حتى يتهيأ للخلق والتصوير، ثم يخلق بعد الأربعين، كذا في النهاية (ثم يكون عقله) بفتح العين واللام أي دما غليظا جامدا (مثل ذلك) إشارة إلى محذوف، أي مثل ذلك الزمان يعني أربعين يوما أي ثم يبقى ويمكث دما أربعين يوما (مضغة) أي قطعة لحم قدر ما يمضغ (مثل ذلك) ويظهر التصوير في هذه الأربعين. قال المظهر: في هذا التحويل مع قدرته على خلقه في لمحة فوائد وعبر، منها أنه لو خلقه لشق على الأم لعدم اعتيادها، وربما تظن علة فجعل أولا نطفة لتعتاد بها مدة، وهكذا إلى الولادة. ومنها إظهار قدرته ونعمته ليعبدوه ويشكروه حيث قلبهم من تلك الأطوار إلى كونهم إنسانا حسن الصور متحليا

(1/380)


بالعقل والشهامة.
ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات، فيكتب عمله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومنها إرشاد الناس وتنبيههم على كمال قدرته على الحشر؛ لأن من قدر على خلق الإنسان من ماء مهين ثم من علقة ثم من مضغة مهيأة لنفخ الروح فيه، يقدر على حشره ونفخ الروح فيه. ومنها تعليم العباد في تدريج الأمور وعدم تعجيلهم فيها، فإنه تعالى مع كمال قدرته وقوته على خلقه دفعة حيث خلقه مدرجا، فإن الإنسان أولى به التأني في فعله. ومنها تنبيههم وتفهيمهم أصلهم وفرعهم، فلا يغتروا بقوة أبدانهم وأعضائهم وحواسهم، ويعرفوا أنها كلها عطايا وهدايا، بل على وجه العارية موجودة عندهم لينظروا إلى مبدئهم (ثم يبعث الله إليه ملكا) أي يرسل، أي في الطور الرابع حين يتكامل بنيانه ويتشكل أعضاؤه، والمراد بالبعث والإرسال بهذه الأشياء أمره بها وبالتصرف فيها بهذه الأفعال، وإلا فقد صرح في الحديث بأنه مؤكل بالرحم، وأنه يقول: يا رب نطفة يا رب علقة. وقيل: ذلك ملك آخر غير ملك الرحم (بأربع كلمات) أي بكتابتها (بيكتب) أي بين عينيه كما ورد مرفوعا عن ابن عمر في مسند البزار وفي صحيفته أيضا كما تدل عليه حديث حذيفة بن أسيد عند مسلم في باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه من كتاب القدر. وورد في رواية أخرى لحذيفة عند مسلم أيضا أنه إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يارب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك – الحديث. وظاهر هذا أن تصوير الجنين وخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظامه، وكتابة الملك يكون في أول الأربعين الثانية، وهو مخالف لحديث ابن مسعود هذا. ولعل ذلك يختلف باختلاف الأجنة، فبعضهم يصور ويكتب له ذلك بعد الأربعين الأولى، وبعضهم بعد الأربعين الثالثة. وقال النووي: لتصرف الملك أوقات: أحدها حين يخلقها الله نطفة ثم ينقله علقة، وهو أول علم

(1/381)


الملك بأنه ولد وذلك عقب الأربعين الأولى، وحينئذ يكتب رزقه وأجله وعمله وشقاوته أو سعادته وخلقته وصورته، ثم للملك فيه تصرف آخر في وقت آخر وهو تصويره وخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظمه وكونه ذكرا أو أنثى، وذلك إنما يكون في الأربعين الثالثة، وهي مدة المضغة وقبل انقضاء هذه الأربعين وقبل نفخ الروح، فالمراد بتصويرها وخلق سمعها بعد الأربعين الأولى أي في أول الأربعين الثانية أنه يكتب ذلك ثم يفعله في وقت آخر؛ لأن التصوير عقب الأربعين الأولى غير موجودة في العادة، وإنما يقع في الأربعين الثالثة، وهي مدة المضغة، ثم يكون للملك فيه تصرف آخر وهو وقت نفخ الروح عقب الأربعين الثالثة حين يكمل له أربعة أشهر- انتهى مختصرا. وأما الاختلاف في وقت الكتابة كما هو ظاهر من ملاحظة الروايات، فقال بعض العلماء في دفعه: إنه يكتب ذلك مرتين: أحدهما في السماء والآخرة في بطن الأم. وقد يقال: إن لفظة "ثم" في حديث ابن مسعود إنما يراد به ترتيب الأخبار لا ترتيب المخبر عنه في نفسه. وقال بعضهم: قوله: "ثم يبعث الله ملكا فيكتب عمله..." الخ عطف على "يجمع في بطن أمه" لا على "ثم يكون مضغة"، وإنما أخر ذكرها إلى ما بعد ذكر المضغة لئلا ينقطع ذكر الأطوار الثلاثة التي يتقلب فيها الجنين، فإن ذكر هذه الثلاثة على نسق واحد أعجب وأحسن، والأظهر
وأجله ورزقه وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها))، متفق عليه.
83- (5) وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن العبد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/382)


هو الأول. (وأجله) أي مدة حياته وانتهاء عمره (وشقي أو سعيد) خبر مبتدأ محذوف، أي ويكتب هو شقي أو سعيد، والظاهر أن يقال: ويكتب سعادته وشقاوته، فعدل إلى الصفة حكاية لعين ما يكتب، أو التقدير: يعلم للملك أن المقضي في الأزل هكذا، حتى يكتب على جبهته مثلا، ثم الترديد في الحكاية لا في المحكي، وإنما جاءت الحكاية على لفظ الترديد نظرا إلى التوزيع والتقسيم على آحاد المولود، فمنهم شقي وسعيد، والأمر بكتابة الأمور الأربعة لا ينفي كتابة شيء آخر مما قدر له فيه. (ثم ينفخ) على البناء للمجهول، وقيل: إنه معلوم (فيه الروح) على الوجهين أي ثم بعد هذا البعث لا قبله (وإن أحدكم) وفي المصابيح: وإن الرجل أي الشخص (حتى ما يكون) بالنصب بـ"حتى"، وما نافية غير مانعة من العمل، وجوز بعضهم كون حتى ابتدائية فيكون بالرفع. قال ابن الملك: الأوجه أنها عاطفة، ويكون بالرفع عطف على ما قبله (إلا ذراع) تمثيل لغاية قربها (فيسبق عليه الكتاب) أي يغلب عليه، والكتاب بمعنى المكتوب أي المقدر أو التقدير (فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) المعنى أنه يتعارض عمله في اقتضاء السعادة، والمكتوب المقدر في الأزل في اقتضاء الشقاوة فيتحقق مقتضى المكتوب، فعبر عن ذلك بالسبق؛ لأن السابق يحصل مراده دون المسبوق (فيعمل بعمل أهل الجنة) بأن يستغفر ويتوب، وفي الحديث تصريح بإثبات القدر، وأن التوبة تهدم الذنوب، وأن من مات على شيء حكم له بذلك من خير أو شر، إلا أن أصحاب المعاصي غير الكفر في المشيئة. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجة. قال الحافظ في شرح حديث ابن مسعود في أول القدر: رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ابن مسعود جماعة من الصحابة. ثم ذكر أحاديثهم.

(1/383)


83-قوله: (وعن سهل بن سعد) بن مالك بن خالد الأنصاري الساعدي المدني، يكنى أباالعباس، وكان اسمه حزنا، فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - سهلا، وهو من مشاهير الصحابة. مات النبي- صلى الله عليه وسلم - وهو ابن خمس عشر سنة. له مائة حديث وثمانية وثمانون حديثا، اتفقا على ثمانية وعشرون، وانفرد البخاري بأحد عشر. روى عنه جماعة من التابعين، مات سنة (88) وقيل: بعدها وقد جاوز المائة. ويقال: إنه آخر من بقي بالمدينة من أصحاب الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (إن العبد) أي عبد من
ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم))، متفق عليه.
84- (6) وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ((دعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنازة صبي من الأنصار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/384)


عبيدالله (ليعمل عمل أهل النار) أي ظاهرا وصورة أو أولا أو في نظر الخلق (وإنه من أهل الجنة) أي باطنا ومعنى أو آخرا أو في علم الله، والواو حالية وإن مكسورة بعدها (ويعمل) أي عبد آخر(إنما الأعمال بالخواتيم) أي اعتبار الأعمال بالعواقب والأواخر، وهو جمع خاتمة، وهذا تذييل للكلام السابق مشتمل على معناه لمزيد التقرير، يعني أن العمل السابق ليس بمعتبر، وإنما المعتبر العمل الذي ختم به كما لوح به حديث ابن مسعود حيث قال "فيسبق عليه الكتاب الخ"، وفيه حث على المواظبة بالطاعات ومحافظة الأوقات عن المعاصي خوفا من أن يكون ذلك آخر عمله، وفيه زجر عن العجب والتفرح بالأعمال فإنه لا يدري ماذا يصيبه في العاقبة، وفيه أنه لا يجوز الشهادة لأحد بالجنة ولا بالنار، فإن أمور العبد بمشيئة الله وقدره السابق، وفيه أيضا أن الله يتصرف في ملكه ما يشاء وكيف يشاء. وكل ذلك عدل وصواب، وليس لأحد اعتراض عليه، لأنه مالك والمخلوق مملوك، واعتراض المملوك على المالك قبيح موجب للتعذيب، قال تعالى: ?لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون? [21: 23]، وفيه حجة قاطعة على القدرية في قولهم: إن الإنسان يملك أمر نفسه ويختار لها الخير والشر. وهذه القطعة من الحديث لم يروها مسلم من حديث سهل بل روي معناها من حديث أبي هريرة (متفق عليه) أي على أصل الحديث وإلا فقوله: "وإنما الأعمال بالخواتيم" ليس عند مسلم، وكذا أخرجه أحمد (ج5: ص332) بغير هذه الزيادة، وفي الباب عن أبي هريرة عند مسلم، وعائشة عند أحمد وابن حبان، وابن عمر والعرس بن عميرة عند البزار، وعمرو بن العاص وأكتم بن أبي الجون عند الطبراني، وأنس عند أحمد، وصححه ابن حبان، وعبدالله بن عمرو بن العاص عند أحمد والنسائي والترمذي، وعلي عند الطبراني، ومعاوية عند ابن حبان.

(1/385)


84-قوله: (وعن عائشة) هي أم المؤمنين الصديقة بنت أبي بكر الصديق التيمية، تكنى أم عبدالله، وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر، أفقه النساء مطلقا وأفضل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا خديجة، ففيها خلاف شهير. خطبها النبي - صلى الله عليه وسلم - وتزوجها بمكة في شوال سنة (10) من النبوة، وقبل الهجرة بثلاث سنين، وقيل غير ذلك، وبني بها بالمدينة في شوال سنة (2) من الهجرة على رأس ثمانية عشر شهرا، ولها تسع سنين. وبقيت معه تسع سنين، ومات عنها ولها ثماني عشر سنة، ولم يتزوج غيرها بكرا. وكانت فقيهة عالمة فصيحة فاضلة كثيرة الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عارفة بأيام العرب وأشعارها. روى عنها جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين. وماتت بالمدينة سنة (57) ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان، وأمرت أن تدفن ليلا فدفنت بالبقيع، وصلى عليها أبو هريرة، وكان يومئذ خليفة مروان على المدينة في أيام معاوية قال الخزرجي: لها ألفان ومائتان وعشرة أحاديث، اتفقا على مائة وأربعة وسبعين،
فقلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه. فقال أو غير ذلك يا عائشة؟ إن الله خلق للجنة أهلا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا، خلقهم لها وهم في أصلاب آباءهم))، رواه مسلم.
85- (7) وعن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/386)


وانفرد البخاري بأربعة وخمسين، ومسلم بثمانية وستين. ومناقبها وفضائلها كثيرة جدا، بسط ترجمتها الحافظ في الإصابة (ج4:ص359،361) وابن عبدالبر في الاستيعاب. (طوبى لهذا) طوبى فعلى من طاب يطيب طيبا، قلبت الياء واوا للضمة قبلها، واختلفوا في معناه فقيل: هو اسم الجنة، وقيل: اسم شجرة فيها، وقيل: معناه أطيب معيشة له، وقيل: فرح له وقرة عين، وقيل: معناه أصيب خيرا؛ لأن إصابة الخير مستلزمة لطيب العيش، فأطلق اللازم وأراد الملزوم. (عصفور من عصافير الجنة) يعني هو مثلها من حيث أنه لا ذنب عليه، وينزل في الجنة حيث يشاء. قال ابن الملك: شبهته بالعصفور كما هو صغير لكونه خاليا من الذنوب من عدم كونه مكلفا، (ولم يدركه) أي أوانه بالبلوغ لموته قبل التكليف فضلا عن عمله . (أو غير ذلك) بفتح الواو وضم الراء وكسر الكاف، هو الصحيح المشهور من الروايات، والتقدير: أتعتقدين ما قلت؟ والحق غير ذلك، وهو عدم الجزم بكونه من أهل الجنة، فالواو للحال، قاله القاري. وقيل: الهمزة للاستفهام الإنكاري والواو عاطفة، و"غير" مرفوع بعامل مضمر تقديره: أقلت هذا؟ ووقع غير ذلك، وقيل: يجوز أن يكون أو بسكون الواو التي لأحد الأمرين أي الواقع هذا أو غير ذلك، ويجوز نصب غير أي أو يكون غير ذلك، وقيل: يجوز أن يكون أو بمعنى بل، أي بل غير ذلك أحسن وأولى وهو التوقف. قال التوربشتي: وكأنه - عليه السلام - لم يرتض قولها؛ لما فيه من الحكم بالغيب والقطع بإيمان أبوي الصبي أو أحدهما، إذ هو تبع لهما. وفيه إرشاد الأمة إلى التوقف عند الأمور المبهمة، والسكوت عما لا علم لهم به، وحسن الأدب بين يدي علام الغيوب. قلت: الصواب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة، وقد أجمع من يعتد به من علماء المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو في الجنة، ودل عليه الكتاب والسنة الصحيحة الثابتة، فلا معنى للتوقف فيه، وإنما نهى

(1/387)


عائشة عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع. (وهم في أصحاب آبائهم) قيل: عين أهل الجنة من أهل النار في الأزل، فعبر عن الأزل بأصلاب الآباء تقريبا لأفهام العامة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
85-قوله: (وعن علي) هو أمير المؤمنين على بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم، أبوالحسن الهاشمي القرشي ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزوج ابنته فاطمة، كناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا تراب، والخبر في ذلك مشهور. وأمه فاطمة بنت أسد
ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة. قالوا: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له))،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/388)


ابن هاشم، أسلمت وماتت في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصلى عليها ونزل في قبرها. وهو أول من أسلم من الصبيان، جمعا بين الأقوال. وأحد العشرة. وقد اختلف في سنة يوم إسلامه فقيل كان له (15) سنة، وقيل (8) سنة، وقيل (10) سنين، وقيل (13) سنة. صلى القبلتين وشهد بدرا وسائر المشاهد، وأبلى ببدر وأحد والخندق وخيبر البلاء العظيم، وكان لواء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده في مواطن كثيرة، ولم يتخلف إلا في تبوك فإنه خلفه في أهله، وفيها قال له: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي))، مناقبة وفضائله شهيرة كثيرة جدا، وقد روي عن أحمد بن حنبل أنه قال: لم يرو لأحد من الصحابة من الفضائل ما روى لعلي(1). وكذا قال النسائي وغير واحد، وفي هذا كفاية. استخلف يوم قتل عثمان، وهو يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة (35). قال ابن عبدالبر: بويع لعلي يوم قتل عثمان، فاجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار إلا نفرا منهم لم يهجهم علي. وقال: أولئك قوم قعدوا عن الحق، ولم يقوموا مع الباطل. وتخلف عنه معاوية في أهل الشام، فكان منهم في صفين بعد الجمل ما كان، ثم خرجت عليه الخوارج وكفروه بسبب التحكيم، ثم اجتمعوا وشقوا عصى المسلمين وقطعوا السبيل، فخرج إليهم بمن معه فقاتلهم بالنهروان، فقتلهم واستأصل جمهورهم، فانتدب لهم من بقاياهم عبدالرحمن بن ملجم المرادي وكان فاتكا فقتله (بالكوفة) ليلة الجمعة لثلاث عشرة خلت، وقيل: بقيت من رمضان سنة (40) وله من العمر (63) سنة، وهو يومئذ أفضل الأحياء من بني آدم بالأرض بإجماع أهل السنة. وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر وأياما. روى عنه خلائق من الصحابة والتابعين. قال الخزرجي: له خمس
__________
(1) قال الامام ابن تيمية في المنهاج (ج4 :ص253) لكن أكثر ذلك من نقل من علم كذبه أو خطؤه – ا. هـ. وقال أيضا (ج4 :ص99) : إن في نقل هذا عن أحمد كلاما – ا.هـ. وكتبه مصححه .

(1/389)


مائة حديث وستة وثمانون حديثا، اتفقا على عشرين، وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر. (ما منكم من أحد) من مزيدة لاستغراق النفي (إلا وقد كتب) الواو للحال والاستثناء مفرغ أي ما وجد أحد منكم في حال من الأحوال إلا في هذه الحالة، أي إلا وقد قدر مقعده من النار. (مقعده من النار ومقعده من الجنة) أي موضع قعوده، كنى عن كونه من أهل الجنة أو النار باستقراره فيها، والواو المتوسطة بينها بمعنى أو التي تكون للتنويع، وقد ورد في بعض الروايات بلفظ "أو" وهي قرينة لحمل الواو على معنى أو وهي أوفق بالمقصود (أفلا نتكل على كتابنا) المقدر لنا في الأزل، قيل: الفاء جواب الشرط أي إذا كان الأمر كذلك أفلا نعتمد على ما كتب لنا في الأزل (وندع العمل) أي نترك السعي في العمل، يعني إذا سبق القضاء لكل أحد منا بالجنة أو النار فأي فائدة في السعي، فإنه لا يرد قضاء الله وقدره (اعلموا فكل) الفاء للسببية، والنوين عوض عن المضاف إليه (ميسر لما خلق له) يعني من خلق للجنة مثلا يسر عليه عملها البتة، فالتيسر علامة كونه من أهلها، فمن لم ييسر على عملها فليعلم أنه ليس من أهلها بل من أهل النار. قال السندي: نبه - صلى الله عليه وسلم - على الجواب عن قولهم بأن الله تعالى دبر الأشياء على ما أراد، وربط بعضها
أما من كان أهل السعادة فسييسر لعمل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل الشقاوة، قم قرأ ?فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى? الآية)). متفق عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/390)


ببعض وجعلها أسبابا ومسببات، ومن قدره من أهل الجنة قدر له ما يقربه إليها من الأعمال ووفقه لذلك بأقداره ويمكنه منه ويحرضه عليه بالترغيب والترهيب، ومن قدر له أنه من أهل النار قدر له خلاف ذلك وخذله حتى اتبع هواه وترك أمر مولاه، والحاصل أنه جعل الأعمال طريقا إلى نيل ما قدره له من جنة أو نار، فلا بد من المشي في الطريق، وبواسطة التقدير السابق يتيسر له ذلك المشي، لكل في طريقه ويسهل عليه – انتهى. وقال القاري ملخصا لكلام الخطابي والتوربشتي والطيبي: لم يرخص لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاتكال وترك العمل بل أمرهم بالتزام ما يجب على العبد من امتثال أمر مولاه عن العبودية آجلا، وتفويض الأمر إليه بحكم الربوبية آجلا وأعلمهم بأن ههنا أمرين لا يبطل أحدهما الآخر، باطن وهو حكم الربوبية، وظاهر وهو سمة العبودية، فأمر بكليهما ليتعلق الخوف بالباطن المغيب والرجاء بالظاهر البادي ليستكمل العبد بذلك صفات الإيمان ومراتب الإحسان، يعني أنتم عبيد ولا بد لكم من العبودية فعليكم التزام ما أمرتم واجتناب ما نهيتم من التكاليف الشرعية بمقتضى العبودية، وإياكم والتصرف في أمور الربوبية، ولا تجعلوا الأعمال أسبابا مستقلة للسعادة والشقاوة بل أمارات لهما وعلامات، فكل مهيأ وموفق لأمر قدر ذلك الأمر له من الخير والشر، والحاصل أن الأمر المبهم الذي ورد عليه البيان من هذا الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - هو أنه بين أن القدر في حق العباد واقع على تدبير الربوبية، وذلك لا يبطل تكليفهم العمل بحق العبودية. فكل من الخلق ميسر ما دبر له في الغيب، فيسوقه العمل إلى ما كتب له في الأزل من سعادة وشقاوة، فمعنى العمل التعرض للثواب والعقاب –انتهى. قال الخطابي: ونظيره الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب، والأجل المضروب مع التعالج بالطب المأمور به، فإنك تجد الباطن منها على موجبه والظاهر سببا مخيلا، وقد اصطلح الناس خاصتهم وعامتهم

(1/391)


على أن الظاهر منهما لا يترك بسبب الباطن – انتهى. وهذا الحديث أصل لأهل السنة أن السعادة والشقاوة بتقدير الله القديم وخلقه، بخلاف القدرية الذين يقولون إن الشر ليس بخلق الله وتقديره، وفيه رد على الجبرية لأن التيسير ضد الجبر، لأن الجبر لا يكون إلا عن كره، ولا يأتي الإنسان الشيء بطريق التيسير إلا وهو غير كاره (أما من كان) تفصيل لما أجمل قبله (من أهل السعادة) أي في علم الله أو في كتابه أو في آخر أمره وخاتمة عمله (فسييسر) أي يسهل ويوفق ويهيأ (من أهل الشقاوة). وفي المصابيح بلفظ "الشقوة" بكسر الشين وهو مصدر بمعنى الشقاوة (ثم قرأ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - استشهادا على أن التيسير منه تعالى: ?فأما من أعطى والتقى وصدق بالحسنى? الآية. أي من كان متصفا بهذا الصفات في علمنا وقدرنا فسنيسره لتلك الأعمال في الخارج، وبهذا التوجيه ينطبق عليه الحديث (متفق عليه). وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي في الكبرى وابن ماجة وغيرهم مطولا ومختصرا بألفاظ متقاربة.
86- (8) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر وزنا اللسان المنطق، والنفس تمنى وتشتهى، والفرج يصدق ذلك ويكذبه))، متفق عليه. وفي رواية لمسلم قال: ((كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/392)


86-قوله: (إن الله كتب) أي أثبت في اللوح المحفوظ. (على ابن آدم) أي هذا الجنس أو كل فرد من أفراده، واستثنى الأنبياء (حظه) أي نصيبه (من الزنا) من بيانية، وما يتصل بها حال من حظه، وقيل: تبعيضية. وقال التوربشتي: أي أثبت عليه ذلك بأن خلق له الحواس التي يجد بها لذة ذلك الشيء، وأعطاه القوى التي بها يقدر على ذلك الفعل، فبالعينين بما ركب فيهما من القوة الباصرة تجد لذة النظر، وعلى هذا ليس المعنى أن ألجأه وأجبره عليه، بل ركز في جبلته حب الشهوات، ثم إنه تعالى برحمته وفضله يعصم من يشاء. وقال الطيبي: يحتمل أن يراد بقوله "كتب" أثبت، أي أثبت فيه الشهوة والميل إلى النساء، وخلق فيه العينين والأذن والقلب والفرج، وهي التي تجد لذة الزنا، وأن يراد به قدر أي قدر في الأزل أن يجري عليه الزنا في الجملة، فإذا قدر في الأزل أدرك ذلك لا محالة (أدرك) أي أصاب (ذلك) أي المكتوب عليه المقدر له أو حظه (لا محالة) بفتح الميم ويضم، أي لابد له ولا احتيال منه، فهو واقع البتة (فزنا العين النظر) إلى ما لا يحل للناظر (وزنا اللسان المنطق) أي الحرام كالمواعدة، وفي بعض النسخ النطق، بضم النون بغير ميم في أوله (والنفس) أي القلب كما في الرواية الآتية، ولعل النفس إذا طلبت تبعها القلب (تمنى) بحذف إحدى التائين (وتشتهي) لعله عدل عن السنن السابق لإفادة التجدد، أي زنا النفس تمنيها واشتهائها الزنا الحقيقي، والتمني أعم من الاشتهاء؛ لأنه قد يكون في الممتنعات دونه (والفرج يصدق ذلك) أي عمل الفرج يصدق ذلك النظر والتمني بأن يقع في الزنا بالوطء. (ويكذبه) بأن يمتنع من ذلك خوفا من ربه، سمى هذه الأشياء باسم الزنا لأنها من دواعيه، فهو من إطلاق المسبب على السبب. وقال الطيبي: لأنها مقدمات له مؤذنة بوقوعه، ونسب التصديق والتكذيب إلى الفرج لأنه منشأه ومكانه أي يصدقه الفرج بالإتيان بما هو المراد منه ويكذبه بالكف عنه والترك، وقيل: ذلك إشارة إلى

(1/393)


ما اشتهته النفس ورأته العين وتكلم به اللسان، يعني إن رآها بالعين واشتهتها النفس وتكلم اللسان بذكرها وعمل بها فعلا بالفرج، فقد صار الفرج مصدقا لتلك الأعضاء، وصار الزنا الصغير كبيرا، وإن لم يفعل شيئا بالفرج فقد كذب الفرج تلك الأعضاء ولم يصر الزنا كبيرا، ويرفع بالاستغفار والوضوء والصلاة. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الاستئذان وفي القدر، ومسلم في القدر، وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي. (وفي رواية) أخرى (لمسلم) تفرد بها (كتب) بصيغة المجهول (مدرك) بالتنوين ويجوز الإضافة (ذلك) يعني هو أي ابن آدم واصله حظه ونصيبه أو نصيبه المقدر يدركه
لا محالة، العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطى، والقلب يهوي ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه)).
87- (9) وعن عمران بن حصين أن رجلين من مزينة قالا: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر سبق، أو فيما يستقبلون به
___________________________________________________________
ويصيبه (لا محالة) لأنه ما كتبه الله لابد أن يقع. (الاستماع) أي إلى كلام الزانية أو الواسطة أو صوت الأجنبية بشرط الشهوة. (زناها البطش) أي الأخذ واللمس، ويدخل فيها الكتابة إليها ورمي الحصاة إليها ونحوهما. (زناها الخطى) بضم المعجمة، جمع خطوة، وهي ما بين القدمين، يعني زناهما نقل الخطى، أي المشي أو الركوب إلى ما فيه الزنا. (يهوى) من سمع بوزن يرضى، أي يحب ويشتهي، وفي الحديث دليل على أن الزنا ودواعيه مكتوبة مقدرة على العبد غير خارجة عن سابق القدر، وأن الإنسان لا يستطيع أن يدفع ذلك عن نفسه، إلا أنه يلام إذا وقع ما نهي عنه بحجب ذلك عنه وتمكينه من التمسك بالطاعة، فبذلك يندفع قول القدرية والمجبرة، ويؤيده قوله: "والنفس تمنى وتشتهي"؛ لأن المشتهى بخلاف الملجأ.

(1/394)


87- قوله: (وعن عمران بن حصين) مصغرا - ابن عبيد بن خلف الخزاعي الكعبي، يكنى أبانجيد بنون وجيم مصغرا، أسلم أيام خيبر، سكن البصرة إلى أن مات بها سنة (52)، وقيل: سنة (53) كان من فضلاء الصحابة وفقهائهم، يقول عنه أهل البصرة: إنه كان يرى الحفظة وكانت تكلمه حتى اكتوى، وقال ابن سعد: كانت الملائكة تصافحه قبل أن يكتوي، وفي الخلاصة: وكانت الملائكة تسلم عليه. وهو ممن اعتزل الفتنة، كان الحسن البصري يحلف بالله: ما قدمها – أي البصرة – راكب خير من عمران بن حصين، وكذا قال ابن سيرين نحوه. له مائة وثلاثون حديثا، اتفق على ثمانية وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بتسعة. روى عنه جماعة من التابعين. (من مزينة) بالتصغير، اسم قبيلة. (أرأيت) أي أخبرني من إطلاق السبب على المسبب؛ لأن مشاهدة الأشياء طريق إلى الإخبار عنها، والهمزة فيه مقررة، أي قد رأيت ذلك فأخبرني به. (ما يعمل الناس) من الخير والشر (اليوم) أي في الدنيا (ويكدحون فيه) أي يسعون في تحصيله بجهد وكد، يقال: كدح في العمل أي جهد نفسه فيه وكد حتى يؤثر فيه. (أشيء) خبر مبتدأ محذوف، أي هو شيء (قضي عليهم) بصيغة المجهول، أي قدر فعله عليهم. (ومضى فيهم) بصيغة المعلوم، أي نفذ في حقهم. (من قدر سبق) أي في الأزل. قال القاري: من بيانية لشيء، ويكون القضاء والقدر شيئا واحدا، كما قاله بعضهم، وإما تعليلية متعلقة بقضي عليهم لأجل قدر سبق، وإما ابتدائية أي القضاء نشأ وابتدأ من خلق مقدر، فيكون القدر سابقا على القضاء – انتهى. (أو) كذا في صحيح مسلم ومسند أحمد، ووقع في تفسير ابن جرير ونسخ المصابيح "أم"، قيل: على كلتا الروايتين ليس السؤال عن أحد الأمرين، فـ"أم" منقطعة و"أو" بمعنى "بل"، أي للإضراب. (فيما يستقبلون به) قال

(1/395)


مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: لا بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله عزوجل: ?ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها?)) رواه مسلم .
88- (10) وعن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله، إني رجل شاب، وأنا أخاف على نفسي العنت
___________________________________________________________
السيد جمال الدين: كذا وقع بصيغة المجهول في أصل سماعنا من صحيح مسلم، وهو الأرجح معنى أيضا، لكن وقع في أكثر نسخ المشكاة بصيغة المعروف – انتهى. والمعنى: أخبرنا أن ما يعمله الناس من الخير والشر أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من الأزل، ويجري فيهم في وقت معلوم، أم شيء لم يقض عليهم في الأزل، بل يجري عليهم كل فعل في الوقت الذي يستقبله الرجل ويقصده من غير أن يجري عليه التقدير؟ والحاصل أن ما يفعله الإنسان من الشر والخير أهو مبني على قضاء وقدر سابق، أي مقدر ومقضي سابقا في الأزل، أم هو أمر مستأنف ليس مبنيا على قدر وقضاء سابق، وشيء أنف لم يقض ولم يقدر عليهم في الأزل، بل هو كائن فيما يستقبلون من الزمان فيه يتوجهون إلى العمل ويقصدون بقدرتهم الحقيقية واختيارهم المستقل من غير سبق تقدير قبل ذلك، فقوله: "فيما يستقبلون" في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو كائن في الزمان الذي يستقبلونه، معطوف على قوله: "شيء قضي عليهم". (مما أتاهم به نبيهم) الباء للتعدية، ولفظ "من" في "مما أتاهم" بيان لما في قوله "ما يعمل الناس"، أو بيان لما في قوله: "ما يستقبلون"، والأول أولى كما قال السيد جمال الدين. (وثبتت الحجة عليهم) بظهور صدق نبيهم بالمعجزات، وفي تفسير ابن جرير: أم شيء مما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وأكدت به عليهم الحجة. (فقال) - صلى الله عليه وسلم - (لا) أي ليس الأمر أنفا في المستقبل (بل) هو (شيء قضي عليهم) في الأزل، أو المعنى لا تردد فإن الأمر مبني على قدر وقضاء سابق

(1/396)


جزما، وزاد في رواية ابن جرير وغيره: "قال: فلم يعملون إذن؟ قال: من كان الله خلقه لواحدة من المنزلتين يهيئه لعملها". (وتصديق ذلك) إشارة إلى ما ذكر أنه قضي عليهم. ?ونفس? بالجر على الحكاية، والمراد بها جميع النفوس، والتنوين للتنكير أو التكثير، وقيل: المراد نفس آدم. ?وما سواها? ما مصدرية أو موصولة، ورجحه ابن جرير، ومعنى سواها: أي خلقها سوية مستقيمة على الفطرة القويمة، وقيل: عدلها على هذا القانون الأحكم في أعضائها وما فيها من الجواهر والأعراض والمعاني، وغير ذلك. ?فألهمها فجورها وتقواها? أي أرشدها إلى فجورها وتقواها، أي بين لها طريقي الخير والشر، وهداها إلى ما قدر لها في الأزل. قال الواحدي: هذا صريح في أن الله خلق في المؤمن تقواه وفي الكافر فجوره. قال القاري: وجه الاستدلال بالآية أن ألهمها بلفظ الماضي يدل على أن ما يعملونه من الخير والشر قدر جرى في الأزل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج4:ص438) وابن جرير وغيرهما.
88- قوله: (وأنا أخاف) وعند الكشمهيني "وإني أخاف" (العنت) بفتحتين – الفساد والإثم والهلاك ودخول
ولا أجد ما أتزوج به النساء، كأنه يستأذنه في الاختصاء، قال: فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أباهريرة جف القلم بما أنت لاق، فاختص على ذلك أو ذر)) رواه البخاري .
89- (11) وعن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن
___________________________________________________________

(1/397)


المشقة على الإنسان واكتساب المأثم والزنا، والمراد هنا: الوقوع في الهلاك بالزنا. (كأنه يستأذنه في الاختصاء) هذا كلام أحد الرواة، وقيل: هو قول الراوي عن أبي هريرة، وليس هذا في البخاري. وعند أبي نعيم "فأذن لي أختص"، والاختصاء – بالمد – هو الشق على الأنثيين وانتزاعهما. (فسكت عني) أي عن جوابي. (ثم قلت مثل ذلك) أي في الرابعة إلحاحا ومبالغة. (جف القلم) قال التوربشتي: هو كناية عن جريان القلم بالمقادير وإمضائها والفراغ منها. قال الطيبي: هذا من باب إطلاق اللازم على الملزوم؛ لأن الفراغ يستلزم جفاف القلم عن مداده، والمعنى: أن ما كان وما يكون قدر في الأزل، ونفذ المقدور بما كتب في اللوح المحفوظ، فبقي القلم الذي كتب به جافا لا مداد فيه لفراغ ما كتب به. قال عياض: كتابة الله ولوحه وقلمه من غيب علمه الذي نؤمن به ونكل علمه إليه. (بما أنت لاق) أي جف القلم بالفراغ من كتابة ما هو كائن في حقك، أي قد كتب عليك وقضي ما تلقاه في حياتك، والمقدر لا يتبدل بالأسباب، فلا يجوز ارتكاب الأسباب المحرمة لأجله، نعم إذا شرع الله تعالى سببا أو أوجبه فالمباشرة به شيء آخر. (فاختص) أمر من الاختصاء (على ذلك) في موضع الحال، يعني إذا علمت أن كل شيء مقدر فاختص حال كون فعلك وتركك واقعا على ما جف القلم، فالجار والمجرور متعلق بمحذوف، أي اختص على حال استعلائك على العلم بأن كل شيء بقضائه وقدره. (أو ذر) أي إن شئت اختصيت بلا فائدة، وإن شئت تركته، وليس هو من باب التخيير والإذن في الخصاء، بل توبيخ وتهديد، كقوله تعالى: ?فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر? [18: 29]، والمعني إن فعلت أو لم تفعل فلابد من نفوذ القدر، ومحصل الجواب أن جميع الأمور بتقدير الله في الأزل، فالخصاء وتركه سواء، فإن الذي قدر لابد أن يقع فلا فائدة في الاختصاء، فـ"أو" للتسوية، ووقع في أكثر نسخ المصابيح "فاختصر" بزيادة الراء، بمعنى أن الاختصار على ما ذكرت لك من

(1/398)


التقدير والتسليم له، وتركه والإعراض عنه سواء، فإن ما قدر لك فهو لا محالة لاقيك وما لا فلا. (رواه البخاري) في النكاح، وأخرجه أيضا النسائي.
89- قوله: (بين إصبعين من أصابع الرحمن) هذا من أحاديث الصفات التي نؤمن بها ونعتقد أنها حق من غير تعرض لتأويل ولا لمعرفة المعنى، فالإيمان بها فرض، والامتناع عن الخوض فيها واجب، فالمهتدي من سلك فيها طريق
كقلب واحد يصرفه كيف شاء، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك))، رواه مسلم .
90- (12) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة

(1/399)


التسليم، والخائض فيها زائغ، والمنكر معطل، والمكيف مشبه، قال الله تعالى: ?ليس كمثله شيء? [42: 11]، وقيل: هذا الحديث من أحاديث الصفات التي تقبل التأويل، فيتأول حسب ما يليق بجلاله الأقدس وكماله الأنفس، فعلى هذا إطلاق الإصبع عليه تعالى مجاز، وهو كما يقال: "فلان في قبضتي"، أي في كفي، لا يراد به أنه حال في كفه، بل المراد تحت قدرتي، ويقال: "فلان بين إصبعي أقلبه كيف شئت"، أي إنه هين علي قهره والتصرف فيه كيف شئت، ومعنى الحديث: أن تقليب القلوب في قدرته يسير، يعني أنه تعالى متصرف في قلوب عباده وغيرها كيف شاء، ولا يمتنع عليها منها شيء ولا يفوته ما أراده، كما لا يمتنع على الإنسان ما كان بين إصبعيه، فخاطب العرب بما يفهمونه، ومثله بالمعاني الحسية تأكيدا له في نفوسهم، وقيل غير ذلك في تأويله، وعندنا التفويض هو المتعين. قال النووي: فإن قيل: فقدرة الله واحدة والإصبعان لتثنية؟ فالجواب: أنه قد سبق أن هذا مجاز واستعارة، فوقع التمثيل بحسب ما اعتادوه غير مقصود به التثنية والجمع – انتهى. وقال في المجمع: هو تمثيل عن سرعة تقلبها، وأنه معقود بمشيئة الله، وتخصيص الأصابع كناية عن أجزاء القدرة والبطش؛ لأنه باليد، والأصابع أجزاءها. (كقلب واحد) بالوصف، يعني كما أن أحدكم يقدر على شيء واحد، الله تعالى يقدر على جميع الأشياء دفعة واحدة لا يشغله شأن، ونظيره قوله تعالى: ?ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة? [31: 28]، وليس المراد أن التصرف في القلب الواحد أسهل بالقياس إليه تعالى، إذ لا صعوبة بالقياس إليه تعالى، بل ذلك راجع إلى العباد وإلى ما عرفوه فيما بينهم. (يصرفه) بالتشديد أي يقلب القلب الواحد أو جنس القلب. وفي بعض نسخ المصابيح بتأنيث الضمير أي القلوب. (كيف يشاء) حال عن تأويل هينا سهلا لا يمنعه مانع، أو مصدر أي تقليبا سريعا سهلا، وفي بعض نسخ صحيح مسلم "حيث يشاء". (صرف قلوبنا على طاعتك) أي إليها أو ضمن

(1/400)


معنى التثبيت. ويؤيده ما ورد "ثبت قلبي على دينك". وفيه إرشاد للأمة وإعلام بأن نفسه القدسية الطاهرة المطهرة إذا كانت مفتقرة إلى اللجوء إليه كان غيره أولى وأحرى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والنسائي.
90- قوله: (ما من مولود) أي من بني آدم، كما في رواية (إلا يولد) قيل: مولود مبتدأ، ويولد خبره، أي ما من مولود يوجد على أمر من الأمور إلى على هذا الأمر. (على الفطرة) الفطر الابتداء والاختراع. والفطرة الحالة والهيئة منه. واختلف السلف في المراد بالفطرة في الحديث على أقوال كثيرة، أشهرها: أن المراد بها الإسلام، وبه جزم البخاري ورجحه كثير من السلف، ويؤيده ما في رواية "الملة"، بدل الفطرة؛ لأن ما صدقهما واحد، وحديث عياض بن حمار مرفوعا من الحديث القدسي: ((إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم ...)) الحديث. وقد رواه غيره .
فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة

(1/401)


فزاد فيه "حنفاء مسلمين"، ويدل عليه استشهاد أبي هريرة بقوله تعالى: ?فطرة الله التي فطر الناس عليها? [30: 30]، فقد أجمع أهل التأويل أن المراد بالفطرة في الآية الإسلام. والحديث سبق لبيان ما هو في نفس الأمر لا لبيان أحكام الدنيا، فلا عبرة للإيمان الفطري في أحكام الدنيا، وإنما يعتبر الإيمان الشرعي المكتسب بالإرادة، ألا ترى أنه يقول: "فأبواه يهودانه" في حكم الدنيا، فهو مع وجود الإيمان الفطري فيه محكوم له بحكم أبويه الكافرين، ومعنى قوله – عليه السلام -: "طبع كافرا" في حديث موسى والخضر: أي خلق وقدر وجبل أنه لو عاش يصير كافرا، وأن الله علم أنه لو بلغ لكان كافرا، لا أنه كافر في الحال، ولا أنه يجري عليه في الحال أحكام الكفار، وقوله تعالى: ?لا تبديل لخلق الله? يؤول بأنه من شأنه أو الغالب فيه أنه لا يبدل، أو يقال: الخبر بمعنى النهي، ولا يجوز أن يكون إخبارا محضا لحصول التبديل. وقيل: المراد بالفطرة في الحديث وكذا في الآية ما فطر الله الخلق عليه من الهيئة مستعدة لمعرفة الخالق. ومتهيأة لقبول الدين، ومتمكنة من الهدى، ومتأهلة لقبول الحق والتمييز بين حسن الأمر وقبيحه، فلو ترك المولود على ما فطر عليه من التمكن على الهدى والتأهل لقبول الحق والتهيؤ لقبول الدين في أصل الجبلة، ولم يتعرضه آفة من قبل الأبوين وغيرهما لاستمر على لزومه ولم يفارقه إلى غيره، ولم يختر غير هذا الدين الذي حسنه ظاهر عند ذوي العقول وثابت في النفوس. والفطرة بهذا المعنى لا يتهيأ لأحد تبديلها؛ لأن هذا الاستعداد والتهيؤ لا يتبدل، وإن ذهب ذاهب إلى خلاف مقتضاها كانت بحالها حجة عليه، وليس هذا تبديلا له بل عدم ظهور أثره بالفعل. وهذا أرجح الأقوال عندي وأولاها. ولا يخالفه لفظ "الملة" ولا حديث عياض بن حمار كما لا يخفى على المتأمل. وإلى هذا القول مال القرطبي في المفهم فقال: المعنى أن الله خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق كما خلق

(1/402)


أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فمادامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام، وهو الدين الحق، وقد دل على هذا المعنى بقية الحديث، حيث قال: "كما تنتج البهيمة..."الخ، يعني أن البهيمة تلد الولد كامل الخلقة، فلو ترك كذلك كان بريئا من العيب. لكنهم تصرفوا فيه بقطع أذنه مثلا، فيخرج عن الأصل، وهو تشبيه واقع وجهه واضح، وهو الذي رجحه التوربشتي في شرح المصابيح، واختاره الطيبي في شرح المشكاة، والشاة ولي الله الدهلوي في حجة الله، وقال في شرح الموطأ: إنه أصح ما قيل في هذا الحديث. (يهودانه) بتشديد الواو، أي يعلمانه اليهودية ويجعلانه يهوديا إذا كانا من اليهود. وذلك بتقدير الله وقضائه لا بخلقهما، فلا حجة فيه للقدرية. وكذا ينصرانه ويمجسان، والفاء في "فأبواه" إما للتعقيب وهو ظاهر، أو للتسبيب، أي إذا تقرر ذلك فمن تغير كان بسبب أبويه غالبا. (كما تنتج) أي تلد (البهيمة) بالرفع، وقوله: "كما" إما حال من الضمير المنصوب في يهودانه مثلا، أي يهودان المولود بعد أن خلق على الفطرة مشبها بالبهيمة التي جدعت بعد أن خلقت سليمة. أو من الضمير المرفوع في "يولد"، شبه ولادته على الفطرة بودلاة البهيمة السليمة، غير أن السلامة حسية ومعنوية،
بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول: ?فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم?)) متفق عليه .
91- (13) وعن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمس كلمات فقال: ((إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه،

(1/403)


أو صفة مصدر محذوف، وما مصدرية، أي يولد على الفطرة ولادة مثل نتاج البهيمة، أو يغيرانه تغييرا كتغييرهم البهيمة، وعلى التقديرين فالأفعال الثلاثة - أعني يهودانه وما عطف عليه – تنازعت في "كما"، وتنتج يروى على بناء الفاعل وبناء المفعول، يقال: نتج الناقة ينتجها: إذا تولى نتاجها حتى وضعت فهو ناتج، وهو للبهائم كالقابلة للنساء. والأصل نتجها أهلها ولدا، ولذا يتعدى إلى مفعولين، فإذا بني للمفعول الأول قيل: نتجت ولدا، إذا وضعته وولدته، وإذا بني للمفعول الثاني قيل: نتج الولد، أي وضع وأنتجت البهيمة ولدا أي وضعته وولدته، والجمعاء التي لم يذهب من بدنها شيء، سميت بذلك لاجتماع سلامة أجزائها من نحو جدع وكي، والجدعاء التي قطعت أذنها أو غيرها من الأعضاء، زاد في المصابيح "حتى تكونوا أنتم تجدعونها"، وكذا في رواية البخاري. (بهيمة) بالنصب على أنه مفعول ثان لتنتج، والأول أقيم مقام فاعله، وقيل: إنه منصوب على الحال بتقدير كون تنتج مجهولا، أي ولدت في حالة كونها بهيمة، أو على أنه مفعول إذا كان معروفا من نتج إذا ولد. (هل تحسون) أي تدركون وهو بضم التاء وكسر الحاء (فيها) أي في البهيمة الجمعاء، والمراد بها الجنس، والجملة في موضع الحال، أي بهيمة سليمة مقولا في حقها هذا القول. (ثم يقول) أي أبوهريرة – كما في رواية – استشهادا بقوله تعالى: ?فطرة الله? أي ألزموها (ذلك) أي التوحيد الذي هو معنى الفطرة، وهو ?الدين القيم? أي المستقيم الذي لا عوج له ولا ميل إلى تشبيه وتعطيل ولا جبر ولا قدر. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أبوداود والترمذي، وفي معنى الحديث عن جماعة من الصحابة ذكر أحاديثهم الحافظ ابن كثير في تفسيره .

(1/404)


91- قوله: (قام فينا بخمس كلمات) أي بخمس فصول، والكلمة لغة تطلق على الجملة المركبة المفيدة، أي قام فيما بيننا بتبليغ خمس كلمات، أي بسببه، فالجاران متعلقان بالقيام، وقيل: المعنى قام خطيبا فينا مذكرا بخمس كلمات لنا، فقوله: "فينا" و"بخمس" حالان مترادفان أو متداخلان، ويحتمل أن يكون "فينا" متعلقا بقام على تضمين معنى خطب، و"بخمس" حال، أي خطب قائما مذكرا بخمس كلمات، وقيل غير ذلك. (إن الله لا ينام) إذ النوم لاستراحة القوى والحواس، وهي على الله تعالى محال. (ولا ينبغي له أن ينام) أي لا يصح ولا يستقيم ولا يمكن له النوم، فالكلمة الأولى دالة على عدم صدور النوم، والثانية للدلالة على استحالته عليه تعالى، ولا يلزم من عدم الصدور استحالته، فلذلك ذكرت الكلمة الثانية بعد الأولى. (يخفض القسط ويرفعه) هذه هي الكلمة الثالثة، قيل: أريد بالقسط الميزان، وسمي الميزان قسطا لأنه يقع به
يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)) رواه مسلم .

(1/405)


العدل في القسمة وغيرها، وهو الموافق لحديث أبي هريرة الآتي: ((يرفع الميزان ويخفضه))، والمعنى أن الله يخفض الميزان ويرفعه بما يوزن من أعمال العباد المرتفعة إليه وأرزاقهم النازلة من عنده، كما يرفع الوزان يده ويخفضها عند الوزن، فهو تمثيل وتصوير لما يقدر الله تعالى وينزل، ويحتمل أنه أشار إلى قوله تعالى: ?كل يوم هو في شأن? [55: 29]، أي إنه يحكم بين خلقه بميزان العدل، فأمره كأمر الوزان الذي يزن فيخفض يده ويرفعها، وهذا المعنى أنسب بما قبله، كأنه قيل: كيف كان يجوز عليه النوم وهو الذي يتصرف أبدا في ملكه بميزان العدل، وقيل: أريد بالقسط الرزق؛ لأنه قسط كل مخلوق ونصيبه، وخفضه تقليله ورفعه تكثيره، يخفضه تارة بتقتير الرزق والخذلان بالمعصية، ويرفعه أخرى يتوسيع الرزق والتوفيق للطاعة، ففيه رد على القدرية. (يرفع إليه) أي للعرض عليه، وإن كان هو تعالى أعلم به ليأمر الملائكة بإمضاء ما قضي لفاعله جزاء له على فعله، أو يرفع إلى خزائنه ليحفظ إلى يوم الجزاء. (قبل عمل النهار) أي قبل رفع عمل النهار (وعمل النهار) عطف على عمل الليل (قبل عمل الليل) أي قبل أن يشرع العبد في عمل الليل، أو قبل أن يرفع العمل بالليل، والأول أبلغ؛ لأن الزمن أقصر، ولما فيه من الدلالة على مسارعة الملائكة المؤكلة إلى رفع الأعمال وسرعة عروجهم إلى ما فوق السماوات. (حجابه النور) هذه هي الكلمة الخامسة، وأصل الحجاب هو الستر الحائل بين الرائي والمرئي، والمراد ههنا هو المانع للخلق عن إبصاره في دار الفناء، والكلام في دار البقاء، فلا يرد أن الحديث يدل على امتناع الرؤية في الآخرة، وكذا لا يرد أنه ليس له مانع عن الإدراك فكيف قيل: حجابه النور؟ يريد أن حجابه خلاف الحجب المعهودة، فهو محتجب عن الخلق بأنوار عزه وجلاله وسعة عظمته وكبريائه، وذلك هو الحجاب الذي تدهش دونه العقول وتذهب الأبصار وتتحير البصائر. (لو كشفه) أي رفع ذلك الحجاب وأزاله، هذا

(1/406)


هو المتبادر من كشف الحجاب، وقيل: المراد لو أظهره. (سبحات وجهه) بضمتين جمع سبحة – بالضم كغرفة وغرفات، وفسر سبحات الوجه بجلاله وأنواره وبهائه، وقيل: محاسنه؛ لأنك إذا رأيت الوجه الحسن قلت سبحان الله. (ما انتهى) أي وصل (إليه) الضمير لما (بصره) أي بصر الله تعالى، والمعنى لأحرقت سبحات ذاته كل مخلوق انتهى إلى ذلك المخلوق بصره تعالى، ومعلوم أن بصره محيط لجميع الكائنات، فكيف إذا كشف، فهذا كناية عن هلاك المخلوق أجمع، وقيل: الضمير في "بصره" راجع إلى "ما"، وهو موصول مفعول به لأحرقت، وضمير "إليه" راجع إلى وجهه تعالى، والمراد ما انتهى بصره إلى الله تعالى أي كل من يراه يهلك، فكأنهم راعوا أن الحجاب مانع عن إبصارهم، فعند الرفع ينبغي أن يعتبر إبصارهم وإلا فإبصاره تعالى دائم . (من خلقه) بيان لما في قوله "ما انتهى" والمعنى لو أزال المانع من رؤيته وهو الحجاب المسمى نورا فتجلى لما وراءه من حقائق الصفات وعظمة الذات لأحرق جلال ذاته ونور وجهه جميع مخلوقاته. (رواه مسلم) في الإيمان وأخرجه أيضا أحمد (ج4:ص395، 405)
92- (14) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماء والأرض فإنه لم يغض ما في يده، وكان عرشه على الماء، وبيده الميزان يخفض ويرفع،
وابن ماجه في السنة وابن حبان، قيل: معنى الحديث مسبوك من معنى آية الكرسي، فهو سيد الأحاديث كما أنها سيد الآيات، ذكره الطيبي ثم بينه وأوضحه فارجع إليه .

(1/407)


92- قوله: (يد الله) الواجب في هذا اللفظ وفي أمثاله الإيمان بما جاء في الحديث والتسليم، وترك التصرف فيه للعقل، وهو مذهب السلف، واختلف المأولون في تأويله، فقيل: المراد باليد النعمة، وفسرها بعضهم بالخزائن، وقال: أطلق اليد على الخزائن لتصرفها فيها، والمعنى بالخزائن قوله ?كن فيكون?، ولذلك لا ينتقص أبدا. (ملأى) على زنة فعلى، تأنيث ملآن، قالوا: المراد به لازمه، وهو أنه في غاية من الغنى، وعنده من الرزق ما لا نهاية له في علم الخلائق، فهو كناية عن كثرة نعمته وغزارتها وجزالة عطاياه وعمومها. (لا تغيضها) بفتح الفوقية، وقيل: بالياء، أي لا تنقصها، لازم ومتعد. (سحاء) بفتح المهملتين مثقل ممدود، على زنة فعلاء، لا أفعل لها، كهطلاء، أي دائمة الصب بالعطاء، من سح يسح – بكسر السين في المضارع، ويجوز ضمها – أي سال وانصب متتابعا غزيرا، وضبط في مسلم "سحا" منونا بلفظ المصدر، أي تسح سحا. (الليل والنهار) منصوبان على أنهما ظرف لسحاء، والمراد به عدم الانقطاع لمادة عطائه كالعين التي لا يغيضها الاستقاء ولا ينقصها الامتياح، وفي الحديث إشارة إلى أنها المعطية عن ظهر غنى؛ لأن الماء إذا انصب من فوق انصب بسهولة وعفو، وإلى جزالة عطاياه؛ لأن السح يستعمل فيما ارتفع عن حد التقاطر إلى حد السيلان، وإلى أنه لا مانع لها؛ لأن الماء إذا أخذ في الانصباب من فوق لم يستطع أحد أن يرده، وإلى أنه لا انقطاع لها لوصف السح بالدوام. (أرأيتم) أي أخبروني، وقيل: أعلمتم وأبصرتم؟ (ما أنفق) ما مصدرية، أي إنفاق اليد، وقيل: ما موصولة متضمنة معنى الشرط. (فإنه) أي الإنفاق (لم يغض) بفتح الياء وكسر الغين المعجمة، أي لم ينقص. (ما في يده) موصولة مفعول، وقال الطيبي: يجوز أن تكون ملأى ولا تغيضها وسحاء وأرأيتم على تأويل القول - أي مقول فيها - أخبارا مترادفة ليد الله، ويجوز أن تكون الثلاثة الأخيرة أوصافا لملأى، وأن يكون "أرأيتم" استئنافا

(1/408)


فيه معنى الترقي، وقال أيضا: لما قيل ملأى أوهم جواز النقصان، فأزال بقوله: "لا تغيضها"، وربما يمتلأ الشيء ولم يغض، فقيل "سحاء"؛ ليؤذن بالفيضان، وقرنهما بما يدل على الاستمرار من ذكر "الليل والنهار"، ثم أتبعها ما يدل على أن ذلك مقرر غير خاف على كل ذي بصر وبصيرة؛ لقوله "أرأيتم"، فإنه خطاب عام والهمزة للتقرير. (وكان عرشه) حال من ضمير خلق إلى آخر ما قال. (وبيده) وفي رواية "وبيده الأخرى" (الميزان) أي ميزان الأعمال والأرزاق. (يخفض ويرفع) أي يخفض من يشاء ويرفع من يشاء، أو ينقص من الرزق ويقتره على من يشاء، ويزيده ويوسعه على من يشاء بمقتضى قدره الذي هو تفصيل لقضائه السابق، أو يخفض ويرفع ميزان أعمال العباد
متفق عليه . وفي رواية لمسلم: ((يمين الله ملأى))، قال ابن نمير: ملآن سحاء لا يغيضها شيء الليل والنهار.
93- (15) وعنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذراري المشركين، قال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)).

(1/409)


المرتفعة إليه، يقللها لمن يشاء بالخذلان ويكثرها لمن يشاء بالتوفيق للطاعة، كما يصنعه الوزان عند الوزن يخفض مرة ويرفع أخرى. وأئمة السنة على وجوب الإيمان بهذا وأشباهه من غير تفسير، بل يجرى على ظاهره، ولا يقال كيف، وقال الخطابي: الميزان هنا مثل، والمراد القسمة بالعدل بين الخلق. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي والنسائي في التفسير، وأبوداود وابن ماجه وغيرهم. (وفي رواية لمسلم) في الزكاة (يمين الله) معنى هذا اللفظ كما ذكره المأولون في اليد من المجاز، فليتأمل. والوجه مذهب السلف، قيل: خص اليمين لأنها مظنة العطاء، وورد في بعض الأحاديث: ((وكلتا يديه يمين))، أي مباركة قوية قادرة لا مزية لإحداهما على الأخرى. (قال ابن نمير) بضم النون، هو محمد بن عبدالله بن نمير الهمداني الخازني، أبوعبدالرحمن الكوفي، ثقة حافظ فاضل، روى عن خلق كثير، وعنه: البخاري ومسلم وأبوداود وابن ماجه. مات سنة (234). (ملآن) أي روى محمد بن عبدالله بن نمير ملان بالنون وسكون اللام بعدها همزة، وقيل: بفتح اللام بلا همز. قالوا: وهو غلط منه، وصوابه: ملأى بالتأنيث كما في سائر الروايات، ووجهها بعضهم بأن اليمين يذكر ويؤنث كالكف. (الليل والنهار) ظرف لسحاء .

(1/410)


93- قوله: (عن ذراري المشركين) جمع ذرية، وهي نسل الإنس والجن، ويقع على الصغار والكبار، إما من الذر بمعنى التفريق، أو من الذرء بمعنى الخلق، فتركت الهمزة أو أبدلت، والمراد عن حكم أولادهم إذا ماتوا قبل البلوغ أنهم من أهل النار أو الجنة. (الله أعلم بما كانوا عاملين) أي لو أبقاهم، فلا تحكموا عليهم بشيء، وهو صريح في الأمر بالتوقف فيهم، وتمسك به من قال: هم في مشيئة الله، وقد اختلفوا في حكمهم على أقوال كثيرة، أشهرها التوقف، نسب ذلك إلى الأئمة الثلاثة، وعن أحمد روايتان، ثم اختلفوا في معنى التوقف، فقيل: المراد به عدم العلم أو عدم الحكم بشيء، وقال بعضهم: المراد به التوقف في الحكم الكلي، فبعض أولاد المشركين ناج وبعضهم هالك، والصواب عندي أن جميع أولاد المشركين في الجنة، واستدل لهذا بأشياء، منها: حديث إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - حين رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة وحوله أولاد الناس، وفيه أنه قال الملكان: ((وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة، قال – الراوي -: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين)) رواه البخاري في آخر تعبير الرؤيا من صحيحه. ومنها قوله تعالى: ?وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا? [17: 15]، ولا يتوجه على المولود التكليف حتى يبلغ، وهذا متفق عليه، ومنها حديث أنس أخرجه أبويعلى مرفوعا: ((سألت ربي اللاهين من ذرية البشر أن لا يعذبهم، فأعطانيهم))، قال الحافظ: إسناده حسن، قال: وورد تفسير اللاهين بأنه الأطفال من حديث ابن عباس مرفوعا أخرجه البزار، ومنها ما رواه أحمد من طريق خنساء بنت معاوية بن مريم عن عمتها قالت: قلت يا رسول الله من في الجنة؟ قال: ((النبي
متفق عليه .
?الفصل الثاني?
94- (16) عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أول ما خلق الله القلم،

(1/411)


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة))، قال الحافظ: إسناد حسن. ومنها ما رواه عبدالرزاق من طريق أبي معاذ عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: سألت خديجة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أولاد المشركين، فقال: ((هم مع آبائهم، ثم سألته بعد ذلك فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين، ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزل ?ولا تزر وازرة وزر أخرى? قال: ((هم على الفطرة)) أو قال: ((هم في الجنة)). قال الحافظ: وأبومعاذ هو سليمان بن أرقم وهو ضعيف، ولو صح هذا لكان قاطعا للنزاع ورافعا لكثير من الإشكال – انتهى. وقد اختار هذا القول الإمام البخاري والأشعري والنووي والحافظ ابن حجر والإمام ابن القيم وشيخه الإمام ابن تيمية، وهذا الحديث وما في معناه محمول عندهم على أنه كان قبل أن ينزل فيهم شيء، فكان - صلى الله عليه وسلم - عند حدوث هذا السؤال ما أخبر عن حقيقة أمرهم فتوقف فيهم. (متفق عليه) وأخرجه أيضا النسائي.
94- قوله: (إن أول ما خلق الله القلم) بالرفع على أنه خبر إن، قال القاري: وروي بالنصب، قال بعض المغاربة: رفع القلم هو الرواية، فإن صح النصب كان على لغة من ينصب خبر إن، وقال المالكي: يجوز نصبه بتقدير "كان" على مذهب الكسائي، كقوله:
ياليت أيام الصبا رواجعا

(1/412)


وقال المغربي: لا يجوز أن يكون القلم مفعول خلق؛ لأن المراد أن القلم أول مخلوق، وإذا جعل مفعولا لخلق أوجب أن يقال اسم إن ضمير الشأن و"أول" ظرف فينبغي أن تسقط الفاء من قوله: "فقال" إذ يرجع المعنى إلى أنه قال له اكتب حين خلقه، فلا إخبار بكونه أول مخلوق- انتهى. وإنما أوجب ما ذكر؛ لأنه بدونه يفسد أصل المعني إذ يصير التقدير أن أول شيء خلق الله القلم، وهو غير صحيح. وقيل: لو صحت الرواية بالنصب لم تمنع الفاء ذلك إذ يقدر قبل فقال "أمره" وهو العامل في الظرف، كذا حققه الطيبي، وفيه أنه حينئذ لا يكون تنصيص على أولية خلق القلم الذي يدل عليه رواية الرفع الصحيحة، وفي الأزهار: أول ما خلق الله القلم. يعني بعد العرش والماء والريح؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء))، رواه مسلم. وعن ابن عباس سئل عن قوله تعالى: ?وكان عرشه على الماء? على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح، رواه البيهقي ذكره الأبهرى، فالأولية إضافية – انتهى كلام القاري. قال الحافظ في الفتح (ج13: ص186) بعد ذكر حديث أبي رزين العقيلي مرفوعا أن الماء خلق قبل العرش، أخرجه أحمد والترمذي، وروي السدي في تفسيره بأسانيد متعددة أن الله لم يخلق شيئا مما خلق قبل الماء، وأما ما رواه أحمد والترمذي وصححه من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: ((إن أول ما
فقال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب القدر، فكتب ما كان وما هو كائن إلى الأبد))، رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب إسنادا.
95- (17) وعن مسلم بن يسار قال: سئل عمر بن الخطاب عن هذه الآية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/413)


خلق الله القلم، ثم قال: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة)). فيجمع بينه وبين ما قبله بأن أولية القلم بالنسبة إلى ما عدا الماء والعرش، أو بالنسبة إلى ما منه صدر من الكتابة، أي أنه قيل له: اكتب أول ما خلق، وأما حديث أول ما خلق الله العقل فليس له طريق ثبت، وعلى تقدير ثبوته فهذا التقدير الأخير هو تأويله، واختلف في أيهما خلق أولا، العرش أو القلم؟ والأكثر على سبق خلق العرش، واختار ابن جرير ومن تبعه الثاني – انتهى. مختصرا. قال: (ما أكتب) ما استفهامية مفعول مقدم على الفعل. قال: (اكتب القدر) بفتحتين أي المقدر المقضي، وفي جامع الترمذي: ((قال: اكتب القدر ما كان وما هو كائن إلى الأبد)). أي بغير زيادة لفظ "فكتب" قبل قوله: "ماكان"، وفي المصابيح: قال: القدر ما كان الخ. قال شراحه أي اكتب القدر، فنصبه بفعل مقدر، و"ما كان" بدل من القدر أو عطف بيان. (فكتب ما كان) المضي بالنسبة إليه - صلى الله عليه وسلم -، قال الطيبي: ليس حكاية عما أمر به القلم وإلا لقيل فكتب ما يكون، وإنما هو إخبار باعتبار حاله - عليه الصلاة والسلام - أي قبل تكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك لا قبل القلم؛ لأن الغرض أنه أول مخلوق، نعم إذا كانت الأولية نسبية صح أن يراد ما كان قبل القلم، وقيل: ما كان يعني العرش والماء والريح (إلى الأبد) قيل: الأبد هو الزمان المستمر غير المنقطع، لكن المراد منه ههنا الزمان الطويل، يدل عليه رواية ابن عباس عند البيهقي والحاكم ففيها ((إلى أن تقوم الساعة)). (رواه الترمذي) في أواخر القدر مع قصة في الحديث، وفي تفسير سورة نون والقلم بغير القصة باللفظ الذي ذكره الحافظ. (وقال: هذا حديث غريب إسنادا) أي لا متنا، والمراد به حديث يعرف متنه عن جماعة من الصحابة وانفرد واحد بروايته عن صحابي آخر، ومنه قول الترمذي: غريب من هذا الوجه، لكن وقع في نسخ جامع الترمذي عندنا في القدر "حديث غريب"، وفي التفسير

(1/414)


"حديث حسن صحيح غريب" بغير ذكر لفظ "إسنادا" أو لفظ "من هذا الوجه"، ولعل المصنف ذكر كلام الترمذي بالمعنى، فإن قوله: غريب إسنادا. في معنى قوله: غريب من هذا الوجه. قيل وفي تحسينه نظر؛ لأن في سنده عبدالواحد بن سليم المكي البصري، وهو ضعيف لكن أخرجه أبوداود من غير طريق الترمذي مع اختلاف في اللفظ وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضا أحمد (ج5: ص317) من طرق عن الوليد بن عبادة عن أبيه، وفي معنى الحديث عن ابن عباس عند الطبراني في الكبير وابن جرير وأبي يعلى وغيرهم، وعن أبي هريرة عند ابن عساكر، وعن معاوية بن قرة عن أبيه عند ابن جرير، فالظاهر أن الترمذي حسنه لتعدد طرقه ولشواهده.
95- قوله: (وعن مسلم بن يسار) الجهني من أوساط التابعين، وثقة ابن حبان، وقال العجلي: تابعي ثقة إلا أنه لم يسمع من عمر، وبينهما نعيم بن ربيعة، كذلك رواه أبوداود. (عن هذه الآية) أي عن كيفية أخذ الله ذرية بني آدم
?وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم? الآية، قال عمر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسئل عنها فقال: ((إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/415)


من ظهورهم المذكور في الآية (وإذ أخذ) أي أخرج (من ظهورهم) بدل اشتمال مما قبله بإعادة الجار، وقيل: بدل بعض (الآية) بالحركات الثلاث. (يسئل) بصيغة المجهول (عنها) أي عن هذه الآية. (ثم مسح ظهره) أي ظهر آدم (بيمينه) يمر على ظاهره من غير تأويل وتكييف، قيل: شق ظهره واستخرجهم منه، والأقرب أنه أخرجهم من مسام شعرات ظهره إذ تحت كل شعرة ثقبة دقيقة يقال لها سم مثل سم الخياط وجمعه مسام، ويمكن خروج الذرية من هذه الثقبة كما يخرج منها العرق. (فاستخرج منه) ببطن نعمان وهو موضع بقرب عرفة كما سيأتي في الفصل الثالث من حديث ابن عباس (ذرية) الخ، حمل البيضاوي في تفسيره وفي شرحه للمصابيح، وغيره من أهل التأويل والاعتزال الآية على التصوير والتمثيل والتخييل، وقالوا: إنه لا قول ثم ولا شهادة حقيقة. قال الفخر الرازي: أطبقت المعتزلة على أنه لا يجوز تفسير هذه الآية بهذا الحديث؛ لأن قوله: "من ظهورهم" بدل من "بني آدم"، فالمعنى وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم، فلم يذكر أنه أخذ من ظهر آدم شيئا، ولوكان المراد الأخذ من ظهر آدم لقيل من ظهره. وأجاب بأن ظاهر الآية يدل على أن الله تعالى أخرج الذرية من ظهور بني آدم، وأما أنه أخرج تلك الذرية من ظهر آدم فلا تدل الآية على إثباته ونفيه، والخبر قد دل على ثبوته فوجب القول بهما معا بأن بعض الذر من ظهر بعض الذر والكل من ظهر آدم صونا للآية والحديث عن الاختلاف – انتهى. وقال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله: إن الآية لا تخالف الحديث؛ لأن آدم أخذت عنه ذريته ومن ذريته ذريتهم إلى يوم القيامة على الترتيب الذي يوجدون عليه، فذكر في القرآن بعض القصة وبين الحديث تتمتها. وقال العلامة الشعراني في الجواب عن إشكال المخالفة: إن هذا شيء يتعلق بالنظم، وذلك أنه لم يقل من ظهر آدم وإن أخرجوا من ظهره؛ لأن الله تعالى أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهر بعض على طريق ما يتناسل الأبناء من الآباء، فاستغنى به عن

(1/416)


ذكر آدم استغناء بظهور ذريته، إذ ذريته خرجوا من ظهره. ويحتمل أن يقال إنه أخرج ذرية آدم بعضهم من بعض في ظهر آدم ثم أخرجهم جميعا فيصح القولان جميعا، فإذا قال أخرجهم من ظهورهم صح، وإذا قال أخرجهم من ظهره صح أيضا، ومثال ذلك من أودع جوهرة في صدفة ثم أودع الصدفة في خرقة وأودع الخرفة مع الجوهرة في حقة وأودع الحقة في درج وأودع الدرج في صندوق ثم أدخل يده في الصندوق فأخرج منه تلك الأشياء بعضها من بعض ثم أخرج الجميع من الصندوق، فهذا لا تناقض فيه. قال: وإن جوابهم أي جواب الذرية بلفظ "بلى شهدنا" المذكور في الآية كان بالنطق وهم أحياء، إذ لا يستحيل في العقل أن يؤتيهم الله الحياة والعقل والنطق مع صغرهم، فإن بحار قدرته واسعة، وغاية وسعنا في كل مسئلة أن نثبت الجواز ونكل كيفيتها إلى الله تعالى. فإن قيل: إذا قال الجميع "بلى" فلم قبل قوم ورد قوم؟ فالجواب كما قال
للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذريته، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون. فقال رجل: ففيم العمل يا رسول الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار))، رواه مالك والترمذي وأبوداود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/417)


الحكيم الترمذي: أنه تعالى تجلى للكفار بالهيبة، فقالوا: بلى، مخافة، فلم يك ينفعهم إيمانهم كإيمان المنافقين، وتجلى للمؤمنين بالرحمة، فقالوا: بلى طوعا، فنفعهم إيمانهم. قال: وإنما لا نذكر العهد السابق والميثاق الأزلي؛ لأن تلك البنية قد انقضت وتداولت الإنسان الغير بمرور الدهور عليها في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، ثم زاد الله تعالى في تلك البنية أجزاء كثيرة، ثم استحالت بتصريفها في الأطوار الواردة عليها من العلقة والمضغة واللحم والعظم، وهذا كله مما يوجب الوقوع في النسيان – انتهى. ويذكر عن علي - رضي الله عنه - وسهل بن عبدالله التستري وذي النون المصري وغيرهم ما يدل على أنهم كانوا يذكرون ذلك العهد، والله تعالى أعلم. هذا، ونذكر مزيد الكلام في شرح حديث ابن عباس الآتي في الفصل الثالث فانتظر. (وبعمل أهل الجنة) أي من الطاعات (يعملون) إما في جميع عمرهم أو في خاتمة أمرهم. (ثم مسح ظهره). قال القاري: أي بيده كما في نسخة – انتهى. وكذا وقع هذا اللفظ في المصابيح، وليس هو في مسند أحمد وجامع الترمذي وسنن أبي داود. (وبعمل أهل النار) أي من السيئات (يعملون) كما سبق (ففيم العمل) الفاء أدخل جواب الشرط المقدر، أي إذا كان كما ذكرت يا رسول الله من سبق القدر ففي أي شيء يفيد العمل، أو بأي شيء يتعلق العمل، أو فلأي شيء أمرنا بالعمل؟ يعني أنه حيث خلق له، ولا يتصور تغييره وتبديله يستوى عمله وتركه. (استعمله) أي جعله عاملا ووفقه للعمل. (حتى يموت) الخ فيه إشارة إلى أن المدار على عمل مقارن للموت. والحديث يدل على سبق القضاء والتقدير قبل خلق العالم بحسب علمه الأزلي بما يقع بعد الخلق، وذلك كنتيجة الخلق في علمه تعالى بعد الخلق وعطاء الاختيار للعباد. (رواه مالك) في جامع من الموطأ (والترمذي) في تفسير الأعراف وقال: حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر الخ. وإنما حسنه مع كونه منقطعا؛ لأن معنى الحديث قد صح عن النبي -

(1/418)


صلى الله عليه وسلم - من وجوه ثابتة كثيرة من حديث عمر وغيره. والترمذي قد يحسن الحديث المنقطع والمرسل لشواهده. (وأبوداود) في السنة من طريق مسلم بن يسار عن عمر، ومن طريق مسلم بن يسار عن نعيم بن ربيعة عن عمر وسكت عليه، ونعيم هذا وثقة ابن حبان، وقال الحافظ: هو مقبول، وأخرجه أحمد (ج1: ص44) والنسائي في تفسيره، والبخاري في
96- (18) وعن عبدالله بن عمرو قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي يديه كتابان فقال: ((أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا: لا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن تخبرنا. فقال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تاريخه، وابن جرير في تفسيره، وابن حبان في صحيحه وغيرهم، وفي الباب عن ابن عباس وسيأتي حديثه، وعبدالله ابن عمرو وأبي هريرة وهشام بن حكيم وأبي أمامة، ذكر أحاديثهم ابن كثير في تفسيره.

(1/419)


96- قوله: (وفي يديه) وفي بعض النسخ "وفي يده" بالإفراد كما في أكثر نسخ المصابيح وكما في مسند أحمد وجامع الترمذي، فيراد بها الجنس والواو للحال (كتابان) هو محمول على الحقيقة من دون شائبة المجاز والتأويل، فوجود الكتاب حق ثابت فإن الله تعالى قادر على كل شيء، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مستعد لإدراك المعاني الغيبية، فلا نستبعد وقوعه بل نثق بما نشاهده ونراه بل أزيد منه. قال الغزالي في كيمياء السعادة: امتياز الخواص من العوام بشيئين: الأول ما يحصل للعوام من العلوم بالكسب والتعلم، فهو يحصل لهم من عند الله تعالى من غير تكسب وتعلم، ويقال له: العلم اللدنى كما قال تعالى: ?وعلمناه من لدنا علما?، والثاني: أن كل ما يراه العامة في المنام يراه الخواص في اليقظة، وحكايات المشايخ في هذا الباب كثيرة جدا، وإذا كانت هذه الحالة وتلك الرتبة حاصلة لخواص عباد الله ولا نستبعد وقوعها لكمل أمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكيف بمن هو سيد المرسلين وأعلاهم رتبة وأعززهم علما وأوفرهم حظا - صلى الله عليه وسلم -، بل ظاهر الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - أرى هذين الكتابين للصحابة أيضا، ولكن لم يعلموا بما فيها من المطالب بالتفصيل. وقال المشائخ: من لا يعتقد ذلك فهو ليس بمؤمن بحقيقة النبوة – انتهى. وقيل: ذلك تمثيل وتصوير وتعبير عن المعنى بالصورة ومبالغة في تحقيقه والتيقن به، والمتكلم إذا أراد أن يحقق قوله ويفهمه غيره ويظهر المعنى الدقيق الخفي لمشاهدة السامع يصور بالصورة الظاهرة، ويشير إليه كالإشارة الحسية إلى المحسوس المشاهد، وإن لم يكن في الخارج وعالم الحس، فلما كوشف له - صلى الله عليه وسلم - بحقيقة هذا الأمر وأطلعه الله عليه إطلاعا ولم يبق معه خفاء وشك وشبهة، مثل وصور المعنى الحاصل في قلبه بالشيء الحاصل في يديه مع أنه ليس في الخارج كتاب ولا مكتوب. قلت: لا حاجة إلى حمل الكتاب والإشارة في الحديث على

(1/420)


المجاز ولا موجب لذلك فحمله على الحقيقة هو المعتمد. (فقال للذي في يده اليمنى) أي لأجله أو في شأنه أو عنه أو قال بمعنى أشار، فاللام بمعنى إلى. (هذا كتاب من رب العالمين) خصه بالذكر دلالة على أنه تعالى مالكهم وهم مملوكون، يتصرف فيهم كيف يشاء، فيسعد من يشاء ويشقى من يشاء، وكل ذلك عدل وصواب، فلا اعتراض لأحد عليه. (ثم أجمل) بالبناء للمجهول (على آخرهم) من قولهم أجمل الحساب: إذا تمم ورد التفصيل إلى الإجمال وأثبت في آخر الورقة مجموع ذلك وجملته، كما هو عادة المحاسبين أن يكتبوا الأشياء مفصلة ثم يوقعوا في آخرها فذلكة ترد التفصيل إلى الإجمال،
فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا، ثم قال للذي في شماله: هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا. فقال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه؟ فقال: سددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيديه فنبذهما، ثم قال: فرغ ربكم من العباد، فريق في الجنة وفريق في السعير))، رواه الترمذي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/421)


وضمن أجمل معنى أوقع، فعدى بعلى أي أوقع الإجمال على من انتهى إليه التفصيل، ويجوز أن يكون حالا، أي أجمل في حال انتهاء التفصيل إلى آخرهم، فعلى بمعنى إلى. (فلا يزاد فيهم) جزاء شرط، أي إذا كان الأمر على ما تقرر من التفصيل والتعيين والإجمال بعد التفصيل في الصك فلا يزاد فيهم (ولا ينقص منهم أبدا)؛ لأن حكم الله لا يتغير، وأما قوله تعالى: ?يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب? [39:13] فمعناه: لكل انتهاء مدة وقت مضروب، فمن انتهى أجله يمحوه ومن بقي من أجله يبقيه على ما هو مثبت فيه، وكل ذلك مثبت عند الله في أم الكتاب، وهو القدر كما أن يمحو ويثبت هو القضاء، فيكون ذلك عين ما قدر وجرى في الأزل كذلك فلا يكون تغييرا، وقيل في معنى الآية غير ذلك. (إن كان أمر قد فرغ منه) بصيغة المجهول، يعني إذا كان المدار على كتابة الأزل فأي فائدة في اكتساب العمل؟ فقال: (سددوا) أي اطلبوا بأعمالكم السداد والاستقامة في الأمر والعدل فيه. (وقاربوا) أي اقتصدوا في الأمور كلها، واتركوا الغلو فيها والتقصير، يقال: قارب فلان في أموره: إذا اقتصد، كذا في النهاية. قال الطيبي: الجواب من أسلوب الحكيم، أي فيم أنتم من ذكر القدر والاحتجاج به، وإنما خلقتم للعبادة فاعملوا وسددوا – انتهى. (يختم له) بصيغة المجهول (بعمل أهل الجنة وإن عمل) أي ولو عمل قبل ذلك (أي عمل) من أعمال أهل النار (بعمل أهل النار) أعم من الكفر والمعاصي. (وإن عمل أي عمل) أي قبل ذلك من أعمال أهل الجنة (ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيديه) أي أشار بهما، والعرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال، فتطلقه على غير الكلام واللسان، فتقول: "قال بيده" أي أخذ، و"قال برجله" أي مشى، و"قال بالماء على يده" أي صب، و"قال بثوبه" أي رفعه (فنبذهما) أي طرح ما فيهما من الكتابين، لا بطريق الإهانة بل نبذهما إلى عالم الغيب، هذا إذا كان هناك كتاب حقيقي، وأما على التمثيل

(1/422)


فيكون المعنى نبذهما أي اليدين. (فرغ ربكم من العباد) أي من أمر العباد، والمراد بالأمر الشأن، أي قدر أمرهم لما قسمهم قسمين، وقدر لكل قسم على التعيين كونه من أهل الجنة أو النار بحيث لا يقبل التغيير، فكأنه فرغ من أمرهم، وإلا فالفراغ لا يجوز عليه تعالى. (رواه الترمذي) في القدر وقال:
97- (19) وعن أبي خزامة عن أبيه قال: قلت: يارسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة تنقيها هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: ((هي من قدر الله))، رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا حديث حسن صحيح غريب. وأخرجه أيضا أحمد (ج2: ص167) والنسائي، وفي الباب عن عمر عند البزار وابن جرير، وابن عباس عند ابن جرير والدارقطني في الأفراد، وعلي عند الطبراني في الأوسط.

(1/423)


97- قوله: (عن أبي خزامة) بكسر الخاء وتخفيف الزاى (عن أبيه) اختلف فيه فروي هكذا، وروي عن ابن أبي خزامة عن أبيه، والأول أصح. وأبوخزامة هذا تابعي مجهول، واسم والده يعمر، أحد بني الحارث بن سعد ابن هذيم، صحابي له حديث في الرقى، قال في الإصابة (ج3: ص669): سماه بعضهم في رواية، وأكثر ما يجيء مبهما. (أرأيت رقى) بضم وقصر، جمع رقية، وهي ما يقرأ من الدعاء لطلب الشفاء، والاسترقاء طلب الرقية (وداواء) بالنصب (نتداوى به) أي نستعمله (وتقاة) بضم أوله (نتقيها) أي نلتجيء بها أو نحذر بسببها، وأصل تقاة وقاة، قلبت الواو تاء من وقى يقي أي حفظ، وهي اسم ما يلتجيء به الناس من خوف الأعداء كالترس. قيل: وهذه المنصوبات أعني رقى وما عطف عليها موصوفات بالأفعال الواقعة بعدها ومتعلقة بمعنى أرأيت، أي أخبرني عن رقى نسترقيها، فنصبت على نزع الخافض، ويجوز أن يتعلق بلفظ أرأيت، والمفعول الأول الموصوف مع الصفة، والثاني الاستفهام بتأويل مقولا فيها. (هل ترد) أي هذه الأسباب (قال: هي) أي المذكورات الثلاث (من قدر الله) أيضا، يعني كما أن الله قدر الداء قدر زواله بالدواء، ومن استعمله ولم ينفعه فليعلم أن الله ما قدره له. والحاصل أن الله قدر الأسباب والمسببات وربط الأسباب بالمسببات، فحصول المسببات عند وجود الأسباب من جملة القدر. قال التوربشتي: عرف الرجل أن من واجب حق الإيمان أن نعتقد أن المقدر كائن لا محالة، ووجد الشرع يرخص في الاسترقاء ويأمر بالتداوي والاتقاء عن مواطن المهلكات فأشكل عليه الأمر، كما أشكل على الصحابة حين أخبروا أن الكتاب يسبق على الرجل، فقالوا: ففيم العمل؟ فبين الرسول أن جميع ذلك من قدر الله، وأن المسترقي والمتداوي والمتقي لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا من ذلك إلا ما قدر لهم، وكما أن نفس هذا الفعل بقدر الله فكذلك نفعه وضره بقدر الله، وكما أن التمسك بأعمال البر مأمور به مع ما سبق من القضاء المبرم فكذلك

(1/424)


التعرض للأسباب الجالبة للمنافع الدافعة للمضار مأمور به أو مأذون فيه إن لم يمنع عنها مانع شرعي مع جريان القدر المحتوم – انتهى. (رواه أحمد) (ج3: ص441) (والترمذي) في الطب وقال: "حديث حسن"، وفي القدر وقال: "هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث الزهري"، أي الراوي عن أبي خزامة، (وابن ماجة) في السنة، وأخرجه الحاكم وصححه، وفي الباب عن كعب بن مالك أخرجه ابن حبان.
98- (20) وعن أبي هريرة قال: ((خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى أحمر وجهه حتى كأنما فقئ في وجنتيه حب الرمان، فقال: أبهذا أمرتم، أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم، عزمت عليكم أن لا تنازعوا فيه))، رواه الترمذي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/425)


98- قوله: (ونحن نتنازع في القدر) أي حال كوننا نتباحث في القدر بالإثبات والنفي. وقال القاري: أي في شأنه، فيقول بعضنا: إذا كان الكل بالقدر فلم الثواب والعقاب؟ كما قالت المعتزلة، والآخر يقول: فما الحكمة في تقدير بعض للجنة وبعض للنار؟ فيقول الآخر: لأن لهم نوع اختيار كسبي، فيقول الآخر: فمن أوجد ذلك الاختيار والكسب وأقدرهم عليه، وما أشبه ذلك. (حتى كأنما فقئ) بصيغة المجهول أي شق أو عصر في وجنتيه أي خديه (حب الرمان)، وفي جامع الترمذي "في وجنتيه الرمان"، أي بغير لفظ "حب"، والمعنى حتى صار من شدة حمرته يشبه فقأ حب الرمان في خديه أي يشبه الأحمرار الحاصل به، فهو كناية عن مزيد حمرة وجهه المنبئة عن مزيد غضبه، وإنما غضب لأن القدر سر من أسرار الله تعالى، وطلب سر الله منهي عنه؛ ولأن من يبحث فيه لا يأمن من أن يصير قدريا أو جبريا، والعباد مأمورون بقبول ما أمرهم الشرع من غير أن يطلبوا سر ما لا يجوز طلب سره. (أبهذا أمرتم) أي أبالتنازع في القدر أمرتم؟ وهمزة الاستفهام للإنكار، وتقديم المجرور لمزيد الاهتمام . (أم بهذا أرسلت إليكم) أم منقطعة بمعنى بل والهمزة، وهي للإنكار أيضا ترقيا من الأهون إلى الأغلظ وإنكارا غب إنكار. (إنما هلك من كان قبلكم) أي من الأمم، جملة مستأنفة جوابا عما اتجه لهم أن يقولوا: لم تنكر هذا الإنكار البليغ؟ فأجيب بقوله: "إنما هلك" الخ، يعني ذلك الإنكار البليغ بسبب هذا العذاب البليغ الذي لا إمهال فيه. (عزمت عليكم) أي أقسمت وأوجبت (أن لا تنازعوا فيه) أي لا تبحثوا في القدر بعد هذا. قال ابن الملك: "أن" هذا يمتنع كونها مصدرية وزائدة؛ لأن جواب القسم لا يكون إلا جملة و"أن" لا تزاد مع "لا"، فهي إذا مفسرة كأقسمت أن لا ضربت، و"تنازعوا" جزم بلا الناهية، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة؛ لأنها مع اسمها وخبرها سدت مسد الجملة، كذا قاله زين العرب. (رواه الترمذي) وقال: غريب لا نعرفه إلا من

(1/426)


حديث صالح المري، وله غرائب ينفرد بها- انتهى. قلت: صالح المري هذا ضعيف، ضعفه ابن معين والدارقطني وابن المديني والبخاري والنسائي وغيرهم، فالحديث ضعيف، لكن يؤيده الحديث الذي بعده وحديث ابن مسعود مرفوعا عند الطبراني بإسناد حسن بلفظ: ((إذا ذكر القدر فأمسكوا))، وحديث ثوبان عند الطبراني في الكبير بلفظ: ((اجتمع أربعون من الصحابة ينظرون في القدر)) الحديث، وحديث ابن عباس عند ابن جرير بلفظ: ((خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمع ناسا من أصحابه ينظرون في القدر)) الحديث، وحديث أبي الدرداء ووائله وأبي أمامة وأنس عند الطبراني في الكبير بلفظ: ((قالوا:
99 - (21) وروى ابن ماجه نحوه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
100- (22) وعن أبي موسى قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر والأبيض والأسود، وبين ذلك والسهل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نتذاكر القدر)) الحديث.

(1/427)


99- قوله: (وروى ابن ماجة) في باب القدر من السنة وسنده حسن. (نحوه) أي بالمعنى، ورواه أيضا أحمد في مسنده (ج2: ص196، 195) (عن عمرو بن شعيب) بن محمد بن عبدالله بن عمرو بن العاص السهمي، يكني أبا إبراهيم المدني نزيل الطائف، وثقة النسائي وغيره. مات سنة (118). (عن أبيه) أي شعيب بن محمد السهمي الحجازي، من ثقات التابعين وثقة ابن حيان. (عن جده) أي جد شعيب والد عمرو، وهو عبدالله بن عمرو بن العاص، فالضمير في جده يرجع إلى شعيب بن محمد. هذا هو الصحيح عند المحققين كعلي بن المديني وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وأبي عبيدة والبخاري وغيرهم، وقد صح وثبت سماع شعيب من جده عبدالله، وهو الذي ربى حفيده شعيبا، حتى قيل: إن محمدا مات في حياة أبيه عبدالله، وكفل شعيبا جده عبدالله، يدل على ذلك ما رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي عنه في إفساد الحج، فقالوا: عن عمرو بن شعيب عن أبيه أن رجلا أتى عبدالله بن عمرو يسأله عن محرم وقع بامرأته فأشار إلى عبدالله بن عمر فقال: اذهب إلى ذلك فاسأله، قال شعيب: فلم يعرفه الرجل، فذهبت معه فسأل ابن عمر. فقال: بطل حجك فذكر الحديث، وذكر فيه سؤاله لابن عباس أيضا، وذهاب شعيب معه إليه، وأنه قال مثل قول ابن عمر، ففيه التصريح بأن شعيبا سمع من جده عبدالله ومن ابن عباس ومن ابن عمر، وعلى هذا فرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ليست بمرسلة ولا بمنقطعة كما توهم ابن حبان ومن وافقه، بل هي متصلة ولا تنحط عن درجة الحسن إذا كان الإسناد إلى عمرو صحيحا. قال الذهبي: حديثه من قبيل الحسن. قال الحافظ: ترجمة عمرو قوية على المختار حيث لاتعارض – انتهى. وقال النووي: إن الاحتجاج به هو الصحيح المختار الذي عليه المحققون من أهل الحديث، وهم أهل هذا الفن وعنهم يؤخذ –انتهى. وسيأتي مزيد الكلام في هذا في باب المساجد فانتظر.

(1/428)


100- قوله: (خلق آدم من قبضة) بالضم ملأ الكف وربما جاء بفتح القاف، و"من" ابتدائية متعلقة بخلق أي ابتداء خلقه من قبضة، أو بيانية حال من آدم، (قبضها) أي أمر الملك بقبضها. قال في النهاية: القبض الأخذ بجميع الكف، والقبضة المرة منه، وبالضم الاسم منه (من جميع الأرض) يعني وجهها (على قدر الأرض) أي مبلغها من الألوان والطباع (منهم الأحمر والأبيض والأسود) أي بحسب ترابها، وهذه الثلاثة هي أصول الألوان وما عداها مركب منها، وهو المراد بقوله: (وبين ذلك) أي بين الأحمر والأبيض والأسود باعتبار أجزاء أرضه، (والسهل) أي ومنهم السهل أي اللين المنقاد،
والحزن والخبيث والطيب))، رواه أحمد والترمذي وأبوداود.
101- (23) وعن عبدالله بن عمرو قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله خلق خلقه في ظلمة، فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/429)


(والحزن) بفتح الحاء وسكون الزاي أي الغليظ الطبع الخشن من حزن الأرض وهو الغليظ الخشن. (والخبيث) أي خبيث الخصال (والطيب) على طبع أرضهم، وكل ذلك بتقدير الله تعالى لونا وطبعا وخلقا. قال الطيبي: لما كانت الأوصاف الأربعة ظاهرة في الإنسان والأرض أجريت على حقيقتها، وأولت الأربعة الأخيرة؛ لأنها من الأخلاق الباطنة، فإن المعنى بالسهل الرفق واللين، وبالحزن الخرق والعنف، وبالطيب الذي يعني به الأرض العذبة المؤمن الذي هو نفع كله، وبالخبيث الذي يراد به الأرض السبخة الكافر الذي هو ضر كله – انتهى. وفيه إشارة إلى أن هذه الأوصاف والآثار بمنزلة هذه الألوان في كونها تحت الأقدار، غايته أن الأوصاف قابلة للزيادة والنقصان بحسب الطاعة والإمكان لمجاهدة الإنسان بخلاف الألوان، وإن نظرت إلى الحقيقة فلا تبديل ولا تغيير لخلق الله، وهذا معنى قوله: "جف القلم على علم الله"، قاله القاري. (رواه أحمد) (ج4:ص406، 400)، (والترمذي) في أول تفسير البقرة وقال: "حديث حسن صحيح"، وكذا صححه أبوالفرج الثقفي في الفوائد (ق197/1)، (وأبوداود) في السنة وأخرجه أيضا الحاكم والبيهقي.

(1/430)


101- قوله: (خلقه) أي الثقلين من الجن والإنس أو الإنس فقط، لا الملائكة فإنهم ما خلقوا إلا من نور. (في ظلمة) أي كائنين في ظلمة النفس الأمارة بالسوء المجبولة بالشهوات المردية والأهواء المضلة. (فألقى) أي فرش كما في رواية (من نوره) أي نوره الذي خلقه الله تعالى، فمن زائدة في الإثبات أو بيانية أي شيئا هو نوره، فيكون "من نوره" صفة محذوف، أو تبعيضية أي بعض نوره، وإضافة النور إلى الله تعالى إضافة إبداع واختراع على سبيل التكريم، كما في قوله: ?ونفخت فيه من روحي?، (فمن أصابه من ذلك النور) أي شيء من ذلك النور أو بعض ذلك النور. قيل: المراد بالنور الملقى عليهم نور الإيمان والطاعة والإحسان والمعرفة. وقيل: المراد به ما نصب لهم من الشواهد والحجيج وما أنزل إليهم من الآيات والنذر، إذ لو لا ذلك لبقوا في ظلمات الضلالة والجهالة، والمراد بإصابة النور الاعتبار بالحجج والانتفاع بالشواهد، والاستدلال بالآيات على ذاته تعالى وصفاته، وعلى دين الإسلام بتوفيق الله، فمن شاءالله بهدايته فشاهد حججه واعتبر بآياته واستدل بشواهده بالنظر الصحيح، فهو الذي أصابه ذلك النور فخلص من تلك الظلمة واهتدى، ومن لم يشأ هدايته فعمي عن آياته، فهو الذي حرم من ذلك النور وبقي في ظلمات الطبيعة متحيرا وارتدى، وإليه يشير قوله تعالى: ?أو من كان ميتا فأحيناه وجلعنا له نورا? [122:6] وقوله: ?أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه? [22:39]. فعلم أن الهداية والضلالة بمشيئة الله وتقديره في الأزل. قال في اللمعات: الحق أن المراد من خلقه هو وقت الولادة، ومن إلقاء النور هو زمان إظهار الشرائع وإعطاء التوفيق للاهتداء، وبالجملة في الحديث دلالة على أن الإنسان
ومن أخطأه ضل، فلذلك أقول: جف القلم على علم الله))، رواه أحمد والترمذي.

(1/431)


102- (24) وعن أنس قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، فقلت يا نبي الله آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء))، رواه الترمذي وابن ماجة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خلق على حالة لا ينفك عن الظلمة إلا من أصابه النور الملقي عليه، لكن يتوهم الإشكال في تطبيقه بحديث الفطرة الذي يدل على أن المولود عند الولادة يكون على نور الفطرة، ولا إشكال؛ لأن حديث الفطرة كما حقق إنما يدل على كون الإنسان متهيئا متمكنا من إصابة الهدى إن تفكر بالنظر الصحيح وتأمل في الآيات والشواهد، ومع ذلك خلق في ظلمات النفس والطبيعة، وهذا الحديث إنما يدل على أن إصابة الهدى إنما هو مشيئة الله وتوفيقه وإلقاء نور الهداية في قلبه، وليس مستقلا مستبدا بإصابة الهدى، فمن شاء وفقه للنظر الصحيح وألقى نور الهداية كما هو مقتضى الفطرة والروحانية، ومن لم يشأ لم يوفقه وأوقعه في ظلمة الضلال والغواية، كما هو مقتضى النفس والطبيعة الجسمانية، وبالجملة هذا الحديث تنبيه على سابقة التقدير وعلم الله ومشيئته تعالى، والفطرة كما نبهنا هنالك غير سابقة التقدير فلا تنافي بين الحديثين- انتهى . (ومن أخطأه) أي ذلك النور يعني جاوزه ولم يصل إليه (ضل) أي خرج عن طريق الحق. (فلذلك) أي فلأجل عدم تغير ما جرى في الأزل تقديره من الإيمان والكفر والطاعة والمعصية. (أقول جف القلم) أي فرغت الكتابة، إشارة إلى أن الذي كتب وقدر لا يتغير حكمه، فهو كناية عن الفراغ من الكتابة؛ لأن الصحيفة حال كتابتها تكون رطبة أو بعضها وكذلك القلم، فإذا انتهت الكتابة جف الكتابة والقلم. (على علم الله) أ ي على حكمه؛ لأن معلومه لا بد أن يقع، فعلمه بمعلوم يستلزم الحكم بوقوعه. وقال القاري: أي على ما علم الله وحكم به في الأزل لا يتغير ولا يتبدل وجفاف

(1/432)


القلم عبارة عنه. (رواه أحمد) (ج2:ص197، 176)، (والترمذي) في أواخر الإيمان، وقال: "حديث حسن"، وأخرجه أيضا ابن حبان وصححه والحاكم مطولا وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، وابن جرير والبيهقي.
102- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر) من الإكثار (يا مقلب القلوب) أي مصرفها تارة إلى الطاعة وتارة إلى المعصية وتارة إلى الحضرة وتارة إلى الغفلة. (فهل تخاف علينا؟) يعني أن قولك هذا ليس لنفسك؛ لأنك في عصمة من الخطأ والزلة خصوصا من تقلب القلب عن الدين، وإنما المراد تعليم الأمة فهل تخاف علينا من زوال نعمة الإيمان أو الانتقال من الكمال إلى النقصان؟ (قال: نعم) أي أخاف عليكم (إن القلوب بين إصبعين) إلخ تقدم الكلام فيه (يقلبها كيف يشاء) مفعول مطلق أي تقليبا يريده أو حال من الضمير المنصوب، أي يقلبها على أي صفة شاءها أي بقضائه وقدره. (رواه الترمذي) في القدر وقال: حديث حسن صحيح (وابن ماجه) في الدعاء.
103- (25) وعن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل القلب كريشة بأرض فلاة يقلبها
الرياح ظهرا لبطن))، رواه أحمد.
104- (26) وعن علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، والبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر))، رواه الترمذي،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/433)


103- قوله: (مثل القلب) أي صفة القلب العجيبة الشأن، وورد ما يرد عليه من عالم الغيب من الدواعي وسرعة تقلبه بسببها. (كريشة) أي كصفة (بأرض) بالتنوين، وقيل: بالاضافة (فلاة) أي مفازة خالية من النبات، وهي صفة، قيل: ذكر الأرض مقحم؛ لأن الفلاة تدل عليها، فالمقصود التأكيد لدفع التجوز كما في "أبصرتها بعيني" وتخصيص الفلاة؛ لأن الرياح أشد تأثيرا فيها من العمران. (يقلبها الرياح) صفة أخرى لريشة، وجمع الرياح للدلالة على ظهور التقليب، إذ لو استمر الريح على جانب واحد لم يظهر التقلب. (ظهرا لبطن) أي وبطنا لظهر، يعني كل ساعة يقلبها على صفة، فكذا القلب ينقلب ساعة من الخير إلى الشر وبالعكس، وقوله: "ظهرا" بدل البعض من الضمير في يقلبها، واللام في "لبطن" بمعنى إلى، ويجوز أن يكون "ظهرا لبطن" مفعولا مطلقا أي تقليبا مختلفا، وأن يكون حالا، يعني مقدرة أي يقلبها مختلفة كذا في المرقاة. (رواه أحمد) (ح4:ص408) بسند حسن، لكن بغير هذا اللفظ، وإنما رواه به صاحب الأصل (البغوي) في شرح السنة (14)، وأخرجه أيضا أحمد (ج4:ص419) وابن ماجة في السنة، وفي سنده عندهما يزيد الرقاشي وهو ضعيف، وأخرج البزار نحوه عن أنس.

(1/434)


104- قوله: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع) هذا نفي لأصل الإيمان لا نفي لكماله، فمن لم يؤمن بواحد من هذه الأمور الأربعة لم يكن مؤمنا، ويلزم منه أن يكون القدري كافرا، وهو خلاف ما عليه الجمهور، وسيأتي الكلام في هذا. (يشهد) منصوب على البدل من قوله:"يؤمن"، وقيل: مرفوع تفصيل لما سبقه، أي يعلم ويتيقن. (بعثني بالحق) استئناف كأنه قيل: "لم يشهد"؟ فقال: "بعثني بالحق" أي إلى كافة الجن والإنس، ويجوز أن يكون حالا مؤكدة أو خبرا بعد خبر، فيدخل على هذا في حين الشهادة. (ويؤمن بالموت) بالوجهين، وهو الثاني من الأمور الأربعة. قال المظهر: أي يعتقد بفناء الدنيا، وهو احتراز عن مذهب الدهرية القائلين بقدم العالم وبقائه أبدا. قال القاري: وفي معناه التناسخي، ويحتمل أن يراد اعتقاد أن الموت يحصل بأمر الله لا بفساد المزاج، كما يقوله الطبيعي. (والبعث) أي ويؤمن بوقوع البعث بعد الموت، هذا هو الثالث، وتكرير الموت إيذان للاهتمام بشأنه. (ويؤمن) بالوجهين (بالقدر) يعني أن جميع ما يجرى في العالم بقضاء الله وقدره، وفيه دليل على أن الإيمان بالقدر ركن من أركان الدين. (رواه الترمذي) في القدر ورجاله رجال
وابن ماجة.
105- (27) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة، والقدرية)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصحيح، (وابن ماجة) في السنة، وأخرجه أيضا أحمد (ج1:ص97)، والحاكم وصححه على شرطهما، ووافقه الذهبي.

(1/435)


105- قوله: (صنفان) أي نوعان، وهو مبتدأ خبره قوله: ليس لهما إلخ (من أمتي) صفة أي أملة الإجابة (ليس لهما في الإسلام نصيب) أي حظ. (المرجئة) خبر مبتدأ محذوف أي "هما" وقيل بدل من صنفان، ويجوز الجر على أنه بدل من ضمير لهما، والنصب بتقدير "أعني" مشهور في مثله، والمرجئة اسم فاعل من أرجأت الأمر بالهمزة وأرجيت بالياء أي أخرت، وهم فرقة من فرق الإسلام يعتقدون أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، سموا بذلك لاعتقادهم أن الله أرجأ تعذيبهم على المعاصي، أي أخره عنهم وبعده، وقيل: هم الجبرية القائلون بأن إضافة الفعل إلى العبد كإضافته إلى الجمادات، سموا بذلك؛ لأنهم يؤخرون أمر الله ونهيه عن الاعتداد بهما ويرتكبون الكبائر، وقيل هم الذين يقولون: الإيمان قول وتصديق بلا عمل، فيؤخرون العمل عن القول والتصديق. وقال الشهرستاني: الإرجاء على معنيين: أحدهما التأخير، قالوا: أرجه، أي أمهله وأخره. والثاني: إعطاء الرجاء. أما إطلاق إسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح؛ لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية والقصد، وأما بالمعنى الثاني فظاهر فإنهم كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة. وقيل: الإرجاء تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى القيامة، فلا يقضى عليه بحكم ما في الدنيا من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار، قال: والمرجئة أصناف أربعة: مرجئة الخوارج، ومرجئة القدرية، ومرجئة الجبرية، ومرجئة الخالصة، ثم ذكر مقالات المرجئة الخالصة، من شاء الوقوف عليها رجع إلى الملل والنحل، والظاهر أن المراد في الحديث مرجئة الجبرية. (والقدرية) بفتحتين أو سكون الدال، هم الذين يقولون: إن العبد خالق لأفعاله والأمر أنف من غير سبق قضاء وتقدير، واشتهر بهذا الاسم من لا يقول بالقدر لأجل أنهم تكلموا في القدر وأقاموا الأدلة بزعمهم على نفيه، وتوغلوا في هذه المسئلة حتى اشتهروا بهذا الإسم، وبسبب توغلهم

(1/436)


وكثرة اشتغالهم صاروا هم أحق بهذه النسبة من غيرهم، فلا يرد أن المثبت أحق بهذه النسبة من النافي، على أن الأحاديث صريحة في أن المراد ههنا النافي، قاندفع توهم القدرية أن المراد في هذا الحديث المثبت للقدر لا النافي. هذا، وربما يتمسك بالحديث من يكفر الفريقين، قال ابن حجر المكي الهيثمي الشافعي: من أطلق تكفير الفريقين أخذا بظاهر الحديث فقد استروح، بل الصواب عند الأكثرين من علماء السلف والخلف أنا لا نكفر أهل البدع والأهواء إلا إن أتوا بكفر صريح لا استلزامي؛ لأن الأصح أن لازم المذهب ليس بلازم، ومن ثم لم يزل العلماء يعاملونهم معاملة المسلمين في نكاحهم وإنكاحهم والصلاة على موتاهم ودفنهم في مقابرهم؛ لأنهم وإن كانوا مخطئين غير معذورين حقت عليهم كلمة الفسق
رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/437)


والضلال، إلا أنهم لم يقصدوا بما قالوه اختيار الكفر، وإنما بذلوا وسعهم في إصابة الحق فلم يحصل لهم، لكن لتقصيرهم بتحكيم عقولهم وأهويتهم وإعراضهم عن صريح السنة والآيات من غير تأويل سائغ، وبهذا فارقوا مجتهدي الفروع، فإن خطأهم إنما هو لعذرهم بقيام دليل آخر عندهم مقاوم لدليل غيرهم من جنسه فلم يقصروا، ومن ثم أثيبوا على اجتهادهم- انتهى. قال التوربشتي: وهذا أي عدم تكفيرهم قول المحققين من علماء الأمة احتياطا فيجري قوله: "ليس لهما في الإسلام نصيب" مجرى الاتساع في بيان سوء حظهم وقلة نصيبهم من الإسلام، نحو قولك: ليس للبخيل من ماله نصيب -انتهى. قال السندهي: في صلاحية هذا الحديث للاستدلال به في الفروع نظر كما ستعرف فضلا عن الأصول والمطلوب فيها القطع، فكيف يصح التمسك به في التكفير؟ انتهى. قلت: أحاديث الباب من بين الصحاح والحسان والضعاف غير الساقطات تدل بمجموعها على أن الإيمان بالقدر من غير بحث ومنازعة من ضروريات الدين وركن من أركان الإسلام، فالظاهر أن إنكار القدر وتكذيبه من البدع المكفرة، والله أعلم. (رواه الترمذي) من طريقين في أحدهما علي بن نزار وأبوه نزار بن حيان وهما ضعيفان، وفي الثاني سلام بن أبي عمرة وهو أيضا ضعيف. (وقال: غريب) وفي نسخ الترمذي عندنا "حسن غريب"، وكذا نقله الحافظ عن الترمذي في أجوبته عن أحاديث المصابيح التي رماها الحافظ سراج القزويني بالوضع، وكذا نقله البوصيري في الزوائد. ولعله حسنه لشواهده، وأخرجه أيضا البخاري في تاريخه وابن ماجه في السنة، وفي سنده أيضا علي نزار وأبوه نزار، وأخرجه ابن ماجة أيضا عن جابر، وفيه نزار المذكور، والخطيب عن ابن عمر وقال: هذا حديث منكر من هذا الوجه جدا كالموضوع، وإنما يرويه علي بن نزار، شيخ ضعيف واهي الحديث، والطبراني في الأوسط عن أبي سعيد. قال السندهي: زعم الحافظ سراج الدين بعده وبين أنه موضوع، ورد عليه الحافظ صلاح الدين ثم الحافظ ابن

(1/438)


حجر بما يبعده عن الوضع ويقربه إلى الحسن، ومحل نظرهما هو تعدد الطرق، والحديث جاء عن أبي بكرالصديق ومعاذ بن جبل وعبدالله بن عمر وجابر بطريق معاذ، وكثرة الطرق تفيد بأن له أصلا، وبالجملة فلا ينفع في الاستدلال بالأصول – انتهى. قلت: قال الحافظ ابن حجر في أجوبته بعد عزوه إلى الترمذي وابن ماجة: ومداره على نزار بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس، وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب، ونزار هذا ضعيف عندهم، ورواه عنه ابنه علي بن نزار وهو ضعيف، لكن تابعه القاسم بن حبيب، وإذا جاء الخبر من طريقين كل منهما ضعيف قوي أحد الطريقين بالآخر، ومن ثم حسنه الترمذي، ووجدنا له شاهدا من حديث جابر ومن طريق ابن عمر ومن طريق معاذ وغيرهم، وأسانيدها ضعيفة، ولكن لم يوجد فيه علامة الوضع إذ لا يلزم من نفي الإسلام عن الطائفتين إثبات كفر من قال بهذا الرأي؛ لأنه يحمل على نفي الإيمان الكامل، أو المعنى أنه اعتقد اعتقاد الكافر لإرادة المبالغة في التنفير من ذلك لا حقيقة الكفر، وينصره أنه وصفهم بأنهم من أمته – انتهى. وقال العلائي: والحق أنه ضعيف لا موضوع.
106- (28) وعن ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يكون في أمتي خسف ومسخ وذلك في المكذبين بالقدر))، رواه أبوداود، وروى الترمذي نحوه.
107- (29) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم))،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/439)


106- قوله:(يكون في أمتي) أي أمة الإجابة (خسف) يقال: خسف الله به أي غاب به في الأرض. (ومسخ) هو تحويل صورة إلى ما هو أقبح منها، وقيل: المراد مسخ القلوب، وفيه نظر. (وذلك) أي ما ذكر من الخسف والمسخ واقع (في المكذبين بالقدر)، تبين بهذا الحديث أن القدرية المذمومة، إنما هم المكذبة بالقدر لا المؤمنة به، كما زعمت المعتزلة ونسبوا أهل السنة والجماعة إلى القدرية، وقوله: "ذلك" في الحديث يدل على استحقاق ما سبق من الخسف والمسخ لأجل ما بعده من التكذيب، فيكونان في هذه الأمة كما في سائر الأمم، خلاف قول من زعم أن ذلك لا يكون مطلقا إنما مسخها بقلوبها، وأما ما روي من رفع الخسف والمسخ عن هذه الأمة فالمراد به رفع الخسف والمسخ العامين، فافهم. (رواه أبوداود) أي بهذا اللفظ، قاله القاري، وفيه نظر. (وروى الترمذي نحوه) أي بالمعنى، وقد ذكره المصنف في الفصل الثالث. قال الشيخ الألباني: قوله: "رواه أبوداود وروى الترمذي نحوه"، كذا في جميع النسخ وهو خطأ، والصواب العكس "رواه الترمذى وروى أبوداود نحوه"، فإن الترمذى أخرجه (2/22) بهذا اللفظ بالحرف الواحد، وأما أبوداود فأخرجه في السنة (رقم4613) بنحوه –انتهى. قلت: لم أجد حديث ابن عمر باللفظ الذي ذكره المصنف لا في جامع الترمذي ولا في سنن أبي داود، والظاهر أن المصنف قلد في ذلك الجزري إذ ذكره في جامع الأصول (ج10:ص527) بهذا اللفظ، وأثبت في أوله علامة (ت، د) ولا أدري من أين أخذ الجزري اللفظ المذكور مع أنه ذكر بعد ذلك رواية أبي داود ثم رواية الترمذي مفصلة؟ ويمكن أن يكون هذا الحديث عند أبي داود في رواية غير اللؤلؤي، والله أعلم. والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج2:ص108) بلفظ: ((سيكون في هذه الأمة مسخ، ألا وذاك في المكذبين بالقدر)). وفي سنده رشدين بن سعد وهو ضعيف.

(1/440)


107- قوله: (القدرية مجوس هذه الأمة) أي أمة الإجابة؛ لأن قولهم أفعال العباد مخلوقه بقدرهم لا بقدر الله وإرادته. يشبه قول المجوس القائلين بأن للعالم إلهين: خالق الخير وهو يزدان أي الله، وخالق الشر وهو اهرمن أي الشيطان، وقيل: المجوس يقولون: الخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة، فصاروا ثنوية كذلك القدرية يقولون الخير من الله والشر من غيره أي النفس. (وإن ماتوا فلا تشهدوهم) أي لاتشهدوا جنائزهم ولا تصلوا عليهم؛ لاستلزام ذلك الدعاء لهم بالصحة والمغفرة، قيل: هو محمول على الزجر والتنفير عن اعتقادهم على قول من لم يحكم بكفرهم، وعلى الحقيقة على قول من حكم بكفرهم إذ الفاسق
رواه أحمد، وأبوداود.

(1/441)


لا منع ولا كراهة في شهود جنازته، وخص هاتين الخصلتين أي العيادة وشهود الجنازة؛ لأنهما أولى وألزم من سائر الحقوق، فإنهما حالتان مفتقرتان إلى الدعاء بالصحة والمغفرة، فيكون النهي عنهما أبلغ في المقصود. (رواه أحمد) باختلاف في اللفظ من طريقين (ج2: ص125، 86) الأولى منقطعة، عمر بن عبدالله مولى غفره لم يسمع من عبدالله ابن عمر، والثانية موصولة لكن فيها رجل ضعيف، وله طريق ثالث عند أبي بكر الآجري في كتاب الشريعة (ص190)، وفيه ضعف أيضا، وله طريق رابع عند أبي داود، فالحديث بهذه الطرق حسن كما قال العلائي والحافظ ابن حجر، (وأبي داود) في السنة من طريق عبدالعزيز بن أبي حازم عن أبيه عن ابن عمر، ورجاله ثقات لكنه منقطع كما سيأتي. قال السيوطي في مرقاة الصعود: هذا أحد الأحاديث التي انتقدها الحافظ سراج الدين القزويني على المصابيح، وزعم أنه موضوع. قال الحافظ ابن حجر فيما تعقبه عليه: هذا الحديث حسنه الترمذي وصححه الحاكم ورجاله من رجال الصحيح إلا أن له علتين: الأولى الاختلاف في بعض رواته عن عبدالعزيز بن أبي حازم، وهو زكريا بن منظور. فرواه عن عبدالعزيز بن أبي حازم فقال: عن نافع عن ابن عمر. والأخرى ما ذكره المنذري وغيره من أن سنده منقطع؛ لأن أباحازم لم يسمع من ابن عمر. فالجواب عن الثانية أن أباالحسن بن القطان الفاسي الحافظ صحح سنده، فقال: إن أباحازم عاصر ابن عمر فكان معه بالمدينة، ومسلم يكتفي بالمعاصرة في الاتصال، فهو صحيح على شرطه. وعن الأول بأن زكريا وصف بالوهم، فلعله وهم فأبدل روايا بآخر، وعلى تقدير أن لا يكون وهم فيكون لعبدالعزيز فيه شيخان، وإذا تقرر هذا لا يسوغ الحكم بأنه موضوع، ولعل مستند من أطلق عليه الوضع تسميتهم المجوس وهو مسلمون، وجوابه أن المراد أنهم كالمجوس في إثبات فاعلين لا في جميع معتقد المجوس، ومن ثم ساغت إضافتهم إلى هذه الأمة. قلت: والحديث أخرجه أيضا الحاكم (85/71) والبخاري في

(1/442)


تاريخه والطبراني في الأوسط وأخرجه أحمد (ج2:ص86) من طريق أخرى لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة من تلك الطريق بلفظ: ((لكل أمة مجوس ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم))، ولأصل الحديث شواهد ذكرها السيوطي في تعقباته (5)، واستوفي طرقها وألفاظها في الآلي (ص133-135) وحقق نقلا عن الحافظ صلاح الدين العلائي أن للحديث أصلا، بل ينتهي إلى درجة الحسن المحتج به، فلا وجه للحكم بوضعه. هذا، وقد تعقب الشيخ أحمد محمد شاكر في شرح المسند (ج8: ص6) على جواب الحافظ فقال: أما إن المعاصرة كافية وتحمل على الاتصال فنعم، ولكن إذا لم يكن هناك ما يدل صراحة على عدم السماع، والدليل النقلي هنا على أن أباحازم لم يسمع من ابن عمرقائم، فقد قال ابنه ليحيى بن صالح: من حدثك أن أبي سمع من أحد من الصحابة غير سهل بن سعد فقد كذب. فهذا ابنه يقرر هذا على سبيل القطع، ومثل هذا لا ينقضه إلا إسناد آخر صحيح صريح في السماع، أما بكلمة "عن" فلا، ولذلك نص في التهذيب على أنه يروي عن ابن عمر وابن عمرو بن العاص ولم يسمع منهما. وترجمه البخاري في الكبير (2/2/79) فذكر من سمع منهم، فلم يذكر من الصحابة
1- لم أجد هذا الحديث في جامع الترمذي ولم أعلم في أي كتاب أخرجه وحسنه.
108- (30) وعن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم))، رواه أبوداود.
109- (31) وعن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ستة لعنتهم ولعنهم الله وكل نبي يجاب: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمتسلط بالجبروت ليعز من أذله الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/443)


إلا سهل بن سعد. وأما الرواية الأخرى التي فيها زكريا بن منظور فإن زكريا هذا ضعيف جدا، لينه أحمد بن حنبل. وقال أحمد بن صالح: ليس به بأس، وترجمة البخاري في الكبير (2/1/388) وقال: ليس بذلك، وترجمة في الصغير (213) فقال: منكر الحديث. وقال أبوزرعة: واهي الحديث، منكر الحديث، ونحو ذلك قال أبوحاتم. وقال ابن حبان منكر الحديث جدا، يروي عن أبي حازم ما لا أصل له من حديثه. وأما ما نقل السيوطي عن ابن حجر أن الترمذي حسنه فأخشى أن يكون وهما من الحافظ، فإن الترمذي لم يروه أصلا فيما تبين لي بعد البحث والتتبع – انتهى.
108- قوله: (لا تجالسوا أهل القدر) فإنه لا يؤمن أن يغمسوكم في ضلالتهم. (ولا تفاتحوهم) من الفتاحة بضم الفاء وكسرها أي الحكومة أي لا تحاكموا إليهم، يعني لا ترفعوا أموركم إلى حكامهم، وقيل: لا تبدؤوهم بالسلام أو بالكلام، قيل: لا تبتدؤوهم بالمناظرة والمجادلة في الاعتقاديات لئلا يقع أحدكم في شك. (رواه أبوداود) في السنة وسكت عليه هو المنذري، وفي سنده حكيم بن شريك الهذلي، وثقه ابن حبان وقواه، وقال أبوحاتم: مجهول. وأخرجه أيضا أحمد (ج1: ص30) والحاكم من طريق حكيم بن شريك هذا ولم يصححه، وإنما رواه شاهدا للحديث الذي قبله.

(1/444)


109- قوله: (ولعنهم الله) بالواو العاطفة وبدونها كما في المصابيح والجامع الصغير والمستدرك. قال القاري: وهو الأصح، ولم يعطفه على جملة قبله إما لأنه دعاء، وإما لكونه استئنافا، كأنه قيل: فماذا بعد؟ فأجب لعنهم الله، والثانية منبئة عن الأول أو قيل لماذا فبالعكس، وعلى هذا قوله: (وكل نبي يجاب) معترض بين البيان والمبين، أي من شأن كل نبي أن يكون مستجاب الدعوات، و"كل نبي" مبتدأ وخبره "يجاب" على بناء المفعول من المضارع أي جاب دعوته، وهو الرواية المشهورة، ويروي بالميم أي مجاب الدعوة، والجملة على الروايتين إما ابتدائية، وإما عطف على "ستة لعنتهم" أو حال من فاعل "لعنتهم"، وجملة "لعنهم الله" إنشائية للدعاء، معترضة بين الحال وصاحبها. وقال التوربشتي: لا يصح عطف "وكل نبي مجاب" على فاعل لعنتهم ومجاب صفة، وصححه الأشرف لوجود الفاصل – انتهى. (الزائد في كتاب الله) أي القرآن وسائر كتبه بأن يدخل فيه ما ليس فيه أو يأوله بما يأباه اللفظ ويخالف المحكم كما فعلت اليهود بالتوراة من التبديل والتحريف، والزيادة في كتاب الله في نظمه وحكمه كفر، وتأويله بما يخالف الكتاب والسنة بدعة، (والمسلط بالجبروت) أي الإنسان المستولي المتقوي الغالب أو الحاكم بالتكبر والعظمة الناشئ عن الشوكة والولاية، و"الجبروت" فعلوت من الجبر وهو القهر (ليعز من أذله الله) أي يرفع مرتبة من أذله الله لكفره أو لفسقه على المسلمين
ويذل من أعزه الله، والمستحل لحرم الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله، والتارك لسنتي))، رواه البيهقي في المدخل، ورزين في كتابه.
110- (32) وعن مطر بن عكامس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة))، رواه أحمد والترمذي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/445)


أو يحكمه فيهم (ويذل من أعزه الله) بأن يخفض مراتب العلماء والصلحاء أو نحوهم. (والمستحل لحرم الله) بفتح الحاء والراء يريد حرم مكة بأن يفعل فيه ما لا يحل فيه من الاصطياد وقطع الشجر. (والمستحل من عترتي ما حرم الله) أي من إيذائهم وترك تعظيمهم، والعترة: الأرقاب القريبة. وقال في القاموس: العترة بالكسر نسل الرجل وذريته، وتخصيص ذكر "لحرم" والعترة وكل مستحل محرم ملعون؛ لشرفهما وأن أحدهما منسوب إلى الله والآخر إلى رسول الله، فعلى هذا من في "من عترتي" ابتدائية. قال الطيبي: ويحتمل أن يكون بيانية بأن يكون المستحل من عترة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ففيه تعظيم الجرم الصادر عنهم (والتارك لسنتي) أي المعرض عنها باكلية أو بعضها استخفافا بها وقلة مبالاة فهو كافر وملعون، وتاركها تهاونا وتكاسلا لا عن استخفاف فهو عاص، واللعنة عليه من باب التغليظ (رواه البيهقي في المدخل) بفتح الميم والخاء (ورزين) أي ورواه رزين (في كتابه) وأخرجه أيضا النسائي كما في الجامع الصغير، والطبراني في الكبير، وابن حبان في صحيحه، والحاكم (ج1:ص36) وقال: صحيح الإسناد ولا أعرف له علة – انتهى. ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي (ج7:ص205): رجاله ثقات. وقد صححه ابن حبان، ونسبه الشيخ ناصر الدين الألباني في تعليقه على المشكاة للترمذي فقال: أخرجه الترمذي في القدر (ج2:ص23، 22) قال وأعله الترمذي بالإرسال وقال إنه أصح –انتهى. وإني لم أجده في أبواب القدر فلينظر. وأخرجه الحاكم عن علي أيضا.

(1/446)


110- قوله: (وعن مطر) بفتحتين (بن عكامس) بضم العين المهملة وتخفيف الكاف وكسر الميم بعدها سين مهملة، السلمي من بني سليم بن منصور، يعد في الكوفيين، له الحديث الآتي فقط ليس له غيره، لم يرو عنه غير أبي إسحاق السبيعي. اختلف في صحبته، قال أبوأحمد العسكري: قال بعضهم ليس له صحبة، وبعضهم يدخله في الصحابة. وقال أيضا، وأكثرهم يدخله في المسند. قلت: ذكره الحافظ في الإصابة (ج3:ص443) في القسم الأول من حرف الميم، وقال في التقريب صحابي. وكذا قال الخزرجي في الخلاصة، وقال ابن حبان له صحبة (إذا قضى الله) أي أراد أو قدر أو حكم في الأزل (جعل) أي أظهر الله (له إليها حاجة) أي ليسافر إليها فيتوفاه الله بها ويدفن فيها إشارة إلى قوله تعالى: ?وما تدري نفس بأي أرض تموت? [34:31]. وفي الحديث دليل على سبق القضاء والقدر (رواه أحمد) (ج5:ص227) (والترمذي) في القدر وقال: حسن غريب. وأخرجه أيضا أبوداود في القدر، والحاكم (ج1:ص42) وقال:
111- (33) وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلت: ((يا رسول الله ذراري المؤمنين؟ قال: من آبائهم، فقلت: يا رسول الله بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانو عاملين. قلت: فذراري المشركين؟ قال: من آبائهم، قلت:بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين))، رواه أبوداود.
112- (34) وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الوائدة والموؤدة في النار))،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيح على شرطهما. وأقره الذهبي، وأخرجه الترمذي وأحمد (ج3:ص429) والطبراني في الكبير، وأبونعيم في الحية، والحاكم (ج1:ص42) عن أبي عزة أيضا، وصححه الترمذي والحاكم، وفي الباب أيضا عن ابن مسعود أخرجه الحاكم (ج1:ص42، 41) قال الذهبي: على شرط الشيخين.

(1/447)


111- قوله: (ذراري المؤمنين) خبر مبتدأ محذوف، أي ما حكم ذراريهم، أهم في الجنة أم النار؟ (قال من آبائهم) من اتصالية كقوله تعالى: ?المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض? [67:9]. فالمعنى أنهم متصلون بآبائهم، فلهم حكمهم. قال التوربشتي: أي معدودون من جملتهم؛ لأن الشرع يحكم بالاسلام لإسلام أحد الأبوين، ويأمر بالصلاة عليهم، وبمراعاة أحكام المسلمين. وكذلك يحكم على ذراري المشركين بالاسترقاق ومراعاة أحكامهم وبانتفاء التوارث بينهم وبين المسلمين، فهم ملحقون في ظاهر الأمر بآبائهم. (قلت بلا عمل) هذا وارد منها على سبيل التعجب. (قال الله أعلم بما كانوا عاملين) أي لو بلغوا، ردا لتعجبها وإشارة إلى القدر ولهذا أورد الحديث في باب القدر. قال التوربشتي: يعني أنهم تبع لآبائهم في الدنيا، وأما في الآخرة فموكول أمرهم إلى علم الله تعالى بهم –انتهى. وقال القاضي: الثواب والعقاب ليسا بالأعمال وإلا لم يكن ذراري المسلمين والكفار من أهل الجنة والنار، بل الموجب اللطف الإلهي والخذلان المقدر لهم في الأزل، فالواجب فيهم التوقف وعدم الجزم فإن أعمالهم موكولة إلى علم الله فيما يعود إلى أمر الآخرة، والأعمال دلائل السعادة والشقاوة ولا يلزم من انتفاء الدليل انتفاء المدلول – انتهى. قلت: قد تقدم أن أولاد المسلمين يدخلون الجنة بالاتفاق، وأما أولاد المشركين فهم أيضا من أهل الجنة على القول المحقق الصحيح المؤيد بالكتاب والسنة، وأما حديث عائشة هذا وأمثاله فمؤولة أو محمولة على أنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك قبل أن يخبر أنهم من أهل الجنة (رواه أبوداود) في السنة وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضا أحمد.

(1/448)


112- قوله: (الوائدة) أي التي تدفن الولد حيا، وقيل هي القابلة، وخصها بالذكر؛ لأن أكثر ما كان الوأد من النساء أو لخصوص السبب (والموؤدة في النار) قال القاري: وأد بنته يئدها وأدا فهي موؤدة إذا دفنها في القبر وهي حية، وهذا كان من عادة بعض قبائل العرب في الجاهلية خوفا من الفقر أو فرارا من العار، قال القاضي: الوائدة في النار لكفرها وفعلها، والموؤدة فيها لكفرها تبعا لأبويها، ففيه دليل على تعذيب أطفال المشركين، وأوله من نفاه بأن
رواه أبوداود والترمذي.
?الفصل الثالث?
113- (35) عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله عزوجل فرغ إلى كل عبد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/449)


الوائدة: القابلة الدافنة لها، والموؤدة أمها الموؤدة لها فحذف الصلة – انتهى. ملخصا مختصرا. قلت: لابد من هذا التأويل ليصح كون الموؤدة في النار ولئلا يلزم التعارض، وأجيب أيضا بأن الحديث ورد في قضية خاصة، وهي أن ابني مليكة أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألاه عن أم لهما كانت تئد فقال - صلى الله عليه وسلم - -الحديث. أخرجه أحمد والنسائي، فأما الوائدة أي الأم فلأنها كافرة، وأما الموؤدة أي البنت المدفونة فلاحتمال كونها بالغة كافرة أو غير بالغة لكن النبي - صلى الله عليه وسلم -أخبر بأنها من أهل النار بقضاء الله وقدره في الأزل إما بوحي أو غيره وحينئذ فـ(ال) في "الموؤدة" ليست للاستغراق بل لعهد، فلا يجوز الحكم على أطفال المشركين بأنهم من أهل النار بحديث ابن مسعود هذا؛ لأن هذه واقعة عين في شخص معين، فلا يجوز إجراءه على عمومه في جميع الموؤدين وحمله على العموم مع الاحتمال المذكور، والعبرة وإن كانت لعموم اللفظ لا لخصوص السبب لكن يحمل ههنا على خصوص السبب دفعا للمعارضة بينه وبين الأحاديث الدالة على كون أولاد المشركين من أهل الجنة، ولا يخفى على هذا وجه المناسبة بين الحديث والباب. (رواه أبوداود) في السنة وسكت عنه هو والمنذري، وقال العزيزي: إسناده صحيح. وأخرجه أيضا ابن أبي حاتم في تفسيره، والطبراني في الكبير، والهيثم بن كليب في مسنده، وابن عدى ويحيى بن صاعد في مسنده، وأخرجه أحمد (ج3:ص478) والنسائي عن سلمة بن يزيد الجعفي مطولا بذكر السبب كما أشرنا إليه، وقد روى أحمد عن خنساء بنت معاوية الصريمية عن عمتها قالت: قلت: ((يارسول الله - صلى الله عليه وسلم - من في الجنة؟ قال: النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والموؤدة في الجنة))، كذا ذكره ابن كثير في تفسيره (والترمذي) كذا في نسخة وهي خطأ من النساخ جزما.

(1/450)


113- قوله: (عن أبي الدرداء) هو عويمر بن زيد، وقيل ابن عامر بن قيس الأنصاري الخزرجي، مشهور بكنيته وباسمه جميعا، واختلف في اسمه فقيل: اسمه عامر، وعويمر لقبه، أسلم يوم بدر وشهد أحدا وأبلى فيها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد: نعم الفارس عويمر. وقال: هو حكيم أمتي. كان عابدا فقيها عالما حكيما، سكن الشام، ومات بدمشق سنة (32). وقال الخزرجي: له مائة وتسعة وسبعون حديثا، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بثمانية أحاديث. جمع القرآن، وولى قضاء دمشق بأمر عمر بن الخطاب. وله فضائل جمة ومناقب كثيرة جدا. (فرغ إلى كل عبد) فرغ يستعمل باللام، واستعماله بإلى هنا لتضمين معنى الانتهاء أو يكون حالا بتقدير منتهيا، والمعنى انتهى تقديره في الأزل من تلك الأمور الخمسة إلى تدبير هذا العبد بإيدائها، ويجوز أن يكون بمعنى اللام، فيقال "هداه إلى
من خلقه من خمس: من أجله وعمله ومضجعه وأثره ورزقه)) رواه أحمد.
114- (36) وعن عائشة قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من تكلم في شيء من القدر سئل عنه يوم القيامة، ومن لم يتكلم فيه لم يسئل عنه)) رواه ابن ماجه.
115- (37) وعن ابن الديلمي قال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/451)


كذا ولكذا" وقوله: (من خلقه) صلة "فرغ" أي من خلقة العبد وما يختص به وما لابد منه من الأجل والعمل وغيرهما، وقوله: (من خمس) بدل منه بإعادة الجار. قال الطيبي: والوجه أن الخلق بمعنى المخلوق، و"من" فيه بيانية، و"من" في "خمس" متعلق بفرغ، وقيل من تبعيضية أي فرغ إلى كل عبد كائن من مخلوقه من خمس (من أجله) بفتحتين أي مدة عمره، ومن بيانية للخمس أو بدل بإعادة الجار (وعمله) أي خيره وشره (ومضجعه) أي سكونه وقراره، والظاهر أن المراد به مكان موته ومحل قبره (وأثره) أي حركته واضطراره أو أثر مشيه في الأرض أو ما يحصل له من الثواب والعقاب (ورزقه) أي حلاله وحرامه، كثيره وقليله. (رواه أحمد) (ج5:ص197) وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير والأوسط، والبزار. قال الهيثمي (ج7:ص195): وأحد إسنادي أحمد رجاله ثقات. وأخرج نحوه الطبراني في الأوسط عن ابن مسعود، وابن عساكر عن أنس.

(1/452)


114- قوله: (من تكلم في شيء من القدر) قيل "في شيء" ولم يقل " في القدر" ليفيد المبالغة في القلة وفي النهي عنه، أي من تكلم بشيء يسير منه يسئل عنه يوم القيامة، فكيف بالكثير منه (سئل عنه) سؤال تهديد ووعيد، ويحتمل أن يراد به مطلق السؤال. وقال القاري: أي كسائر الأقوال والأفعال، وجوزي كل ما يستحقه (لم يسأل عنه) بأن يقال: له "لم تركت التكلم فيه؟) فصار ترك التكلم فيه خيرا من التكلم فيه، فالشخص إذا آمن بالقدر ولم يبحث عنه لا يرد عليه سؤال الاعتراض بعدم التفحص، فإنه غير مأمور به، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - فيما تقدم على طريق الإنكار: بهذا أمرتم؟ أي بالتنازع بالبحث في القدر. وقال أيضا: إذا ذكر القدر فأمسكوا. أخرجه الطبراني عن ابن مسعود مرفوعا، فالمقصود من الحديث الزجر والمنع من التكلم في القدر والخوض فيه لعدم الفائدة فيه سوى السؤال والمناقشة يوم القيامة. (رواه ابن ماجه) في السنة، قال في الزوائد: إسناد هذا الحديث ضعيف لاتفاقهم على ضعف يحيى بن عثمان التيمي، قال فيه ابن معين والبخاري وابن حبان: منكر الحديث. زاد ابن حبان "لا يجوز الاحتجاج به". ويحيى بن عبدالله بن أبي مليكة، قال ابن حبان في الثقات: يعتبر بحديثه إذا روى عنه غير يحيى بن عثمان – انتهى. قلت: حديث عائشة هذا وإن كان ضعيفا لكنه تأيد بالأحاديث التي تدل على منع الخوض في القدر والبحث عنه.
115- قوله: (عن ابن الديلمي) بفتح الدال منسوب إلى الديلم، وهو الجبل المعروف بين الناس، وابن الديلمي
أتيت أبي بن كعب فقلت له: قد وقع في نفسي شيء من القدر فحدثني لعل الله أن يذهبه من قلبي. فقال: لو أن الله عزوجل عذب أهل سمواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهبا في سبيل الله ما قبله الله منك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/453)


هذا هو أبوبسر عبدالله بن فيروز الديلمي أخو الضحاك بن فيروز، كان يسكن بيت المقدس، ثقة من كبار التابعين، ومنهم من ذكره في الصحابة. وأبوه فيروز صحابي معروف، وقال المصنف في أسماء رجال المشكاة: ابن الديلمي هو الضحاك بن فيروز تابعي حديثه في المصريين، روى عن أبيه – انتهى. والراجح عندنا أن المراد بابن الديلمي ههنا هو عبدالله بن فيروز لا أخوه الضحاك؛ لأنه ليس للضحاك رواية عن أبي بن كعب، والله أعلم. (أتيت أبي ابن كعب) هو أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي النجاري المدني سيد القراء، شهد بدرا وما بعدها والعقبة الثانية، كناه النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا المنذر وعمر أبا الطفيل، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - سيد الأنصار وعمر سيد المسلمين، كان يكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - الوحي، وهو أحد الستة الذين حفظوا القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحد الفقهاء الستة الذين كانوا يفتون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أقرأ الصحابة لكتاب الله، كان عمر يسأله عن النوازل ويتحاكم إليه في المعضلات، وله مناقب جمة. روي له مائة وأربعة وستون حديثا، اتفق الشيخان على ثلاثة، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بسبعة، روى عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين. واختلف في سنة موته اختلافا كثيرا قيل/: سنة (19) وقيل (20) وقيل (22) وقيل (30) وقيل (32) وقيل (33) (قد وقع في نفسي شيء من القدر) أي حزازة واضطراب عظيم من جهة أمر القضاء والقدر باعتبار العقل أريد منك الخلاص منه، وقيل: "شي من القدر" أي لأجل القول بالقدر يريد أنه وقع في نفسه من الشبه لأجل القول بالقدر، أوالمراد بالقدر هو القول بنفي القدر الذي هو مذهب القدرية. (فحدثني) أي بحديث (لعل الله أن يذهبه) دخول "أن" في خبر لعل للتشبيه بعسى (فقال: لو أن الله عزوجل عذاب أهل سمواته) من

(1/454)


الملائكة (وأهل أرضه) من الأنبياء والأولياء وغيرهم (عذبهم وهو غير ظالم لهم) الواو للحال، إرشاد عظيم وبيان شاف لإزالة ما طلب منه؛ لأنه هدم قاعدة الحسن والقبح العقليين؛ لأنه مالك الأرض والسماوات وما فيهن، فله أن يتصرف في ملكه كيف يشاء ولا يتصور في تصرفه ظلم؛ لأنه تصرف في ملك الغير ولا ملك لغيره أصلا ثم عطف عليه (ولو رحمهم) إلخ إيذانا بأن النجاة من العذاب إنما هي برحمته وفضله لا بالأعمال الصالحة، فالرحمة خير منها فلو شاء أن يصيب برحمته الأولين والآخرين فله ذلك ولا يخرج ذلك عن حكمة (مثل أحد) بضمتين، جبل عظيم قرب المدينة (ذهبا) تمييز (في سبيل الله) أي مرضاته (ما قبله الله) أي ذلك الإنفاق أو مثل ذلك الجبل (منك) وهو تمثيل على سبيل الفرض لا تحديد إذ لو فرض إنفاق ملأ السماوات والأرض كان كذلك، وفيه إشارة
حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن لصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار. قال: ثم أتيت عبدالله بن مسعود فقال مثل ذلك. قال: ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك. ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك))، رواه أحمد وأبوداود وابن ماجة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/455)


إلى أنه لا قبول لعمل المبتدع عند الله تعالى أو هو مبنى على القول بكفر منكره (وتعلم) تخصيص بعد تعميم أن ما أصابك من النعمة والبلية أو الطاعة والمعصية مما قدره الله لك أو عليك (لم يكن ليخطئك) أي يتجاوز عنك فلا يصيبك، بل لا بد من إصابته، والحيل غير نافعة في دفعه، وعنوان لم يكن ليخطئك يدل على أنه محال أن يخطئك، والوجه في دلالته أن "لم يكن" يدل على المضي و"ليخطئك" يدل على الاستقبال بواسطة الصيغة سيما مع "أن" المقدرة فيدل على أنه ما كان قبل الإصابة في الأزمنة الماضية قابلا لأن يخطئك في المستقبل بواسطة تقدير الله تعالى وقضاءه في الأزل، بذلك قاله السندهي. (ولو مت) بضم الميم من مات يموت وبكسرها من مات يميت (على غير هذا) أي على اعتقاد غير هذا الذي ذكرت لك من الإيمان بالقدر (قال) أي ابن الديلمي (فقال مثل ذلك) أي مثل جواب أبي في سؤالي (ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك) فالحديث من طرق هؤلاء الثلاثة صار موقوفا. (ثم أتيت زيد بن ثابت) أفضل كتبة الوحي وأفرض الصحابة، وهو زيد بن ثابت بن الضحاك بن لوذان الأنصاري النجاري الخزرجي، أو سعيد ويقال أو خارجة المدني كاتب الوحي، استصغر يوم بدر، قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهو ابن أحد عشر سنة، وأول مشاهده الخندق، جمع القرآن وكتبه في عهد الصديق ونقله من المصحف في زمن عثمان، وأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتعلم كتاب يهود فتعلمه في نصف شهر فكان يكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كتب إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأه. قال الشعبي: غلب زيد الناس على اثنين: الفرائض والقرآن. وقال مسروق: كان أصحاب الفتوى من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة فسماه فيهم، وقال مسروق: قدمت المدينة فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم. وقال أبوهريرة يوم مات زيد: مات اليوم حبر الأمة، وعسى الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفا. وفضائله كثيرة، له

(1/456)


إثنان وتسعون حديثا، اتفقا على خمسة، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بواحد. روى عنه خلق كثير، مات بالمدينة سنة (45) وقيل سنة (48) وقيل سنة (51) وقيل سنة (55). (فحدثني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك) فصار الحديث من طريقه مرفوعا. قال الطيبي: في سؤاله من الصحابة واحدا بعد واحد واتفاقهم في الجواب من غير تغيير ثم انتهاء الجواب إلى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، دليل على الإجماع المستند إلى النص الجلي، فمن خالف ذلك فقد كابر الحق الصريح (رواه أحمد) في مسنده (ج5:ص182) (وأبوداود وابن ماجة) في السنة كلهم من طريق أبي سنان سعيد بن سنان عن وهب بن خالد عن ابن الديلمي، وأبوسنان هذا قال
116- (38) وعن نافع أن رجلا أتي ابن عمر فقال: إن فلانا يقرأ عليك السلام، فقال: إنه بلغني أنه قد أحدث، فإن كان قد أحدث فلا تقرئه مني السلام، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يكون في أمتي أو في هذه الأمة خسف ومسخ أو قذف في أهل القدر))، رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المنذري: وثقه يحيى بن معين وغيره وتكلم فيه الإمام أحمد وغيره وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه والطبراني في الكبير وغيرهما.

(1/457)


116- قوله: (وعن نافع) كنيته أبوعبدالله المدني، مولى ابن عمر أصابه في بعض مغازيه، ثقة ثبت فقيه من أوساط التابعين. قال المصنف: هو من المشهورين بالحديث ومن الثقات الذين يؤخذ عنهم ويجمع حديثهم ويعمل به، معظم حديث ابن عمر دائر عليه. قال مالك: كنت إذا سمعت من نافع يحدث عن ابن عمر لا أبالي أن لا أسمعه من غيره. وقال عبدالله بن عمر: لقد من الله تعالى علينا بنافع. قال البخاري: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر. روى عنه خلائق، مات سنة (117) أو بعد ذلك. (يقرأ عليك السلام) بفتح الياء والراء وفي نسخة يقريء أي بضم الياء وكسر الراء، قال في القاموس: قرأ عليه السلام أبلغه كأقرأه ولا يقال أقرأه إلا إذا كان السلام مكتوبا. (فقال) أي ابن عمر (إنه) أي الشأن وتفسيره الخبر وهو قوله: (بلغني أنه قد أحدث) أي ابتدع في الدين ماليس منه من التكذيب بالقدر (فإن كان قد أحدث) أي ما ذكر (فلا تقرئه مني السلام) قال الطيبي: كناية عن عدم قبول السلام. قال القاري: والأظهر أن مراده أن لا تبلغه مني السلام أورده فإنه ببدعته لا يستحق جواب السلام، ولوكان من أهل الإسلام. وقال ابن حجر: لاتقرئه مني السلام؛ لأنا أمرنا بمهاجرة أهل البدع، ومن ثم قال العلماء: لا يجب رد سلام الفاسق والمبتدع بل لا يسن زجرا لهما، ومن ثم جاز هجرهم لذلك (يكون في أمتي أو في هذه الأمة) أي أمة الإجابة و"أو" للشك (خسف) أي ذهاب في عمق الأرض (ومسخ) وفي نسخة "أومسخ" وكذا في جامع الترمذي، أي تغير الصورة (أو قذف) أي رمى بالحجارة من جهة السماء كقول لوط، و"أو" للتنويع لا للشك (في أهل القدر) بدل بعض من قوله: "في أمتي" بإعادة الجار، وفي سنن ابن ماجة "وذلك في أهل القدر" (رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجة) أخرجه الترمذي في القدر، وابن ماجة في الفتن كلاهما من طريق أبي عاصم عن حيوة بن شريح عن أبي صخر عن نافع بالسياق المذكور، ولم أجد الحديث في سنن أبي داود بهذا

(1/458)


اللفظ نعم أخرج هو في السنة عن أحمد بن حنبل عن عبدالله بن يزيد عن سعيد بن أبي أيوب عن أبي صخر عن نافع قال: كان لابن عمر صديق من أهل الشام يكاتبه فكتب إليه عبدالله بن عمر بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر، فإياك أن تكتب إلي فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنه سيكون في أمتي أقوام
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يكذبون القدر. قال المزي في الأطراف: هو في رواية ابن الأعرابي وأبي بكر بن داسة. وأخرجه أيضا أحمد (ج2:ص90) والحاكم (ج1:ص84) بهذا اللفظ، ورواه أحمد أيضا (ج2:ص108) بنحو الرواية المتقدمة في الفصل الثاني وفي (ج2:ص137، 136) بنحو الرواية التي نحن في شرحها (وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب) اعلم أن الغرابة لا تنافي الصحة فيجوز اجتماع الغرابة والصحة في حديث واحد من غير إشكال، وكذا لا شبهة في جواز اجتماع الغرابة والحسن كما أسلفنا، أما اجتماع الحسن والصحة فقد استشكلوه بأن الحسن قاصر عن الصحيح كما هو ظاهر من تعريفهما عند الجمهور، ففي الجمع بينهما في حديث واحد نفي ذلك القصور وإثباته. وأجيب عنه بوجوه منها: أن ذلك راجع إلى الإسناد فإذا روى الحديث بإسنادين، أحدهما إسناد حسن، والآخر صحيح استقام أن يقال فيه إنه حديث حسن صحيح، أي إنه حسن بالنسبة إلى إسناد، صحيح بالنسبة إلى إسناد آخر، وفيه أنه لا يصح في الآحاديث التي يقول فيها حسن صحيح مع أنه ليس له إلا مخرج واحد، وفي كلام الترمذي في مواضع يقول: هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ومنها أن الحسن لا يشترط فيه القصور عن الصحة إلا إذا اقتصر على قوله: "حسن" فالقصور يأتيه بسبب الاقتصار على ذكره لا من حيث حقيقته وذاته، وبيانه وتوضيحه أن ههنا صفات للرواة تقتضي قبول الرواة، ولتلك الصفات درجات بعضها فوق بعض كالتيقظ والحفظ والإتقان، فإذا وجدت الدرجة العليا لم يناف

(1/459)


ذلك وجود الدنيا كالحفظ مع الصدق فيصح أن يقال في هذا إنه حسن باعتبار وجود الصفة الدنيا وهي الصدق مثلا، صحيح باعتبار الصفة العليا وهي الحفظ والإتقان، ويلزم على هذا أن يكون كل صحيح حسنا، ويؤيده ورود قولهم هذا حديث حسن في الأحاديث الصحيحة، وهذا موجود في كلام المتقدمين ومنها أن المراد بقول الترمذي "حديث حسن صحيح" ماشابه الصحة والحسن، فهو إذن دون الصحيح، وشرح بيانه أن الجمع بين الحسن والصحة في حديث واحد رتبة متوسطة بين الصحيح والحسن، فالمقبول ثلاث مراتب: الصحيح أعلاها، والحسن أدناها، والثالثة ما يتشرب من كل منهما، فإن كل ما فيه شبه من شيئين ولم يتمحض لأحدهما اختص برتبة مفردة، كقولهم للمز وهو ما فيه حلاوة وحموضة: هذا حلو حامض. أي مز، فعلى هذا يكون ما يقول فيه "حسن صحيح" أعلى رتبة عنده من الحسن، ويكون حكمه بالصحة المحضة أقوى من حكمه عليه بالصحة مع الحسن، وفيه أنه تحكم لا دليل عليه وهو بعيد من فهمهم معنى كلام الترمذي. وفيه أيضا أنه يقتضي إثبات قسم ثالث، ولا قائل به فهو خرق لإجماعهم. وفيه أيضا أنه يلزم عليه أن لا يكون في كلام الترمذي حديث صحيح إلا قليلا لقلة اقتصاره على قوله: "هذا حديث صحيح"، مع أن الذي يعبر فيه بالصحة والحسن أكثره موجود في الصحيحين. ومنها أنه يريد الترمذي بقوله: "حسن صحيح" في هذه الصورة الخاصة الترادف، فيكون إتيانه باللفظ الثاني بعد الأول للتأكيد له كما يقال: حديث صحيح ثابت أو جيد قوي أو غير ذلك.

(1/460)


وفيه أن الحمل على التأسيس أولى من الحمل على التأكيد؛ لأن الأصل عدم التأكيد، لكن يندفع ذلك عند وجود القرينة الدالة على ذلك، وقد وجد في عبارة غير واحد كالدارقطني "هذا حديث صحيح ثابت"، ومنها أنه يجوز أن يريد الترمذي حقيقتهما الاصطلاحية في إسناد واحد لكن باعتبار حالين وزمانين، فيجوز أن يكون سمع هذا الحديث من رجل مرة في حال كونه مستورا أو مشهورا بالصدق والأمانة ثم ارتقى وارتفع حاله إلى درجة العدالة فسمعه منه مرة أخرى فأخبر بالوصفين، وقد روي عن غير واحد أنه سمع الحديث الواحد على شيخ واحد غير مرة. ومنها أنه يحتمل أن يكون الترمذي أدى اجتهاده إلى حسنه وأدى اجتهاد غيره إلى صحته أو بالعكس فهو باعتبار مذهبين. ومنها أن المراد حسن لذاته صحيح لغيره يعني أنه في أعلى درجات الحسن وأدنى درجات الصحة، ومنها أنه باعتبار صدق الوصفين على الحديث بالنسبة إلى أحوال رواته عند أئمة الحديث فإذا كان فيهم من يكون حديثه صحيحا عند قوم وحسنا عند قوم آخرين يقال فيه ذلك، وفيه أنه لو أراد ذلك لأتى بالواو التي للجمع فيقول حسن وصحيح. وفيه أيضا أن الترمذي إنما يحكم على الحديث بالنسبة إلى ما عنده لا بالنسبة إلى غيره. وفيه أيضا أنه يتوقف على اعتبار الأحاديث التي جمع الترمذي فيها بين الوصفين، فإن كان في بعضها مالا اختلاف فيه عند جميعهم في صحته قدح في الجواب. ومنها أن الحديث الذي يقول فيه الترمذي "حسن صحيح" إن وقع التفرد والغرابة في سنده فهو محمول على التردد الحاصل من المجتهد في الرواة هل اجتمعت فيهم صفة الصحة أو الحسن؟ فتردد أئمة الحديث في حال ناقله اقتضى للمجتهد أن يتردد ولا يصفه بأحد الوصفين جزما، فيقال فيه "حسن" باعتبار وصفه عند قوم "صحيح" باعتبار وصفه عند قوم، غاية ما فيه أنه حذف فيه حرف التردد، وكان حقه أن يقول: "حسن أو صحيح" وهذا كما يحذف حرف العطف من التعداد، وعلى هذا فما قيل فيه حسن صحيح دون ما قيل

(1/461)


فيه صحيح؛ لأن الجزم أقوى من التردد. ومنها أنه يجوز أن يكون مراده أن ذلك باعتبار وصفين مختلفين وهما الإسناد والحكم، فيجوز أن يكون قوله: حسن أي باعتبار إسناده، صحيح أي باعتبار حكمه؛ لأنه من قبيل المقبول، وكل مقبول يجوز أن يطلق عليه اسم الصحة، وهذا يمشي على قول من لا يفرد الحسن من الصحيح، بل يسمي الكل صحيحا، لكن يرد عليه أن الترمذي أكثر من الحكم بذلك على الأحاديث الصحيحة الإسناد. ومنها أنه أراد حسن على طريقة من يفرق بين النوعين لقصور رتبة رواية عن درجة الصحة المصطلحة، صحيح على طريقة من لا يفرق، ويرد عليه ما أوردناه سابقا. ومنها أنه أراد بالحسن معناه اللغوي، وهو ما تميل إليه النفس وتستحسنه ولا يأباه القلب، دون المعنى الاصطلاحي الذي نحن بصدده. وفيه أن حمل الألفاظ الاصطلاحية على معانيها المصطلحة واجب، ولا يجوز ترك الاصطلاح من غيرموجب. وفيه أيضا أنه يلزم أن يطلق لفظ الحسن على الحديث الضعيف، ولم يقل به أحد إلى الآن. ومنها أن المراد حسن باعتبار إسناده، صحيح أي أنه أصح شيء ورد في الباب، فإنه يقال أصح ما ورد كذا، وإن كان حسنا أو ضعيفا فالمراد أرجحه أو أقله ضعفا. هذا تلخيص ما في قوت المغتذي حاشية جامع الترمذي في هذا المبحث.
117- (39) وعن علي قال: سألت خديجة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ولدين ماتا لها في الجاهلية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هما في النار. قال: فلما رأى الكراهة في وجهها، قال: رأيت مكانهما لأبغضتهما. قالت: يارسول الله - صلى الله عليه وسلم - فولدي منك؟ قال: في الجنة، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ?والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم?
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/462)


117- قوله: (سألت خديجة) هي أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبدالعزى بن قصي القرشية، كانت تحت أبي هالة بن زراره ثم تزوجها عتيق بن عائذ ثم تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولها يومئذ من العمر أربعون سنة، وللنبي - صلى الله عليه وسلم - خمس وعشرون سنة، ولم ينكح النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلها امرأة ولا نكح عليها حتى ماتت. وهي أول من آمن من كافة الناس من ذكرهم وأنثاهم، وقيل: هي أول من آمن من النساء. وكانت تدعى قبل البعثة "الطاهرة"، وجميع أولاده منها غير إبراهيم فإنه من مارية القبطية. وماتت بمكة قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل: بأربع سنين وقيل: بثلاث وكان قد مضى من النبوة عشر سنين، وكان لها من العمر خمس وستون سنة، وكانت مدة مقامها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسا وعشرين سنة، ودفنت بالحجون. ومناقبها جمة، وفضائلها كثيرة جدا، بسط ترجمتها ابن عبدالبر في الاستيعاب، والحافظ في الإصابة. (عن ولدين) أي عن شأنهما وأنهما في الجنة أو النار؟ (فلما رأى) النبي - صلى الله عليه وسلم - (الكراهة) أي أثرها من الكآبة والحزن (قال) أي تسلية لها (لو رأيت مكانهما) وهو جهنم (لأبغضتهما) أي لو أبصرت منزلتهما في الحقارة والبعد من رحمة الله وعلمت بغض الله إياهما لأبغضتهما وتبرأت منهما تبرأ إبراهيم عن أبيه. (فولدي منك) المراد بأولادها منه - صلى الله عليه وسلم - القاسم وعبدالله، وقيل: الطيب والطاهر أيضا، وقيل: هما لقبان لعبدال، له وهو قول الأكثر (إن المؤمنين وأولادهم في الجنة) هذا لا خلاف فيه يعتد به (وإن المشركين وأولادهم في النار ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ?واللذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء? [سورة الطور:22]. قوله: ?والذين آمنوا? مرفوع على أنه مبتدأ والخبر الجملة من قوله: ?ألحقنا بهم ذريتهم? والذي بينهما اعتراض. قال البغوي:

(1/463)


اختلفوا في تفسير الآية، فقال قوم: معناها والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان يعني أولادهم الصغار والكبار فالكبار بإيمانهم بأنفسهم أي بأيمانهم الاستقلالي، والصغار بإيمان آبائهم، أي بإيمانهم التبعي، فإن الولد الصغير يحكم بإسلامه تبعا لأحد الأبوين، ?ألحقنا بهم ذريتهم? المؤمنين في الجنة بدرجاتهم وإن لم يبلغو بأعمالهم درجات آباءهم تكرمة لآبائهم لتقر بذلك أعينهم، وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال آخرون: معناها ?والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم? البالغون ?بإيمان ألحقنا ذريتهم? الصغار الذين
رواه أحمد.
118- (40) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط عن ظهره كل نسمة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/464)


لم يبلغوا الإيمان بإيمان آبائهم، وهو رواية العوفى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أخبر الله عزوجل أنه يجمع لعبده المؤمن ذريته في الجنة كما كان يحب في الدنيا أن يجتمعوا إليه، يدخلهم الجنة بفضله ويلحقهم بدرجته بعمل أبيه من غير أن ينقص الآباء من أعمالهم شيئا، فذلك قوله: ?وما ألتناهم? أي ما نقصناهم يعني الآباء ?من عملهم من شيء? ـ انتهى. ولا ريب أن هذا الإلحاق لكرامة آبائهم ومزيد سرورهم وتكميل نعيمهم وغبطتهم في الجنة وإلا فينغص عليهم كل نعيم، وهذا المعنى مفقود في الكفار . قال القارى: وظاهر الآية أن الذين آمنوا أعم من الآباء والأمهات . ولعل أولاد خديجة في النار؛ لأنها حال موتهم لم تكن مؤمنة، فلا ينافي قول العلماء: الولد الصغير يحكم بإسلامه تبعا لأحد الأبوين ـ انتهى. قلت:حديث على هذا بظاهره يدل على أن أولاد المشركين في النار خلافا لمن قال إنهم من أهل الجنة، ولمن قال بالتوقف فيهم بمعنى عدم العلم أو عدم الحكم فيهم بشيء، وقد تقدم أن الراجح فيهم قول من ذهب إلى أنهم في الجنة. وأجيب عن هذا الحديث بأن المراد بأولاد المشركين فيه أولادهم الكبار وكذا أولاد خديجة، والنزاع إنما هو في الصغار دون الكبار. والظاهر أن يقال: إن حديث على هذا لا يقاوم الأحاديث الدالة على كونهم من أهل الجنة، وهى حديث سمرة بن جندب في الرؤيا عند البخاري، وحديث خنساء بنت معاوية الصريمية عن عمتها عند أحمد، وحديث أنس عند أبي يعلى، فتقدم هذه الأحاديث على حديث علي، والله أعلم. (رواه أحمد) عزوه لأحمد خطأ وإنما رواه ابنه عبد الله في زيادات مسند أبيه (ج1:ص134). وإليه عزاه الهيثمى في مجمع الزوائد (ج7:ص217) وقال: وفيه محمد بن عثمان ولم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح. وقال الذهبي في الميزان (ج3:ص101) في ابن عثمان: لا يدرى من هو؟ فتشت عنه في أماكن، وله خبر منكر فذكر هذا الحديث. وقال الحافظ في اللسان (ج5:ص279) بعد ذكر كلام الذهبي

(1/465)


وسياق الحديث: قلت والذي يظهر لي أنه هو الواسطى المتقدم، هذا. وقال في (ج5:ص278) بعد ذكر كلام الذهبي: محمد بن عثمان الواسطي عن ثابت البناني، قال الأزدي: ضعيف، وذكره ابن حبان في الثقات فقال: روي عنه أبوعوانة ـ انتهى . وفيه أن الراوي عنه ههنا هو محمد بن فضيل لا أبوعوانة، والمروى عنه زاذان لا ثابت البناني، فالظاهر أنه غير الواسطى، والله أعلم. وذكر الحافظ في التعجيل (ج5:ص372) في ترجمة محمد بن عثمان عن زاذان: كلام الذهبي السابق ثم قال: قال شيخنا الهيثمي: ذكره ابن حبان في الثقات وأغفله الحسينى، قلت: وذكره الأزدى في الضعفاء ـ انتهى . والحديث رواه الطبراني وأبويعلى عن خديجة كما في مجمع الزوائد (ج7:ص217، 218) وسنده منقطع .
118ـ قوله: (فسقط) أي خرج (كل نسمة) بفتح النون والسين المهملة أي ذي روح، وقيل: كل ذى نفس،
هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عين كل إنسان منهم وبيصا من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أى رب من هؤلاء؟ قال ذريتك، فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه، قال: أي رب من هذا؟ قال: داود، فقال: أي رب كم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة، قال:رب زده من عمري أربعين سنة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلما انقضى عمر آدم إلا أربعين جاءه ملك الموت، فقال آدم: أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أولم تعطها ابنك داود؟ فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فأكل من الشجرة فنسيت ذريته، وخطأ آدم وخطأت ذريته))، رواه الترمذي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/466)


مأخوذة من النسيم (هو خالقها من ذريته) الجملة صفة نسمة، ذكرها ليتعلق بها قوله: " إلى يوم القيامة" و"من" بيانية، وفيه دليل على أن إخراج الذرية كان حقيقيا (وبيصا) أي بريقا ولمعانا (من نور) في ذكره إشارة إلى الفطرة السليمة، وفي قوله: "بين عيني كل إنسان" إيذان بأن الذرية كانت على صورة الإنسان على مقدار الذر (قال: ذريتك) أي هم ذريتك (فأعجبه) أي سره قال داود) قيل تخصيص التعجب من وبيص داود إظهار لكرامته ومدح له، فلا يلزم تفضيله على سائر الأنبياء؛ لأن المفضول قد يكون له مزية بل مزايا ليست في الفاضل، ولعل وجه الملائمة بينهم اشتراك نسبة الخلافة. (كم جعلت عمره) كم مفعول لما بعده، وقدم لما له الصدر أي كم سنة جعلت عمره (زده من عمري) أي من جملة الألف، و "من عمري" صفة "أربعين" قدمت فعادت حالا وقوله: (أربعين سنة) مفعول ثان لقوله: "زده" كقوله تعالى: ?رب زدني علما?. (إلا أربعين) أي سنة (أولم يبق من عمري) بهمزة الاستفهام الإنكاري المنصب على نفي البقاء فيقيد إثباته، وقدمت على الواو لصدارتها، والواو استئنافية لمجرد الربط بين ما قبلها وما بعدها. (أولم تعطها) أي أتقول ذلك ولم تعطها أي الأربعين (فحجه آدم) أي ذلك؛ لأنه كان في عالم الذر فلم يستحضره حالة مجئي ملك الموت له، قاله ابن حجر. وقيل: حج بحكم الجبلة التي فطر عليها الإنسان من الحرص على المال والعمر في زمان الشيب وكبر السن. (فجحدت ذريته)؛ لأن الولد سر لأبيه (ونسى آدم) إشارة إلى أن الجحد كان نسيانا أيضا إذ لا يجوز جحده عنادا (فأكل من الشجرة فنسيت ذريته) وفي رواية الترمذي "ونسى آدم فنسيت ذريته" أي بدون قوله: "فأكل من الشجرة" (وخطأ آدم) قال القاري: بفتح الطاء أي في اجتهاده من جهة التعيين والتخصيص، والظاهر أنه بكسر الطاء من باب سمع أي أذنب وعصى، لقوله تعالى:: ?وعصى آدم ربه? [121:20]. وفي الحديث إشارة إلى أن ابن آدم مجبول من أصل خلقته على

(1/467)


الجحد والنسيان والخطأ إلا من عصمه الله. (رواه الترمذي) في تفسير سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى: ?وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم..? الآية [172:7] وقال: حديث حسن صحيح. وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي- صلى الله عليه وسلم -، وأخرجه
119- (41) وعن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خلق الله آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم، فقال للذي في يمينه: إلى الجنة ولا أبالي، وقال للذي في كتفه اليسرى: إلى النار ولا أبالي))، رواه أحمد.
120- (42) وعن أبي نضرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أيضا الحاكم في مستدركه (ج2:ص586، 585) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وابن أبي حاتم في تفسيره. هذا، وقد أخرج الترمذي حديث أبي هريرة هذا في آخر كتاب التفسير من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبرى، وقد ذكره المصنف في الفصل الثالث من باب السلام، وبين الروايتين مخالفة ظاهرة ويأتي هناك وجه الجمع بينهما إن شاءالله تعالى.

(1/468)


119- قوله: (حين خلقه) قال الطيبي: ظرف لقوله: (فضرب) ولا يمنع الفاء من العمل؛ لأنه ظرف على أن الفاء السبية أيضا غير مانعة لعمل ما بعدها في ما قبلها. وقال السيد جمال الدين: ويحتمل أن يكون ظرفا لقوله: "خلق الله" والمقصود الإشارة إلى عدم العلم بزمان خلقه –انتهى. (ذرية بيضاء) أي نورانية (كأنهم الذر) بفتح الذال المعجمة، وهي صغار النمل، والتشبيه في الهيئة، وقيل: أي الأبيض بدليل مقابلة الآتي (كأنهم الحمم) بضم الحاء جمع حممة، وهي الفحم (فقال للذي في يمينه) أي في جهة يمين آدم من ذرية المؤمنين بعد إخراجهم من كتفه اليمنى، وقال ابن حجر: أي الذي في كتفه اليمنى بدليل "في كتفه اليسرى" الآتي فيكون باعتبار ما كان –انتهى. والمعنى يعني قال تعالى لآدم لأجل الذي في يمينه وعن قبلهم وفي حقهم. و"الذي" صفة لفريق، نحو قوله تعالى: ?كالذي خاضوا) (إلى الجنة) خبر مبتدأ محذوف أي هؤلاء أصيرهم أو أوصلهم إلى الجنة، (ولا أبالي) حال من الضمير المستكن في الخبر، أي والحال أني لا أبالي بأحد، كيف وأنا الفعال لما يريد، والخلق كلهم لي عبيد، فتصرفت فيهم كيف شئت. (وقال للذي في كتفه اليسرى) كذا في أكثر النسخ، وهذا باعتبار ما كان، وفي أصل السيد جمال الدين "كفه اليسرى" أي بفتح الكاف وتشديد الفاء، وكذا وقع في مسند أحمد (ج6:ص441) والظاهر أن ضمير "يمينه" و"كفه" إلى آدم، والمراد جهتاه، ونسخة "كتفه" صريحة في هذا المعنى، والحديث دليل على سبق القضاء على وفق علمه الأزلي، فإن القضاء نتيجة علمه تعالى. (رواه أحمد) (ج6:ص441). وأخرجه أيضا البزار والطبراني، قال الهيثمي (ج7:ص185): ورجاله رجال الصحيح. قال الشيخ الألباني بعد ذكره: إن عني رجالا غير رجال أحمد فقد يكونون كما ذكر، وإلا فرجاله ليسوا رجال الصحيح بل هم ثقات فقط-انتهى. فتأمل.
120- قوله: (وعن أبي نضرة) بنون ومعجمة ساكنة، اسمه المنذر بن مالك بن قطعة العبدي العوقي البصري،

(1/469)


أن رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال له أبوعبدالله، دخل عليه أصحابه يعودونه وهو يبكي، فقالوا له: ما يبكيك؟ ألم يقل لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خذ من شاربك ثم أقره حتى تلقاني؟ قال: بلى، ولكن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله عزوجل فبض بيمينه قبضة، وأخرى باليد الأخرى، وقال: هذه لهذه، وهذه لهذه، ولا أبالي. ولا أدري في أي القبضتين أنا؟)) رواه أحمد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/470)


مشهور بكنيته، ثقة من أوساط التابعين، مات سنة (108) أو (109). (أن رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال له أبوعبدالله) جهالة الصحابي لا تضر في الخبر حيث كلهم عدول، قال النووي في التقريب: الصحابة كلهم عدول من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتد به –انتهى. وارجع إلى التدريب (204) والمراد بالعدالة في قولهم "الصحابة كلهم عدول" هو التجنب عن تعمد الكذب في الرواية وانحراف فيها بارتكاب ما يوجب عدم قبولها، كما صرح بذلك الشاه عبدالعزيز الدهلوي في بعض إفادته. قال السخاوي في فتح المغيث: قال ابن الأنباري: ليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم واستحالة المعصية منهم، وإنما المراد قبول رواياتهم من غير تكلف البحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية إلا أن يثبت ارتكاب قادح، ولم يثبت ذلك 0انتهى. وارجع إلى ظفر الأماني في مختصر الجرجاني (ص312، 311) (يعودونه) من العبادة (وهو يبكي) جملة حالية (ألم يقل لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خذ من شاربك) أي بعضه يعني قصه (ثم أقره) بفتح الهمزة وكسر القاف وتشديد الراء، أي دم عليه (حتى تلقاني) أي على الحوض أو غيره، قال القاري: و "حتى" تحتمل الغاية والعلة. قال الطيبي: الهمزة للإنكار، دخلت على النفي فأفادت التقرير والتعجب أي كيف تبكي؟ وقد تقرر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدك بأنك تلقاه لا محالة، ومن لقيه راضيا عنه مثلك لا خوف عليه قال: بلى) أي أخبرني بذلك (قبض) أي بعض الذرية (بيمينه قبضة) أي واحدة (وأخرى) أي وقبض قبضة أخرى لبعض الذرية (باليد الأخرى) لم يقل بيساره أدبا، ولذا ورد في حديث آخر: وكلتا يديه يمين (وقال هذه) أي القبضة التي قبضها باليمين يعني من فيها أو هذه المقبوضة. (لهذه) أي للجنة (وهذه لهذه) أي للنار (ولا أبالي) أي في الحالتين (ولا أدري في أي القبضتين أنا) حاصل الجواب أني أخاف من عدم الاحتفال والاكتراث في قوله: "ولا أبالي"، كذا قاله

(1/471)


الطيبي. يعني غلب علي الخوف بالنظر إلى عظمته وجلاله بحيث منعني من النظر والتأمل في رحمته وجماله، فإنه تعالى لذاته وعدم مبالاته، له أن يفعل ما يريد، ولا يجب عليه شيء للعبيد، وأيضا لغلبة الخوف قد ينسى البشارة والرجاء بها مع أن البشارة مقيدة بالثبات والدوام والإقامة على طريق السنة والاستقامة، وهو أمر دقيق وبالخوف حقيق. قال الطيبي: وفي الحديث إشارة إلى أن قص الشارب من السنن المؤكدة، والمداومة عليه موصلة إلى قرب دار النعيم في جوار سيد المرسلين، فيعلم أن من ترك سنة أي سنة، فقد حرم خيرا كثيرا فكيف المواظبة على ترك سائرها. (رواه أحمد) (ج4:ص176، 177)
121- (43) وعن ابن عباس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان يعني عرفة، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلا قال: ?ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا. أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل، وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون?
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و (ج5:ص68) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج7:ص186): رجاله رجال الصحيح. وفي معني الحديث عن عبدالرحمن بن قتادة السلمى عند أحمد والحاكم، وعن أنس عند أبي يعلى، وعن أبي موسى وأبي سعيد وابن عمر ومعاذ بن جبل وآخرين، ذكرهم أحاديثهم الهيثمي في مجمع الزوائد مع الكلام عليها.

(1/472)


121- قوله: (أخذ الله الميثاق) يعني العهد أ ي أراد أخذه بدليل قوله: "فأخرج"، (بنعمان) كسلمان موضع بقرب عرفة بين مكة والطائف، قال الراوي (يعني عرفة) أي بقرب عرفة وبجوارها. (ذرأها) أي خلقها إلى يوم القيامة (فنثرهم) أي بثهم وفرقهم ونشرهم (بين يديه) أي قدام آدم (كالذر) أي مشبهين بالنمل في صغر الصورة. (ثم كلمهم قبلا) بضمتين وهو حال، أي كلمهم عيانا ومقابلة لا من وراء حجاب ولا أن يأمر أحدا من ملائكته (قال) استئناف بيان، وقيل بدل "من كلمهم". (ألست بربكم قالوا بلى) أنت ربنا، والصحيح أن جوابهم بقول "بلى" كان بالنطق وهم أحياء، عقلاء. (شهدنا) هذا من تتمة المقول، أي شهدنا على أنفسنا بذلك وأقررنا بوحدانيتك. (أن تقولوا) أي فعلنا ذلك كراهة أن تقولوا أي احتجاجا أو لئلا تقولوا (يوم القيامة) ظرف "أن تقولوا" (إنا كنا عن هذا) أي الميثاق أو الإقرار بالربوبية (غافلين) أي جاهلين لا نعرفه ولا نبهنا عليه. (إنما أشرك آباؤنا من قبل) أي من قبل ظهورنا ووجودنا أو من قبل إشراكنا (وكنا ذرية من بعدهم) أي فاقتدينا بهم، فاللوم عليهم لا علينا (أفتهلكنا) أي أتعلم ذلك فتعذبنا (بما فعل المبطلون) من آبائنا بتأسيس الشرك، والمعنى لا يمكنهم الاحتجاج بذلك مع إشهادهم على أنفسهم بالتوحيد والتذكير به على لسان صاحب المعجزة قائم مقام ذكره في النفوس. هذا، وقد تقدم في شرح حديث عمر في الفصل الثاني أن المعتزلة قالوا: لا يجوز تفسير هذه الآية بحديث عمر. وفي معناه حديث ابن عباس هذا، قال التوربشتي: لايحتمل حديث ابن عباس من التأويل ما يحتمله حديث عمر، ولا أرى المعتزلة يقابلون هذه الحجة إلا بقولهم: حديث ابن عباس هذا من الآحاد فلا نترك به ظاهر الكتاب. وإنما هربوا من القول في معنى الآية بما يقتضيه ظاهر الحديث، لمكان قوله: أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. فقالوا إن كان هذا الإقرار عن اضطرار حيث كوشفوا بحقيقة الأمر وشاهدوه

(1/473)


عين اليقين فلهم يوم القيامة أن يقولوا شهدنا يومئذ فلما زال عنا علمنا بالضرورة ووكلنا إلى آرائنا كان منا من أصاب ومنا من أخطأ، وإن كان عن استدلال ولكنهم عصموا عنده من الخطأ فلهم أن يقولوا أيدنا يوم الإقرار بالتوفيق والعصمة، وحرمناهما
رواه أحمد.
122- (44) وعن أبي كعب في قول الله عزوجل: ?وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم? قال: جمعهم فجعلهم أزواجا ثم صورهم فاستنطقهم فتكلموا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/474)


من بعد، ولو مددنا بهما لكانت شهادتنا في كل حين كشهادتنا في اليوم الأول. فقد تبين أن الميثاق ما ركز الله فيهم من العقول وآتاهم وأباءهم من البصائر؛ لأنها هي الحجة الباقية المانعة لهم أن يقولوا إناكنا عن هذا غافلين.؛ لأن الله تعالى جعل هذا الإقرار حجة عليهم في الإشراك كما جعل بعث الرسل حجة عليهم في الإيمان بما أخبروا به من الغيوب. قال الطيبي: وخلاصة ما قالوه أنه يلزم أن يكونوا محتجين يوم القيامة بأنه زال عنا علم الضرورة ووكلنا إلى آرائنا، فيقال لهم: كذبتهم بل أرسلنا رسلنا تترى يوقظونكم من سنة الغفلة. وأما قولهم حرمنا من التوفيق والعصمة من بعد ذلك، فجوابه: أن هذا مشترك الإلزام إذلهم أن يقولوا لا منفعة لنا في العقول والبصائر حيث حرمنا عن التوفيق والعصمة، والحق أن تحمل الأحاديث الواردة على ظواهرها ولا يقدم على الطعن فيها بأنها آحاد لمخالفتها لمعتقد أحد، ومن أقدم على هذا فقد خالف طريقة السلف الصالحين؛ لأنهم كانوا يثبتون خبر واحد عن واحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويجعلونه سنة – انتهى. وقال القطب الشيرازي ما حاصله: أن الله سبحانه وتعالى كان له ميثاقان مع بني آدم، أحدهما تهتدي إليه العقول من نصب الأدلة الباعثة على الاعتراف الحالي. وثانيهما المقالى الذي لا يهتدي إليه العقل بل يتوقف على توقيف واقف على أحوال العباد من الأزل إلى الأبد كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعلم الأمة ويخبرهم عن أن وراء الميثاق الذي يهتدون إليه بعقولهم ميثاقا آخر أزليا، فقال ما قال من مسح ظهر آدم عليه السلام في الأزل وإخراج الذرية من ظهره ليعرف منه أن هذا النسل الذي يخرج فيما لا يزال من أصلاب بني آدم الذر الذي أخرج في الأزل من صلب آدم، وأخذ منه الميثاق المقالي الأزلي كما أخذ منهم ما لا يزال بالتدريج حين أخرجوا الميثاق الحالي اللايزالي –انتهى. (رواه أحمد) (ج1:ص272).

(1/475)


وقال الهيثمي (ج7:ص189): رجاله رجال الصحيح. وأخرجه أيضا النسائي في كتاب التفسير من سننه الكبرى، وابن جرير، والحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه – انتهى. وقد روي هذا الحديث موقوفا على ابن عباس، قال ابن كثير: وهذا أي كونه موقوفا على ابن عباس أكثر وأثبت – انتهى. لكنه في حكم المرفوع؛ لأنه لا مسرح للاجتهاد فيه ولا مجال، فإنه لا سبيل إليه إلا السماع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويؤيده حديث عبدالله بن عمرو عند ابن جرير، وحديث أبي أمامة عند الطبراني وابن مردويه، وأثر أبي بن كعب الآتي بعده.
122- قوله: (في قول الله عزوجل) أي في تفسير قوله تعالى: (قال) أي أبي (جمعهم) أي الله بعد أن أخرجهم (أزواجا) أي ذكورا وإناثا أو أصنافا وهو الأظهر، وفسر الأصناف بقوله الآتي: فرأى الغني والفقير (ثم صورهم) أي على صورهم التي يكونون عليها بعد (فاستنطقهم) أي خلق فيهم العقل وطلب منهم النطق (فتكلموا) بماشاءالله أو بما
ثم أخذ عليهم العهد والميثاق وأشهدهم على أنفسهم، ألست بربكم؟ قالوا بلى، قال: فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا، إعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري، ولا تشركوا بي شيئا، إني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي، قالوا شهدنا بأنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك. فأقروا بذلك، ورفع عليهم آدم - عليه السلام - ينظر إليهم، فرأى الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك، فقال: رب لولا سويت بين عبادك؟ قال: إني أحببت أن أشكر. ورأى الأنبياء فيهم مثل السرج عليهم النور، خصوا بميثاق آخر في الرسالة والنبوة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/476)


سيأتي. (أشهدهم على أنفسهم) أي على ذواتهم أو قال لهم أشهدوا على أنفسكم (ألست بربكم) إما استئناف بيان وإما التقدير: أشهدهم بقوله: ألست بربكم. أي استشهدهم بهذا (قالوا بلى) أي شهدنا (فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع) أي زيادة على شهادتكم على أنفسكم (أن تقولوا) أي لئلا تقولوا (إعلموا) أي تحققوا الآن قبل مجيء ذلك الزمان وتبين الأمر بالعيان (إني) بكسر الهمزة استئناف أي إني مع هذا البيان (وأنزل عليكم كتبي) بواسطة رسلي فيها تبيان كل شيء مما يتعلق بعهدي وميثاقي (فأقروا بذلك) أي بجميع ما ذكر (ورفع) بالبناء للمجهول (عليهم) أي أشرف عليهم من مقام عال (ينظر إليهم) حال أو مفعول له بتقدير أن (فرأى) أي آدم منهم (الغني) صورة ومعنى باعتبار الآثار اللائحة (والفقير) يدا وقلبا. (وحسن الصورة) الظاهرة والباطنة (ودون ذلك) أي في الحسن أو غير ما ذكر (للولا سويت) أي لم ما سويت؟ (بين عبادك) والقصد به أن يبين له حكمته (إني أحببت أن أشكر) بصيغة المجهول، قال ابن حجر المكي: إن الغني يرى عظيم نعمة الغنى، والفقير يرى عظيم نعمة المعافاة من كدر الدنيا ونكدها وتعبها الذي لا حاصل له غير طول الحساب وترادف المحن وتوالي العذاب، وحسن الصورة يرى ما منحه من ذلك الجمال الظاهر الدال على الجمال الباطن غالبا، وغيره يرى أن عدم الجمال أدفع للفتنة وأسلم من المحنة، فكل هؤلاء يرون مزيد تلك النعم عليهم فيشكرون عليها، ولو تساووا في وصف واحد لم يتيقظوا لذلك. (ورأى) أي آدم (الأنبياء فيهم) أي حال كونهم مندرجين في جملتهم (مثل السرج) بضمتين جمع سراج بكسر المهملة (عليهم النور) أي يغلب عليهم النور كأنه بيان لوجه شبههم بالسرج (خصوا) بصيغة المجهول (بميثاق آخر) بعدما دخلوا في ميثاق العوام للاهتمام التام بمرامهم عليهم الصلاة والسلام، فقوله:" خصوا "إستئناف أو صفة للأنبياء (في الرسالة والنبوة) أ ي في شأنهما والقيام بحقهما

(1/477)


وهو قوله: تبارك وتعالى: ?وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم? إلى قوله: ?عيسى بن مريم? كان في تلك الأرواح فأرسله إلى مريم - عليها السلام -، فحدث عن أبي أنه دخل من فيها))، رواه أحمد.
123- (45) وعن أبي الدرداء قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نتذاكر ما يكون، إذ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا سمعتم بجبل زال عن مكانه فصدقوه، وإذا سمعتم برجل تغير عن خلقه فلا تصدقوا به، فإنه يصير إلى ما جبل عليه)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(وهو قوله: تبارك وتعالى) أي هذا الميثاق هو المراد بقوله: ?وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم? الآية من أوائل سورة الأحزاب، قال قتادة: أخذ الله الميثاق على النبيين خصوصا على أن يصدق بعضهم بعضا ويتبع بعضهم بعضا وأن ينصحوا لقومهم وأن يعبدوا الله ويدعوا الناس إلى عبادته وإلى الدين القيم، وأن يبلغوا رسالات ربهم، وذلك حين أخرجوا من صلب آدم كالذر – انتهى. ومثل هذه الآية قوله تعالى: ?وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدقا لما معكم لتؤمنون به ولتنصرنه...? الآية [81:3]. (كان) أي عيسى (في تلك الأرواح) أي أرواح الذرية (فأرسله) أي روحه، وهو يذكر ويؤنث أي مع جبريل (فحدث) بصيغة المجهول أي روى (أنه) أي الروح (دخل من فيها) أي من فمها إلى جوفها ثم رحمها. (رواه أحمد) كلا، بل رواه ابنه عبدالله في زوائد مسند أبيه (ج5:ص135). قال الهيثمي (ج7:ص25) بعد ذكر الحديث: رواه عبدالله بن أحمد عن شيخه محمد بن يعقوب الربالي وهو مستور وبقية رجاله رجال الصحيح – انتهى. وأخرجه أيضا ابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه في تفاسيرهم، وهو وإن كان موقوفا على أبي بن كعب من قوله:، لكنه مرفوع حكما فإنه لا سبيل إليه إلاالسماع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم.

(1/478)


123- قوله: (نتذاكر) أيمع بعضنا بحضرته وهو يسمع (مايكون) ما موصولة أي الذي يحدث من الحوادث أهو شيء مقضي مفروغ منه. فتوجد تلك الحوادث على طبقه أو شيء يوجد أنفا من غير سبق قضاء. (زال عن مكانه) أي الذي هو فيه وانتقل إلى غيره (فصدقوه) أي لإمكانه، وفي المسند "فصدقوا" أي بغير الضمير المنصوب قال العزيزي: أي اعتقدوا أن ذلك غير خارج عن دائرة الإمكان (تغير عن خلقه) بضم اللام وتسكن، أي خلقه، الأصلي بالكلي (فلا تصدقوا به) أي بالخبر عنه بذلك فإنه غير ممكن عادة (فإنه) أي الرجل، والمراد به الجنس (يصير) في كل ما يريد أن يفعله (إلى ما جبل عليه) من الأخلاق يعني الأمر على ما قدر وسبق حتى العجز والكيس، فإذا سمعتم بأن الكيس صار بليدا أو بالعكس فلا تصدقوا به. ضرب زوال الجبل مثلا تقريب. فإن هذا ممكن، وزوال الخلق المقدر عما كان في القدر غير ممكن. وقال المناوي: يعني وإن فرط منه على الندور خلاف ما يقتضيه طبعه فما هو
رواه أحمد.
124- (4) وعن أم سلمة، قالت: ((يارسول الله لا يزال يصيبك في كل عام وجع من الشاة المسمومة التي أكلت. قال: ما أصابني شيء منها إلا وهو مكتوب علي وآدم في طينته))، رواه ابن ماجة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/479)


إلا كطيف منام أو برق لمع، وما دام فكما لا يقدر الإنسان أن يصير سواد الشعر بياضا فكذا لا يقدر على تغير طبعه، أي الذي خلق عليه. وقدر له في الأزل. وقال القاري: التبديل الأصلي الذاتي غير ممكن كما أشار إليه الحديث، وأما التبديل الوصفي أي تبديل الأخلاق عن مقتضى العادة وتعديلها على سنن الاستقامة والعبادة فهو ممكن، بل العبد مأمور به ويسمى تهذيب النفس وتحسن الأخلاق. قال الله تعالى: ?قد أفلح من زكاها? وفي الحديث: حسنوا أخلاقكم. وارجع إلى فيض القدير (ج1:ص381) للمناوي، وإلى الإحياء للغزالي، فإنه قد استوفى الكلام في ذلك (رواه أحمد (ج6:ص443) من رواية الزهري أن أبا الدرداء قال: بينما... الخ. قال الهيثمي (ج7:ص196): رجاله رجال الصحيح، إلا أن الزهري لم يدرك أبا الدرداء –انتهى. وقال السخاوي: حديث منقطع. وكان مقتضى دأب المصنف أن يقول: روى الأحاديث الخمسة أحمد.

(1/480)


124- قوله: (وعن أم سلمة) بفتح اللام، هي أم المؤمنين هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم القرشية المخزومية، تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أبي سلمة بن عبدالله سنة أربع، وقيل: ثلاث، وعاشت بعد ذلك ستين سنة، وماتت سنة (62) وقيل سنة (61) وقيل: قبل ذلك، والأول أصح، ودفنت بالبقيع، قيل: وكان عمرها (84) سنة. قال الذهبي: هي آخر أمهات المؤمنين وفاة، لها ثلاث مائة وثمانية وسبعون حديثا، اتفقا على ثلاثة عشر، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بمثلها، روى عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين. (يصيبك) أي يحصل لك (وجع) فتح الجيم أي ألم (من الشاة) أي من أجل أثر الشاة (المسمومة التي أكلت) في خيبر (ما أصابني شيء منها) أي من تلك الشاة، أو من تلك الأكلة (ألا وهو) أي ذلك الشيء من الألم (وآدم في طينته) أي ما تم خلقه، وهو كناية عن تقدم التقدير الأزلي، وإلا فالتقدير سابق على وجود طينة آدم، قال الطيبي: هذا مثل للتقدير السابق لا تعيين، فإن كون آدم في طينته أيضا مقدر قبله – انتهى. والطينة القطعة من الطين والخلقة والجبلة. وقضية الشاة تأتي في باب المعجزات إن شاءالله تعالى. (رواه ابن ماجه) في باب السحر من آخر أبواب الطب، وفي سنده أبوبكر العنسي وهو ضعيف.
(4) باب إثبات عذاب القبر
?الفصل الأول?

(1/481)


(باب إثبات عذاب القبر) قال في اللمعات: المراد بالقبر هنا عالم البرزخ، قال تعالى: ?ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون? [ 100:23] وهو عالم بين الدنيا والآخرة له تعلق بكل منهما، وليس المراد به الحفرة التي يدفن فيها الميت، فرب ميت لا يدفن كالغريق، والحريق، والمأكول في بطن الحيوانات، يعذب، وينعم، ويسأل، وإنما خص العذاب بالذكر للاهتمام، ولأن العذاب أكثر لكثرة الكفار والعصاة –انتهى. قلت: حاصل ما قيل في بيان المراد من البرزخ أنه اسم لأنقطاع الحياة في هذا العالم المشهود، أي دار الدنيا، وابتداء حياة أخرى، فيبدأ شيء من العذاب أو النعيم بعد إنقطاع الحياة الدنيوية، فهو أول دار الجزاء، ثم توفى كل نفس ما كسبت يوم القيامة عند دخولها في جهنم أو الجنة، وإنما أضيف عذاب البرزخ ونعيمه إلى القبر لكون معظمه يقع فيه، ولكون الغالب على الموتى أن يقبروا، وإلا فالكافر ومن شاء الله عذابه من العصاة يعذب بعد موته ولو لم يدفن، ولكن ذلك محجوب عن الخلق إلا من شاءالله. وقيل: لا حاجة إلى التأويل فإن القبر اسم للمكان الذي يكون في الميت من الأرض، ولا شك أن محل الإنسان ومسكنه بعد انقطاع الحياة الدنيوية هي الأرض كما أنها كانت مسكنا له في حياته قبل موته، قال تعالى ?ألم نجعل الأرض كفاتا، أحياء وأمواتا? [77: 25، 26] أي ضامة للأحياء والأموات، تجمعهم وتضمهم وتحوزهم، فلا محل للميت إلا الأرض، سواء كان غريقا أو حريقا أو مأكولا في بطن الحيوانات من السباع على الأرض، والطيور في الهواء، والحيتان في البحر، فإن الغريق يرسب في الماء فيسقط إلى أسفله من الأرض، أو الجبل إن كان تحته جبل، وكذا الحريق بعد ما يصير رمادا لا يستقر إلا على الأرض سواء أذرى في البر أو البحر، وكذا المأكول، فإن الحيوانات التي تأكله لا تذهب بعد موتها إلا إلى الأرض، فتصير ترابا. والحاصل أن الأرض محل جميع الأجسام السفلية ومقرها لا ملجأ لها إلا إليها فهي

(1/482)


كفات لها. واعلم أنه قد تظاهرت الدلائل من الكتاب والسنة على ثبوت عذاب القبر، وأجمع عليه أهل السنة، ولا مانع في العقل أن يعيد الله الحياة في جزء من الجسد أو في جميعه على الخلاف المعروف فيثيبه ويعذبه، وإذا لم يمنعه العقل، وورد به الشرع وجب قبوله واعتقاده، ولا يمنع من ذلك كون الميت قد تفرقت أجزاءه كما يشاهد في العادة، أو أكلته السباع، والطيور، وحيتان البحر، كما أن الله تعالى يعيده للحشر وهو قادر على ذلك، فلا يستبعد تعلق روح الشخص الواحد في آن واحد بكل واحد من أجزائه المتفرقة في المشارق والمغارب، فإن تعلقه ليس على سبيل الحلول حتى يمنعه الحلول في جزء من الحلول في غيره، فلا استحالة في تعذيب ذرات الجسم في محالها، كيف وقد ثبت بالعقل والنقل الشعور في الجمادات؟ قال في مصابيح الجامع: وقد كثرت الأحاديث في عذاب القبر حتى قال غير واحد: إنها متواترة لا يصح عليها التواطئ وإن لم يصح مثلها لم يصح شيء من أمر الدين. قال أبوعثمان الحداد: وليس في قوله تعالى: ?لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى? [56:44] ما يعارض ما ثبت من عذاب القبر؛ لأن الله تعالى أخبر بحياة الشهداء قبل يوم القيامة، وليست مرادة
125- (1) عن البراء بن عازب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((المسلم إذا سئل في القبر، يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، فذلك قوله: ?يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة?
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/483)


بقوله تعالى: ?لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى? فكذا حياة المقبور قبل الحشر. قال ابن المنير: وأشكل ما في القضية أنه إذا ثبت حياتهم لزم أن يثبت موتهم بعد هذه الحياة ليجتمع الخلق كلهم في الموت عند قوله تعالى: ?لمن الملك اليوم? [16:40] ويلزم تعدد الموت، وقد قال ?لايذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى? الآية. والجواب الواضح عندي أن معنى قوله: ?لايذوقون فيها الموت? أي ألم الموت، فيكون الموت الذي يعقب الحياة الأخروية بعد الموت الأول لا يذاق ألمه البتة، ويجوز ذلك في حكم التقدير بلا إشكال، وما وضعت العرب اسم الموت إلا للمؤلم على ما فهموه، لا باعتبار كونه ضد الحياة، فعلى هذا يخلق الله لتلك الحياة الثانية ضدا يعدمها به، لا يسمى ذلك الضد موتا وإن كان للحياة ضد، جمعا بين الأدلة العقلية والنقلية واللغوية –انتهى. وقد ادعى قوم من الملاحدة، والزنادقة، والخوارج، وبعض المعتزلة عدم ذكر عذاب القبر في القرآن، وزعموا أنه لم يرد ذكره إلا من أخبار الآحاد. وهو مردودو عليهم، قد بسط الكلام في الرد عليهم الإمام الحافظ ابن القيم في كتاب الروح، فعليك أن تطالعه، فإنه كتاب جليل القدر، ماصنف مثله في معناه، يشتمل على جملة من المسائل، تتضمن الكلام على أرواح الأموات والأحياء.

(1/484)


125- قوله: (عن البراء) بموحدة مفتوحة وخفة راء ومد (بن عازب) بن الحارث بن عدى الأنصاري الأوسي، كنيته أبوعمارة المدني الصحابي ابن الصحابي، نزل الكوفة، استصغر يوم بدر، وكان هو وابن عمر لدة. أول مشاهده أحد، وقيل: الخندق. غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة عزوة، وافتتح الري سنة (24) وشهد مع علي ابن أبي طالب الجمل وصفين ونهروان. مات بالكوفة سنة (72) له ثلاثمائة حديث وخمسة أحاديث، اتفقا على اثنين وعشرين، وانفرد البخاري بخمسة عشر، ومسلم بستة، روى عنه خلق. (قال المسلم) وفي رواية: المؤمن، والمراد به الجنس، فيشمل المذكر والمؤنث، أو يعرف حكمها بالتبعية (إذا سئل في القبر) التخصيص للعادة، أوكل موضع فيه مقره فهو قبره، والمسئول عنه محذوف، أي عن ربه، ونبيه، ودينه، لما ثبت في الأحاديث الأخر (يشهد أن لاإله إلا الله، وأن محمدا رسول الله) أي يجيب بأن لا رب إلا الله، ولا إله سواه، وبأن نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويلزم منه أن دينه الإسلام (فذلك) أي فمصداق ذلك الحكم (قوله) أي تعالى (بالقول الثابت) أي الذي ثبت بالحجة عندهم، وهي كلمة التوحيد، وثبوتها تمكنها في القلب، واعتقاد حقيقتها، واطمئنان القلب بها. قيل: الباء للسببية متعلقة بيثبت، وكذا (في الحياة الدنيا) أي قبل الموت، بأن لا يزالوا عنه إذا فتنوا في دينهم، ولم يرتابوا بالشبهات، وإن ألقوا في النار، كما ثبت الذين فتنتهم أصحاب الأخدود، والذين نشروا بالمناشير. (وفي الآخرة) أي في القبر بتلقين الجواب والتمكين على
وفي رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((?يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت? نزلت في عذاب القبر، يقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله ونبي محمد)). متفق عليه.

(1/485)


126- (2) وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه، فيقولان: ما كنت تقول
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصواب عند سؤال الملكين بعد إعادة أرواحهم في أجسادهم، وإنما حصل لهم الثبات في القبر بسبب مواظبتهم في الدنيا على هذا القول، وقيل: في الحياة الدنيا أي في القبر عند السؤال، وفي الآخرة أي عند البعث إذا سئلوا عن معتقدهم في الموقف، فلا يتلعثمون ولا تدهشهم أهوال القيامة، والأول أظهر. (قال: يثبت الله) مبتدأ أي آية يثبت الله ?الذين آمنوا بالقول الثابت? أي إلى قوله: ?ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء? [27:14] (نزلت في عذاب القبر) أي في السؤال في القبر، ولما كان السؤال يكون سببا للعذاب في الجملة ولو في حق بعض عبر عنه باسم العذاب. قال الكرماني: ليس في الآية ذكر عذاب القبر أي للمؤمن، فلعله سمى أحوال العبد في قبره عذاب القبر تغليبا لفتنة الكافر على فتنة المؤمن لأجل التخويف؛ ولأن القبر مقام الهول والوحشة، ولأن ملاقاة الملائكة مما يهاب منه ابن آدم في العادة –انتهى. قال القاري: وفيه أن المراد إثبات عذاب القبر مجملا، غايته أن عذاب المؤمن الفاسق مسكوت عنه كما هو دأب القرآن في الاقتصار على حكم الفريقين، وهذا المقدار من الدليل حجة على المخالف إذ لا قائل بالفصل – انتهى. ويدل على عذاب القبر للكافر بل لكل من ظلم نفسه آخر الآية، وهو قوله: ?ويضل الله الظالمين? أي يضلهم عنه ولا يلقنهم إياه، فلا يقدرون على التكلم به في قبورهم، ولا عند الحساب، ويقولون: لا أدري، ?ويفعل الله ما يشاء? من تثبيت بعض وإضلال آخرين، ولا اعتراض عليه. (يقال له) أي لصاحب القبر (ونبي محمد) زاد في الجواب تبجحا، أو"ومن نبيك"؟ مقدر في السؤال، أو لأن السؤال عن التوحيد يستلزمه إذ لم يعتد به دونه. وفي المصابيح: نزلت

(1/486)


في عذاب القبر إذا قيل له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ يقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبي محمد. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائر، وفي التفسير، ومسلم في صفة النار، ولفظ الرواية الأولى للبخاري في التفسير، ولفظ الرواية الثانية لمسلم. وأخرجه أيضا أحمد في مسنده، والترمذي في التفسير، وأبوداود في السنة، والنسائي في الجنائر، وفي التفسير. وابن ماجه في الزهد، ولحديث البراء هذا شواهد تدل على أن هذه الآية نزلت في عذاب القبر، ذكرها ابن كثير في تفسيره، والمنذري في ترغيبه، والهيثمي في مجمع الزوائد.
126- قوله: (إن العبد) المراد به الجنس (إذا وضع) شرط وجوابه "أتاه" والجملة خبر إن (وتولى) أي أدبر (عنه) أي عن قبره (إنه) حال بحذف الواو، وقيل: إنه جواب الشرط على حذف الفاء، فيكون "أتاه" حالا من فاعل يسمع، وقد مقدرة، ويحتمل أن يكون "إذا" ظرفا محضا، وقوله: "إنه" تأكيد لقوله: (إن العبد ليسمع قرع نعالهم) زاد
في هذا الرجل؟ لمحمد. فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبدالله ورسوله. فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة، فيراهما جميعا. وأما المنافق والكافر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/487)


مسلم: (إذا انصرفوا). "والقرع" بفتح القاف وسكون الراء، و"النعال" بكسر النون، جمع نعل أي يسمع صوت دقها، وفيه دلالة على حياة الميت في القبر؛ لأن الإحساس بدون الحياة ممتنع عادة. وفيه دليل على جواز المشي بالنعال في القبور لكونه - صلى الله عليه وسلم - قاله وأقره، فلو كان مكروها لبينه، لكن يعكر عليه احتمال أن يكون المراد سماعه إياها بعد أن يجاوزوا المقبرة. قال الشوكاني: سماع الميت خفق النعال لا يستلزم المشي على قبر أو بين القبور –انتهى. وأيضا يجوز أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر ذلك على عادات الناس، فلا يلزم من هذه الحكاية من غير إنكار تقرير مشيهم بها. ويدل على الكراهة حديث الأمر بإلقاء السبتيتين للماشي بين القبور عند أبي داود والنسائي وابن ماجة، لكن يحتمل أن أمره بالخلع كان لقذر بهما كما قال الطحاوي، أو لاختياله في مشيه كما قال الخطابي، لا لكون المشي بين القبور بالنعال مكروها، ولا يتم الاستدلال به على الكراهة إلا إذا قيل: إن الأمر بالخلق كان احتراما للمقابر. ومال النسائي إلى الجمع بين الحديثين بحمل حديث أنس هذا على غير السبتيتين، والكراهة إنما هي في النعال السبتية واختاره ابن حزم. قلت: حديث أنس يدل بإطلاقه على جواز المشي بين القبور في النعال السبتيتين وغيرها لعدم الفارق بينها وبين غيرها، واحتمال كون المراد سماعه إياها بعد مجاوزتهم المقبرة بعد جدا، وكذا حمله على عادات الناس أيضا بعيد خلاف الظاهر، وأما حديث السبتيتين فلا يتم الاستدلال به إلا على بعض الوجوه كما تقدم، وأيضا حديث أنس أرجح منه فيقدم عليه، وأيضا هو قضية شخصية معينة تحتمل الخصوص وغير ذلك. (في هذا الرجل) أي في شأنه، واللام للعهد الذهني (لمحمد) بيان من الراوي للرجل، أي لأجل محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال الطيبي: دعاؤه بالرجل من كلام الملك، فعبر بهذه العبارة التي ليس فيها تعظيم امتحانا للمسئول، لئلا يتلقن تعظيمه

(1/488)


عن عبارة القائل، ثم يثبت الله الذين آمنوا – انتهى. ولا يلزم من الإشارة ما قيل من رفع الحجب بين الميت وبينه - صلى الله عليه وسلم - حتى يراه، ويسئل عنه؛ لأن مثل ذلك لا يثبت بالاحتمال، على أنه مقام امتحان، وعدم رؤية شخصه الكريم أقوى في الامتحان، ولا ما تفوه به بعض الجهلة من أنه - صلى الله عليه وسلم - يحضر الميت في قبره بجسده وروحه؛ لأن الإشارة بهذا للحاضر في الذهن كما في تنوير الحوالك للسيوطي، فإن الإشارة كما تكون للحاضر في الخارج كذلك تكون للحاضر في الذهن أيضا، ويدل على بطلان القولين، وعلى كون الإشارة ههنا إلى الموجود الحاضر في الذهن رواية أحمد، والطبراني بلفظ: ((ما تقول في هذا الرجل؟ قال: من؟ قال محمد. فيقول...)) الخ. فإنه لو كشف - صلى الله عليه وسلم - للميت، أو حضره في القبر لما احتاج إلى السؤال بقوله: "من" فتأمل (فأما المؤمن فيقول) أي في جوابه لهما مع اعترافه بالتوحيد كما في حديث البراء وغيره (فيقال له) أي على لسان الملكين (انظر إلى مقعدك من النار) لو لم تكن مؤمنا ولم تجب الملكين (قد أبدلك الله به) أي بمقعدك هذا (فيراهما) أي المقعدين (جميعا) ليزداد فرحه (وأما المنافق والكافر)
فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/489)


بواو العطف، وهي رواية البخاري في باب عذاب القبر من الجنائز، ووقع عنه في باب خفق النعال في هذا الحديث: وأما الكافر أو المنافق، بالشك، واختلفوا في أن السؤال في القبر هل هو عام في حق المسلمين والمنافقين والكفار، أو يختص بالمسلم والمنافق؟ فقيل: يختص بمن يدعى الإيمان إن كان محقا أو مبطلا، مال إليه ابن عبدالبر والسيوطي، ولا دليل لهما على هذا القول، لا من كتاب الله ولا من سنة صحيحة. والحق أن الكافر غير المنافق أيضا يسئل في القبر، لما ورد في ذلك من الأحاديث المرفوعة الصحيحة الكثيرة الطرق، ذكرها الحافظ في الفتح في باب عذاب القبر، وبه جزم الترمذي الحكيم والقرطبي، ورواية الكتاب صريحة في ذلك حيث جمع بين المنافق والكافر بواو العطف، والأصل في العطف المغايرة، فيدل على أن كلا من المنافق والكافر الذي لم ينطق بالكلمة وقد بلغته الدعوة يسئل، ويؤيده قوله: ?ويضل الله الظالمين? حيث ذكر الظالمين في مقابلة "الذي آمنوا" والظالم يعم الكافر والمنافق، وتخصيص الكافر شامل للمنافق وغيره بأهل الشك من أهل القبلة لا موجب له. وأما الرواية الأخرى أي بلفظ "وأما الكافر أو المنافق" فلا تنافي رواية الواو؛ لأن الترديد إما للشك أو لمنع الخلو، فإن كان الأول فالمحفوظ إما "الكافر" فهو صريح في المقصود، أو "المنافق" فلا دلالة في الحديث على الانحصار فيه، إذ غايته إفراد المنافق بالذكر، وهو لا ينافي أن يسئل غيره من الكفار، وإن كان الثاني جاز الجمع بينهما بالسؤال تحقيقا لمنع الخلو، وعلى التقديرين لا منافاة بين الروايتين، وأما رواية أسماء بلفظ: "أما المنافق أو المرتاب" فلا دليل فيها على حمل الكافر على المنافق، إذ ليس فيها إلا الترديد بين المنافق والمرتاب، فإن قلنا: إن الترديد للشك، وإن المنافق والمرتاب متساويان لغة، فغايته أن يكون كرواية الترمذي في إفراد المنافق بالذكر، ولا دليل في ذلك على انحصار السؤال فيه لما مر. وإن

(1/490)


قلنا بأن المرتاب أعم لجواز أن من بلغته دعوة الإسلام ولم ينطق بالكلمة لا يكون جازما بالتكذيب. وإن قلنا: إن الترديد لمنع الخلو فالأمر واضح، إذ غاية ما فيه الترديد بين المنافق وبين الكافر المرتاب، وقد تبين أن إفراد المنافق بالذكر لا يدل على انحصار السؤال فيه فكيف إذا ذكر معه بعض الكفار؟ كذا حققه بعض العلماء في شرحه على العقائد، وقال الإمام ابن القيم في كتاب الروح بعد ذكر قول ابن عبدالبر ما لفظه: والقرآن والسنة تدل على خلاف هذا القول أن السؤال للكافر والمسلم، قال تعالى: ?ويثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء? وقد ثبت في الصحيح أنها نزلت في عذاب القبر، ثم ذكر حديث أنس هذا وغيره من الأحاديث الدالة على عموم السؤال لكل أحد مسلما كان أو منافقا أو كافرا خالصا، وقال الحافظ: الأحاديث الناصة على أن الكافر يسئل مرفوعة، مع كثرة طرقها الصحيحة، فهي أولى بالقبول – انتهى. والحكمة في سؤال الكافر في القبر إظهار شرف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخصوصيته، ومزيته على سائر الأنبياء، فإن سؤال القبر إنما جعل تعظيما له وخصوصية شرف بأن الميت يسأل عنه في قبره، وارجع للتفصيل إلى كتاب الروح. (لا أدري) أي حقيقة أنه نبي أم لا (كنت أقول) أي في الدنيا (ما يقول الناس)
فيقال له: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين)). متفق عليه. ولفظه للبخاري.
127- (3) وعن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/491)


أي المسلمون، يجيب بذلك المنافق والكافر كلاهما، أما المنافق فلأنه كان يقول في الدنيا الشهادتين تقيه من غير اعتقاد، وأما الكافر فيقول ذلك في القبر كذبا، ودفعا لعذاب القبر عن نفسه (لادريت) أي لا علمت ما هو الحق والصواب (ولا تليت) أصله تلوت - بالواو، والمحدثون إنما يروونه بالياء للازدواج، أي لا علمت بالنظر والاستدلال العقلي، ولا قرأت القرآن لتعلمه منه بالدليل النقلي، ويؤيده ما في حديث البراء في الفصل الثاني. وقيل: معناه ولا اتبعت من يدري. (ويضرب بمطارق) من الطرق - وهو الضرب، والمطرقة آلة الضرب (ضربة) أي بين أذنيه، أفرد الضربة مع جمع المطارق للإشارة إلى أنها تجتمع عليه في وقت واحد فصارت كالضربة الواحدة صورة. (يسمعها) أي تلك الصيحة (من يليه) من الدواب والملائكة، وعبر بمن تغليبا للملائكة لشرفهم، ولا يذهب فيه إلى المفهوم من أن من بعد لا يسمع، لما في حديث البراء الآتي في الفصل الثاني من أنه يسمعها ما بين المشرق والمغرب، والمفهوم لا يعارض المنطوق. (غير الثقلين) أي الجن والإنس، ونصب "غير" على الاستثناء، وقيل: بالرفع على البدلية، واستثنيا لأنهما بمعزل عن سماع ذلك لئلا يفوت الإيمان بالغيب، وقيل: لو سمعوه لأعرضوا عن التدابير والصنائع ونحوهما، فينقطع المعاش، ويختل نظام العالم، قال ابن القيم: فإذا شاءالله سبحانه أن يطلع على ذلك بعض عبيده أطلعه، وغيبه عن غيره، إذ لو اطلع العباد كلهم لزالت كلمة التكليف والإيمان بالغيب، ولما تدافن الناس كما في الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم -: ((لو لا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع)). ولما كانت هذه الحكمة المنتفية في حق البهائم سمعت ذلك وأردكته، كما حادت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغلته، وكادت تلقيه لما مر بمن يعذب في قبره. (متفق عليه) أي على أصل الحديث أو أكثر، وإلا فرواية مسلم انتهت إلى قوله: فيراهما جميعا (ولفظه

(1/492)


للبخاري) في باب عذاب القبر من الجنائر، وأخرجه أيضا أبوداود، والنسائي، وعبد بن حميد.
127- قوله: (عرض عليه) بأن تعاد الروح إلى بدنه ليدرك ذلك وتصح مخاطبته، وهل العرض مرة واحدة بالغداة ومرة أخرى بالعشي فقط، أوكل غداة وكل عشي؟ والأول موافق لحديث أنس المتقدم، وللأحاديث الواردة في سياق المسألة، والله أعلم. ويكون عرض المقعدين على كل واحد من المؤمن المخلص والكافر والمؤمن المخلط؛ لأنه يدخل الجنة في الجملة، فيرى مقعده في الجنة، فيقال له: هذا مقعدك وستصير إليه بعد مجازاتك بالعقوبة على ما تستحق (مقعده) أي أظهر له مكانه الخاص من الجنة أو النار. (بالغداة والعشي) أي طرفي النهار، أو المراد الدوام، قاله
إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة)) متفق عليه.
128- (4) وعن عائشة - رضي الله عنه -: ((أن يهودية دخلت عليها، فذكرت عذاب القبر، فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - عن عذاب القبر. فقال: نعم عذاب القبر حق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/493)


القاري. وقيل: أي وقتهما يعني أول النهار وآخره بالنسبة إلى أهل الدنيا، وإلا فالموتى لا صباح عندهم ولا مساء. (إن كان) أي الميت (فمن أهل الجنة) أي فالمعروض عليه من مقاعد أهل الجنة، فحذف المبتدأ والمضاف المجرور، وأقيم المضاف إليه مقامه، أو فمقعد من مقاعد أهل الجنة يعرض عليه، وهذا أكثر حذفا (فيقال) أي لكل واحد منهما (هذا) أي المقعد المعروض عليك (مقعدك حتى يبعثك الله إليه) الضمير يرجع إلى المقعد المعروض، أي المقعد المعروض مقعدك بعد، ولا تدخله الآن ولا تصل إليه حتى يبعثك الله إليه. وقيل: حتى غاية للعرض أي يعرض عليك إلى البعث، ويحتمل أن يكون الإشارة إلى القبر، والضمير في "إليه" يرجع إلى المقعد المعروض. والمعنى القبر مقعدك إلى أن يبعثك الله إلى المقعد المعروض، ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله، أي لقاء الله، أو إلى يوم الحشر، أي هذا الآن مقعدك إلى يوم الحشر فترى عند ذلك هوانا أو كرامة تنسى عنده هذا المقعد، وفي عرض المقعد تنعيم للمؤمن وتعذيب للكافر والمنافق، ففيه إثبات عذاب القبر، وأن الروح لا تفنى بفناء الجسد؛ لأن العرض لا يقع إلا على حي (متفق عليه). وأخرجه أيضا مالك، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وأبوداود دون قوله: "فيقال" إلى آخره.

(1/494)


128- قوله: (فقالت) أي اليهودية، وهو يحتمل أن يكون تفسيرا أو تفريعا. (أعاذك الله) أي حفظك وأجارك (عن عذاب القبر) أي أحق هو؟ (نعم عذاب القبر حق) أي ثابت ومتحقق وكائن وصدق. فيه أنه أقر اليهودية على أن عذاب القبر حق، وهذا مخالف لما في رواية لمسلم: إنما تفتن يهود. ولما في رواية لأحمد بإسناد على شرط البخاري: كذبت يهود لا عذاب دون يوم القيامة. والجمع بين هذه الروايات أنه أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قول اليهودية أولا أي قبل أن ينزل شيء عليه في عذاب القبر، ثم أعلم بذلك في آخر الأمر فأقرها وأمر الناس بالتعوذ كما في رواية أحمد التي أشرنا إليها: ((ثم مكث بعد ذلك ما شاءالله أن يمكث، فخر ذات يوم نصف النهار وهو ينادي بأعلى صوته: أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر فإن عذاب القبر حق)). ويوضح ذلك ما في رواية لمسلم: ((إنما يفتن يهود فلبثنا ليالي، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل شعرت أنه أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور؟ قالت عائشة: فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ من عذاب القبر)). وقال الحافظ: وقد استشكل ذلك أي ما تقدم من أنه أعلم بحكم عذاب القبر إذ هو بالمدينة في آخر الأمر
قالت عائشة: فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد صلى صلاة إلا تعوذ بالله من عذاب القبر)). متفق عليه.
129- (5) وعن زيد بن ثابت قال: ((بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حائط لبنى النجار على بغلة له ونحن معه، إذ حادت به فكادت تلقيه. وإذ أقبر ستة أو خمسة، فقال: من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ قال رجل: أنا. قال: فمتى ماتوا؟ قال: في الشرك. فقال: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/495)


بأن الآية المقدمة مكية، وهي قوله تعالى: ?يثبت الله الذين آمنو? وكذا قوله تعالى: ?النار يعرضون عليها غدوا وعشيا? [46:40]، والجواب أن عذاب القبر إنما يؤخذ من الأولى بطريق المفهوم في حق من لم يتصف بالإيمان، وبالمنطوق في حق الظالمين أي الكافرين، وكذلك بالمنطوق في الأخرى في حق آل فرعون، وأن التحق بهم من كان له حكمهم من الكفار، فالذي أنكره النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو وقوع عذاب القبر على الموحدين. ثم أعلم - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك قد يقع على من يشاء الله منهم فجزم به، وحذر منه، وبالغ في الاستعاذة منه تعليما لأمته وإرشادا، فانتفى التعارض – انتهى. (بعد) مبني على الضم أي بعد سؤالي ذلك (إلا تعوذ بالله من عذاب القبر) داخل الصلاة وخارجها. قال القاري: والأول أظهر، ومن ثم أوجب ذلك بعض العلماء. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائر، ومسلم في الصلاة، وأخرجه أيضا أحمد والنسائي.

(1/496)


129- قوله: (في حائط) متعلق بخبر محذوف أي كائن في بستان (على بغلة له) حال من المستتر في الخبر. (ونحن معه) حال متداخله؛ لأنه حال من الضمير في الحال (إذ حادت) بالحاء المهملة، أي مالت ونفرت؛ لأنها سمعت صوت المعذبين في القبور، فقد ثبت أن البهائم تسمع أصوات المعذبين في القبر، كما في حديث أبي سعيد عند أحمد: ((يسمعه كل دابة إلا الثقلين))، وفي حديث أم مبشر عند أحمد أيضا: ((يسمعه البهائم))، وفي حديث ابن مسعود عند الطبراني في الكبير: ((إن البهائم تسمع أصواتهم)). (به) أي متلبسة به فـ"به" حال و"إذ" بسكون الذال للمفاجأة بعد بينا. (وإذ أقبر) بفتح فسكون فضم، وإذا بالألف للمفاجأة، والواو للحال، أي نحن على ذلك مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وإذا أقبر، أي ظهرت لنا قبور معدودة فاجأناها. (قال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا كنت تعرفهم (فمتى ماتوا) أي في الجاهلية أو بعدها، مشركين أو مؤمنين؟ (قال) أي الرجل (في الشرك) أي في زمنه، أو صفته (إن هذه الأمة) أي جنس الإنسان، فهذه إشارة لما في الذهن، وخبره بيان له، كهذا أخوك. وأصل الأمة كل جماعة يجمعهم أمر واحد، إما دين، أو زمان، أو مكان. (تبتلى) بصيغة المجهول، أي تمتحن ثم تنعم أو تعذب (فلولا أن لا تدافنوا) بحذف إحدى التائيين، أي تتدافنوا، أي لو سمعتم ذلك تركتم التدافن من خوف الفضيحة في القرائب لئلا يطلع على أحوالهم. وقال ابن حجر:
لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه. ثم أقبل علينا بوجهه فقال: تعوذوا بالله من عذاب النار. قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. قال: تعوذوا بالله من عذاب القبر. قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر. قال: تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قال: تعوذوا بالله من فتنة الدجال. قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال)) رواه مسلم.
?الفصل الثاني?

(1/497)


130- (6) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قبر الميت أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: المنكر،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وجه هذا التلازم أن الكشف عن ذلك العذاب يؤدي جهلة العامة إلى ترك التدافن خوفا عليهم منه، ويؤدي الخاصة إلى اختلاط عقولهم، وانخلاع قلوبهم من تصور ذلك الهول العظيم، فلا يقربون جيفة ميت، أي لفقدان العقول، وانخلاغ القلوب. وبهذا التفصيل الذي ذكرته يندفع ما قيل: كيف يليق بمؤمن أن يترك الدفن المأمور به حذرا من عذاب القبر؟ بل يلزمه أن يعتقد أن الله إذا أراد تعذيب أحد عذبه ولو في بطن الحيتان وحواصل الطيور – انتهى. (أن يسمعكم) من الإسماع مفعول ثان على تضمين سألته. (من عذاب القبر) من تبعيضية أو زائدة (الذي أسمع منه) أي الذي أسمعه من القبر. وقيل: أي مثل الذي أسمعه، مفعول ثان ليسمع (من عذاب النار) قدم عذاب النار في الذكر مع أن عذاب القبر مقدم في الوجود؛ لكونه أشد وأبقى وأعظم وأقوى. (من الفتن) جمع فتنة وهي الامتحان، وتستعمل في المكر والبلاء وهو تعميم بعد تخصيص (ما ظهر منها وما بطن) بدل من الفتن، وهو عبارة عن شمولها؛ لأن الفتنة لا تخلو منهما، أي ما جهر وما أسر. وقيل: ما يجري على ظاهر الإنسان وما يكون في القلب من الشرك، والرياء والحسد، وغير ذلك من مذمومات الخواطر التي تجر إلى عذاب القبر، أو إلى عذاب النار (من فتنة الدجال) خص فإنه أكبر الفتن حيث يجر إلى الكفر المفضي إلى العذاب المخلد. (رواه مسلم) في صفة النار، وأخرجه أيضا أحمد.

(1/498)


130- قوله: (إذا قبر الميت) أي دفن وهو قيد غالبي، وإلا فالسؤال يشمل الأموات جميعها (أزرقان) أعينهما. زاد الطبراني: أعينهما مثل قدور النحاس، وأنيابهما مثل صياصي البقر، وأصواتهما مثل الرعد. ونحوه لعبدالرزاق من مرسل عمرو بن دينار، وزاد: يحفران بأنيابهما، ويطأان في أشعارهما، معهما مرزبة لو اجتمع أهل منى لم يقلوها. وإنما يبعثهما الله على هذه الصفة لما في هذه الأوصاف من الهول والوحشة، ويكون خوفهما على الكفار أشد فيتحيروا في الجواب، وأما المؤمنون فلهم في ذلك ابتلاء فيثبتهم الله. (المنكر) مفعول من أنكر بمعنى نكر إذا لم يعرف أحدا.
وللآخر النكير، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هو عبدالله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين، ثم ينور له فيه، ثم يقال له: نم. فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم. فيقولان: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك. وإن كان منافقا قال: سمعت الناس يقولون قولا فقلت مثله، لا أدري. فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول ذلك، فيقال للأرض: التئمي عليه، فتلتئم عليه، فتختلف أضلاعه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1/499)


(النكير) فعيل بمعنى مفعول من نكر بالكسر إذا لم يعرفه أحد، فكلاهما ضد المعروف، سميا بهما؛ لأن الميت لم يعرفهما، ولم ير صورة مثل صورتهما. قال بعض الفقهاء: إن اسم السائلين للمذنب منكر ونكير، واسم السائلين للمطيع مبشر وبشير. (فيقولان قد كنا نعلم أنك تقول هذا) أي الإقرار بالوحدانية والرسالة، وعلمهما بذلك إما بإخبار الله إياهما بذلك، أو بمشاهدتهما في جنبيه أثر السعادة، وشعار نور الإيمان والعبادة، كما يدل عليه رواية ابن حبان: فإذا كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه، والزكاة عن يمينه، والصوم عن شماله، وفعل المعروف من قبل رجليه، فيقال له: اجلس فيجلس – الحديث. (يفسح) مجهول مخفف، وقيل: مشدد أي يوسع. (ذراعا) أي بذراع الدنيا المعروف عند المخاطبين. قال الطيبي: أصله يفسح قبره مقدار سبعين ذراعا، فجعل القبر ظرفا للسبعين وأسند الفعل إلى السبعين مبالغة. (في سبعين) أي في عرض سبعين ذراعا، يعني طوله وعرضه كذلك. قيل: المراد به الكثرة، ولذا ورد في بعض الروايات "مد بصره" ويمكن أن يختلف باختلاف الأشخاص في الأعمال. (ثم ينور له فيه) أي في قبره، وفي رواية ابن حبان: وينور له كالقمر ليلة البدر. (فيقول) أي الميت (أرجع) أي أريد الرجوع كذا قيل. والأظهر أن الاستفهام مقدر، (فأخبرهم) أي بأن حالي طيب ليفرحوا بذلك. (كنومة العروس) بفتح العين، وهو يطلق على الذكر والأنثى في أول اجتماعهما، وقد يقال للذكر، العريس. (الذي لا يوقظه) صفة العروس (إلا أحب أهله إليه) وهو الزواج. قال المظهر: عبارة عن عزته وتعظيمه عند أهله يأتيه غداة ليلة زفافه من هو أحب وأعطف فيوقظه على الرفق واللطف. (حتى يبعثه الله) ليس هذا من مقول الملكين بل من كلامه - صلى الله عليه وسلم -، و"حتى" متعلق بمحذوف أي ينام طيب العيش حتى يبعثه الله. وقيل: يحتمل أن يتعلق حتى بنم على سبيل الالتفات من الخطاب إلى الغيبة (يقولون قولا) هو أن محمد رسول الله- صلى

(1/500)


الله عليه وسلم - (فقلت مثله) أي مثل قولهم (لا أدري) أي أنه نبي في الحقيقة أم لا. وهو استئناف، وقيل: في محل النصب على الحال. (فيقال للأرض) أي أرض القبر (التئمي) أي انضمي واجتمعي، يعني ضيقي عليه، وهو على حقيقة الخطاب الا أنه تخيل لتعذيبه وعصره. (فتختلف أضلاعه) بفتح الهمزة جمع ضلع وهو عظم الجنب، أي تزول عن الهيئة المستوية التي كانت عليها من شدة التئامها عليه، وشدة
فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك)). رواه الترمذي.
131- (7) وعن البراء بن عازب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فيقولان له: وما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. فذلك قوله: ?يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت? الآية. قال: فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة، فيفتح. قال: فيأتيه من روحه وطيبها، ويفسح له فيها مد بصره. وأما الكافر فذكر موته قال: ويعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فيقولان له: ما دينك؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الضغطة، وانعصار أعضائه، وتجاوز جنبيه من كل جنب إلى جنب آخر (فلا يزال فيها) أي في الأرض، أو في تلك الحالة (رواه الترمذي) وقال: حسن غريب، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، والطبراني في الأوسط باختلاف في اللفظ.

(2/1)


131- قوله: (يأتيه) أي المؤمن (ما هذا الرجل) أي ما وصف هذا الرجل أرسول هو أو ما اعتقادك فيه؟ أو "ما" بمعنى "من" (وما يدريك) أي أي شيء أعلمك وأخبرك بما تقول من الربوبية والإسلام والرسالة؟ (كتاب الله) أي القرآن (فآمنت به) أي بالقرآن أو بالنبي أنه حق (وصدقت) أي وصدقته بما قال، أو صدقت بما في القرآن فوجدت فيه آيات دالة على أن ربي ورب المخلوقات واحد وهو الله، وأن لا دين مرضيا عند الله غير الإسلام وأن محمدا رسول الله (فذلك) أي جريان لسانه بالجواب المذكور هو التثبيت الذي تضمنه قوله تعالى: ?يثبت الله? [27:14] إلخ (أن صدق) "أن" مفسرة للنداء؛ لأنه في معنى القول (فأفرشوه) بهمزة القطع أي أبسطوا له فراشا (وألبسوه) بهمزة القطع أي أعطوه لباسا (من الجنة) أي من حللها (وافتحوا له بابا) أي حقيقة (فيفتح) قال الشيخ الألباني: لم أجد هذه اللفظة في المسند، وأبي داود، وإن كان السياق يدل عليها (من روحها) أي بعض روحهاو "الروح" بالفتح الراحة ونسيم الريح والمراد شيء منها، ولم يؤت بهذا التعبير إلا ليفيد أنه مما لا يقادر قدره، ولا يوصف كنهه. وقيل: "من" زائدة على مذهب الأخفش. (ويفسح له فيها) أي في تربته وهي قبره (مد بصره) المعنى أنه يرفع عنه الحجاب فيرى ما يمكنه أن يراه. قيل نصب "مد" على الظرف أي مداه وهي الغاية التي ينتهي إليها البصر. قال القاري: والأصوب أن نصبه على المصدر، أي فسحا قدر مد بصره (فذكر موته) أي حال موت الكافر وشدته (هاه هاه) بسكون الهاء فيهما بعد الألف، كلمة يقولها المتحير الذي لايقدر من حيرته للخوف أو لعدم الفصاحة أن يستعمل لسانه في فيه (لا أدرى) هذا كأنه بيان وتفسير

(2/2)


فيقول: هاه هاه لا أدري. فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فينادي مناد من السماء أن كذب فأفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار، قال: فيأتيه من حرها وسمومها. قال: ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ثم يقيض له أعمى أصم معه مرزبة من حديد لو ضرب بها جبل لصار ترابا، فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين، فيصير ترابا ثم يعاد فيه الروح)). رواه أحمد وأبوداود.
132- (8) وعن عثمان أنه كان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(2/3)


لقوله: هاه هاه، فالمعنى لا أدري شيئا ما، أولا أدري ما أجيب به (ما هذا الرجل) يعني ما تقول في حقه أنبي أم لا؟ (أن كذب) أي هذا الكافر في قوله: لا أدري؛ لأن دين الله تعالى ونبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - كان ظاهرا في مشارق الأرض ومغاربها، بل جحد نبوته بالقول أو بالاعتقاد بناء على أن كفره جهل أو عناد، قاله القاري (من حرها) أي من حر النار وهو تأثيرها (وسمومها) فتح السين، وهي الريح الحارة (ثم يقيض) أي يسلط ويوكل (أعمى) أي زبانية لا عين له كيلا يرحم عليه، وهو يحتمل أن يكون لا عين له لأجله، أو كناية عن عدم نظره إليه (أصم) أي لا يسمع صوت بكائه واستغاثته فيرق له (مرزبة) بكسر الميم، قال القاري: المسموع في الحديث تشديد الباء، وأهل اللغة يخففونها، وهي المطرقة الكبيرة التي تكون للحداد. وقال في القاموس: الإرزبة والمرزبة مشددتان، أو الأولى فقط، عصية من حديد (فيضربه بها) أي بالمرزبة (يسمعها) أي صوتها وحسها (ثم يعاد فيه الروح) قال ابن حجر: معلوم استمرار العذاب عليه في قبره فيحتمل أنها إذا أعيدت تضرب أخرى فيصير ترابا، ثم يعاد فيه الروح، وهكذا، ويحتمل أن تلك الإعادة لا تتكرر، وأن عذابه يكون بغير ذلك، وهو ظاهر الحديث، وقال ابن الملك: يعني لا ينقطع عنه العذاب بموته، بل تعاد فيه الروح بعد موته ليزداد عذابا. والحديث نص في أن الكافر غير المنافق أيضا يسئل في القبر، خلافا لابن عبدالبر، والسيوطي، ومن وافقهما. (رواه أحمد وأبوداود) في السنة، وأخرجه أيضا النسائي، وابن ماجة مختصرا.والبيهقي، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد. والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين. قال المنذري في الترغيب بعد ذكر الحديث من رواية الإمام أحمد: هذا حديث حسن، رواته محتج بهم في الصحيح، وهو مشهور بالمنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء، كذا قال أبوموسى الأصبهاني. والمنهال وثقة ابن معين والعجلى، روى له البخاري حديثا واحدا، ولزاذان

(2/4)


في كتاب مسلم حديثان.
132- قوله: (على قبر) أي على رأس قبر، أو عنده (حتى يبل) بضم الباء الموحدة، أي بكاءه يعني دموعه (لحيته) بالنصب على المفعولية، أي يجعلها مبلولة من الدموع (فلا تبكي) أي من خوف النار، واشتياق الجنة
وتبكي من هذا؟ فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه. قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما رأيت منظرا قط إلا والقبر أفظع منه)). رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب.
133-(9) وعنه قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، فقال: استغفروا لأخيكم ثم سلوا له بالتثبيت،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(2/5)


(وتبكي من هذا) أي من القبر، أي من أجل خوفه، قيل: إنما كان يبكي عثمان وإن كان من جملة المشهود لهم بالجنة؛ لأنه لا يلزم من التبشير بالجنة عدم عذاب القبر، بل ولا عدم عذاب النار مطلقا مع احتمال أن يكون التبشير مقيدا بقيد معلوم أو مبهم، ويمكن أن ينسى البشارة حينئذ لشدة الفظاعة، ويمكن أن يكون خوفا من ضغطة القبر كما يدل عليه حديث سعد الدال على أنه لم يخلص منه كل سعيد إلا الأنبياء، ذكره القاري. (إن القبر أول منزل) أي فهو أقرب شيء إلى الإنسان، وأيضا شدته أمارة للشدائد كلها. (من منازل الآخرة) ومنها عرصة القيامة عند العرض، ومنها الوقوف عند الميزان، ومنها المرور على الصراط، ومنها الجنة أو النار. (فإن نجا منه) أي من عذاب القبر (فما بعده) أي من المنازل (أيسر منه) أي أسهل وأهون؛ لأنه يفسح للناجي من عذاب القبر في قبره مد بصره، وينور له، ويفرش له من بسط الجنة، ويلبس من حللها، ويفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها، وكل هذه الأمور مقدمة لتيسير بقية منازل الآخرة. (وإن لم ينج منه) أي لم يخلص من عذاب القبر، ولم يكفر ذنوبه، وبقي عليه شيء مما يستحق العذاب به (فما بعده أشد منه)؛ لأن النار أشد العذاب، فما يحصل للميت في القبر عنوان ما سيصير إليه. (قال) أي عثمان (وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما رأيت) أي في الدنيا (منظرا) أي موضعا ينظر إليه (إلا والقبر أفظع منه) من فظع بالضم ككرم، أي أشد وأشنع وأنكر من ذلك المنظر. قيل: المستثنى جملة حالية من منظر، وهو موصوف حذفت صفته، أي ما رأيت منظرا فظيعا على حالة من أحوال الفظاعة قط إلا في حالة كون القبر أقبح منه، فالاستثناء مفرغ. قال السندهي: وحيث خص بمنظر الدنيا اندفع ما يتوهم أن هذا ينافي قوله: فما بعده أشد منه. على أنه يمكن الجواب إذا عمم بأنه أفظع من جهة الوحشة والوحدة، وغيره أشد عذابا منه، فلا إشكال (رواه الترمذي) في أوائل الزهد

(2/6)


(وابن ماجه) في الزهد (وقال الترمذي: هذا حديث غريب) وفي نسخ الترمذي الموجودة عندنا "حديث حسن غريب"، قال المنذري في الترغيب: زاد رزين فيه مما لم أره شيء من نسخ الترمذي. قال الهانئي (مولى عثمان راوي الحديث عنه): وسمعت عثمان ينشد على قبر:
فإن نتج منها نج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجيا
والحديث أخرجه الحاكم أيضا وقال: صحيح الإسناد.
133- قوله: (وقف عليه) أي وقف هو وأصحابه عند قبره (استغفروا لأخيكم) أي في الإسلام (ثم سلوا له بالتثبيت)
فإنه الآن يسئل)). رواه أبوداود.
134- (10) وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنينا، تنهسه وتلدغه حتى تقوم الساعة، لو أن تنينا منها نفخ في الأرض ما أنبتت خضرا)). رواه الدارمي، وروى الترمذي نحوه، وقال: سبعون بدل تسعة وتسعون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(2/7)


أي اطلبوا له منه أن يثبت لسانه وجنانه لجواب الملكين. وعدى بالباء؛ لأنه ضمن السؤال معنى الدعاء، أي ادعوا له بدعاء التثبيت، يعني قولوا: ثبته الله بالقول الثابت، أو اللهم ثبته بالقول الثابت. وهو كلمة الشهادة عند منكر ونكير (فإنه الآن يسئل) أي يسأله الملكان منكر ونكير، فهو أحوج إلى الدعاء. وفي الحديث دليل على مشروعية الاستغفار للميت عند الفراغ من دفنه، وسؤال التثبيت له، وأن دعاء الأحياء ينفع الأموات، وليس فيه دلالة على التلقين عند الدفن كما هو المعتاد في الشافعية، وليس فيه حديث مرفوع صحيح، وأما ما روي في ذلك من حديث أبي أمامة فهو ضعيف لا يقوم به حجة، عزاه الهيثمي للطبراني، وقال: فيه جماعة لم أعرفهم. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لقنوا موتاكم لا إله إلا الله))، فالمراد عند الموت لا عند دفن المبت. (رواه أبوداود) في الجنائز وسكت عليه هو والمنذري، وقال العزيزي: إسناده حسن. وأخرجه أيضا الحاكم، وقال: صحيح. وأقره الدهبي.

(2/8)


134- قوله: (تسعة وتسعون) الوقوف على فائدة تخصيص العدد إنما يحصل بالوحي، ويتلقى من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا مجال فيه للعقل (تنينا) بكسر التاء والنون المشددة، وهي حية عظيمة كثيرة السم، وهذا محمول على الحقيقة، واستحالة ذلك بطريق العقول سبيل من لا خلاق له في الدين، عصمنا الله من عثرة العقل، وفتنة الصدر. (تنهسه) بفتح السين المهملة (وتلدغه) بفتح الدال كلاهما من باب فتح. قيل: النهس واللدغ بمعنى واحد جمع بينهما تأكيدا (لو أن تنينا منها نفخ في الأرض) أي لو وصل ريح فمه وحرارته إلى الأرض (ما أنبتت) الأرض (خضرا) بفتح الخاء وكسر الضاد، أي نباتا أخضر (رواه الدارمي) أي بهذا اللفظ في الرقاق من طريق دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري، وأخرجه أيضا أحمد، وأبويعلى، والطبراني في الكبير، وعبد بن حميد، وابن حبان في صحيحه، وسعيد بن منصور في سننه. (وروى الترمذي نحوه) أي بالمعنى من حديث طويل في صفة القيامة من أبواب الزهد، وقال: غريب. قال المنذري: رواه الترمذي والبيهقي كلاهما من طريق عبيدالله بن الوليد الوصافي وهو واه. (وقال سبعون) تنينا (بدل) بالنصب ظرف (تسعة وتسعون) بالرفع على الحكاية. قيل في وجه الجمع بين العددين: أن الأول للمتبوعين من الكفار، والثاني للتابعين، أو أن سبعين عند العرب للعدد الكثير جدا، أي للمبالغة لا للتحديد فحينئذ لا تنافي الأولى؛ لأنها مجملة وتلك مبينة لها. وقيل: يحتمل أن يكون باختلاف أحوالهم. قلت: رواية الترمذي ضعيفة جدا كما عرفت، فلا حاجة إلى تكلف الجمع.
?الفصل الثالث?

(2/9)


135 – (11) عن جابر قال: ((خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سعد بن معاذ حين توفي، فلما صلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووضع في قبره وسوى عليه، سبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسبحنا طويلا، ثم كبر، فكبرنا، فقيل: يار سول الله - صلى الله عليه وسلم - لم سبحت ثم كبرت؟ قال: لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتى فرجه الله عنه)) رواه أحمد.
136- (12) وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هذا الذي تحرك له العرش
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(2/10)


135- قوله: (إلى سعد بن معاذ) أي إلى جنازته، وهو سعد بن معاذ بن النعمان الأنصاري الأشهلي، أبوعمرو، سيد الأوس، أسلم بالمدينة بين العقبة الأولى والثانية، وأسلم بإسلامه بنو عبدالأشهل، ودارهم أول دار أسلمت من الأنصار، وسماه رسول الله- صلى الله عليه وسلم - سيد الأنصار، وكان مقدما مطاعا شريفا في قومه، من أجلة الصحابة وأكابرهم، شهد بدرا وأحدا، وثبت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ، ورمى يوم الخندق في أكحله فلم يرق الدم حتى مات بعد شهر، وذلك في ذى القعدة سنة (5) وهو ابن سبع وثلاثين سنة، ودفن في البقيع. له في البخاري حديثان، روى عنه نفر من الصحابة. (وسوى عليه) أي التراب، والفعل مجهول (سبح رسول الله- صلى الله عليه وسلم -) لعل التسبيح عند مشاهدة التضييق عليه كان للتعجب أو للتنزيه لإرادة تنزيهه تعالى أن يظلم أحد. (فسبحنا طويلا) قيد للفعلين، أي زمانا طويلا، أو تسبيحا طويلا، أي كثيرا (على هذا العبد الصالح) هذا إشارة إلى كمال تمييزه ورفع منزلته، ثم وصفه بالعبد ونعته بالصلاح لمزيد التخويف، والحث على الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى من هذا المنزل الفظيع، أي إذا كان حال هذا العبد هذا فما بال غيره؟ (حتى فرجه الله عنه) أي كشفه وأزاله. قال الطيبي: و"حتى" متعلقة بمحذوف أي مازلت أسبح وأكبر، وتسبحون وتكبرون حتى فرجه الله عنه. (رواه أحمد) (ج3:ص277، 360)، ذكر الهيثمي هذا الحديث في مجمع الزوائد (ج3:ص46) وعزاه لأحمد. والطبراني في الكبير ثم قال: وفيه محمود بن محمد بن عبدالرحمن بن عمرو بن الجموح، قال الحسيني: فيه نظر. قال الهيثمي: ولم أجد من ذكره غيره. وقال الألباني: سنده ضعيف، محمود بن عبدالرحمن بن عمرو بن الجموح ترجمه ابن حجر في التعجيل بما يتلخص منه أنه لا يعرف.

(2/11)


136- قوله: (هذا الذي) إشارة إلى سعد المذكور، وهو للتعظيم كما في الحديث الأول (تحرك له العرش) وفي رواية "اهتز" أي ارتاح بصعوده، واستبشر لكرامته على ربه؛ لأن العرش وإن كان جمادا فغير بعيد أن يجعل لله فيه إدراكا يميز به بين الأرواح وكمالاتها، وهذا أمر ممكن، ذكره الشارع بيانا لمزيد فضل سعد، وترهيبا للناس من ضغطة القبر، فتعين الحمل على ظاهره حتى يرد ما يصرفه عنه. والمراد عرش الرحمن، لا السرير الذي حمل عليه، لحديث جابر
وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفا من الملائكة، ولقد ضم ضمة ثم فرج عنه)) رواه النسائي.
137- (13) وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: ((قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم - خطيبا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(2/12)


عند البخاري في المناقب مرفوعا: اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ (وفتحت له أبواب السماء)؛ لإنزال الرحمة، ونزول الملائكة، أو عرضا للأبواب بأن يدخل من أي باب شاء لعظم كماله كفتح أبواب الجنة الثمانية لبعض المؤمنين. (وشهده) أي حضر جنازته (لقد ضم) بالضم، أي عصر سعد في قبره (ضمة) أي واحدة (ثم فرج عنه) زاد البيهقي في كتاب عذاب القبر: يعني سعد بن معاذ، وزاد في دلائل النبوة: قال الحسن: تحرك له العرش فرحا بروحه، قال أبوالقاسم السعدي في كتاب الروح له: لا ينجو من ضغطة القبر لا صالح ولا طالح، غير أن الفرق بين المسلم والكافر فيها دوام الضغط للكافر، وحصول هذه الحالة للمؤمن في أول نزوله إلى قبره، ثم يعود إلى الانفساح له. قال: والمراد بضغط القبر التقاء جانبيه على جسد الميت. وقال الحكيم الترمذي: سبب هذا الضغط أنه ما من أحد إلا وقد ألم بذنب ما فتدركه هذه الضغطة جزاء لها، ثم تدركه الرحمة. وكذلك ضغطة سعد بن معاذ في التقصير من البول، قلت: يشير إلى ما أخرجه البيهقي من طريق ابن إسحاق: حدثني أمية بن عبدالله أنه سأل بعض أهل سعد ما بلغكم من قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في هذا؟ فقالوا: ذكر لنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ذلك، فقال: كان يقصر في بعض الطهور من البول. وقال ابن سعد في طبقاته: أخبر شبابة بن سوار أخبرني أبومعشر عن سعيد المقبري، قال: لما دفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعدا قال: لو نجا أحد من ضغطة القبر لنجا سعد، ولقد ضم ضمة اختلفت منها أضلاعه من أثر البول. وأخرج البيهقي عن الحسن، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال حين دفن سعد بن معاذ: إنه ضم في القبر ضمة حتى صار مثل الشعرة، فدعوت الله أن يرفعه عنه، وذلك بأنه كان لا يستبرئ من البول. ثم قال الحكيم: وأما الأنبياء فلا يعلم أن لهم في القبور ضمة ولا سؤالا لعصمتهم. وقال النسفي في بحر الكلام: المؤمن المطيع لا يكون

(2/13)


له عذاب القبر، ويكون له ضغطة القبر، فيجد هول ذلك وخوفه، لما أنه تنعم بتعمة الله ولم يشكر النعمة. وروى ابن أبي الدنيا عن محمد التيمي قال: كان يقال: إن ضمة القبر إنما أصلها أنها أمهم، ومنها خلقوا فغابوا عنها الغيبة الطويلة، فلما رد إليها أولادها ضمتهم ضمة الوالدة غاب عنها ولدها ثم قدم عليها، فمن كان لله مطيعا ضمته برأفة ورفق، ومن كان عاصيا ضمته بعنف سخطا منها عليه لعصيانه ربها. ذكره السيوطي في زهر الربى. (رواه النسائي) في الجنائز، وأخرجه أيضا البيهقي، والحاكم، وفي ضغطة القبر أحاديث عن جماعة من الصحابة. منها حديث ابن عباس، أخرجه الطبراني في الكبير وغيره. ومنها حديث جابر، أخرجه ابن سعد، والحكيم الترمذي. ومنها حديث عائشة، أخرجه أحمد. ومنها حديث أنس أخرجه أبويعلى والضياء. ومنها حديث حذيفة أخرجه أحمد، والحكيم الترمذي.
137- قوله: (وعن أسماء) غير منصرف بالعلمية والتأنيث المعنوي (بنت أبي بكر) الصديق زوج الزبير بن العوام، وأم عبدالله بن الزبير، تسمى ذات النطاقتين؛ لأنها شقت نطاقها ليلة خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - مهاجرا، فجعلت واحدة
فذكر فتنة القبر التي يفتن فيها المرء، فلما ذكر ذلك ضج المسلمون ضجة)). رواه البخاري هكذا، وزاد النسائي: ((حالت بيني وبين أن أفهم كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما سكنت ضجتهم قلت لرجل قريب مني: أي بارك الله فيك، ماذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر قوله:؟ قال قال: قد أوحى إلي أنكم تفتنون في القبور قريبا من فتنة الدجال)).
138- (14) وعن جابر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أدخل الميت القبر مثلت له الشمس عند غروبها، فيجلس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(2/14)


شداد لسفرته والآخر عصا ما لقربته، وقيل: جعلت النصف الثاني نطاقا لها، أسلمت بمكة بعد إسلام سبعة عشر إنسانا، وهاجرت إلى المدينة وهي حامل بإبنها عبدالله. وماتت بعد قتل إبنها عبدالله بعشرة أيام، وقيل: بعشرين يوما بعد ما أنزل ابنها من الخشبة، ولها مائة سنة، ولم يقع لها سن، ولم ينكر من عقلها شيء، وذلك في جمادى الأولى سنة (73) بمكة. لها ستة وخمسون حديثا، اتفقا على أربعة عشر، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بمثلها. روى عنها خلق كثير. (فذكر فتنة القبر) أي وعذابه، أو ابتلاءه والامتحان فيه (التي يفتن فيها المرء) صفة لفتنته، يعني ذكر الفتنة بتفاصيلها كما يجري على المرء في قبره (فلما ذكر ذلك) أي ما ذكر، أو الفتنة بمعنى الافتنان (ضج المسلمون) أي صاحوا وجزعوا (ضجة) التنوين للتعظيم (رواه البخاري هكذا) أي مختصرا من طريق عروة عن أسماء في باب عذاب القبر من الجنائر، وأخرجه في العلم، والكسوف، والجمعة من طريق فاطمة بنت المنذر عن أسماء مطولا (وزاد النسائي) أي بعد "ضجة" (حالت) صفة ضجة (بيني وبين أن أفهم كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي بعد هذا (قلت لرجل) قال الحافظ في الفتح: لم أقف على اسم الرجل الذي استفهمت منه عن ذلك إلى الآن (قريب مني) أي مكانا (أي) المنادي محذوف، أي فلان (في آخر قوله:) أي بعد الصياح (قريبا) صفة مصدر محذوف، أي افتنانا قريبا (من فتنة الدجال) وقال الطيبي: أي فتنة قريبة، وذكر كما في قوله تعالى: ?إن رحمة الله قريب من المحسنين? [56:7] أي فتنة عظيمة، إذ ليس في الفتن أعظم من فتنة الدجال. وقد روى أحمد عن عائشة مرفوعا: أنكم تفتنون في القبور كفتنة الدجال. قال الكرماني: وجه الشبه بين الفتنتين الشدة، والهول، والعموم.

(2/15)


138- قوله: (مثلت) أي صورت (عند غروبها) حال من الشمس، أي حال كونها قريبة الغروب. وقال ابن حجر: أي حال كونها غاربة، لا ظرف لمثلت لاقتضاءه أن التمثيل لا يكون إلا ذلك الوقت، وليس كذلك، فإنه يكون عند نزول الملكين، وهذا لا يقيد بذلك الوقت، بل هو عام في سائر أجزاء الليل والنهار، فتعين أن التمثيل بها حالة كونها غاربة عام في سائر الأزمنة أيضا، وذلك لا يكون إلا في حق المؤمن (فيجلس) معروف، وقيل: مجهول
يمسح عينيه ويقول: دعوني أصلي)). رواه ابن ماجه.
139- (15) وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الميت يصير إلى القبر، فيجلس الرجل في قبره غير فزع ولا مشغوب، ثم يقال: فيم كنت. فيقول: كنت في الإسلام. فيقال: ما هذا الرجل؟ فيقول: محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه. فيقال له: هل رأيت الله؟ فيقول: ما ينبغي لأحد أن يرى الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(يمسح) حال من ضمير يجلس (عينيه) على هيئة المستيقظ؛ لأن النوم أخو الموت. (دعوني) أي أتركوا كلامي والسؤال مني (أصلي) جواب للأمر، والياء للإشباع، أو أعطي المعتل حكم الصحيح. وقيل: استئناف، أي أنا أريد أن أصلي، والمعنى: أن من كان راسخا في أداء الصلاة، مواظبا عليها في الدنيا، يظن أنه بعد في الدنيا، ويؤدي ما عليه من الفرائض، ويشغله من قيامه بعض أصحابه، فيقول: دعوني أنا أريد الصلاة، وليضيق الوقت يفزع، ويخاف فوت الوقت، ويستعجل بالصلاة، وذكر الغروب يناسب الغريب فإنه أول منزل ينزله عند الغروب. (رواه ابن ماجه) في الزهد، قال في الزوائد: إسناده حسن إن كان أبوسفيان واسمه طلحة بن نافع، سمع من جابر بن عبدالله، وإسماعيل بن حفص مختلف فيه- انتهى. هذا، وقد ورد ذكر تمثيل الشمس للميت حال كونها قريبة الغروب في حديث أبي هريرة الطويل عند ابن حبان في صحيحه، والطبراني في الأوسط.

(2/16)


139- قوله: (إن الميت) اللام للجنس (فيجلس) على بناء المفعول من أجلس، أو على بناء الفاعل من جلس (الرجل) أي الصالح، كما في بعض النسخ، وكذا وقع في ابن ماجه. (غير فزع) بكسر الزاى ونصب "غير" على الحالية، وقوله: (ولا مشغوب) تأكيد من الشغب، وهو تهييج الشر والفتنة، كذا وقع في جميع النسخ "مشغوب" بالغين المعجمة والباء، والظاهر أنه خطأ من النساخ، والصواب "مشعوف" أي بالعين المهملة والفاء، من الشعف، وكذا وقع في ابن ماجه. قال المنذري: الشعف، بشين معجمة وعين مهملة، شدة الفزع حتى يذهب بالقلب. (ثم يقال) أي له كما في بعض النسخ موافقا لما في ابن ماجه (فيم كنت) أي في أي دين عشت؟ (ما هذا الرجل) أي الرجل المشهور بين أظهركم، ولا يلزم منه الحضور. وترك ما يشعر بالتعظيم لئلا يصير تلقينا، وهو لا يناسب موضع الاختبار. و"ما" استفهام مبتدأ و"هذا الرجل" خبره، أي ما وصفه ونعته؟ أو ما اعتقادك فيه؟ (محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قوله: "رسول الله" يحتمل أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف، أو خبرا بعد خبر، والأظهر أنه خبر لمحمد، والجملة مقول، وهو متضمن للجواب عن وصفه، وقوله: (جاء بالبينات) جملة استئنافية مبينة للجملة الأولى (فصدقناه) أي بجميع ما جاء من عندالله. (ماينبغي) أي لا يصح (أن يرى الله) أي يبصره ببصره في الدنيا، أو يحيط بكنهه مطلقا

(2/17)


فيفرج له فرجة قبل النار، فينظر إليه يحطم بعضها بعضا، فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله، ثم يفرج له فرجة قبل الجنة، فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: هذا مقعدك، على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله تعالى. ويجلس الرجل السوء في قبره فزعا مشغوبا، فيقال له: فيم كنت؟ فيقول: لا أدري. فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول: سمعت الناس يقولون قولا فقلته، فيفرج له قبل الجنة، فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: انظر إلى ما صرف الله عنك، ثم يفرج له فرجة إلى النار، فينظر إليها يحطم بعضها بعضا، فيقال له: هذا مقعدك، على الشك كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاءالله تعالى)). رواه ابن ماجه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(2/18)


(فيفرج له) بالتشديد، وقيل: بالتخفيف، وكلاهما على بناء المفعول، أي يكشف ويفتح له (فرجة) بضم الفاء، وقيل بفتحها وهو مرفوع على نيابة الفاعل (قبل النار) بكسر القاف، أي جهتها، منصوب على الظرف (ينظر إليه) ذكر ضمير النار بتأويل العذاب، وأنث في قوله: (يحطم بعضها بعضا) نظرا إلى اللفظ. والحطم الكسر أي يكسر ويغلب ويأكل بعضها بعضا لشدة تلهبها وكثرة وقودها. (انظر إلى ما وقاك الله) أي انظر إلى هذا العذاب الذي حفظك الله بحفظه إياك من الكفر والمعاصي التي تجره إليهز (إلى زهرتها) فتح الزاى أي حسنها وبهجتها (وما فيها) من الحور، والقصور، وغيرها من الخير الكثير. (هذا مقعدك) أي في العقبى (على اليقين كنت) جملة مستأنفة متضمنة للتعليل، أي هذا مقعدك؛ لأنك كنت في الدنيا على اليقين في أمر الدين. وتقديم الخبر للاهتمام والاختصاص التام. (وعليه مت) بضم الميم وكسرها، وهذا يدل على أن من كان على اليقين في الدنيا يموت عليه عادة، وكذا في جانب الشك، قاله السندهي. (وعليه تبعث) يعني كما تعيش تموت، وكما تموت تحشر (إن شاءالله تعالى) للتبرك، أو للتحقيق لا للشك. (الرجل السوء) بفتح السين وتضم، ضد الصالح (مشغوبا) وفي ابن ماجه "مشغوفا" أي مرعوبا (لا أدري) ما الدين؟ أو للهيبة نسي دينه. (سمعت الناس) إلخ يريد أنه كان مقلدا في دينه للناس، ولم يكن منفردا عنهم بمذهب، فلا اعتراض عليه حقا كان ما عليه أو باطلا. (رواه ابن ماجه) في الزهد. قال في الزوائد: إسناده صحيح، وأخرج أحمد نحوه مطولا عن عائشة بإسناد صحيح، ذكره المنذري في ترغيبه.
(5) باب الاعتصام بالكتاب والسنة
?الفصل الأول?
140- (1) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) متفق عليه.
141- (2) وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أما بعد،

(2/19)


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(باب الاعتصام بالكتاب والسنة) الاعتصام افتعال من العصمة وهي المنع، والعاصم المانع الحامي، والاعتصام الاستمساك بالشيء، والمراد بالكتاب القرآن المتعبد بتلاوته، وبالسنة ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أقواله وأفعاله وأحواله وتقريره، وما هم بفعله، والسنة في أصل اللغة الطريقة. قيل: هذه الترجمة منتزعة من قوله تعالى: ?واعتصموا بحبل الله جميعا? [103:3]؛ لأن المراد بحبل الله الكتاب والسنة على سبيل الاستعارة.

(2/20)


140- قوله: (من أحدث في أمرنا هذا) أي في شأننا وطريقنا، فالأمر واحد الأمور، أطلق على الدين من حيث أنه طريقه وشأنه الذي يتعلق به، أو في ما أمرنا به بالوحي المتعبد بتلاوته، أو بالوحي الذي ليس بقرآن، فالأمر واحد الأوامر، أطلق على المأمور به، والمراد الشرع والدين كما وقع في بعض الروايات: من أحدث في ديننا. قيل: عبر عن الدين بالأمر تنبيها على أن هذا الدين هو أمرنا الذي نهتم له ونشتغل به، بحيث لا يخلو عنه شيء من أقوالنا وأفعالنا وأحوالنا. (فهو رد) أي مردود من إطلاق المصدر على اسم المفعول، مثل خلق ومخلوق، ونسخ ومنسوخ. وكأنه قال: فهو باطل غير معتد به. ومعنى الحديث: أن من أحدث في الإسلام رأيا لم يكن له من الكتاب والسنة سند ظاهر أو خفي، ملفوظ أومستنبط، فهو مردود عليه، والمراد أن ذلك الأمر واجب الرد، يجب على الناس رده، ولا يجوز لأحد اتباعه والتقليد فيه. وقيل: يحتمل أن ضمير "فهو" لمن، أي فذلك الشخص مردود مطرود. والحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، وقاعدة مهمة من قواعده، وهو من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم -، فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات. قال النووي: هذا الحديث مما ينبغي أن يعتنى بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به. وفي رواية لمسلم: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد. أي ليس هو في ديننا وشرعنا، ولم يأذن به الله ورسوله، يعني من عمل عملا خارجا عن الشرع ليس متقيدا بالشرع فهو مردود. قال الحافظ: قوله: "من عمل" أعم من قوله: " من أحدث" فيحتج به في إبطال جميع العقود المنهية، وعدم وجود ثمراتها المرتبة عليها، وفي أن النهي يقتضي الفساد؛ لأن المنهيات كلها ليست من أمر الدين فيجب ردها. وارجع للتفصيل إلى شرح الأربعين النووية لابن رجب. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلح، ومسلم في الأقضية، وأخرجه أيضا أبوداود وابن ماجه في السنة.

(2/21)


141- قوله: (أما بعد) هاتان الكلمتان يقال لهما فصل الخطاب، وأكثر استعمالهم بعد تقدم قصة، أو حمد لله وصلاة
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)).…رواه مسلم.
142- (3) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقوله: "بعد" مبني على الضم بحذف المضاف إليه، أي بعد ما تقدم من الحمد والصلاة، والمفهوم منهما أنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك في أثناء خطبته أو موعظته (فإن خير الحديث) الفاء لما في "أما" من معنى الشرط، أي مهما يكن من شيء بعدما ذكر فإن خير الحديث أي الكلام (وخير الهدى) بالنصب، عطفا على اسم إن، وروي بالرفع عطفا على محل "إن" واسمه. و"الهدى" بفتح الهاء وسكون الدال، السيرة، ولا يكاد يطلق إلا على طريقة حسنة، ولذلك حسن إضافة الخير إليه، والشر إلى الأمور، واللام في "الهدى" للاستغراق؛ لأن أفعل التفضيل لا يضاف إلا إلى متعدد، ولأنه لو لم يكن للاستغراق لم يفد المعنى المقصود، وهو تفضيل دينه وسنته على سائر الأديان والسنن. وروي "الهدى" بضم الهاء وفتح الدال، ومعناه الدلالة والإرشاد، أي أحسن الدلالة دلالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وإرشاده (وشر الأمور) بالنصب، وقيل بالرفع (محدثاتها) بفتح الدال، جمع محدثة، والمراد بها ما أحدث من الاعتقاد والقول والفعل، وليس له أصل في الشرع، ويسمى في عرف الشرع بدعة. وما كان له أصل في الشرع فليس ببدعة شرعا كتفسير القرآن وكتابة الحديث، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة، فإن كل شيء أحدث على غير مثال سبق يسمى بدعة لغة، سواء كان محمودا أو مذموما، وكذا القول في المحدثة، ولذا قال (وكل بدعة) بالرفع، وقيل: بالنصب (ضلالة) أي كل بدعة شرعية ضلالة، أي توصف

(2/22)


بذلك لإضلالها. وعند النسائي من حديث جابر: إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ويأتي مزيد الكلام في شرح حديث العرباض بن سارية في الفصل الثاني. (رواه مسلم) في حديث طويل في خطبة الجمعة، وأخرجه أيضا أحمد، وابن ماجة في السنة.
142- قوله: (أبغض الناس) هو أفعل التفضيل من المفعول على الشذوذ، واللام في "الناس" للعهد، والمراد منه عصاة المسلمين (ثلاثة) أي أشخاص، أحدهم أو منهم (ملحد في الحرم) أي ظالم أو عاص فيه، والإلحاد الميل عن الصواب، والعدول عن القصد. قال الحافظ: وظاهر سياق الحديث أن فعل الصغيرة في الحرم أشد من فعل الكبيرة في غيره، فإن مرتكب الصغيرة مائل عن الحق والقصد، وهو مشكل، فتعين أن المراد بالإلحاد فعل الكبيرة. وقال القسطلاني: أجيب بأن الإلحاد في العرف مستعمل في الخارج عن الدين، فإذا وصف به من ارتكب معصية كان في ذلك إشارة إلى عظمها. (ومبتغ) أي طالب (في الإسلام) يعني أن ما محاه الإسلام وأمر بتركه من أمور الجاهلية يريد هو
سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه)). رواه البخاري.
143-(4) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قيل: ومن أبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)). رواه البخاري.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(2/23)


إحداثه وإشاعته، فيدخل فيه أحداث البدعة، وبهذا المعنى أورده البغوى في الاعتصام بالكتاب والسنة. (سنة الجاهلية) اسم جنس يعم جميع ما كان عليه أهل الجاهلية من النياحة، والميسر، والطيرة، والكهانة، وقتل الأولاد، وجزاء شخص بجناية من هو من قبيلته. وإطلاق السنة على فعل الجاهلية على أصل اللغة. (مطلب) بالتنوين (دم امرىء) بالنصب، وقيل بإضافة (مطلب) إلى ”دم" وهو بتشديد الطاء من الاطلاب أصله مطتلب على مفتعل، فأبدلت التاء طاء وأدغمت، أي متكلف في الطلب، مبالغ ومجتهد فيه. (ليهريق دمه) بضم الياء وفتح الهاء ويجوز إسكانها من هراق الماء إذا صبه، والأصل أراق، قلبت الهمزة هاء وفيه لغة أخرى، وهى أهراق، بفتح الهمزة سكون الهاء، وخص الإهراق أي الصب؛ لأنه الغالب في القتل، وإلا فالمدار على إزهاق الروح ولو بخنق ونحوه، وخص هؤلاء الثلاثة؛ لأنهم جمعوا بين الذنب وما يزيد به قبحا من الإلحاد، وكونه في الحرم، وإحداث البدعة في الإسلام، وكونها من أمر الجاهلية، وقتل النفس لا لغرض من الأغراض، بل لمطلق كونه قتلا، وإليه الإشارة بقوله: "ليهريق دمه" ويزيد القبح في الأول باعتبار المحل، وفيه الثاني باعتبار الفاعل، وفي الثالث باعتبار الفعل، وفي كل من لفظي المطلب والمبتغي مبالغة، وذلك أن هذا الوعيد إذا ترتب على الطالب والمتمني فكيف للمباشر. (رواه البخاري) في الديات، والحديث من إفراده.

(2/24)


143- قوله: (كل أمتي يدخلون الجنة) يحتمل أن يراد بالأمة أمة الدعوة، أي كلهم يدخلون الجنة على التفصيل السابق في باب الإيمان، فالآبى هو الكافر، ويحتمل أن يراد بها أمة الإجابة، فالآبى هو العاصي، استثناه تغليظا وزجرا عن المعاصي. (إلا من أبى) أي امتنع عن قبول ما جئت به (قيل: ومن أبى) وفي البخاري: قالوا: ومن يأبى ؟ أي بلفظ المضارع، وهذه عطف على محذوف، عطف جملة على جملة، أي عرفنا الذين يدخلون الجنة. ومن الذى يأبى ؟ أي والذى أبى لا نعرفه، وحق الجواب اختصارا أن يقول "من عصاني" فقط، فعدل إلى ما ذكره تنبيها به على أنهم ما عرفوا ذاك ولا هذا، أو التقدير: من أطاعنى، وتمسك بالكتاب والسنة، دخل الجنة، ومن اتبع هواه، وضل عن الطريق المستقيم، وزل عن الصواب، فقد دخل النار. فوضع "أبى" موضعه وضعا للسبب موضع المسبب، ويعضد هذا التاويل إيراد البغوي هذا الحديث في الاعتصام بالكتاب والسنة، والتصريح بذكر الطاعة، فإن المطيع هو الذى يعتصم بالكتاب والسنة، ويجتنب عن الأهواء والبدع. (رواه البخاري) في الاعتصام، وأخرجه أيضا الحاكم، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وهذا وهم منه؛ لأنه أخرجه البخاري في صحيحه، وهو من إفراده، وروى أحمد والحاكم عن أبي هريرة رفعه: لتدخلن الجنة إلا من أبى، وشرد على الله شراد البعير. وسنده على شرط الشيخين، وله شاهد عن

(2/25)


144- (5) وعن جابر قال: ((جاءت ملائكة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو نائم، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلا، فاضربوا له مثلا، قال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان. فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة. فقالوا: أولوها له يفقهها. قال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان. فقالوا: الدار الجنة،
____________________________________________________
أبى أمامة عند الحاكم والطبراني، وسنده جيد.

(2/26)


144- قوله: (وعن جابر قال: جاءت ملائكة) أي جماعة منهم، وهذه حكاية سمعها جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فحكاها فحديث جابر هذا مرفوع لما في رواية الترمذي عن جابر قال: ((خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما فقال. إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي، وميكائيل عند رجلي...)) الخ. لا يستشكل اقتصاره على ذكر اثنين من الملائكة جبريل وميكائيل في رواية الترمذي هذه؛ لأنه يحتمل أنه كان مع كل منهما غيره، واقتصر في رواية الترمذي على من باشر الكلام منهم ابتداء وجوابا. (إن لصاحبكم هذا) أي لمحمد، والمخاطب بعض الملائكة (مثلا) أي صفة عجيبة الشأن (فأضربوا له) أي بينوا له. (إنه نائم) أي فلا يسمع، فلا يفيد ضرب المثل شيئا. (إن العين نائمة والقلب يقظان) غير منصرف، وقيل منصرف لمجيء فعلانة. أي فلا يفوته شيء مما تقولون، فإن المدار على المدارك الباطنية دون الحواس الظاهرية. وقيل: هذا تمثيل يراد به حياة القلب وصحة خواطره، يقال: "رجل يقظ" إذا كان ذكي القلب. قال البيضاوي: هذه مناظرة جرت بينهم بيانا وتحقيقا لما أن النفوس القدسية الكاملة لا يضعف إدراكها بضعف الحواس الظاهرة واستراحة الأبدان، بل ربما يقوى إدراكها عند ضعفها. (مثله كمثل رجل بني دارا) قال القاري: يعني قصته كهذه القصة عن آخرها، لا أن حاله كحال هذا الرجل، فإنه في مقابلة الداعي لا الباني، اللهم إلا أن يقدر مضاف، ويقال: كمثل داعي رجل بني دارا –انتهى. وقال الكرماني: ليس المقصود من هذا التمثيل تشبيه المفرد بالمفرد، بل تشبيه المركب بالمركب مع قطع النظر عن مطابقة المفردات عن الطرفين – انتهى. وقد وقع في رواية الترمذي، وكذا في حديث ابن مسعود عند الترمذي وأحمد وابن خزيمه ما يدل على المطابقة المذكورة. (مأدبة) بفتح الميم وسكون الهمزة وضم الدال وتفتح، وبعدها موحدة، طعام عام يدعى الناس إليه كالوليمة (وبعث داعيا) يدعو الناس إليها.

(2/27)


(أولوها) بكسر الواو المشددة، أي فسروا هذه الحكاية التمثيلية لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، من أول تأويلا، إذا فسر بما يؤل إليه الشيء (يفقهها) بالجزم جواب الأمر، أي يفهمها (وقال بعضهم: إن العين) أي عينه (نائمة والقلب) أي قلبه (يقظان) أي فيدرك البيان، وكرروا هذا لتنبيه السامعين إلى هذه المنقبة العظيمة، وهي نوم العين ويقظة القلب (فقالوا: الدار) أي الممثل بها (الجنة) وفي رواية الترمذي
والداعي محمد، فمن أطاع محمد فقد أطاع الله، ومن عصى محمدا فقد عصى الله، ومحمد فرق بين الناس)). رواه البخاري
145- (6) وعن أنس قال: ((جاء ثلاثة رهط إلى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فقال أحدهم: أما أنا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(2/28)


فالله هو الملك، والدار الإسلام، والبيت الجنة، وأنت يا محمد رسول. وفي حديث ابن مسعود عند أحمد: أما السيد فهو رب العالمين، وأما البنيان فهو الإسلام، والطعام الجنة، ومحمد الداعي، فمن اتبعه كان في الجنة. (فمن أطاع) الفاء للسبية أي لما كان هو الداعي فمن أطاع (محمد فقد أطاع الله) أي لأنه رسول صاحب المأدبة، فمن أجابة ودخل في دعوته أكل من المأدبة. وهو كناية عن دخول الجنة، وفي رواية الترمذي: وأنت يا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل ما فيها. (ومحمد فرق بين الناس) روى مشددا على صيغة الفعل الماضي، ومخففا أي بسكون الراء والتنوين على المصدر، وصف به للمبالغة كالعدل، أي هو الفارق بين المؤمن والكافر، والصالح والطالح، إذ به تميزت الأعمال والعمال، وهذا كالتذييل للكلام السابق؛ لأنه مستمل على معناه ومؤكد له، وفي تمثيل الملائكة إيقاظ للسامعين من رقدة الغفلة وسنة الجهالة، وحث لهم على الاعتصام بالكتاب والسنة، والإعراض عما يخالفهما من البدعة والضلالة. (رواه البخاري) في الاعتصام، وأخرجه أيضا الترمذي في الأمثال من غير طريق البخاري، وفي الباب عن ابن مسعود عند أحمد والترمذي وصححه، وابن خزيمه، وعن ربيعة الجرشي عند الدارمي والطبراني بسند جيد، وسيأتي في الفصل الثاني.

(2/29)


145- قوله: (ثلاثة رهط) بسكون الهاء، وهي العصابة دون العشرة، وقيل: دون الأربعين. اسم جمع لا واحد له من لفظه، والمراد ثلاثة أنفس، وهم علي، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وعثمان بن مظعون، كما في مرسل سعيد بن المسيب عند عبدالرزاق. وقيل: المقداد بدل عبدالله بن عمرو. (يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي في البيت وفي السر، والمراد معرفة قدر عادة وظائفه في كل يوم وليلة حتى يفعلوا ذلك. (فلما أخبروا) على صيغة المجهول أي أخبرتها (بها) أي بعبادته (كأنهم تقالوها) بتشديد اللام المضمومة، تفاعل من القلة أي عدوها قليلة لما في نفوسهم أنها أكثر مما أخبروا به بكثير. (أين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي بيننا وبينه بون بعيد، فإنا على صدد التفريط وسوء العاقبة، وهو معصوم مأمون الخاتمة، واثق بقوله تعالى: ?ليغفرالله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر? [2:48]. (وقد غفر الله له) أي فمن لم يعلم بحصول ذلك له يحتاج إلى المبالغة في العبادة عسى أن يحصل بخلاف من حصل له، لكن بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك ليس بلازم، فأشار إلى هذا بأنه أشد خشية، وذلك بالنسبة لمقام العبودية في جانب الربوبية (فقال أحدهم أما أنا)
فأصلى الليل أبدا. وقال الآخر: أنا أصوم النهار أبدا، ولا أفطر. وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(2/30)


أي أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد خص بالمغفرة العامة فلا عليه أن لا يكثر العبادة، وأما أنا فلست مثله (فأصلي الليل) الظاهر أنه وما بعده عزم على ما ذكر، ويحتمل الإخبار عن ذلك. (أبدا) قيد لليل لا لقوله: "أصلى" أي طول الليل (أنا أصوم النهار أبدا) كذا وقع في بعض النسخ بتأكيد الصيام بقوله: "أبدا"، والظاهر أنه خطأ وقد استغنى عنه بقوله: (ولا أفطر) وفي البخاري: أصوم الدهر ولا أفطر. قال الحافظ: لم يؤكد الصيام أي بالتأييد؛ لأنه لا بد له من فطر الليالي وكذا أيام العيد. (أنا أعتزل النساء) أي أجتنبهن (فلا أتزوج) أي منهن أحدا (أبدا) فإنهن والاشتغال بهن يمنع الشخص عن العبادة، ويوقعه في طلب الدنيا، والحرص على تحصيلها في العادة. (فجأ النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم) وقد علم ذلك بأن جاء إلى أهله فأخبروه، وإما بالوحي. (فقال أنتم) أي أأنتم؟ فحذفت همزة الاستفهام التي للإنكار (الذين قلتم كذا وكذا) كنابة عما تقدم. (أما) بفتح الهمزة وتخفيف الميم، حرف تنبيه واستفتاح بمنزلة "ألا" (إني لأخشاكم) أي إني لأعلم به، وبما هو أعز لديه، وأكرم عنده، فلوكان ما استاثرتموه من الإفراط في الرياضة أحسن مما أنا عليه من الاعتدال في الأمور لما أعرضت عنه. (لله) مفعول به "لأخشاكم" وأفعل لا يعمل في الظاهرة إلا في الظرف. قال ابن المنير: إن هؤلاء بنوا على أن الخوف الباعث على العبادة ينحصر في خوف العقوبة، فلما علموا أنه - صلى الله عليه وسلم - مغفور له ظنوا أن لا خوف، وحملوا قلة العبادة على ذلك، فرد - عليه الصلاة والسلام - عليهم ذلك، وبين أن خوف الإجلال أعظم من الإكثار المحقق الانقطاع؛ لأن الدائم وإن قل أكثر من الكثير إذا انقطع – انتهى. وقال المظهر: إن قلة وظائف النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت رحمة للأمة وشفقة عليهم لئلا يتضرروا؛ فإن لأنفسهم عليهم حقا. ولأزواجهم حقا. (لكني أصوم) استدراك عن محذوف دل

(2/31)


عليه السياق، أي أنا وأنتم بالنسبة إلى العبودية سواء، لكن أنا أعمل كذا. وقيل: المعنى أنا أخشاكم لله، فينبغي على زعمكم أو في الحقيقة أن أقوم في الرياضة إلى أقصى مداه، لكن أقتصد وأتوسط فيها، فأصوم في وقت (وأفطر) أي في آخر (وأصلى) بعض الليل (وأرقد) أي أنام في بعضه. (وأتزوج النساء) ولا أزهد فيهن، وكمال الرجل أن يقوم بحقهن مع القيام بحقوق الله تعالى، والتوكل عليه، والتفويض إليه، وهذا كله ليقتدي بي الأمة. (فمن رغب عن سنتي) المراد بالسنة الطريقة لا التي تقابل الفرض والواجب، أي أعرض عن طريقتي وتركها (فليس مني) أي ليس على ملتي إذا كان غير معتقد لها، والسنة مفرد مضاف يعم على الأرجح فيشمل الشهادتين وسائر أركان الإسلام، فيكون المعرض عن ذلك مرتدا. وكذا إذا كان الإعراض تنطعا يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله؛ لأن اعتقاد ذلك نوع من الكفر، وأما إن كان ذلك بضرب من التأويل كالورع لقيام شبهة في ذلك الوقت، أو عجزا عن القيام بذلك، أو لمقصود صحيح فيعذر صاحبه
متفق عليه.
146- (7) وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ((صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا، فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، فخطب فحمد الله، ثم قال: ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟ فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية))
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(2/32)


فيه. ومعنى "فليس مني" أي ليس علىطريقتي، ولا يلزم أن يخرج عن الملة، ولمح بذلك إلى طريق الرهبانية، فإنهم الذي ابتدعوا التشديد كما سيأتي، وقد عابهم الله بأنهم ما وفوه بما التزموه، وطريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - الحنيفية السمحة، فيفطر ليتقوى على الصوم، وينام ليتقوى على القيام، ويتزوج لكسر الشهوة وإعفاف النفس، وتكثير النسل. (متفق عليه) أخرجاه في النكاح، واللفظ للبخاري إلا قوله: "أصوم النهار أبدا" وأخرجه أيضا النسائي في النكاح، وأما ما ذكره الرافعي واشتهر على الألسنة بلفظ "النكاح من سنتي، فمن رغب عن سنتي فليس مني" فلم أجده مع الاستقراء التام والتتبع البالغ. والله أعلم.

(2/33)


146- قوله: (صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا) الظاهر أن الشيء المرخص فيه ما ذكر في حديث أنس من النوم بالليل والأكل بالنهار أي الإفطار في بعض الأيام في غير رمضان، والتزوج بالنساء، وفي حديث عائشة عند مسلم من غسل الجنابة بعد طلوع الفجر في رمضان. (فرخص) أي للناس (فيه) أي في ذلك الصنع أو من أجله (فتنزه) أي تباعد وتحرز (عنه) أي عن ذلك الصنع (قوم) لم يعرف الحافظ القوم بأعيانهم. وقيل الظاهر أنهم هم المذكورون فيما تقدم. (فبلغ ذلك) أي تنزههم (فخطب) أي أراد أن يخطب، ويمكن أن يكون قوله: (فحمد الله...) إلخ تفسيرا لما قبله (ثم قال) أي في أثناء خطبته (ما بال أقوام) استفهام إنكاري بمعنى التوبيخ، أي ما حالهم؟ (يتنزهون) صفة وقع موقع الحال (أصنعه) حال من الشيء، و"أل" فيه للعهد الذكري السابق في قوله: "شيئا" وقيل: اللام في الشيء للجنس، و"أصنعه" صفته. (فوالله إني لأعلمهم بالله) أي بعذاب الله وغضبه، يعني أنا أفعل شيئا من المباحات وهم يحترزون عنه، فإن احترزوا لخوف عذاب الله، فأنا أعلم بقدر عذاب الله تعالى منهم، فأنا أولى أن أحترز عنه. (وأشدهم له خشية) إشارة إلى القوة العملية، وقوله: "أعلمهم بالله" إشارة إلى القوة العلمية، أي إنهم توهموا أن رغبتهم عما أفعل أقرب لهم عند الله، وأن فعلي خلاف ذلك. وليس كما توهموا إذ هو أعلمهم بالقربة وأولاهم بالعمل بها، فمهما فعله - صلى الله عليه وسلم - من عزيمة ورخصة فهو فيه في غاية التقوى والخشية، لم يحمله التفضل بالمغفرة على ترك الجلد في العمل قياما بالشكر، ومهما ترخص فيه فإنما هو للإعانة على العزيمة ليعملها بنشاط. وفي الحديث ذم التعمق والتنزه عن المباح شكا في إباحته، وفيه الحث على الإقتداء به - صلى الله عليه وسلم - وأن الخير في الاتباع، سواء كان ذلك في العزيمة أو الرخصة، فإن استعمال الرخصة بقصد الاتباع في المحل الذي وردت
متفق عليه.

(2/34)


147- (8) وعن رافع بن خديج قال: ((قدم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهم يؤبرون النخل، فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه. قال: لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا. فتركوه، فنقصت. قال: فذكروا ذلك له. فقال: إنما أنا بشر، إذا أمرتك بشيء من أمر دينكم، فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي،
____________________________________________________________
أولى من استعمال العزيمة، بل ربما كان استعمال العزيمة حينئذ مرجوحا كما في إتمام الصلاة في السفر، وربما كان مذموما إذا كان رغبة عن السنة كترك المسح على الخفين. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأدب وفي الاعتصام، ومسلم في الفضائل، واللفظ للبخاري في الأدب. وأخرجه أيضا النسائي في عمل اليوم والليلة.

(2/35)


147- قوله: (وعن رافع بن خديج) بفتح معجمة، وكسر دال مهملة، وبجيم، ابن رافع بن عدى الأوسي الحارثي الأنصاري، يكنى أباعبدالله، صحابي جليل، أول مشاهده أحد، ثم الخندق، ورده النبي- صلى الله عليه وسلم - يوم بدر؛ لأنه استصغره، وأجازه يوم أحد فشهد أحدا، والخندق، وأكثر المشاهد، وأصابه يوم أحد سهم فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنا أشهد لك يوم القيامة، وانتقضت جراحته في زمن عبدالملك بن مروان فمات في أول سنة (73) بالمدينة، وله ست وثمانون سنة، وقيل: مات سنة (74) له ثمانية وسبعون حديثا، اتفقا على خمسة، وانفرد مسلم بثلاثة، روى عنه خلق. (وهم) أي أهل المدينة (يؤبرون النخل) بضم الياء وتشديد الباء المكسورة، من التأبير، وروى يأبرون بفتح الياء وتخفيف الباء المكسورة وضمها، من نصر وضرب. والأبر، والإبار، والتأبير: إدخال شيء من طلع الذكر في طلع الأنثى فتعلق بإذن الله، وتأتي بثمرة أجود مما لم يؤبر، وكانوا يفعلونه على العادة المستمرة في الجاهلية. (ما تصنعون) "ما" استفهامية (كنا نصنعه) أي هذا دأبنا وعادتنا. (لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا) أي تتعبون فيما لا ينفع. وفي حديث طلحة عند مسلم: ما أظن يغنى ذلك شيئا (فتركوه) أي التأبير (فنقصت) أي النخل ثمارها، أو انتقصت ثمارها، فإن النقص متعد ولازم (فذكروا) أي أصحاب النخل (ذلك) أي النقص (إنما أنا بشر) أي فليس لي اطلاع على المغيبات، وإنما ذلك شيء قلته بحسب الظن، يعني أني لاحظت إذ ذلك الأمر الحقيقي، وهو أن كل شيء بقدرته تعالى، وأنها هي المؤثرة في الأشياء حقيقة، ولم ألتفت إلى أن الله تعالى قد أجرى عادته بأن ستر تأثير قدرته في بعض الأشياء بأسباب معتادة، فجعلها مقارنة لها ومغطاة لها، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من مراعاة الأسباب. (إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم) أضاف الدين إليهم؛ لأن المراد: إذا أمرتكم بما ينفعكم في أمر دينكم فخذوه، كقوله تعالى:: ?وما

(2/36)


آتاكم الرسول فخذوه? [7:59] (فخذوا به) أي افعلوه فإني إنما نطقت به عن الوحي. (بشيء) من أمور الدنيا ومعايشها (من رأي) أي من غير تشريع، فأما ما قاله باجتهاد - صلى الله عليه وسلم - ورآه شرعا يجب العمل به، وليس إبار النخل من هذا النوع، بل من النوع
فإنما أنا بشر)). رواه مسلم.
148 – (9) وعن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما مثلى ومثل ما بعثنى الله به كمثل رجل أتى قوما، فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء. فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا، فانطلقوا على مهلهم، فنجوا.
___________________________________________________________________________________________________________
المذكور قبله، مع أن لفظة الرأي إنما أتى بها عكرمة على المعنى، لقوله في آخر الحديث "قال عكرمة أو نحو هذا" فلم يخبر بلفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - محققا، قاله النووى. (فإنما أنا بشر) جزاء للشرط على تأويل "وإذا أمرتكم بشيء من رأيي وأخطئي فلا تستبعدوه، "فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب" كما في رواية طلحة عند أحمد: والظن يخطئ ويصيب. وفي حديث طلحة عند مسلم: إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به. وفي حديث عائشة وأنس عند مسلم أيضا: أنتم أعلم بأمور دنياكم. قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبرا، وإنما كان ظنا كما بينه. قالوا: ورأية - صلى الله عليه وسلم - في أمور المعايش وظنه كغيره، فلا يمتنع وقوع مثل هذا، ولا نقص في ذلك, وسببه تعلق هممه بالآخرة ومعارفها، وعدم الالتفات إلى الأمور الدنيوية. (رواه مسلم) في الفضائل، وله شاهد من حديث طلحة عند أحمد ومسلم وابن ماجه، ومن حديث عائشة عند مسلم، وابن ماجه.

(2/37)


148- قوله: (إنما مثلي) المثل الصفة العجيبة الشأن، يوردها البليغ على سبيل التشبيه لإرادة التقريب والتفهيم (أتى قوما) أي لينذرهم بقرب عدوهم (بعيني) للتأكيد، ودفع المجاز، وهو بالتثنية وتشديد الياء الأخيرة (إني أنا النذير العريان) بضم العين وسكون الراء بعدها تحتية، من التعري، قيل: الأصل فيه أن رجلا لقى جيشا فسلبوه وأسروه، فانفلت إلى قومه فقال: إني رأيت الجيش فسلبوني، فرأوه عريانا فتحققوا صدقه؛ لأنهم كانوا يعرفونه ولا يتهمونه في النصيحة، ولا جرت عادته بالتعري، فقطعوا صدقه بهذه القرائن، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - لنفسه ولما جاء به مثلا بذلك لما أبداه من الخوارق والمعجزات الدالة على صدقة تقريبا لأفهام المخاطبين بما يألفونه ويعرفونه. وقيل: المراد المنذر الذي تجرد عن ثوبه، وأخذ يرفعه ويديره حول رأسه إعلاما لقومه بالغارة. وكان من عادتهم أن الرجل، إذا رأى الغارة فجأتهم، وأراد إنذار قومه يتعرى من ثيابه، ويشير بها ليعلم أن قد فجأهم أمر مهم، ثم صار مثلا لكل ما يخاف مفاجأته. (فالنجاء النجاء) بالمد والهمز فيهما، وبالقصر فيهما، وبمد الأولى وقصر الثانية تخفيفا، مصدر نجا إذا أسرع، نصب على الإغراء أي الطلبوا النجاء بأن تسرعوا الهرب، إشارة إلى أنهم لا يطيقون مقاومة ذلك الجيش، أو على المصدر أي أنجوا النجاء، وهو الإسراع، كرر للتأكيد (فأطاعه) الإطاعة تتضمن التصديق فيحسن مقابلته بقوله: "كذبت". (فأدلجوا) من الإدلاج بهمزة قطع، أي ساروا أول الليل أو كله (على مهلهم) بفتح الميم والهاء ويسكن، أي بالسكينة والتأني
وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش، فأهلكهم واجتاحهم. فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق)). متفق عليه.

(2/38)


149- (10) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مثلي كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حولها، جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم
___________________________________________________________________________________________________________
(وكذبت) التكذيب يستتبع العصيان. (فأصبحوا مكانهم) أي دخلوا وقت الصباح في مكانهم (فصبحهم الجيش) أي أتاهم صباحا للغارة، هذا أصله ثم كثر استعماله حتى استعمل في من طرق بغتة في أي وقت كان. (واجتاحهم) بالجيم في الأولى، والمهملة في الثانية، أي استأصلهم وأهلكهم بالكلية بشئوم التكذيب. (فذلك مثل من أطاعني...)إلخ، قيل: هذا من التشبيهات المفروقة، شبه ذاته - صلى الله عليه وسلم - بالرجل، وما بعثه الله به من إنذار القوم بعذاب الله القريب، بإنذار الرجل قومه بالجيش المصبح، وشبه من أطاعه من أمته ومن عصاه، بمن صدق الرجل في إنذاره وكذبه. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الرقاق، وفي الاعتصام، ومسلم في الفضائل.

(2/39)


149- قوله: (استوقد) أي أوقد، وزيدت السين للتأكيد. (أضاءت) الإضافة فرط الإنارة (ماحولها) هذه رواية مسلم، والضمير للنار، و"أضاءت" متعدية أي أضاءت النار جوانب تلك النار، وفي رواية البخاري "ماحوله" فالضمير للمستوقد، ويجوز أن تكون أضاءت غير متعدية فيسند الفعل إلى "ما" على تأويل: أضاءت الأماكن التي حول النار أو حول المستوقد. قال القاري: ما ظهر لي وجه عدول صاحب المشكاة إلى رواية مسلم عن رواية البخاري مع كونها أصح، ومع ثبوت موافقتها للفظ القرآن الأفصح، ودلالتها على المقصود بالطريق الأوضح، مع قوله: في آخر الحديث: هذه رواية البخاري – انتهى. (جعل) أي شرع (الفراش) بفتح الفاء وتخفيف الراء دوبية طير تتساقط في النار، يقال في الفارسية: بروانة. (وهذه الدواب) قيل: عطف تفسير للفراش، وأنثه نظر لخبره أو لكون الفراش اسم جنس. وقال ابن الملك: إشارة إلى غير الفراش (التي تقع في النار) أي عادتها إلقاء نفسها في النار، كالبرغش والجندب ونحوهما. (يقعن) أي الفراش والدواب (وجعل) المستوقد (يحجز هن) بضم الجيم، أي يمنعهن من الوقوع فيها. وفي البخاري "يزعهن" بالتحتانية والزاي وضم المهملة أي يدفعهن (ويغلبنه) أي على الوقوع فيها. (فيتقحمن فيها) أي يدخلن فيها بشدة ومزاحمة، من التقحم، وهو الإقدام والوقوع في أمر شاق من غير روية وتثبت، وفي البخاري "فيتقحمن" من الاقتحام. (فأنا) الفاء فصيحة، أي إذا صح هذا التمثيل بأنى كالمستوقد وأنتم كالفراش فيما ذكر فأنا (آخذ) اسم فاعل بكسر الخاء وتنوين الذال، ويروى بصيغة المضارع من المتكلم، والأول أشهر وهما صحيحان. (بحجزكم) بضم الحاء وفتح الجيم، جمع الحجزة، وهي
عن النار، وأنتم تقحمون فيها)). هذه رواية البخاري، ولمسلم نحوها، وقال في آخرها: قال: ((فذلك مثلى ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني، تقحمون فيها)). متفق عليه.

(2/40)


___________________________________________________________________________________________________________
معقد الإزار ومن السراويل موضع التكة، وخص ذلك بالذكر؛ لأن أخذ الوسط أقوى وأوثق من الأخذ بأحد الطرفين في التبعيد. (عن النار) وضع المسبب موضع السبب؛ لأن المراد أنه يمنعهم من الوقوع في المعاصي التي تكون سببا لولوج النار. (وأنتم تقحمون) من باب التفعل بحذف إحدى التائين، وفي نسخة صحيحة "تقتحمون" من باب الافتعال، (هذه) أي هذه الألفاظ أو ما ذكر من أول الحديث إلى هنا، والتأنيث باعتبار الخبر، وفي نسخة "هذا" أي هذا اللفظ. (رواية البخاري) أي في باب الانتهاء عن المعاصي من الرقاق، (ولمسلم نحوها) أي نحو رواية البخاري معنى. (وقال) أي مسلم (في آخرها) أي في آخر روايته (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (فذلك) أي المثل لمذكور (مثلي ومثلكم أنا آخذ) روي بالوجهين (هلم عن النار) أي أسرعوا إلي وأبعدوا أنفسكم عن النار، وهو في محل النصب على الحال، أي آخذ بحجزكم وأمنعكم قائلا هلم. (فتغلبوني) النون مشددة، إذ أصله "تغلبونني" فأدغم نون الجمع في نون الوقاية، والفاء للسببية والتقدير: أنا آخذ بحجزكم لأخلصكم من النار، فجعلتم الغلبة مسببة عن الأخذ. (تقحمون فيها) حال من فاعل تغلبوني، وقيل: بدل مما قبله. وفي مسلم "وتقحمون" أي بزيادة الواو. قال النووى: مقصود الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - شبه تساقط الجاهلين والمخالفين بمعاصيهم وشهواتهم في نار الآخرة، وحرصهم على الوقوع في ذلك مع منعه إياهم وقبضه على مواضع المنع منهم، بتساقط الفراش في نار الدنيا لهواه، وضعف تمييزه، فكلاهما حريص على هلاك نفسه، ساع في ذلك لجهله – انتهى. وقال الطيبي: تحقيق التشبيه الواقع في هذا الحديث يتوقف على معرفة معنى قوله تعالى: ?تلك حدود الله فلا تعتدوها، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون? [229:2]. وذلك أن حدود الله محارمه

(2/41)


ونواهيه، كما في الحديث الصحيح: ألا إن حمى الله محارمه، ورأس المحارم حب الدنيا وزينتها، واستيفاء لذاتها وشهواتها، فشبه - صلى الله عليه وسلم - إظهار تلك الحدود ببياناته الشافية الكافية من الكتاب والسنة باستيقاد الرجل النار، وشبه فشو ذلك في مشارق الأرض ومغاربها بإضاءة تلك النار ما حول المستوقد، وشبه الناس وعدم مبالاتهم بذلك البيان، وتعديهم حدود الله، وحرصهم على استيفاء تلك اللذات والشهوات، ومنعه إياهم عن ذلك بأخذ حجزهم، بالفراش التي يقتحمن في النار، ويغلبن المستوقد على دفعهن عن الاقتحام، كما أن المستوقد كان غرضه من فعله انتفاع الخلق به من الاستضاءة والاستدفاء وغير ذلك، والفراش لجهلها جعلته سببا لهلاكها، فكذلك كان القصد بتلك البيانات اهتداء الأمة واجتنابها ما هو سبب هلاكهم، وهم مع ذلك لجهلهم جعلوها مقتضية لترديهم، كذا في الفتح. (متفق عليه) فيه أنه مستغنى عنه بما سبق، فإيراده لمجرد التأكيد، على أن المراد بالاتفاق هنا يحسب المعنى في الأكثر. وأخرجه أيضا الترمذي، وصححه، وأخرج أحمد ومسلم نحوه عن جابر.
150- (11) وعن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء. فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا،
___________________________________________________________________________________________________________

(2/42)


150- قوله: (والعلم) عطف على "الهدى" من عطف المدلول على الدليل؛ لأن الهدى هو الدلالة الموصلة إلى المقصد، والعلم هو المدلول، وهو صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض، والمراد به هنا الأدلة الشرعية. (كمثل الغيث) أي المطر، واختار اسم الغيث ليؤذن باضطرار الخلق إليه إذ جاءهم على فترة من الرسل، وضرب المثل بالغيث للمشابهة التي بينه وبين العلم، فإن الغيث يحيى البلد الميت والعلم يحيى القلب الميت. (أصاب) صفة للغيث على أن اللام لتعريف الجنس ومدخوله كالنكرة فيوصف بالجملة كما في قوله: ?كمثل الحمار يحمل أسفارا? [5:62] ويجوز أن يكون حالا منه (أرضا) أي هي محل الانتفاع، وهذا القيد متروك ههنا اعتمادا على فهمه من التفصيل، وبقرينه ذكر ضده في مقابل هذا القسم وهو قوله: وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان... الخ؛ لأن قوله: "وأصاب منها طائفة أخرى" معطوف على جملة "أصاب أرضا" وهذا ظاهر، وعلى هذا فضمير "منها" في "وأصاب منها" لمطلق الأرض المفهوم من الكلام، لا الأرض المذكورة أولا في قوله: أصاب أرضا، فصار الحاصل أنه قسم الأرض بالنسبة إلى المطر إلى قسمين لا إلى ثلاثة كما توهمه كثير من الفضلاء، فظهر انطباق المثل بالمثل له، واندفع إيراد أن المذكور في المثل ثلاثة أقسام وفي الممثل له قسمان، كما لا يخفى، إلا أنه قسم القسم الأول من الأرض الذي هو محل الانتفاع أيضا إلى قسمين: قسم ينتفع بنتائج مائه النازل فيه وثمراته لا بعين ذلك الماء، وقسم ينتفع بعين مائه، تنبيها على أن الذي ينتفع بعلمه الواصل إليه قسمان من الناس: قسم ينتفع بثمرات علمه ونتائجه كأهل الاجتهاد والاستخراج والاستنباط، وقسم ينتفع بعين علمه ذلك كأهل الحفظ والرواية، والحاصل أنه- صلى الله عليه وسلم - شبه ما أعطاه الله من أنواع العلوم بالوحي الجلي أو الخفي بالماء النازل من السماء في التطهير، وكمال التنظيف، والنزول من العلو إلى السفل، ثم قسم الأرض

(2/43)


بالنظر إلى ذلك الماء قسمين: قسما هو محل الانتفاع، وقسما لا انتفاع فيه، وكذا قسم الناس بالنظر إلى العلم قسمين على هذا الوجه، إلا أنه قسم القسم الأول من الأرض إلى قسمين، واكتفى به في قسمة القسم الأول من الناس إلى قسمين لوضوح الأمر، وعلى هذا فأصل المثل تام بلا تقدير في الكلام. قاله السندهي، (فكانت منها طائفة طيبة قبلت) "منها" صفة "طائفة" قدمت علبها فصارت حالا، و"طيبة " مرفوع على أنها صفة طائفة، و"قبلت" منصوبة بخبر كانت. (الكلأ) بفتح الكاف واللام، آخره مهموز مقصور، النبات رطبا ويابسا، والكلا مقصور بغير الهمزة مختص بالرطب منه، فالكلأ بالهمز أنسب ليكن عطف الأخص على الأعم. (والعشب) بضم العين، وهو مختص بالرطب من النبات. (وكانت منها) أي من الأرض التي هي محل الانتفاع (أجادب) جمع جدب، وهي الأرض الصلبة التي تمسك الماء ولا تنبت الكلأ (فنفع الله بها) أي بالأجادب (وسقوا) أي دوابهم (وزرعوا) أيما يصلح للزرع،
وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)). متفق عليه.
151 – (12) وعن عائشة قالت: ((تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ?هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات?
________________________________________________________________________________________

(2/44)


وهذه رواية البخاري، هذه رواية البخاري، ولمسلم: رعوا من الرعى، وكذا للنسائي. (وأصاب) أي الغيث (منها) الجملة عطف على "أصاب أرضا" وضمير "منها" لمطلق الأرض المفهوم من الكلام لا للأرض المذكورة أولا في قوله: أصاب أرضا (إنما هي) أي تلك الطائفة (قيعان) بكسر القاف جمع قاع، وهي الأرض المستوية الملساء (فذلك) أي المذكور من الأنواع (مثل من فقه) بضم القاف وكسرها، والمشهور الضم، إذا فهم وأدرك الكلام (فعلم وعلم) الأول بكسر اللام مخففة، والثاني بتشديدها، وهذا مثل الأرض التي هي محل الانتفاع. فأهل الاجتهاد منهم كالأرض الطيبة التي قبلت الماء فأنبتت العشب والكلأ، وأهل الحفظ والرواية الذين لم يبلغوا مرتبة الاجتهاد والاستخراج كالأجادب التي أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا، وسقوا وزرعوا (ومثل من لم يرفع بذلك) أي بما بعثنى الله به (رأسا) أي للتكبر، ولم يلتفت إليه من غاية تكبره، وهذا مثل الأرض التي ليست محل الانتفاع لعدم إمساك الماء وعدم إنبات الكلأ. (ولم يقبل هدى الله) بضم الهاء وفتح الدال (الذى أرسلت به) قال الطيبي: عطف تفسيرى. وفي الحديث إشارة إلى أن الاستعدادات ليست بمكتسبة بل هي مواهب ربانية، وكمالها أن تستفيض من مشكاة النبوة فلا خير في من يشتغل بغير الكتاب والسنة، وأن الفقيه من علم وعلم. (متفق عليه) أخرجه البخارى، في العلم، ومسلم في فضائل النبي، وأخرجه أيضا أحمد (ج4:ص399) والنسائي في العلم.

(2/45)


151- قوله: (هو الذى أنزل عليك الكتاب) أي القرآن (منه) أي بعضه (آيات محكمات) وبعد ?هن? أي تلك الآيات المحكمات ?أم الكتاب? أي أصله الذى يعول عليه في الأحكام، ويعمل به في الحلال والحرام، ويرجع إليه غيره، فإن وافقه يقبل، وإلا فيحكم يبطلان ما فهمنا منه ?وأخر? أي آيات أخر ?متشابهات? [7:3]. قال الحافظ في الفتح: قيل المحكم من القرآن ما وضح معناه، والمتشابه نقيضه، وسمى المحكم بذلك لوضوح مفردات كلامه، وإتقان تركيبه، بخلاف المتشابه. وقيل: المحكم ما عرف المراد منه إما بالظهور، وإما بالتأويل، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة، وخروج الدجال، والحروف المقطعة في أوائل السور. وقيل في تفسير المحكم والمتشابه أقوال أخر غير هذه نحو العشر ليس هذا موضع بسطها، وما ذكرته أشهرها وأقربها إلى الصواب. وذكر أبومنصور البغدادى: أن
وقرأ إلى ?وما يذكر إلا أولو الألباب? قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

(2/46)


الأخير هو الصحيح عندنا، وابن السمعاني: أنه أحسن الأقوال، والمختار على طريقة أهل السنة، وعلى القول الأول جرى المتأخرون. قال: ودلت الآية على أن بعض القرآن محكم، وبعضه متشابه، ولا يعارض ذلك قوله: ?أحكمت آياته? [1:11] ولا قوله: ?كتابا متشابها مثاني? [23:39]؛ لأن المراد بالإحكام في قوله: "أحكمت" الإتقان في النظم، وأن كلها حق من عند الله، والمراد بالمتشابه كونه يشبه بعضه بعضا في حسن السياق والنظم أيضا، وليس المراد اشتباه معناه على سامعه، وحاصل الجواب: أن المحكم ورد بإزاء معنيين، والمتشابه ورد بإزاء معنيين – انتهى. وقال العلامة القنوجى البوفالي في فتح البيان (ج1:ص6) أخذا من فتح القدير (ج1:ص284، 287) للعلامة الشوكاني بعد ذكر الأقوال المختلفة في معنى المحكم والمتشابه ما نصه: والأولى أن يقال: إن المحكم هو الواضح المعنى، الظاهر الدلالة، إما باعتبار نفسه، أو باعتبار غيره، والمتشابه ما لا يتضح معناه، أو لا يظهر دلالته، لا باعتبار نفسه، ولا باعتبار غيره. وإذا عرفت هذا عرفت أن الاختلاف الذى قدمناه ليس كما ينبغى، وذلك لأن أهل كل قول عرفوا المحكم ببعض صفاته، وعرفوا المتشابه بما يقابلها. ثم بين ذلك مفصلا من شاء الوقوف عليه رجع إليه، ثم قال: إن من جملة ما يصدق عليه تفسير المتشابه الذي قدمناه، فواتح السور فإنها غير متضحة المعنى، ولا ظاهرة الدلالة، لا بالنسبة إلى أنفسها؛ لأنه لا يدري من يعلم بلغة العرب ويعرف عرف الشرع، ما معنى الم، المر، طس، طسم، ونحوها.؛ لأنه لا يجد بيانها في شيء من كلام العرب، ولا من كلام الشرع، فهي غير متضحة المعنى لا باعتبارها في نفسها، ولا باعتبار أمر آخر يفسرها ويوضحها، ومثل ذلك الألفاظ المنقولة عن لغة العجم، والألفاظ العربية التي لا توجد في لغة العرب ولا في عرف الشرع ما يوضحها، وهكذا ما استاثر الله بعلمه كالروح وما في قوله: ?إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث،

(2/47)


ويعلم ما في الأرحام? إلى آخر الآية [34:31]، ونحو ذلك، وهكذا ما كانت دلالته غير ظاهرة لا باعتبار نفسه، ولا باعتبار غيره، كورود الشيء محتملا لأمرين احتمالا لا يترجح أحدهما على الآخر باعتبار ذلك الشيء في نفسه، وذلك كالألفاظ المشتركة مع عدم ورود ما يبين المراد من معنى ذلك المشترك من الأمور الخارجة، وكذلك ورود دليلين متعارضين تعارضا كليا بحيث لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر باعتبار نفسه، ولا باعتبار أمرآخر يرجحه. وأما ما كان واضح المعنى باعتبار نفسه بأن يكون معروفا في لغة العرب، أو عرف الشرع، أو باعتبار غيره، وذلك كالأمور الجملة التي ورد بيانها في موضع آخر من الكتاب العزيز أو السنة المطهرة، والأمور التى تعارضت دلالتها ثم ورد ما يبين راجحها من مرجوحها في موضع آخر من الكتاب أو السنة أو سائر المرجحات المعروفة عند أهل الأصول، المقبولة عند أهل الإنصاف، فلا شك أن هذه من المحكم لا من المتشابه، ومن زعم أنها من المتشابه فقد اشتبه عليه الصواب – انتهى. (وقرأ إلى: ومايذكر إلا أولو الألباب) والتتمة ?فأما الذين في قلوبهم زيغ? أي ميل عن الحق إلى الباطل ?فيتبعون ما تشابه منه? أي يبحثون عنه، ويتعلقون به، لينزلوه على مقاصدهم الفاسدة ?ابتغاء الفتنة? أي طلبا منهم لفتنة الناس في دينهم، والتلبس عليهم، وإفساد ذوات بينهم، لا تحريا للحق ?وابتغاء تأويله? أ ي تفسيره على الوجه الذي
فإذا رأيت))، وعند مسلم: ((رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سماهم الله، فاحذروهم)). متفق عليه.
152- (13) وعن عبدالله بن عمرو قال: ((هجرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما، قال: فسمع أصوت رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرف في وجهه الغضب، فقال: إنما هلك من كان قبلكم

(2/48)


___________________________________________________________________________________________________________
يشتهونه، ويوافق مذاهبهم الفاسدة ?وما يعلم تأويله إلا الله? أي والحال أنه ما يعلم تأويله أي ما هو الحق، أو حقيقته إلا الله ?والراسخون في العلم? مبتدأ، أي الثابتون في علم الدين، الكاملون فيه ?يقولون? خبر ?آمنا به? أي بالمتشابه به، ووكلنا علمه إلى عالمه ?كل? أي من المتشابه والمحكم ?من عند ربنا? أي نزل من عنده وهو حق وصواب ?ومايذكر إلا أولو الألباب? [7:3] أي العقول الخالصة وهم الراسخون في العلم، الواقفون عند متشابهه، العاملون بمحكمه بما أرشدهم الله إليه في هذه الآية. وحكمة وقوع المتشابه فيه إعلام للعقول بقصورها لتستسلم لبارئها، وتعترف بعجزها، وتسلم من العجب والغرور والتكبر والتعزز. (فإذا رأيت) بفتح التاء، على الخطاب العام أي أيها الرأي. ولهذا جمعه في "فاحذروهم" وحكى بالكسر على أنها خطاب لعائشة بيانا لشرفها وغزارة علمها، وإن كان الخطاب عاما. (وعند مسلم رأيتم) أي بدل "رأيت" وهو يؤيد الأول (فأولئك) بفتح الكاف وقيل بالكسر (الذين سماهم الله) بأهل الزيغ أو زائغين بقوله: ?في قلوبهم زيغ? (فاحذورهم) أي لا تجالسوهم، ولا تكالموهم أيها المسلمون، فإنهم أهل البدعة، فيحق لهم الإهانة. وقيل: أمر بالحذر منهم احترازا عن الوقوع في عقيدتهم، فالمقصود التحذير من الإصغاء إليهم. قال النووى: في الحديث التحذير من مخالطة أهل الزيغ وأهل البدع، ومن يتبع المشكلات للفتنة. فأما من سأل عما أشكل عليه للاسترشاد، وتلطف في ذلك فلا بأس عليه، وجوابه واجب. وأما الأول فلا يجاب بل يزجر ويعزر كما عزر عمر بن الخطاب صبيغ بن عسل حين كان يتبع المتشابه – انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في التفسير، ومسلم في القدر، وأخرجه أيضا أحمد، والترمذي في التفسير، وأبوداود، وابن ماجه في السنة.

(2/49)


152- قوله: (هجرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بالتشديد، أي أتيته في الهاجرة أي الظهيرة. قال المظهر: التهجير السير في الهاجرة، وهي شدة الحر، ولعل خروجه في هذا الوقت ليدركه - صلى الله عليه وسلم - عند خروجه من الحجرة فلا يفوته شيء من أقواله وأفعاله (فسمع) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - من حجرته (اختلفا) صفة "رجلين" أي تنازعا واختصما (في آية) أي في معنى آية متشابه، ويحتمل أن يكون اختلافهما في لفظهما اختلاف قراءة. (يعرف) على بناء المجهول (في وجهه الغضب) الجملة حالية من فاعل "خرج"، وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يغضب لفنسه، وإنما كان يغضب لله فضغب ههنا زجرا عن المراء في القرآن (إنما هلك من كان قبلكم)
باختلافهم في الكتاب)). رواه مسلم.
153- (14) وعن سعيد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على الناس، فحرم من أجل مسألته))
___________________________________________________________________________________________________________
من اليهود والنصارى (باختلافهم في الكتاب) أي المنزل على نبيهم، وإنما كان الاختلاف سببا للهلاك؛ لأنه من أمارات التردد في أمر المبعوث به، وإساءة الأدب بين يديه. قال النووى: المقصود من الحديث التحذير عن اختلاف يؤدي إلى الكفر والبدعة كاختلاف اليهود والنصارى، وذلك مثل الاختلاف في نفس القرآن، أو فى معنى منه لا يسوغ الاجتهاد فيه، أو فيما يوقع في شك وشبهة، أو فتنة وخصومة، أو شحناء، ونحو ذلك. وأما الاختلاف لإظهار الصواب، وإيضاح الخطاء، وإحقاق الحق، وإزهاق الباطل فليس منهيا عنه، بل هو مأمور به، وقد أجمع المسلمون عليه من عهد الصحابة إلى الآن –انتهى كلام النووى مختصرا. (رواه مسلم) في القدر، وأخرجه أيضا النسائي، وأخرج البخاري عن ابن مسعود نحوه في الأشخاص وفي فضائل القرآن.

(2/50)


153- قوله: (وعن سعد بن أبي وقاص) بتشديد القاف، واسم أبي وقاص، مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة، يكنى سعد أبا إسحاق الزهرى القرشي المدني، أسلم قديما وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان سابع سبعة في الإسلام، وروي عنه أنه قال: كنت ثالث الإسلام. وأول من رمى بسهم في سبيل الله، شهد بدرا وما بعدها من المشاهد، وهو أحد العشرة المبشرة وآخرهم موتا. وأحد ستة الشورى، وفارس الإسلام، ومقدم جيوش الإسلام في فتح العراق، وجمع له النبي- صلى الله عليه وسلم - أبويه، وحرس النبي- صلى الله عليه وسلم -، وكوف الكوفة وطرد الأعاجم، وافتتح مدائن فارس، وهاجر قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان مجاب الدعوة، مشهورا بذلك، تخاف دعوته، وترجى لاشتهار إجابتها. له مائتا حديث وخمسة عشر حديثا، اتفقا عليها، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بثمانية عشر، روى عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين. مات في قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة. وحمل على رقاب الرجال إلى المدينة. ودفن بالبقيع سنة (55) وقيل (56) وقيل (57) وله بضع وسبعون سنة. (في المسلمين) أي في حقهم وجهتهم (جرما) تمييز أي ذنبا وظلما، والمعنى: أن أعظم من أجرم من المسلمين جرما كائنا في حق المسلمين، فقوله: "في المسلمين" حال عن "جرما" مقدمة عليه (من سأل) أي نبيه (لم يحرم) صفة لشيء. (على الناس) هذا لفظ مسلم في رواية، وفي رواية أخرى له "على المسلمين" (فحرم) بصيغة المجهول من التحريم (من أجل مسألته) أي لأجل سؤاله. قال الخطابي، والتيمي: هذا الحديث في حق من سأل تكلفا وعبثا، أو تعنتا في ما لا حاجة له به إليه، فأما من سأل لضرورة فيما يحتاج إليه من أمر الدين، بأن وقعت له نازلة فسأل عنها فلا إثم عليه، ولا عتب، كسؤال عمر وغيره من الصحابة في أمر الخمر حتى حرمت بعد ما كانت حلالا؛ لأن الحاجة دعت إليه، وسبب تخصيصه ثبوت الأمر بالسؤال مما يحتاج إليه لقوله: ?فاسئلوا أهل الذكر?

(2/51)


[7:21] فكل من الأمر
متفق عليه.
154- (15) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يضلونكم ولا يفتنونكم)) رواه مسلم.
155- (16) وعنه قال: كان أهل الكتاب يقرؤن التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم،
___________________________________________________________________________________________________________
بالسؤال والزجر عنه مخصوص بجهة غير الأخرى، وإنما كان هذا أعظم جرما؛ لأن سراية هذا الضرر عمت المسلمين إلى انقراض العالم، فالقتل وإن كان من أكبر الكبائر فإنه يتعدى إلى القاتل أو إلى عاقتله، ولكن جرم من حرم ما سأل لأجل مسألته، فإنه تعدى إلى سائر المسلمين، فلا يمكن أن يوجد جرم ينتهى في معنى العموم إلى هذا الحد. ويؤخذ منه أن من عمل شيئا أضر به غيره كان آثما، وأن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد الشرع بخلاف ذلك (متفق عليه) أخرجه البخارى في الاعتصام، ومسلم في الفضائل، وأخرجه أيضا أبوداود في السنة، ولفظ "في المسلمين" ليس للبخاري، وكذا لفظ "على الناس".

(2/52)


154- قوله: (يكون في آخر الزمان) أي آخر زمان هذه الأمة (دجالون) من الدجل وهو تلبيس الباطل بما يشبه الحق، يقال: دجل إذا موه ولبس، أي مزورون وملبسون وخداعون، يقولون للناس: نحن علماء ومشائخ، ندعوكم إلى الدين وهم كاذبون في ذلك، ويتحدثون بأكاذيب، ويبتدعون أحكاما باطلة، وإعتقادات فاسدة، فاحذروهم. ويجوز أن تحمل "الأحاديث" على المشهور عند المحدثين ليكون المراد بها الموضوعات. (فإياكم) أي أبعدوا أنفسكم عنهم (وإياهم) أي أبعدوهم عنكم (لا يضلونكم) استئناف، جواب لقائل لم نبعدهم؟ لئلا يضلوكم، فحذف الجار والناصب، فعاد الفعل إلى الرفع كذا ذكره بعضهم. وقال الطيبي: كأنه قيل: ماذا يكون بعد الحذر؟ فأجيب لا يضلونكم – انتهى. وقيل: هو خبر في معنى النهي مبالغة فيكون تأكيدا للأمر بالحذر. (ولايفتنونكم) أي لا يوقعونكم في الفتنة (رواه مسلم) في مقدمة صحيحه، وأخرجه أيضا أحمد.
155- قوله: (كان أهل الكتاب) أي اليهود (بالعبرانية) بكسر العين (ويفسرونها) أي يترجمونها (لا تصدقوا) أي فيما لم يتبين لكم صدقة، لاحتمال أن يكون كذبا، وهو الظاهر من أحوالهم (أهل الكتاب) أي اليهود والنصارى (ولا تكذبوهم) أي فيما حدثوا من التوراة والإنجيل، ولم يتبين لكم كذبه لاحتمال أن يكون صدقا وحقا وإن كان نادرا؛ لأن الكذوب قد يصدق، كذا في المرقاة. وقيل: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، أي إذا
وقولوا: ?آمنا بالله وما أنزل إلينا? الآية)). رواه البخاري.
156- (17) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع)) رواه مسلم.
157- (18) وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من نبى بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له في أمته حواريون
___________________________________________________________________________________________________________

(2/53)


كان ما يخبرونكم به محتملا لئلا يكون في نفس الأمر صدقا فتكذبوه، أو كذبا فتصدقوه فتقعوا في الحرج، ولم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه، ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاقه. ?وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا? من القرآن (الآية) تمامها: (وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى? أي من التوراة والإنجيل، وهذا محل الشاهد يعني إن كان ما تحدثونه حقا آمنا به؛ لأنا آمنا بجميع الرسل، وما أنزل إليهم من الله تعالى، وإن لم يكن حقا فلا نؤمن به ولا نصدقه أبدا ?وما أوتي النبيون من ربهم? تعميم بعد تخصيص ?لا نفرق بين أحد منهم? أي في الإيمان بهم وبكتبهم ?ونحن له? أي لله أو لما أنزل ?مسلمون? [136:2] أي مطيعون أو منقادون. قال البغوي في شرح السنة: هذا الحديث أصل في وجوب التوقف فيما يشكل من الأمور فلا يقضي فيه بجواز ولا بطلان، وعلى هذا كان السلف. (رواه البخاري) في تفسير البقرة، والاعتصام، والتوحيد.
156- قوله: (كفى بالمرء) هو مفعول "كفى" والباء زائدة، و"كذبا" تمييز، و"أن يحدث" فاعل "كفى" (كذبا) الخ. يعني لو لم يكن للمرء كذب إلا تحديثه بكل ما سمع من غير تبينه أنه صدق أم كذب يكفيه وحسبه من الكذب؛ لأن جميع ما يسمع الرجل لا يكون صدقا بل يكون بعضه كذبا، وهذا زجر عن التحديث بشيء لم يعلم صدقه، بل يلزم أن يبحث في كل ما سمع من الحكايات والأخبار، خاصة من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإن علم صدقه يتحدث به، ولذا أورد هذا الحديث في باب الاعتصام بالكتاب والسنة. (رواه مسلم) في مقدمة صحيحه، وأخرجه أيضا أبوداود في الأدب، والحاكم، وأخرج أيضا الحاكم نحوه عن أبي أمامة.

(2/54)


157- قوله: (ما من نبي) زيادة "من" لاستغراق النفي، وهو يحمل على الغالب؛ لأنه جاء في حديث: أن نبيا يجيئ يوم القيامة ولم يتبعه من أمته إلا واحد (بعثه الله في أمته) كذا وقع في أكثر النسخ بالهاء بعد التاء، وكذا وقع في بعض نسخ المصابيح. قيل: والصواب ما وقع في بعض نسخ المشكاة والمصابيح "في أمة" بغير هاء موافقا لما في صحيح مسلم (قبلي) قيل: على رواية "أمته" بالهاء يتعلق "قبلي" ببعث، أو يكون حالا من "أمته" وعلى رواية "أمة" يكون "قبلي" صفة لأمة. (حواريون) بتشديد الياء، جمع حواري أي ناصرون. قال الطيبي: حواري الرجل صفوته وخالصته الذي أخلص ونقى من كل عيب، من الحوار بفتحتين وهو شدة البياض. وقيل: الحواري القصار بلغة النبط. وكان أصحاب عيسى
وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) رواه مسلم.
158- (19) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة،
___________________________________________________________________________________________________________

(2/55)


قصارين يقصرون الثياب، أي يحورونها ويبيضونها، فلما صاروا أنصاره غلب عليهم الاسم، ثم استعير لكل من ينصر نبيا ويتبع هداه تشبيها بأولئك؛ لأنهم خلصان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (وأصحاب) عطف تفسيري، أو الأصحاب غير الحواريين أعم منهم (سنته) أي بهديه وسيرته (ويقتدون بأمره) أي يتبعونه في أمره ونهيه. (ثم إنها) الضمير للقصة (تخلف) بضم اللام، أي تحدث (خلوف) بضم الخاء، جمع خلف بسكون اللام مع فتح الخاء كعدل وعدول، وهو الردى من الأعقاب، أو ولد السوء. والخلف بفتحتين يجمع على أخلاف كسلف وأسلاف، وهو الصالح من الأعقاب والأولاد. والمعنى أنه يجيء من بعد أولئك السلف الصالح أناس لا خير فيهم، ولا خلاق لهم في أمور الديانات. (فمن جاهدهم) جزاء شرط محذوف، أي إذا تقرر ذلك فمن حاربهم وأنكر عليهم إلخ (فهو مؤمن) قال الطيبي: التنكير للتنويع، فالأول دل على كمال الإيمان، والثالث على نقصانه. والمتوسط على القصد فيه. وفي "حبة خردل" على نفيه بالكلية. (ومن جاهدهم بقلبه) أي أنكر عليهم بقلبه بأن يكره ويغضب عليهم، ولو قدر لحاربهم باليد أو باللسان (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) هي اسم "ليس" و"من" الإيمان" صفته قدمت فصارت حالا منها، و"وراء ذلك" خبره. ثم ذهب المظهر إلى أن الإشارة بذلك إلى الإيمان في المرتبة الثالثة. قال الطيبي: ويحتمل أن يشار إلى المذكور كله من مراتب الايمان، أي ليس وراء ما ذكرت من مراتب الإيمان مرتبط قط؛ لأن من لم ينكر بالقلب رضى بالمنكر، والرضا بالمنكر كفر، فتكون هذه الجملة المصدرة بليس معطوفة على الجملة قبلها بكمالها. قال القاري: والأول هو الظاهر، أي وراء الجهاد بالقلب. (رواه مسلم) في الإيمان.

(2/56)


158- قوله: (من دعا إلى هدى) أي دعا غيره إلى ما يهتدي به من الأعمال الصالحة (كان له) أي للداعي (لا ينقص) بضم القاف (ذلك) إشارة إلى مصدر "كان" وقيل: الأظهر أنه راجع إلى "الأجر" (من أجورهم شيئا) هو مفعول به لينقص، أي لا ينقص شيئا من أجورهم، أو مفعول مطلق أي شيئا من النقص. وهذا دفع لما يتوهم أن أجر الداعي إنما يكون مثلا بالتنقيص من أجر التابع، وبضم أجر التابع إلى أجر الداعي. (إلى ضلالة) أي إلى فعل إثم
كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا)) رواه مسلم.
159- (20) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء))
___________________________________________________________________________________________________________
(من آثامهم) ضمير الجمع في "أجورهم" و"آثامهم" يعود "من" باعتبار المعنى. قال القاضي: أفعال العباد وإن لم تكن موجبة للثواب والعقاب إلا أن عادة الله جرت بربطها بها ارتباط المسببات بأسبابها، فكما يترتب الثواب والعقاب على ما يباشره يترتب أيضا على ما هو مسبب عن فعله، كالإشارة إليه، والحث عليه. ولما كانت الجهة التي استوجب بها المسبب الأجر غير الجهة التي استوجب بها المباشر، لم ينقص من أجره شيئا – انتهى. واختلفوا في أنه إذا تاب الداعي للإثم، وبقي العمل به فهل ينقطع إثم دلالته بتوبته أو لا؟ والظاهر هو الأول؛ لأن التوبة تجب ما قبلها، والله أعلم. (رواه مسلم) في العلم، وأخرجه أيضا أحمد، والترمذي في العلم، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجة في السنة.

(2/57)


159- قوله: (بدأ) روي بالهمزة، أي ابتدأ، وروى بدونها، أي ظهر، والأول هو الأشهر على الألسنة، ويؤيده المقابلة بالعود، فإن العود يقابل بالابتداء. وقال النووى: ضبطناه بالهمزة، ومن الابتداء. والروايتان بالفعل المبني للمعلوم، المسند إلى فاعله، واستشكل بعضهم كونه بالهمزة من البدأ بمعنى الابتداء؛ لأن بدأ المهموز متعد، ولذلك رجح ضبطه بالقصر من البدو بمعنى الظهور (الإسلام غريبا) أي في آحاد من الناس وقلة ثم انتشر، يعني كان الإسلام في أوله كالغريب الوحيد الذي لا أهل له؛ لقلة المسلمين يومئذ، وقلة من يعمل بالإسلام. وأصل الغريب البعيد عن الوطن (وسيعود كما بدأ) أي وسيلحقه النقص والاختلال لفساد الناس، وظهور الفتن والبدع، واندراس رسوم السنة، وعدم القيام بواجبات الإيمان حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلة أيضا كما بدأ (فطوبى) أي فرحة وقرة عين، أو سرور وغبطة، أو الجنة، أو شجرة فيها (للغرباء) فسرهم - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمرو بن عوف عند الترمذي: بأنهم الذين يصلحون ما أفسد الناس بعده من سنته، كما سيأتي، وفي حديث ابن مسعود عند ابن ماجه: بالنزاع من القبائل، وهو جمع نزيع ونازع، وهو الغريب الذي أنزع عن أهله وعشيرته الذين يخرجون عن الأوطان لإقامة سنن الإسلام، وقد جاء عن بعض السلف أنهم أهل الحديث، قاله السندهي. وفيه تنبيه على أن نصرة الإسلام، والقيام بأمره يصير محتاجا إلى التغرب عن الأوطان، والصبر على مشاق الغربة كما كان في أول الأمر. قال الطيبي: أما أن يستعار الإسلام للمسلمين والغربة هي القرينة، فيرجع معنى الوحدة والوحشة إلى نفس المسلمين، وأما أن يجرى الإسلام على الحقيقة فالكلام على التشبيه، والوحشة باعتبار ضعف الإسلام وقلته، فعلى هذا "غريبا" إما حال أي بدأ الإسلام مشابها للغريب، أو مفعولا مطلقا أي ظهور الغرباء فريدا وحيدا، لا مأوى له حتى تبوأ دار الإيمان، أي طيبة، ثم أتم الله نوره في

(2/58)


المشارق والمغارب فيعود آخر الأمر وحيدا شريدا إلى طيبة كما بدأ. هذا، وقد أطال الشاطبي الكلام في بيان معنى الحديث في مقدمة
رواه مسلم.
160- (21) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها)). متفق عليه. وسنذكر حديث أبي هريرة: ((ذروني ما تركتكم))، في كتاب المناسك، وحديثي معاوية وجابر: ((لا يزال من أمتي، ولا يزال طائفة من أمتي))، في باب ثواب هذه الأمة، إن شاءالله تعالى.
?الفصل الثاني?
161- (22) عن ربيعة الجرشي قال:
___________________________________________________________________________________________________________
كتاب الاعتصام (ص3-17) وأجاد وأحسن، فعليك أن تراجعها (رواه مسلم) في الإيمان، وأخرجه أيضا ابن ماجه في الفتن، وأخرج نحوه الترمذي، وابن ماجه عن ابن مسعود، ومسلم عن ابن عمر، وأحمد عن سعد بن أبي وقاص، وابن ماجه عن أنس، والطبراني في الكبير عن سلمان، وسهل بن سعد، وابن عباس.

(2/59)


160- قوله: (إن الإيمان ليأرز) بكسر الراء الأكثر، ويروى بالفتح، وحكى بالضم، أي يأوي وينضم، وينقبض ويلتجئ (إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها) أي ثقبها، وهو بضم الجيم وسكون الحاء المهملة، والمراد أن أهل الإيمان يفرون بإيمانهم إلى المدينة وقاية بها عليه، أو لأنها وطنه الذي ظهر وقوي بها، وهذا إخبار عن آخر الزمان حين يقل الإسلام وينضم إلى المدينة فيبقى فيها. قال الطيبي: شبه الإيمان وفرار الناس من آفات المخالفين والتجاءهم إلى المدينة، بانضمام الحية وانقباضها في جحرها، ولعل هذه الدابة أشد فرارا وانضماما من غيرها فشبه بها بمجرد هذا المعنى، فإن المماثلة يكفي في اعتبارها بعض الأوصاف – انتهى. قال صاحب اللمعات: الظاهر أنه إخبار عن زمان خروج الدجال كما يدل عليه الأحاديث – انتهى. وحمله عياض، والقرطبي، والنووى، والحافظ، وغيرهم على جميع الأزمنة، والأول أظهر. والمراد بالمدينة هي وجوانبها وحواليها ليشمل مكة، فيوافق رواية الحجاز الآتية في الفصل الثاني. (متفق عليه) أخرجه البخاري في فضل المدينة من الحج، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضا أحمد، وابن ماجه في الحج (وسنذكر) الخ. هذا اعتذار متضمن لاعتراض فتأمل. (حديث أبي هريرة ذروني ما تركتكم) أي إلى آخره (في كتاب المناسك) متعلق بقوله: سنذكر (وحديثي معاوية) عطف على حديث أبي هريرة (وجابر) عطف على معاوية (لا يزال من أمتي) أي أحدهما أوله هذا (و) وفي بعض النسخ: والآخر (لا يزال طائفة من أمتي) كلاهما (في باب ثواب هذه الأمة) لكنه لم يف بما وعد، فلم يذكر هناك حديث جابر.
161- قوله: (عن ربيعة الجرشي) بضم الجيم وفتح الراء المهملة بعدها معجمة، نسبة إلى جرش كزفر، مخلاف

(2/60)


أتى نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فقيل له: لتنم عينك، ولتسمع أذنك، وليعقل قلبك. قال: فنامت عيني، وسمعت أذناي، وعقل قلبي. قال: فقيل لي: سيد بنى دارا، فصنع فيها مأدبة وأرسل داعيا، فمن أجاب الداعي، دخل الدار، وأكل من المأدبة، ورضي عنه السيد. ومن لم يجب الداعي، لم يدخل الدار، ولم يأكل من المأدبة، وسخط عليه السيد. قال: فالله السيد، ومحمد الداعي، والدار الإسلام، والمأدبة الجنة)).
___________________________________________________________________________________________________________

(2/61)


باليمن، وهو ربيعة بن عمرو، ويقال: ابن الحارث، ويقال: ابن الغاز بمعجمة وزاى، أبوالغاز الدمشقي، وهو جد هشام ابن الغاز بن ربيعة، مختلف في صحبته، ذكر ابن عبدالبر في الاستيعاب عن الواقدى، قال: ربيعة الجرشي قد سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث. وقال البخاري في تاريخه: له صحبة، وذكره في الصحابة المصنف، وابن حبان، وابن مندة، وأبونعيم، والباوردي، والبغوي، وابن سعد، وغيرهم، وقال أبوحاتم: ليست له صحبة، وذكره أبوزرعة الدمشقي في التابعين. وقال الدارقطني: في صحبته نظر. وقال الصورى في حاشية الطبقات: لا أعلم له صحبة. واتفقوا على أنه قتل بمرج راهط مع الضحاك بن قيس سنة (64) وكان فقيها، وثقه الدارقطني في الجرح والتعديل، ووثقه أيضا غيره (أتى) بصيغة المجهول (نبي الله - صلى الله عليه وسلم -) أي أتاه آت. (فقيل له) أي للنبي (لتنم عينك، ولتسمع أذنك، وليعقل قلبك) قال المظهر: أي أتى ملك إليه وقال له ذلك، ومعناه: لا تنظر بعينك إلى شيء، ولا تصغ بأذنك إلى شيء، ولا تجر شيئا في قلبك، أي كن حاضرا حضورا تاما لتفهم هذا المثل. (قال: فنامت عيني) بالإفراد، وفي بعض النسخ "عيناى" بالتثنية" موافقا لما في الدارمي (وسمعت أذناي وعقل قلبي) يعنى فأجابه بأني قد فعلت ذلك. قيل الأوامر الثلاثة واردة على الجوارح ظاهرا، وهي في الحقيقة له - صلى الله عليه وسلم - بأن يحمع بين هذه الخلال الثلاث: نوم العين، وحضور السمع والقلب، وعلى هذا جوابه بقوله: "فنامت" أي امتثلت لما أمرت به. وقيل: المراد بالأمر به الإخبار عنه، أي أنت نائم، سامع، داع؛ لأن الملك إنما جاءه وهو نائم، فقال له ذلك، وقيل: الأمر للاستمرار في الكل (فقيل لي) أي بطريق المثل من جهة الملك (سيد) خبر مبتدأ محذوف يعني "هو" وقوله: (بنى دارا) صفته، أي مثل سيد بنى دارا، ويجوز أن يكون مبتدأ و"بنى" خبره والتنوين للتعظيم، أو سوغه كونه فاعلا معنى، قاله القاري

(2/62)


(ورضي عنه السيد) بسبب الإجابة واللام للعهد (ومن لم يجب الداعي) تكبرا وعنادا، أو جهلا واستبعادا (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو الملك. والأول أظهر، والتقدير: إن أردت بيان هذا المثل (فالله السيد، ومحمد الداعي، والدار الإسلام، والمأدبة الجنة) فإن قلت: كيف شبه في حديث جابر السابق الجنة بالدار، وفي هذا الحديث الإسلام بالدار وجعل الجنة مأدبة؟ أجيب بأنه لما كان الإسلام سببا لدخولها اكتفى في ذلك بالمسبب عن السبب، ولما كانت الدعوة إلى الجنة لا تتم إلا بالدعوة إلى الإسلام استقام
رواه الدارمي.
162- (23) وعن أبي رافع، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدرى، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)) رواه أحمد، وأبوداود، والترمذي،
___________________________________________________________________________________________________________
وضع كل منهما مقام الآخر، ولما كان نعيم الجنة وبهجتها هو المطلوب الأصلي جعل الجنة نفس المأدبة مبالغة فيها، كذا حققه الطيبي (رواه الدارمي) وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير، وسند جيد، قاله الحافظ.

(2/63)


162- قوله: (وعن أبي رافع) مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، اختلف في اسمه فقيل: أسلم، وقيل: هرمز، وقيل: ثابت، وقيل: إبراهيم، وقيل غير ذلك. والأول هو الأشهر، غلبت عليه كنيته، كان قبطيا، وكان للعباس، فوهبه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما بشر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسلام عباس أعتقه. وكان إسلامه قبل بدر ولم يشهدها، وشهد أحدا وما بعدها. له ثمانية وستون حديثا، انفرد البخاري بحديث، ومسلم بثلاثة. روى عنه خلق كثير، مات في أول خلافة علي على الصحيح. (لا ألفين) بصيغة المتكلم المؤكدة بالنون الثقيلة، من ألفيت الشيء أي وجدته. (أحدكم) ظاهره نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه عن أن يجدهم على هذه الحالة، والمراد نهيهم عن أن يكونوا على هذه الحالة، فإنهم إذا كانوا عليها بجدهم - صلى الله عليه وسلم - كذلك، من باب إطلاق المسبب (متكئا) حال أو مفعول ثان (على أريكته) أي سريره المزين بالحلل والأثواب في قبة أو بيت كما للعروس، يعني الذي لزم البيت، وقعد عن طلب العلم. قيل: المراد بهذه الصفة الترفه والدعة كما هو عادة المتكبر القليل الاهتمام بأمر الدين (يأتيه) حال أخرى من المفعول، ويكون النهي منصبا على المجموع، أي لا ألفين أحدكم والحال أنه متكئ ويأتيه الأمر فيقول: لا أدري، إلخ (الأمر) أي الشأن فيعم الأمر والنهي فوافق البيان بقوله: مما أمرت به أو نهيت عنه. (من أمرى) بيان الأمر، وقيل: اللام زائدة في "الأمر" ومعناه أمر من أمرى، أي شأن من شئون ديني (مما أمرت به أو نهيت عنه) بدل من أمري (ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) ما موصولة مبتدأ خبره "اتبعناه" يعني الذي وجدناه في القرآن اتبعناه، وما وجدناه في غيره لا نتبعه، أي وهذا الأمر الذي أمر به - صلى الله عليه وسلم - أو نهى عنه ليس في كتاب الله فلا نتبعه، ويحتمل أن تكون "ما" نافية، والجملة كالتأكيد لقوله: "لا أدري" وجملة "اتبعناه" حال أي وقد

(2/64)


اتبعنا كتاب الله فلا نتبع غيره، والمقصود النهي عن الإعراض عن حديثه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن المعرض عنه معرض عن القرآن، فالحديث حجة شرعية كالقرآن. قال السندي: وقول بعض أهل الأصول: لا يجوز الزيادة على الكتاب بخبر، في الصورة أشبه شيء بهذا المنهي عنه، وإن كان معناه لا يجوز تقييد إطلاق الكتاب بخبر الآحاد، فالاحتراز عن إطلاق ذلك اللفظ أحسن وأولى، انتهى. والحديث دليل من دلائل النبوة، وعلم من أعلامها، فقد وقع ما أخبر به كما لا يخفى على أهل الهند سيما أهل الفنجاب من باكستان. (رواه أحمد) رجاله رجال الحسن (وأبوداود) في السنة (والترمذي) في العلم، وقال "حسن".
وابن ماجه، والبيهقي في دلائل النبوة.
163- (24) وعن المقدام بن معديكرب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه. وإن ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
___________________________________________________________________________________________________________
(وابن ماجه) في السنة (والبيهقي في دلائل النبوة) وأخرجه أيضا الحاكم.

(2/65)


163- قوله: (وعن المقدام) بكسر ميم (بن معد يكرب) بفتح الكاف وكسر الراء، وأما الباء فيجوز كسرها مع التنوين على الإضافة، ويجوز فتحه على البناء، كذا في تهذيب الأسماء. قال القاري: والثاني هو الصحيح من النسخ، وهو المقدام بن معديكرب بن عمرو بن يزيد بن معديكرب الكندي يكنى أباكريمة، وقيل: كنيته أبويحيى، صحابي مشهور، نزل الشام، وحديثه فيهم. مات سنة (47) على الصحيح، وله (91) سنة. روي له أربعون حديثا، انفرد له البخاري بحديث، روى عنه خلق (ألا أني أوتيت) أي آتاني الله (القرآن، ومثله معه) أ ي أعطيت القرآن ومثل القرآن حال كونه منضما معه. قال البيهقي: هذا الحديث يحتمل وجهين: أحدهما أنه أوتي من الوحي الباطن غير المتلو، مثل ما أوتي من الظاهر المتلو، والثاني أن معناه أنه أوتي الكتاب وحيا يتلى، وأوتي مثله من البيان، أي أذن له أن يبين ما في الكتاب فيعم ويخص، وأن يزيد عليه فيشرع ما ليس في الكتاب له ذكر، فيكون ذلك في وجوب الحكم ولزوم العمل به كالظاهر المتلو من القرآن يعني أوتيت القرآن، وأحكاما، ومواعظ، وأمثلا، تماثل القرآن في كونها واجبة القبول، أو في المقدار (ألا) قال الطيبي: في تكرير كلمة التنبيه توبيخ وتقريع نشأ من غضب عظيم على من ترك السنة والعمل بالحديث استغناء بالكتاب، فكيف بمن رجح الرأي على الحديث؟ انتهى (يوشك) بكسر الشين مضارع أوشك أي يقرب (شبعان) بالضم من غيرتنوين كناية عن البلادة وسو الفهم الناشئ من الشبع وكثرة الأكل، أو من الحماقة اللازمة للتنعم والغرور بالمال والجاه (على أريكته) أي متكئا أو جالسا عليها، وفيه تأكيد لحماقة القائل وبطره، وسوء أدبه. قال الأبهرى: المتكئ القاعدة المتقوى على وطاء متمكنا، والعامة لا تعرف المتكئ إلا من مال في قعوده معتمدا على أحد شقيه –انتهى. (يقول) أي لأصحابه في رد الحديث حيث لا يوافق هواه، وهو خبر "يوشك" (عليكم بهذا القرآن) أي الزموه واعملوا به، ولا

(2/66)


تلتفتوا إلى غيره (فما وجدتم فيه) أي في القرآن (من حلال) بيان لـ"ما" (فأحلوه) أي اعتقدوه حلاله، أو احكموا بأنه حلال، واستعملوه (فحرموه) أي اعتقدوه حراما واجتنبوه. قال الخطابي: يحذر بذلك مخالفة السنن التي سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما ليس له ذكر في القرآن على ما ذهب إليه الخوارج، فإنهم تعلقوا بظاهر القرآن وتركوا السنن التي ضمنت بيان الكتاب فتحيروا وضلوا. (وان ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي وأحل، وهذا ابتداء الكلام من
كما حرم الله، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهد إلا أن يتسغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه))..
___________________________________________________________________________________________________________

(2/67)


النبي - صلى الله عليه وسلم -، والواو للحال، وفيه التفات، أي الذي حرمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غير القرآن (كما حرم الله) أي وأحل، أي في القرآن. وفي ابن ماجه: ألا وإن ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما حرم الله. قال السندي: "وإن ما حرم" عطف على مقدر، أي ألا إن ما في القرآن حق، وإن ما حرم... الخ. مثل ما حرم الله، أي في القرآن، وإلا فما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو عين ما حرم الله، فإن التحريم يضاف إلى الرسول باعتبار التبليغ وإلا هو في الحقيقة لله. والمراد أنه مثله في وجوب الطاعة ولزوم العمل به- انتهى. (ألا لا يحل لكم) شروع في بيان ما ثبت بالسنة، ولم يوجد له ذكر في الكتاب على سبيل التمثيل لا التحديد (الحمار الأهلي) التخصيص بالصفة لنفي عموم الحكم؛ لأن البري حلال (ولا كل ذي ناب من السباع) أي سباع الوحوش كالأسد والذئب (ولا لقطة) بضم اللام وفتح القاف، مما يلتقط مما ضاع من شخص بسقوط أو غفلة (معاهد) أي كافر بينه وبين المسلمين عهد بأمان في تجارة، أو رسالة، وفي معناه الذمي. (إلا أن يستغني عنها صاحبها) أي يتركها لمن أخذها استغناء عنها، وهذا تخصيص بالإضافة، ويثبت الحكم في لقطة المسلم بطريق الأولى، وقيل: وجه التخصيص الاهتمام بشأن المعاهد لعهده؛ لأن النفس ربما تتساهل في لقطته لكونه كافرا، ولأنه بعيد عن المسامحة، بخلاف المسلم (ومن نزول بقوم) أي من استضاف قوما (فعليهم أن يقروه) بفتح الياء وضم الراء، أي يضيفوه من قريت الضيف قرى إذا أحسنت إليه. وفيه دليل على وجوب القرى، وإليه ذهب أحمد، وحمله الأئمة الثلاثة على الندب (فإن لم يقروه فله) أي فللنازل (أن يعقبهم) من الإعقاب بأن يتبعهم ويجازيهم من صنيعه. يقال: أعقبه بطاعته إذا جازاه، وروي بالتشديد (مثل قراه) بالكسر والقصر لا غير. قال الجزرى في النهاية: أي فله أن يأخذ منهم عوضا عما حرموه من القرى، يقال: عقبهم

(2/68)


مشددا ومخففا، وأعقبهم، وإذا أخذ منهم عقبى وعقبة، وهو أن يأخذ عنهم بدلا عما فاته –انتهى. وفيه تأكيد لوجوب القرى، فإنه يدل على إباحة العقوبة بأخذ المال لمن ترك ذلك، وهذا لا يكون في غير واجب. وأجاب القائلون بندب الإضافة عن هذا الحديث بأنه يحتمل أن الأمر بأخذ مقدار القرى من مال المنزول به كان من جملة العقوبات التي نسخت بوجوب الزكاة، ورد بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال. وأجابوا أيضا بأنه محمول على المضطر، فإنه يجب إطعامه إجماعا. ورد بأن لا دليل على هذا الحمل ولا دعت إليه حاجة، فلا يلتفت إليه. وأجابوا أيضا بأنه كان في أول الإسلام ثم صار منسوخا. وأجابوا أيضا بأنه محمول على من مر بأهل الذمة الذين شرط علهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين. ورد بأن هذا الحمل ضعيف بل باطل؛ لأنه إنما صار هذا في زمن عمر بن الخطاب. والراجح عندي ما ذهب إليه أحمد لحديث المقدام وغيره مما يدل على وجوب الضيافة، وهو مخصص لحديث حرمة الأمول إلا بطيبة
رواه أبوداود، وروى الدارمي نحوه، وكذا ابن ماجة إلى قوله: كما حرم الله.
164- (25) وعن العرباض بن سارية، قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أيحسب أحدكم متكئا على أريكته يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في هذا القرآن؟ ألا وإني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر، وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب
___________________________________________________________________________________________________________

(2/69)


الأنفس، وسيأتي بسط الكلام في ذلك في باب الضيافة إن شاءالله. (رواه أبوداود) في الأطعمة مختصرا، وفي السنة بهذا اللفظ إلا أنه ليس فيه قوله: وإن ما حرم رسول الله- صلى الله عليه وسلم - كما حرم الله (وروى الدارمي نحوه) أي بالمعنى (وكذا) روى نحوه (ابن ماجه) في السنة لكن (إلى قوله: كما حرم الله) وأخرج أيضا نحوه مختصرا الترمذي في العلم، وقال: حسن غريب. والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وأحمد (ج4:ص131) مطولا بلفظ أبي داود.

(2/70)


164- قوله: (وعن العرباض) بكسر أوله وسكون الراء بعدها موحدة وبعد الألف معجمة (بن سارية) السلمى يكنى أبا نجيح، صحابي مشهور من أهل الصفة، سكن الشام ومات بها سنة (75) وهو ممن نزل فيه قوله تعالى: ?ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم? [92:9] الخ. روى عنه من الصحابة أبورهم وأبوأمامة، وروى عنه جماعة من تابعي أهل الشام، له أحد وثلاثون حديثا. وقال البرقي: بضعة عشر حديثا. (قام) أي خطيبا أو خطب (أيحسب) بكسر السين وفتحها أي أيظن (متكئا) حال (يظن) بدل من "يحسب" بدل الفعل من الفعل للبيان والتفسير، قاله الأشرف. قال الطيبي: ويجوز أن يكون التكرار للتأكيد كما في قوله تعالى: ?لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا "إلى قوله:" فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب? [188:3] (ألا) للتنبيه (وإني) الواو للحال، قال الطيبي: الواو ههنا بمنزلة الواو في "وإن ما" في الحديث السابق؛ لأن الهمزة للإنكار أي همزة "أيحسب" والمعنى: أيحسب أحدكم أن الله تعالى حصر المحرمات في القرآن والحال أني قد حرمت، فأقحم حرف التنبيه المتضمن للإنكار بين الحال وعاملها، كما أقحم حرف الإنكار بين المبتدأ والخبر في قوله: ?أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار? [39: 19]، جاءت الهمزة مؤكدة معادة بين المبتدأ المتضمن للشرط وبين الخبر، ذكره الزجاج (عن أشياء) متعلق بالنهي فحسب، ومتعلق الأمر والموعظة محذوف، أي بأشياء (إنها) أي الأشياء المأمورة والمنهية عنها على لساني بالوحي الغير المتلو (لمثل القرآن) أي في المقدار (أو أكثر) أي بل أكثر. قال القاري: وقد يستشكل هذا بقوله تعالى: ?ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء? [89:16] بناء على بأنه على عمومه، أي فيما يحتاج إليه في الدين. ويجاب بأن نسبة هذا إليه - صلى الله عليه وسلم - إنما هو لكونه الذي استنبطه واستخراجه من القرآن، ولذا قال الشافعي: كل ما حكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مما فهمه

(2/71)


من القرآن، ثم أخرج ما يؤيده وهو قوله: - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه)). (لم يحل لكم) من الإحلال (أهل الكتاب
إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم)). رواه أبوداود، وفي إسناده أشعث بن شعبة المصيصي، قد تكلم فيه.
165- (26) وعنه، قال: ((صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، ثم أقبل علينا بوجهه فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. فقال رجل: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كأن هذه موعظة مودع فأوصنا، فقال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة،
___________________________________________________________________________________________________________
يعني أهل الذمة الذين قبلوا الجزية (إلا بإذن) وفي بعض النسخ المصححة "إلا بإذنهم" أي إلا أن يأذنوا لكم بالطوع والرغبة (ولا أكل ثمارهم) أي بالقهر من بساتينهم فضلا عن بقية أموالهم. (إذا أعطوكم الذي عليهم) أي من الجزية وما عاهدوا عليه والتزموه. (رواه) . قال القاري: كذا أي بياض في أصل المشكاة بعد قوله: "رواه" وسببه تقدم في الخطبة، فألحقه ميرك شاه في هذا المحل، وقال: رواه أبوداود وفي إسناده أشعث بن شعبة المصيصي تكلم فيه- انتهى. قلت: أخرج الحديث أبوداود في كتاب الخراج، وسكت عنه. وقال المنذري: في إسناده أشعث بن شعبة المصيصي، وفيه مقال – انتهى. وفي التهذيب (ج1: ص354) قال أبوزرعة: لين، وذكره ابن حبان في الثقات. قال الحفاظ: وفي سؤالات الأحمرى عن أبي داود: أشعث بن شعبة ثقة. وقال في التقريب: هو مقبول. والمصيصي بكسر الميم والمهملة المشددة، نسبة إلى المصيصة مدينة على ساحل البحر، كذا في لب اللباب. وفي القاموس: والمصيصة كسفينة بلد بالشام ولا تشدد.

(2/72)


165- قوله: (صلى بنا) أي إماما لنا (بوجهه) تأكيد (فوعظنا) بفتح الظاء (بليغة) أي تامة في الإنذار من المبالغة، أي بالغ فيها بالإنذار والتخويف، لا من البلاغة المفسرة بوجازة اللفظ وكثرة المعنى مع البيان، لعدم المناسبة بالمقام (ذرفت) بفتح الراء. أي دمعت (منها) أي من موعظته (العيون) أي سالت دموع العيون، وفي إسناد "الذرف" إلى "العيون" مع أن السائل دموعها مبالغة، والمقصود أنها أثرت فيهم ظاهرا وباطنا. (ووجلت) بكسر الجيم أي خافت (منها القلوب) لتأثيرها في النفوس واستيلاء سلطان الخشية على القلوب (فقال رجل) وفي رواية لأحمد "قلنا" وفي رواية للحاكم "فقلنا" (كأن) بالتشديد (موعظة مودع) اسم فاعل من ودع، أي المبالغة تدل على أنك تودعنا، فإن المودع عند الوداع لا يترك شيئا مما يهم المودع بفتح الدال، ويفتقر إليه إلا ويورده، ويستقصي فيه (فأوصنا) أي إذا كان الأمر كذلك فمرنا بما فيه كمال صلاحنا (أوصيكم بتقوى الله) هذا من جوامع الكلم؛ لأن التقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، وهي كافلة سعادة الدنيا والآخرة لمن تمسك بها وهي وصية الله للأولين والآخرين. (والسمع والطاعة) أي وبقبول قول من يلي أمركم من المسلمين وطاعته ما لم يأمر بمعصية عادلا كان أو جائرا، وإلا فلا سمع ولا طاعة لمخلوق في
وإن كان عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسني وسنة الخلفاء الراشدين المهديين،
___________________________________________________________________________________________________________

(2/73)


معصية الخالق (وإن كان عبدا حبشيا) أي ولوكان الأمير الذى ولاه الخليفة عليكم أدنى الخلق فلا تستنكفوا عن إطاعته مخافة إثارة الحروب وتهييج الفتن وظهور الفساد في الأرض، وفي رواية الحاكم: وإن أمر عليكم عبد حبشي. وفيه دليل على أن الكلام في الأمير الذي ولاه الخليفة لا في الخليفة حتى يرد أنه كيف يكون الخليفة عبدا حبشيا، ويشهد لذلك حديث على عند الحاكم: ((وإن أمرت قريش فيكم عبدا حبشيا مجدعا فاسمعوا له وأطيعوا)). إسناده جيد، على أن المحل محل المبالغة في لزوم الطاعة، ففرض الخليفة عبدا حبشيا لإفادة المبالغة يحتمل. وقيل: هو محمول على المتغلب المتسلط فإنه تصح خلافته تسلطا وتغلبا. (فإنه من يعش) بالجزم (منكم بعدي) الخ. هذا بمنزلة التعليل للوصية بما تقدم. أي السمع والطاعة مما يدفع الخلاف الشديد فهو خير، قال الطيبي: الفاء في "فإنه" للسببية جعل ما بعدها سببا لما قبلها، يعني من قبل وصيتي والتزم تقوى الله، وقبل طاعة من ولي عليه، ولم يهيج الفتن أمن بعدي ما يرى من الاختلاف الكثير، وتشعب الآراء، ووقوع الفتن والحروب، وظهور البدع والأهواء (بسنتي) أي بطريقتي الثابتة عني واجبا أو مندوبا (وسنة الخلفاء)؛ لأنهم فيما سنوه إما متبعون لسنة نفسها، وإما متبعون لما فهموا من سنتي في الجملة والتفصيل على وجه يخفى على غيرهم مثله (الراشدين) أي الذين أوتوا الرشد والسداد في مقاصدهم الصحيحة. (المهديين) أي الذين هداهم الله إلى الحق، والمعنى: الزموا طريقتهم، وقد كانت طريقتهم هي نفس طريقته - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم أشد الناس حرصا عليها، وعملا بها في كل شيء، وعلى كل حال، فالإضافة إليهم إما لاشتهارها في زمانهم وعملهم بها، أو لاستنباطهم واختيارهم إياها. قال التوربشتي في شرح المصابيح: المعنيون بهذا القول هو الخلفاء الأربعة؛ لأنه قال في حديث آخر: الخلافة بعدي ثلاثون سنة، وقد انتهت الثلاثون بخلافة علي، وليس

(2/74)


معنى هذا القول نفي الخلافة عن غيرهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يكون في أمتي اثنا عشر خليفة)) وإنما المراد تفخيم أمرهم، وتصويب رأيهم، والشهادة لهم بالتفوق فيما يمتازون به عن غيرهم من الإصابة في العلم، وحسن السيرة، واستقامة الأحوال، ولهذا وصفهم بالراشدين، وهم الذين أوتوا رشدهم في مقاصدهم الصحيحة، وهدوا إلى الأقوم والأصلح في أقوالهم وأفعالهم. وإنما ذكر سنتهم في مقابلة سنته لأمرين: أحدهما علم أنه لا يخطئون فيما يستخرجونه من سنته باجتهادهم، والثاني أنه - صلى الله عليه وسلم - علم أن بعضا من سننه لا يشتهر بزمانه، وإن علم الأفراد من أصحابه ثم يشتهر في زمانهم فيضاف إليهم، فربما يستدرع أحد من رد تلك السنن بإضافتها إليهم فأطلق القول باتباع سنتهم سدا لهذا الباب –انتهى مختصرا. وقيل: الحديث عام في كل خليفة راشد لا يخص الخلفاء الراشدين الأربعة، ومعلوم من قواعد الشريعة أنه ليس لخليفة راشد أن يشرع طريقة غير ما كان عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فليس المراد في الحديث بسنة الخلفاء الراشدين، إلا طريقتهم الموافقة لطريقته - صلى الله عليه وسلم - من جهاد الأعداء وتقوية شعائر الدين ونحوها. وقال الشوكاني في مجموعة فتاواه التي سماها ولده بالفتح الرباني في الجواب عن معنى هذا الحديث: المراد بالسنة الطريقة، فكأنه قال: الزموا
تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)). رواه أحمد، وأبوداود،
___________________________________________________________________________________________________________

(2/75)


طريقتي وطريقة الخلفاء الراشدين، وقد كانت طريقهم هي نفس طريقته، فإنهم أشد الناس حرصا عليها، وعملا بها في كل شيء، وعلى كل حال، وكانوا يتوقون مخالفته في أصغر الأمور فضلا عن أكبرها، وكانوا إذا أعوزهم الدليل من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - عملوا بما يظهر لهم من الرأي بعد الفحص والبحث والتشاور والتدبر، وهذا الرأى عند عدم الدليل هو أيضا من سنته لما دل عليه حديث معاذ لما قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بما تقضى؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد. قال: فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فإن لم تجد. قال: أجتهد رأيي. قال: الحمدلله الذي وفق رسول رسوله)). أو كما قال. وهذا الحديث وإن تكلم فيه بعض أهل العلم بما هو معروف فالحق أنه من قسم الحسن لغيره، وهو معمول به، فإن قلت: إذا كان ما عملوا فيه بالرأي هو من سنته لم يبق لقوله: "وسنة الخلفاء الراشدين" ثمرة. قلت: ثمرته أن من الناس من لم يدرك زمنه - صلى الله عليه وسلم - وأدرك زمن الخلفاء الراشدين، أو أدرك زمنه وزمن الخلفاء، ولكنه حدث أمر لم يحدث في زمنه، ففعله الخلفاء، فأشار بهذا الإرشاد إلى سنة الخلفاء إلى دفع ما عساه يتردد في بعض النفوس من الشك، ويختلج فيها من الظنون، فأقل فوائد الحديث أن ما يصدر عنهم من الرأي وإن كان من سنته كما مر ولكنه أولى من رأي غيرهم عند عدم الدليل. وبالجملة فكثيرا ما كان - صلى الله عليه وسلم - ينسب الفعل أو الترك إليه وإلى أصحابه في حياته مع أنه لا فائدة لنسبته إلى غيره مع نسبته إليه؛ لأنه محل القدوة ومكان الأسوة –انتهى. وقيل المعنى في ذكر سنة الخلفاء مع سنته: أن يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات وهو على تلك السنة، وأنه لايحتاج مع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قول أحد، فلا زائد إذا على ما ثبت في السنة النبوية، إلا أنه قد يخاف أن تكون منسوخة بسنة أخرى، فافتقر العلماء

(2/76)


إلى النظر في عمل الخلفاء بعده ليعلموا أن ذلك هو الذي مات عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير أن يكون له ناسخ؛ لأنهم كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمره (تمسكوا بها) أي بالسنة (وعضوا) بفتح العين (عليها) أي على السنة (بالنواجذ) بالذال المعجمة، وهي الأضراس جمع ناجذة أراد به الجد في لزوم السنة، كفعل من أمسك الشيء بين أضراسه، وعض عليه منعا من أن ينتزع، أو الصبر على ما يصيب من التعب في ذات الله كما يفعله المتألم بالوجع يصيبه ولا يرد أن يظهره. (وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة) فيه تحذير للأمة من اتباع الأمور المحدثة المبتدعة، وأكد ذلك بقوله: (وكل بدعة ضلالة) والمراد بالبدعة ما أحدث في الدين ما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا وإن كان بدعة لغة. وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية، فمن ذلك قول عمر – رضي الله عنه - لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك فقال: نعمت البدعة هذه. فالبدع الشرعية كلها مذمومة؛ لأنها موجبة للضلال والغواية، وارجع إلى الاعتصام (ج1:ص147، 167) وشرع الأربعين لابن رجب (ص185-193) (رواه أحمد) (ج4:ص126، 127) (وأبوداود) في السنة
والترمذي، وابن ماجه، إلا أنهما لم يذكرا الصلاة.
166- (27) وعن عبدالله بن مسعود قال: ((خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا، ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، وقال: هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه. وقرأ ?وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه? الآية)).رواه أحمد، والنسائي، والدارمي.
___________________________________________________________________________________________________________

(2/77)


(والترمذي) في العلم. وقال: حديث حسن صحيح (وابن ماجه) في السنة، وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، وليس له علة. (إلا أنهما) أي الترمذي وابن ماجه (لم يذكرا الصلاة) أي لم يوردا أول الحديث، وهو قول العرباض: "صلى بنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم -"، بل قالا: وعظنا، كما في المصابيح.
166- قوله: ?خط لنا) أي خط لأجلنا تقريبا وتفهيما وتعليما لنا؛ لأن التصوير والتمثيل إنما يسلك ويصار إليه لإبراز المعاني المحتجبة، ورفع الأستار عن الرموز المكنونة؛ لتظهر في صورة المشاهد المحسوس، فيساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه. (خطا) أي مستويا مستقيما (هذا سبيل الله) أي هذا الدين القويم والصراط المستقيم، وهما الاعتقاد الحق والعمل الصالح، وهذا الخط لما كان مثالا سماه سبيل الله، كذا قاله ابن الملك. قال القاري: والأظهر أن المشار إليه بهذا هو الخط المستوي، والتقدير هذا مثل سبيل الله، أو هذا سبيل الله مثلا. وقيل: تشبيه بليغ معكوس، أي سبيل الله الذي هو عليه وأصحابه مثل الخط في كونه علىغاية الاستقامة. (ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله) أي خطوطا منحرفة عن يمين الخط المستوى وعن شماله. (وقال: هذه) أي الخطوط (سبل) أي سبل للشيطان. (على كل سبيل) أي رأسه (منها) أي من السبل (شيطان) من الشياطين، (يدعو) ذلك الشياطين الناس (إليه) أي سبيل من السبل، وفيه إشارة إلى أن سبيل الله وسط وقصد، ليس فيه تفريط ولا إفراط، وسبل أهل البدع منحرفة عن الاستقامة وفيها تقصير وغلو. (وقرأ) أي رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ?وأن هذا? بالفتح والتشديد على تقدير أتل عليهم، وقيل: على تقدير لام التعليل المتعلقة باتبعوه، أي اتبعوه لأنه مستقيم، و"هذا" إشارة إلى ما ذكر في الآيتين قبله من الأوامر والنواهي، وقيل: الإشارة إلى ما ذكر في هذه السورة أي سورة الأنعام، فإنها بأسرها في إثبات التوحيد والنبوة وبيان

(2/78)


الشريعة. (صراطي) أي ديني وهو خبر "أن". (مستقيما) حال مؤكدة والعامل فيها اسم الإشارة. (الآية) بعدها ?ولا تتبعوا السبل? أي سبل الشياطين المنحرفة الزائغة من طرق الشرك والبدعة والضلالة. ?فتفرق بكم? بحذف إحدى التائين منصوب بإضمار "أن" بعد الفاء في جواب النهي. ?عن سبيله? [153:6]. إشارة إلى أنه لا يمكن اجتماع سبيل الحق مع السبل الباطلة، وفيه أن أصحاب سبيل الحق والصراط المستقيم هي الفرقة الناجية، وأصحاب السبل المنحرفة هي الفرق الغير الناجية. (رواه أحمد والنسائي والدارمي) وأخرجه أيضا الحاكم وقال: صحيح. وعبد ابن حميد، والبزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وله شاهد من حديث جابر عند أحمد، وابن ماجه، والبزار.
167- (28) وعن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)). رواه في شرح السنة، وقال النووى في أربعينه: هذا حديث صحيح، رويناه في "كتاب الحجة" بإسناد صحيح.
___________________________________________________________________________________________________________

(2/79)


167- قوله: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه) أي ميل نفسه (تبعا لما جئت به) هذا محمول على نفي أصل الإيمان، أي حتى يكون تابعا مقتديا لما جئت به من الدين والشرع عن الاعتقاد، لا عن الإكراه وخوف السيف كالمنافقين. وقيل: المراد نفي الكمال، أي لا يكمل إيمان أحدكم حتى يكون في متابعة الشرع وموافقته له كموافقته لمألوفاته، فيستمر على الطاعة من غيركلفة وكراهية، وذلك عند ذهاب كدر النفس، وبقاء صفوتها، وهذه حالة نادرة إلا في المحفوظين من أوليائه. وقيل في معناه: حتى يحب ما أمر به ويكره ما نهى عنه، أي يقدم الشرع على هواه. (رواه) أي البغوى (في شرح السنة) بإسناده. (وقال النووى) بالقصر. قال القاري: ويجوز المد، نسبة إلى نوى قرية من أعمال دمشق، وهو أبوزكريا محي الدين يحيى بن شرف الحزامي - بكسر الحاء المهملة وبالزاى-، نسبة إلى حزام أحد أجداده. ولد في أوائل المحرم سنة (631). كان عالما فاضلا متورعا، فقيها محدثا ثبتا حجة، له تصانيف كثيرة مشهورة، وتأليفات عجيبة مفيدة، في الفقه مثل الروضة، وفي الحديث مثل الرياض والأذكار، وفي شرحه مثل شرح مسلم، وغير ذلك من معرفة علوم الحديث واللغة، سمع من المشائخ الكبار، ومنه خلق كثير، وأجاز رواية شرح مسلم والأذكار لجميع المسلمين، نشأ بقريته نوى، وحفظ الختمة، وقدم دمشق سنة (650) وله تسع عشرة سنة، فتفقه وبرع، وكان خشن العيش، قانعا بالقوت، تاركا للشهوات، صاحب عبادة وخوف، وكان قوالا بالحق، كبير الشأن، كثير السهر، مكبا على العلم والعمل، مات في رجب سنة (676) وعاش (45) سنة، وقد بسط ترجمته الذهبي في تذكرة الحفاظ (ج4: ص259، 264)، فمن شاء فليرجع إليه. (في أربعينه) أي الأربعين حديثا الذي صنفه. (هذا حديث صحيح، رويناه) بصيغة المجهول (في كتاب الحجة بإسناد صحيح) أي رواه لنا صاحب كتاب الحجة، وهو الشيخ أبوالفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي الفقيه الزاهد نزيل دمشق، وكتابه

(2/80)


هذا، هو "كتاب الحجة على تاركى سلوك طريق المحجة"، يتضمن ذكر أصول الدين على قواعد أهل الحديث والسنة. والحديث أخرجه أيضا الحافظ أبونعيم في كتاب الأربعين، والطبراني، وأبوبكر بن عاصم الأصبهاني، والحكيم الترمذي، وأبونصر السجزى في الإبانة وقال: حسن غريب. والخطيب، ونسبه الشيخ الألباني للحسن بن سفيان، وابن عساكر، قال: أخرجاه في أربعينهما. وقد تعقب الحافظ ابن رجب على النووي في تصحيح الحديث، فقال: تصحيح الحديث بعيد جدا من وجوه، ثم ذكرها، إن شئت الوقوف عليها فارجع إلى شرحه لأربعين النووى (ص282).
168- (29) وعن بلال بن الحارث المنزنى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحي سنة من سنتي قد أميتت بعدي، فإن له من الأجر مثل أجور من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله، كان عليه من الإثم مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا) رواه الترمذي.
169- ورواه ابن ماجه عن كثير بن عبدالله بن عمرو عن أبيه،
___________________________________________________________________________________________________________

(2/81)


168- قوله: (وعن بلال بن الحارث المزنى) بضم الميم وفتح الزاى، نسبة إلى مزينة، يكنى أبا عبدالرحمن، من أهل المدينة، كان أول من قدم من مزينة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في رجال من مزينة في رجب سنة (5) من الهجرة، أقطعه النبي - صلى الله عليه وسلم - العقيق، وكان صاحب لواء مزينة يوم الفتح، وكان يسكن وراء المدينة، ثم تحول إلى البصرة. له ثمانية أحاديث. مات سنة (60) وله (80) سنة. (من أحيى سنة) أي أظهرها وأشاعها بالقول والعمل. قال المظهر: السنة ما وضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحكام الدين، وهي قد تكون فرضا كزكاة الفطر، وغير فرض كصلاة العيدين، وقراءة الناس القرآن في غير الصلاة، وما أشبه ذلك، وإحيائها أن يعمل بها ويحرض الناس عليها. (من سنتي) النظر يقتضي أن يقال: من سنني، بلفظ الجمع، لكن الرواية بالإفراد، فيحمل المفرد على الجنس الشائع في الافراد. (قد أميتت بعدي) أي تركت عن العمل بها. استعير الإماتة لما يقابل الإحياء، من الترك ومنع الناس عن إقامتها، كما استعير الإحياء للعمل بها وحث الناس عليها. (من غير أن ينقص) على بناء الفاعل، وضميره لإعطاء مثل أجر العاملين لمن أحياها. (من أجورهم) "من" للتبعيض أي من أجور من عمل بها، فأفرد أولا رعاية للفظه، وجمع ثانيا لمعناه. (شيئا) مفعول به أو مفعول مطلق؛ لأنه حصل له باعتبار الإحياء والدلالة والحث، وللعاملين باعتبار الفعل، فلم يتواردا على محل واحد حتى يتوهم أن حصول أحدهما ينقص الآخر (بدعة ضلالة) بالإضافة، ويجوز أن ينصب نعتا ومنعوتا، وقيد البدعة بالضلالة لإخراج البدعة الغير الشرعية، أو هي صفة كاشفة للبدعة (لا يرضاها الله ورسوله) صفة كاشفة لقوله: "بدعة"، وصفت بهذا تقبيحا للبدعة، وإلا فكل بدعة كذلك بالمعنى الذي ذكرناه، وهو ما لا أصل له في الشرع، يدل عليه (كان عليه من الإثم) أي الوزر، وليست لفظة "من الإثم" في الترمذي، وهي في جميع نسخ

(2/82)


المشكاة. (لاينقص ذلك) أي ذلك الإثم (من أوزارهم) وفي الترمذي "من أوزار الناس" (شيئا) مفعول به لا غير. (رواه الترمذي) في العلم يعني عن بلال.
169- قوله: (ورواه ابن ماجه) في السنة (عن كثير بن عبدالله بن عمرو) بن عوف المزني المدني، قال الحافظ: ضعيف، ومنهم من نسبه إلى الكذب. وقال المنذري: متروك واه، وقال أبوداودد والشافعي: هو أحد الكذابين. وقال أحمد: منكر الحديث، ليس بشيء، (عن أبيه) عبدالله بن عمرو بن عوف بن زيد بن ملحة المزني المدني، ذكره ابن
عن جده.
170- (31) وعن عمرو بن عوف قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الدين ليأرز إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية
___________________________________________________________________________________________________________

(2/83)


حبان في الثقات، وقال في التقريب: مقبول، من الطبقة الوسطى من التابعين. (عن جده) أي عن جد كثير، وهو عمرو ابن عوف بن زيد بن ملحة أبوعبدالله المزني أحد البكائين، كان قديم الإسلام، شهد بدرا، وروى ابن سعد عنه أن أول غزوة شهدها الأبواء. وقال الواقدي: استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على حرم المدينة. مات في ولاية معاوية. وأعلم أنه يظهر من كلام المصنف أن هذا الحديث روي عن صحابيين أحدهما بلال بن الحارث المزني، أخرج عنه الترمذي بإسناده، والثاني عمرو بن عوف المزني جد كثير بن عبدالله، وأخرج عنه ابن ماجه من طريق كثير بن عبدالله، عن أبيه، عن جده. والبغوى أيضا عزى هذا الحديث لبلال بن الحارث، وهذا وهم منهما؛ لأن الحديث رواه الترمذي وابن ماجه كلاهما من طريق كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال بن الحارث: ((اعلم، قال: أعلم يا رسول الله، قال: إنه من أحيى...)) الخ، فهو موجه إلى بلال، وليس من روايته، وهذا السياق للترمذي، ولفظ ابن ماجه عن كثير بن عبدالله، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من أحيى...)) الخ. فالحديث من مسانيد عمرو بن عوف، لا من مسانيد بلال بن الحارث، فان لبلال هذا ثمانية أحاديث، روى أربعة منها أصحاب السنن الأربعة ومالك، وليس هذا الحديث منها كما يظهر من ذخائر المواريث للشيخ عبدالغني النابلسي، ويدل أيضا على ما قلنا من أن الحديث عند الترمذي من مسند عمرو بن عوف، أن النابلسي ذكره في مسند عمرو بن عوف، وعزاه للترمذي وابن ماجه كليهما. والحديث قد حسنه الترمذي واعترض عليه؛ لأن في سنده كثير بن عبدالله وقد ضعفوه جدا، بل رماه بعضهم بالكذب، وأجيب عنه بأن تحسينه توثيق للراوي، وذهاب منه إلى أنه لم يرض الكلام فيه، كيف وهو من علماء هذا الشأن، فيعتمد على تحسينه وتصحيحه، وقد احتج بطريق كثير بن عبدالله عن

(2/84)


أبيه عن جده، ابن خزيمه في صحيحه كما ذكره المنذري في الترغيب، وقيل: حسنه الترمذي لشواهده، فإنه قد يحسن الحديث الضعيف ويصححه لشواهده.
170- قوله: (إلى الحجاز) هو اسم مكة فالمدينة وحواليهما من البلاد، وسميت حجازا لأنها حجزت أي منعت وفصلت بين بلاد نجد والغور، قيل: التوفيق بينه وبين ما سبق من حديث أبي هريرة في آخر الفصل الأول على كون الدين والإيمان مترافين: أنه يأرز أولا إلى الحجاز أجمع ثم إلى المدينة. وفي حديث ابن عمر عند مسلم: وهو أي الإسلام يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها. (وليعقلن) عطف على "ليأرز" أو على "إن" ومعمولها، أي ليتحصن، يقال: عقل الوعل أي امتنع بالجبال العوالي (من الحجاز) أي بمكان منه، أو مكانا منه (معقل الأروية)
من رأس الجبل. إن الدين بدأ غريبا وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء، وهم الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي)) رواه الترمذي.
171- وعن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليأتين على أمتي كما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل،
___________________________________________________________________________________________________________

(2/85)


بضم الهمزة وتكسر، وبكسر الواو وتشديد الياء، أنثى الوعول، وهي تيوس الجبل، وهي تعتصم في أعلى الجبال، ولذلك يقال للوعل: الأعصم. والمعقل بكسر القاف، مصدر بمعنى العقل، ويجوز أن يكون إسم مكان أي كاتخاذ الأروية. (من رأس الجبل) حصنا. قال القاري: وخص الأروية دون الوعل؛ لأنها أقدر من الذكر على التمكن من الجبال الوعرة والمعنى: أن الدين في آخر الزمان عند ظهور الفتن واستيلاء الكفرة والظلمة على بلاد أهل الإسلام يعود إلى الحجاز كما بدأ. وقيل: المعنى أن الدين سيعقل ويعتصم في الحجاز، ويجتمع فيه عند ما يكون غريبا فيعود إلى الحجاز كما بدأ منه، ويكون عزيزا قويا فيه كالأروية في شناخيب الجبال، ثم يمتد وينتشر منه ثانية. (غريبا) أي كالغريب، أو حال (سيعود) أي غريبا (وهم الذين يصلحون) الخ. أي يعتنون بإصلاح ما أفسد الناس من السنة، ويعملون بها، ويظهرونها بقدر طاقتهم.(رواه الترمذي) في الإيمان من طريق كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف عن أبيه، عن جده، وقال: حديث حسن. وفيه ما تقدم انتقادا وجوابا. وارجع إلى المشكاة طبعة دمشق بتعليق الشيخ الألباني (ج1: ص60).

(2/86)


171- قوله: (ليأتين) من الإتيان وهو المجيء بسهولة، وعدى بعلى لمعنى الغلبة المؤدية إلى الهلاك، ومنه قوله تعالى:: ?ماتذر من شيء أتت عليه? [42:51]. (على أمتي) قالوا: المراد أمة الإجابة وهم أهل القبلة، فإن اسم الأمة مضافا إليه - صلى الله عليه وسلم - يتبادر منه أمة الإجابة. (كما أتي) وفي جامع الترمذي "ما أتى" أي بغير الكاف، فما موصولة، وهي مع صلتها فاعل "ليأتين"، أي ليفعلن أمتي ما فعل بنو إسرائيل من القبائح. وأما توجيه ما وقع ههنا فقال القاري: فاعل "ليأتين" مقدر يدل عليه سياق الكلام، والكاف منصوب عند الجمهور على المصدر، أي ليأتين على أمتي زمان إتيانا مثل الإتيان على بني إسرائيل. وجوز أن يكون الكاف فاعلا، أي ليأتين على أمتي مثل ما أتى على بني إسرائيل. (حذو النعل بالنعل) حذو النعل استعارة في التساوى، وهو منصوب على المصدر، أي يحذونهم حذوا مثل حذو النعل بالنعل، يوافقونهم مثل موافقة النعل للنعل، ويعملون مثل أعمالهم كما تقطع إحدى النعلين على قدر النعل الأخرى، والحذو التقدير والقطع. فإن قيل: قد وقع فيما مضى قبل الأنبياء، وتحريف الكتب، قلت: لعل ما وقع في أيام بني أمية من قتل علماء التابعين مثل سعيد بن المسيب ونحوه من هذا القبيل، فعلماء أمته كأنبيائهم، كيف وقد قتلوا فلذة كبدة الرسول - صلى الله عليه وسلم -k والولد من أبيه كما قيل، وما اشتهر فيما مضى من تحاريف الباطنية، وفي هذا الزمان من بعض أهل البدع لا يقصر من تحريفهم، قاله محمد طاهر
حتى إن كان منهم أتى أمه علانية، لكان في أمتي من يصنع ذلك. وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة،
___________________________________________________________________________________________________________

(2/87)


الفتني. (حتى إن كان) "حتى" ابتدائية والواقع بعده جملة شرطية، و"إن" بمعنى لو، ولذا قرن جوابها باللام، وقيل: "إن" هذه مخففة من المثقلة، أي حتى إنه (من أتى أمه) إتيانها كناية عن الزنا، والمراد من الأم موطؤة الأب (من يصنع ذلك) أي الإتيان (وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة)، وفي حديث أنس عند ابن ماجه: إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وفي حديث أبي أمامه, وأبي الدرداء، وواثلة بن الأسقع، وأنس عند الطبراني، وحديث عوف بن مالك عند ابن ماجه، وحديث أنس عند أبي يعلى ما يدل على أن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة كلهم في النار، وواحدة في الجنة، وإن النصارى افترقت على ثنتين وسبعين فرقة كلهم في النار، وواحدة في الجنة، وفي حديث أبي هريرة عند الترمذي وغيره: تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو (على الشك) اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك.ولا تخالف بين هذه الروايات، فإنه يجمع بينها بأنه يمكن أن تكون رواية الإحدى والسبعين وقت أعلم بذلك، ثم أعلم بزيادة فرقة، إما أنها كانت فيهم ولم يعلم بها النبى- صلى الله عليه وسلم - أولا ثم أعلم بها في وقت آخر، وإما أن تكون جملة الفرق في الملتين ذلك المقدار فأخبر به، ثم حدثت الثانية والسبعون فيهما فأخبر بذلك عليه السلام، وعلى الجملة فيمكن أن يكون الاختلاف بحسب التعريف بها أو الحدوث، والله أعلم بحقيقة الأمر. و"الملة" في الأصل ما شرع الله لعباده على ألسنة الأنبياء ليتوصلوا به إلى القرب من حضرته تعالى، ويستعمل في جملة الشرائع دون آحادها، ثم إنها اتسعت فاستعملت في الملل الباطلة، فقيل: الكفر ملة واحدة، لأن طريقة أهل الكفر، وكذا طريقة كل فرقة من أهل الأهواء والبدع كالملة الحقيقية في التدين بما تدينوا به، فسميت باسمها مجازا. (وتفترق أمتي) أي أمة الإجابة، فيكون الملل الثلاث والسبعون منحصرة في أهل قبلتنا، وإن كانت بدعة بعض هذه الملل مكفرة

(2/88)


ومخرجة عن الإسلام، هذا هو المتبادر من إضافة اسم الأمة إليه- صلى الله عليه وسلم -، ويؤيد اعتبار الواقع؛ لأن كل فرقة منهم تدعى الشريعة، وأنها على صوابها، وأنها المتبعة لها، وتتمسك بأدلتها، وتعمل على ما ظهر لها من طريقها، وتناصب العداوة من نسبتها إلى الخروج عنها، وترمي بالجهل وعدم العلم من ناقضها، لأنها تدعي أن ما ذهبت إليه هو الصراط المستقيم دون غيره، ويؤيده أيضا أن افتراق أمة محمد شبه بافتراق اليهود والنصارى، ومن المعلوم أن افتراق بني إسرائيل وقع حال كونهم من أمة موسى وعيسى، أي شمول لفظ اليهود والنصارى، إياهم. (على ثلاث وسبعين ملة) أي يفترقون ثلاثا وسبعين فرقة تتدين كل واحدة منها بخلاف ما تتدين به الأخرى. وفيه إشارة بل تصريح لتلك المطابقة مع زيادة هؤلاء في إرتكاب البدع بدرجة، وليس المراد بالافتراق في الحديث مطلق الافتراق حتى يدخل فيه ما وقع من الاختلاف في مسائل الفروع في زمان الخلفاء الراشدين، ثم في سائر الصحابة، ثم في التابعين، ثم في الأئمة المجتهدين، بل المراد به الافتراق المقيد، وهو التفرق الذي

(2/89)


صاروا به شيعا وأحزابا وفرقا وجماعات، بعضهم فارق البعض، ليسوا على تألف، ولا تعاضد، ولا تناصر، بل على ضد ذلك من الهجران، والقطيعة، والعداوة، والبغضاء، والتضليل، والتكفير، والتفسيق، وهذه الفرقة المشعرة بتفرق القلوب المشعر بالعدواة والبغضاء إنما هي بسبب الابتداع في الشرع، والخروج عن السنة، لابسبب أمر دنيوى، ولا بسبب معصية ليسبت ببدعة. قيل: والمراد بالابتداع المذكور الابتداع في الأصول والعقائد لا الفروع والعمليات. قال العلقمي: قال شيخنا: ألف الإمام أبومنصور عبدالقاهر بن طاهر التميمي فى شرح هذا الحديث كتابا قال فيه: قد علم أصحاب المقالات أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يرد بالفرق المذمومة المختلفين في فروع الفقه من أبواب الحلال والحرام، وإنما قصد بالذم من خالف أهل الحق في أصول التوحيد، وفي تقدير الخير والشر، وفي شروط النبوة والرسالة، وفي موالاة الصحابة، وما جرى مجرى هذه الأبواب؛ لأن المختلفين فيها قد كفر بعضهم، بخلاف النوع الأول، فإنهم اختلفوا فيه من غير تكفير ولا تفسيق للمخالف فيه، فيرجع تأويل الحديث في افتراق الأمة إلى هذا النوع من الاختلاف، وقد حدث في آخر أيام الصحابة خلاف القدرية من معبد الجهني وأتباعه، وتبرأ منهم المتأخرون من الصحابة كعبدالله بن عمر، وجابر، وأنس ونحوهم، ثم حدث الخلاف بعد ذلك شيئا فشيئا إلى أن تكاملت الفرق الضالة اثنتين وسبعين فرقة، والثالثة والسبعون هم أهل السنة والجماعة، وهي الفرقة الناجية –انتهى. وقال الشاطبي في الاعتصام: القول بأن الفرق المذكورة في الحديث هي المبتدعة في قواعد العقائد على الخصوص، كالجبرية والقدرية والمرجئة وغيرها ما هو مما ينظر فيه، فإن إشارة القرآن والحديث تدل على عدم الخصوص، وهو رأي أبي بكر الطرطوشي، أفلا ترى إلى قوله تعالى: ?فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه? [7:3] الآية. و"ما" في قوله: "ما تشابه" لا تعطي خصوصا في اتباع

(2/90)


المتشابه لا في قواعد العقائد ولا في غيرها، بل الصيغة تشمل ذلك كله، فالتخصيص تحكم، وكذلك قوله تعالى: ?إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء? [159:6]، فجعل ذلك التفريق في الدين، ولفظ الدين يشمل العقائد وغيرها من الأقوال والأعمال. وقوله: ?وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله? [153:6] فالصراط المستقيم هو الشريعة على العموم، وأشار بلفظ "هذا" إلى ما تقدم ذكره من أصول الشريعة وقواعدها الضرورية، ولم يخص ذلك بالعقائد. قال: نعم ثم معنى آخر ينبغي أن يذكر ههنا، وهو أن هذه الفرق إنما تصير فرقا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين، وقاعدة من قواعد الشرعية، لا في جزئي من الجزئيات، إذا الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعا، وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية؛ لأن الكليات تقتضي عددا من الجزئيات غير قليل، ويدخل شذوذها في أبواب كثيرة من الأصول والفروع. قال: ويجرى مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزئيات، فإن المبتدع إذا أكثر من إنشاء الفروع المخترعة عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة، كما تصير القاعدة الكلية معارضة أيضا. وأما الجزئي فبخلاف ذلك – انتهى. كلامه مختصرا. وقد بسط قبل ذلك الكلام (ج1:ص141، 159) في ذكر أسباب افتراق هذه الفرق من جماعة المسلمين وخلافهم للفرقة الناجية وابتداعهم الذي صاروا لأجله فرقا وأحزابا وجماعات متعادين، متباغضين، متدابرين، متقاطعين فعليك أن ترجع إليه. ثم إن العلماء اختلفوا في معنى عدد الفرق

(2/91)


المذكورة في الحديث فقيل: هو للتكثير لا للتحديد، فإن الفرق المذمومة تزيد على المئات بالنظر إلى تفرقهم في الأصول والفروع. وقيل: معنى الحديث أن الفرق المذمومة لا بد أن تبلغ هذا العدد، أي لا ينقص عدد الفرق الغير الناجية من هذا المقدار، فلا بأس لو زاد على ذلك. والحاصل أن العدد المذكور ليس لنفي الزائد. وقيل: هو محمول على التحديد، فإن المراد بالتفرق تفرقهم في أصول الدين، والفرق المبتدعة مع شعبها وفروعها لا تزيد على هذا العدد بالنظر إلى ذلك. ثم اختلف أصحاب هذا القول في تعيين هذه الفرق، فعينها كثير من العلماء، لكن في الطوائف التي خالفت في مسائل العقائد، فمنهم من عد أصولها ثمانية. فقال: كبار الفرق الإسلامية ثمانية: المعتزلة القائلون: بأن العباد خالقوا أعمالهم، وبنفي الرؤية، وبوجوب الثواب والعقاب، وهم عشرون فرقة. والشيعة، وهم ثنتان وعشرون فرقة. والخوارج، وهم عشرون فرقة. والمرجئة، وهم خمس فرق. والنجارية الموافقة لأهل السنة في خلق الأفعال، والمعتزلة في نفي الصفات وحدوث الكلام، وهم ثلاث فرق. والجبرية القائلة بسلب الاختيار عن العباد، فرقة واحدة. والمشبهة الذين يشبهون الحق بالخلق فرقة أيضا. فالجميع اثنتان وسبعون فرقة. فإذا أضيفت الفرقة الناجية إلى عدد الفرق صار الجميع ثلاثا وسبعين فرقة. وقد وصف صاحب المواقف هذه الفرق وفروعها وشعبها وما انفردت به من الآراء بأخصر ما كتب في هذا الموضوع، فارجع إليه. وقد عد الشاطبي أسماء أصول هذه الفرق وفروعها، ثم قال: وهذا التعديد بحسب ما أعطته المنة في تكلف المطابقة للحديث الصحيح، لا على القطع بأنه المراد، إذ ليس على ذلك دليل شرعي، ولا دل العقل أيضا على انحصار ما ذكر في تلك العدة من غير زيادة ولا نقصان كما أنه لا دليل اختصاص تلك البدع بالعقائد، ومنهم من قال: أصول البدع أربعة، وسائر الثنتين والسبعين فرقة عن هؤلاء تفرقوا، وهم الخوارج، والروافض، والقدرية،

(2/92)


والمرجئة، قال يوسف بن أسباط: ثم تشعبت كل فرقة ثمان عشر فرقة، فتلك ثنتان وسبعون فرقة، والثالثة والسبعون هي الناجية. وقال الشهرستاني بعد ما ذكر ضابطا في مسائل الخلاف، وحصرها في أربع قواعد هي الأصول الكبار ما لفظه: وإذا تعينت المسائل التي هي قواعد الخلاف، تبينت أقسام الفرق، وانحصرت كبارها في أربع بعد أن تداخل بعضها في بعض، كبار الفرق الإسلامية أربع القدرية، الصفاتية، الخوارج، الشيعة، ثم يتركب بعضها مع بعض، ويتشعب عن كل فرقة أصناف، فتصل إلى ثلاث وسبعون فرقة. ومنهم من قال: أصول الفرق الضالة ست: الحرورية، والقدرية، والجهمية، والمرجئة، والرافضة، والجبرية، وقد انقسمت كل فرقة منها اثنتي عشرة فرقة فصارت إلى اثنتين وسبعين فرقة، وهذا التقديران نحو من الأول يرد عليهما من الإشكال ما ورد على الأول، فالأولى أن لا تعين هذه الفرق الضالة المخالفة للفرقة الناجية في أصول الدين وقواعده، فإنه لا بأس لو لم نحط بأسماءها وآرائها تفصيلا. ويقال: لا بد أن تبلغ هذه الفرق العدد المذكور في الحديث؛ لأن الزمان باق، والتكليف قائم، والخطرات متوقعه، والبدع قد نشأت إلى الآن، ولا تزال تحدث وتكثر مع مرور الأزمنة إلى قيام الساعة. وإلى عدم التعيين مال أبوبكر الطرطوشي. قال الشاطبي: وهو أصح في النظر؛ لأن ذلك التعيين ليس عليه دليل، والعقل لا يقتضيه. وإن سلمنا أن الدليل قائم له على ذلك فلا ينبغي التعيين لوجوه ثلاثة فذكرها، ثم قال: فمن هنا لا ينبغي للراسخ
كلهم في النار إلا ملة واحدة،
___________________________________________________________________________________________________________

(2/93)


في العلم أن يقول: هؤلاء الفرقهم بنو فلان وبنو فلان، وإن كان يعرفهم بعلامتهم بحسب اجتهاده، اللهم إلا في موطنين: أحدهما حيث نبه الشرع على تعيينهم كالخوارج، فإنه ظهر من استقرائه أنهم متمكنون تحت حديث الفرق، ويجرى مجراهم من سلك سبيلهم، ثم ذكر الأحاديث التي وردت في تعيين أهل القدر وذمهم، وقد تقدم بعضها في باب الإيمان بالقدر. قال: والموطن الثاني الذي يجوز فيه التعيين حيث تكون الفرقة تدعوا إلى ضلالتها وتزينها في قلوب العوام، ومن لا علم عنده، فإن ضرر هؤلاء على المسلمين كضرر إبليس، وهم من شياطين الإنس، فلا بد من التصريح بأنهم من أهل البدعة والضلالة، ونسبتهم إلى الفرق إذا قامت له الشهود على أنهم منهم. قال: ولما تبين أنهم أي الفرق المذكورة في الحديث لا يتعينون فلهم خواص وعلامات يعرفون بها، وهي على قسمين: علامات إجمالية، وعلامات تفصيلية، فأما العلامات الإجمالية فثلاثة: أحدها الفرقة أي التي تكون سببا للتخرب، ومستلزما للعداوة والبغضاء والتدابر والقطيعة. والثانية اتباع المتشابه من القرآن، وترك المحكم. والثالثة اتباع الهوى وتقديمه على الأدلة الشرعية، والاعتماد على الرأى، وتحكيم العقل. ثم ذكر ما يعرف به هذه الخواص والعلامات، ومن يرجع إليه في معرفتها، ثم قال: وأما العلامة التفصيلية في كل فرقة فقد نبه عليها وأشير إلى جملة منها في الكتاب والسنة، وفي ظني أن من تأملها في كتاب الله وجد منبها عليها، ومشارا إليها، ولولا فهمنا من الشرع الستر عليها لكان في الكلام في تعيينها مجال متسع، مدلول عليه بالدليل الشرعي، قال: فأنت ترى أن حديث افتراق الأمة لم يعين في الرواية الصحيحة واحدة منها لهذا المعنى المذكور. والله أعلم. وإنما نبه عليها في الجملة لتحذر مظانها، وعين في الحديث، المحتاج إليه منها، وهي الفرقة الناجية ليتحراها المكلف، وسكت عن ذلك في الرواية الصحيحة؛ لأن ذكرها في الجملة يفيد الأمة الخوف من

(2/94)


الوقوع فيها، وذكر في الرواية الأخرى فرقة من الفرق الهالكة، كما قال: أشد الفرق فتنة على الأمة. (كلهم في النار) أي يستحقون الدخول في النار من أجل اختلاف العقائد، فمن أفضى به بدعته إلى الكفر يدخل فيها ألبتة دخولها مؤبدا، ومن لم يكن كذلك فهو ممن يستحق النار إن لم يعف الله عنه، فإن عفا عنه فله العفو إن شاءالله. (إلا ملة واحدة) بالنصب أي إلا أهل ملة واحدة، أي فلا يدخلون النار من جهة اختلاف العقائد. وقيل: المعنى يدخل أصحاب الملل الضالة النار بسب بدعهم، ثم يخرجون منها برحمة الله، ويدخلون الجنة إلا أهل ملة واحدة، فلا يدخلون النار أصلا، بل يدخلون الجنة أولا، وهم المتمسكون بالكتاب والسنة، الموافقون لجماعة الصحابة، المجتنبون عن الابتداع في الاعتقاد، والعمل والقول اجتنابا كليا، وإن كان صدر من أحد منهم ذنب غير بدعة، عفا الله عنه برحمته، أو يكون سكرات الموت، أو شدائد القبر، أو أهوال المحشر كفارة له، فيدخل الجنة ابتداء. قال الشاطبي: قوله: "كلها في النار" وعيد يدل على أن تلك الفرق قد ارتكبت كل واحدة منها معصية كبيرة، أو ذنبا عظيما لما تقرر في الأصول أن ما يتوعد عليه الشر فخصوصيته كبيرة، إذ لم يقل "كلها في النار" إلا من جهة الوصف الذي افترقت بسبه عن السواد الأعظم وعن جماعته، وليس ذلك إلا
قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي)).
___________________________________________________________________________________________________________

(2/95)


للبدعة المفرقة، إلا أنه ينظر في هذا الوعيد هل هو أبدي أم لا؟ وإذ قلنا: إنه غير أبدي هل هو نافذ أم في المشيئة؟ أما المطلب الأول فينبئ على أن بعض البدع مخرجة من الإسلام أو ليست مخرجة، والخلاف في الخوارج وغيرهم من السبائية، والغرابية، والجناحية، ونحوهم المخالفين في العقائد موجود. فحيث نقول بالتكفير لزم منه تأييد التحريم على القاعدة "أن الكفر والشرك لا يغفره الله سبحانه"، وإذا قلنا بعدم التكفير فيحتمل على مذهب أهل السنة أمرين: أحدهما نفوذ الوعيد من غير غفران، ويدل على ذلك ظواهر الأحاديث، وقوله هنا: "كلها في النار" أي مستقرة ثابتة فيها. والثاني أن يكون مقيدا بأن يشاء الله تعالى إصلاءهم في النار، وإنما حمل قوله: "كلها في النار" على معنى هي ممن يستحق النار. كما قيل في قوله تعالى: ?ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاءه جهنم خالدا فيها? [93:4]، أي ذلك جزاؤه إن لم يعف الله عنه، فإن عفا عنه فله العفو إن شاءالله، لقوله تعالى: ?إن الله يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء? [48:4]، فكما أن القاتل في المشيئة وإن لم يكن الاستدراك كذلك يصح أن يقال هنا بمثله –انتهى مختصرا. وسيأتي مزيد الكلام في ذلك في شرح حديث معاوية. وقوله: "ملة واحدة" نص في أن الحق واحد لا يختلف، إذ لو كان للحق فرق أيضا لم يقل: إلا واحدة. ولأن الاختلاف منفي عن الشريعة بإطلاق؛ لأنها الحاكمة بين المختلفين لقوله تعالى: ?فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول? [59:4] إذ رد التنازع إلى الشريعة، فلو كانت الشريعة تقتضي الخلاف لم يكن في الرد إليها فائدة. وقوله: "في شيء" نكرة في سياق الشرط، فهي صيغة من صيغ العموم، فتنتظم كل تنازع على العموم، فالرد فيها لا يكون إلا لأمر واحد، فلا يسع أن يكون أهل الحق فرقا، قاله الشاطبي (قالوا من هي) أي تلك الملة أي أهلها الناجية. (ما أنا عليه وأصحابي) أي هي ما أنا عليه وأصحابي، فسر أهل تلك

(2/96)


الملة الواحدة بذلك؛ لأن تعريف أهل الملة حاصل بتعريف ملتهم، وقيل: التقدير أهلها من كان على ما أنا عليه وأصحابي من الاعتقاد والقول والعمل. والمراد بهم المهتدون المتمسكون بسنته وسنة الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة الذين فهموا أمر دين الله بالتلقي من نبيه مشافهة على علم وبصيرة بمواطن التشريع وقرائن الأحوال. قال الشاطبي: أصل الجواب أن يقال: أنا وأصحابي، ومن عمل مثل عملنا، أو ما أشبه ذلك مما يعطي تعيين الفرقة إما بالإشارة إليها أو بوصف من أوصافها إلا أن ذلك لم يقع، وإنما وقع في الجواب تعيين الوصف لا تعيين الموصوف، فلذلك أتى بما أتى، فظاهرها الوقوع على غير العاقل من الأوصاف وغيرها، والمراد هنا الأوصاف التي هو عليها - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فلم يطابق السؤال الجواب في اللفظ، والعذر عن هذا أن العرب لا تلتزم ذلك النوع إذا فهم المعنى؛ لأنهم لما سألوه عن تعيين الفرقة الناجية بين لهم الوصف الذي به صارت ناجية فقال: ما أنا عليه وأصحابي. ويمكن أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر الفرق، وذكر أن فيها فرقة ناجية كان السؤال عن أعمال الفرقة الناجية لا عن نفس الفرقة؛ لأن التعريف فيها من حيث هي لا فائدة فيه إلا من جهة أعمالها التي نجت بها، فالمقدم في الاعتبار هو العمل لا العامل، فلو سألوا ما وصفها أو عملها؟ أو ما أشبه ذلك لكان أشد مطابقة في اللفظ

(2/97)


والمعنى، فلما فهم عليه السلام منهم ما قصدوا أجابهم على ذلك، وتقول: لما تركوا السؤال عما كان الأولى في حقهم، أتى به جوابا عن سؤالهم حرصا منه عليه السلام على تعليمهم ما ينبغي لهم تعلمه والسؤال عنه، ويمكن أن يقال: إن ما سألوا عنه لا يتعين، إذ لا تختص النجاة بمن تقدم دون من تأخر، إذ قد كانوا قد اتصفوا بوصف التأخير، ومن شأن هذا السؤال التعيين، وعدم انحصارهم بزمان أو مكان لا يقتضي التعيين، وانصرف القصد إلى تعيين الوصف الضابط للجميع، وهو ما كان عليه وأصحابه، وهذا الجواب بالنسبة إلينا كالمبهم، وهو بالنسبة إلى السائل معين؛ لأن أعمالهم كانت للحاضرين معهم رأي عين، فلم يحتج إلى أكثر من ذلك؛ لأنه غاية التعيين اللائق بمن حضر، فأما غيرهم ممن لم يشاهد أحوالهم ولم ينظر أعمالهم فليس مثلهم، ولا يخرج الجواب بذلك عن التعيين المقصود، والله أعلم. قال: ولم يعين النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفرق إلا واحدة، وإنما تعرض لعدها خاصة، وأشار إلى الفرقة الناجية حين سئل عنها، وإنما وقع ذلك كذلك، ولم يكن الأمر بالعكس لأمور أحدها أن تعيين الفرقة الناجية هو الآكد في البيان بالنسبة إلى تعبد المكلف، والأحق بالذكر، إذ لا يلزم تعيين الفرق الباقية إذ عينت الواحدة، وأيضا لو عينت الفرق كلها إلا هذه الأمة لم يكن بد من بيانها؛ لأن الكلام فيها يقتضي ترك أمور وهي بدع، والترك للشيء لا يقتضي فعل شيء آخر لا ضدا ولا خلافا، فذكر الواحدة هو المفيد على الإطلاق، والثاني أن ذلك أوجز؛ لأنه إذا ذكرت الفرقة الناجية علم على البديهة أن ما سواها مما يخالفها ليس بناج، وحصل التعيين بالاجتهاد بخلاف ما إذا ذكرت الفرق الغير الناجية، فإنه يقتضي شرحا كثيرا، ولا يقتضي في الفرقة الناجية اجتهاد؛ لأن إثبات العبادات التي تكون مخالفتها بدعا لا حظ للعقل في الاجتهاد فيها. والثالث أن ذلك أحرى بالستر، ولو فسرت لناقض ذلك قصد الستر، ففسر ما

(2/98)


يحتاج إليه وترك ما لا يحتاج إليه إلا من جهة المخالفة، فللعقل وراء ذلك مرمى تحت أذيال الستر، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله: "ما أنا عليه وأصحابي"، يعني أن الفرقة الناجية من اتصف بأوصافه عليه السلام، وأوصاف أصحابه، وكان ذلك معلوما عندهم غير خفي، فاكتفى به، وربما يحتاج إلى تفسيره بالنسبة إلى من بعد تلك الأزمان. وحاصل الأمر أن أصحابه كانوا مقتدين به، مهتدين بهديه، وقد جاء مدحهم في القرآن، وأثنى عليهم متبوعهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإنما خلقه - صلى الله عليه وسلم - القرآن، فالقرآن إنما هو المتبوع على الحقيقة، وجاءت السنة مبينة له، فالمتبع للسنة متبع للقرآن، والصحابة كانوا أولى الناس بذلك، فكل من اقتدى بهم فهو من الفرقة الناجية الداخلة للجنة بفضل الله، وهو معنى "ما أنا عليه وأصحابي"، فالكتاب والسنة هو الطريق المستقيم، وما سواهما من الإجماع وغيره فناشيء عنهما، هذا هو الوصف الذي كان عليه النبي- صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وهو معنى ما جاء في الرواية الأخرى "وهي الجماعة"؛ لأن الجماعة في وقت الإخبار كانوا على ذلك الوصف، انتهى. قلت: وهو معنى ما جاء في حديث أبي أمامة عند الطبراني: ((كلهم في النار إلا السواد الأعظم)). وأصرح من ذلك ما رواه الطبراني أيضا عن أبي الدرداء، وواثلة، وأنس بلفظ: ((كلهم على الضلالة إلا السواد الأعظم. قالوا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من السواد الأعظم؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي)). فالمراد "بالجماعة" و"السواد الأعظم" و"ما أنا عليه وأصحابي" شيء واحد، ولا شك أنهم أهل السنة والجماعة. قال الشيخ الجيلاني في الغنية: وأما الفرقة الناجية فهي أهل السنة والجماعة. قال: وأهل السنة لا اسم لهم إلا اسم
رواه الترمذي.

(2/99)


واحد، وهو أصحاب الحديث. وقال الشاه ولي الله الدهلوي: الفرقة الناجية هم الآخذون في العقيدة والعمل جميعا بما ظهر من الكتاب والسنة، وجرى عليه جمهور الصحابة والتابعين، وإن اختلفوا فيما بينهم فيما لم يشتهر فيه نص، ولا ظهر من الصحابة اتفاق عليه، استدلالا منهم ببعض ما هنالك، أو تفسيرا لمجمله، وغير الناجية كل فرقة اتتحلت عقيدة خلاف عقيدة السلف، أو عملا دون أعمالهم –انتهى. وقال ابن حزم في الفصل (ج2: ص113): وأهل السنة الذين نذكرهم أهل الحق، ومن عداهم فأهل البدعة، فإنهم الصحابة وكل من سلك نهجهم من خيار التابعين، ثم أصحاب الحديث، ومن تبعهم من الفقهاء جيلا فجيلا إلى يومنا هذا، ومن اقتدى بهم من العوام في شرق الأرض وغربها –انتهى. قال الشاطبي: ثم إن في تعريف الفرقة الناجية المذكورة في الحديث نظرا، وذلك أن كل داخل تحت ترجمة الإسلام من سني ومبتدع مدع أنه هو الذي نال رتبة النجاة ودخل في غمار تلك الفرقة، قال: فتعيين هذه الفرقة الناجية في مثل زماننا صعب، ومع ذلك فلا بد من النظر فيه، ثم بسط الكلام في ذلك أشد البسط فارجع إليه. (رواه الترمذي) في الإيمان وحسنه، وفي سنده عبدالرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وقد ضعفه الدارقطني وغيره. وقال الحافظ: ضعيف في حفظه، ووثقه يحيى القطان، وقال البخاري: هو مقارب الحديث. والظاهر أن الترمذي حسنه لشواهده، فمنها حديث أبي هريرة، أخرجه الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والحاكم، وصححه الترمذي، وسكت عنه أبوداود، وأقر المنذري تصحيح الترمذي، وقال الحاكم (ج1:ص128): صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. ومنها حديث أنس أخرجه أحمد (ج3:ص120) وابن ماجه. قال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح، رجاله ثقات، ورواه أبويعلى في مسنده مطولا من طريقين في أحدهما أبومعشر نجيح، وفيه ضعف، وفي الآخر يزيد الرقاشي، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج6:ص226): ضعفه الجمهور، وفيه توثيق لين، وبقية

(2/100)


رجاله رجال الصحيح. ورواه الطبراني في الصغير مختصرا. قال الهيثمي (ج1:ص189): وفيه عبدالله بن سفيان، قال العقيلي: لا يتابع على حديث. هذا، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، ومنها حديث عوف بن مالك، أخرجه ابن ماجه، قال البوصيري: في سنده مقال، وراشد بن سعد، قال فيه أبوحاتم: صدوق، وعباد بن يوسف، لم يخرج له سوى ابن ماجه، وليس له عنده سوى هذا الحديث. وقال ابن عدي: روى أحاديث تفرد بها، وذكره ابن حبان في الثقات، وباقي رجال الإسناد ثقات – انتهى. كلام البوصيري. قلت: راشد بن سعد الحمصي ثقة، وثقه ابن معين، وأبوحاتم، والعجلي، ويعقوب بن شيبه، والنسائي، وابن سعد. وقال أحمد: لا بأس به. وقال يحيى بن سعد: هو أحب إلي من مكحول.وقال الدارقطني: لا بأس به إذا لم يحدث عنه متروك. وعباد بن يوسف الكرايبسي، قال عثمان بن محمد: حدثنا إبراهيم بن العلاء: ثنا عباد بن يوسف صاحب الكرابيس ثقة. قال في التقريب: مقبول. فالحديث لا يتحط عن درجة الحسن، بل هو صحيح، وأخرجه الحاكم (ج4:ص430) من طريق آخر، وقال صحيح علىشرط الشيخين، وسكت عليه الذهبي. ومنها حديث معاوية بن أبي سفيان، وسيأتي الكلام فيه.
172- (33) وفي رواية أحمد، وأبي داود، عن معاوية: ((ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة،
_______________________________________________________________________________________

(2/101)


ومنها حديث أبي أمامة، أخرجه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه أبوغالب، وثقه ابن معين وغيره، وبقية رجال الأوسط ثقات، وكذلك أحد إسنادي الكبير، قاله الهيثمي (ج 6:ص258، 259). ومنها حديث أبي الدرداء، وواثلة بن الأسقع، أخرجه الطبراني أيضا، وفي إسناده كثير بن ودان، وهو ضعيف جدا، قاله الهيثمي (ج6: ص259)، ومنها حديث عمرو بن عوف، عزاه الهيثمي (ج6: ص260) للطبراني، وقال: فيه كثير بن عبدالله، وهو ضعيف، وقد حسن الترمذي له حديثا، وبقية رجاله ثقات. ومنها حديث سعد بن أبي وقاص، أخرجه البزار. قال الهيثمي (ج6:ص259): وفيه موسى بن عبيدة الربذى، وهو ضعيف. ومنها حديث ابن عمر، أخرجه أبويعلى، وفي سنده ليث بن أبي سليم، وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات، قاله الهيثمي (ج6:ص259) ومنها حديث ابن مسعود، وحديث علي موقوفها عليهما، وذكرهما الشاطبي في الاعتصام (ج2:ص211) وقال: لا أضمن عهدة صحتهما، وذكر على المنقي في الكنز (ج1:ص96) حديثا مرفوعا عن علي، وعزاه لابن النجار، وقد ظهر بما ذكرنا من الكلام في أحاديث هؤلاء الصحابة أن بعضها صحيح، وبعضها حسن، وبعضها ضعيف، وتحصل منه أن حديث افتراق الأمة صحيح من غير شك، فلا يعبأ بقول ابن حزم في الفصل (ج3:ص138): إن هذا الحديث لا يصح عن طريق الإسناد. وأيضا نفي الصحة لا يلزم منه ثبوت الضعف أو الوضع، فيمكن أن يراد به نفي الصحة مع ثبوت الحسن رتبة بين الصحيح والضعيف، وكذا لا يدل قول المجد صاحب القاموس في آخر سفر السعادة: أنه لم يثبت فيه شيء على ثبوت العدم أو الضعف، لاحتمال أن يراد بالثبوت الصحة، فلا ينتفي الحسن، وعلى التنزل فيقدم تصحيح الترمذي والحاكم ومن وافقهما على قول ابن حزم والمجد.

(2/102)


172- قوله: (وفي رواية أحمد) بن حنبل في مسنده (ج4:ص104) (وأبي داود عن معاوية) أي بعد قول "وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين" ومعاوية هذا، هو ابن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، أبوعبدالرحمن الأموى. أسلم يوم الفتح، وقيل: قبل ذلك، وكتب الوحي، وقيل: لم يكتب من الوحي شيئا إنما كتب له كتبه، تولى الشام بعد أخيه يزيد في زمن عمر، ولم يزل بها متوليا حاكما إلى أن مات، وذلك أربعون سنة، منها في أيام عمر أربع سنين أو نحوه، ومدة خلافة عثمان، وخلافة علي وابنه الحسن، وذلك تمام عشرين سنة، ثم استوثق الأمر بتسليم الحسن بن علي إليه في سنة (41) ودام له عشرين سنة، في رجب بدمشق، وله (48) سنة. قال الذهبي: ولي الشام عشرين سنة، وملك عشرين سنة. وكان حليما كريما سائسا عاقلا، خليقا للإمارة، كامل السودد، ذا دهاء ورأي ومكر، كأنما خلق للملك. له مائة وثلاثون حديثا، اتفقا على أربعة، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بخمسة، وروى عنه أبوذر وابن عباس من الصحابة، وجماعة من التابعين. مات في رجب سنة (60) وقد قارب الثمانين. (ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة). قال السندهي في حاشية ابن ماجه: قيل: إن أريد الخلود في النار فهو خلاف الإجماع، فإن المؤمنين لا يخلدون في النار، وإن أريد مجرد الدخول فيها فهو مشترك بين الفرق، إذ ما من فرقة إلا بعضهم عصاة، والقول بأن معصية
وهي الجماعة، وأنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله.
___________________________________________________________________________________________________________

(2/103)


الفرقة الناجية مطلقا مغفورة بعيد، أجيب بأن المراد أنهم في النار لأجل اختلاف العقائد، فمعنى "وواحدة في الجنة" أنهم لا يدخلون النار لأجل اختلاف العقائد، أو المراد بكونهم في النار طول مكثهم فيها، وبكونهم في الجنة أن لا يطول مكثهم في النار، وعبر عنه بكونهم في الجنة ترغيبا في تصحيح العقائد، وأنه يلزم أن لا يعفى عن البدعة الاعتقادية كما لا يعفى عن الشرك، إذ لو تحقق العفو عن البدعة. فإن قيل: لا يلزم دخول كل الفرقة المبتدعة في النار فضلا عن طول مكثهم، إذ هو مخالف لقوله تعالى: ?إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء? [48:4] أجيب بأن المراد أنهم يتعرضون لما يدخلهم النار من العقائد الرديئة، ويستحقون ذلك. ويحتمل أن المراد أن الغالب في تلك الفرق دخول النار، فيندفع الإشكال من أصله –انتهى. (وهي الجماعة) أي الموافقون لجماعة الصحابة الآخذون بعقائدهم، المتمسكون بطريقتهم، وهم أهل السنة والجماعة، أي أصحاب الحديث الذين اجتمعوا على اتباع آثاره- صلى الله عليه وسلم - في جميع الأحوال، واتفقوا على الأخذ بتعامل الصحابة وأجماعهم، ولم يبتدعوا بالتحريف والتغيير، ولم يبدلوا بالآراء الفاسدة. (وأنه سيخرج) أي سيظهر (في أمتي أقوام) أي جماعات (تتجارى) بالتائين أي تدخل وتجري وتسري (بهم) أي في مفاصلهم وعروقهم. (تلك الأهواء) جمع هوى البدع التي كانت السبب في الافتراق، وضعت موضعها وضعا للسبب موضع المسبب؛ لأن هوى الرجل هو الذي يحمله على الابتداع في العقيدة والقول والعمل. (كما يتجارى الكلب) بفتحتين داء يعرض للإنسان من عض الكلب الكلب أي المكلوب، وهو داء يصيب الكلب فيصيبه شبه الجنون فلا يعض أحدا إلا كلب، ويعرض له أعراض رديئة ويمتنع من شرب الماء حتى يموت عطشا، كذا في النهاية. (بصاحبه) أي مع صاحبه إلى جميع أعضائه أي مثل جرى الكلب في العروق، شبه حال الزاغين من أهل البدع في استيلاء تلك الأهواء عليهم،

(2/104)


وفي سراية تلك الضلالة منهم إلى الغير بدعوتهم إليها، ثم تنفرهم من العلم وامتناعهم من قبوله حتى يهلكوا جهلا، بحال صاحب الكلب وسريان تلك العلة في عروقه ومفاصله شبه الجنون، ثم تعديته إلى الغير فلا يعض المجنون أحدا إلا كلب أي جن، ويعرض له أعراض رديئة تشبه الماليخوليا مهلكة غالبا، ويمتنع من شرب الماء حتى يموت عطشا، قاله الطبي. وفي هذا التشبيه فوائد: منها التحذير من مقاربة تلك الأهواء ومقاربة أصحابها، وبيان ذلك أن داء الكلب فيه ما يشبه العدوى فإن أصل الكلب واقع في الكلب، ثم إذا عض ذلك الكلب أحدا صار مثله ولم يقدر على الانفصال منه في الغالب إلا بالهلكة، فكذلك المبتدع إذا أورد على أحد رأيه وإشكاله فقلما يسلم من غائلته، بل إما أن يقع معه في مذهبه ويصير من شيعته، وإما أن يثبت في قلبه شكا يطمع في الانفصال عنه فلا يقدر، هذا بخلاف سائر المعاصي، فإن صاحبها لا يضاره ولا يدخله فيها غالبا إلا مع طول الصحبة والأنس به، والاعتياد لحضور معصيته، وقد أتى في الآثار ما يدل على هذا المعنى، فإن السلف الصالح نهوا عن مجالستهم، ومكالمتهم، وكلام مكالمهم، وأغلظوا في ذلك، قاله الشاطبي وبسط الكلام في شرح رواية معاوية أيضا،
173- (34) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله لا يجمع أمتي - أو قال: أمة محمد - على ضلالة، ويد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار)) رواه الترمذي.
___________________________________________________________________________
فعليك أن ترجع إلى كتابه الاعتصام (ج2:ص243، 231) وحديث معاوية هذا، أخرجه أبوداود في السنة، وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضا الحاكم (ج1: ص128)، وقال بعد ذكره طرق حديث أبي هريرة: هذه أسانيد تقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث.

(2/105)


173- قوله: (إن الله لا يجمع أمتي) أي أمة الإجابة (أو قال: أمة محمد) شك من الراوي (على ضلالة) أي لا يجتمعون على ضلالة غير الكفر، وقيل: على خطأ في الاجتهاد. وقيل: على كفر ومعصية، وهذا قبل مجيء الريح اللينة. قيل: فيه دليل على أن إجماع المسلمين حق، والمراد إجماع العلماء المجتهدين من أهل السنة والجماعة، ولا عبرة بإجماع العوام؛ لأنه لا يكون عن علم، ووجه الاستدلال به أن عمومه ينفي وجود الضلالة، والخطأ ضلالة فلا يجوز الإجماع عليه، فيكون ما أجمعوا عليه حقا، وعندنا في دلالة هذا الحديث وما في معناه من الأحاديث على حقية الإجماع الشرعي ثم على حجيته نظر؛ لأن الاستدلال به على ذلك موقوف على أن المراد بالضلالة، الخطأ في الاجتهاد، وكون الخطأ المظنون ضلالة ممنوع، والظاهر أن المراد به الكفر والمعصية. (ويد الله علىالجماعة) قال الجزرى: أي أن الجماعة المتفقة من أهل الإسلام في كنف الله، ووقايته فوقهم، وهم بعيد عن الخوف والأذى فأقيموا بين ظهرانيهم – انتهى. وقال الفتنى في المجمع: أي سكينته ورحمته مع المتفقين، وهم بعيد من الخوف والأذى والاضطراب، فإذا تفرقوا زال السكينة، وأوقع بأسهم بينهم، وفسد الأحوال. (ومن شذ) بصيغة المعلوم أي انفرد عن الجماعة وخرج عنها (شذ) بصيغة المجهول، وحكي بصيغة المعلوم أيضا (في النار) كذا عند الحاكم، والحكيم الترمذي، وابن جرير، ووقع في جامع الترمذي "إلى النار"، يعني انفرد عن أصحابه الذين هم أهل الجنة وألقى في النار، وقال الطيبي: أي فقد شذ فيما يدخله النار أو في أمر النار، والشذوذ المنهي عنه شرعا هو الشذوذ الذي يشق به صاحبه عصا الإسلام، ويثير به الفتن المنهي عن إثارتها، كشذوذ الخوارج والرافضة وأمثالهم مما يظهر آنا فآنا لا الشذوذ في أحكام الاجتهاد. (رواه الترمذي) في أوائل الفتن، وفي سنده سليمان بن سفيان التيمي، وهو ضعيف. قال البخاري: إنه منكر الحديث. فالحديث ضعيف، لكن له

(2/106)


شواهد ذكرها الحافظ في التلخيص، والحاكم في المستدرك، تدل على أن للحديث أصلا.
تنبيه: اعلم أن المراد بالاجماع الذي احتجوا على حجيته بهذا الحديث وأمثاله هو الإجماع الشرعي المصطلح عند الأصوليين، وهو اتفاق مجتهدي هذه الأمة بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - في عصر من الأعصار على أمر ديني. واختلفوا في وقوعه وحجيته، والذي ندين الله به في هذا هو أن إجماع الصحابة حق وحجة، وإليه الإشارة بقوله: "ما أنا عليه وأصحابي"، وأما إجماع مجتهدى الأمة قاطبة بعد عصر الصحابة في عصر من الأعصار أي الإجماع الكلي
174- (35) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار)). رواه ابن ماجه من حديث أنس.
________________________________________________
فلا تصح دعواه عندنا، فإنه متعذر بل ممتنع لعدم إمكان العلم به. ولذا قال الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فهو كاذب. وأما الإجماع الجزئي فخارج عن البحث، وارجع للتفصيل إلى كتب الأصول للمذاهب الأربعة، وإرشاد الفحول للعلامة الشوكاني، وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخواطر لابن قدامة المقدسي.

(2/107)


174- قوله: (اتبعوا السواد) "السواد" في اللغة العدد الكثير، وسواد الناس عامتهم (الأعظم) أي جملة الناس، ومعظمهم الذين يجتمعون على طاعة الإمام أي السلطان الأعظم، وسلوك النهج المستقيم. وقيل: المراد "بالسواد الأعظم" من كان على ما عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من أهل الحديث، وهم الطائفة المنصورون، الظاهرون على الحق، المعظمون عند الله، المذكورون في قوله: ((لاتزال طائفة من أمتي)) الحديث. قال في الأزهار: اتبعوا السواد الأعظم يدل على أن أعاظم الناس العلماء وإن قل عددهم، ولم يقل: الأكثر.؛ لأن العوام والجهال أكثر عددا (فإنه) الضمير للشأن (من شذ) أي نفر عن السواد الأعظم بخروجه على الإمام الذي اجتمع على طاعته معظم الناس، أو انفرد عن الجماعة الحقة الناجية، الكائنة على ما هو عليه وأصحابه - صلى الله عليه وسلم -. (رواه ابن ماجه من حديث أنس) كذا في جميع طبعات الهند من المشكاة. قال الشيخ الألباني قوله: "رواه ابن ماجه من حديث أنس"، كذا في الأصل أي النسخة المطبوعة في الهند، وفي جميع النسخ أي المخطوطة الثلاث، وهي نسخة حاكم قطر، ونسخة مكتبة دمشق، ونسخة حلب، بياض. ويظهر أن المؤلف تعمد تركه؛ لأنه لم يجد من أخرجه كما أشار إليه في مقدمة الكتاب، وكذلك لم أجده في شيء من كتب السنة المعروفة حتى الأمالي والفوائد والأجزاء التي مررت عليها وهي تبلغ المئات، ولا أورده السيوطي في الجامع الكبير. وأما قول القاري: بعده بياض، وألحق ميرك شاه "ابن ماجه" ففي هذا الإلحاق نظر؛ لأن ابن ماجه وإن رواه عن أنس فهو بلفظ: ((إن أمتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم اختلافا فعليكم بالسواد الأعظم)). وكذا ابن بطة في "الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية" (ق145/2) وسنده ضعيف جدا، ومن ذلك يتبين أن ما في الأصل كأنه إضافة نقلا عن ميرك شاه – انتهى. قلت: قال البوصيرى في زوائد ابن ماجه: في إسناد حديث أنس، أو خلف الأعمى واسمه

(2/108)


حازم بن عطاء وهو ضعيف، وقد جاء الحديث بطرق، في كلها نظر، قاله شيخنا في تخريج أحاديث البيضاوي- انتهى. قلت أخرج الحاكم (ج1:ص115) وابن جرير كما في الكنز (ج1:ص53) وذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (ص128) بغير سند عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يجمع الله هذه الأمة على الضلالة أبدا، وقال: يدالله على الجماعة فاتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار)). قال الحاكم: لو حفظ خالد بن يزيد القرني هذا الحديث لحكمنا له بالصحة، ثم بسط الاختلاف في سنده ومتنه، وعلى ذلك فكان ينبغي أن يلحق "الحاكم في المستدرك".
175- (36) وعن أنس قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لأحد فافعل، ثم قال: يا بني وذلك من سنتي، ومن أحب سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة)) رواه الترمذي.
176- (37) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من تمسك بسنتي عند فساد أمتي، فله أجر مائة شهيد)) رواه...
_____________________________________________________________________________________

(2/109)


175- قوله: (يا بني) تصغير ابن لطفا ومرحمة وشفقة. (أن تصبح وتمسي) أي تدخل في وقت الصباح والمساء، والمراد جميع الليل والنهار (وليس في قلبك) الجملة حال من الفاعل، تنازع فيه الفعلان أي وليس كائنا في قلبك (غش) بكسر الغين، وضد النصح الذي هو إراداة الخير للمنصوح له (لأحد) هو عام للمؤمن والكافر، فإن نصيحة الكافر أن يجتهد في إيمانه، ويسعى في خلاصة من ورطة الهلاك باليد واللسان. وبالتألف بما يقدر عليه من المال، قاله الطيبي. (فافعل) أي نصحيتك (وذلك) أي خلو القلب من الغش (من سنتي) أي طريقتي. قال الطيبي: قوله: "فافعل" جزاء كناية عما سبق في الشرط من المعنى إن فعلت ما نصحتك به فقد أتيت بأمر عظيم، ولهذا أشار بقوله "وذلك" للإشعار بأنه رفيع المنزلة، بعيد التناول (ومن أحب سنتي) الخ. كذا وقع في المشكاة من الإحباب في الموضع الثلاثة، وكذا في المصابيح، ووقع في نسخ الترمذي الموجودة عندنا "ومن أحيا سنتي فقد أحياني، ومن أحياني كان معي في الجنة"، من الإحياء في المواضع الثلاثة، وهذا يدل على اختلاف نسخ الترمذي في هذا اللفظ، ويؤيد كونه من الإحباب ما ذكره في الكنز عزوا إلى السجزي في الإبانة بلفظ: ((من أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة)). ومن أحب سنتي أي فعمل بها (فقد أحبني) أي حيا كاملا؛ لأن محبة الآثار علامة محبة مصدرها (ومن أحبني كان معي) أي معية متقاربة لا معية متحدة في الدرجة (في الجنة) فإن المرء مع من أحب. (رواه الترمذي) في العلم، وقال: في الحديث قصة طويلة، هذا حديث حسن غريب. وأخرجه أيضا السجزى كما في الكنز (ج1:ص47).

(2/110)


176- قوله: (عند فساد أمتي) أي عند غلبة البدعة والجهل والفسق فيهم (فله أجر مائة شهيد) لما يلحقه من المشقة بالعمل بها وبإحيائها وتركهم لها، كالشهيد المقاتل مع الكفار لإحياء الدين بل أكثر. قال الطيبي: لم يقل إفسادهم لأنه أبلغ، كأن ذواتهم قد فسدت فلا يصدر منهم صلاح، ولا ينجع الوعظ فيهم، لا سيما إذا ظهر ذلك في العلماء منهم والمقتفين آثارهم، فإذن المجاهدة معهم أصعب وأشق من المجاهدة مع الكفار، ولذلك ضوعف أجر من جاهدهم على من جاهد الكفار أضعافا كثيرة (رواه) بعده بياض في الأصل، والحديث أخرجه البيهقي في الزهد، وابن عدى في الكامل عن ابن عباس من رواية الحسن بن قتيبة الخزاعي المدائني. قال ابن عدى: أرجو أنه
177- (38) وعن جابر عن النبي- صلى الله عليه وسلم - حين أتاه عمر فقال: ((إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال: أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولوكان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي)) رواه أحمد، والبيهقي في شعب الإيمان.
_____________________________________________________________________________________
لا بأس به. قال الحافظ: بل هو هالك. قال الدارقطني في رواية البرقاني: متروك الحديث. وقال أبوحاتم: ضعيف. وقال الأزدي: واهي الحديث. وقال العقيلي: كثير الوهم. كذا في لسان الميزان (ج2: ص246) قال المنذري: ورواه الطبراني من حديث أبي هريرة بإسناد لا بأس به إلا أنه قال: "فله أجر شهيد"، ومن طريق الطبراني رواه أبونعيم في الحلية (ج8: ص200) وفيه عبدالعزيز بن رواد، وفيه ضعف، ومحمود بن صالح العذري، قال الهيثمي (ج1: ص172): ولم أجد من ترجمه.

(2/111)


177- قوله: (إنا نسمع أحاديث) أي حكايات ومواعظ (من يهود) قال الأبهرى: غير منصرف للعلمية والتأنيث؛ لأنه يجرى مجرى القبيلة. وقيل: الأولى أن يقال: للعلمية ووزن الفعل؛ لأن أسماء القبائل التي ليست فيها تأنيث لفظي، يجوز صرفها حملا على الحي، وعدم صرفها حملا على القبيلة، ويهود لا يجوز فيها إلا عدم الصرف. (تعجبنا) بضم التاء وكسر الجيم أي تحسن عندنا، وتميل قلوبنا إليها. (أفترى) أي أتحسن لنا استماعها "فترى" يعني فتأذن. (أمتهوكون) أي متحيرون في الإسلام، لا تعرفون دينكم حتى تأخذوه من غير كتابكم ونبيكم (أنتم) للتأكيد (كما تهوكت اليهود والنصارى) أي كتحيرهم حيث نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتبعوا أهوائهم ورهبانهم وأحبارهم. (لقد جئتكم بها) أي بالملة الحنيفية بقرينة الكلام (بيضاء) أي واضحة، حال من ضمير "بها". (نقية) صفة "بيضا" أي ظاهرة صافية خالصة، خالية عن الشرك والشبهة. وقيل: المراد بها أنها مصونة عن التبديل والتحريف والإصرار والأغلال، خالية عن التكاليف الشاقة، وأشار بذلك إلى أنه أتى بالأعلى والأفضل، واستبدال الأدنى بالأعلى مظنة التحير. وقال الطيبي: "بيضاء نقيه" حالان مترادفان من الضمير المفسر بالملة – انتهى. وإنما أنكر عليهم؛ لأن طلبهم يشعر بأنهم اعتقدوا نقصان ما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -. (ولو كان موسى حيا) الخ. أي إذا كانت هذه حالة موسى فيكف بكم؟ وأنتم تطلبون من هؤلاء المحرفين ما تنتفعون به. (ما وسعه) أي ما جاز له (إلا اتباعي) في الأقوال والأفعال فكيف يجوز لكم أن تطلبوا فائدة من قومه مع وجودي. (رواه أحمد) (ج3:ص387) (والبيهقي في شعب الإيمان)، وفي سنده مجالد بن سعيد الهمداني، وفيه مقال. قال الحافظ: ليس بالقوى، وقد تغير في آخر عمره، إلا أن الحديث قد جاء عن غير مجالد، فتأيد به، فقد روي نحو عن ابن عباس عند أحمد وابن ماجه، وعن جابر عند ابن حبان، وعن عبدالله بن ثابت عند أحمد

(2/112)


وابن سعد والحاكم في الكنى، والطبراني في الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان.
178- (39) وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أكل طيبا، وعمل في سنة، وأمن الناس بوائقه، دخل الجنة. فقال رجل: يا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - إن هذا اليوم لكثير في الناس. قال: وسيكون في قرون بعدي)) رواه الترمذي.
179- (40) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنكم في زمان من ترك منكم عشر ما أمر به
______________________________________________________________________________________

(2/113)


178- قوله: (من أكل طيبا) أي حلالا يعني من كان قوته حلالا (وعمل في سنة) أي في موافقة سنة، يعني يكون متمسكا في كل عمل بسنة، أي بحديث جاء في ذلك العمل. قال الطيبي: "سنة" نكرة وضعت موضع المعرفة لإرادة استغراق الجنس بحسب إفراده كما في قوله تعالى: ((ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام? [27:31]. وقد أكل الحلال لأنه مورث للعمل الصالح، كما قال تعالى: ?كلوا من الطيبات واعملوا صالحا? [23: 51]. (وأمن الناس بوائقه) البائقة الداهية، وهي المحنة العظيمة، والمراد هنا الشرور كالظلم والغش والإيذاء. (دخل الجنة) أي استحق دخولها دخولا أوليا أي مع السابقين، أو بغير عذاب، وإلا فمن فم يعمل بالسنة ومات مسلما يدخلها وإن عذب. (إن هذا) أي الرجل الموصوف المذكور (اليوم) ظرف مقدم لخبر "إن" (لكثير في الناس) بحمد الله، فما حال المستقبل؟ (وسيكون) أي هم كثيرون اليوم، وسيوجد من يكون بهذه الصفة (في قرون بعدي) قال التوربشتي: يحتمل أن الرجل قال ذلك حمدا لله تعالى وتحديثا بنعمته، أي لا استفهاما عن المستقبل، فقال"سيكون" في قرون بعدي، ليوقفه على أن ذلك غير مختص بالقرن الأول أي بهذا القرن. ويحتمل أنه فهم من قوله: "من أكل طيبا" الخ. التحريض على الخصال المذكورة، والزجر عن أضدادها، ووجد الناس يتدينون بذلك ويحرضون عليه، فخاف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اطلع على خلاف ذلك في مستقبل الأمر منهم، فأحب أن يستكشف عنه، فقال هذا القول، فعرف - صلى الله عليه وسلم - منه ذلك، فأجابه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "وسيكون في قرون بعدي" باختصر الكلام اعتمادا على فهم السامع، وتهويلا للأمر المحذور عنه – انتهى. وقال صاحب اللمعات: معناه لا ينقطع الخيرعن أمتي قطعا وإن تفاوتت الحال قلة وكثرة، فتنكير "قرون" للتقليل، ويحتمل التكثير لكثرته في نفسه، ويشبه أن يكون المراد القرون الموسومة بخير القرون، ولكن هذه الصفات ليست مخصوصة بهم-

(2/114)


انتهى. (رواه الترمذي) في آخر الزهد، وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث إسرائيل، أي ابن موسى، عن هلال بن مقلاص، عن أبي بشر، عن أبي وائل، وعن أبي سعيد- انتهى. وأبوبشر هذا مجهول، قاله الحافظ في التقريب. والحديث أخرجه أيضا ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت وغيره، والحاكم وقال: صحيح الإسناد.
179- قوله: (إنكم) أيها الصحابة (في زمان) أي متصف بعزة الإسلام وأمن أهله. (من ترك منكم) أي فيه، وهو الرابط لجملة الشرط بموصوفها وهو "زمان"، (عشر ما أمربه) أي من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ
هلك، ثم يأتي زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا)) رواه الترمذي.
180- (41) وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: ?ماضربوه لك إلا جدلا
_________________________________________________________________________________

(2/115)


لا يجوز صرف هذا القول إلى عموم المأمورات؛ لأنه عرف من أصل الشرع أن أحدا من المسلمين لا يعذر فيما يهمل من الفرض الذي تعلق بخاصة نفسه، وإن كثر أهل الظلم وقل أهل الحق، هكذا قال التوربشتي وغيره. قيل: لعل هذا غير مناسب لباب التمسك بالكتاب والسنة، فلأنسب أن يحمل على أمور الندب من السنن والنوافل، وفيه بحث لأن الأمر بالمعروف لا يعرف إلا منهما، وأيضا الهلاك لا يترتب على ترك الندب مطلقا فضلا عن عشره، قاله القاري. (هلك) أي وقع في الهلاك لظهور الحق، ومشاهدة المعجزات، ومظاهرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعزة الإسلام، وكثرة أنصاره بحيث لو تكلم شخص بالحق نصروه، وخذلوا من نازع، فالترك يكون تقصيرا منكم، فلا يعذر أحد منكم في التهاون، والأمر على ذلك (ثم يأتي زمان) يضعف فيه الإسلام، ويكثر الظلمة والفساق، وتشيع الفتن، ويتوارى الحق، ويقل أنصاره فيعذر المسلمون فيما أهملوه من هذا الباب لعدم القدرة. (من عمل منهم) أي من أهل ذلك الزمان (بعشر ما أمر به نجا)؛ لأنه المقدور، ?ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها? [285:2]. (رواه الترمذي) في أواخر الفتن، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث نعيم بن حماد عن ابن عيينة- انتهى. ونعيم بن حماد هذا صدوق يخطيء كثيرا، كما في التقريب. وفي معنى الحديث روي عن أي ذر أخرج حديثه أحمد.

(2/116)


180- قوله: (إلا أوتوا الجدل) أي أعطوه، وهو حال "وقد" مقدرة، والمستثنى منه أعم الأحوال، وذو الحال فاعل "ما ضل" لا الضمير المستتر الذي في خبر كان كما توهمه الطيبي، فإنه فاسد معنى، وإن كان الضمير المذكور راجعا إلى فاعل "ما ضل" فليفهم، قاله السندي. والمعنى: ما كان وقوعهم في الضلالة إلا بسبب الجدال، وهو الخصام بالباطل، وضرب الحق به، وضرب الحق بعضه ببعض بإيداء التعارض والتدافع والتنافي بينهما، لا المناظرة لطلب الصواب مع التفويض إلى الله عند العجز عن معرفة الكنه. (ثم قرأ) أي توضيحا لما ذكر بذكر مثال له، لا للاستدلال به على الخصم المذكور، فإنه لا يدل عليه. (ماضربوه) أي هذا المثل (لك إلا جدلا) أي إلا لمخاصمتك، ولإيذائك بالباطل، لا لطلب الحق، فإن قلت: قريش ما كانوا على الهدى، فلا يصلح ذكرهم مثالا. قلت: نزل تمكنهم منه بواسطة البراهين الساطعة منزلة كونهم عليه، فحيث دفعوا بعد ذلك الحق بالباطل، وقرروا الباطل بقولهم: آلهتنا خير أم هو؟ يريدون أنهم يعبدون الملائكة وهم خير من عيسى، وقد عبدوه النصارى، فحيث صح لهم عبادته صح لنا عبادتهم بالأولى، فصاروا مثالا لما فيه الكلام. وقيل الأصح في معنى الآية أن عبدالله بن الزبعرى قبل إسلامه جادل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: ?إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم? [98:21] لآلهتنا أي الأصنام خير عندك أم عيسى؟
بل هم قوم خصمون?)) روه أحمد، والترمذي، وابن ماجه.
181- (42) وعن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ((لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار ?رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم?)).
________________________________________________________________________________

(2/117)


فإن كان في النار فلتكن آلهتنا معه، والجواب عن هذه الشبه بوجهين: الأول: أن "ما" لغير ذوي العقول فالإشكال نشأ عن الجهل بالعربية. والثاني: أن عيسى والملائكة خصوا عن هذا بقوله تعالى: ?إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون? [101:21]. (بل هم) أي الكفار (قوم خصمون) أي كثير الخصومة. (رواه أحمد) (ج5:ص252، 256)، (والترمذي) في تفسير سورة الزخرف، وقال: حديث حسن صحيح، (وابن ماجه) في السنة، وأخرجه أيضا الحاكم (ج2: ص248) وصححه، ووافقه الذهبي وابن جرير والطبراني والبيهقي وغيرهم.

(2/118)


181-قوله (لا تشددوا على أنفسكم) أي بالأعمال الشاقة كصوم الدهر، وإحياء الليل كله، واعتزال النساء لئلا تضعفوا عن العبادة، وأداء الحقوق والفرائض. (فيشدد الله عليكم) بالنصب جواب النهي، أي يفرضها عليكم فتقعوا في الشدة، أو بأن يفوت عليكم بعض ما وجب عليكم بسبب ضعفكم من تحمل المشاق، وقيل: المعنى لا تشددوا على أنفسكم بإيجاب العبادات الشاقة على سبيل النذر أو اليمين فيشدد الله عليكم، فيوجب عليكم بإيجابكم على أنفسكم، فتضعفوا عن القيام بحقه, وتملوا وتكسلوا، وتتركوا العمل فتقعوا في عذاب الله. (فإن قوما) أي من بني إسرائيل (شددوا على أنفسهم) بالعبادات الشاقة، والرياضات الصعبة، والمجاهدات التامة (فشددالله عليهم) بإتمامها والقيام بحقوقها. (فتلك) إشارة إلى ما في الذهن من تصور جماعة باقية من ذلك المشددين (بقاياهم) أي بقايا قوم شددوا على أنفسهم (في الصوامع) جمع صومعة بفتح الصاد والميم، وهي موضع عبادة الرهبان من النصارى. (والديار) جمع الدير بفتح الدال، وهو الكنيسة وهي معبد اليهود. (رهبانية) منصوب بفعل يفسره ما بعده، أي ابتدعوا رهبانية (ابتدعوها) أي أحدثوها من عند أنفسهم من غير أن تفرض عليهم أو تسن، والرهبانية بفتح الراء، وهي المبالغة في العبادة والرياضة، والإنقطاع عن الناس، منسوبة إلى الرهبان، وهو المبالغ في الخوف من الرهب، كالخشيان من خشي، وقرئت بالضم كأنها منسوبة إلى الرهبان جمع راهب، كركبان وراكب، وذلك لأنهم غلوا في العبادة، وحملوا على أنفسهم المشقات في الإمتناع من المطعم، والمشرب والمنكح والملبس، وتعلقوا بالكهوف والصوامع والغيران والديرة؛ لأن ملوكهم غيروا وبدلوا، وبقي منهم نفر قليل فترهبوا وتبتلوا ?ما كتبناها عليهم? أي ما فرضنا تلك الرهبانية عليهم وهي صفة ثانية لرهبانية، أو مستأنفة مقررة لكونها مبتدعة من عند أنفسهم، والاقتصار على هذا يدل على
رواه أبوداود.

(2/119)


182- (43) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نزل القرآن على خمسة أوجه: حلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال.
أن الاستثناء فيما بعده، وهو قوله: ?إلا ابتغاء رضوان الله? اسثناء منقطع، أي ما شرعناها لهم أصلا، ولكنهم التزموها من تلقاء أنفسهم ابتغاء رضوان الله. ?فما رعوها حق رعايتها? أي فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهذا ذم لهم من وجهين: أحدهما الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله، والثاني عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله تعالى، فكأن تركه وعدم رعايته حق الرعاية يدل على عدم مبالاتهم بما يعتقدونه دينا. وقيل: ?فما رعوها حق رعايتها? أي فلم يرعوا هذه الرهبانية التي ابتدعوها من عند أنفسهم، وما قاموا حق القيام بها بل ضيعوها، وكفروا بدين عيسى، وضموا إليها التثليث، ودخلوا في دين الملوك الذين غيروا وبدلوا، وتركوا الترهب، ولم يبق على دين عيسى إلا قليل منهم، حتى أدركوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - فآمنوا به، وهم المرادون بقوله: ?فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم? أي الذي يستحقونه بالإيمان بعيسى وبمحمد ?وكثير منهم فاسقون? [27:57] أي خارجون عن الإيمان بما أمروا به، وهم الذين كفروا بعيسى، وكذبوا محمدا وخالفوه. وقيل: الاستثناء متصل أي ما شرعناها لهم بشيء من الأشياء إلا لقصد رضوان الله، فما رعوها حق رعايتها حين لم يؤمنوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فشرع لهم الترهب على شرط أنه إذا نسخ بغيره رجعوا إلى ما أحكم، وتركوا ما نسخ، وهو معنى ابتغاء الرضوان على الحقيقة، فإذا لم يفعلوا وأصروا على الأول كان ذلك اتباعا للهوى لا اتباعا للمشروع، ولذلك سمى ابتداعا؛ لأنهم أخلوا بشرط المشروع إذ شرط عليهم فلم يقوموا به، وإذا كانت العبادة مشروعة بشرط فيعمل بها دون شرطها لم تكن عبادة على وجهها، وصارت بدعة، فيكون ترهب النصارى صحيحا قبل بعث محمد- صلى الله

(2/120)


عليه وسلم -، فلما بعث وجب الرجوع عن ذلك كله إلى ملته، فالبقاء عليه مع نسخه بقاء على ما هو باطل بالشرع، وهو عين البدعة، كذا حققه الشاطبي، وقد بسط الكلام في تفسير هذه الآية، من أحب الوقوف عليه رجع إلى كتابه الإعتصام. (رواه أبوداود) مطولا في باب الحسد من كتاب الأدب، وسكت عليه هو والمنذري، وفيه سعيد بن عبدالرحمن بن أبي العمياء، قال ابن القيم في كتاب الصلاة (ص475): هو شبه المجهول، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ في التقريب: هو مقبول. والحديث أخرجه أيضا أبويعلى في مسنده، وفيه أيضا سعيد بن عبدالرحمن المذكور.
182- قوله: (نزل القرآن) أي بطريق الإجمال (على خمسة أوجه) من وجوه الكلام (حلال) بالجزء، وهو بدل بعد العطف قبل الربط (ومتشابه) كالحروف المقطعة وأمثالها. (وأمثال) يعني قصص الأمم الماضية كقوم نوح وصالح وغيرهما. وقيل: الأظهر أن الأمثال مثل قوله تعالى: ?مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت?
فأحلوا الحلال، وحرموا الحرام، واعملوا بالمحكم، وآمنوا بالمتشابه واعتبروا بالأمثال)). هذا لفظ المصابيح. وروى البيهقي في "شعب الإيمان" ولفظه: ((فاعملوا بالحلال، واجتنبوا الحرام، واتبعواالمحكم)).
183- (44) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الأمر ثلاثة: أمر بين رشده فاتبعه، وأمر بين غيه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فكله إلى الله عزوجل)) رواه أحمد.

(2/121)


[41:29]، ولذلك عقبه تعالى بقوله: ?وتلك الأمثال نضربها للناس? [43:29]. (فأحلوا) بكسر الحاء أمر من الإحلال (الحلال) أي اعتقدوا حليته (وحرموا الحرام) أي اعتقدوا حرمته واجتنبوه (واعملوا بالمحكم) من الأمر والنهي (وآمنوا بالمتشابه) من غير أن تتبعوه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، ومن غير اشتغال بكيفيته. (هذا) أي المذكور من الحديث المروي (لفظ المصابح، وروى البيهقي) أي معناه، وحذف هذا للعلم به (في شعب الإيمان، ولفظه) أي لفظ البيهقي (فاعملوا بالحلال) الخ. فيه نوع اعتراض من المصنف على صاحب المصابيح. وأخرج الحاكم (ج2:ص290، 289) عن ابن مسعود مرفوعا بسند منقطع: ((كان الكتاب الأول نزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر، وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمنا به كل من عند ربنا)).

(2/122)


183- قوله: (الأمر) واحد الأمور، أي الشأن والحال في الأعمال التكليفية (ثلاثة) أي ثلاثة أنواع (امر) أي منها أمر، أو أحدها أمر (بين رشده) أي ظاهر صوابه، كأصول العبادات مثل وجوب الصلاة والزكاة، وكأصول العقائد من التوحيد والنبوة والمعاد (وأمر بين غيه) أي ضلالته كقتل النفس والزنا (وأمر اختلف فيه) بصيغة المجهول، أي اختلف الناس فيه من تلقاء أنفسهم من غير أن يبين الله ورسوله حكمه (فكله) أمر من وكل يكل (إلى الله عزوجل) أي فوض أمره إلى الله تعالى يعني ما علمت كونه حقا وصوابا بالنص فاعمل به، وما علمت بطلانه بالنص فاجتنبه، ومالم يثبت حكمه بالشرع فلا تقل فيه شيئا، وفوض أمره إلى الله، مثل متشابهات القرآن، وأمور القيامة. قال الطيبي: قوله: "اختلف فيه" يحتمل أن يكون معناه اشتبه وخفى حكمه، ويحتمل أن يراد به اختلاف العلماء، أي والأدلة. وقيل: الأولى أن يفسر هذا الحديث بما ورد في آخر الفصل الثالث من حديث أبي ثعبلة الخشين. (رواه أحمد). قال العلامة الألباني: لم أجد أحد عزاه إليه، وما أظنه في مسنده، وقد عزاه السيوطي في الجامع الكبير (ج1/323/2) لابن منيع، واسمه أحمد أيضا بهذا اللفظ، وللطبراني في الكبير بلفظ "فكله إلى علمه"، قلت: وفي أوله عنده (ج3/97/2) أن عيسى بن مريم - عليه السلام - قال "إنما الأمور ثلاثة... وكذا أورده الهيثمي
?الفصل الثالث?
184- (45) عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم، يأخذ الشاذة والقاصية والناحية، وإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة والعامة)) رواه أحمد.
185- (46) وعن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من فارق الجماعة شبرا فقد خلع
____________________________________________________

(2/123)


في المجمع (1/158) من رواية الطبراني فقط، وقال: "ورجاله موثقون"، وفيه نظر فإنه من رواية أبي المقدام، واسمه هشام بن زياد، وهو متروك، كما قال الحافظ في التقريب. ومن طريقه رواه الهروي في ذم الكلام (ق/60/2).
184- قوله: (ذئب الإنسان) الذئب مستعار للمفسد والمهلك (كذئب الغنم) أي في العداوة والإهلاك. (يأخذ الشاذة) قال الطيبي: صفة للذئب؛ لأنه بمنزلة النكرة ?كمثل الحمار يحمل أسفارا? [5:62]، ويجوز أن يكون حالا منه والعامل معنى التشبيه- انتهى. وقيل: إنه استئناف مبين، والمعنى: يأخذ غالبا أو بالسهولة من غير تدارك، وهو تمثيل مثل حال مفارقة الجماعة والسواد الأعظم، وانقطاعه عنهم، واعتزاله عن صحبتهم، ثم تسلط الشيطان عليه وإغوائه، بحالة شاة قاصية شاذة من قطيع الغنم، ثم افتراس الذئب إياها بسبب انقطاعها. والشاذة بتشديد الذال المعجمة، هي النافرة التي لم تؤنس بأخواتها ولم تختلط بهن. (والقاصية) أي التي قصدت البعد عنهن لأجل المرعى مثلا لا للتنفر. (والناحية) أي التي غفل عنها، وبقيت في جانب منها، فإن الناحية هي التي صارت في ناحية من الأرض عن أخواتها لغفلتها. (وإياكم والشعاب) بكسر الشين، جمع الشعب بالكسر أيضا، وهو الوادي ما اجتمع منه طرف وتفرق طرف منه، ولذلك قيل: شعبت الشيء إذا جمعته، وشعبته إذا فرقته، فهو من الأضداد، والمراد المنعطفات في الأودية؛ لأنها محل السباع والهوام وقطاع الطريق وأماكن الجن، ولما فرغ من التمثيل أكده بقوله: "وإياكم"، وعقبه بقوله: (وعليكم بالجماعة والعامة) تقريرا بعد تقرير، وقد تقدم معنى الجماعة، والمراد منها في شرح حديث ابن عمر في الفصل الثاني، وقيل في معنى هذه الجملة: وعليكم بمخالطة عامة المسلمين، وإياكم ومفارقتهم، والعزلة عنهم، واختيار الجبال والشعاب البعيدة عن العمران. (رواه أحمد) (ج5:ص233، 234) وفيه: يأخذ الشاة القاصية والناحية. وزاد في رواية: والمسجد. بعد قوله:

(2/124)


والعامة. وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير، وابن السجزي في الإبانة، كما في الكنز (ج1:ص52) وفي آخره: ((فعليكم بالجماعة والألفة والعامة والمساجد، وإياكم والشعاب)).
185- قوله: (من فارق الجماعة) المراد بالجماعة الصحابة، ومن بعدهم من التابعين وتابعي التابعين من السلف الصالحين، المتمسكين بعرى الإسلام. (شبرا) بكسر الشين، ما بين طرف الإبهام وطرف الخنصر ممتدين، والمعنى: من فارق ما عليه الجماعة يترك السنة، واتباع البدعة، ونزع اليد عن الطاعة، ولو كان بشيء يسير يقدر في الشاهد بقدر شبر (فقد خلع) أي نزع
ربقة الإسلام من عنقه)) رواه أحمد، وأبوداود.
186- (47) وعن مالك بن أنس مرسلا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله))
____________________________________________________________________________

(2/125)


(ربقة الإسلام) الربقة بالكسر في الأصل عروة في حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها، فاستعارها للإسلام، يعني ما يشد المسلم به نفسه من عرى الاسلام، أي حدوده وأحكامه، وأوامره ونواهيه. وقال الطيبي: استعيرت الربقة لانقياد الرجل واستسلامه لأحكام الشرع، وخلعها ارتداده، وخروجه عن طاعة الله وطاعة رسوله. وقال الخطابي: يقول من خرج عن طاعة إمام الجماعة أو فارقهم في الأمر المجتمع عليه فقد ضل وهلك، وكان كالدابة إذا خلعت الربقة التي هي محفوظة بها، فإنها لا يؤمن عليها عند ذلك الهلاك والضياع – انتهى. وقيل: المعنى فقد نبذ عهد الله وأخفر ذمته التي لزمت أعناق العباد لزوم الربقة. قلت: الحديث قد استدل به على حجية الإجماع، وفيه نظر؛ فإنه ليس فيه إلا المنع من مفارقة الجماعة، فأين هذا من محل النزاع، وهو كون ما أجمعوا عليه حجة ثابتة شرعية، فتأمل. (رواه أحمد) (ج5:ص180)، (وأبوداود) في السنة، وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضا الحاكم (ج1:ص127)، وفي معنى الحديث عن حذيفة أخرج حديثه النسائي، وعن الحارث بن الحارث الأشعري أخرج حديثه الترمذي وصححه، وابن خزيمه وابن حبان في صحيحهما، والحاكم (ج1:ص127) وقال: صحيح على شرط الشيخين، وعن أبي هريرة أخرج حديثه مسلم في صحيحه، والنسائي في المجتبى بلفظ: ((من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، مات ميتة جاهلية)). وعن ابن عباس عند الشيخين، وعن ابن عمر ومعاوية عند الحاكم.

(2/126)


186- قوله: (عن مالك بن أنس) إمام دار الهجرة صاحب المذهب (مرسلا) المرسل على ما هو المشهور عند أهل الحديث هو: قول التابعي قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - كذا، أو فعله. لكن المشهور في الفقة وأصوله أن قول من دون التابعي أيضا يسمى مرسلا سواء كان منقطعا أو معضلا. وبه قطع الخطيب، قال: إلا أن أكثر ما يوصف بالإرسال من حيث الإستعمال ما رواه التابعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فهذا محمول على قول الخطيب، فإن الإمام مالكا من أتباع التابعين، والأولى أن يقول معلقا أو معضلا مكان قوله: "مرسلا"، فإن الحديث في المؤطا هكذا: مالك أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((تركت فيكم أمرين...)) الخ. قال الزرقاني: مر أن بلاغه صحيح كما قال ابن عيينة، وقد أخرجه ابن عبدالبر من حديث كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده (تركت فيكم) أي تارك فيكم بعدي (أمرين) أي شيئين كما في حديث أبي هريرة عند الحاكم. (ماتمسكتم) أي مدة تمسككم، وفى نسخة الزرقاني للمؤطا "ما مسكتم" بفتح الميم والسين الخفيفة من المسك، أي أخذتم وتعلقتم واعتصمتم (بهما) أي بالأمرين معا. (كتاب الله وسنة رسوله) أي حديث رسوله، وهما منصوبان على البدلية، أو بتقدير أعنى، وقيل: بالرفع على الخبرية
رواه في المؤطا.
187- (48) وعن غضيف بن الحارث الثمالي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة، فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة))

(2/127)


بتقدير "هما"، وفي المؤطا "سنة نبيه"، قال الزرقاني: فإنما الأصلان اللذان لا عدول عنهما، ولا هدى إلا منهما، والعصمة والنجاة لمن مسك بهما، واعتصم بحبلهما، وهما العرفان الواضح، والبرهان اللائح بين المحق إذا اقتفاهما، والمبطل إذا خلاهما، فوجوب الرجوع إليهما معلوم من الدين ضرورة، لكن القرآن يحصل العلم القطعي. وفي السنة تفصيل معروف – انتهى. ثم في العدول عن "سنتي" مبالغة في زيادة شرفه، والحث على التمسك بسنته بذكره السبب في ذلك، وهو خلافته عن الله وقيامه برسالته، وأن ماجاء به ليس إلا من تلك الرسالة لا من تلقاء نفسه. (رواه) أي مالك، وفيه أنه يصير التقدير: رواه مالك عن مالك (في المؤطا) فكان حق المصنف أن يقول هكذا في المؤطا. والحديث ذكره مالك بلاغا في باب النهي عن القول في القدر من كتاب الجامع، وهو من بلاغات الإمام كما عرفت وقد تقدم بيان حكمها في كلام سفيان وابن عبدالبر وابن فرحون والسيوطي. ثم المؤطا بالهمزة في آخره، وقيل: بالألف، بمعنى الممهد، المنقح، المسهل، المهيأ لغة. وهذا الحديث أخرجه الحاكم (ج1:ص93) عن أبي هريرة مرفوعا: ((تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما، كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض)). وأخرج الحاكم أيضا (ج1:ص93) والبيهقي عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس في حجة الوداع فقال: ((يا أيهاالناس: إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا، كتاب الله وسنة نبيه)).

(2/128)


187- قوله: (وعن غضيف) بالضاد المعجمة مصغرا، ويقال: غطيف بالطاء المهملة بدل الضاد المعجمة، والأول أثبت وأصح، (بن الحارث الثمالي) بضم الثاء المثلثة، وتخفيف الميم، نسبة إلى ثمالة بطن من الأزد، ويكنى أبا أسماء، حمصي، مختلف في صحبته، فذكره الحافظ في القسم الأول من حرف الغين من الإصابة، والمصنف والسكوني في الصحابة، وكذا البخاري، وابن أبي حاتم، والترمذي، والخليفة، وابن أبي يخيثمة، والطبراني، وآخرون، وذكره جماعة كابن سعد، والدارقطني، والعجلى، وغيرهم في ثقات التابعين، ومنهم من فرق بين غضيف بن الحرث فأثبت صحبته، وغطيف بن الحارث فقال: إنه تابعي. قال الحافظ في التقريب: وهو أشبه، مات سنة بضع وستين. (ما أحدث قوم بدعة) شرعية (إلا رفع مثلها) أي مقدارها في الكمية، أو الكيفية والمرتبة. سمى أحد الضدين مثلا للآخر؛ لأن كل واحد منهما أقرب خطورا بالبال عند ذكر الآخر، وأسرع ثبوتا عند ارتفاع الآخر، فكأن بينهما تناسب ما، وإذا كان إحداث البدعة رافعا للسنة ومغيرا لها كانت إقامة السنة قامعة للبدعة وماحية لها. (فتمسك) جواب شرط محذوف، أي إذا عرفت ذلك فتمسك (بسنة) أي صغيرة أو قليلة (خير من إحداث بدعة) شرعية، وإن كانت مستحسنة
رواه أحمد.
188- (49) وعن حسان قال: ((ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة)).

(2/129)


عند الناس، فبالأول يزيد النور ويحصل الأجر، وبالثاني تشيع الظلمة ويحصل الوزر، ومن المعلوم أن الشيء الذي يورث الأجر خير من الشيء الذي يورث الوزر، وهو من قبيل "العسل أحلى من المر"، وعلى حد ?أى الفريقين خير مقاما وأحسن نديا?، فالتقدير: التمسك بسنة فيه خير عظيم وببدعة لا خير فيه أصلا. وقيل: معنى قوله: "إلا رفع مثلها من السنة" أنه بحدوث البدعة يبطل العمل بسنة، ففيه التحذير عن ارتكاب البدع. (رواه أحمد) (ج4:ص105) من طريق أبي بكر بن عبدالله، عن حبيب بن عبيدالله الرحبي، عن غضيف، قال: بعث إلي عبدالملك بن مروان، فقال: يا أباأسماء: إنا قد جمعنا الناس على أمرين. قال: ما هما؟ قال: رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، والقصص بعد الصبح والعصر. فقال: إنهما أمثل بدعتكم عندي، ولست بمجيبكم إلى شيء منهما. قال: لم؟ قال:؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة، فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة)) – انتهى. ولعل قوله: فتمسك بسنة، الخ. من قول غضيف موقوف عليه، مدرج في الحديث. وقد أخرجه أيضا البزار، والطبراني في الكبير، وفي سندهما أبوبكر بن عبدالله، أي ابن أبي مريم الغساني، قال الحافظ أبوعبدالله، وابن معين، وأبوحاتم، وأبوزرعة، وغيرهم: ضعيف. وقال الهيثمي (ج1:ص188): منكر الحديث. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف، وكان قد سرق بيته فاختلط. وصدر المنذري حديث غضيف هذا بلفظة "روي"، وهو دليل لكونه ضعيفا بحيث لا يتطرق إليه احتمال التحسين، كما صرح بذلك في مقدمة ترغيبه. وقال العزيزى: إسناده ضعيف، وفي الباب عن أبي هريرة عند الرافعي، وابن مسعود عند الديلمي، وابن عباس عند الطبراني في الكبير.

(2/130)


188- قوله: (وعن حسان) غير منصرف على أنه فعلان، وقد ينصرف على أنه فعال، وهو ابن عطية كما صرح بذلك ابن بطة (ق114/2) والهروى (ق98/2) في روايتهما، والشاطبي في الاعتصام (85/1) وليس هو حسان بن ثابت الصحابي الشاعر كما وهم القاري وابن عطية، وهذا هو حسان بن عطية المحاربي مولاهم أبوبكر الشامي الدمشقي من ثقات التابعين، قال الحافظ في التقريب: ثقة فقيه عابد، من الرابعة، مات بعد العشرين ومائة. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته: ذكره البخاري في الأوسط في فصل من مات من العشرين إلى الثلاثين ومائة، وقال: كان من أفاضل أهل زمانه. (قال) أي حسان (ما ابتدع قوم بدعة) شرعية (مثلها) أي في العدد أو القدر (ثم لا يعيدها) أي الله تلك السنة (إليهم إلى يوم القيامة)، وذلك أن السنة كانت متأصلة مستقرة في مكانها، فلما أزيلت عنه لم يمكن إعادتها
رواه الدارمي.
189- (50) وعن إبراهيم بن ميسرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام)) رواه البيهقي في شعب الإيمان مرسلا.
190- (51) وعن ابن عباس، قال: ((من تعلم كتاب الله ثم اتبع ما فيه، هداه الله من الضلالة في الدنيا، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب)). وفي رواية، قال: من اقتدى بكتاب الله
كما كانت أبدا، فمثلها كمثل شجرة ضربت عروقها في تخوم الأرض فلإذا قلعت لم يمكن إعادتها كما كانت. (رواه الدارمي) أي من قول حسان في باب اتباع السنة، قال: أخبرنا أبوالمغيرة، ثنا الأوزعي عن حسان، قال: ما ابتدع، الخ. وهذا سند صحيح، قال الشيخ الألباني: وقد روي من قول أبي هريرة، أخرجه أبوالعباس الأصم في حديثه.

(2/131)


189- قوله: (وعن إبراهيم بن ميسرة) بميم مفتوحة وياء ساكنة وسين مهملة مفتوحة وبراء، الطائفي، نزيل مكة، ثبت، حافظ، من صغار التابعين. قال ابن المديني: له نحو ستين حديثا أو أكثر. قال البخاري: مات قريبا من سنة اثنتين وثلاثين ومائة. (من وقر) بالتشديد أي عظم أو نصر (صاحب بدعة) سواء كان داعيا لها أم لا، (فقد أعان على هدم الإسلام)؛ لأن المبتدع مخالف للسنة، ومعاون مخالف الشيء معاون لهدمه، وكان من حق الظاهر أن يقال: من وقر المبتدع فقد استخف السنة. فوضع موضعه "فقد أعان على هدم الإسلام"؛ ليؤذن بأن مستخف السنة مستخف للإسلام، ومستخفه هادم لبنيانه، وهو من باب التغليظ، فإذا كان حال الموقر هكذا فما حال المبتدع، وفيه أن من وقر صاحب سنة كان الحكم بخلافه. (رواه البيهقي) الخ. واعتضد هذا المرسل بما روى الطبراني في الكبير، وأبونعيم في الحلية عن معاذ بن جبل مرفوعا نحوه، وفيه بقية، وهو ضعيف، قاله الهيثمي (ج1:ص188) وبما روى الطبراني في الكبير عن عبدالله بن بسر، قال العزيزى: هو حديث ضعيف.

(2/132)


190- قوله: (وعن ابن عباس قال) أي موقوفا (من تعلم كتاب الله) نظرا أو حفظا أو علما بمعناه، (ثم اتبع ما فيه) من الأمر والنهي (هداه الله من الضلالة) ضمن "هدى" معنى أمن فعداه بمن إلى المفعول الثاني، أي أمنه الله من ارتكاب المعاصي، والانحراف عن الطريق المستقيم، قال القاري كذا قاله الطيبي. والأظهر أن معناه من اتبع القرآن ثبته الله على الهداية، ووقاه من الوقوع في الضلالة ما دام يعيش، (ووقاه) أي حفظه (سوء الحساب) أي مناقشته المؤدية إلى السوء، قال الطيبي: هو عبارة عن كونه من أصحاب اليمين، فكما أنه أمن في الدنيا من الضلال كذلك يأمن في الآخرة من العذاب. وفيه أن سعادة الدارين منوطة بمتابعة كتاب الله، ومتابعة موقوفة على معرفة سنة رسوله ومتابعة، فهما متلازمتان شرعا لا ينفك أحدهما عن الآخر. (وفي رواية قال) أي ابن عباس (من اقتدى بكتاب الله)
لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم تلا هذه الآية ?فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى? رواه رزين.
191- (52) وعن ابن مسعود أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: ((ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعن جنبتى الصراط سوران، فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعند رأس الصراط داع يقول: استقيموا على الصراط ولا تعوجوا، وفوق ذلك داع يدعوا، كلما هم عبد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: ويحك

(2/133)


في جميع أموره وشؤونه وأحواله. (لا يضل) أي لا يقع في الضلالة (ولا يشقى) أي لا يتعب ولا يعذب. (ثم تلا هذه الآية) أي استشهادا لما قاله (فمن اتبع هداى) أي ما يهدى به، أو أريد به المصدر مبالغة، وهو القرآن بقرينة الإضاءة، أي الهداية المخصوصة بي، المنسوبة إلي، وفي معناه الهداية النبوية، والسنة المصطفوية، ولذا قال في المعالم: أي الكتاب والسنة. (رواه رزين) وأخرجه أيضا الحاكم في المستدرك (ج2:ص381) قال: ((من قرأ القرآن، واتبع ما فيه، هداه الله من الضلالة، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب، وذلك بأن الله عزوجل قال: ((من اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى?)) [123:20] قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وأقره الذهبي في التلخيص، وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه أبوشيبة، وهو ضعيف جدا، قاله الهيثمي (ج1: ص169).

(2/134)


191- قوله: (ضرب الله مثلا) أي بين مثلا، وذلك لإخراج المعقول في صورة المحسوس تقريبا للمعقول. (صراطا مستقيما) بيان للمثل، قال القاري: هو بدل من "مثلا" لا على إهدام المبدل كما في قولك: زيد رأيت غلامه رجلا صالحا. (وعن جنبتي الصراط) بفتح الجيم وسكون النون، أي جانبيه وطرفيه. (سوران) بالضم تثنية سور، أي جدران وأصله حائط يطوف بالمدينة، والجملة حال عن "صراطا". (فيهما أبواب) الجملة صفة "سوران" (مفتحة) من التفتيح (ستور) جمع الستر بالكسر (مرخاة) أي مرسلة ومسبلة. (وعند رأس الصراط أي عليه، (ولا تعوجوا) بتشديد الجيم من الإعواجاج، وفي بعض النسخ بتشديد الواو على حذف إحدى التائين فهو تأكيد لما قبله، أي لا تميلوا إلى الأطراف، قال الطيبي: عطف على "استقيموا" على الطرد والعكس؛ لأن مفهوم كل منهما يقرر منطوق الآخر، وبالعكس (وفوق ذلك) عطف على "وعند رأس الصراط" والمشار إليه بذلك الصراط أو الداعي. (كلما هم عبد) أي قصد وأراد (أن يفتح شيئا) أي قدرا يسيرا. (من تلك الأبواب) أي ستورها (قال) أي الداعي، وهو جواب "كلما" (ويحك) زجر له عن تلك الهمة، وهي كلمة ترحم وتوجع تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها، ثم استعمل هنا لمجرد الزجر عما هم به من
لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه. ثم فسره فأخبر: أن الصراط هو الإسلام، وأن الأبواب المفتحة محارم الله، وأن الستور المرخاة حدود الله، وأن الداعي على رأس الصراط هو القرآن، وأن الداعي من فوقه هو واعظ الله في قلب كل مؤمن)) رواه رزين.
192- (53) ورواه أحمد والبيهقي في شعب الإيمان عن النواس بن سمعان، وكذا الترمذي عنه إلا أنه ذكر أخصر منه.
193- (54) وعن ابن مسعود قال: "من كان مستنا، فيستن بمن قد مات، فإن الحي

(2/135)


الفتح. (لا تفتحه) أي شيئا من تلك الأبواب أي ستورها (تلجه) أي تدخله من الولوج، يعني لا تقدر أن تملك نفسك وتمسكها عن الدخول بعد الفتح. (ثم فسره) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أن الصراط هو الإسلام) وهو طريق مستقيم، والمطلوب من العبد الاستقامة عليه أي امتثال جميع أحكامه. (وأن الأبواب المفتحة محارم الله) أي المعاصي التي حرمها الله على الناس، فإنها أبواب للخروج من كمال الإسلام والاستقامة، والدخول في العذاب والملامة. (وأن الستور المرخاة حدود الله) قيل: الحد الفاصل بين العبد ومحارم الله والمانع له من ارتكابها، كما قال الله تعالى: ?تلك حدود الله فلا تعتدوها? [229:2]، وهي عبارة عن أحكامه، وقيل:المراد من الستور الأمور المستورة الغير المبينة من الدين المسماة بالشبهة المعبر عنها بحول الحمى. (وأن الداعي من فوقه) أي من فوق الداعي الأول. (هو واعظ الله في قلب كل مؤمن) هو لمة الملك في قلب المؤمن، والهم لمة الشيطان. (رواه رزين) أي عن ابن مسعود.
192- قوله: (ورواه أحمد) الخ. (ج4:ص182، 183) من طريقين في أحدهما بقية بن الوليد، وهو صدوق كثير التدليس، لكن صرح بسماعه من بحير بن سعد‘ وأخرجه أيضا الحاكم (ج1:ص73) وقال:صحيح على شرط مسلم، ولا أعرف له علة. ووافقه الذهبي. (عن النواس) بفتح النون وتشديد الواو (بن سمعان) بفتح السين المهملة، وقيل بكسرها وسكون الميم، وبالعين المهملة، العامري الكلابي، سكن الشام، صحابي، ولأبيه أيضا صحبة. روي له سبعة عشر حديثا، انفرد له مسلم بثلاثة. (وكذا الترمذى عنه) أي روى عن النواس في الأمثال، وحسنه (إلا أنه) أي الترمذي (ذكر أخصر منه) أي من هذا الحديث، أو أخصر مما ذكر غيره.

(2/136)


193- قوله: (مستنا) بتشديد النون، أي مقتديا بسنة أحد وطريقته. (فليستن بمن قد مات) أي على الإسلام، أو العلم والعمل، وعلم حاله وكماله على وجه الاستقامة. أخرج الكلام مخرج الشرط والجزاء تنبيها به على الاجتهاد، وتحري طريق الثواب بنفسه بالاستنباط من معاني نصوص الكتاب والسنة، فإن لم يتمكن منه فليقتد بأصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم -، لأنهم اتبعوا أثر النبي- صلى الله عليه وسلم - على ما شاهدوا من أقواله وأفعاله وأحواله وتقريره، فالاستنان بهم متعين. وكأن ابن
لا تؤمن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم)) رواه رزين.
194- (55) وعن جابر، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنسخة من التوراة، فقال: يار سول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه نسخة من التوراة،

(2/137)


مسعود يوصي القرون الآتية بعد قرون الصحابة باقتفاء آرائهم، والاهتداء بهديهم، قال القاري: خص أمواتهم؛ لأنه علم استقامتهم على الدين واستدامتهم على اليقين بخلاف من بقي منهم حيا، فإنه يمكن منهم الافتنان ووقوع المعصية، بل الردة والكفر؛ لأن العبرة بالخاتمة، وهذا تواضع منه في حقه لكمال خوفه على نفسه، وإلا فهو ممن يقتدي به حيا وميتا-انتهى. وقال صاحب اللمعات: أراد "بمن مات" الصحابة جميعا، وبالحي أهل زمانه غير الصحابة. (لا تؤمن عليه الفتنة) أي الابتلاء في الدين. (أولئك) إشارة إلى من مات، أفرد الضمير في "مات" نظرا إلى اللفظ وقال "أولئك" نظرا إلى المعنى. (كانوا أفضل هذه الأمة) أي أمة الإجابة، وهم خير أمة، فكانوا أفضل الأمم، و"هذه" إشارة إلى ما في الذهن من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى انقراض العال.م (أبرها قلوبا) أي أطوعها وأحسنها وأخلصها (وأعمقها علما) أي أكثرها غورا من جهة العلم، وأدقها فهما (وأقلها تكلفا) أي تصنعا في العمل، وكذا في العلم والقراءة والطعام واللباس وغير ذلك. (اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه) فإنهم نقله أقواله وحملة أحواله إلى من بعدهم، وأيضا جاهدوا في الله حق الجهاد، وأظهروا الدين، يعني لما جعلهم الله تعالى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - واصطفاهم واختصهم من بين الخلائق بهذه الفضيلة، علم أنهم أفضل الناس وخيار الخلق ممن بعدهم تلميحا إلى قوله تعالى: ?وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها? [26:48]، (فاعرفوا لهم فضلهم) أي على غيرهم (واتبعوهم) بتشديد التاء، أي كونوا متبعين لهم حال كونكم ماشين (على أثرهم) بفتحتين وبكسر الهمزة وسكون المثلثة، أي عقبهم في العمل والعلم. (وتمسكوا) أي خذوا واعملوا (بما استطعتم) فيه إشارة إلى عجز المتأخرين عن المتابعة الكاملة لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله. (وسيرهم) بكسر السين وفتح الياء جمع السيرة. (فإنهم كانوا على

(2/138)


الهدى المستقيم)؛ لأنهم اتبعوا أثر النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما شاهدوا من الأقوال والأحوال والأفعال. قال الطيبي: في قوله: "فاعرفوا لهم" قد أجمل ههنا ثم فصل بقوله "فضلهم"، كما في قوله تعالى: ?رب اشرح لي صدري? [25:20]، والمراد من العرفان ما يلازمه من متابعتهم ومحبتهم والتخلق بأخلاقهم، فإن قوله: "واتبعوهم" عطف على "اعرفوا" على سبيل البيان، وقوله "على أثرهم" حال مؤكدة من فاعل "اتبعوا" نحو قوله: ?ثم وليتم مدبرين? [25:9]. (رواه رزين) وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن مسعود: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم". قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
194- قوله: (بنسخة من التوراة) أي بشيء نسخ ونقل منها (هذه نسخة من التوراة) أي فهل تأذن لنا أن
فسكت، فجعل يقرأ ووجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتغير، فقال أبوبكر: ثكلتك الثواكل، ما ترى ما بوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فنظر عمر إلى وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: والذي نفس محمد بيده لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل، ولو كان حيا وأدرك نبوتي لاتبعني)) رواه الدارمي.
195- (56) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كلامي لا ينسخ كلام الله، وكلام الله ينسخ كلامي، وكلام الله ينسخ بعضه بعضا.

(2/139)


نطالع فيها لنطلع على ما فيها من أخبار الأمم وشرائع موسى؟ (فسكت) من كمال حلمه (فجعل يقرأ) أي شرع عمر يقرأ النسخة ظنا منه أن السكوت علامة الرضا والإذن. (يتغير) أي من أثر الغضب (ثكلتك) أي فقدتك (الثواكل) جمع ثاكل وثاكلة، أي من الأمهات والبنات والأخوات، وأصله دعاء للموت، لكنه مما يجري على ألسنتهم ولا يراد بها الدعاء، كتربت يمينه. (ما ترى) "ما" نافية بتقدير الاستفهام. (ما بوجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم -) "ما" هذا موصولة أو موصوفة. (أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله) غضب الله توطئه لذكر غضب رسوله إيذانا بأن غضبه غضبة، وإيماء إلى أن التعوذ إنما هو من غضب الله حقيقة، وإنما يتعوذ من غضب رسوله؛ لأنه سبب لغضبه تعالى. (رضينا بالله ربا) الخ. قاله أعتذارا عما صدر عنه، وجمع الضمير إرشادا للسامعين، أو إيماء إلى أنه مع الحاضرين مقام الرضا طلبا للرضا اجتنابا عن الغضب (لو بدا) بالألف دون الهمزة أي ظهر (لكم موسى) على سبيل الفرض، والتقدير (فاتبعتموه وتركتموني) لم يقتصر على الاتباع؛ لأنه بمجرده لا محذور فيه، إنما المحذور في اتباع يؤدي إلى الترك. (لضللتم) بفتح اللام وكسرها من ضرب وسمع (عن سواء السبيل) فكيف مع وجودي وعدم ظهور موسى تتبعون كتابه المنسوخ. (ولو كان) أي موسى (حيا) أي في الدنيا (وأدرك نبوتي) أي زمانها (لاتبعني)؛ لأن دينه صار منسوخا في زماني، ولأخذ الميثاق منه ومن سائر الأنبياء على ذلك، وفي الحديث نهي بليغ عن العدول من الكتاب والسنة إلى غيرهما. (رواه الدارمي) وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه، وفي الباب عن ابن عباس أخرجه أحمد، وعن عبدالله بن ثابت الأنصاري أخرجه ابن سعد، وأحمد، والحاكم في الكنى، والطبراني في الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان، وعن أبي الدرداء أخرجه الطبراني في الكبير، وعن عبدالله بن الحارث أخرجه البيهقي في الشعب.

(2/140)


195- قوله: (كلامي لا ينسخ كلام الله) النسخ في اللغة الرافع والإزالة، ومنه نسخت الشمس الظل، ونسخت
الريح الأثر. وقد يطلق لإرادة ما يشبه النقل كقولهم: نسخت الكتاب. فأما النسخ في الشرع فهو بمعنى الرفع والإزالة لا غير، وحده: أن يرفع بخطاب متراخ حكم ثبت بخطاب متقدم. وهو في الحقيقة بيان؛ لانتهاء الحكم الشرعي المطلق، وهذا عند المتأخرين، وأما السلف فمرادهم بالنسخ رفع الحكم بجملته تارة كما هو اصطلاح المتأخرين، ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة، إما بتخصيص أو تقييد، أو حمل مطلق على مقيد، وتفسيره وتبيينه، حتى أنهم ليسمون الاستثناء، والشرط، والصفة نسخا لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد، فالنسخ عندهم وفي لسانهم بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه، ولذلك كثر إطلاق النسخ في كلامهم. ثم ههنا خمس صور: الأولى نسخ القرآن بالقرآن، والثانية نسخ السنة المتواترة بمثلها، والآحاد بالآحاد، ولا اختلاف فيهما؛ لأن ذلك متماثل، فجاز أن يرفع بعضه بعضا، والثالثة نسخ السنة بالقرآن كما نسخ التوجه إلى بيت المقدس، وتحريم المباشرة ليالي رمضان، وجواز تأخير الصلاة حالة الخوف بالقرآن، وهو كان ثابتا بالسنة، وفيها خلاف، والجواز هو ما عليه الجمهور، وللشافعي في ذلك قولان، وصحح عامة الشافعية الجواز، وهو الأصح عندنا؛ لأنه لا وجه للمنع قط، ولم يأت في ذلك ما يتشبث به المانع لا من عقل ولا من شرع، بل ورد في الشرع نسخ السنة بالقرآن في غير موضع، فمن ذلك قوله تعالى: ?قد نرى تقلب وجهك في السماء? الآية [144:2]. فنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالقرآن، وكان ذلك ثابتا بالسنة، ونسخ تحريم المباشرة في ليالي رمضان بقوله تعالى: ?فالآن باشروهن? [187:2]، ونسخ صوم عاشوراء بقوله تعالى: ?فمن شهد منكم الشهر فليصمه? [185:2]، ونسخ تحليل الخمر بقوله تعالى: ?إنما الخمر والميسر? الآية [90:5]. ونسخ جواز تأخير الصلاة إلى

(2/141)


انجلاء القتال بما ورد في القرآن من صلاة الخوف، ونحو ذلك مما يكثر تعداده. والرابعة نسخ القرآن بالسنة المتواترة، وفيها أيضا خلاف، فالمشهور عن أحمد منعه، واختاره أبويعلى من الحنابلة، وبه قال الشافعي وأكثر أصحابه، والظاهرية وغيرهم. واحتجوا بقوله تعالى: ?ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها? [106:2]، قالوا: في الآية حصر الناسخ في كونه خيرا من المنسوخ أو مثله، والسنة لا تساوي القرآن فضلا عن أن تكون خيرا منه، فلا تكون ناسخة له. وقيل: يجوز ذلك وهو رواية عن أحمد، واختيار أبي الخطاب وابن عقيل، وأكثر الحنفية والمالكية وغيرهم، وهو الذي نصره ابن الحاجب، وحكاه عن الجمهور، وهو الأرجح عندنا؛ لأن السنة شرع من الله عزوجل، كما أن الكتاب شرع منه سبحانه، وقد قال: ?وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا? [7:59]، وأمر سبحانه بإتباع رسوله في غير موضع في القرآن فهذا بمجرده يدل على أن السنة الثابتة عنه ثبوتا على حد ثبوت الكتاب العزيز، حكمها حكم القرآن في النسخ وغيره، وليس في العقل ما يمنع من ذلك، فإن الناسخ في الحقيقة هو الله تعالى على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - بوحي غير نظم القرآن، وقد نسخت الوصية للوالدين والأقربين بقوله: ولا وصية لوارث. وهذا يدل على وقوع نسخ القرآن بالسنة شرعا. وأما قوله: ?ما ننسخ من آية? الخ. فليس فيه إلا أن ما يجعله الله منسوخا من الآيات القرآنية سيبدله بما هو خير منه، أو بما هو مثله للمكلفين، وما آتانا على لسان رسوله فهو كما آتانا منه، كما قال سبحانه: ?إن هو إلا وحي يوحى? [4:53? وكما قال: ?قل ما يكون لي أن أبدله
196-(57) وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أحاديثنا ينسخ بعضها بعضا كنسخ القرآن)).

(2/142)


من تلقاء نفسي? [15:10]، وقيل: المراد نأت بخير منها في الحكم ومصلحته. والسنة تساوي القرآن في ذلك، إذ المصلحة الثابتة بالسنة قد تكون أضعاف المصلحة الثابتة بالقرآن إما في عظم الأجر بناء على نسخ الأخف بالأثقل أو في تخفيف التكليف بناء على نسخ الأثقل بالأخف، وأيضا فإن الآية على التقديم والتأخير. والتقدير: ما ننسخ من آية نأت منها بخير، فلا يكون فيه دلالة على محل النزاع أصلا. وقال في المستصفى: ليس المراد من قوله تعالى: ?نأت بخير منها? نأت بقرآن آخر خيرا منها؛ لأن القرآن لا يوصف بكون بعضه خيرا من بعض، قال: بل معناه أن يأتي بعمل خير من ذلك العمل، لكونه أخف منه، أو أجزل ثوابا، هذا كلامه. وعليه فلا دليل للمنع في هذه الآية. واستدل المانعون أيضا بحديث جابر هذا، قالوا: هو نص في المسألة، وأجيب عنه بعدة وجوه: الأول أنه ضعيف جدا بل موضوع. فإن في سنده محمد بن داود القنطري، روى عن جبرون بن واقد الإفريقي، عن ابن عيينة، وعن أبي الزبير. قال الذهبي في الميزان في ترجمة محمد بن داود: وحدث بحديثين باطلين، ذكرهما ابن عدي في ترجمة جبرون، وقال تفرد بهما محمد. وقال الذهبي في ترجمة جبرون: متهم، فإنه روى بقلة حياء عن سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعا: كلام الله-الحديث، وعنه محمد بن داود أن مخلد بن حسين حدثه عن هشام بن حسان، عن محمد، عن أبي هريرة مرفوعا: أبوبكر وعمر خير الأولين-الحديث، تفرد بهما القنطري، وهما موضوعان- انتهى. والثاني على تسليم صحته أنه ليس نصا في محل النزاع، بل هو ظاهر؛ لأن لفظه عام، ودلالة العام ظاهرة لا قاطعة، فيحمل على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن فيبقى التواتر لا دليل على المنع فيه من ذلك. والثالث أن المراد بكلامي ههنا ما أقوله اجتهادا ورأيا. والرابع أن المراد نسخ تلاوة الكتاب وألفاظه لا حكمه. وقيل: إنه منسوخ. قال صاحب اللمعات: ولو حمل قوله: "كنسخ القرآن" في الحديث الآتي

(2/143)


على معنى نسخ الأحاديث القرآن بإضافة المصدر إلى المفعول لكان ناسخا لهذا الحديث-انتهى. والصورة الخامسة للنسخ هو نسخ القرآن والسنة المتواترة بأخبار الآحاد، وفيه أيضا اختلاف فالأكثر على أنه غير جائز شرعا، وحكى غير واحد الإجماع على ذلك، واحتجوا بأن الثابت قطعا لا ينسخه مظنون، وقال قوم من أهل الظاهر، ومن ابن حزم بجواز ذلك، وقالت طائفة: يجوز في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجوز بعده. ودليل القائلين بالجواز أن الناسخ في الحقيقة إنما جاء رافعا لاستمرار حكم المنسوخ ودوامه، وذلك ظني وإن كان دليله قطعيا، فالمنسوخ إنما هو الظني لا ذلك القطعي. ذكر هذا الطوفي وأطال في بيانه، ومال إلى جواز نسخ الكتاب ومتواتر السنة بخبر الواحد. وتفاصيل مذاهب الكل مع دلائلها مذكورة في كتب أصول الفقه، فارجع إليها خصوصا إلى إرشاد الفحول للشوكاني، وروضة الناظر للمقدسي، والإحكام لأصول الأحكام لابن حزم، والمستصفى للغزالى.
196- قوله: (إن أحاديثنا) أي بشرط صحتها (ينسخ بعضها بعضا) أي بشرط معرفة التاريخ (كنسخ القرآن)،
197- (58) وعن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها،

(2/144)


أي كما ينسخ بعض آياته بعضا. وهذا مما لا اختلاف فيه، وارجع للتفصيل إلى كتاب الاعتبار للحازمي. والحديث أخرجه أيضا الديلمي، وهو حديث ضعيف جدا؛ لأن في سنده محمد بن الحارث بن زياد بن الربيع، عن محمد بن عبدالرحمن بن البيلماني، عن أبيه. ومحمد بن الحارث هذا، قال ابن معين: ليس بشيء. وقال الفلاس: يروى عن ابن البيلماني أحاديث منكرة، متروك الحديث. وقال أبوحاتم: ضعيف. ومحمد بن عبدالرحمن بن البيلماني، ضعفوه. قال النسائي وأبوحاتم: منكر الحديث. وقال الدارقطني وغيره: ضعيف. وقال ابن حبان: حدث عن أبيه بنسخة شبيها بمأتي حديث كلها موضوعة. وأبوه عبدالرحمن بن البيلماني لينه أبوحاتم. وقال الدارقطني: ضعيف لا تقوم به حجة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف.

(2/145)


197- قوله: (وعن أبي ثعلبة الخشني) بضم المعجمة الأولى وفتح الثانية بعدها نون، نسبة إلى خشين بطن من قضاعة. صحابي مشهور، معروف بكنيته، اختلف في اسمه واسم أبيه اختلافا كثيرا، ذكره الحافظ في الإصابة، وفي التهذيب والتقريب، وهو من بايع تحت الشجرة، ولم يقاتل مع علي ولا مع معاوية، وأرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قومه فأسلموا، ونزل بالشام. له أربعون حديثا، اتفقا على ثلاثة، وانفرد مسلم بواحد. مات وهو ساجد سنة (75)، وقيل: قبل ذلك بكثير في أول خلافة معاوية بعد الأربعين. (إن الله فرض فرائض) جمع فريضة بمعنى مفروضة، والتاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية، أي أوجب أحكامها مقدرة مقطوعة، سواء كان مما أوجب الله في كتابه أو لسان رسوله. (فلا تضيعوها) بتركها رأسا، أو بترك شروطها وأركانها. (وحرم حرمات) أي محرمات من المعاصي (فلا تنتهكوها) أي لا تقربوها فضلا عن أن تتناولوها. وقال في الصحاح: انتهاك الحرمة تناولها بما لا يحل. وقيل: الانتهاك خرق محارم الشرع. (وحد حدودا فلا تعتدوها) أصل الحد المنع والفصل بين الشيئين، فكأن حدود الشرع فصلت بين الحلال والحرام. والمعروف في اصطلاح الفقهاء من أسماء الحدود ثلاثة أشياء: أحدها المحارم والمعاصي، ومنه قوله تعالى: ?تلك حدود الله فلا تقربوها? [187:2]. والثاني العقوبات المقدرة الرادعة عن المحارم المغلظة، كما يقال: حد الزنا، وحد السرقة، وحد شرب الخمر. والثالث جملة ما أذن في فعله سواء كان على طريق الوجوب، أو الندب أو الإباحة، ومنه قوله تعالى: ?تلك حدود الله فلا تعتدوها? [229:2]، واعتداء الحدود هو تجاوز ذلك إلى ارتكاب ما نهي عنه؛ لأنه ليس ما وراء ما حد الله من المأذون فيه إلا ما نهى عنه، ولهذا مدح الله الحافظين لحدود الله وذم من ر يعرف حد الحلال من الحرام، واختلفوا في معنى قوله : ((وحد حدودا فلا تعتدوها)) فحمله بعضهم على العقوبات الزاجرة عن المحرمات

(2/146)


المقدرة، وقال في معناه: حد أي بين وعين حدودا في المعاصي من القتل والزنا والسرقة، فلا تعتدوها أي لا تتجاوزا عن الحد لا بالزيادة ولا بالنقصان ولا بالترك رأسا. وحمله ابن رجب على المعني الثالث، قال: الوقوف
وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها))، روى الأحاديث الثلاثة الدارقطني.
عند الحدود يقتضي أنه لا يخرج عما أذن فيه إلى ما نهي عنه، وذلك أعم من كون المأذون فيه فرضا أو ندبا أو مباحا. وحينئذ فلا تكرار في هذا الحديث. وقال القاري: هذه الجملة كالتقرير والتأكيد للقسمين المتقدمين. (وسكت عن أشياء) أي ترك ذكر أشياء أي حكمها من الحرمة والحل والوجوب، وهو محمول على ما انتفى فيه دلالة النص على الحكم بجميع وجوهها المعتبرة، فيستدل حينئذ بعدم ذكره بإيجاب أو تحريم أو تحليل، على أنه معفو عنه لا حرج على فاعله ولا على تاركه. (فلا تبحثوا عنها) هذا يحتمل اختصاص النهي بزمن النبي- صلى الله عليه وسلم -، لأن كثرة البحث والسؤال عما لم يذكر قد يكون سببا لنزول التشديد فيه بإيجاب أو تحريم، ويحتمل أن يكون النهي عاما، فإن كثرة البحث والسؤال عن حكم ما لم يذكر في الواجبات ولا في المحرمات قد يوجب اعتقاد تحريمه، أو إيجابه لمشابهته لبعض الواجبات أو المحرمات، فقبول العافية وترك البحث عنه والسؤال خير. وهذا هو الراجح. وليس المراد من البحث المنهي عنه ما يفعله المجتهدون في معرفة الأحكام الشرعية من البحث عن دخول الشيء في دلالات النصوص الصحيحة من الفحوى والمفهوم والقياس الظاهر الصحيح، فإنه حق يتعين فعله على المجتهد، وبالجملة فالحديث يقتضي أن الأصل في الأشياء الإباحة والحل. وقد حكى بعضهم الإجماع على ذلك. وهذا الحديث من رواية مكحول عن أبي ثعلبة، قال ابن رجب: وله علتان؛ أحدهما أن مكحولا لم يصح له السماع عن أبي ثعلبة، كذلك قال أبوشهر الدمشقي، وأبونعيم الحافظ وغيرهما. والثانية أنه اختلف في رفعه ووقفه، ورواه

(2/147)


بعضهم عن مكحول عن قوله، لكن قال الدارقطني: الأشبه بالصواب المرفوع، قال: وهو أشهر، وقد حسنه النووي أي في أربعينه، وكذلك حسن قبله أبوبكر السمعاني في أماليه- انتهى. وأخرجه أيضا إسحق بن راهويه، والطبراني في الكبير، وأبونعيم في الحلية، والبيهقي في السنن، وروى معناه مرفوعا من حديث أبي الدرداء، أخرجه البزار في مسنده والحاكم. قال البزار: إسناده صالح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد. ومن حديث سلمان الفارسي، أخرجه الترمذي في اللباس، وابن ماجه في الأطعمة، وسنده ضعيف، وأيضا اختلف في رفعه ووقفه، وإرساله ووصله، والراجح وقفه. ومن حديث ابن عمر، أخرجه ابن عدى، وضعف إسناده. ومن حديث ابن عباس، أخرجه أبوداود في الأطعمة لكنه موقوف.
(2) كتاب العلم
?الفصل الأول?
198- (1) عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج،
____________________________________________________
(كتاب العلم) أي بيان ما يتعلق بالعلم من فضله وفضل تعلمه وتعليمه، وبيان ما هو علم شرعا، وبيان فرضه ونفله. وغير ذلك من متعلقات العلم، لا بيان ماهية وحقيقته؛ لأن النظر في الماهيات ليس من فن الكتاب، وقدمه على سائر الكتب التي بعده؛ لأن مدار تلك الكتب كلها على العلم، وإنما لم يقدم على كتاب الإيمان ومتعلقاته من القدر وعذاب البرزح والاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله، وضده من الكفر وغيره من الكبائر المخلة بالإيمان؛ لأن الإيمان أول واجب على المكلف، أو لأنه أفضل الأمور على الإطلاق وأشرفها، وينبغي للطالب أن يطالع "تذكرة السامع والمتعلم" لابن جماعة، المتوفى سنة (733) و"جامع بيان العلم" لابن عبدالبر، المتوفى سنة (462) و"إحياء العلوم" للغزالي، المتوفى سنة (505) وغير ذلك من كتب هذا الفن.

(2/148)


198- قوله: (بلغوا عني ولو آية) أي ولو كانت آية قصيرة من القرآن، والقرآن مبلغ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه الجائي به من عند الله، ويفهم منه تبليغ الحديث بالطريق الأولى، فإن القرآن مع انتشاره وكثرة حملته وتكفل الله بحفظه لما أمرنا بتبليغه فالحديث أولى. وقيل: المراد بالآية هنا الكلام المفيد، نحو من سكت نجا، أي بلغوا عني أحاديث ولو قليلة، وحرض على تبليغ الأحاديث دون القرآن؛ لأنه تعالى تكفل بحفظه، ولأن الطبائع مائلة إلى تعلمه، أو هو داخل فيه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - بلغهما. وقوله "بلغوا" مشعر باتصال سنده؛ لأن البلوغ انتهاء الشيء إلى غايته وبأدائه من غير تغيير (وحدثوا عن بني إسرائيل) بما وقع لهم من الأعاجيب وإن استحال مثلها في هذه الأمة، كنزول النار من السماء لأكل القربان مما لا تعلمون كذبه، أي مما لا يخالف القرآن والحديث ولا يعارضهما. (ولاحرج) أي لا ضيق عليكم بالتحديث بقصصهم كحكاية قتل أنفسهم في توبتهم من عبادة العجل، أو تفصيل القصص المذكورة في القرآن مما فيه عبرة. وأما النهي عن اشتغال بما جاء منهم، فمحمول على كتب التوراة والعمل بالأحكام لنسخها، أو النهي كان في صدر الإسلام لعدم تقرر الأحكام حينئذ فربما يعمل بما حدث عنهم من الأحكام، فلما تقررت الأحكام الإسلامية لم يحصل ذلك المحذور. أو أن قوله: "حدثوا" أولا صيغة أمر تقتضي الوجوب، فأشار إلى عدمه وأن الأمر للإباحة بقوله "ولا حرج" أي في ترك التحديث عنهم، فأباح لهم الحديث عنهم للاتعاظ، ورفع الحرج عنهم في تركه بخلاف التحديث عنه - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم مأمورورن بالتبليغ عنه. فلهذا قال: بلغوا عني. وقيل: معنى قوله: "لاحرج" أي لا تضيق
ومن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)) رواه البخاري.
199، 200– (2، 3) وعن سمرة بن جندب،

(2/149)


صدوركم بما تسمعونه منهم من الأعاجيب، فإن ذلك وقع لهم كثيرا. وقيل: المراد جواز التحديث عنهم بأي صيغة وقعت من انقطاع أو بلاغ، أي ليس المقصود من قوله: "لا حرج" إباحة الكذب في أخبارهم، ورفع الإثم عن نقل الكذب عنهم، بل ترخيص في الحديث عنهم على البلاغ وإن لم يتحقق ذلك بنقل الإسناد؛ لتعذره بطول المدة بخلاف الأحكام المحمدية، فإن الأصل فيها التحديث بالاتصال. (ومن كذب علي) أي نسب الكلام كاذبا إليه سواء كان عليه أو له، وهو عام في كل كذب مطلق في كل نوع منه من الأحكام وغيرها كالترغيب والترهيب، ولا مفهوم لقوله "علي"؛ لأنه لا يتصور أن يكذب له؛ لأنه - عليه السلام - نهى عن مطلق الكذب فلا حجة فيه لمن جوز وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب. (متعمدا) نصب على الحال وليس حالا مؤكدة؛ لأن الكذب قد يكون من غير تعمد، وفيه تنبيه علىعدم دخول النار فيه. (فليتبوأ مقعده من النار) أي فليتخذ لنفسه منزلا في النار، يقال: تبوأ الدار إذا اتخذها مسكنا. والأمر بمعنى الخبر لما في حديث على عند مسلم: ((من يكذب علي يلج النار))، وعند ابن ماجه: ((الكذب علي يولج النار)). وفي حديث ابن عمر عند أحمد: ((بنى له بيت في النار)). وتعبيره بصيغة الأمر للإهانة، ولذا قيل: الأمر فيه للتهكم والتهديد إذ هو أبلغ في التشديد. والمعنى: هذا جزاؤه، وقد يعفى وقد يتوب. والفرق بين الكذب عليه - صلى الله عليه وسلم - والكذب على غيره أن الأول كبيرة بالاتفاق بخلاف الثاني، ولا يلزم من استواء الوعيد في حق من كذب عليه أو كذب على غيره أن يكون مقرهما واحدا، أو طول إقامتهما سواء، فقد دل هذا الحديث على طول الإقامة فيها، بل ظاهره أنه لا يخرج منها؛ لأنه لم يجعل له منزلا غيره، إلا أن الأدلة القطيعة قامت على أن خلود التأبيد مختص بالكافرين. (رواه البخاري) أي مجموع الحديث في أخبار بني إسرائيل، وكذا أخرجه أحمد، والترمذي، والنسائي، وأما قوله: ((من كذب على

(2/150)


متعمدا))، الخ. فقد روي عن مائة من الصحابة على ما قال الحافظ: أنه ورد عن ثلاثين نفسا منهم بأسانيد صحاح وحسان، وعن نحو من خمسين غيرهم بأسانيد ضعيفة، وعن نحو من عشرين آخرين بأسانيد ساقطة، مع أن فيها ما هو مطلق في ذم الكذب عليه من غير تقييد بهذا الوعيد الخاص. ونقل النووي أنه جاء عن مائتين من الصحابة، ولأجل كثرة طرقه أطلق عليه أنه متواتر لفظا ومعنى.
199، 200- قوله: (وعن سمرة) بفتح السين المهملة وضم الميم (بن جندب) بضم الجيم والدال وبفتح، ابن هلال الفزاري، حليف الأنصار، صحابي مشهور، كان من الحفاظ المكثرين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سكن البصرة، وكان زياد يستخلفه عليها ستة أشهر وعلى الكوفة ستة أشهر، فلما مات زياد استخلفه على البصرة فأقره معاوية عليها عاما أو نحوه، ثم عزله، وكان شديدا على الحرورية، فهم ومن قاربهم يطعنون عليه، وكان الحسن، وابن سيرين، وفضلاء أهل البصرة يثنون عليه، وقال ابن سيرين: في رسالة سمره إلى بنيه علم كثير. وقال أيضا: كان عظيم الأمانة، صدوق الحديث، يحب الإسلام وأهله، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعرض غلمان الأنصار في كل عام، فمر به غلام فأجازه
والمغيرة بن شعبة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من حدث عني بحديث يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين)) رواه مسلم.
201- (4) وعن معاوية، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من يرد الله به خيرا

(2/151)


في البعث، وعرض عليه سمرة من بعده فرده، فقال سمرة: قد أجزت هذا ورددتني، ولو صارعته لصرعته. قال: فدونكه، فصارعه فصرعه سمرة، فأجازه في البعث. قال ابن عبدالبر: مات بالبصرة في خلافة معاوية سنة (58). سقط في قدر مملوءة ماء حارا، كان يتعالج بالقعود عليها من كزاز شديد أصابه، فسقط في القدر الحارة فمات، فكان ذلك تصديقا لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له ولأبي هريرة وثالث معها يعني أبامحذورة: ((آخركم موتا في النار)). وقد جاء في سبب موته غير ما ذكر. وقيل: مات سنة (59) أو أول سنة (60) بالكوفة، وقيل بالبصرة، له مائة حديث وثلاثة وعشرون حديثا، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بأربعة، روى عنه جماعة. (والمغيرة بن شعبة) بن مسعود بن معتب الثقفي أبوعيسى أو أبومحمد، أسلم زمن الخندق، وشهد الحديبية وما بعدها، كان يقال له مغيرة الرأي، وشهد اليمامة وفتوح الشام والقادسية. قال الشعبي والزهري: كان من دهاة العرب، وقال قبيصة بن جابر: صحبت المغيرة فلو أن مدينة لها سبعة أبواب لا يخرج من باب منها إلا بالمكر لخرج من أبوابها كلها، كان عاقلا أديبا فطنا لبيبا داهيا. قال ابن عبدالبر: ولاه عمر البصرة فلما شهد عليه عند عمر، عزله ثم ولاه الكوفة، وأقره عثمان عليها ثم عزله، ثم اعتزل الفتنة، ثم حضر الحكمين، ولاه معاوية الكوفة. مات سنة (50) على الصحيح. له مائة وستة وثلاثون حديثا ، اتفقا على تسعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثين، روى عنه جماعة. (من حدث عني بحديث) أي ولو بواحد (يرى) بضم أوله من الإراءة أشهر من فتحه من الرأي، وكلاهما بمعنى يظن، أو الثاني بمعنى يعلم، والمراد العلم بالمعنى الأعم يقينيا أو ظنيا، وقيد بذلك لأنه لا يأثم إلا برواية ما يعلمه أو يظنه كذبا، وأما ما يعلمه أو لايظنه كذلك فلا إثم عليه في روايته وإن ظنه غيره كذبا أو علمه. وقيل: الأقرب أن الحديث يدل مفهوما على أن

(2/152)


غير الظان لا يعد من جملة الكاذبين عليه - صلى الله عليه وسلم -، وأما أنه لا يأثم فلا، فليتأمل. (فهو أحد الكاذبين) المشهور روايته بصيغة الجمع باعتبار كثرة النقله، أي فهو واحد من جملة الواضعين الحديث، والمقصود أن الرواية مع العلم بوضع الحديث كوضعه. قالوا: وهذا إذا لم يبين وضعه، وقد جاء بصيغة التثنية باعتبار المفتري والناقل عنه، والمراد أن الراوي له يشارك الواضع في الإثم؛ لأنه يعينه ويشاركه بسبب إشاعته، فهو كمن أعان ظالما على ظلمه. قال الطيبي: فهو كقولهم: القلم أحد اللسانين، والجد أحد الأبوين. كأنه يشير إلى ترجيح التثنية بكثرة وقوعها في أمثاله، فهو المتبادر إلى الأفهام. (رواه مسلم) في أول صحيحه، وأخرجه أيضا أحمد، وابن ماجه في السنة، وأخرجه الترمذي عن المغيرة بن شعبة وحده، وفي الباب عن علي أخرج حديثه ابن ماجه في السنة.
201- قوله: (وعن معاوية) أي ابن أبي سفيان، وقد تقدم ترجمته. (من يرد الله به خيرا) تنكيره للتكثير والتعظيم،
يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي)) متفق عليه.
202 – (5) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الناس معادن كمعادن الذهب والفضة،

(2/153)


أي خيرا كثيرا عظيما. (يفقه في الدين) بتشديد القاف وسكون الهاء؛ لأن الموصول متضمن معنى الشرط، أي يجعله عالما بالشريعة. والفقه في الأصل الفهم، يقال: فقه الرجل – بالكسر - إذا فهم وعلم، وفقه – بالضم - إذا صار فقيها عالما، وجعله العرف خاصا بعلم الأحكام الشرعية العملية، وحمله على أصل اللغة أولى ليشمل فهم كل علم من علوم الدين، ويلائم تنكير"خيرا"، والفقه في الدين الذي أريد بمن يعطه الخير، هو العلم الذي يورث الخشية في القلب ، ويظهر أثره في الجوارح، ويترتب عليه الإنذار، كما يشير إليه قوله تعالى: ?فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة? الآية [122:9]. (وإنما أنا قاسم)أى للعلم (والله يعطى) أي الفهم في العلم، هو من باب قصر القلب إن اعتقد السامع أنه معط لا قاسم، أي ما أنا إلا قاسم لا معط، ومن قصر الإفراد إن اعتقد أنه قاسم ومعط أيضا، أي لا شركة في الوصفين أي بل أنا قاسم فقط. ولما كان فقه الصحابة متفاوتا لتفاوت الأفهام أعلم بقوله:إنما أنا قاسم، الخ. أن هذا التفاوت ليس مني ، وإنما الذي هو مني القسمة بينكم، يعني تبليغ الوحي إليكم من غير تخصيص بأحد، والتفاوت في أفهامهم من الله تعالى؛ لأنه هو المعطي، يعطي الناس على قدر ما تعلقت به إرادته في الأزل، لأن ?ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء? [4:62]. وقد كان بعض الصحابة يسمع الحديث فلا يفهم منه إلا الظاهر الجلي، ويسمع آخر منهم أو ممن أتى بعدهم فيستنبط منه مسائل كثيرة، وقيل: أراد به قسمة المال، لكن سياق الكلام يدل على الأول، وظاهره يدل على الثاني؛ لأن القسمة حقيقية تكون في الأموال، ولذا أخرجه مسلم في قسم الصدقات، والبخاري في الخمس أيضا، ووجه المناسبة بما قبله أنه- صلى الله عليه وسلم - خص بعضهم بزيادة مال لمقتض ، فتعرض بعض من خفي عليه المقتضى بأن هذه قسمة فيها تخصيص لناس، فعرض - صلى الله عليه وسلم - بأنه من أريد به الخير يفهم في أمور الدين، لا يخفى

(2/154)


عليه المقتضى، ولا يتعرض لما ليس على وفق خاطره، إذ الأمر كله لله، وهو الذي يعطي ويمنع ، وهو الذي يزيد وينقص، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قاسم وليس بمعط، حتى ينسب إليه الزيادة والنقصان . والحصر إضافي رد لمن توهم أنه المعطي، والأظهر أنه لا منع من الجمع بين الوجهين. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد، وروى نحوه عن ابن عباس عند أحمد والترمذي. وعن أبي هريرة عند ابن ماجه، وأبي يعلى، والطبراني، وعن ابن مسعود عند البزار، والطبراني في الكبير، وعن ابن عمر عند ابن أبي عاصم في كتاب العلم.
202- قوله: (الناس معادن) المعدن المستقر، من عدنت البلد إذا توطنته، ومنه معدن لمستقر الجواهر، و"معادن" خبر المبتدأ ، ولا يصح حمله إلا بأحد الوجهين: إما على التشبيه، كقولك زيد أسد. وحينئذ يكون (كمعادن الذهب والفضة) بدلا منه أي الناس كمعادن الذهب والفضة، وإما على أن المعادن مجاز عن التفاوت، فالمعنى: أن الناس متفاوتون في النسب بالشرف والضعة، مثل تفاوت المعادن في الذهب والفضة وما دونهما، يدل عليه قوله: عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: ((فعن معادن العرب تسألوني)). أي أصولها التي ينسبون إليها ويتفاخرون بها ، وإنما جعلت معادن
خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)) .رواه مسلم.
203- (6) وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله مالا فسلطه

(2/155)


لما فيها من الاستعدات المتفاوتة، فمنها قابلة لفيض الله تعالى على مراتب المعادن ، ومنها غير قابلة له. أو شبههم بالمعادن؛ لأنهم أوعية للشرف والعلوم والحكم، كما أن المعادن أوعية للجواهر النفيسة والفلزات المنتفع به. (خيارهم) جمع خير أو أريد به أفضل التفضيل، تقول في الواحد خير وأخير (في الجاهلية خيارهم في الإسلام) جملة مبنية، أي من كان من خيار القبائل في الجاهلية وكان يستعد لقبول المآثر وجميل الصفات والتفوق في الأقران لكنه كان في ظلمة الكفر والجهل مغمورا مستورا، كما يكون الذهب والفضة في المعدن ممزوجا مخلوطا في التراب، كان في الإسلام كذلك، وفاق بتلك الاستعدادات والمآثر والصفات على أقرانه في الدين، وتنور بنور العلم والإيمان، وخلص في سبكة المجاهدة في العبادة كما يسبك الذهب والفضة. (إذا فقهوا) بكسر القاف أي فهموا، وبالضم أي صاروا فقهاء علماء بعلم الشريعة. والرواية بالضم وهو المناسب هنا. وهذا القيد يفيد أن الإسلام يرفع اعتبار التفاوت المعتبر في الجاهلية ، فإن التفاوت في الإسلام بحسب الأحساب أي مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات، وفي الجاهلية بحسب الأنساب. ولا يعتبر هذا الثاني إلا بالأول ، فإذا تحلى الرجل بالعلم والحكمة استجلب شرف النسب الأصلي ، فيجتمع شرف النسب والحسب، ففيه دليل على أن الوضيع العالم أرفع من الشريف الجاهل، فالعلم والحكمة والحكمة يرفع كل من لم يرفع. (رواه مسلم) في الفضائل، لكن ليس فيه" كمعادن الذهب والفضة" والظاهر من كلام المصنف أن حديث أبي هريرة هذا من إفراد مسلم، وليس كذلك فإنه متفق عليه، أخرجه البخاري في ترجمة يوسف من كتاب الأنبياء، وليس فيه أيضا "كمعادن الذهب والفضة"، نعم أخرجه أحمد بهذا اللفظ وزاد: ((والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ايتلف، وما تناكر منها اختلف)) .

(2/156)


203- قوله: (لا حسد) هو تمنى زوال نعمة الغير سواء حصل له أم لا. والمراد به الغبطة وهي: تمني الرجل حصول مثلها له من غير أن يتمنى زوالها عن الغير، وأطلق الحسد عليه مجازا، والدليل على ذلك ما زاد أبوهريرة في هذا الحديث عند البخاري "فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتى فلان فعملت مثل ما يعمل" فكأنه قال في حديث ابن مسعود هذا: لا غبطة أعظم أو أفضل أو محمودة إلا في هذين الأمرين . وقال التوربشتى: الظاهر أن المراد بالحسد صدق الرغبة وشدة الحرص، ولما كان هذان السببان هما الداعيين إلى الحسد كنى عنهما بالحسد- انتهى. والمقصود أنه لا تنبغي الغبطة في الأمور الخسيسة، وإنما تنبغي في الأمور الجليلة الدقيقة كالجود والعلم مع العمل. (إلا في اثنين) أي في شأن اثنين، وفي بعض النسخ "اثنتين" بالتأنيث ، أي خصلتين اثنتين. (رجل) روى مجرورا على البدل من"اثنين" وهو أوثق الروايات، وعلى نسخة "اثنتين" بالتأنيث ، يقدر "خصلة رجل" وروي أيضا "رجل" مرفوعا على أنه مبتدأ. (آتاه الله) بالمد أي أعطاه (مالا) أي مالا كثيرا. (فسلطه ) عبر بالتسليط لدلالته على الغلبة وقهر النفس المجبولة على الشح البالع.
على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)) متفق عليه.
204- (7) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة، إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))

(2/157)


(على هلكته ) بفتحين أي إهلاكه يعني إنفاقه، وعبر بذلك ليدل على أنه لا يبقى منه شيئا، وكمله بقوله (في الحق) أي في الطاعات ليزيل عنه إبهام الإسراف المذموم كما يقال: لا سرف في الخير. (الحكمة) اختلفوا في تفسيرها، فقيل: القرآن لأن اللام للعهد، وقيل: الإصابة من غير النبوة. (يقضي بها) أي يعمل بها ويحكم، والمراد أنه لا ينبغي أن يتمنى كونه كذى نعمة إلا أن تكون تلك النعمة مقربة إلى الله (ويعلمها) أي غيره (متفق عليه) وأخرجه أيضا النسائي، وابن ماجه، وفي الباب عن ابن عمر عند الشيخين، وعن أبي هريرة عند البخار والنسائي.

(2/158)


204- قوله: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله) أي أعماله بدليل الاستثناء، والمراد فائدة عمله؛ لانقطاع عمله، يعني لا يصل إليه أجر وثواب من شيء من عمله (إلا من ثلاثة) أي ثلاثة أشياء، فإن فائدتها لا تنقطع، قال السندهي: قوله: "انقطع عنه عمله" أي ثواب عمله، ولما كان هذا بمنزلة" انقطع الثواب من كل أعماله" تعلق به قوله: "إلا من ثلاثة" أي ثلاثة أعمال. وقيل: بل الاستثناء متعلق بالمفهوم، أي ينقطع ابن آدم من كل عمل إلا من ثلاثة أعمال. والحاصل: أن الاستثناء في الظاهر مشكل، وبأحد الوجهين المذكورين يندفع الإشكال – انتهى. وقال الأبهرى: "من" زائدة، والتنوين عوض عن الأعمال، وقيل: بل الضمير في "عنه" زائد ومعناه: إذا مات الإنسان انقطع عن أعماله إلا من ثلاثة أعمال. وقال الطيبي: الاستثناء متصل تقديره: ينقطع عنه ثواب أعماله من كل شيء كالصلاة والزكاة، ولا ينقطع ثواب أعماله من هذه الثلاثة، يعني أن الإنسان إذا مات لا يكتب له بعده ثواب أعماله؛ لأنه جزاء العمل، وهو ينقطع بموته إلا فعلا دائم الخير مستمر النفع، مثل وقف أو تصنيف أو تعليم أو ولد صالح، وجعل الولد الصالح من جنس العمل؛ لأنه هو السبب في وجوده وسبب صلاحه بإرشاد إلى الهدى. وفائدة التقييد بالولد مع أن غيره لو دعا لنفعه، تحريض للولد على الدعاء وأنه كالواجب عليه – انتهى. مختصرا. (إلا من صدقة) الخ. بدل من قوله: "إلا من ثلاثة" وفي التكرير مزيد تقرير واعتناء بشأنه، وفي رواية أبي داود والنسائي "من صدقة" أي بدون لفظ "إلا" وفي رواية الترمذي "إلا من ثلاث صدقة" أي بغير لفظ "إلا" و"من" الجارة، فصدقة بالجر بدل من ثلاث (جارية) أي غير منقطعة كالوقف أو ما يديم للولي إجراءها عنه، وإليه يميل ترجمة النسائي وأبي داود بلفظ "باب الصدقة عن الميت"، وفي الأزهار: قال أكثرهم هي الوقف وشبهه مما يدوم نفعه. (أو علم ينتفع به) هو ما خلفه من تعليم أو تصنيف ورواية، وقال بعضهم:

(2/159)


حمله على التأليف أقوى؛ لأنه أطول مدة وأبقى على ممر الزمان، المراد به العلم الشرعي. (أو ولد صالح يدعوا له) قال ابن الملك: قيد الولد بالصالح؛ لأن الأجر
رواه مسلم.
205- (8) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. ومن يسر على معسر
لا يحصل من غيره، وإنما ذكر دعاءه تحريضا للولد على الدعاء لأبيه، حتى قيل: للوالد ثواب من عمل الولد الصالح سواء دعاء لأبيه أم لا. قال الشيخ ولي الدين: إنما أجرى على هؤلاء الثلاثة الثواب بعد موتهم لوجود ثمرة أعمالهم بعد موتهم كما كانت موجودة في حياتهم. وقال عياض: معنى الحديث أن عمل الميت منقطع بموته، لكن هذه الأشياء لما كان هو سببها من اكتسابه الولد وبثة العلم عند من حمله عنه، أو إيداعه تأليفا بقي بعده، وإيقافه هذه الصدقة. بقيت له أجورها ما بقيت ووجدت، ولا تنافي بين هذا الحصر وبين قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها))؛ لأنه داخل في باب "علم ينتفع به" فإن وضع السنن وتأسيسها من باب التعليم المنتفع به، وكذا لا تنافي بينه وبين قوله: ((كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة))؛ لأن الحصر في حديث أبي هريرة يدل على أن الثواب بانضمام الغير يجري، كأنه قيل: ينقطع عمله المنضم إلى عمل الغير إلا عن ثلاث، والمرابطة ليست بداخلة فيها فلا يخل بالحصر. وقيل: المرابطة داخلة في الصدقة الجارية؛ لأن القصد في المرابطة نصرة المسلمين ودفع أعداء الدين، أو المجاهدة مع الكفار ودعوتهم إلى الإسلام لينتفعوا به في الدارين، ونية المؤمن خير من عمله، فلا يبعد أن يدخل تحت جنس "الصدقة الجارية" كحفر البئر وبناء الرباط. (رواه مسلم) في الوصايا، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد، والترمذى في الأحكام، وأبوداود والنسائي كلاهما في

(2/160)


الوصايا، وأخرج ابن ماجه معناه عن أبي قتادة وأبي هريرة في السنة.
205- قوله: (كربة) ولو حقيرة، وهي بضم الكاف، الشدة العظيمة التي توقع صاحبها في الكرب، وهو غم يأخذ بالنفس، وتنفيس الكربة أن يخفف عنه منها ويلطفها، والتفريج أعظم من ذلك، وهو أن يزيل عنه الكربة فتفرج عنه كربته ويزول همه وغمه، يدل على هذا الفرق حديث كعب بن عجرة عند الطبراني، فإنه جمع فيه بينهما، فجزاء التنفيس التنفيس، وجزاء التفريج التفريج، وقيل: "نفس" ههنا بمعنى فرج، أي رفع وأزال. قال الطيبي: كأنه فتح مداخل الأنفاس، فهو مأخوذ من "أنت في نفس" أي سعة، كأن من كان في كربة سد عنه مداخل الأنفاس، فإذا فرج عنه فتحت، وهذا يرجع إلى أن الجزاء من جنس العمل، وقد تكاثرت النصوص بهذا المعنى. (من كرب الدنيا) الفانية المنقضية، و"من" تبعيضية أو ابتدائية. (نفس الله عنه كربة) أي عظيمة (من كرب يوم القيامة) أي الباقية الدائمة، فلا يرد أنه تعالى قال: ?من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها? [160:6] فإنه أعم من أن يكون في الكمية أو الكيفية. (ومن يسر على معسر) أي سهل على فقير، يعني من كان له دين على فقير فسهل عليه بإمهال، أو بترك بعضه أو كله
يسرالله عليه في الدنيا والآخرة. ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة. وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ومن بطأ به عمله

(2/161)


(يسرالله عليه في الدنيا والآخرة) أي في الدارين أو في أمورهما. (ومن ستر مسلما) أي بثوب، أو بترك التعرض لكشف حاله بعد أن رآه يرتكب ذنبا. لكن الستر المندوب هو الستر على ذوي الهيئات ممن لا يعرف بالأذى والفساد، وأما المعروف به، أو المتلبس بالمعصية بعد فيجب إنكارها ورفع الأمر إلى الولاة إن لم يقدر على منعه. وأما جرح الرواة والشهود وأمناء الصدقات فواجب. (ستره الله) أي عورته أو عيوبه، ويجوز إرادة ظاهره وإرادة ستر ذنبه جميعا. (والآخرة) يعني ستره عن أهل الموقف، أو ترك المحاسبة عليه وترك ذكرها. (والله في عون العبد) الواو للاستئناف، وهو تذييل للكلام السابق. (ما كان العبد) أي ما دام العبد مشغولا (في عون أخيه) أي المسلم بأي وجه كان يجلب نفع أو دفع ضر. (ومن سلك طريقا) حقيقيا حسيا وهو المشي بالأقدام إلى مجالس العلماء أو معنويا مثل حفظ العلم ومدارسته ومذاكرته ومطالعته وكتابته والتفهم له، ونحو ذلك من الطرق المعنوية التي يتوصل بها إلى العلم. (يلتمس) حال أو صفة (سهل الله به) أي بذلك السلوك، والباء للسببية (طريقا إلى الجنة) أي يسهل له العلم الذي طلبه وسلك طريقه وبيسره عليه، فإن العلم طريق يوصل إلى الجنة، أو بيسرالله إذا قصد بطلبه وجه الله، الانتفاع به والعمل بمقتضاه، فيكون سببا لهدايته ولدخول الجنة بذلك، وقد بيسرالله لطالب العلم علوما أخر ينتفع بها، وتكون موصلة له إلى الجنة، أو يسهل له طريق الجنة الحسي يوم القيامة وهو الصراط وما قبله وما بعده من الأهوال فبيسر ذلك على طالب العلم للانتفاع به. (في بيت من بيوت الله) هو شامل لجميع ما يبنى لله تقربا إليه من المساجد والمدارس والربط. (ويتدارسونه) قيل: شامل لجميع ما يتعلق بالقرآن من التعلم والتعليم والتفسير والاستكشاف عن دقائق معانيه. (السكينة) قيل في معنى السكينة أشياء، المختار منها أنها شيء من مخلوقات الله تعالى فيه طمأنينة ورحمة ومعه

(2/162)


الملائكة، قاله النووي. (وغشيتهم الرحمة) أي علتهم وغطتهم وسترتهم (وحفتهم الملائكة) أي ملائكة الرحمة والبركة أحدقوا وأحاطوا بهم تعظيما لصنيعهم، أو طافوا بهم وداروا حولهم إلى سماء الدنيا يستمعون القرآن ودراستهم. (وذكرهم الله فيمن عنده) أي الملأ الأعلى والطبقة الأولى من الملائكة، وذكره تعالى للمباهاة بهم. (ومن بطأ به عمله) بتشديد الطاء، من التبطئة ضد التعجيل كالإبطاء، والباء للتعدية أي من أخره عن بلوغ درجة السعادة عمله السيء في الآخرة، أو تفريطه في العمل الصالح
لم يسرع به نسبه)) رواه مسلم.
206- (9) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمته فعرفها، فقال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن،
في الدنيا (لم يسرع به نسبه) من الإسراع، أي لم يقدمه نسبه، أي لم ينفعه في الآخرة شرف نسبه، فإن العمل الصالح هو الذي يبلغ بالعبد درجات الآخرة، فمن أبطأ به عمله أن يبلغ به المنازل العالية عند الله لم يسرع به نسبه فيبلغه تلك الدرجات، فإن الله تعالى رتب الجزاء على الأعمال لا على الأنساب. (رواه مسلم) في الذكر والتوبة. وأخرجه أيضا الترمذي في الحدود، وفي البر والصلة، وفي العلم، وفي أواخر القراءة مختصرا ومطولا، وأبوداود في الأدب والعلم، والنسائي وابن ماجه في السنة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما.

(2/163)


206- قوله: (يقضى عليه) قيل: هو صفة للناس؛ لأنه نكرة في المعنى، أي يحاسب ويسئل من أفعاله، قيل: ويستفاد منه أنه أول المقضى عليهم لا مطلقا. (يوم القيامة) أي ثلاثة (رجل استشهد) على بناء المفعول أي قتل في سبيل الله (فأتي به) أي بالرجل للحساب. (فعرفه) بالتشديد، أي ذكره تعالى (نعمته) على صيغة المفرد ههنا والباقيتان على صيغة الجمع، ولعل الفرق اعتبار الإفراد في الأولى، والكثرة في الأخيرتين، كذا ذكره الطيبي. ولعل المراد بالكثرة أصناف العلوم والأموال، وهذا التعريف للتبكيت وإلزام المنعم عليه ولذلك أتبعه بقوله (فعرفها) بالتخفيف أي فاعترف بها وتذكرها فكأنه من الهول والشدة نسيها وذهل عنها. (فما عملت فيها) أي في مقابلتها شكرا لها (قال) أي الرجل (قاتلت فيك) أي جاهدت في جهتك خالصة لك، كذا ذكره الطيبي. أي حاربت لأجلك، ففي تعليلية. (كذبت) أي في دعوى الإخلاص (لأن يقال جريء) أي لأن يقال في حقك أنك أو هو جريء أي شجاع. (فقد قيل) أي ذلك القول في شأنك، فحصل مقصودك وغرضك. (ثم أمر به) أي قيل لخزنة جهنم: ألقوه في النار. (فسحب) أي جر. (ورجل تعلم العلم) الشرعي (وعلمه) الناس (وقرأ القرآن) تخصيص بعد تعميم، أو المراد به مجرد تلاوة القرآن، يعني التعلم والتعليم لم يمنعاه عن الاشتغال بالقرآن. (فأتى به) إلى محضر الحساب. (فما عملت فيها) أي هل صرفتها في مرضاتي أم في غيرها؟ (تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن) أي صرفت نعمتي التي أنعمت بها علي في الاشتغال بالعلم والعمل والقراءة

(2/164)


قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: إنك عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه وأعطاءه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل. ثم أمر به فسحب به على وجهه ثم ألقي في النار)) رواه مسلم.
207- (10) وعن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤسا
ابتغاء لوجهك، وشكرا لنعمتك. (تعلمت العلم ليقال: إنك عالم) ولعله لم يقل "وعملت العلم ليقال إنك معلم" للاختصار، واكتفاء بالمقايسة. (فقد قيل) لك عالم وقارئ، فمالك عندنا أجر. (ورجل وسع الله عليه) أي كثر ماله (وأعطاه) عطف بيان (من أصناف المال كله) كالنقود، والمتاع، والعقار، والمواشي. (فما عملت فيها) أي في مقابلة النعم، أو في الأموال. (ما تركت من سبيل) "من" زائدة تأكيدا لاستغراق النفي. (قال: كذبت) أي في قولك "لك" (هو جواد) أي سخي كريم. والحديث دليل على وجوب الإخلاص في الأعمال، وهو كما قال تعالى: ?وما أمرو إلا ليعبدوالله مخلصين له الدين? [5:98]، وأن العمومات الواردة في فضل الجهاد، وكذلك الثناء على العلماء وعلى المنفقين في وجوه الخيرات، كل ذلك محمول على من فعل ذلك لله تعالى مخلصا. (رواه مسلم) في الجهاد، وأخرجه أيضا النسائي. قال المنذري: ورواه الترمذي، وحسنه ابن حبان في صحيحه كلاهما بلفظ واحد.

(2/165)


207- قوله: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في حجة الوداع. (إن الله لا يقبض العلم) أي علم الكتاب والسنة (انتزاعا) مفعول مطلق عن معنى يقبض، نحو قعد جلوسا. وقوله (ينتزعه من العباد) جملة مستأنفة لبيان القبض انتزاعا، أي يرفعه عن قلوبهم. وقيل: صفة لانتزاعا. والظاهر أن ضميره للعلم لا للانتزاع، فلا يصلح أن يكون صفة للانتزاع لعدم العائد، فليتأمل. أو هو مفعول مطلق مقدم، والجملة حالية، أي لا يقبض العلم حال كون العلم ينتزعه انتزاعا من العباد، أو حال من العلم بمعنى منتزعا أي لا يقبض العلم حال كونه منتزعا ينتزعه من العباد. (ولكن يقبض العلم) أي يرفعه (بقبض العلماء) أي بموتهم وقبض أرواحهم. (حتى) ابتدائية دخلت على الجملة (إذا لم يبق) الله (عالما) وفي رواية "لم يترك عالما" ولفظه "حتى" تدل على أن ذلك واقع بالتدريج كما أن "إذا" تدل على أنه واقع لا محالة. (رؤساء) ضبط في مسلم بوجهين: أحدهما بضم الهمزة والتنوين جمع رأس، أي سادة كبراء عظماء، والثاني رؤساء جمع رئيس، وكلاهما صحيح، والأول
جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)) متفق عليه.
208- (11) وعن شقيق قال: كان عبدالله بن مسعود يذكر الناس في كل خميس. فقال له رجل: يا أباعبدالرحمن لوددت أنك ذكرتنا في كل يوم. قال: ((أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإن أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بها مخافة السآمة علينا))

(2/166)


أشهر (جهالا) جمع جاهل، وهو صفة "رؤساء" وهذا يكون عند انقراض العالم مطلقا. (فأفتوا) أي أجابوا وحكموا. قال العيني: لا يختص هذا بالمفتين، بل عام للقضاة الجاهلين، إذا لحكم بالشيء مستلزم للفتوى به (بغير علم) وفي رواية "برأيهم" وفي الحديث الحث على العلم والتحذير عن ترئيس الجهلة وذم من يقدم على الإفتاء بغير علم. (فضلوا) أي صاروا ضالين بالفتوى بغير علم (وأضلوا) أي صاروا مضلين لغيرهم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في العلم، وفي الاعتصام، ومسلم في العلم، وأخرجه أيضا أحمد، والترمذي، والنسائي في العلم، وابن ماجه في السنة.

(2/167)


208- قوله: (وعن شقيق) هو ابن سلمة يكنى أباوائل الأسدي، ثقة حجة، مخضرم، روى عن خلق من الصحابة، منهم عمر بن الخطاب، وابن مسعود وكان خصيصا به، من أكابر أصحابه، وهو كثير الحديث. مات في خلافة عمر بن عبدالعزيز. (يذكر الناس) بالتشديد، أي يعظهم (في كل خميس) احتمل عمل ابن مسعود مع استدلاله أن يكون اقتدى بفعل النبي حتى في اليوم الذي عينه، واحتمل أن يكون اقتدى بمجرد التخلل بين العمل والترك الذي عبر عنه بالتخول. (فقال له رجل) قال الحافظ: هذا المبهم يشبه أن يكون هو يزيد بن معاوية النخعي، وفي سياق البخاري في أواخر الدعوات ما يرشد إليه. (يا أبا عبدالرحمن) هو كنية ابن مسعود (لوددت) أي أحببت أو تمنيت. (أنك ذكرتنا في كل يوم) قاله استحلاء للذكر لما وجد من بركته ونوره. (قال) أي ابن مسعود (أما) بمعنى "ألا" للتنية (إنه) بكسر الهمزة والضمير للشأن (يمنعنى من ذلك) أي من التذكير كل يوم (أنى أكره) بفتح الهمزة فاعل "يمنعني" أي كراهتي (أن أملكم) بضم الهمزة وكسر الميم وتشديد اللام المفتوحة، أي أكره إملالكم يعني إيقاعكم في الملالة والضجر، (وإني) بكسر الهمزة عطف على "إنه" أو حال (أتخولكم) من التخول وهو التعهد وحسن الرعاية. (كما كان) الخ. الكاف للتشبيه، و"ما" مصدرية. (يتخولنا) أي يتعهدنا. والمعنى: كان يراعي الأوقات في تذكيرنا، ويتحرى منها ما كان مظنة القبول، ولا يفعل ذلك في كل يوم لئلا نمل ونسأم. (مخالفة السآمة) بالنصب مفعول له، أي لأجل مخافة السآمة من الموعظة. (علينا) متعلق بالسآمة على تضمين معنى المشقة، أي مخافة المشقة علينا، أو بتقدير الصفة، أي مخافة السآمة الطارئة علينا، أو الحال أي مخافة السآمة حال كونها طارئة علينا، أو بمحذوف أي مخافة السآمة شفقة علينا. وفي الحديث الاقتصاد في الموعظة لئلا تملها القلوب فيفوت المقصود. واستنبط البخاري منه التعهد والتخول بالعلم
متفق عليه.

(2/168)


209- (12) وعن أنس قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثا)) رواه البخاري.
210- (13) وعن أبي مسعود الأنصاري قال: ((جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إنه
والاقتصاد فيه كيلا ينفر الطلبة، وأخذ من صنيع ابن مسعود في تذكيره كل خميس أو من استنباطه ذلك من الحديث الذي رواه، جواز أن يجعل الشيخ لأهل العلم يوما معلوما أو أياما معلومة. (متفق عليه) أخرجه البخاري في العلم، وفي الدعوات، ومسلم في التوبة. وأخرجه أيضا الترمذي في أواخر الاستئذان.

(2/169)


209- قوله: (إذا تكلم بكلمة) المراد بها ما يشمل الجملة والجمل. وجزاء الجملة (أعادها ثلاثا) أي ثلاث مرات. قال البدر الدماميني: لا يصح أن يكون "أعاد" مع بقائه على ظاهره عاملا في "ثلاثا" ضرورة أنه يستلزم قول تلك الكلمة أربع مرات، فإن الإعادة ثلاثا إنما تتحقق بها، إذا المرة الأولى لا إعادة فيها، فإما أن تضمن معنى "قال" ويصح عملها في "ثلاثا" بالمعنى المضمن، أو يبقى "أعاد" على معناه ويجعل العامل محذوفا، أي أعادها فقالها ثلاثا، فلم تقع الإعادة إلا مرتين- انتهى. والمراد أنه كان يكرر الكلام ثلاثا إذا اقتضى المقام ذلك لصعوبة المعنى، أو غرابته أو كثرة السامعين لا دائما، فإن تكرير الكلام من غير حاجة لتكريره ليس من البلاغة، فيحمل الحديث على المواضع المحتاجة إلى الإعادة لا على العادة، وإلا لما كان لذكر عدد الثلاث في بعض المواضع كثير فائدة، مع أنهم يذكرون في الأمور المهمة أنه قالها ثلاثا كما لا يخفى. فإن قلت: عنوان هذا الكلام يفيد الاعتياد. قلت: لو سلم يمكن أن يقال: كان عادته الإعادة في كلمة مهمة لا في كل كلمة، على أن تنكير كلمة للتعظيم، وفيه دليل على أنه ينبغي للمعلم أن يكرر الكلام في المواضع المهمة المحتاجة إلى الاهتمام، وكذا إذا كان المستفيد لا يحفظ من مرة. (حتى تفهم) أي لكي تعقل تلك الكلمة. (عنه) أي فهما قويا راسخا في النفس. (وإذا أتى على قوم فسلم عليهم) أي فأراد السلام عليهم (سلم عليهم ثلاثا) أحدها للاستئذان، والثاني عند الدخول، والثالث عند الوداع، وكل سنة، وقيل: المعنى أن القوم إذ كانوا كثيرين بحيث لا يبلغهم سلام واحد، فإذا دخل عليهم سلم ثلاثا أي في الجوانب الثلاث، وقيل: هديه في التسليم الثاني والثالث إن ظن أن الأول لم يحصل به الإسماع، كما سلم لما انتهى إلى المنزل سعد بن عبادة ثلاثا، فلما لم يجبه أحد رجع. (رواه البخاري) في العلم، وفي الاستئذان، وأخرجه أيضا أحمد

(2/170)


والترمذي في الاستئذان، وفي المناقب، والحاكم في المستدرك (ج4:ص273)، ووهم في استدراكه.
210- قوله: (وعن أبي مسعود الأنصاري) هو عقبة بن عمرو بن ثعلبة، أبومسعود الأنصاري البدري الصحابي الجليل، مشهور بكنيته، اتفقوا على أنه شهد العقبة وأحدا وما بعدها، ونزل الكوفة من أصحاب علي، واختلفوا
أبدع بي فاحملني. فقال: ما عندي. فقال رجل: يا رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: أنا أدله على من يحمله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من دل على خير فله مثل أجر فاعله)) رواه مسلم.
211- (14) وعن جرير قال:

(2/171)


في شهوده بدرا فقال الأكثر: نزل ماء ببدر فنسب إليه، وجزم البخاري بأنه شهد غزوة بدر، واستدل بأحاديث أخرجها في صحيحه. وقال أبوعبيد القاسم بن سلام ومسلم في الكنى: شهد بدرا. وقال ابن البرقي: لم يذكره ابن إسحاق في البدريين. وورد في عدة أحاديث أنه شهدها. قلت: القول ما قال البخاري؛ لما يدل عليه الأحاديث الصحيحة. وروي له مائة وحديثان، اتفقا على تسعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بسبعة. روى عنه ابنه بشير وخلق سواه. مات بعد الأربعين بالكوفة، وقيل: بالمدينة. (أبدع بي) على بناء المفعول، يقال: أبدعت الراحلة إذا انقطعت عن السير مكلال. جعل انقطاعها عما كانت مستمرة عليه إبداعا عنها، أي إنشاء أمر خارج عما أعتيد منها. ويقال: أبدع بالرجل إذا كلت ركابه أو عطبت وبقي منقطعا به. ولما حول للمفعول صار الظرف نائبه كسير بعمرو. (فاحملني) بهمزة الوصل أي أركبني واجعلني محمولا على دابة غيرها. (فقال) - صلى الله عليه وسلم - (ما عندي) أي لا أجد ما أحملك عليه. (من دل) أي بالقول أو الفعل أو الإشارة أو الكتابة (على خير) أي علم أو عمل مما فيه أجر وثواب. (فله) أي فللدال (مثل أجر فاعله) أي من غير أن ينقص من أجره شيء، قاله القاري. وقال المناوي: فله مثل أجر فاعله أي لإعانته عليه. وهذا إذا حصل ذلك الخير وإلا فله ثواب دلالته. قال النووي: المراد أن له ثوابا بذلك كما أن لفاعله ثوابا. ولا يلزم أن يكون قدر ثوابهما سواء – انتهى. وذهب بعض الأئمة إلى أن المثل المذكور في هذا الحديث ونحوه إنما هو بغير تضعيف. وقال القرطبي: إنه مثله سواء في القدر والتضعيف؛ لأن الثواب على الأعمال إنما هو تفضل من الله، يهبه لم يشاء وعلى أي شيء صدر منه خصوصا إذا صحت النية التي هي أصل الأعمال في طاعته عجز عن فعلها لمانع منع منها. فلا بعد في مساواة أجر ذلك العاجز لأجر القادر والفاعل أو يزيد عليه، قال: وهذا جار في كل ماورد مما يشبه ذلك

(2/172)


الحديث، كذا في السراج المنير. (رواه مسلم) في الجهاد، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي في العلم، وأبوداود في الأدب، وورد معناه عن ابن مسعود عند ابن حبان في صحيحه والبزارة، وعن أنس عند الترمذي والبزار وابن أبي الدنيا، وعن بريدة بن الحصيب عند أحمد والضياء، وعن سهل بن سعد عند الطبراني في الكبير والأوسط.
211- قوله: (وعن جرير) بن عبدالله بن جابر البجلي القسري أبوعمرو أو أبوعبدالله اليماني، أسلم سنة عشر، وبسط له النبي - صلى الله عليه وسلم - ثوبا، ووجهه إلى ذي الخلصة فهدمها. روى الشيخان وغيرهما عنه، قال: ماحجبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم. وشهد فتح المدائن، وكان على ميمنة الناس يوم القادسية، ويلقب بيوسف هذه الأمة. وقال عبدالملك بن عمير: رأيت جرير بن عبدالله وكأن وجهه شقة قمر. له مائة حديث، اتفقا على ثمانية
((كنا في صدر النهار عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، فجاءه قوم عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى، ثم خطب فقال: ?يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة? إلى آخر الآية ?إن الله كان عليكم رقيبا? والآية التي في الحشر: ?اتقوالله ولتنظر نفس ما قدمت لغد? تصدق رجل من ديناره،

(2/173)


وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بستة. مات سنة (51)، وقيل: بعدها، روى عنه خلق كثير. (كنا في صدر النهار) أي أوله (عراة) جمع عار، أي يغلب عليهم العري، حال كونهم (مجتابى) بالجيم الساكنة وبعد الألف باء موحدة، من الاجتياب. (النمار) بكسر النون جمع نمرة بالفتح، وهي كساء مخطط من صوف، أي لابسي النمار قد خرقوها في رؤسهم وقوروا وسطها، والجوب القطع. (أو العباء) بفتح العين كساء معروف و"أو" للشك من الراوي. (عامتهم) أي أكثرهم أو غالبهم. (بل كلهم من مضر) قال السندهي: إضراب إلى التحقيق ، ففيه أن قوله "عامتهم" كان عن عدم التحقيق، واحتمال أن يكون البعض من غير مضر أول الوهلة. (فتعمر) أي تغير (وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي وظهر عليه آثار الحزن. (من الفاقة) أي الفقر الشديد، و"من" بيان "لما". (فدخل) أي بيته، لعله لاحتمال أن يجد في البيت ما يدفع به فاقتهم، فعله ما وجد فخرج، أو دخل لتجديد الطهارة، والله أعلم. (فأمر بلالا) أي بالأذان (فصلى) أي إحدى الصلوات المكتوبة بدليل الأذان والإقامة، والظاهر أنها الظهر لقوله "في صدر النهار". (فقال: يا أيهاالناس اتقوا ربكم) الخ. سبب قراءة هذه الآية وهي أول النساء أنها أبلغ في الحث على الصدقة عليهم؛ ولما فيها من تأكد الحق لكونهم إخوة. (إلى آخر الآية) وتمامها ?وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، واتقوا الله الذي تسألون به والأرحام? [1:4] ?إن الله كان عليكم رقيبا? بيان لآخر الآية. (والآية التي في الحشر) بالنصب عطفا من حيث المعنى على قوله: ?ياأيها الناس اتقوا? على تأويل "قال" بقرأ. أي قرأ هذه الآية والآية التي في سورة الحشر، قاله الطيبي . وأولها ?ياأيها الذين آمنوا? وبعده ?اتقوالله ولتنظر نفس? نكرة تفيد العموم، أي كل نفس، كقوله تعالى: ?علمت نفس? [5:82] أي لتتفكر وتتأمل النفوس. ?ما قدمت? أي أى شيء من العبادات والخيرات أرسلته إلى الآخرة ?لغد? أي

(2/174)


لنفع غد من الزمان، وهو يوم القيامة، وتمامها ?واتقوالله، إن الله خبير بما تعملون? [18:59]. (تصدق رجل من ديناره) بفتح القاف صيغة ماض بمعنى الأمر، ذكر بصيغة الإخبار مبالغة فكأنه أمره وامتثل به فأخبر عنه به، وبه اندفع قول الطيبي: لوحمل "تصدق" على الماضي لم يساعده قوله: "ولو بشق تمرة"؛ لأن ذلك لو كان إخبارا معنى، وأما إذا كان أمرا معنى فلا. قلت: قال الطيبي: لعل الظاهر "ليتصدق رجل" ولام الأمر للغائب محذوف والقاف ساكنة، وجوزه ابن الأنبارى،
من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة. قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب. حتى رأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام

(2/175)


ونقل عن بعض أهل اللغة أن "نبك" في "قفا نبك" مجزوم على تأويل الأمر، أي فلنبك واحتج بقوله تعالى: ?ذرهم يأكلوا? [3:15] أي فليأكلوا، ولو حمل "تصدق" على الفعل الماضي لم يساعده قوله: ولو بشق تمرة، إذا المعنى ليتصدق رجل ولو بشق تمرة، وكذا قوله: "فجاء رجل" الخ.؛ لأنه بيان لامتثال أمره - عليه السلام - عقيب الحث على الصدقة، ولمن يجريه على الإخبار وجه لكن فيه تعسف غير خاف- انتهى. قال الأبهرى: ويأبى عن الحمل على حذف اللام عدم حرف المضارعة- انتهى. فيتعين حمله على أنه خبر لفظا وأمر معنى، وإتيان الإخبار بمعنى الإنشاء كثير في الكلام ليس فيه تكلف فضلا عن تعسف. قال الطيبي: و"رجل" نكرة وضعت موضع الجمع المعرف لإفادة الاستغراق في الإفراد وإن لم تكن في سياق النفي كشجرة في قوله: ?ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام? [27:31]، فإن "شجرة" وقعت موضع الأشجار. ومن ثم كرر في الحديث مرارا بلا عطف، أي ليتصدق رجل من ديناره، ورجل من درهمه، وهلم جرا ، و"من" في "من دينار" إما تبعيضية أي ليتصدق مما عنده من هذا الجنس، وإما ابتدائية متعلقة بالفعل، فالإضافة بمعنى اللام، أي ليتصدق بما هو مختص به وهو مفتقر إليه. (حتى قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتصدق كل رجل منكم. (ولو بشق تمرة. قال) أي الراوى وهو جرير (بصرة) بالضم أي ربطة من الدراهم لا من الدنانير على الظاهر. (تعجز عنها) أي عن حمل الصرة لثقلها لكثرة ما فيها. (ثم تتابع الناس) أي توالوا في إعطاء الصدقات. (كومين) الكوم بالضم العظيم من كل شيء، والكوم بالفتح المكان المرتفع كالرابية. قال القاضي: الفتح هنا أولى؛ لأن مقصوده الكثرة والتشبيه بالرابية. (من طعام) الظاهر أنه هنا حبوب، ولعل الاقتصار عليه من غير ذكر النقود لغلبته. (يتهلل) أي يستنير فرحا وسرورا. (مذهبة) بضم الميم وسكون الذال المعجمة وفتح الهاء بعده موحدة أي فضة مذهبة أي مموهة بالذهب، ومعناه ظهور البشر

(2/176)


في وجهه - صلى الله عليه وسلم - حتى استنار وأشرق من السرور، والمذهبة أيضا صحيفة منقشة بالذهب، أو ورقه من القرطاس مطلية بالذهب، يصف حسنه وتلألؤه. (من سن في الإسلام سنة حسنة) أي أتى بطريقة مرضية يشهد لها أصل من أصول الدين، أو صار باعثا وسببا لترويج أمر ثابت في الشرع (فله أجرها) أي أجر السنة أي ثواب العمل بها والإضافة لأدنى ملابسة، فإن السنة سبب ثبوت الأجر فجازت الإضافة. (من بعده) أي من بعد ما سن (من غير أن ينقص) على البناء للمفعول، وجوز
سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)) رواه مسلم.
212- (15) وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه أول من سن القتل)) متفق عليه. وسنذكر حديث معاوية ((لا يزال من أمتي)) في باب ثواب هذه الأمة إن شاءالله تعالى.
?الفصل الثاني?
213- (16) عن كثير بن قيس قال: ((كنت جالسا مع أبي الدرداء
أن يكون معلوما؛ لأنه متعد ولازم. (سنة سيئة) أي طريقة غير مرضية لا يشهد لها أصل من أصول الدين يعني بدعة شرعية. (من أوزارهم) جمع في الموضعين باعتبار معنى "من" كما أفرد في "ينقص" باعتبار لفظه. وفي الحديث الحث على البداءة بالخير ليستن به، والتحذير من البداءة بالشر خوف أن يستن به، ووجه المناسبة بالعلم أن استنان السنن المرضية من باب العلم المنتفع به. (رواه مسلم) في الزكاة وفي العلم، وأخرجه أيضا النسائي في الزكاة مطولا، والترمذي في العلم، وابن ماجه في السنة مختصرا أي بدون القصة.

(2/177)


212- قوله: (ظلما) نصب على التمييز (إلا كان على ابن آدم الأول) صفة لابن، والمراد الأول من القتلة، أي الذي هو قاتل أولا، لا أول الأولاد. قيل: هو قابيل قتل أخاه هابيل. ?إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر? [27:5]. وراجع للتفصيل إلى كتب التفسير. (كفل) أي نصيب (من دمها) أي دم النفس (لأنه أول من سن القتل) فهو متبوع في هذا الفعل، وللمتبوع نصيب من فعل تابعه وإن لم يقصد التابع إتباعه في الفعل. (متفق عليه) أخرجه البخاري في خلق آدم، وفي الديات، وفي الاعتصام. ومسلم في الحدود، وأخرجه أيضا الترمذي في العلم، والنسائي في المحاربة، وابن ماجه في الحدود.
213- قوله: (عن كثير بن قيس) الشامي، ويقال: قيس بن كثير. والأول أصح، ضعيف من أوساط التابعين. قال في تهذيب التهذيب: روى عن أبي الدرداء في فضل العلم، وعنه داود بن جميل، جاء في أكثر الروايات أنه كثير بن قيس على اختلاف في الإسناد إليه، وتفرد محمد بن يزيد الواسطي في إحدى الروايتين عنه بتسمية قيس بن كثير، وهو وهم. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن سميع: أمره ضعيف لم يثبته أبوسعيد يعني دحيما. وقال الدارقطني: ضعيف. ووقع لابن قانع وهم بحت عجيب في معجم الصحابة فإن الحديث وقع له بدون ذكر أبي الدرداء
في مسجد دمشق، فجاءه رجل فقال: يا أبالدرداء إني جئتك من مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جئت لحاجة. قال: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء،

(2/178)


فيه، فذكر كثيرا بسب ذلك في الصحابة فأخطأ-انتهى. (في مسجد دمشق) بكسر الدال وفتح الميم وبكسر، أي الشام (يا أباالدرداء) يقرأ الهمزة بعد حرف النداء ولا يكتب رسما. (لحديث) أي لأجل تحصيل حديث (بلغني أنك تحدثه) أي ذلك الحديث (عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) يحتمل أن يكون سمعه إجمالا، أو أراد أن يسمعه بلا واسطة لإفادة العلم وزيادة الطمأنينة، أو لعلو الإسناد فإنه من الدين. (ماجئت) إلى الشام (لحاجة) أخرى غير أن أسمعك الحديث. (قال) أي أبوالدرداء (فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) يحتمل أن هذا الحديث هو الحديث المطلوب للرجل أو غيره. ذكره تبشيرا له وترغيبا في مثل ما فعل. (من سلك طريقا يطلب فيه) أي في ذلك الطريق (علما). قال الطيبي: إنما أطلق الطريق والعلم ليشملا في جنسهما، أي طريق كان من مفارقة الأوطان والضرب في البلدان إلى غير ذلك، وأي علم كان من علوم الدين قليلا كان أو كثيرا. (سلك الله به طريقا) الضمير المجرور عائد إلى "من" والباء للتعدية، أي جعله سالكا ووفقه أن يسلك طريق الجنة. وقيل: عائد إلى العلم، والباء للسبية، و"سلك" بمعنى سهل، والعائد إلى من محذوف ، والمعنى: سهل الله له بسبب العلم طريقا ، فعلى الأول "سلك" من سلوك ، وعلى الثاني من السلك ، والمفعول محذوف ، كقوله تعالى: ?يسلكه عذابا صعدا? [17:27]. وعلى التقديرين نسبة "سلك" إلى الله تعالى على سبيل المشاكلة، كذا قاله الطيبي. وهو إما كناية عن التوفيق للخيرات في الدنيا، أو عن إدخال الجنة بلا تعب في الآخرة. (وإن الملائكة لتضع أجنحتها) جمع جناح بالفتح، وهو محمول على الحقيقة وإن لم يشاهد، أي تفرشها لتكون وطاء له إذا مشى، أو تكفها عند الطيران وتنزل عند مجالس العلم لسماعه، أو تبسطها له لتحمله عليها وتبلغه حيث يريد من البلاد، ومعناه المعونة في طلب العلم، أو هو مجاز عن التواضع توقير لعلمه وتعظيما لحقه ومحبة

(2/179)


للعلم. (رضا) حال أو مفعول له على معنى إرادة رضا ليكون فعلا لفاعل الفعل المعلل به. (لطالب العلم) متعلق برضا (ليستغفر له) إذا لحقه ذنب، ومجازاة على حسن صنيعه بإلهام من الله تعالى إياهم ذلك، وذلك لعموم نفع العلم، فإن مصالح كل شيء ومنافعه منوطة به، وهو محمول على الحقيقة. (والحيتان) جمع الحوت، قال الطيبي: ذكر الحيتان بعد ذكر الملائكة والثقلين تنميم لاستيعاب جميع الحيوانات على طريق "الرحمن الرحيم"، كما بيناه في فتوح الغيب، وأما تخصيص الحيتان فللدلالة على أن إنزال المطر ببركتهم حتى أن الحيتان تعيش بسببهم كما ورد: ((بهم تمطرون وبهم ترزقون)).
وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) رواه أحمد والترمذي، وأبوداود، وابن ماجه، والدارمي. وسماه الترمذي قيس بن كثير.
214- (17) وعن أبي أمامة الباهلي قال: ((ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلان: أحدهما عابد والآخر عالم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

(2/180)


(وإن فضل العالم) والمراد به من غلب عليه الاشتغال بالعلم على عبادته النافلة. (على العابد) المراد به من غلب عبادته على الاشتغال بالعلم. (كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) شبه العابد بالكواكب؛ لأن كمال العبادة ونورها لا يتعدى منه على غيره. وشبه العالم بالقمر الذى يتعدى نوره ويستضيء به وجه الأرض؛ لأن كمال العلم ونوره يتعدى إلى غيره فيستضيء بنوره المتلقى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي هو شمس العلم والدين، وإنما قيده بليلة البدر لكمال إضاءة القمر فيها وانمحاء الكواكب في شعاعها. (ورثة الأنبياء) لم يقل ورثة الرسل ليشمل الكل. (وإن الأنبياء لم يورثوا) بالتشديد (دينارا ولا درهما) أي شيئا من الدنيا. وخصا لأنهما أغلب أنواعها. والمراد أنهم ما ورثوا أولادهم وأزواجهم شيئا من ذلك، بل بقي بعدهم إن بقي شيء معدا لنوائب المسلمين. (وإنما ورثوا) من التوريث (فمن أخذه) أي العلم (أخذ بحظ وافر) أي أخذ حظا وافرا يعني نصيبا تاما. والباء زائدة للتأكيد. (رواه أحمد) (ج5:ص196) (والترمذي وأبوداود) في العلم (وابن ماجه) في السنة (والدارمي) في العلم. (وسماه) أي سمى الراوي عن أبي الدرداء (الترمذي) في روايته، وكذا أحمد في طريق له (قيس بن كثير) وهو وهم من أحد الرواة، والصحيح كثير بن قيس. قال المنذري في الترغيب: وقد اختلف في هذا الحديث اختلافا كثيرا ذكرت بعضه في مختصر السنن وبسطته في غيره- انتهى، فمن شاء الوقوف على ذلك فليرجع إلى مختصر السنن. وسند الترمذي منقطع بين عاصم بن رجاء وقيس بن كثير لعدم ذكر واسطة داود بن جميل بينهما. ورواه أبوداود، وابن ماجه، والدارمي، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي في الشعب، وكذا أحمد في طريق له متصلا بذكر الواسطة، وهذا أرجح.

(2/181)


214- قوله: (وعن أبي أمامة) بضم الهمزة (الباهلي) نسبة إلى باهلة بكسر الهاء، قوم، وأبو أمامة كان سيدهم. (ذكر) على البناء للمفعول (الرسول الله- صلى الله عليه وسلم - رجلان) أي بوصف الكمال، وهو يحتمل أن يكون تمثيلا، وأن يكونا موجودين في الخارج قبل زمانه أو في أوانه، ويؤيد الثاني ما ذكر في الفصل الثالث من رواية الحسن مرسلا قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجلين كانا في بني إسرائيل أحدهما كان عالما، الخ (فضل العالم) بالعلم الشرعي مع القيام بفرائض العبودية. (على العابد) أي على المتجرد للعبادة بعد تحصيل قدر الفرض من العلوم. (كفضلي على أدناكم) أي نسبة طرف
إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير)) رواه الترمذي.
215- (18) ورواه الدارمي عن مكحول مرسلا، ولم يذكر ((رجلان))، وقال: ((فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، ثم تلا هذه الآية: ?إنما يخشى الله من عباده العلماء? وسرد الحديث إلى آخره.

(2/182)


العالم إلى شرف العابد، كنسبة شرف الرسول إلى شرف أدنى الصحابة. وفيه مبالغة لا تخفى. (وأهل السماوات) تعميم بعد تخصيص. (والأرض) أي أهل الأرض من الإنس والجن وجميع الحيوانات. (حتى النملة) بالنصب على أن "حتى" عاطفة، وبالجر على أنها جارة، وبالرفع على أنها ابتدائية. قال القاري: والأول أصح. (في جحرها) بضم الجيم وسكون الهاء، أي ثقبها. (وحتى الحوت) كما تقدم، وهما غايتان مستوعبتان لدواب البر والبحر، وخصت النملة من دواب البر؛ لأنها أكثر الحيوانات ادخارا للقوت في جحرها، فهي أحوج إلى بركتهم من غيرها. (ليصلون) أي يدعون بالخير. وفيه تغليب للعقلاء على غيرهم. (على معلم الناس الخير) قيل: أراد بالخير هنا علم الدين وما به نجاة الرجل. وفيه إشارة إلى وجه الأفضلية بأن نفع العلم متعد، ونفع العبادة قاصر. (رواه الترمذي) في العلم، وقال: حديث حسن غريب صحيح. وأخرجه أيضا الطبراني، والضياء، وأخرج البزار من حديث عائشة مختصرا قال: معلم الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر.

(2/183)


215- قوله: (ورواه الدارمي عن مكحول) كنيته أبوعبدالله أو أبومسلم أو أبوأيوب الشامي الدمشقي. قيل: كان من سبي كابل، وكان معلم الأوزاعي، ثقة فقيه كثير الإرسال من الطبقة الصغرى من التابعين. وروى عنه قال: عتقت بمصر فلم أدع فيها علما إلا احتويت عليه فيما أدري، ثم أتيت العراق والمدينة والشام فذكر كذلك. قال الخزرجي: روى عن كثير من الصحابة مرسلا. مات سنة بضع عشرة ومائة. (مرسلا) أي حذف الصحابي. (ولم يذكر) أي مكحول (رجلان) مرفوع على الحكاية، والمراد: هو وما بعده من قوله: "أحدهما عابد والآخر عالم" ولذا قال (وقال) أي مكحول رواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحكاية ?إنما يخشى الله? بالنصب ?من عباده العلماء? بالرفع. والخشية الخوف مع التعظيم، وقرئ في الشواذ برفع الجلالة ونصب العلماء، أي يعظمهم على التجريد. قيل: هو استشهاد لبيان علة الفضل وحاصله: أن العلم يورث الخشية لكون صاحبه أكثر معرفة بالله وبجلاله وكبريائه، والخشية تنتج التقوى وهو موجب الأكرمية والأفضلية، قال تعالى: ?إن أكرمكم عندالله أتقاكم? [13:49]، وفيه إشارة إلى أن من لم يكن علمه كذلك فهو كالجاهل بل هو الجاهل. (وسرد) أي ذكر وأورد مكحول. (الحديث) أي بقية الحديث السابق إلى آخره.
216- (19) وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الناس لكم تبع، وإن رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا)) رواه الترمذي.
217- (20) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الكلمة الحكمة ضالة الحكيم، فحيث وجدها فهو أحق بها))

(2/184)


216- قوله: (لكم تبع) بفتحتين جمع تابع كخدم وخادم، والخطاب لعلماء الصحابة، يعني يتبعونكم في أفعالكم وأقوالكم؛ لأنكم أخذتم عني مكارم الأخلاق. (من أقطار الأرض) جمع قطر بالضم أي من أطراف الأرض وجوانبها. (يتفقهون في الدين) أي يطلبون علم الدين، والجملة استئنافية لبيان علة الإتيان، أو حال من الضمير المرفوع في "يأتونكم"، وهو أقرب إلى الذوق، كذا قاله الطيبي. (فاستوصوا بهم خيرا) أي في تعليمهم علوم الدين وأخلاق المهتدين وتحقيقه، اطلبوا الوصية والنصيحة بهم من أنفسكم، فالسين للطلب، والكلام من باب التجريد، وفيه مبالغة حيث أمروا أن يجردوا عن أنفسهم أشخاصا أخر يطلبون منهم التوصية في حق طلبة العلم ومراعاة أحوالهم. وقيل: الاستيصاء قبول الوصية، أي أوصيكم بهم خيرا فاقبلوا الوصية مني فيهم، وافعلوا بهم خيرا، ولهذا كان جمع من أكابر السلف إذا دخل على أحدهم غريب طالب العلم يقول: مرحبا بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (رواه الترمذي) في العلم، وأخرجه أيضا ابن ماجه في السنة، وهو حديث ضعيف؛ لأن في سنده أباهارون العبدي وهو متروك، ومنهم من كذبه.

(2/185)


217- قوله: (الكلمة الحكمة) أي ذات الحكمة المشتملة عليها، جعلت الكلمة نفس الحكمة مبالغة، فهو من باب رجل عدل، وروي "كلمة الحكمة" بالإضافة من إضافة الموصوف إلى الصفة، وروي "الكلمة الحكمة" على طريق الإسناد المجازي فإن الحكيم قائلها، والمراد بها الجملة المفيدة معنى دقيقا. (ضالة الحكيم) أي مطلوبه، والضالة في الأصل الضائعة من الحيوان وغيره، و"الحكيم" هو المتقن للأمور الذي له فيها غور. (فهو أحق بها) أي بقبولها، يعني أن الحكيم يطلب الحكمة فإذا وجدها فهو أحق باتباعها والعمل بها، أو المعنى: أن الناس متفاوتون في فهم المعاني واستنباط الحقائق المحتجبة، فينبغي أن لا ينكر من قصر فهمه عن إدراك دقائق الآيات والأحاديث على من رزقه، ولا ينازعه كما لا ينازع صاحب الضالة في ضالته إذا وجدها، أو كما أن صاحب الضالة آخذ ضالته ممن وجدها لا يحل له منعها، كذا العالم لا يحل له المنع عن السائل إذا رأى فيه استعدادا لفهمه، ففيه أنه لا يجوز منح غير الحكيم، فإنها ليست ضالته، أو المراد أن كلمة الحكمة ربما يتكلم بها من ليس لها بأهل ثم وقعت إلى أهلها فهو أحق بها من الذي قالها من غير التفات إلى خساسة من تكلم بها، كالضالة إذا وجد صاحبها أخذها من واجدها وإن كان خسيسا ولا ينظر إلى خساسته. ووقع في الترمذي وابن ماجه "ضالة المؤمن" بدل قوله: "ضالة الحكيم"، قال السندهي: أي مطلوبة له بأشد ما يتصور في الطلب كما يطلب المؤمن
رواه الترمذي وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وإبراهيم بن الفضل الراوي يضعف في الحديث.
218- (21) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد)) رواه الترمذي، وابن ماجه.

(2/186)


ضالته، وليس المطلوب بهذا الكلام الإخبار، إذ كم مؤمن ليس له طلب للحكمة أصلا بل المطلوب به الإرشاد كالتعليم. أى اللائق بحال المؤمن أن يكون مطلوبه الكلمة الحكمة، ويحتمل أن يكون إخبارا لحمل "المؤمن" على الكامل في الإيمان، ومعنى قوله: "فحيث وجدها فهو أحق بها" أي ينبغي أن يكون نظر المؤمن إلى القول لا إلى القائل. (رواه الترمذي) في العلم (وابن ماجه) في الزهد. (وإبراهيم بن الفضل الراوي) بتخفيف الياء، أي راوي هذا الحديث عن سعيد المقبري عن أبي هريرة (يضعف) بصيغة المجهول، أي ينسب إلى ضعف الرواية. وفي نسخ الترمذي الحاضرة "ضعيف". (في الحديث) أي في باب نقل الحديث وروايته. قال في التقريب: إبراهيم بن الفضل المخزومي المدني أبوإسحاق، ويقال: إبراهيم بن إسحاق، متروك – انتهى. وقال أبوحاتم والبخاري والنسائي: منكر الحديث. وذكر العقيلي من مناكيره هذا الحديث. والحديث أخرجه ابن عساكر عن علي، والعسكري في الأمثال عن أبي هريرة بلفظ: ((كلمة الحكمة ضالة كل حكيم، فإذا وجدها فهو أحق بها)).

(2/187)


218- قوله: (فقيه واحد) إن كان المراد من الفقيه الذي رزق الفهم في الدين، والتفطن لمداركه وموارده، فهو عارف لمكائد الشيطان ولمته، ورزق علم الخواطر وتمييزها، والاطلاع على دسائس النفوس ووساوسها. وإن كان المراد العالم بأحكام الدين وتفاصيلها كما يجوز فكذلك؛ لأنه بعلمها يحذر عن المواقع المحرمة، فلا يستخفها ولا يستحلها، فلا يقع في ورطة الكفر، بخلاف المتعبد الذي ليس فى مرتبته في المعنيين. (أشد على الشيطان)؛ لأن الفقيه لا يقبل إغواءه، ويأمر الناس بالخير، ويصونهم عن إغوائه. (من ألف عابد) قيل: المراد به الكثرة وذلك لأن غاية همة العابد أن يخلص نفسه من مكائد الشيطان، وقد لا يقدر عليه فيدركه الشيطان من حيث لا يدرى، بخلاف الفقيه فقد يخلص الله تعالى على يديه العباد من مكائد الشيطان. (رواه الترمذي) في العلم (وابن ماجه) في السنة. وأخرجه أيضا البيهقي كلهم من رواية روح بن جناح، تفرد به عن مجاهد عن ابن عباس، وروح بن جناح ضعيف، اتهمه ابن حبان، فالحديث ضعيف. قال الساجي: هو حديث منكر، وأخرجه البيهقي في الشعب، والطبراني في الأوسط، والدارقطني من حديث أبي هريرة مرفوعا به في حديث. قال الطبراني: سنده ضعيف، وله شواهد أسانيدها ضعيفة. وقال في المقاصد: لفقيه واحد أشد، الخ. أسانيده ضعيفة لكنه يتقوى بعضها ببعض.
219- (22) وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم، وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب)) رواه ابن ماجه، وروى البيهقي في شعب الإيمان إلى قوله: ((... مسلم))، وقال: هذا حديث متنه مشهور وإسناده ضعيف. وقد روي من أوجه كلها ضعيف.
220- (23) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خصلتان لا يجتمعان في منافق:

(2/188)


219- قوله: (طلب العلم فريضة) قال البيهقي في المدخل: أراد - والله تعالى أعلم – العلم الذي لا يسع العاقل البالغ جهله، أو علم ما يطرأ له خاصة فيسأل عنه حتى يعلمه، أو أراد أنه فريضة على كل مسلم حتى يقوم به من فيه كفاية. وقال البيضاوي: المراد من العلم ما لا مندوحة للعبد عن تعلمه، كمعرفة الصانع والعلم بواحدنيته، ونبوة رسوله- صلى الله عليه وسلم -، وكيفية الصلاة، فإن تعلمها فرض عين. (على كل مسلم) أي مكلف ليخرج غير المكلف من الصبي والمجنون، وموضوعه الشخص فيشمل الذكر والأنثى، وقد ألحق بعض المصنفين بآخر هذا الحديث "ومسلمة"، قال السخاوي في المقاصد: وليس لها ذكر في شيء من طرقه وإن كانت صحيحة المعنى. (وواضع العلم عند غير أهله) كمن لا يصغى ولا يفهم، أو من يريد غرضا دنيويا، أو من لا يتعلمه لله. (كمقلد الخنازير) الخ. هذا يعر بأن كل علم يختص باستعداد وله أهل، فإذا وضعه في غير موضعه فقد ظلم، فمثل معنى الظلم بتقليد أخس الحيوانات بأنفس الجواهر تهجينا لذلك الوضع وتنفيرا عنه، وتعقيب هذا التمثيل بقوله "طلب العلم فريضة" إعلام بأنه ينبغي لكل أحد طلب ما يليق باستعداده، ويوافق منزلته بعد حصول ما هو واجب من الفرائض العامة، وعلى العالم أن يخص كل طالب بما هو مستعد له. (رواه ابن ماجه) في السنة، وفي سنده حفص بن سليمان وهو ضعيف. (وقال:) أي البيهقي (هذا حديث متنه مشهور) أي على ألسنة الناس. (وإسناده ضعيف) أي وإن كان معناه صحيحا كما سيأتي عن السيوطي. (كلها ضعيف) قال السخاوي في المقاصد: روي عن أنس بطرق كلها معلولة واهية. وفي الباب عن جماعة من الصحابة، وبسط الكلام في تخريج الإحياء. وقال أحمد: لا يثبت في هذا الباب شيء. وكذا قال ابن راهوية، وأبوعلي النيسابوري، والحاكم، ومثل به ابن الصلاح المشهور الذي ليس بصحيح، ولكن قال العراقي: قد صحح بعض الأئمة بعض طرقه. وقال السيوطي: سئل النووي عن هذا الحديث فقال: إنه

(2/189)


ضعيف، أي سندا وإن كان صحيحا، أي معنى. وقال تلميذه جمال الدين المزى: هذا الحديث روي من طرق تبلغ رتبة الحسن وهو كما قال، فإني رأيت له نحو خمسين طريقا وقد جمعتها في جزء – انتهى.
220- قوله: (خصلتان لا يجتمعان في منافق) قال الطيبي: ليس المراد أن واحدة منهما قد تحصل في المنافق دون الأخرى، بل هو تخريض للمؤمنين على اتصافه بهما ولاجتناب عن ضدهما، فإن المنافق من يكون عاريا عنهما، وهو من
حسن سمت، ولا فقه في الدين)) رواه الترمذي.
221- (24) وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع)) رواه الترمذي، والدارمي.
222- (25) وعن سخبرة الأزدى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
باب التغليظ. ونحوه قوله: ?وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة? [41: 6، 7] وليس من المشركين من يزكي، لكنه حث للمؤمن على الأداء، وتخويف من المنع حيث جعله من أوصاف المشركين. والمراد بالمنافق إما حقيقي وهو النفاق الاعتقادي، أو مجازي وهو النفاق العملي. (حسن سمت) أي خلق وسيرة. قال الطيبي: هو التزي بزي الصالحين. وقيل: المراد هيئة أهل الخير. (ولا فقه في الدين) عطف على "حسن سمت". قال الطيبي: حسن عطقه على ذلك وهو مثبت؛ لأنه في سياق النفي. قال التوربشتي: حقيقة الفقه في الدين ما وقع في القلب ثم ظهر على اللسان، فأفاد العمل، وأورث الخشية والتقوى. وأما الذي يتدارس أبوابا منه ليتعزز به ويتأكل به، فإنه بمعزل عن الرتبة العظمى؛ لأن الفقه تعلق بلسانه دون قلبه، ولهذا قال علي: "ولكني أخشى عليكم كل منافق عليم اللسان"- انتهى. (رواه الترمذي) في العلم، وفي سنده خلف بن أيوب العامرى، تفرد به عن عوف، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، فقيه من أهل الرأي، ضعفه ابن معين، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان مرجئا غاليا، استحب مجانبة حديثه لتعصبه.

(2/190)


221- قوله: (من خرج) أي من بيته أو بلده (في طلب العلم) الشرعي النافع الذى أراد به وجه الله، وهو الذي يزيد في الخوف من الله، وينقص من الرغبة في الدنيا. (فهو في سبيل الله) أي في حكم من خرج للجهاد. قال الطيبي: "ويؤيده قوله تعالى: ?وما كان المؤمنون لينفروا كافة? الآية [122:9]، حض المؤمنين على النفقة في الدين وأمرهم بأن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد، ويبقى طائفة يتفقهون حتى لا ينقطعوا عن التفقة الذى هو الجهاد الأكبر. (حتى يرجع) يعني فله أجر من خرج في الجهاد إلى أن يرجع إلى بيته؛ لأنه كالمجاهد في إحياء الدين وإذلال الشيطان وإتعاب النفس. (رواه الترمذي والدارمي)، وقال الترمذي: حديث حسن غريب. وأخرجه أيضا الضياء المقدسي في المختارة، وأبو نعيم في الحلية.
222- قوله: (وعن سخبرة) بفتح أوله وسكون المعجمة وفتح الموحدة، والد عبدالله بن سخبرة (الأزدي) بسكون الزاي، ويقال له: الأسدي نسبة إلى الأزد بن يغوث، وبالسين أفصح، أبوحي من اليمن، صحابي له حديثان. قال الحافظ في التهذيب: جزم البخاري بأنه الأزدى، وقال: ليس حديثه من وجه صحيح، وكذا جزم به ابن أبي خيثمة وابن حبان وغيرهم. وقال في التقريب: سخبرة صحابي في إسناد حديثه ضعف. وعند الترمذي سخبرة وليس
((من طلب العلم كان كفارة لما مضى)) رواه الترمذي، والدارمي. وقال الترمذي: هذا حديث ضعيف الإسناد، وأبوداود الراوي يضعف.
223- (26) وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((لن يشبع المؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة)) رواه الترمذي.
224- (27) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سئل عن علم علمه ثم كتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار))

(2/191)


بالأزدى. وقال غيره: هو الأزدى – انتهى. (من طلب العلم) أي الشرعي ليعمل به (كان) أي طلبة للعلم (كفارة) هي مما يستر الذنوب ويزيلها، من كفر إذا ستر. (لما مضى) أي من الصغائر، ويمكن أن يكون المعنى: أن طلب العلم وسيلة إلى ما يكفر به ذنوبه كلها من التوبة ورد المظالم وغيرها. (وأبوداود) اسمه نفيع الأعمى، مشهور بكنيته، ويقال له: نافع (الراوى) أي عن عبدالله بن سخبرة (يضعف) في الحديث. قال الحافظ: متروك، وقد كذبه ابن معين، وعبدالله بن سخبرة مجهول. والحديث أخرجه أيضا الطبراني في الكبير.
223- قوله: (لن يشبع المؤمن من خير) أي علم (حتى يكون منتهاه) أي غايته ونهايته (الجنة) بالنصب على الخبرية، أو الرفع على الاسمية، يعني حتى يموت فيدخل الجنة مع السابقين إن عمل به. قال الطيبي: شبه استلذاذه بالمطعوم؛ لأنه أرغب وأشهى وأكثر إتعابا لتحصيله. و"حتى" للتدرج في استماع الخير والترقي في استلذاذه والعمل به إلى أن يوصله الجنة؛ لأن سماع الخير سبب العمل، والعمل سبب دخول الجنة ظاهرا. ولما كان قوله: "لن يشبع" فعلا مضارعا يكون فيه دلالة على استمرار، تعلق "حتى" به – انتهى. والحديث يدل على أن المؤمن الحريص على طلب العلم يموت على الإيمان. (رواه الترمذي) في العلم. وقال: حديث حسن غريب. وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه.

(2/192)


224- قوله: (من سئل عن علم) نافع يحتاج إليه السائل في أمر دينه وكان السائل أهلا لذلك العلم. (ثم كتمه) "ثم" فيه استبعادية؛ لأن تعلم العلم إنما كان لنشر العلم ونفعه الناس، وبكتمه يزول ذلك الغرض، فكان بعيدا ممن هو في صورة العلماء والحكماء. (ألجم يوم القيامة بلجام من نار) أي أدخل في فمه لجام من نار، شبه ما يوضع في فمه من النار بلجام في فم الدابة، وهو إنما كان جزاء إمساكه عن قول الحق. وخص اللجام بالذكر تشبيها للكاتم بالحيوان الذي سخر ومنع من قصده ما يريد. وفي رواية لابن ماجه: ((ما من رجل يحفظ علما فيكتمه إلا أتى يوم القيامة ملجوما بلجام من نار)). وظاهره أن المراد حضر في المحشر كذلك، ثم أمره إلى الله بعد ذلك؛ لأنه أمسك فمه عن كلمة الحق وقت الحاجة والسؤال، فجوزي بمثله، حيث أمسك الله فمه في وقت اشتداد الحاجة للكلام والجواب عند السؤال عن الأعمال، وهذا
رواه أحمد، وأبوداود، والترمذي.
225- (28) ورواه ابن ماجه عن أنس.
226- (29) وعن كعب بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله النار))
في العلم ضروري الذي يلزم تعليمه ويتعين عليه، كمن يريد الإسلام أو تعليم الصلاة وقد حضر وقتها، أو فتوى في الحل والحرمة. وأما نوافل العلم فهو مخير في تعليمها. (رواه أحمد وأبوداود) وسكت عنه (والترمذي) وحسنه، وأخرجه أيضا النسائي، وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه. والبيهقي، والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. قال المنذري في مختصر السنن بعد نقل تحسين الترمذى: وقد روي عن أبي هريرة من طرق فيها مقال، والطريق الذي خرج بها أبوداود طريق حسن.

(2/193)


225- قوله: (ورواه ابن ماجه عن أنس) أيضا وفي سنده يوسف بن إبراهيم، قال البخاري: هو صاحب عجائب. وقال ابن حبان: روى عن أنس من حديثه ما لا يحل الرواية عنه- انتهى. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف. قال المنذرى: وقد روي هذا الحديث أيضا من رواية ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر بن الخطاب، وابن عمرو بن العاص، وأبي سعيد الخدرى، وجابر بن عبدالله، وأنس بن مالك، وعمرو بن عبسة، وعلي بن طلق، وفي كل منها مقال- انتهى. وبالجملة المتن ثابت، والكلام في خصوص الأسانيد لا يقدح في ثبوته.
226- قوله: (وعن كعب بن مالك) بن أبي كعب الأنصاري السلمي المدني الشاعر، أحد الثلاثة الذين خلفوا، شهد العقبة الثانية والمشاهد كلها غير بدر وتبوك، وكان أحد شعراء النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين كانوا يهاجون عنه - صلى الله عليه وسلم -. له ثمانون حديثا، اتفقا على ثلاثة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثين، روى عنه جماعة. مات سنة (50) وقيل: سنة (51) وهو ابن سبع وسبعين سنة بعد أن عمي. (من طلب العلم) أي لا لله بل (ليجاري به العلماء) أي ليجري معهم في المناظرة والجدل ليظهر على الناس علمه رياء وسمعة. (أو ليماري به السفهاء) أي ليجادل به ضعاف العقول. وقيل: المراد به الجهال. قال الطيبي: المماراة من المرية وهي الشك، فإن كل واحد من المتحاجين يشك فيما يقول صاحبه، ويشككه مما يورد على حجته. أو من المرى وهو مسح الحالب ليستنزل ما به من اللبن، فإن كلا من المناظرين يستخرج ما عند صاحبه. (أو يصرف به) أي يميل بالعلم (وجوه الناس إليه) أي ينوى به تحصيل المال والجاه، وصرف وجوه الناس العوام والطلبة إليه، وجعلهم كالخدم له، أو جعلهم ناظرين إليه إذا تكلم، متعجبين من كلامه إذا تكلم، مجتمعين حوله إذا جلس. (أدخله الله النار) الظاهر أنه إخبار بأنه استحق دخول النار بلا دوام، ثم فضل الله واسع، فإن
رواه الترمذي.
227- (30) ورواه ابن ماجه عن ابن عمر.

(2/194)


228- (31) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة. يعني ريحها))
شاء عفا بلا دخول، وقيل: جملة دعائية. (رواه الترمذي) في سنده إسحاق بن يحيى بن طلحة، تفرد به عن ابن كعب عن أبيه. قال الترمذي: ليس بذلك القوي عندهم، تكلم فيه من قبل حفظه – انتهى. وأخرجه أيضا ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت وغيره، والحاكم شاهدا والبيهقي.
227- قوله: (ورواه ابن ماجه عن ابن عمر)، قال في الزوائد: إسناده ضعيف لضعف حماد بن عبدالرحمن وأبي كرب الأزدى. وروي في ذم تعلم العلم لغير وجه الله عن جماعة من الصحابة، ذكر أحاديثهم المنذري في الترغيب، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج1:ص184) وعلي المتقي في الكنز (ج5:ص214، 216).

(2/195)


228- قوله: (مما يبتغى به وجه الله) من بيان للعلم أي العلم الذي يطلب به رضا الله تعالى، وهو العلم الديني، فلو طلب الدنيا بعلم الفلسفة والهندسة ونحوهما فهو غير داخل في أهل هذا الوعيد. (لا يتعلمه) حال إما من فاعل "تعلم" أو من مفعوله؛ لأنه تخصص بالوصف، ويجوز أن يكون صفة أخرى لعلماء. (إلا ليصيب) أي لينال ويحصل بذلك العلم. (عرضا) بفتحتين وإهمال العين، أي متاعا من الدنيا، والاستثناء من أعم الأوصاف، أي لا يتعلمه لغرض من الأغراض إلا ليصيب به شيئا من متمتعات الدنيا. وفيه دلالة على أن الوعيد المذكور لمن لا يقصد بالعلم إلا الدنيا، وأما من طلب بعلمه رضا المولى ومع ذلك له ميل ما إلى عرض الدنيا فخارج عن هذا الوعيد، فابتغاء وجه الله يأبى إلا أن يكون متبوعا ويكون العرض تابعا. قال الطيبي: وصف العلم بابتغاء وجه الله إما للتفصيل والتمييز، فإن بعضا من العلوم مما يستعاذ منه، كما ورد "أعوذ بالله من علم لا ينفع"، وإما للمدح. (عرف الجنة) بفتح العين وسكون الراء المهملتين - الرائحة، مبالغة في تحريم الجنة؛ لأن من لا يجد ريح الشيء لا يتناوله قطعا. وهذا محمول على أنه يستحق أن لا يدخل أولا ثم أمره إلى الله تعالى كأمر صاحب الذنوب إذا مات على الإيمان. وقيل: بل المراد أنه يكون محروما من ريح الجنة وإن دخلها. وقيل: بل هذا الحكم مخصوص بيوم القيامة كما هو المذكور في لفظ الحديث، وهو من حين أن يحشر إلى أن يستقر أهل كل دار مقره، وبيانه أن الأخبار سيما العلماء إذا وردوا يوم القيامة يجدون رائحة الجنة قبل أن يدخلوها تقوية لقلوبهم وتسلية لهمومهم على مقدار مراتبهم، وهذا البائس المبتغي للأغراض الفانية يكون في ذلك الوقت كصاحب أمراض حادثة
رواه أحمد، وأبوداود، وابن ماجه.

(2/196)


229- (32) وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم،
في الدماغ، مانعة من إدراك الروائح، لا يجد رائحة الجنة. (رواه أحمد وأبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (وابن ماجه) وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه، والحاكم، وقال صحيح سنده، ثقات رواته على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وأقره الذهبي.

(2/197)


229- قوله: (نضر الله)قال في النهاية: يروى بالتخفيف والتشديد من النضارة، وهي في الأصل حسن الوجه والبريق، وأراد حسن خلقه وقدره- انتهى. وقيل: روي مخففا ومشددا، والثاني أكثر وأجود، والمراد ألبسه الله النضرة، وهي الحسن وخلوص اللون، أي جملة وزينه، وأوصله الله إلى نضرة الجنة أي نعيمها ونضارتها، ثم قيل: إنه إخبار يعني جعله ذا نضرة، وقيل: دعاء له بالنضرة، وهي البهجة والبهاء في الوجه من أثر النعمة. (سمع مقالتي) أي حديثي (فحفظها) بالقلب أو الكتابة. (ووعاها) أي داوم على حفظها ولم ينسها. (وأداها) أي أوصلها إلى الناس وعلمها. (فرب حامل فقه) أي علم. وهذا بمنزلة التعليل لما يفهم من الحديث أن التبليغ مطلوب، والمراد بحامل الفقه حافظ الأدلة التي يستنبط منها الفقه. (غير فقيه) أي غير قادر على استنباط الفقه من تلك الأدلة، و"غير" بالجر صفة"حامل"، وقيل بالرفع، فتقديره: هو غير فقيه. يعني لكن يحصل له الثواب لنفعه بالنقل. (ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) أي هو فقيه أيضا لكنه يحمل الفقه إلى أفقه منه، بأن كان الذي يسمع منه أفقه منه وأقدر على استنباطه، أو إلى من يصير أفقه منه. قال الطيبي: قوله "إلى من هو أفقه منه" صفة لمدخول"رب"، استغنى بها عن جوابها، أي رب حامل فقه أدى إلى من هو أفقه منه. (ثلاث) أي ثلاث خصال أو خصال ثلاث. (لا يغل) بكسر الغين وتشديد اللام على المشهور، والياء تحتمل الضم والفتح ، فعلى الأول من أغل إذا خان، وعلى الثاني من غل إذا صار ذا حقد وعداوة. (عليهن) أي على تلك الخصال الثلاث. (قلب مسلم) أي كامل و"عليهن" في موضع الحال، أي حال كونه ثابتا وكائنا عليهن ، أي مادام المؤمن على هذه الخصال الثلاث لا يدخل في قلبه خيانة أو حقد يمنعه من تبليغ العلم، فينبغي له الثبات على هذه الخصال حتى لا يمنعه شىء من التبليغ، وبهذا ظهر مناسبة هذه الجملة بما قبلها. (إخلاص العمل لله) أي منها أو إحداها، يعني

(2/198)


جعل العمل خالصا لله لا لغيره من رياء وتحصيل جاه ومال. (والنصيحة) هي إرادة الخير للمنصوح له. (ولزوم جماعتهم) أي موافقة المسلمين في الاعتقاد، والعمل الصالح، والصلاة الجماعة،
فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)) رواه الشافعي والبيهقي في المدخل .
230- (33) ورواه أحمد، والترمذي، وأبوداود، وابن ماجة، والدارمي، عن زيد بن ثابت. إلا أن الترمذي وأبا داود لم يذكرا ((ثلاث لا يغل عليهن)) إلى آخره.
231- (34) وعن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول: ((نضر الله امرءا سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه،
_______________________________________________________________________________________
والجمعة، والعيدين، وطاعة الأمراء المسلمين، وغير ذلك (فإن دعوتهم تحيط) أي تدور. (من ورائهم) قوله: "فإن دعوتهم" في معرض التعليل، والتقدير: ولا يقصرن أحد في لزوم جماعتهم؛ لأن دعوتهم تدور من ورائهم وتحويهم وتحفظهم عن كيد الشيطان وعن الضلالة، فلا ينبغي لأحد أن يجعل نفسه محرومة من بركتهم. قال ابن حجر: ووجه المناسبة بين قوله: "ثلاث" المستأنف، وما قبله أنه - عليه الصلاة والسلام - لما حرض سامع سننه على أدائها بين أن هناك خصالا من شأنه أن ينطوي قلبه عليها، لأن كلا منها محرض له على ذلك التبليغ. (رواه الشافعي). قال القارى: ولم يعلم في أي كتاب. قلت: أخرجه في كتاب الرسالة (ص106) في باب الحجة على تثبيت الخبر الواحد، وفي مسنده (ص82)، (والبيهقي في المدخل) بفتح الميم والخاء، يعني كلاهما عن ابن مسعود.

(2/199)


230- قوله: (ورواه أحمد والترمذي) وحسنه، ونقل المنذري تحسينه وأقره. (وأبوداود) وسكت عنه (وابن ماجه والدارمي)، وأخرجه أيضا بتمامه النسائي وابن حبان في صحيحه. وقد روي هذا الحديث أي بتمامه عن أبي سعيد الخدري، ومعاذ بن جبل، والنعمان بن بشير، وجبير بن مطعم، وأبي الدرداء، وأبي قرصافة جندرة بن خيشنة، وجابر، وأنس، ذكر أحاديثهم الهيثمي في مجمع الزوائد مع الكلام عليها، وقال المنذري في الترغيب: بعض أسانيدهم صحيح.
231- قوله: (نضر الله امرأ) أي خصه بالبهجة والسرور لما رزق بعلمه ومعرفته من القدر والمنزلة بين الناس في الدنيا ونعمة في الآخرة، حتى يرى عليه رونق الرخاء والنعمة. (سمع منا شيئا) وفي رواية ابن ماجه "حديثا" بدل "شيئا". قال الطيبى: قوله: "شيئا" يعم الأقوال والأفعال الصادرة من النبي- صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، يدل عليه صيغة الجمع في "منا" انتهى. قال القارى: وصح تعلق السمع بالفعل من حيث أنه قد يسمع من الصحابي أنه - عليه السلام - كان يفعل كذا، مع أن المراد بالسمع هو العلم الذي يشمل القول والفعل والشمائل أيضا، وإنما خص السمع بالذكر؛ لأن مدار العلم عليه غالبا. (كما سمعه) حال من مفعول "بلغه"، و"ما" مصدرية أو موصولة أي غضا طريا من غير تحريف وتغيير من زيادة ونقصان، خص مبلغ الحديث كما سمعه بهذا الدعاء؛ لأنه سعى في نضارة العلم وتجديد السنة، فجازاه بالدعاء بما يناسب حاله، وهذا يدل على شرف الحديث وفضله ودرجة طلابه، حيث خصهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعاء لم يشرك فيه أحد من الأمة. والحديث
فرب مبلغ أوعى له من سامع)).رواه الترمذي، وابن ماجه.
232- (35) ورواه الدارمي عن أبي الدرداء.
233- (36) وعن ابن عباس - رضى الله عنه - قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)) رواه الترمذي.

(2/200)


234، 235- (37، 38) ورواه ابن ماجه عن ابن مسعود وجابر، ولم يذكر ((اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم)).
____________________________________________________________________________
لا ينافي جواز الرواية بالمعنى على ما عليه الجمهور، لأن المثلية تارة يكون بحسب اللفظ والمعنى، وتارة بحسب المعنى، والمدار على المعاني الأصلبة، وعلى الأول يكون تنبيها على الوجه الأكمل، ومسألة الرواية بالمعنى مبسوطة في كتب أصول الحديث فعليك أن تراجعها. (فرب مبلغ) بفتح اللام من التبليغ، أي منقول إليه، فحذف الجار والمجرور، كما يقال المشترك ويراد المشترك فيه ، و"رب" للتقليل لكنه كثر في الاستعمال للتكثير بحيث غلب حتى صارت كأنها حقيقة فيه، وهي حرف خلافا للكوفيين في دعوى اسميته. (أوعى) من الوعي وهو الحفظ أي أفطن وأفهم ، أو أكثر مراعاة لمعناه وعملا بمقتضاه، وإعراب هذا الكلام على مذهب الكوفيين أن "رب مبلغ" كلام إضافي مبتدأ، وقوله "أوعى له من سامع" خبره. وأما على مذهب البصريين فإن قوله: "مبلغ" وإن كان مجرورا بالإضافة ولكنه مرفوع على الابتداء محلا، وقوله "أوعى" صفة له، والخبر محذوف تقديره: يكون أو يوجد، أو نحوهما (من سامع) أي ممن سمعه أولا وبلغه ثانيا. (رواه الترمذي وابن ماجه) وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأخرجه أيضا أحمد، وابن حبان في صحيحه إلا أنه قال: ((رحم الله امرأ)). قال المناوى وإسناده صحيح.

(2/201)


233- قوله: (اتقو الحديث عني) أي احذروا رواية الحديث عني، والمعنى لا تحدثوا عني (إلا ما علمتم) أنه من حديثي، يعنى إلا ما علمتم صدقه بالظن الغالب لئلا تقعوا في الكذب علي، فالعلم هنا يشمل الظن، فإنهم إذا جوزوا الشهادة به مع أنها أضيق من الرواية اتفاقا، فلأن تجوز به الرواية أولى، ويؤيده أنه يجوز في الرواية الاعتماد على الخط بخلاف الشهادة عند الجمهور، قاله القاري. (رواه الترمذي) في أول التفسير وحسنه، وفيه سفيان بن وكيع، قال الحافظ: كان صدوقا إلا أنه ابتلي بوراقه فأدخل عليه ما ليس من حديثه، فنصح فلم يقبل، فسقط حديثه، لكنه لم ينفرد برواية هذا الحديث، فقد رواه أحمد من وجه آخر. والظاهر أن الترمذي حسنه لكثرة طرقه وشواهده.
234، 235- قوله: (ولم يذكر) أي ابن ماجه (اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم) يعنى والفاء أيضا من قوله: "فمن" فإنها للتفريع على ما قبله.
236- (39) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)). وفي رواية: ((من قال في القرآن بغير علم

(2/202)


236- قوله: (من قال في القرآن) أي تكلم في لفظه وقراءته أو معناه ومدلوله. (برأيه) أي من تلقاء نفسه من غير تتبع تفسيره في الأحاديث المرفوعة والموقوفة، ومن غير استقراء أقوال الأئمة من أهل اللغة والعربية المطابقة للقواعد الشرعية، بل بحسب ما يقتضيه عقله، وهو مما يتوقف على النقل بأنه لا مجال للعقل فيه كأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وما يتعلق بالقصص والأحكام، أو بحسب ما يقتضيه ظاهر النقل، وهو مما يتوقف على العقل كالمتشابهات التي أخذ المجسمه بظواهرها، وأعرضوا عن استحالة ذلك في العقول، أو بحسب ما يقتضيه بعض العلوم الإلهية مع عدم معرفته ببقيتها وبالعلوم الشرعية فيما يحتاج لذلك، ولذا قال البيهقي: المراد رأي غلب من غير دليل قام عليه، أما ما يشده برهان فلا محذور فيه، فعلم أن علم التفسير إنما يتلقى من النقل، ومن أقوال الأئمة، ومن المقاييس العربية والقواعد الأصولية المبحوث عنها في علم أصول الفقه أو أصول الدين. وقال النيسابورى ما محصله: لا يجوز أن يراد أن لا يتكلم أحد في القرآن إلا بما سمعه، فإن الصحابة قد فسروه واختلفوا فيه على وجوه، وليس كل ما قالوه سمعوه منه، ولأنه لا يفيد حينئذ دعاءه لابن عباس: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل))، فالنهي بوجهين أحدهما أن يكون له في الشيء رأى وإليه ميل من طبعه وهواه فيتأول على وفقه ليحتج على تصحيح غرضه، وهذا قد يكون مع علمه أن ليس المراد بالآية ذلك، ولكن يلبس على خصمه، وقد يكون مع جهله بأن يكون الآية محتملة له لكن رجحه لرأيه، ولو لاه لما يترجح ذلك الوجه له، وقد يكون له غرض صحيح، كمن يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي ويستدل بقوله ?اذهب إلى فرعون إنه طغى? [24:20]، ويشير إلى قلبه. والثاني أن يتسارع إلى التفسير بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع في غرائبه ومبهماته وفيما فيه من الحذف والتقديم، فالنقل والسماح لا بد منه في ظاهر التفسير أولا ليتبقى به مواضع

(2/203)


الغلط، ثم بعد ذلك يتسع للتفهيم والاستنباط، وما عدا هذين الوجهين فلا وجه للمنع فيه مادام على قوانين العلوم العربية والقواعد الأصلية والفرعية. وقال الشاه ولي الله الدهلوي: يحرم الخوض في التفسير لمن لا يعرف اللسان الذي نزل القرآن به، والمأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين، ومن شرح غريب وسبب نزول وناسخ ومنسوخ، وارجع للتفصيل إلى تحفة الأحوذي (ج4:ص65)، وهذه الرواية تتمة حديث ابن عباس السابق المروي عند الترمذي، أعنى ((اتقوا الحديث عني...)) الخ. وقد حسنه الترمذي. (وفي رواية) أخرى للترمذي وغيره (من قال في القرآن بغير علم) أي بغير دليل يقيني أو ظني نقلي أو عقلي مطابق للشرعي. قال الحافظ ابن كثير: أصح الطرق في التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، قال تعالى: ?وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم? [44:16] وإذا لم نجد
فليتبوأ مقعده من النار)) رواه الترمذي.
237- (40) وعن جندب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ))

(2/204)


التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح، لاسيما علماؤهم وكبراؤهم كالخلفاء الأربعة الراشدين، وعبدالله بن مسعود، وعبدالله بن عباس. وإذا لم تجد التفسير في القرآن، ولا في السنة، ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين، كمجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير، وغيرهم من التابعين. وقال بعضهم: أقوال التابعين في الفروع ليست بحجة، فكيف تكون حجة في التفسير. يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح. أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب أو أقوال الصحابة في ذلك، فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام – انتهى. كلام ابن كثير ملخصا. (رواه الترمذي) في أول التفسير من طريق محمود بن غيلان، عن بشر بن السري، عن الثوري، عن عبدالأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وقال: حديث حسن صحيح. وهكذا رواه النسائي، وابن جرير من طرق عن الثوري. ورواه أبوداود عن مسدد عن أبي عوانة عن عبدالأعلى به، كذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (ج1:ص8)، ولم أجده في سنن أبي داود، ويظهر من مختصر جامع المواريث للمزي، ومن تخريج الإحياء للحافظ العراقي أن الحديث عند أبي داود في كتاب العلم في سننه من رواية ابن العبد. قال العراقي في تخريجه (ج1:ص33): حديث ((من فسر القرآن برأية فليتبوأ مقعده من النار)) للترمذي من حديث ابن عباس وحسنه، وهو عند أبي داود من رواية ابن العبد، وعند النسائي في الكبرى-انتهى. وابن العبد، هو أبوالحسن علي بن محمد بن العبد، المعروف بابن العبد، أحد من روى السنن عن أبي داود. وقال الزبيدي في شرح الإحياء

(2/205)


(ج1:ص257): أخرجه الترمذى وصححه، وابن الأنباري في المصاحف، والطبراني في الكبير والبيهقي في الشعب، كلهم من رواية عبدالأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
237- قوله: (وعن جندب) بضم الجيم، والدال تضم وتفتح، هو ابن عبدالله بن سفيان البجلى ثم العلقي، أبوعبدالله، وقد ينسب إلى جده فيقال: جندب بن سفيان. سكن الكوفة ثم البصرة، روى عنه أهل المصرين، صحابي لكن ليست صحبته القديمة. له ثلاثة وأربعون حديثا، اتفقا على سبعة، وانفرد مسلم بخمسة. مات في فتنة ابن الزبير، وذكره البخاري في التاريخ فيمن توفي من الستين إلى السبعين. (من قال في القرآن) أي لفظه أو معناه (برأيه) أي بمجرد عقله ومن تلقاء نفسه من غير معرفة بأصول العلم وفروعه من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين واللغة وقواعد العربية. (فأصاب) أي ولو صار مصيبا بحسب الاتفاق. (فقد أخطأ) أي فهو مخطئ بحسب الحكم الشرعي، قال
رواه الترمذي، وأبوداود.
238- (41) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المراء في القرآن كفر)) رواه أحمد، وأبوداود.

(2/206)


ابن حجر: أي أخطأ طريق الاستقامة بخوضه في كتاب الله بالتخمين والحدس؛ لتعديه بهذا الخوض مع عدم استجماعه لشروطه فكان آثما به مطلقا، ولم يعتد بموافقته للصواب؛ لأنها ليست عن قصد ولا تحر بخلاف من كملت فيه آلات التفسير، فإنه مأجور بخوضه فيه وإن أخطأ؛ لأنه لا تعدي منه، كالمجتهد في الأحكام؛ لأنه بذل وسعه في طلب الحق، واضطره الدليل إلى ما رآه، فلم يكن منه تقصير بوجه. قال الماوردى: قد حمل بعض المتورعة هذا الحديث على ظاهره، وامتنع أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده ولو صحبها الشواهد، ولم يعارض شواهده نص صريح. وهذا عدول عما تعبدنا بمعرفته من النظر في القرآن واستنباط الأحكام منه، كما قال تعالى: ?لعمله الذين يستنبطونه منهم? [83:4]، ولو صح ما ذهب إليه لم يعلم بالاستنباط، ولما فهم الأكثر من كتابه تعالى شيئا، وإن صح الحديث فتأويله أن من تكلم في القرآن بمجرد رأيه ولم يعرج على سوى لفظه وأصاب الحق فقد أخطأ الطريق، وإصابته اتفاق، إذ الغرض أنه مجرد رأي لا شاهد له، ذكره السيوطي. (رواه الترمذي) في أول التفسير (وأبوداود) في العلم، وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى، وابن جرير والبغوي وابن الأنباري وابن عدي والطبراني والبيهقي، كلهم من طريق سهيل بن أبي حزم، تفرد به عن أبي عمران الجوني عن جندب، وقد تكلم في سهيل، أحمد والبخاري والنسائي وغيرهم. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف.

(2/207)


238- قوله: (المراء في القرآن كفر) "المراء" المجادلة على مذهب الشك والريبة، واختلفوا في بيان المراد منه ههنا فقيل: أراد الشك في كون القرآن كلام الله. وقيل: أراد المجادلة في الآي المتشابهة المؤدية إلى الجحود، فسماه كفرا باسم ما يخاف عاقتبه. وقيل: أراد الشك في القراءة والاختلاف في اللفظ، بأن يقول الرجل على حرف فيقول الآخر ليس هو هكذا، وكلاهما منزل مقروبهما، فإنكار أحدهما قراءة صاحبه يخرجه إلى الكفر؛ لأنه نفى حرفا أنزل الله على صاحبه. وقيل: هو الجدال في آيات القدر ونحوه مما نازع فيه أهل الأهواء، لا أبواب الحلال والحرام، فإنه قد جرى بين الصحابة ومن بعدهم لإظهار الحق ليتبع لا للغلبية. وقال الطيبي: هو أن يروم تكذيب القرآن بالقرآن ليدفع بعضه ببعض ويطرق إليه قدحا وطعنا، فينبغي أن يجتهد في التوفيق بين المتخالفين على وجه يوافق عقيدة السلف، فإن لم يتيسر له فليعتقد أنه من سوء فهمه وليكله إلى الله. قلت: لا مانع من الجمع فيحمل الحديث على جميع هذه المعاني. (رواه أحمد وأبوداود) في السنة، وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه، والحاكم، ورواه الطبراني من حديث زيد بن ثابت، ورجاله موثقون، وعن عبدالله بن عمرو، وفيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف جدا.
239- (42) وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قوما يتدارؤن في القرآن، فقال: ((إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض. وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه)) رواه أحمد، وابن ماجه.

(2/208)


239- قوله: (يتدارؤن) أي يتمارون (في القرآن) بأن يدفع كل قول صاحبه بما يقع له من القول. قال الشاه ولي الله: يحرم التدارؤ بالقرآن وهو أن يستدل واحد بآية فيرده بآية أخرى طلبا لإثبات مذهب نفسه وهدم وضع صاحبه، أو ذهابا إلى نصرة مذهب بعض الأئمة على مذهب بعض، ولا يكون جامع الهمة على ظهور الصواب، والتدارؤ بالسنة مثل ذلك. قال المظهر: مثاله قول أهل السنة: الخير والشر من الله تعالى. لقوله تعالى: ?قل كل من عند الله? [78:4]، ويدفعه القدري بقوله: ?ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك? [79:4]، فنهوا. فالطريق أن يؤخذ ما أجمعوا عليه ويأول الآية الأخرى، كما نقول: انعقد الإجماع على أن الكل بتقدير الله، وأما قوله: ?ما أصابك من سيئة? فخارج عن مسئلة القضاء والقدر، فإن معناه: ما أصابك من هزيمة وتلف مال ومرض فهو جزاء ما عملت من الذنوب، كما قال: ?وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيدكم ويعفوا عن كثير? [30:42]. (إنما هلك من كان قبلكم بهذا) بسبب التدارؤ، أو بمثل هذا الإختلاف، و"ضربوا" بيان له يعني فيحرم التدارؤ بالقرآن. (ضربوا كتاب الله) أي جنسه (بعضه ببعض) أي دفعوا بعضه ببعض، وردوا ما لا يوافق مرادهم. وقيل: صرفوا بعضه ببعض عن المعنى المراد منه إلى أهوائهم، من ضرب الدابة إذا أراد صرفها. (وإنما نزل كتاب الله) المراد به الجنس. (فلا تكذبوا بعضه ببعض) بل قولوا: كل ما أنزله الله على رسوله حق. أو بأن تنظروا إلى ظاهر لفظين منه مع عدم النظر إلى القواعد التي تصرف أحدهما عن العمل بنسخه أو بتخصيصه أو تقييده أو تأويله، فإن ذلك يؤدى على قدح في الدين. (فما علمتم منه) أي علما موافقا للقواعد (فقولوا) به. (وما جهلتم) أي منه كالمتشابهات وغيرها. (فكلوه) بكسر الكاف أمر من وكل يكل أي ردوه وفوضوه. (إلى عالمه) وهو الله تعالى، أو من هو أعلم منكم من العلماء، ولا تلقوا معناه من تلقاء أنفسكم. (رواه أحمد)

(2/209)


(ج2:ص185) من رواية عبدالرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. (وابن ماجه) في باب القدر من السنة نحوه من طريق أبي معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عمرو بن شعيب، وقد أشار إليه المصنف في الفصل الثاني من باب الإيمان بالقدر بعد ذكر حديث أبي هريرة، وأخرجه أيضاالبيهقي في شعب الإيمان.
240- (43) وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكل آية منها ظهر وبطن، ولكل حد مطلع))

(2/210)


240- قوله: (أنزل القرآن على سبعة أحرف) وفي رواية ثلاثة أحرف وفي أخرى عشرة أحرف. وأجيب بأنه أخبر أولا بالقليل ثم بالكثير. وقوله: "على سبعة أحرف" حال لا صلة "أنزل" أي أنزل القرآن حال كونه مشتملا على سبعة أحرف، والحرف لغة: طرف كل شيء. وبه سمي حروف الهجاء؛ لأنها أطراف الكلمة. واختلفوا في معنى الحديث على أربعين قولا، ذكرها السيوطي في الإتقان مع العزو لقائليها، وأكثرها غير مختار، والظاهر عندنا – والله أعلم بمراد كلام نبيه – أن عدد السبعة فيه للتحديد والتعيين، لا للتكثير والتوسعة، والمعنى أن القرآن أنزل على سبعة أوجه، يجوز أن يقرأ بكل وجه منها، وليس المراد أن كل كلمة ولا جملة منه تقرأ على سبعة أوجه، بل المراد أن غاية ما انتهى إليه عدد القراءات المفرقة في القرآن أو في الكلمة الواحدة منه إلى سبعة، وأما ما يوجد من بعض الكلمات يقرأ على أكثر من سبعة أوجه فهو ممما لا يثبت الزيادة. وكان اختلاف هذه الأحرف السبع المقصورة على السماع من النبي- صلى الله عليه وسلم - من جهات: منها تغيير اللغة وإبدال اللفظ بمرادفه. ومنها الاختلاف في كيفية الأداء والنطق. ومنها زيادة لفظ ونقصه. ثم إن الأحرف السبع المشهورة التي يقرأها الناس اليوم هي حرف واحد من الأحرف السبع المذكورة في الحديث المباحة للتيسير على الناس في أول الأمر، قد أجمع الصحابة في عهد عثمان على ترك الستة منها لفقدان الحاجة إليها، ولرفع الخلاف الذي وقع في الناس بإنكار بعضهم قراءة بعض، وتكفير كل من الفريقين الآخر، واتفقوا على لغة قريش بعد ما جمعه زيد بن ثابت بأمر عثمان، لما لم يكن في ذلك ترك واجب ولا فعل حرام، وهي التي استقر الأمر عليها في العرضة الأخيرة التي عرضها النبي - صلى الله عليه وسلم - على جبريل، والمصاحف العثمانية مشتملة عليها جامعة لها، فلا يجوز الآن القراءة بخلافها؛ لما أنه لم ينقل إليها بالتواتر، هذا. وههنا أبحاث طويلة مفيدة ارجع

(2/211)


لها إلى عارضة الأحوذي وفتح الباري وتفسير الحافظ ابن جرير. (لكل آية منها) أي من تلك الأحرف السبعة، والجملة الاسمية صفة لسبعة والضمير رابطة. (ظهر وبطن) وفي رواية الطبراني: لكل حرف منها ظهر وبطن. قيل: الظهر ما ظهر معناه لأهل العلم من غير روية، والبطن بخلافه. وقيل: الظهر ما يبينه التفسير أي النقل والرواية، والبطن ما يستكشفه التأويل أي الفهم والدراية. وقيل: الظهر القراءة والتلاوة، والبطن التدبر والفهم. وقيل: الظهر الإيمان به والعمل بمقتضاه، والبطن التفاوت في فهمه. وقال الشاه ولي الله: أكثر ما في القرآن بيان صفات الله تعالى وآياته، والأحكام، والقصص، والاحتجاج على الكفار، والموعظة بالجنة والنار، فالظهر الإحاطة بنفس ما سبق الكلام له، والبطن في آيات الصفات التفكر في آلاء الله والمراقبة، وفي آيات الأحكام الاستنباط بالإيماء والإشارة والفحوى والاقتضاء، وفي القصص معرفة مناط الثواب والمدح أو العذاب والذم، وفي العظة رقة القلب وظهور الخوف والرجاء وأمثال ذلك. (ولكل حد مطلع) وفي رواية الطبراني "ولكل حرف
رواه في شرح السنة.
241- (44) وعن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((العلم ثلاثة: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة،

(2/212)


حد، ولكل حد مطلع، فمعنى قوله: "لكل حرف حد" أي نهاية في التلاوة، لا تجوز مخالفتها والتجاوز منها إلى غير المسموع، وكذا نهاية في التفسير فلا يجاوز إلى ما يخالف الكتاب والسنة وما عليه أصحابه - صلى الله عليه وسلم -. وقال العلقمي: أي ينتهي إلى ما أراد الله من معناه، وقيل: لكل حكم مقدار من الثواب والعقاب. وقوله "ولكل حد مطلع" المراد بالحد الأحكام. والمطلع بشدة الطاء وفتح اللام، مكان الاطلاع من موضع عال، يقال: مطلع هذا الجبل من مكان كذا أي مأتاه ومصعده منه. والمعنى أن لكل حد من حدود الله، وهي أحكام الدين التي شرع للعباد موضع اطلاع من القرآن، فمن وفق أن يرتقي ذلك المرتقى اطلع منه على ذلك الحد المتعلق بذلك المطلع. وقيل: أي لكل حد وطرف من الظهر والبطن مطلع، أي مصعد، أي موضع يطلع عليه بالترقي إليه، فمطلع الظهر تعلم العربية وتتبع ما تتوقف عليه معرفة الظاهر من أسباب النزول والناسخ وغير ذلك، ومطلع البطن تزكية النفس والرياضة، ويقرب منه قول الشاه ولي الله: أن مطلع كل حد الاستعداد الذي به يحصل، كمعرفة اللسان والآثار، وكلطف الذهن واستقامة الفهم. (رواه) أي البغوى، مصنف المصابيح (في شرح السنة)، وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير. والجملة الأولى جاءت من أحد وعشرين صحابيا، ذكر السيوطي في الإتقان أسماءهم، ومن ثم نص أبوعبيد على أنها متواترة، أي لفظا. وأما تواترها المعنوي فلا خلاف فيه.

(2/213)


241- قوله: (العلم) أي العلم الذي هو أصل علوم الدين، واللام للعهد الذهني. (آية محكمة) أي علمها، فالنكرة عام في الإثبات كقوله: ?علمت نفس? [14:81]، والمضاف مقدر قبلها. وكذا قوله: "أو سنة قائمة"، والمراد بالمحكمة غير المنسوخة، أو ما لا يحتمل إلا تأويلا واحدا. وهي إشارة إلى كتاب الله، وخص المحكم بالذكر؛ لأن المحكمات هن أم الكتاب وأصله، ومحفوظة من الاحتمال والاشتباه. (أو سنة قائمة) أي ثابتة إسنادا بأن تكون صحيحة، أو حكما بأن لا تكون منسوخة، و"أو" للتنويع. (أو فريضة عادلة) قيل: المراد بالفريضة ما يجب العمل به، وبالعادلة المساوية لما يؤخذ من القرآن والسنة في وجوب العمل، فهذا إشارة إلى الإجماع والقياس، والظاهر أن المراد بالعادلة أي في القسم، وبالفريضة كل حكم من أحكام الفرائض يحصل به العدل في قسمة التركات بين الورثة، ففيه حث على تعلم الفرائض وتحريض عليه، ويدل صنيع أبي داود في سننه أنه اختار هذا المعنى حيث أورد هذا الحديث في الفرائض، وكذا أشار إليه ابن ماجه فإنه ذكر الحديث في باب اجتناب الرأي والقياس من كتاب السنة، فكأنه قصد بذلك الرد على من حمل قوله:
وما كان سوى ذلك فهو فضل)) رواه أبوداود، وابن ماجه.
242- (45) وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يقص إلا أمير، أو مأمور، أو مختال)) رواه أبوداود.

(2/214)


"فريضة عادلة" على الأحكام المستنبطة بالرأي والقياس، يعنى أراد إبطال الرأي المصطلح عليه بين الفقهاء، وقيل: بل أراد إبطال الرأي بمعنى الحكم بمجرد الهوى. (وما كان سوى ذلك فهو فضل) يعنى كل علم سوى هذه العلوم الثلاثة وما يتعلق بها مما يتوقف هذه الثلاثة عليه ويستخرج منه، فهو زائد لا ضرورة في معرفته. قال الشاه ولي الله: قوله: "العلم ثلاثة..." الخ. هذا ضبط وتحديد لما يجب عليهم بالكفاية، فيجب معرفة القرآن لفظا، ومعرفة محكمة بالبحث عن شرح غريبه، وأسباب نزوله، وتوجيه معضله، وناسخه ومنسوخه، فأما المتشابه فحكمه التوقف أو الإرجاع إلى المحكم. والسنة القائمة ما ثبت في العبادات والارتفاقات من الشرائع والسنن مما يشتمل عليه علم الفقه، والقائمة ما لم ينسخ ولم يهجر ولم يشذ راويه وجرى عليه جمهور الصحابة والتابعين، والفرضة العادلة الأنصباء للورثة، ويلحق به أبواب القضاء مما سبيله قطع المنازعة بين المسلمين بالعدل، فهذه الثلاثة يحرم خلو البلد عن عالمها لتوقف الدين عليه، وما سوى ذلك من باب الفضل والزيادة- انتهى باختصار. (رواه أبوداود) وسكت عنه (وابن ماجه)، وأخرجه أيضا الحاكم، وفيه عبدالرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وقد تكلم فيه غير واحد، وكان البخاري يقوي أمره وقال: مقارب الحديث، ولم يذكره في الضعفاء، وفيه أيضا عبدالرحمن بن رافع التنوخي، وقد غمزه البخاري وأبوحاتم.

(2/215)


242- قوله: (وعن عوف بن مالك الأشجعي) الغطفاني صحابي مشهور، وشهد فتح مكة، ويقال: كانت معه راية أشجع يوم الفتح، ثم سكن دمشق. له سبعة وستون حديثا، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بخمسة. روى عنه جماعة. قال الواقدي: شهد خيبر، ونزل حمص، وبقي إلى خلافة عبدالملك، ومات سنة (73). (لا يقص) القص التحدث بالقصص والأخبار والمواعظ، أي لا يتكلم بالقصص والمواعظ، وهو نفي أي خبر لا نهي؛ لأنه لو حمل على النهي الصريح لزم أن يكون المختال مأمورا بالاقتصاص. والمعنى: لا يصدر هذا الفعل إلا عن هؤلاء الثلاثة، وقد علم أن الاقتصاص مندوب إليه فيجب تخصيصه بالأمير والمأمور أي المأذون له من الأمير دون المختال، وهذا كما يقال عند رؤية الأمر الخطير: لا يخوض فيه إلا حكيم عارف بكيفية الورود، أو جاهل لا يدري كيف يدخل ويخرج فيهلك، قاله الطيبي. (أو مختال) أي مفتخر متكبر طالب للرئاسة. وفي الحديث الزجر عن الوعظ بغير إذن الإمام؛ لأنه أعرف بمصالح الرعية، فمن رأى فيه حسن العقيدة وصدق الحال يأذن له أن يعظ الناس وإلا فلا. (رواه أبوداود) في العلم وسكت عنه. وقال المنذري: فيه عباد بن عباد الخواص وفيه مقال. قلت: قد وثقه ابن معين والعجلي والفسوي، والحديث أخرجه
243- (46) وراواه الدارمي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وفي روايته ((أو مراء)) بدل ((أو مختال)).
244- (47) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه، ومن أشارة على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه)) رواه أبوداود.
245- (48) وعن معاوية قال: ((إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الأغلوطات)) رواه أبوداود.
أيضا الطبراني في الكبير، وفي روايته "متكلف" بدل "مختال".

(2/216)


243- قوله: (ورواه الدارمي عن عمرو) الخ، وأخرجه أيضا أحمد (ج6:ص23)، وأخرج البيهقي نحوه عن عمرو بن مالك، وعن كعب بن عياض، والطبراني في الكبير عن عبادة بن الصامت بإسناد حسن. (وفي روايته) أي رواية الدارمي (مراء) يعني يرائي الناس بقوله وعمله، لا يكون وعظه وكلامه حقيقة. (بدل أو مختال) بالخاء المعجمة من الاختيال.
244- قوله: (من أفتي) على بناء المفعول، قال القاري: يعني كل جاهل سأل عالما عن مسئلة فأفتاه العالم بجواب باطل فعمل السائل بها ولم يعلم بطلانها فإثمه على المفتي إن قصر في اجتهاده- انتهى. والحاصل أنه من وقع في خطأ بفتوى عالم فالإثم على ذلك العالم لا على متبعه، وهذا إذا لم يكن الخطأ في محل الاجتهاد، أو كان إلا أنه وقع لعدم بلوغه في الاجتهاد حقه، وفيه زجر عن الإفتاء بغير علم. (ومن أشار على أخيه بأمر) أي أمر أخاه المستشير بأمر (يعلم) المراد بالعلم ما يشمل الظن. (أن الرشد) أي المصلحة (في غيره) أي غير ما أشار إليه. (فقد خانه) أي خان المستشار المستشير. إذ ورد أن المستشار مؤتمن، ومن غشنا فليس منا. (رواه أبوداود) في العلم وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضا أحمد، والحاكم، وأخرجه ابن ماجه في السنة مقتصرا على الفصل الأول بنحوه.

(2/217)


245- قوله: (نهى عن الأغلوطات) جمع الأغلوطة بضم الهمزة، أي عن سؤال المسائل التي يغالط به العلماء لإشكال فيها، قيل: المراد بها المسائل التي يقع المسئول عنها في الغلط، ويمتحن بها أذهان الناس. وإنما نهى عنها لوجوه منها: أن فيها إيذاء وإذلالا للمسؤول عنه ، وعجبا وبطرا لنفسه ، ومنها: أنها تفتح باب التعمق ، وإنما الصواب ما كان عند الصحابة والتابعين أن يوقف على ظاهر السنة، وما هو بمنزلة الظاهر من الإيماء والاقتضاء والفحوى، ولا يمعن جدا، وأن لا يقتحم في الاجتهاد حتى يضطر إليه ويقع الحادثة، فإن الله تعالى يفتح عند ذلك العلم عناية منه بالناس، وأما تهيئته من قبل فمظنة الغلط. (رواه أبوداود) في العلم، وسكت عنه، وفي إسناده عبدالله بن سعد البجلي الدمشقي. قال أبوحاتم: مجهول. وقال ابن حبان في ثقاته: يخطئ، وأخرجه أيضا أحمد.
246- (49) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تعلموا الفرائض والقرآن، وعلموا الناس، فإني مقبوض)) رواه الترمذي.
247- (50) وعن أبي الدرداء قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: ((هذا أوان يختلس فيه العلم من الناس، حتى لا يقدروا منه على شيء)) رواه الترمذي.

(2/218)


246- قوله: (تعلموا الفرائض) قيل: المراد بالفرائض هنا علم الميراث، وعلى هذا بنى الترمذي الكلام في جامعه حيث ذكر هذا الحديث في باب تعليم الفرائض. وقيل: المراد بالفرائض السنن الصادرة منه - صلى الله عليه وسلم -، المشتملة على الأوامر والنواهي الدالة عليها بقرينة ذكر القرآن، فكأنه قال: تعلموا الكتاب والسنة. وقيل: المراد ما فرض الله على عباده. وقيل: أراد جميع ما يجب معرفته. (وعلموا الناس) المذكور. (فإني مقبوض) أي سأقبض وينقطعان. (رواه الترمذي) من طريق عوف، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة. قال الحافظ في الفتح: رواته موثقون، إلا أنه اختلف فيه على عوف الأعرابي اختلافا كثيرا، فقال الترمذي: إنه مضطرب، والاختلاف عليه أنه جاء عنه من طريق ابن مسعود، وجاء عنه من طريق أبي هريرة ، وفي أسانيدها عنه أيضا اختلاف – انتهى. قلت: أخرجه من حديث ابن مسعود أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وصححه. وقد ذكره المصنف في آخر الفصل الثالث، ولفظه عند ابن ماجه، والدارقطني، والحاكم من حديث أبي هريرة: ((تعلموا الفرائض فإنها نصف العلم، وإنه أول ما ينزع من أمتي)). وفي سنده حفص بن عمر بن أبي العطاف، قال البخاري: منكر الحديث، وضعفه أيضا ابن معين، والنسائي، وأبوحاتم وابن حبان.

(2/219)


247- قوله: (فشخص) أي رفع (ببصره) أو نظر بعينه. (ثم قال) الخ. كأنه - صلى الله عليه وسلم - لما شخص ببصره إلى السماء وانتظر الوحي فأوحى إليه باقتراب أجله، فقال: ((هذا أوان يختلس فيه العلم)) الخ. فيكون المراد بالعلم الوحي (هذا أوان) أي وقت (يختلس فيه) أي يختطف ويسلب بسرعة، وهي صفة "أوان". (العلم) قيل: هو محمول على آخر الزمان حين ينتزع العلم رأسا بقبض العلماء، وعليه بنى ابن ماجه الكلام حيث ذكر حديث زياد بن لبيد، الذي بمعنى حديث أبي الدرداء في الفتن. (رواه الترمذي) في العلم، وقال: حديث حسن غريب. وأخرجه أيضا النسائي والحاكم (ج1:ص99، 100) وقال: هذا إسناد صحيح. وأخرجه أحمد (ج6:ص26، 27) والحاكم (ج1:ص99، 100) وصححه من حديث عرف بن مالك الأشجعي، وأحمد (ج4:ص218، 219) وابن ماجه والحاكم (ج1:ص99، 100) من حديث زياد بن لبيد بإسناد فيه انقطاع.
248- (51) وعن أبي هريرة رواية: ((يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم، فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة)) رواه الترمذي، وفي جامعه "قال ابن عيينة: إنه مالك بن أنس"، ومثله عن عبدالرزاق، قال إسحاق بن موسى: وسمعت ابن عيينة أنه قال: هو العمري الزاهد،

(2/220)


248- قوله: (رواية) بالنصب على التمييز، وهو كناية عن رفع الحديث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإلا لكان موقوفا، وقد صرح ابن عيينة برفعه فقال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" في رواية الحميدى، ومسدد، وعبدالرحمن بن بشر عنه عند الحاكم. قال الحاكم: وقد كان ابن عيينة ربما يجعله رواية فذكره بسنده، ثم قال: وليس هذا مما يوهن الحديث، فإن الحميدى هو الحكم في حديثه لمعرفته به وكثرة ملازمته له. (يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل) أي المحاذي لأكبادها، يعنى يرحلون ويسافرون في طلب العلم، قال الطيبي: ضرب أكباد الإبل، كناية عن السير السريع؛ لأن من أراد ذلك يركب الإبل، ويضرب على أكبادها بالرجل. (فلا يجدون أحدا) أي في العالم. (أعلم من عالم المدينة) قيل: هذا في زمان الصحابة والتابعين، وأما بعد ذلك فقد ظهرت العلماء الفحول في كل بلدة من بلاد الإسلام أكثر ما كانوا بالمدينة، فلإضافة للجنس، وهذا مخالف لما ذهب إليه ابن عيينة وعبدالرزاق كما سيأتي. وقيل: هو إخبار عن آخر الزمان حين يأرز العلم والدين إلى المدينة. (رواه الترمذي) في العلم، وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه أيضا الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. وأخرج الطبراني نحوه عن أبي موسى، وفيه عبدالله بن محمد بن عقيل، وفيه مقال. (وفي جامعه) أي وذكر الترمذي تفسيره في جامعه بقوله: قال ابن عيينة) وهو سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي أبومحمد الكوفي ثم المكي. قال الحافظ: ثقة حافظ فقيه إمام حجة إلا أنه تغير حفظه بآخره، أي سنة سبع وتسعين ومائة قبل موته بأشهر، وكان ربما دلس لكن عن الثقات. مات في رجب سنة (198) وله إحدى وتسعون سنة. روى عن الإمام مالك وغيره ممن لا يحصون. وروى عنه الشافعي، وعبدالرزاق وأحمد بن حنبل، وابن معين، وإسحاق بن راهوية، وغيرهم وطوائف كثيرون. (إنه) أي علم المدينة (مالك بن أنس) هو إمام دارالهجرة، صاحب المذهب

(2/221)


المشهور، وصاحب الكتاب المؤطا (ومشله) أي مثل قول ابن عيينة في مالك منقول. (عن عبدالرزاق) وهو عبدالرزاق بن همام بن نافع الحميرى، مولاهم أبوبكر الصنعاني. قال في التقريب: ثقة، حافظ مصنف شهير، عمي في آخره فتغيره، وكان يتشيع، روى عن مالك وابن عيينة والثوري والأوزاعي وخلق. وروى عنه ابن عيينة وأحمد وإسحاق وعلي ويحيى وغيرهم. مات سنة إحدى عشرة ومائتين، وله خمس وثمانون سنة. (قال إسحاق بن موسى) الخطمي أبوموسى الأنصاري المدني، قاضي نيسابور، وشيخ مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. قال الحافظ: ثقة متقن. مات سنة (244). (أنه قال: هو) أي المراد في الحديث (العمري) نسبة إلى عمر بن الخطاب (الزاهد) فاختلف النقل عن ابن عيينة في تعيين عالم المدينة، ويمكن أن يكون له قولان في ذلك، أو الأول حكاية لقول
وإسمه عبدالعزيز بن عبدالله.
249- (52) وعنه فيما أعلم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إن الله عزوجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها))

(2/222)


التابعين، فإنه قال:كانوا أي التابعون يرون أنه مالك بن أنس. (وإسمه عبدالعزيز بن عبدالله) قال في التقريب: عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالله بن عمر بن الخطاب العدوي المدني، ثقة من اتباع التابعين، وهو والد عبدالله الزاهد العمري-انتهى. وكان نبيها، بارع الجمال، وثقة النسائي، وابن حبان. كذا فسر الترمذي "العمري الزاهد" بعبدالعزيز بن عبدالله، وهو خطأ منه، والصواب أن "العمري الزاهد" هو ابنه عبدالله بن عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالله بن عمر بن الخطاب العدوي المدني. قال ابن حبان: كان من أزهد أهل زمانه وأشدهم تخليا للعبادة. وقال ابن سعد: كان عابدا ناسكا عالما. وقال الزبير: كان أزهد أهل زمانه وأعبدهم. والدليل على ما قلنا من أن اسم "العمري الزاهد" عبدالله بن عبدالعزيز بن عبدالله كلام الحافظ في تهذيب التهذيب (ج5:ص302، 303) فارجع إليه. وقال في التقريب: عبدالله بن عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالله بن عمر بن الخطاب العمري الزاهد، ثقة، مات سنة (184) وله ست وثمانون. كان ابن عيينة يقول: إنه عالم المدينة – انتهى. هذا، وقد حمل بعضهم الحديث على آخر الزمان فقال: الظاهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد به الإخبار عن حال آخر الزمان حين يأرز العلم والدين إلى المدينة كما يظهر من بعض الأحاديث. قال الشيخ عبدالحق الدهلوى: وهذا القول أقرب إلى الصواب. قلت: بل حمله على أول الأمر هو الأقرب كما فهمه أكثر علماء الأمة.

(2/223)


249- قوله: (فيما أعلم) بضم الميم مضارعا. الظاهر أنه قول أبي علقمة الراوى عن أبي هريرة يقول: في علمي أن أباهريرة رفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أي رواه مرفوعا لا موقوفا من قوله، وهو وإن لم يجزم برفعه لكن مثل هذا لا يقال من قبل الرأي، ولا مسرح فيه للاجتهاد، إنما هو من شأن النبوة فتعين كونه مرفوعا. (يبعث) أي يقيض (لهذه الأمة) أي أمة الإجابة، ويحتمل أمة الدعوة. (على رأس كل مائة سنة) أي انتهائه وآخره. قال الطيبي: الرأس مجاز عن آخر السنة، وتسميته رأسا باعتبار أنه مبدأ لسنة أخرى. واختلف في المائة هل تعتبر من المولد النبوي، أو البعثة، أو الهجرة، أو الوفاة؟ قال المناوى: ولو قيل بأقربية الثاني لم يبعد، لكن صنيع السبكي وغيره مصرح بأن المراد الثالث. (من يجدد) مفعول "يبعث" (لها) أي لهذه الأمة (دينها) المراد من تجديد الدين للأمة إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة، والأمر بمقتضاهما، وإماتة البدع والمحدثات، وكسر أهلها باللسان، أو تصنيف الكتب، أو التدريس أو غير ذلك، ولا يعلم ذلك المجدد إلا بغلبة الظن ممن عاصره من العلماء بقرائن أحواله والانتفاع بعلمه، إذ المجدد للدين لا بد أن يكون عالما بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة، ناصرا للسنة، قامعا للبدعة، وأن يعم علمه أهل زمانه، وإنما كان التجديد على رأس كل مائة سنة؛ لانخرام العلماء فيه غالبا، واندراس السنن، وظهور البدع، فيحتاج حينئذ إلى تجديد
رواه أبوداود.
250- (53) وعن إبراهيم بن عبدالرحمن العذري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله،

(2/224)


الدين، فيأتي الله من الخلق بعوض من السلف إما واحدا أو متعددا، كذا في مجالس الأبرار. ولا يلزم أن يكون على رأس كل مائة سنة مجددا واحدا فقط، بل يمكن أن يكون أكثر من واحد، ؛ لأن قوله: "من يجدد" يصلح للواحد وما فوقه. قال الحافظ في الفتح: وهو أي حمل الحديث على أكثر من واحد متجه، فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد إلا أن يدعى ذلك في عمر بن عبدالعزيز، فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها. وأما من جاء بعده فالشافعي وإن كان متصفا بالصفات الجميلة إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد، والحكم بالعدل، فعلى هذا كل من كان متصفا بشيء من ذلك عند رأس المائة هو المراد سواء تعدد أم لا – انتهى. وارجع للتفصيل إلى عون المعبود شرح أبي داود. (رواه أبوداود) في أول الملاحم من طريقين متصل ومعضل، وسكت عنه المنذري، وأخرجه أيضا الحاكم، والبيهقي في المعرفة، وابن عدى في مقدمة الكامل، واتفق الحفاظ على تصحيحه، وممن نص على صحته من المتأخرين الحافظ أبوالفضل العراقي، والحافظ ابن حجر، ومن المتقدمين الحاكم في المستدرك والبيهقي في المدخل.

(2/225)


250—قوله (إبراهيم بن عبدالرحمن العذري) بضم العين وسكون الذال المعجمة، منسوب إلى عذرة بن سعد أبي قبيلة من خزاعة. قال في كنز العمال: هو مختلف في صحبته. قال ابن مندة: ذكر في الصحابة ولا يصح-انتهى. وذكره الحافظ في الإصابة (ج1:ص117) في القسم الرابع من الألف، فقال: إبراهيم بن عبدالرحمن العذري، تابعي، أرسل حديثا فذكره ابن مندة وغيره في الصحابة. وقال الذهبي في الميزان: تابعى مقل ما علته واهيا، أرسل "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله"، رواه غير واحد عن معان بن رفاعة عنه، ومعان ليس بعمدة، ولاسيما أتى بواحد ليس يدرى من هو- انتهى. وقال الحافظ في لسان الميزان (ج1:ص77) بعد ذكر كلام الذهبي هذا: وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يروي المراسيل، وروى حديثه من طريق حماد بن زيد عن بقية، عن معان عنه. (يحمل) أي يحفظ (هذا العلم) أي علم الكتاب والسنة، يعنى يأخذه ويقوم بإحيائه. (من كل خلف) أي من كل قرن يخلف السلف بفتح اللام، وهو الجماعة الماضية، والخلف كل من يجيء بعد من مضى، إلا أنه بالتحريك في الخير، وبالتسكين في الشر، يقال: خلف صدق وخلف سوء، ومعناهما القرن من الناس، وهو هنا بالفتح، قاله الجزري. (عدوله) بضم العين جمع العدل، أي ثقاته، يعني من كان صاحب الديانة والتقوى. قال الطيبي: و"من" إما تبعيضية مرفوعا على أنه فاعل "يحمل" و"عدوله" بدل منه، وإما بيانية على طريقة "لقيني منك أسد" جرد من الخلف الصالح، والعدول الثقات وهم هم،
ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)). رواه البيهقي في كتاب المدخل مرسلا، وسنذكر حديث جابر ((فإنما شفاء العي

(2/226)


كقوله تعالى: ?ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير? [104:3] وعلى التقديرين فيه تفخيم لشأنهم. (ينفون) جملة حالية أو استئنافية. (عنه) أي عن هذا العلم. (تحريف الغالين) أي المبتدعين الذين يتجاوزن في كتاب الله وسنة رسوله عن المعنى المراد فيحرفونه عن جهته، من غلا يغلو ما إذا جاوز الحد. (وانتحال المبطلين) الانتحال ادعاء الشيء لنفسه، كادعاء شعر غيره أو قوله: لنفسه، يعني أن المبطل إذا اتخذ قولا من علمنا يستدل به على باطله أو اعتزى إليه ما لم يكن منه، نفوا عن هذا العلم قوله، ونزهوه عما ينتحله. (وتأويل الجاهلين) أي معنى القرآن والحديث إلى ما ليس بصواب. والحديث كأنه تفسير لحديث أبي هريرة المتقدم في بعث المجدد. قيل: في قوله: "تحريف الغالين" إشارة إلى التشدد والتعمق، وفي "انتحال المبطلين" إلى الاستحسان وخلط ملة بملة. وفي "تأويل الجاهلين" إلى التهاون وترك المأمور به بتأويل ضعيف. وقال الطيبي في معنى الحديث: أي يحمون الشريعة ومتون الروايات من تحريف غلاة الدين، والأسانيد من القلب والانتحال، والمتشابه من تأويل الزائغين. والنحلة هو التشبه بالباطل-انتهى. وهذا معنى ما ورد من قوله: - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمرالله)). رواه الشيخان. (رواه) بعده بياض بالأصل، وألحق "البيهقي في كتاب المدخل" كما ترى، وأخرجه أيضا الحاكم في المستدرك، وابن عدى في الكامل، وأبونصر السجزي في الإبانة، وأبونعيم في الحلية، وابن عساكر في تاريخه كلهم، عن إبراهيم بن عبدالرحمن العذري مرسلا. قال أبونعيم: وروى عن أسامة بن زيد وأبي هريرة كلها مضطربة غير مستقيمة، وأخرجه ابن عدى، والبيهقي، وابن عساكر عن إبراهيم: ثنا الثقة من أشياخنا. وأخرجه الخطيب وابن عساكر عن أسامة بن زيد، وابن عساكر أيضا عن أنس. والديلمي عن ابن عمر، والعقيلي في الضعفاء عن أبي أمامة، والبزار والعقيلي

(2/227)


أيضا عن ابن عمر، وأبي هريرة معا. قال الخطيب: سئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث، وقيل له: إنه كلام موضوع. قال: لا هو صحيح سمعته من غير واحد. كذا في كنز العمال (ج5:ص210). وقال الحافظ في الإصابة (ج1:ص117، 118): أورد الحديث أبونعيم ثم قال: هكذا أي مرسلا رواه الوليد عن معان. ورواه محمد بن سليمان بن أبي كريمة، عن معان، عن أبي عثمان، عن أسامة، ولا يثبت. قلت: ووصل هذا الطريق الخطيب في شرف أصحاب الحديث. وقد أورد ابن عدى هذا الحديث من طرق كثيرة كلها ضعيقة. وقال في بعض المواضع: رواه الثقات عن الوليد، عن معان، عن إبراهيم، قال: حدثنا الثقة من أصحابنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر- انتهى. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج1:ص140) بعد ذكر حديث ابن عمر وأبي هريرة من رواية البزار: فيه عمرو بن خالد القرشي، كذبه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل ونسبة إلى الوضع هذا، ومن أحب البسط فليرجع إلى التقييد والإيضاح (ص116) للعراقي، والتدريب (ص110) للسيوطي، وشرح الألفية (ص125) للسخاوي. (وسنذكر حديث جابر: فإنما شفاء العي) بكسر العين وتشديد الياء، أي العجز
السؤال)) في باب التيمم إن شاء الله تعالى.
251- (54) عن الحسن مرسلا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيى به الإسلام، فبينه وبين النبيين درجة واحدة في الجنة)) رواه الدارمي.
252- (55) وعنه مرسلا، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجلين كانا في بني إسرائيل: أحدهما كان عالما يصلي المكتوبة، ثم يجلس فيعلم الناس الخير، والآخر يصوم النهار ويقوم الليل، أيهما أفضل؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
في العلم والجهل (السؤال) أي عن أهل العلم (في باب التيمم)؛ لأنه أنسب بهذا الباب.

(2/228)


251- قوله: (عن الحسن) هو إذا أطلق في علم الحديث فالمراد البصرى، أي الحسن بن أبي الحسن البصرى، واسم أبيه يسار - بالتحتية والمهملة. الأنصاري مولاهم، وأحد أئمة الهدى. قال الحافظ: ثقة، فقيه، فاضل، مشهور، وكان يرسل كثيرا ويدلس. قال البزار: كان يروي عن جماعة لم يسمع منهم فيتجوز ويقول: حدثنا وخطبنا يعني قومه الذين حدثوا وخطبوا بالبصرة، وهو رأس أهل الطبقة الثالثة يعني أوساط التابعين. مات في رجب سنة (110) وقد قارب التسعين- انتهى. وولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، ورأى عثمان وعليا بالمدينة، ولم يسمع منهما حديثا.وقد أرسل عن كثير من الصحابة. قال ابن المديني: مرسلات الحسن إذا رواها عنه الثقات صحاح، ما أقل ما يسقط منها. وقال محمد بن سعد: كان الحسن جامعا عالما رفيعا فقيها ثقة، مأمونا عابدا ناسكا، كثير العلم، فصيحا جميلا وسيما. ما أرسله فليس بحجة. وقد بسط ترجمته في تهذيب التهذيب (ج2:ص263، 270). (وهو يطلب العلم) الجملة حال من المفعول في "جاءه" (ليحي به الإسلام) لا لغرض فاسد من المال والجاه. (درجة) وهي درجة النبوة (واحدة) أكد الدرجة بواحدة؛ لأنها تدل على الجنسية وعلى العدد، والذي سبق له الكلام هو العدد، والحاصل أن العلماء المخلصين لم تفتهم إلا درجة الوحي. (رواه الدارمي) وكذا ابن عساكر أي عن الحسن مرسلا، وأخرجه ابن النجار عنه عن أنس، والطبراني في الأوسط عن ابن عباس، وفيه محمد بن الجعد، وهو متروك. والخطيب عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس، وابن النجار عن أبي الدرداء.

(2/229)


252- قوله: (سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم - عن رجلين) عن شأنهما وحكمهما (أحدهما كان عالما) أي غلب علمه على عبادته. (يصلي المكتوبة) أي يكتفي بالعبادة المفروضة. (الخير) أي العلم والعبادة وأمثال ذلك تدريسا، أو تأليفا، أو غيرهما. (يصوم النهار) أي دائما أو غالبا. (ويقوم الليل) كله أو بعضه، وقد تعلم فرض علمه. (أيهما أفضل) أي أكثر
((فضل هذا العالم الذي يصلي المكتوبة ثم يجلس فيعلم الناس الخير على العابد الذي يصوم النهار ويقوم الليل كفضلى على أدناكم)) رواه الدارمي.
(56) وعن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم الرجل الفقيه في الدين، إن احتيج إليه نفع، وإن استغني عنه أغنى نفسه)) رواه رزين.
(57) وعن عكرمة أن ابن عباس قال: حدث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين
ثوابا (فضل هذا العالم الذي) الخ. أطنب في الجواب حيث لم يقل الأول أو العالم، لتعظيم شأنه وتقريره في ذهن السامع. (كفضلي على أدناكم) وسببه أن العلم نفعه متعد، والعبادة نفعها قاصر، والعلم إما فرض عين أو كفاية، والعبادة الزائدة نافلة، وثواب الفرض أكثر من ثواب النفل. (رواه الدارمى) وأخرج الترمذي نحوه عن أبي أمامة، وقد تقدم في الفصل الثاني.

(2/230)


253- قوله: (نعم الرجل الفقيه في الدين) "الفقيه" هو المخصوص بالمدح، والجار متعلق به، أي الذي فقه في الدين وعلم من العلوم الشرعية ما ينتفع به وينفع الناس، وليس المراد من يعلم الفروع فقط كما توهم بعضهم . (إن احتيج) بكسر النون وضمها، شرطية مستأنفة لبيان استحقاق المدح أي إن احتاج الناس (إليه) أي إلى فقهه. (نفع) أي غيره. (وإن استغني) على البناء للمفعول. (أغنى نفسه). قال الطيبى: قوبل "نفع" بأغنى ليعم الفائدة، أي نفع الناس وأغناهم بما يحتاجون إليه، ونفع نفسه وأغناها بما يحتاج إليه من قيام الليل، وتلاوة كتاب الله، وغيرها من العبادات. وقال الشيخ عبدالحق الدهلوي في اللمعات: معنى الحديث أن من شأن العلم وما يليق بحاله أن لا يحوج نفسه إلى الخلق طمعا في صحبتهم واختلاطهم ومنافعهم، ولا ينقطع عنهم مطلقا بأن لا يفيدهم بالعلم ويحرمهم عنه، بل إن احتاج الناس إليه بأن اضطروا إليه، ولم يكن هناك عالم سواه فيسألوه عن العلم ليفيدهم ويعلمهم، دخل فيهم للإفادة ونفعهم بالعلم لئلا يضلوا، وإن استغني عنه بأن لا يلجئوا ويضطروا إليه، وكان هناك من يكفيهم في التعليم أغنى نفسه ولم يداخلهم ولا يتذلل لهم بل يستغني عنهم، ويشتغل بالعبادة وبالعلم أيضا بمطالعة الكتاب والسنة والتصنيف ونحوهما. (رواه رزين) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق من طريق عيسى بن عبدالله بن محمد بن عمر بن علي، حدثني أبي عن جده عن علي رفعه، وعيسى هذا، قال الدارقطني: إنه متروك. وقال ابن حبان: يروي عن آبائه أشياء موضوعة. ثم ساق له من موضوعاته أحاديث. وقال أبونعيم: روى عن آبائه أحاديث مناكير لا يكتب حديثه، لا شيء.
254- قوله: (حدث الناس) أي بالآية والحديث والوعظ (كل جمعة) أي في كل أسبوع (مرة) أي في يوم من أيامها، وهذا إرشاد، وقد بين حكمته. (فإن أبيت) أي التحديث مرة وأردت الزيادة. (فمرتين) أي فحدث مرتين.

(2/231)


فإن أكثرت فثلاث مرات، ولا تمل الناس هذا القرآن، ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقص عليهم فتقطع عليهم حديثهم فتلمهم، ولكن أنصت، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه، وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لا يفعلون ذلك)) رواه البخاري.
(فإن أكثرت) أي أردت الإكثار. (ولا تمل الناس هذا القرآن) من الإملال، والملل السامة بمعنى واحد. قال الطيبي: إشارة إلى تعظيمه، فرتب وصف التعظيم على الحكم للإشعار بالعلية، أي لا تحقر هذا العظيم الشأن الذي جبلت القلوب على محبته وعدم الشبع منه، أي وإذا كان ذلك الإكثار يوجب الملل عما هذه أوصافه فما بالك بغيره من العلوم التي جبلت النفوس على النفرة من مشاقها ومتاعبها. وقد تقدم حديث ابن مسعود: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بالموعظة كراهة السآمة علينا)). (ولاألفينك) بضم الهمزة وكسر الفاء، أي لا أجدنك. قال الطيبي: هو من باب لا أرينك، أي لا تكن بحيث ألفينك على هذه، وهي أنك (تأتي القوم) حال من المفعول (وهم في حديث من حديثهم) حال من "القوم" أي والحال أنهم مشغولون عنك. (فتقص) أي قصصا من وعظ أو علم (فتقطع عليهم حديثهم) أي كلامهم الذي هم فيه، والفعلان معطوفان على "تأتي" وهو الظاهر، وقيل: منصوبان على جواب النهي. (فتملهم) منصوب جوابا للنهي، وقيل: مرفوع (ولكن أنصت، فإذا أمروك) وفي البخاري، "فإن أمروك" أي طلبوا منك التحديث (فحدثهم وهم يشتهونه) حال مقيدة، وفيه كراهة التحديث عند من لا يقبل عليه، والنهي عن قطع حديث غيره، وأنه لا ينبغي نشر العلم عند من لا يحرص عليه، ويحدث من يشتهي بسماعه؛ لأنه أجدر أن ينتفع به. (وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه) "السجع" بفتح السين وسكون الجيم موالاة الكلام على روي واحد، وقيل: هو الكلام المقفي من غير مراعاة وزن، ولا يرد عليه ما وقع في الأحاديث الصحيحة من الأدعية؛ لأن

(2/232)


المراد في قوله: "انظر السجع" المعهود وهو سجع الكهان والمتشدقين المتكلفين في محاوراتهم، لا الذي يقع في فصيح الكلام بلا كلفة، فإن الفواصل القرآنية واردة على هذا، ويؤيده ما قال - صلى الله عليه وسلم - في قصة المرأة من هذيل: ((أسجع كسجع الكهان؟))، والمعنى تأمل السجع المتكلف المانع من الخشوع والضراعة المطلوبة في الدعاء، أو المستكره منه، وهو سجع الكهان فاجتنبه ولا تشغل فكرك به لما ذكر. (فإني عهدت) أي عرفت وعلمت (لا يفعلون ذلك) أي تكلف السجع. (رواه البخاري) في الدعوات، وأخرجه أيضا البزار في مسنده، والطبراني عن البزار، كذا في الفتح. وفي الباب عن عائشة أخرجه أحمد. قال الهيثمي (ج1:ص191): رجاله رجال الصحيح. ورواه أبويعلى بنحوه.
255- (58) وعن واثله بن الأسقع قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من طلب العلم فأدركه، كان له كفلان من الأجر، فإن لم يدركه كان له كفل من الأجر)) رواه الدارمي.
256- (59) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، تلحقه من بعد موته)) رواه ابن ماجه، والبيهقي في

(2/233)


255- قوله: (وعن واثلة بن الأسقع) بالقاف بعد السين المهملة، الليثي صحابي مشهور، أسلم قبل تبوك وشهدها، كان من أهل الصفة، فلما قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الشام، وكان يشهد المغازى بدمشق وحمص، مات سنة (85) وقيل: سنة (83). وهو ابن مائة وخمس سنين. له ستة وخمسون حديثا، انفرد له البخاري بحديث، ومسلم بآخر، روى عنه جماعة. (فأدركه) أي حصله. وقيل: "أدركه" أبلغ من "حصله"؛ لأن الإدراك بلوغ أقصى الشيء. (كان له كفلان) أي حظان ونصيبان (من الأجر) أجر مشقة الطلب، وأجر إدراك العلم كالمجتهد المصيب. (كان له كفل من الأجر) أي أجر مشقة الطلب كالمجتهد المخطئ. (رواه الدارمي) وسنده ضعيف جدا، فيه يزيد بن ربيعة الرحبي الدمشقي الصنعاني، قال البخاري: أحاديثه مناكير. وقال النسائي والدارقطني والعقيلي: متروك. وضعفه ابن أبي حاتم وغيره. والحديث أخرجه أيضا الطبراني في الكبير. ورواته ثقات، قاله الهيثمي والمنذري. وأخرجه أيضا أبويعلى، والحاكم في الكنى، والبيهقي في السنن، وابن عساكر.

(2/234)


256- قوله: (إن مما يلحق المؤمن) الجار والمجرور خبر "إن" مقدم على الاسم، أي كائن مما يلحقه، واسمها "علما" وما عطف عليه (من عمله) بيان لما (وحسناته) عطف تفسير (بعد موته) ظرف "يلحق" (علمه) بالتخفيف ويجوز التشديد. (ونشره) هو أعم من التعليم فإنه يشمل التأليف ووقف الكتب. (تركه) أي خلفه بعد موته (أو مصحفا ورثه) من التوريث، أي تركه للورثة ولو ملكا. قيل: وفي معناه الكتب الدينية، فيكون له ثواب التسبب، هذا وما بعده من قبيل الصدقة الجارية حقيقة أو حكما، فهذا الحديث كالتفصيل لحديث "انقطع عمله إلا من ثلاث". و"أو" في هذه الجملة وما بعدها للتفصيل والتنويع. (أو مسجدا بناه) وفي معناه المدارس والمعاهد الدينية (أو نهرا) بفتح الهاء ويسكن (في صحته وحياته) أي أخرجها في زمان كمال حاله، ووفور افتقاره إلى ماله، وتمكنه من الانتفاع به. وفيه ترغيب إلى ذلك ليكون أفضل صدقته، كما يدل عليه جوابه - صلى الله عليه وسلم - لمن قال: ((أي الصدقة أعظم أجرا؟ فقال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح)). وإلا فكون الصدقة جارية لا يتوقف على ذلك. (رواه ابن ماجه) في السنة بإسناد حسن (والبيهقي في
شعب الإيمان.
257- (60) وعن عائشة أنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله عزوجل أوحى إلي أنه من سلك مسلكا في طلب العلم، سهلت له طريق الجنة، ومن سلبت كريمتيه، أثبته عليهما الجنة. وفضل في علم خير من فضل في عبادة. وملاك الدين الورع)) رواه البيهقي في شعب الإيمان.
258- (61) وعن ابن عباس قال: "تدارس العلم ساعة من الليل خير من إحيائها"
شعب الإيمان)، وأخرجه أيضا ابن خزيمة في صحيحه مثله إلا أنه قال: أو نهرا كراه، وقال يعني حفره. ولم يذكر المصحف.

(2/235)


257- قوله: (يقول) حال، والأصل سمعت قوله، فأخر القول وجعل حالا ليفيد الإبهام والتبيين. (أوحي إلى) أي وحيا خفيا غير متلو. (ومن سلبت) أي أخذت (كريمتيه) أي عينيه الكريمتين عليه، وكل شيء يكرم عليك فهو كريمك وكريمتك. والمعنى أعميته، فالأكمه بطريق الأولى. (أثبته) أي أعطيته من الإثابة (عليهما) أي على الكريمتين يعني جازيته على فقدهما والصبر عليهما. (الجنة) مفعول ثان. (وفضل) أي زيادة (في علم خير من فضل في عبادة) قال الطيبي: يناسب أن يقال التنكير فيه أي في "فضل" الأول للتقليل، وفي الثاني للتكثير. (وملاك الدين) أي أصله وصلاحه. قال الجزري: الملاك بالكسر والفتح، قوام الشيء ونظامه، وما يعتمد عليه فيه، ومنه ملاك الدين. وقال الطيبي: الملاك بالكسر ما به إحكام الشيء وتقويته وإكماله، قال: وكان من حق الظاهر أن يقال: ملاك العلم والعمل، فوضع الدين موضعهما تنبيها على أنهما توأمان لا يستقيم مفارقتهما وأنهما لا يكملان بدون الورع. (الورع) بفتحتين، والمراد به التقوى عن المحرمات والشبهات. (رواه البيهقي في شعب الإيمان) صدر الحديث تقدم من حديث أبي هريرة في الفصل الأول، ومن حديث أبي الدرداء في الفصل الثاني. وقوله: "من سلبت كريمتيه أثبته عليهما الجنة"، روي معناه عن جماعة من الصحابة: أنس، وأبي هريرة، وزيد بن أرقم، وعرباض بن سارية. وقوله "فضل في علم" الخ. أخرجه البزار والطبراني في الأوسط، والحاكم عن حذيفة، والطبراني في الكبير عن ابن عباس بنحوه، وفيه سوار بن مصعب، ضعيف جدا.

(2/236)


258- قوله: (تدارس العلم) التدارس أن يقرأ بعض القوم مع بعض شيئا، أو يعلمهم بعضهم بعضا، أو يبحثون في مسئلة لتحقيق الحق أو يتذاكرون لتفهم المقصود. (ساعة من الليل) الأبلغ أن يراد بالساعة اللغوية لا العرفية (خير من إحيائها) أي من إحياء الليل بالعبادة. قال الطيبي: شبه الليل بالميت، وأثبت له الإحياء على طريق الإستعارة التخليلية، ثم كنى عنه بصلاة التهجد؛ لأن في قيام الليل كل نفع للقائم فيه، ومن نام فقد فقد نفعا عظيما، قال تعالى: ?تتجافى جنوبهم عن المضاجع?
رواه الدارمي.
259- (62) وعن عبدالله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بمجلسين في مسجده فقال: ((كلاهما على خير، وأحدهما أفضل من صاحبه، أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه، فإن شاء أعطاهم، وإن شاء منعهم. وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه أو العلم ويعلمون الجاهل، فهم أفضل، وإنما بعثت معلما. ثم جلس فيهم)) رواه الدارمي.
260- (63) وعن أبي الدرداء قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما حد العلم الذي إذا بلغه الرجل
إلى قوله:?جزاء بما كانوا يعملون? [32: 16-17] فإذا كان ثواب التهجد ما ذكره في هذه الآية، فما ظنك بثواب التدارس الذى الساعة منه أفضل من إحيائها- انتهى مختصرا. (رواه الدارمي) في باب مذاكرة العلم.

(2/237)


259- قوله: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بمجلسين في مسجده) وفي رواية ابن ماجه: ((خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم من بعض حجره فدخل المسجد، فإذا هو بحلقتين، إحداهما يقرؤن القرآن ويدعون الله، والأخرى يتعلمون ويعملون ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كل على خير...)) الخ. (كلاهما) أي كلا المجلسين يعني أهلهما، أو المراد به المبالغة (على خير) أي ثابتان على عمل خير. (أفضل ما صاحبه) أي أكثر ثوابا (أما هؤلاء) قال الطيبي: تقسيم للمجلسين إما باعتبار القوم أو الجماعة بعد التفريق بينهما باعتبار النظر إلى المجلسين في إفراد الضمير. (ويرغبون إليه) أي يرغبون فيما عند الله من الثواب (فإن شاء أعطاهم) أي مطلوبهم فضلا. (وإن شاء منعهم) أي إياه عدلا، إذ لا وجوب عليه تعالى، لكن في ترك هذا فيما بعد تنبيه على أن إعطاء أولئك مطلوبهم كالمتحقق، ففيه إشارة إلى بون بعيد بينهما. (وأما هؤلاء) أي وأمثالهم (فيتعلمون) أولا (الفقه أو العلم) شك من الراوى (ويعلمون الجاهل) ثانيا. (فهم أفضل) لكونهم جامعين بين العبادتين وهو الكمال والتكميل فيستحقون الفضل. (وإنما بعثت معلما) أي بتعليم الله لا بالتعلم من الخلق، ولذا اكتفى به، وفيه إشعار بأنهم منه وهو منهم، ومن ثم جلس فيهم. (رواه الدارمي) عن عبدالرحمن بن زياد بن أنعم، عن عبدالرحمن بن رافع التنوخي، وقد تقدم الكلام فيهما. وأخرجه أيضا ابن ماجه في السنة من طريق داود بن الزبرقان، عن بكر بن خنيس، عن عبدالرحمن بن زياد بن أنعم. وداود متروك، وكذبه الأزدى. وبكر بن خنيس، قال الدارقطني: متروك وقال أبوحاتم: صالح، ليس بالقوى. وقال الحافظ: صدوق، له أغلاط. وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير كما في الكنز (ج5: ص208).
260- قوله: (ما حد العلم) المراد بالحد المقدار لا المعنى المصطلح الحادث، ولذا قال (الذي إذا بلغه الرجل

(2/238)


كان فقيها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من حفظ على أمتي أربعين حديثا في أمر دينها. بعثه الله فقيها، وكنت له يوم القيامة شافعا وشهيدا)).
261- (64) وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هل تدرون من أجود جودا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: الله أجود جودا، ثم أنا أجود بني آدم، وأجودهم من بعد رجل علم علما فنشره، يأتي يوم القيامة أميرا وحده. أو قال: أمة واحدة)).
كان فقيها) يعني عالما في الآخرة، ومعدودا في زمرة العلماء فيها، ومستحقا لما وعدوا من الثواب. (من حفظ على أمتي أربعين حديثا) قال المناوى: أي نقلها إليهم بطريق التخريج والإسناد – انتهى. وقال النووي: معنى "حفظها" أن ينقلها إلى المسلمين وإن لم يحفظها ولا عرف معناها. هذا حقيقة معناه، وبه يحصل انتفاع المسلمين لا بحفظها ما لم ينقل إليهم انتهى. (في أمر دينها) صحاحا أو حسانا. قيل: أو ضعافا يعمل بها في الفضائل. قال القاري: هو احتراز عن الأحاديث الأخبارية التي لا تعلق لها بالدين اعتقادا أو علما أو عملا، ومن نوع واحد أو أنواع. (بعثه الله فقيها) أي في زمرة العلماء (شافعا) بنوع من أنواع الشفاعات الخاصة. (وشهيدا) أي حاضرا لأحواله، ومزكيا لأعماله، ومثنيا على أقواله. وحاصل الجواب: أن مقدار العلم الذي إذا بلغه الرجل كان معدودا في زمرة العلماء. هي معرفة أربعين حديثا ونقلها إلى المسلمين، وبالنظر إلى هذا الحديث صنف العلماء من السلف والخلف في هذا الباب ما لا يحصى من المصنفات، واختلف مقاصدهم في تأليفها وجمعها وترتبيها، وسمى كل واحد منهم كتابة بالأربعين، ذكر في كشف الظنون كتبا كثيرة من الأربعينات مع شروحها، من شاء الوقوف عليها فليرجع إليه. وسيأتي الكلام على الحديث عند ذكر قول الإمام أحمد.

(2/239)


261- قوله: (من أجود) من الجودة أي أحسن (جودا) أي أكثر كرما، أو من الجود أي من الذي جوده أجود، على حد "نهاره صائم" والجود قال الراغب: هو بذل المقننيات ما لا كان أو علما. قيل: "من" الاستفهامية مبتدأ و"أجود" خبره و"جودا" تمييز. (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (الله أجود جودا) هو لمجرد المبالغة فإنه المتفضل بالإيجاد والامداد على جميع البلاد. (ثم أنا أجود بني آدم) الظاهر أنه على الإطلاق، أي أفضلهم وأكرمهم (وأجودهم) أي زمانه (من بعدي) يحتمل البعدية بحسب المرتبة، ويحسب الزمان، والأول أظهر، قاله الطيبي. (رجل علم) بالتخفيف (علماء) أي عظيما نافعا في الدين (فنشره) بالتدريس، والتصنيف، والترغيب فيه (أميرا وحده) يعني يجئ يوم القيامة وحده كالأمير الذي معه أتباعه وخدمه في العزة والعظمة. (أو قال أمة واحدة) "أو" للشك من الراوي، والأمة الرجل الجامع للخير، والصنف من الناس، يعني يأتي وحده كالجماعة في العزة والعظمة والشرف، وهو نظير قوله تعالى: ?إن إبراهيم كان أمة? [120:16]، حيث أطلق الأمة على من جمع من صفات الفضل، وسمات الخير، والأخلاق الحميدة ما لا يوجد إلا في
262- (65) وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((منهومان لا يشبعان: منهوم في العلم لا يشبع منه، ومنهوم في الدنيا لا يشبع منها)) روى البيهقي الأحاديث الثلاثة في شعب الإيمان، وقال: قال الإمام أحمد في حديث أبي الدرداء: هذا متن مشهور فيما بين الناس، وليس له إسناد صحيح.
جماعة ، ومنه قول الشاعر:
ليس من الله بمستنكر… أن يجمع العالم في واحد

(2/240)


262- قوله: (منهومان) تثنية منهوم من النهم بفتحتين، الولوع بالشيء وإفراط الشهوة في الطعام، والمنهوم شديد الشهوة، المنكب على الشيء لحيازته، المولع به، يعني حريصان على تحصيل أقصى غايات مطلوبيهما. (لايشبعان) أي لا يقنعان (منهوم في العلم لا يشبع منه)؛ لأنه في طلب الزيادة دائما وليس له نهاية (ومنهوم في الدنيا) أي في تحصيل مالها وجاهها (لا يشبع منها) فإنه كالمريض المستسقى. قال بعضهم: ما استكثر أحد من شيء إلا مله، وثقل عليه، إلا العلم والمال فإنه كلما زاد اشتهى. (روى البيهقي الأحاديث الثلاثة في شعب الإيمان) أما حديث أبي الدرداء فأخرجه أيضا الشيرازى في الألقاب، وابن حبان في الضعفاء، وأبوبكر في الغيلانيات، والسلفي، وابن النجار. وقد روي هذا الحديث عن جماعة من الصحابة: معاذ بن جبل، وابن عباس، وأبي هريرة، وأنس، وأبي سعيد، وعلي، وأبي مسعود، وأبي أمامة، وابن مسعود، وابن عمر، وجابر بن سمرة بروايات متنوعة، ذكر أحاديثهم علي المتقى في كنز العمال (ج5:ص221)، وأما حديث أنس: ((هل تدرون من أجود جودا؟)) فأخرجه أيضا أبويعلى، وفيه سويد بن عبدالعزيز، وهو متروك الحديث. وأخرجه أيضا ابن حبان بنحوه، وقال: منكر باطل. وأما حديثه الثاني: ((منهومان لا يشببعان)). فأخرجه أيضا الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ولم أجد له علة. وأقره الذهبي، وأخرج أبوخيثمة في العلم، والطبراني في الأوسط والكبير، والبزار عن ابن عباس بنحوه، وفيه ليث بن سليم، وهو ضعيف. (وقال) أي البيهقي (قال الإمام أحمد في حديث أبي الدرداء) وهو "من حفظ على أمتي" يعني في شأنه. (فيما بين الناس) أي المحدثين وغيرهم (وليس له إسناد صحيح)، وقال النووي: اتفق الحفاظ على أنه حديث ضعيف وإن كثرت طرقه. وقال الحافظ في التلخيص (ص269): حديث "من حفظ على أمتي أربعين حديثا" روي عن ثلاثة عشر من الصحابة، أخرجها ابن الجوزي في العلل

(2/241)


المتناهية، وبين ضعفها كلها، وأفرد المنذري الكلام عليه في جزء مفرد، وقد لخصت القول فيه في المجلس السادس عشر من الإملاء، ثم جمعت طرقه في جزء ليس فيها طريق تسلم من علة قادحة- انتهى. قال بعضهم: الحكم عليه بالضعف إنما هو بالنظر لكل طريق على حدته، وأما بالنظر إلى مجموع طرقه فحسن لغيره، فيرتقي عن درجة الضعف إلى درجة الحسن، وأيضا قد اتفقوا على جواز العمل بالضعيف في فضائل الأعمال، فتأمل.
263- (66) وعن عون قال: قال عبدالله بن مسعود: "منهومان لا يشبعان: صاحب العلم، وصاحب الدنيا، ولا يستويان، أما صاحب العلم فيزداد رضى للرحمن، وأما صاحب الدنيا فيتمادى في الطغيان. ثم قرأ عبدالله ?كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى? قال: وقال: الآخر ?إنما يخشى الله من عباده العلماء? رواه الدارمي.
264- (67) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أناسا من أمتي سيتفقهون في الدين ويقرءون القرآن، يقولون: نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم ونعتزلهم بديننا. ولا يكون ذلك، كما لا يجتنى من القتاد إلا الشواك،

(2/242)


263- قوله: (وعن عون) هو ابن عبدالله بن عتبة بن مسعود الهذلي أبوعبدالله الكوفي، الزاهد من ثقات التابعين، كان من عباد أهل الكوفة وقرائهم. وذكر الدارقطني أن روايته عن ابن مسعود مرسلة، ذكره البخاري فيمن مات بين عشر ومائة إلى عشرين. (ولايستويان) أي في المآل والعاقبة (وأما صاحب الدنيا فيتمادى في الطغيان) أي يستمر فيه. وقيل: يزداد ويتوسع. (ثم قرأ عبدالله) استشهادا لذم الثاني (ليطغى أن رآه) لأجل أن رآى نفسه (استغنى) عن الناس لكثرة ما عنده من المال. (قال) أي عون (وقال) أي ابن مسعود بعد قراءته ما سبق وهو قوله: ?إن الإنسان ليطغى? (الآخر) بالرفع أي الاستشهاد الآخر، وقيل: بالنصب، أي ذكر الاستشهاد الآخر ?إنما يخشى الله من عباده العلماء? تقدم معناه، وحاصل الاستشهاد بالآيتين أن الأول موجب لزيادة الطغيان المقتضي ترك الطاعة والعبادة، والثاني سبب لزيادة الخشية المورثة للعمل، فشتان ما بينهما، قإن طالب الدنيا يزداد بعدا من الله لسوء أدبه وجرأته على الله تعالى، وصاحب العلم يزداد قربا لخشيته ومراعاته أدب الحضرة القدسية. (رواه الدارمي) أي موقوفا على ابن مسعود من قوله، وقد تقدم أن رواية عون عن ابن مسعود مرسلة فهو منقطع موقوف، وأخرجه الطبراني في الكبير عنه مرفوعا، وفيه أبوبكر الداهري، وهو ضعيف.

(2/243)


264- قوله: (إن أناسا) أي جماعة (سيتفقهون في الدين) أي سيدعون الفقه في الدين، كذا قاله الطيبي. أو يطلبون الفقه ويحصلونه. (ويقرؤن القرآن) أي بالقراءات أو بتفسير الآيات، ويأتون الأمراء لا لحاجة ضرورية بل لإظهار الفضيلة والطمع لما في أيديهم من المال والجاه. (يقولون) أي لدفع الاعتراض (فنصيب) أي نأخذ (ونعتزلهم) أي نبعد عنهم (بديننا) بأن لا نشاركهم في إثم يرتكبونه. (ولا يكون ذلك) أي قال - صلى الله عليه وسلم -: لا يتحقق ذلك. وهو الإصابة من الدنيا والإعتزال عن الناس بالدين أي حصول الدنيا لهم وسلامة دينهم مع مخالطتهم إياهم؛ لأن المتقرب إليهم لا يأمن المداهنة، وطلب مرضاتهم، وتحسين حالهم القبيح. (كما لا يجتنى) على بناء المفعول، أي لا يؤخذ من "جنى الثمرة
كذلك لا يجتنى من قربهم إلا. قال محمد بن الصباح كأنه يعنى الخطايا)) رواه ابن ماجه.
265- (68) وعن عبدالله بن مسعود قال: "لو أن أهل العلم صانوا العلم ووضعوه عند أهله، لسادوا به أهل زمانهم، ولكنهم بذلوه لأهل الدنيا

(2/244)


واجتناه"، و"القتاد" شجر ذو شوك لا يكون له ثمر سوى الشوك، ينبت بنجد وتهامة، وفي المثل "دون ذلك خرط القتادة"، فنبه بهذا التمثيل على أن قرب الأمراء لا يفيد سوى المضرة الدينية أصلا، وهذا إما مبني على أن ما قدر له من الدنيا فهو آت لا محالة سواء أتى باب الأمراء أم لا، فحينئذ ما بقى في إتيان أبوابهم فائدة إلا المضرة المحضة، أو على أن النفع الدنيوى الحاصل بصحبتهم بالنظر إلى الضرر الديني كلا شيء، فما بقي إلا الضرر. (كذلك لا يجتنى) أي لا يحصل (من قربهم إلا) وقع كلامه - صلى الله عليه وسلم - بلا ذكر المستثنى لكمال ظهوره. (قال محمد بن الصباح) شيخ ابن ماجه صاحب السنن في رواية هذا الحديث (كأنه) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (يعني) أي يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمستثنى المقدر بعد "إلا" (الخطايا) وهي مضرة الدارين. ومحمد بن الصباح هذا، هو ابن سفيان بن أبي سفيان الجرجرائي أبوجعفر التاجر، شيخ أبي داود، وابن ماجه. قال الحافظ: صدوق. وقال أبوحاتم: صالح الحديث. مات سنة (240)، وليس هو محمد بن الصباح الدولابي أبا جعفر الحافظ البغدادي البزار صاحب السنن، وشيخ البخاري ومسلم وأبي داود. (رواه ابن ماجه) في السنة. قال: حدثنا محمد بن الصباح: أنبانا الوليد بن مسلم، عن يحيى بن عبدالرحمن الكندى، عن عبيدالله بن أبي بردة، عن ابن عباس. قال في الزوائد: إسناده ضعيف، وعبيدالله بن أبي بردة، لا يعرف- انتهى. قلت: عبيدالله هذا هو ابن المغيرة بن أبي بردة الكناني، وقد ينسب إلى جده كما وقع في سند ابن ماجه. قال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج7:ص49): التي في عدة نسخ من سنن ابن ماجه في الوجه الذي أخرجه منه ابن ماجه، عبيدالله بن أبي بردة، وقد رواه الطبراني من الوجه الذي أخرجه منه ابن ماجه فقال: عن عبيدالله بن المغيرة بن أبي بردة، به أخرجه الضياء في المختارة. ومقتضاه أن يكون عبيدالله عنده ثقة-انتهى. وقال في التقريب:

(2/245)


إنه مقبول. وقال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: رواته ثقات- انتهى. والحديث أخرجه أيضا ابن عساكر بنحوه كما في الكنز (ج5:ص213).
265- قوله: (لو أن أهل العلم) أي الشرعى (صانوا العلم) أي حفظوه من المهانة بحفظ أنفسهم عن المذلة ، ومصاحبة أهل الدنيا طمعا لما لهم من المال والجاه. (ووضعوه عند أهله) أي أهل العلم الذين يعرفون قدر العلم. (لسادو به) أي فاقوا بالسيادة بسبب الصيانة والوضع عند أهله. (أهل زمانهم) وذلك لأن العلم رفيع القدر، يرفع قدر من يرفعه، ويصونه عن الابتذال في غير المحال. قال الزهري: العلم ذكر لا يحبه إلا ذكور الرجال، أي الذين يحبون معالي الأمور، ويتنزهون عن سفاسفها. (ولكنهم بذلوه لأهل الدنيا) بأن خصوهم به، أو ترددوا إليهم به
لينالوا به من دنياهم، فهانوا عليهم سمعت نبيكم - صلى الله عليه وسلم - يقول: من جعل الهموم هما واحدا هو آخرته، كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم أحوال الدنيا، ولم يبال الله في أي أوديتها هلك)) رواه ابن ماجه.
266- (69) ورواه البيهقي في شعب الإيمان، عن ابن عمر من قوله: "من جعل الهموم" إلى آخره.
267- (70) وعن الأعمش، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((آفة العلم النسيان، وإضاعته أن تحدث به غير أهله)) رواه الدارمي مرسلا.

(2/246)


(لينالوا به دنياهم) لا لأجل الدين بالنصيحة والشفاعة وغيرهما. (فهانوا) أي أهل العلم ذلوا قدرا، فإنهم أهانوا رفيعا فأهانهم الله. (عليهم) أي ذلوا مستثقلين على أهل الدنيا. (نبيكم) هذا الخطاب توبيخ للمخاطبين، حيث خالفوا أمر نبيهم. فخولف بين العبارتين افتنانا. ( من جعل الهموم هما واحدا) أي من جعل همه واحدا موضع الهموم التي للناس، أو من كان له هموم متعددة فتركها، وجعل موضعها الهم الواحد. (هم آخرته) بدل من هما، وهو هم الدين. (كفاه الله هم دنياه) المشتمل على الهموم، يعني كفاه هم دنيا أيضا. (ومن تشعبت به الهموم) أي تفرق فيه الهموم، أو فرقته الهموم، والباء على الأول بمعنى في، وعلى الثاني للتعدية، وإن جعلت للمصاحبة – أي مصحوبة معه- كان صحيحا. (أحوال الدنيا) بدل من الهموم قلت قوله: "أحوال الدنيا" كذا وقع في جميع نسخ المشكاة، والذي عند ابن ماجه "في أحوال الدنيا". (لم يبال الله) كناية عن عدم الكفاية والعون، مثل ما يحصل للأول. (في أي أوديتها) أي أودية الدنيا، أو أودية الهموم. (هلك) يعني لا يكفي هم دنيا ولا هم أخراه. (رواه ابن ماجه) في السنة عن ابن مسعود الحديث بتمامه، وأخرجه أيضا ابن عساكر كما في الكنز (ج5:ص243). قال في الزوائد إسناد الحديث ضعيف، فيه نهشل بن سعيد، قيل: إنه يروي المناكير، وقيل بل الموضوعات، وله شاهد من حديث ابن عمر، صححه الحاكم، انتهى.
266- قوله: (ورواه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر من قوله) أي مبتدأ من قوله: (من جعل الهموم) يعني ورى المرفوع لا الموقوف. وأخرجه الحاكم أيضا (ج4:ص328، 329) وقال: حديث صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي فقال: أبوعقيل يحيى بن المتوكل ضعفوه. ==

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج3.كتاب المزهر في معرفة اللغة للسيوطي الجزء الثالث والاخير{من النوع الحادي والأربعون معرفة آداب اللغوي الي الخاتمة}

  النوع الحادي والأربعون معرفة آداب اللغوي  أول ما يلزمه الإخلاص وتصحيح النية لقوله ﷺ: « الأعمال بالنيات » ثم التحري في الأخذ عن الثقات لق...