1. مرعاة المفاتيح للعلامة الشيخ ولي الدين أبي عبدالله محمد بن عبدالله الخطيب العمري التبريزي
مشكاة المصابيح
للعلامة الشيخ ولي الدين أبي عبدالله محمد بن عبدالله الخطيب العمري التبريزي
مع شرحه
مرعاة المفاتيح
للشيخ أبي الحسن عبيدالله بن العلامة محمد عبدالسلام المباركفوري حفظه الله
( الجزء الأول)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف
المرسلين، محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى
يوم الدين. أما بعد: فإن بعض الإخوان سألني أن أعلق له شرحا لطيفا على مشكاة
المصابيح للشيخ ولي الدين أبي عبدالله محمد بن عبدالله الخطيب العمري التبريزي،
فأجبته إلى سؤاله رجاء المنفعة به. وأسأل الله تعالى أن ينفعنا به ومن كتبه أو
سمعه أو قرأه أو نظر فيه، وأن يجعله خالصا لوجهه، موجبا للفوز لديه، وبالإخلاص
إنما يتقبل العمل، ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)).
فأقول مستعينا بالله مهتديا به متوكلا عليه، وما توفيقي إلا بالله، وهو حسبي ونعم الوكيل:
قال: (بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله) الخ، افتتح الكتاب بالبسملة ثم أتى
بالحمدلة، موافقة لكتاب الله العظيم، فإن الصحابة افتتحوا كتابة الإمام الكبير
بالتسمية والحمدلة، وتلوها، وتبعهم جميع من كتب المصحف بعدهم في جميع الأعصار، من
يقول بأن البسملة آية من أول الفاتحة، ومن لا يقول ذلك. وعملا بحديث نبيه الكريم
في بداءة كل أمر ذي بال ببسم الله الرحمن الرحيم، أخرجه الرهاوي في أربعينه من
حديث أبي هريرة مرفوعا، وأخرج أبوداود والنسائي وابن ماجه وأبوعوانة والدارقطني
وابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا: ((كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو
أجذم))، وفي رواية: ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع)) حسنه ابن
الصلاح وغيره، ولا منافاة بين روايتي التسمية والتحميد ؛ لأن المقصود منهما فيما
نرى -
(1/1)
والله أعلم بمراد كلام نبيه -
إنما هو الابتداء بذكر الله والثناء عليه، سواء يكون في ضمن البسملة أو الحمدلة،
لا أن لفظ الحمد أو البسملة متعين، فالقدر الذي يجمع الأمرين هو ذكر الله، وقد حصل
بالبسملة، وحينئذ فالحمدلة والبسملة والذكر سواء، ويدل على ذلك ما ورد في بعض طرق
الحديث لفظ ((ذكر الله)) مصرحا، ففي مسند أحمد عن أبي هريرة مرفوعا ((كل أمر ذي
بال لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر أو أقطع))، قال التاج السبكي في أول الطبقات
الشافعية في الجمع بين الروايتين ما لفظه: وأما الحمد والبسملة فجائزان، يعني بهما
ما هو الأعم منهما، وهو ذكر الله والثناء عليه على الجملة، إما بصيغة الحمد أو
غيرها، ويدل على ذلك رواية ذكر الله، وحينئذ فالحمد والبسملة والذكر سواء، وجائزان
يعني خصوص الحمد وخصوص البسملة، وحينئذ فرواية الذكر أعم، فيقضى لها على الروايتين
الأخيرتين ؛ لأن المطلق إذا قيد بقيدين متنافيين لم يحمل على واحد منهما ويرجع إلى
أصل الإطلاق، وإنما قلنا أن خصوص الحمدلة والبسملة متنافيان لأن البداءة إنما تكون
بواحد، ولو وقع الابتداء بالحمد لما وقع بالبسملة وعكسه، ويدل على أن المراد
الذكر، فتكون روايته هي
نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده
الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تكون
للنجاة وسيلة
المعتبرة أن غالب الأعمال الشرعية غير مفتتحة بالحمد كالصلاة، فإنها مفتتحة
بالتكبير والحج وغير ذلك، فإن قلت: لكن رواية بحمد الله أثبت من رواية بذكر الله،
قلت: صحيح، ولكن لم قلت: إن المقصود بحمد الله خصوص لفظ الحمد، ولم لا يكون المراد
ما هو أعم من لفظ الحمد والبسملة ؟ ويدل على ذلك ما ذكرت لك من الأعمال الشرعية
التي لم يشرع الشارع افتتاحها بالحمد بخصوصه - انتهى كلام السبكي.
(1/2)
قوله (الحمد لله) الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري من نعمة أو غيرها، أتى بالجملة الاسمية واسم الذات للدلالة على الدوام والثبات. وقوله (الحمد لله) مطلق يتناول حمد الله تعالى نفسه، وأرفع حمد ما كان من أرفع حامد وأعرفهم بالمحمود وأقدرهم على إيفاء حقه، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك))، ويتناول حمد الحامدين له تعالى من ابتداء الخلق إلى انتهاء قولهم ((وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين))، (نحمده) استئناف، فأولا أثبت الحمد له بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت والدوام، سواء حمد أو لم يحمد، فهو إخبار متضمن للإنشاء، ثانيا أخبر عن حمده وحمد غيره معه بالجملة الفعلية التي للتجديد والحدوث بحسب تجدد النعماء وتعدد الآلاء وحدوثها في الآناء، وإظهار لتخصيص حمده لكن باستعانته، ونفى الحول والقوة ودفع الرياء والسمعة من نفسه، ومن ثم أتبعه بقوله: ((ونعوذ بالله من شرور أنفسنا)) وحاصل وجه التخصيص أنه تعالى لما كان مستحقا للحمد بإسباغ أنوع النعم علينا فلا بد أن نحمده، وأورد صيغة الجمع ليشمل جميع الخلق الجسماني والروحاني في الدارين، وقال الطيبي: الضمير المستكن في نحمده ونستعينه ونستغفره للمتكلم ومن معه من أصحابه الحاضرين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. (ونستعينه) أي في أداء الحمد وغيره من الأمور الدنيوية والأخروية، وفيه إشارة إلى أن حمده تعالى أمر لا يتيسر من الخلائق أجمعين إلا بإعانته تعالى، فيكون تبريا عن الحول والقوة. (ونستغفره) أي من سيئاتنا وتقصيراتنا ولو في أداء ذلك احمد، كما هو حقه من الصدق والإخلاص. (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا) أي من ظهور السيئات الباطنية التي جبلت الأنفس عليها، ومنها التقصير في الصدق والإخلاص، أي الحمد مع الرياء والسمعة، وكذا مع إثبات الحول والقوة. (ومن سيئات أعمالنا) أي من مباشرة الأعمال السيئة الظاهرة التي تنشأ عنها،
(1/3)
والمراد منها هو التصدي
للتصنيف في علم الحديث مع قصور في تصحيح الطية وإخلاص الطوية، أو التقصير في الشكر
على توفيقه تعالى لهذه النعمة العظيمة والمنحة الجليلة، أو التكلم بما لا يعنيه
والغفلة عن ذكر الله تعالى، أو التهاون في الطاعات والعبادات وارتكاب المكروهات
والمحرمات مطلقا، والأول أظهر. فتعوذ - رحمه الله - من ذلك لحصول الإخلاص. (من
يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) لما أضيف الشرور والأعمال إلى الأنفس
أوهم أن لها الاختيار والاستقلال بالأعمال، أتبعه بقوله (من يهده الله ...) الخ
ليؤذن بأن كل ذلك منه تعالى، وليس للعبد إلا الكسب، وبعد الكسب الشقي والسعيد على
حسب علمه الأزلي سبحانه
ولرفع الدرجات كفيلة. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بعثه وطرق الإيمان قد عفت
(1/4)
وتعالى. والضمير البارز ثابت في يهده، وأما في يضلله فغير موجود في أكثر نسخ المشكاة، وهو عمل بالجائزين، والأول أصل وفيه وصل والثاني فرع وفيه فصل، قاله القاري. وهذا الكلام وإن كان خبرا وبيانا للواقع وإثباتا لتفرد الله تعالى بالهداية والإضلال، لكنه في الحقيقة طلب وسؤال من الله للهداية والحفظ من الضلالة. والمعنى: لا هادي ولا مضل غيرك، فوفقني للهداية واحفظني من الضلالة، واعصمني من الغواية، فإنك على كل شيء قدير. (وأشهد أن لا إله إلا الله)الخ، أتبع الحمد بالشهادتين في الخطبة عملا بما روي عن أبي هريرة مرفوعا: ((كل خطبة ليس فيها شهادة كاليد الجذماء)) أخرجه أحمد وأبوداود في الأدب والترمذي في النكاح وحسنه. وأورد صيغة الجمع في الحمد والاستعانة والاستغفار والتعوذ نظرا إلى كثرة الآلاء والتقصيرات والذنوب وكشف الصفات. وأفرد الضمير في مقام التوحيد لأنه إثبات القدم وإسقاط الحدوث ومحل مشاهدة وحدة الذات وسقوط ما سوى الله، فأشار أولا إلى التفرقة، وثانيا إلى الجمع، قال القاري: وقد يقال: إن الأفعال المتقدمة أمور ظاهرية يحكم بوجودها على الغير أيضا بخلاف الشهادة فإنه أمر قلبي غيبي لا يعلم بحقيقته إلا هو - انتهى. يعني أن الشهادة خبر قاطع مطابق للواقع، فلم يكن للمصنف أن يحكم به بالجزم إلا على نفسه بخلاف الحمد وأخواته، والله أعلم. (شهادة) مفعول مطلق موصوف بقوله (تكون) الخ، والشهادة التي تكون سببا للخلاص من العذاب وكفيلة لرفع الدرجات في الجنان إنما هي التي تكون بالصدق والإخلاص ومواطأة القلب وموافقة الظاهر والباطن مع الاستقامة عليها ؛ لقوله عز وجل: ?إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ...?الآية [41: 30]، وقال القاري: والمعنى: أن الشهادة إذا تكررت وأنتجت ارتكاب الأعمال الصالحة واجتناب الأفعال الطالحة صارت سببا لعلو الدرجات، وكانت مانعة عن الوقوع في الدركات، وبما قررناه اندفع ما يرد على المصنف
(1/5)
من أن دخول الجنة بالإيمان
ورفع الدرجات بالأعمال، ولكون التوفيق على هذا السبب من فضله لا ينافي قوله - عليه
الصلاة والسلام -: ((لن ينجو أحد منكم بعمله)). (عبده) إضافة تشريف وتخصيص، إشارة
إلى كمال مرتبته في العبودية، وقدمه لأنه أشرف أوصافه وأعلاها وأفضلها وأغلاها،
ولذا ذكره الله تعالى بهذا الوصف في كثير من المواضع فقال: ?سبحان الذي أسرى
بعبده? [17: 1]، ?تبارك الذي نزل الفرقان على عبده? [25: 1]، ?فأوحى إلى عبده ما
أوحى? [53: 9]، وفي الجمع بين الوصفين العبودية والرسالة تعريض للنصارى حيث غلوا
في دينهم وأطروا في مدح نبيهم. (وطرق الإيمان) مبتدأ وقوله (قد عفت آثارها) خبر،
أو الجملة حالية، والمعنى: أن الله أرسله في حال كمال احتياج الناس إليه - صلى
الله عليه وسلم -، فإنهم كانوا في غاية من الضلالة والجهالة، إذ لم يكن حي على وجه
الأرض من يعرفها إلا أفراد من أتباع عيسى - عليه السلام -، استوطنوا زوايا الخمول
ورؤوس الجبال وآثروا الوحدة والاعتزال (قد عفت آثارها) أي اندرس ما بقي من رسومها،
من عفا الشيء عفوا وعفا وعفو إذا نقص ودرس وامحى، ومنه قولهم (عليه العفاء)، قال
زهير:
………تحمل أهلها منها فبانوا……على آثار ما ذهب العفاء
آثارها، وخبت أنوارها، ووهنت أركانها، وجهل مكانها، فشيد صلوات الله عليه وسلامه
من معالمها ما عفا، وشفى من العليل في تأييد كلمة التوحيد من كان على شفا، وأوضح
سبيل الهداية لمن أراد أن يسلكها، وأظهر كنوز السعادة لمن قصد أن يملكها.
(1/6)
(وخبت أنوارها) من خبا يخبو خبوا وخبوا، يقال: "خبت النار أو الحدة" إذا خمدت وسكنت وطفئت، والمعنى: خفيت أنوارها وانطفأت بحيث لا يمكن اقتباس العلم المشبه بالنور في كمال الظهور (ووهنت) أي ضعفت حتى انعدمت (أركانها) من أساس التوحيد والنبوة والإيمان بالبعث والقيامة، وقيل: المراد الصلاة والزكاة وسائر العبادات (وجهل) بصيغة المجهول (مكانها) مبالغة في ظهور الجهل وغلبة الفسق وكثرة الظلم وقلة العدل، وقيل: المراد من طرق الإيمان الأنبياء والرسل والكتب المنزلة عليهم وأتباعهم من العلماء والأولياء. ومن عفو آثارها وخبو أنوارها ووهن أركانها ترك العمل بما جاءوا به من الشرائع، وأمروا به من الأعمال والأخلاق والآداب، وأظهروا من العلوم والمعارف وترك التعلم والتخلق والتأدب بها. ومن جهل مكانها عدم معرفة مراتبهم ومنازلهم وتناسى حقوقهم، ويحتمل أن يكون المراد بطرق الإيمان العلوم والمعارف والأعمال الصالحة والآداب المرضية والمجاهدات النفسية والرياضات البدنية والصفات الجميلة والأخلاق الحميدة التي يبلغ المتصف بها مرتبة كمال الإيمان، وبعفاء الآثار وخبو الأنوار ووهن الأركان وجهل المكان عدم سلوك هذه الطرق وعدم المبالاة بها والاهتمام بتحصيلها وتكميلها، والله أعلم. (فشيد) أي رفع وأعلى وأظهر وقوي بما أعطيه من العلوم والمعارف التي لم يؤت أحد مثله فيما مضى (صلوات الله) أي أنواع رحمته (عليه وسلامه) وفي بعض النسخ: صلوات الله وسلامه عليه، وهي جملة معترضة دعائية. (من معالمها) جمع المعلم وهو العلامة (ما عفا) ما موصولة أو موضوعة مفعول شيد، ومن بيانية متقدمة، والمعنى: أظهر وبين ما اندرس وخفي من آثار طرق الإيمان وعلامات أسباب العرفان والإيقان، وإن لم يبصرها الذين ختم الله على قلوبهم وأعمى أبصارهم وأصم آذانهم مع كمال وضوحها وغاية ظهورها. (وشفى) عطف على شيد (من العليل) بيان مقدم لـ"من" رعاية للسجع (في تأييد كلمة
(1/7)
التوحيد) متعلق بشفى ومفعوله
قوله (من كان على شفا) أي وخلص من علة الجهل والشرك في تقوية كلمة الإيمان من كان
مشرفا على الموت والهلاك، أو كان على حرف من الصراط السوي ومنحرفا عن الطريق
المستقيم، أو أنقذ من كان قريبا من الوقوع في حفرة الجحيم، إشارة إلى قوله تعالى
?وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها? [3: 103]، والشفا حرف كل شيء وطرفه
وحده (لمن أراد أن يسلكها) أنث الضمير لأن السبيل يذكر ويؤنث، أي بين وعين طريق
الاهتداء إلى المطلوب لمن طلب وشاء من نفسه أن يدخل فيها (وأظهر كنوز السعادة) أي المعنوية
وهي المعارف والعلوم والأعمال والأخلاق والشمائل والأحوال البهية المؤدية إلى
الكنوز الأبدية والخزائن السرمدية من نعيم الجنة ورضوان الله ولقائه ورؤيته. (لمن
قصد أن يملكها) وجه التخصيص أنهم هم المنتفعون بالإيضاح والإظهار، وإن كان بيان
شرائع الإسلام وتعليم أمور الدين عاما لجميع الناس
أما بعد: فإن التمسك بهديه لا يستتب إلا بالاقتفاء لما صدر من مشكاته، والاعتصام
بحبل الله لا يتم إلا ببيان كشفه، وكان كتاب المصابيح
(1/8)
لمن أراد سلوكها وقصد تملكها، ولمن أعرض عنها، كقوله تعالى: ?هدى للمتقين?. (أما بعد أتى به اقتداء به - صلى الله عليه وسلم - وبأصحابه، فإنهم كانوا يأتون به في خطبهم للانتقال من أسلوب إلى أسلوب آخر، ويسمى فصل الخطاب، واختلف في أول من قالها، فقيل: داود - عليه السلام -، رواه الطبراني مرفوعا من حديث أبي موسى الأشعري، وفي إسناده ضعف، وفيه أقوال أخرى ذكرها الحافظ في الفتح، و (أما) لتفصيل المجمل، وهو كلمة شرط محذوف فعله وجوبا، و (بعد) من الظروف الزمانية متعلق بالشرط المحذوف، وهو مبني على الضم لقطعه عن الإضافة والمضاف إليه منوي، والتقدير: مهما يذكر شيء من الأشياء بعد ما ذكر من البسملة والحمدلة والصلاة والثناء (فإن التمسك بهديه) بفتح الهاء وسكون الدال أي طريقه وسيرته، يقال ما أحسن هديه أي طريقه وهدى هديه أي سيرته (لا يستتب) بتشديد الباء أي لا يستقيم ولا يستمر، أو لا يتأتى ولا يتهيأ (إلا بالاقتفاء) أي بالاتباع (لما صدر) أي ظهر (من مشكاته) أي صدره، والمشكاة هي الكوة في الجدار غير النافذة، يوضع فيها المصباح أي السراج، استعيرت لصدره - صلى الله عليه وسلم -، شبه صدره الذي يفيض النور المقتبس من القلب على الخلق بالمشكاة التي فيها المصباح، وشبه قلبه المنور بنور الله تعالى بالمصباح المضيء (والاعتصام) بالنصب، ويجوز الرفع، أي التمسك والتشبث (بحبل الله) أي القرآن لما ورد في حديث الحارث الأعور عن علي مرفوعا في صفة القرآن ((هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم)) أخرجه الترمذي، وروى الحافظ أبوجعفر الطبري بسنده عن أبي سعيد مرفوعا ((كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض))، وروي من حديث عبدالله بن مسعود وزيد بن أرقم وحذيفة نحو ذلك. استعار الحبل للقرآن من حيث أن العمل بالقرآن سبب لحصول العلوم والمعارف التي هي وسيلة إلى الحياة الأبدية، كما أن الحبل وسيلة إلى الوصول إلى الماء الذي هو سبب
(1/9)
للحياة الدنيوية، أو من حيث أن
التمسك بالقرآن سبب للنجاة عن التردي والخلاص من الوقوع في دركات جهنم، كما أن
التمسك بالحبل سبب للسلامة عن التردي في البئر عند الاحتياج إلى الماء (إلا ببيان
كشفه) أي السنة النبوية، والإضافة بيانية، قال الله تعالى: ?وأنزلنا إليك الذكر
لتبين للناس ما نزل إليهم? [16: 44]، ولا شك أنه لا يمكن الوصول إلى حقيقة معاني
القرآن ولا يتيسر فهم مقاصده إلا بتبيينه - صلى الله عليه وسلم - وإيضاحه، فكان هو
مبينا لمجملات القرآن ومفسرا لمشكلاته، وليس بيانه وتفسيره إلا في أحاديثه، فكل
حديث ورد في الصلاة فهو بيان وتفسير لقوله تعالى: ?وأقيموا الصلاة? فإن الصلاة
مجملة لم يبين أوقاتها وأعدادها وأركانها وشرائطها وواجباتها وسننها ومفسداتها إلى
السنة، وكذا الزكاة والصوم والحج (وكان كتاب المصابيح).
قيل: إن البغوي لم يسم هذا الكتاب بالمصابيح نصا منه، وإنما صار هذا الاسم علما له
بالغلبة من حيث أنه ذكر بعد قوله (أما بعد) فهذه ألفاظ صدرت عن صدر النبوة، وسنن
سارت عن معدن الرسالة، وأحاديث جاءت عن سيد المرسلين وخاتم النبيين هن مصابيح
الدجى ...الخ، وهو من أجمع الكتب في باب الحديث فإنه جمع فيه أحاديث الأحكام على
ترتيب الأبواب
(1/10)
الفقهية بحيث يستحسنه الفقيه،
ووضع الترغيب والترهيب على ما يقتضيه العلم ويرتضيه، ولو فكر أحد في تغيير باب عن
موضعه لم يجد له موضعا أنسب مما اقتضى رأيه، ولذلك عكف عليه المتعبدون، واعتنى
بشأنه العلماء بالقراءة والتعليق، فله شروح كثيرة، ذكرها جلبي في كشف الظنون، لكنه
لطلب الاختصار ترك ذكر الأسانيد اعتمادا على نقل الأئمة، ولم يذكر كثيرا من
الصحابة رواة الآثار، ولا تعرض لتخريج تلك الأخبار، بل قسم أحاديث كل باب إلى صحاح
وحسان، واصطلح على أن جعل الصحاح ما هو في الصحيحين أو أحدهما، والحسان ما ليس في
واحد منهما، والتزم أن ما كان فيها من ضعيف أو غريب أشار إليه ونبه عليه، وإن ما
كان موضوعا أو منكرا لم يذكره ولا يشير إليه، هذا هو المشروط في الخطبة، لكن ذكر
في أواخر باب مناقب قريش حديثا وقال في آخره: منكر، وقيل: قد ألحقه بعض المحدثين،
قال النووي في التقريب تبعا لابن الصلاح: أما تقسيم البغوي أحاديث المصابيح إلى
حسان وصحاح مريدا بالصحاح ما في الصحيحين وبالحسان ما في السنن فليس بصواب ؛ لأن
في السنن الصحيح والحسن والضعيف والمنكر - انتهى.
قال السيوطي في التدريب (ص54): ومن أطلق عليها الصحيح كقول السلفي في الكتب الخمسة
اتفق على صحتها علماء المشرق والمغرب، وكإطلاق الحاكم على الترمذي الجامع الصحيح،
فقد تساهل. قال العراقي: وأجيب عن البغوي بأنه يبين عقب كل حديث الصحيح والحسن
والغريب، قال: وليس كذلك، فإنه لا يبين الصحيح من الحسن فيما أورده من السنن، بل
يسكت ويبين الغريب والضعيف غالبا، فالإيراد باق في مزجه صحيح ما في السنن بما فيه
من الحسن، وقال شيخ الإسلام: أراد ابن الصلاح أن يعرف أن البغوي اصطلح لنفسه أن
يسمي السنن الأربعة الحسان، ليغتني بذلك عن أن يقول عقب كل حديث أخرجه أصحاب
السنن، فإن هذا اصطلاح حادث ليس جاريا على المصطلح العرفي - انتهى. قلت: وقد وقع
له بعد ذلك الاصطلاح أن ذكر
(1/11)
أحاديث من الصحاح ليست في أحد
من الصحيحين وأحاديث من الحسان هي في أحد الصحيحين، وأدخل في الحسان أحاديث ولم
ينبه عليها، وهي ضعيفة واهية في غاية الضعف كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى. ثم
إن الشيخ ولي الدين محمد بن عبدالله الخطيب كمل المصابيح وذيل أبوابه، فذكر
الصحابي الذي روى الحديث عنه، وذكر الكتاب الذي أخرجه منه، وزاد على كل باب من
صحاحه وحسانه إلا نادرا فصلا ثالثا، وسماه "مشكاة المصابيح"، فصار كتابا
حافلا كما ترى، وله تصرفات أخرى أيضا في المصابيح، كما سيجيء ذكره في كلامه، نعم،
لم يتعرض هو كالبغوي للكلام على الأحاديث التي أوردها من السنن والمسانيد التي لم
يلتزم مصنفوها الصحة في الغالب طلبا للاختصار، ولا يخفى أنه يسوغ العمل بأحاديثها
التي لم يقع التصريح بتحسينها أو تصحيحها منهم أو من غيرهم ممن يعتمد عليه إلا بعد
البحث عنها، فما كان منها صحيحا أو حسنا أو ضعيفا يحتمل ضعفه يقبل، وما لم يكن
كذلك يرد. قال في كشف الظنون: قيل عدد أحاديث المصابيح أربعة آلاف وسبعمائة وتسعة
عشر حديثا، منها المختص بالبخاري ثلاثمائة وخمسة وعشرون حديثا، وبمسلم ثمانمائة
وخمسة وسبعون حديثا، ومنها المتفق عليها ألف وإحدى وخمسون حديثا، والباقي من كتب
أخرى، وقال ابن الملك: إن عدد الأحاديث المذكورة فيه أربعة آلاف وأربعمائة وأربعة
وثمانون حديثا، منها ما هو من الصحاح ألفان وأربعمائة وأربعة وثلاثون حديثا.
الذي صنفه الإمام محي السنة قامع البدعة أبومحمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي -
رفع الله
(1/12)
ومنها ما هو من الحسان، وهو ألفان وخمسون حديثا. (محي السنة) روي أنه لما جمع كتابه المسمى بشرح السنة رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقال له "أحياك الله كما أحييت سنتي"، فصار هذا اللقب علما له بطريق الغلبة (قامع البدعة) أي قاطعها ودافع أهلها أو مبطلها ومميتها (أبومحمد الحسين بن مسعود) هو الإمام الحافظ المجتهد المحدث المفسر أبومحمد الحسين بن مسعود بن محمد الشافعي صاحب معالم التنزيل في التفسير، وشرح السنة، والمصابيح، والجمع بين الصحيحين في الحديث والتهذيب في الفقه، وغير ذلك من التصانيف الحسان، كان بحرا في العلوم، إماما في الفقه والحديث والتفسير، أخذ الفقه عن القاضي حسين بن محمد صاحب التعليقة في الفقه، وحدث عنه، وعن أبي الحسن عبدالرحمن بن محمد الداودي، ويعقوب بن أحمد الصيرفي وغيرهم، وروى عنه أهل مرو وغيرهم، وبورك له في تصانيفه لقصده الصالح، فإنه كان من العلماء الربانيين، كان ذا تعبد ونسك وقناعة باليسير، وكان يأكل كسرة وحدها فعذلوه، فصار يأكلها بزيت، قال القاري: كان مفسرا محدثا فقيها. قال بعض مشايخنا: ليس له قول ساقط، وكان عابدا زاهدا جامعا بين العلم والعمل على طريقة السلف الصالحين. توفي بمروالروذ في شوال سنة 516هـ ست عشرة وخمسمائة، ودفن عند شيخه القاضي حسين بمقبرة الطالقاني، ولعله بلغ ثمانين سنة، وارجع إلى تذكرة الحفاظ (ج4: ص54-55)، ووفيات الأعيان (ج1: ص145-146)، وإتحاف النبلاء (244)، وأشعة اللمعات (ج1: ص28-29).
(1/13)
( الفراء) بالرفع على أنه صفة
لأبي محمد الحسين كما يظهر من كلام ابن خلكان حيث قال: أبومحمد الحسين بن مسعود بن
محمد المعروف بالفراء البغوي الفقيه، وقيل بالجر نعت لأبيه نسبة إلى عمل الفراء
وصنعها وبيعها، قال الذهبي في ترجمة البغوي: هو أبومحمد الحسين بن مسعود بن محمد
بن الفراء الشافعي، قال: وكان أبوه يعمل الفراء ويبيعها، قال في الإتحاف: يقال له
الفراء وابن الفراء أيضا، قال القاري: وهو غير الفراء النحوي المشهور (البغوي)
بالرفع صفة للحسين ؛ لأن المقصود ببيان النسبة البلدية وكذا الولادية والصناعية
عند المحدثين هو العلم الأول إلا نادرا، والبغوي بفتح الباء الموحدة والغين
المعجمة وبعدها واو، هذه النسبة إلى بلدة بخراسان بين مرو وهرات يقال له بغ وبغشور
بفتح الباء الموحدة وسكون الغين المعجمة وضم الشين وبعدها واو ساكنة ثم راء معرب
"باغ كور"، وهذه النسبة شاذة على خلاف القياس، قاله السمعاني في كتاب
الأنساب، وقيل العلم المركب تركيبا مزجيا يحذف عجزه وينسب إلى صدره أو ينسب إليه
برمته من دون حذف، فتقول: بعلي ومعدوي وبعلبكي ومعدي كربي في النسبة إلى بعلبك
ومعدي كرب، والبغوي من هذا القبيل، وإنما جاءت الواو في النسبة إجراء للفظه بغ
مجرى محذوف العجز كالدموي، فإنه يرد المحذوف إلى الاسم المحذوف منه إذا بقي على
حرفين من أصوله فتقول في أب وأخ: أبوي وأخوي، ويجوز في مثل يد ودم أن يرد المحذوف،
وهو الأفصح، وحينئذ إذا كان ياء قلبت واوا فيقال: يدوي ودموي، ويجوز النسبة
درجته - أجمع كتاب صنف في بابه، وأضبط لشوارد الأحاديث وأوابدها، ولما سلك - رضي
الله عنه - طريق الاختصار وحذف الأسانيد تكلم فيه بعض النقاد وإن كان نقله - وإنه
من الثقات -
(1/14)
على اللفظ فيقال: يدي ودمي، ولئلا يلتبس بالبغي بمعنى الزاني (أجمع كتاب) خبر كان (صنف في بابه) أي في باب الحديث فإنه جمع فيه الأحاديث المهمة على ترتيب الأبواب الفقهية، والمراد أنه من أجمع الكتب في باب الحديث، أو قاله مبالغة في مدحه، ويجوز مثل هذه المبالغة في مدح كتاب ترغيبا للطالبين وتشويقا لهم إليه (وأضبط) عطف على أجمع ؛ لأنه لما جرد عن الأسانيد وعن اختلاف الألفاظ وتكرارها في المسانيد صار أقرب إلى الحفظ والضبط، وأبعد من الغلط والخبط (لشوارد الأحاديث) جمع شاردة وهي النافرة والذاهبة عن الدرك، من إضافة الصفة إلى الموصوف، والأحاديث قيل جمع أحدوثة في الأصل كأساطيرة جمع أسطورة ثم جعل جمع حديث (وأوابدها) عطف تفسير، أي وحشياتها، جمع آبدة وهي الوحش والشيء الغريب، وأوابد الكلام غرائبه، شبهت الأحاديث بالوحوش لسرعة تنفرها وتبعدها عن الضبط والحفظ، ولذا قيل: "العلم صيد والكتابة قيد" قاله القاري، وقال السيد جمال الدين: المراد بالشوارد الأحاديث المخرجة في الأصول قد خفيت على الطالبين مواضع إيرادها، فكأنها نفرت منهم، وبالأوابد الأحاديث التي دلالتها على معانيها كانت خفية، فكأنها توحشت من الطلاب بالنظر إلى معانيها المقصودة، فبإيراد محي السنة إياها في الأبواب المناسبة ولمواضع اللائقة من كتاب المصابيح ظهرت معانيها واتضحت، فارتفع الشرود وانتفى التوحش منها، وصارت مأنوسة، ذكره في اللمعات (طريق الاختصار) أي بالاكتفاء على متون الأحاديث (وحذف الأسانيد) عطف تفسير على ذلك، والمراد بحذف الإسناد إما حذف الصحابي وترك المخرج في كل حديث، وهو مجاز من باب إطلاق الكل على البعض أي طرفي الإسناد، وهو مراد المصنف ظاهرا من قوله "لكن ليس ما فيه أعلام كالأغفال" فالشيء الذي ذكره المصنف في المشكاة زيادة على المصابيح هو ذكر الصحابي وبيان المخرج، وهو الذي أهمله صاحب المصابيح، وأما معناه الحقيقي على مصطلح أهل الحديث،
(1/15)
وهو حكاية طريق المتن بحيث
يعلم جميع رواته، لكن المصنف اكتفى بذكر المخرج كما يقول: وإني إذا نسبت الحديث
إليهم ...الخ، وعلى هذا يكون ذكر المخرج أي الصحابي للتبرك والتأكيد فقط (تكلم)
جواب لما، أي طعن في بعض أحاديث كتابه حتى أن بعض الطاعنين أفردوا أحاديث من
المصابيح ونسبوها إلى الوضع، ثم إنه لما نسبت إلى الأئمة المخرجين لها علم أن
بعضها صحيح وبعضها حسن، كحديث أبي هريرة ((المرء على دين خليله)) فإنه أحد
الأحاديث التي انتقدها الحافظ سراج الدين القزويني على المصابيح، وقال: إنه موضوع،
وكذا أورده ابن الجوزي في الموضوعات، وقد حسنه الترمذي، وصححه الحاكم، وقال
النووي: إسناده صحيح (بعض النقاد) بضم النون وتشديد القاف، وقال السيد جمال الدين:
أي تكلم في حقه واعترض عليه بعض المبصرين بأن صحة الحديث وسقمه متوقفة على معرفة
الإسناد، فإذا لم يذكر لم يعرف الصحيح من الضعيف فيكون نقصا (وإن كان نقله) أي نقل
البغوي بلا إسناد، والواو وصلية (وإنه من الثقات) أي المعتمدين في نقل الأحاديث
وبيان صحتها وحسنها وضعفها، روي بكسر الهمزة في "إنه" على أنه حال
كالإسناد، لكن ليس ما فيه أعلام كالأغفال، فاستخرت الله واستوفقت منه، فأعلمت ما
أغفله فأودعت كل حديث منه في مقره كما رواه الأئمة المتقنون والثقات الراسخون، مثل
أبي عبدالله محمد بن إسماعيل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/16)
من المضاف إليه في نقله، وروي بفتحها للعطف على اسم كان، يعني نقله بتأويل المصدر أي وإن كان نقله وكونه من الثقات كالإسناد (كالإسناد) أي كذكره (لكن ليس ما فيه أعلام) أعلام الشيء بفتح الهمزة آثاره التي يستدل بها، وهو جمع علم بفتحتين (كالأغفال) بالفتح وهي الأراضي المجهولة التي لا عمارة فيها ولا أثر تعرف به، جمع غفل بضم الغين المعجمة وسكون الفاء، وفي بعض النسخ بكسرة الهمزة فيهما، فهما مصدران لفظا وضدان معنى، وأراد بالأول كتابه المشكاة، وبالثاني المصابيح، وكان حقه أن يقول: لكن ليس ما فيه أغفال كالأعلام، ولعله قلب الكلام تواضعا مع البغوي وهضما لنفسه، والحاصل أنه ادعى أن في صنيع البغوي قصورا في الجملة، وهو عدم ذكر الصحابة أولا وعدم ذكر المخرج في كل حديث آخرا، فإن ذكرهما مشتمل على فوائد، قال القاري: أما ذكر الصحابي ففائدته أن الحديث تتعدد رواته وطرقه، وبعضها صحيح وبعضها ضعيف، فيذكر الصحابي ليعلم ضعف المروي من صحيحه، ومنها رجحان الخبر بحال الراوي من زيادة فقهه وورعه، ومعرفة ناسخه من منسوخه بتقدم إسلام الراوي وتأخره، وأما ذكر المخرج ففائدته تعيين لفظ الحديث، وتبيين رجال إسناده في الجملة، ومعرفة كثرة المخرجين وقلتهم في ذلك الحديث لإفادة الترجيح وزيادة التصحيح، ومنها الرجوع إلى الأصول عند الاختلاف في الفصول وغيرها من المنافع. (فاستخرت الله) لقوله تعالى: ?وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة?، ولما روى الطبراني في الصغير والأوسط من حديث أنس مرفوعا: ((ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد))، (واستوفقت منه) بتقديم الفاء على القاف، أي طلبت من الله التوفيق (فأعلمت ما أغفله) أي فبينت ما أهمله البغوي عمدا فإنه ترك ذكر الصحابة في كثير من الأحاديث، فالتزمت ذكر الصحابي في كل حديث، وأيضا لم يتعرض هو لذكر المخرج بحيث يعلم مخرج كل حديث بخصوصه وإن علم مجملا من اصطلاحه
(1/17)
في الصحاح والحسان أنه ذكر في
القسم الأول أي الصحاح أحاديث الصحيحين أو أحدهما، وفي القسم الثاني أي الحسان
أحاديث غيرهما، فذكرت المخرج في كل حديث بخصوصه، قال القاري: أي فبينت ما تركه بلا
إسناد عمدا من ذكر الصحابي أولا وبيان المخرج آخرا بخصوص كل حديث التزاما (فأودعت
كل حديث منه) أي من المصابيح (في مقره) أي وضعت كل حديث من الكتاب في محله الموضوع
في أصله من كل كتاب وباب من غير تقديم وتأخير وزيادة ونقصان وتغيير (كما رواه
الأئمة) أي أئمة الحديث الذين يقتدى بهم (المتقنون) أي الضابطون الحافظون الحاذقون
لمروياتهم من أتقن الأمر إذا أحكمه، ومنه قوله تعالى: ?صنع الله الذي أتقن كل شيء?
(الثقات) بكسر المثلثة جمع ثقة، وهم العدول والأثبات (الراسخون) أي الثابتون
بمحافظة هذا العلم، المتمكنون فيه، من رسخ أي ثبت في موضعه، يقال رسخ الخبر في
الصحيفة، والعلم في القلب، وفلان راسخ في العلم أي متمكن فيه (مثل أبي عبدالله
محمد بن إسماعيل) هو أمير المؤمنين في حديث سيد المرسلين، إمام الأئمة المجتهدين،
سلطان المحدثين، أبوعبدالله محمد بن
البخاري، وأبي الحسين مسلم بن الحجاج
(1/18)
إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن الأحنف بردزبه الجعفي مولاهم ولاء إسلام البخاري، صاحب الجامع الصحيح والتصانيف، جبل الحفظ وإمام الدنيا في ثقة الحديث، ومعجزة للرسول البشير النذير حيث وجد في أمته مثل هذا الفرد العديم النظير، فلم ير مثله من جهة الحديث وإتقانه، وفهم معاني كتاب الله وسنة رسوله، ومن حيثية حدة ذهنه، وذقة نظره، ووفور فقهه، وكمال زهده، وغاية ورعه، وقوة اجتهاده واستنباطه، وكثرة اطلاعه على طرق الحديث وعلله، ولد يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة 194هـ، وتوفي وقت العشاء ليلة السبت ليلة الفطر سنة 256هـ، ودفن يوم العيد بعد صلاة الظهر بخرتنك على فرسخين من سمرقند، وعمره اثنتان وستون سنة إلا ثلاثة عشر يوما، ولم يخلف ولدا، كانت أمه مستجابة الدعوات، توفي أبوه وهو صغير فنشأ في حجر والدته، ثم عمي، وقد عجز الأطباء عن معالجته، فرأت في المنام إبراهيم الخليل - عليه السلام - قائلا لها قد رد الله على ابنك بصره بكثرة دعائك له، فأصبح وقد رد الله عليه بصره، فنشأ متربيا في حجر العلم، مرتضعا من ثدي الفضل، ثم ألهم طلب الحديث وله عشر سنين، ورد على بعض مشايخه غلطا وهو في إحدى عشرة سنة، فأصلح كتابه من حفظ البخاري، سمع الحديث ببلده بخارى، ثم رحل في طلب هذا الشأن إلى جميع محدثي الأمصار، وسمع الكثير، وأخذ عنه الحديث خلق كثير في كل بلدة حدث بها، روى عنه الترمذي في جامعه كثيرا ومسلم في غير صحيحه، قال الفربري: سمع كتاب البخاري منه تسعون ألف رجل، قال البخاري: خرجت كتابي الصحيح من زهاء ستمائة ألف حديث، وما وضعت فيه إلا صحيحا، وارجع لترجمته إلى كتاب "سيرة البخاري" جزء كبير وتأليف مفرد مبسوط في ترجمة الإمام البخاري وذكر تصانيفه وبيان محاسن جامعه الصحيح وفضائله باللغة الأردية لوالدنا العلامة محمد عبدالسلام المباركفوري - رحمه الله -، وقد ذكر شيئا من ترجمته الشيخ الدهلوي في
(1/19)
أشعة اللعمات (ص9-13)،
والعلامة القنوجي في إتحاف النبلاء (349-355)، وعلي القاري في المرقاة (13-16)،
والحافظ في أواخر مقدمة الفتح (563-583)، وفي تهذيب التهذيب (ج9: ص47-55)،
والقسطلاني في مقدمة إرشاد الساري (ج1: ص31-46)، والنووي في تهذيب الأسماء واللغات
(ج1: ص67-76)، والسبكي في طبقات الشافعية (ج2: ص2-19)، والسمعاني في الأنساب (ورقة
68، 131)، والخطيب في تاريخ بغداد (ج2: ص4-34)، وابن خلكان في تاريخه، والذهبي في
تذكرته، والمصنف في الإكمال وغيرهم، وأفرد بعضهم ترجمته في تأليفات مبسوطة كالذهبي
وابن الملقن والأمير اليماني والعجلوني وغيرهم. (البخاري) نسبة إلى
"بخارى" بلدة عظيمة من بلاد وراء النهر ؛ لتولده فيها وصار بمنزلة العلم
له ولكتابه. (وأبي الحسين مسلم بن الحجاج) هو الإمام الحافظ الحجة أبوالحسين مسلم
بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، أحد الأئمة الحفاظ وأعلام المحدثين صاحب
التصانيف، طلب علم الحديث صغيرا، ورحل إلى العراق والحجاز والشام ومصر، سمع من
مشايخ البخاري وغيرهم كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه والقعنبي وغيرهم. وروى عنه
أئمة من كبار عصره وحفاظ دهره، كأبي حاتم الرازي وابن خزيمة وغيرهما، وروى عنه
الترمذي
القشيري، وأبي عبدالله مالك بن أنس الأصبحي
(1/20)
حديثا واحدا ((أحصوا هلال شعبان لرمضان)) ما له في جامع الترمذي غيره، ألف المؤلفات النافعة، وأنفعها صحيحه الذي فاق بحسن ترتيبه وحسن سياقه وبديع طريقته، قال مسلم: صنفت المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة، قال الحافظ: حصل لمسلم في كتابه حظ عظيم مفرط لم يحصل لأحد مثله، بحيث أن بعض الناس كان يفضله على صحيح محمد بن إسماعيل، وذلك لما اختص به من جمع الطرق وجودة السياق والمحافظة على أداء الألفاظ، كما هي من غير تقطيع ولا رواية بمعنى، وقد نسج على منواله خلق من النيسابوريين فلم يبلغوا شأوه، وحفظت منهم أكثر من عشرين إماما ممن صنف المستخرج على مسلم، وقال الخطيب: إنما قفا مسلم طريق البخاري ونظر في علمه وحذا حذوه، ولما ورد البخاري النيسابور في آخر مرة لازمه مسلم وداوم الاختلاف إليه، وقال الدارقطني: لولا البخاري لما ذهب مسلم وجاء، ولد سنة 204هـ، وقيل سنة 206هـ، وتوفي عشية يوم الأحد لأربع أو لخمس أو لست بقين من رجب سنة 261هـ، وعمره خمس وخمسون سنة، ودفن بنصر آباد ظاهر نيسابور يوم الاثنين، ملتقط من التذكرة للذهبي (ج2: 165-167)، ووفيات الأعيان (ج2: ص91)، وتهذيب التهذيب (ج10: 126-128)، والمرقاة (ج1: 16-17)، وإتحاف النبلاء (430-431)، وأشعة اللمعات (ج1: 13-14)، والإكمال للمصنف، وبستان المحدثين (116-117). (القشيري) بضم القاف وفتح الشين المعجمة وسكون المثناة من تحتها وبعدها راء، نسبة إلى قشير بن كعب، قبيلة كبيرة من العرب، (وأبي عبدالله مالك بن أنس) هو الإمام الحافظ فقيه الأمة، أحد أعلام الإسلام، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، كبير المتثبتين، صاحب المذهب، أبوعبدالله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان ويقال: عثمان بن جثيل، وقيل: خثيل بن عمرو بن ذي أصبح الحارث المدني (الأصبحي) بفتح الهمزة وسكون الصاد المهملة وفتح الباء الموحدة بعدها حاء مهملة، نسبة إلى ذي أصبح جده
(1/21)
التاسع، واسمه الحارث بن عوف،
وهي قبيلة كبيرة من أكرم قبائل اليمن جاهلية وإسلاما، من يعرب بن يشجب بن قحطان،
كان جده الأعلى الحارث بن عوف بن الأصبح، وهو بطن من الحمير، ولذا لقب بذي أصبح،
واختلف في ولادته، فقيل: ولد سنة 90هـ، وقيل: سنة 94هـ، وقيل: سنة 95هـ، قال
الذهبي في التذكرة: أما يحيى بن بكير فقال: سمعته يقول: ولدت سنة 93هـ ثلاث
وتسعين، فهذا أصح الأقوال، انتهى. واختاره السمعاني في الأنساب، وقال: هذا متصل
بالسند إلى يحيى بن بكير تلميذ الإمام، واختاره ابن فرحون، وقال: هو الأشهر، وحمل
في بطن أمه ثلاث سنين، واختلف في تاريخ وفاته أيضا، قال ابن فرحون: والصحيح أنها
كانت يوم الأحد لتمام اثنين وعشرين يوما من مرضه في ربيع الأول سنة 179هـ، فقيل:
لعشر مضت، وقيل: لأربع عشرة، ولثلاث عشرة، ولإحدى عشرة، وقيل: لاثنتي عشرة من رجب،
ودفن بالبقيع، قال المصنف في الإكمال: هو – أي مالك – إمام الحجاز، بل الناس في
الفقه والحديث، وكفاه فخرا أن الشافعي من أصحابه، أخذ العلم عن الزهري ويحيى بن
سعيد ونافع مولى ابن عمر وهشام بن عروة وربيعة بن عبدالرحمن وخلق كثير، قال
الزرقاني: أخذ عن تسعمائة شيخ فأكثر، قال: والرواة عنه فيهم كثرة جدا، بحيث لا
يعرف لأحد من الأئمة رواة
وأبي عبدالله محمد بن إدريس الشافعي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/22)
كرواته، وقال الذهبي: حدث عنه أمم لا يكادون يحصون، وروى سعيد بن أبي مريم عن أشهب بن عبدالعزيز قال: رأيت أباحنيفة بين يدي مالك كالصبي بين يدي أبيه. وقال الشافعي: قال لي محمد بن الحسن: أيهما أعلم صاحبنا أم صاحبكم ؟ يعني أباحنيفة ومالكا – رضي الله عنهما -، قال: قلت على الإنصاف ؟ قال: نعم، قال: قلت: ناشدتك الله، من أعلم بالقرآن صاحبنا أم صاحبكم ؟ قال: اللهم صاحبكم، قال: قلت: ناشدتك الله، من أعلم بالسنة صاحبنا أم صاحبكم ؟ قال: اللهم صاحبكم، قال: ناشدتك الله، من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتقدمين صاحبنا أم صاحبكم ؟ قال: اللهم صاحبكم، قال الشافعي: فلم يبق إلا القياس، والقياس لا يكون إلى على هذه الأشياء، فعلى أي شيء نقيس ؟ ذكره ابن خلكان، ساد مذهبه في الأندلس قضاء وفتيا ولا يزال هو السائد إلى اليوم في المغرب، وقد أطنب الناس من السلف والخلف في ذكر ترجمته في كتبهم، وصنف جمع منهم تأليفات مفردة بذكر أحواله، منهم الذهبي، وأبوبكر بن أحمد بن مروان المالكي المتوفى سنة 310هـ، وأبوالروح عيسى بن مسعود الشافعي المتوفى سنة 774هـ، وأبوعبدالله محمد بن أحمد التستري المالكي المتوفى سنة 345هـ، ومحمد أبوإسحاق بن القاسم بن شعبان المتوفى سنة 355هـ، ومحمد أبوبكر بن اللباد بن محمد المتوفى سنة 333هـ، والحافظ ابن حجر، والسيوطي وغيرهم، وقد ذكر شطرا صالحا من ترجمته، وكشف حال كتابه الموطأ الشاه عبدالعزيز في "بستان المحدثين"، والشيخ عبدالحي اللكنوي في مقدمة التعليق الممجد، والعلامة القنوجي في إتحاف النبلاء (ص338-339)، والحافظ في تهذيب التهذيب (ج10: ص3-9)، والمصنف في الإكمال، والقاري في المرقاة (ج1: 17-18)، وصاحب الأوجز في مقدمة شرحه للموطأ (ص11-35)، فعليك أن تراجع هذه الكتب، قال الذهبي في التذكرة (ج1: ص191): قد كنت أفردت ترجمة مالك في جزء وطولتها في تاريخي الكبير، قد اتفق لمالك
(1/23)
مناقب ما علمتها اجتمعت لغيره،
أحدها: طول العمر، وعلو الرواية. وثانيها: الذهن الثاقب، والفهم، وسعة العلم،
وثالثها: اتفاق الأئمة على أنه حجة، صحيح الرواية، ورابعتها: تجمعهم على دينه،
وعدالته، واتباعه السنن، وخامستها: تقدمه في الفقه والفتوى، وصحة قواعده، عاش ستا
وثمانين سنة – انتهى. وقدم المصنف عليه البخاري ومسلما مع كونه أولى وأحرى
بالتقديم للشرط الذي لكتابيهما. وقال القاري: أخر عن البخاري ومسلم ذكرا وإن كان
مقدما عليهما وجودا ورتبة وإسنادا لتقدم كتابيهما على كتابه ترجيحا لعدم التزامه
تصحيحا – انتهى. (وأبي عبدالله محمد بن إدريس) هو الإمام العلم حبر الأمة صاحب
المذهب ناصر الحديث المجدد لأمر الدين على رأس المائتين محمد بن إدريس بن العباس
بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف
القرشي المطلبي المكي، نزيل مصر أبوعبدالله (الشافعي) بكسر الفاء بعدها عين مهملة،
نسبة إلى شافع، قيل: لقي شافع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مترعرع، وهذا وجه
تخصيص النسبة إليه، ثم نسبه أهل مذهبه أيضا شافعي لأن الاسم إذا كان مختوما بياء
مشددة، فإن كان قبلها أكثر من حرفين وجب حذفها، فتقول في النسبة إلى إسكندرية
إسكندري، والشافعي من هذا القبيل، فقول العامة
وأبي عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/24)
"شافعوي" خطأ، ولد بغزة سنة 150هـ، على الأصح، وهي سنة وفاة أبي حنيفة، وحمل إلى مكة وهو ابن سنتين، وتوفي عند العشاء الآخر ليلة الجمعة آخر يوم من رجب سنة 204، ودفن بعد العصر يوم الجمعة بقرافة مصر، عاش أربعا وخمسين سنة، قال المصنف بعد ذكر شيء من مناقبه: وفضائله أكثر من أن تحصى، كان إمام الدنيا وعالم الناس شرقا وغربا، جمع الله له من العلوم والمفاخر ما لم يجمع لإمام قبله ولا بعده، وانتشر له من الذكر ما لم ينتشر لأحد سواه، سمع مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، ومسلم بن خالد، وخلقا سواهم كثيرا، حدث عنه أحمد بن حنبل، وأبوثور، وأبوإبراهيم المزني، والربيع بن سليم المرادي، وخلق كثير غيرهم، قدم بغداد سنة خمس وتسعين ومائة فأقام بها أشهرا، ثم خرج إلى مصر ومات بها، قال القاري: وصنف في العراق كتابه القديم المسمى بالحجة، ثم رحل إلى مصر سنة تسع وتسعين ومائة، وصنف كتبه الجديدة بها، ورجع عن تلك ومجموعها يبلغ مائة وثلاثة عشر مصنفا، وسار ذكرها في البلدان، وقصده الناس من الأقطار للأخذ عنه، وكذا أصحابه من بعده لسماع كتبه حتى اجتمع في يوم على باب الربيع تسعمائة راحلة، وابتكر أصول الفقه، وكتاب القسامة، وكتاب الجزية، وقتال أهل البغي، وكان حجة في اللغة والنحو. وقال ابن خلكان: كان الشافعي كثير المناقب، جم المفاخر، منقطع القرين، اجتمعت فيه من العلوم بكتاب الله وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكلام الصحابة وآثارهم واختلاف أقاويل العلماء وغير ذلك من معرفة كلام العرب واللغة العربية والشعر، حتى أن الأصمعي مع جلالة قدره في هذا الشأن قرأ عليه أشعار الهذليين ما لم يجتمع في غيره، حتى قال أحمد بن حنبل: ما عرفت ناسخ الحديث من منسوخه حتى جالست الشافعي. وقال أبوعبيد القاسم بن سلام: ما رأيت رجلا قط أكمل من الشافعي، قال ابن خلكان: والشافعي أول من تكلم في أصول الفقه، وهو الذي استنبطه، وقد اتفق العلماء قاطبة من
(1/25)
أهل الحديث والفقه والأصول
واللغة والنحو وغير ذلك على ثقته وأمانته وعدالته وزهده وورعه ونزاهة عرضه وعفة
نفسه وحسن سيرته وعلو قدره وسخائه. وأخبرني أحد المشايخ أنه عمل في مناقب الشافعي
ثلاثة عشر تصنيفا – انتهى. قلت: بل زيادة على ذلك فقد ذكر في كشف الظنون أحدا
وعشرين تصنيفا مع العزو إلى من صنف هذه التصانيف. وقال ابن ا لملقن في العقد
المذهب: بلغ التصانيف في مناقب الشافعي إلى نحو أربعين مؤلفا بل زيادة على ذلك،
وقال الحافظ في توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس: قد سبق إلى التأليف في ذلك من
يتعسر استيعابهم بالذكر، أو يطمع في اللحاق بهم المتأخر ولو وسع المجال أو ضيق
الفكر، ثم ذكر أسماء بعض من صنف في ذلك، وعليك أن تراجع توالي التأسيس، فقد ذكر
فيه الحافظ شطرا صالحا من مناقبه. (وأبي عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل) بن هلال بن
أسد الإمام الحافظ الحجة صاحب المذهب (الشيباني) نسبة إلى شيبان بن ذهل بن ثعلبة
أحد أجداده، وهو مروزي الأصل، خرجت أمه من مرو وهي حامل فولدته ببغداد في ربيع
الأول سنة 164هـ، وتوفي ضحوة نهار الجمعة لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول سنة 241هـ
ببغداد، كان – رحمه الله – إماما في الفقه والحديث والزهد والورع والعبادة، وبه
عرف الصحيح والسقيم والمجروح من المعدل، ونشأ ببغداد وطلب
وأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/26)
العلم وسمع الحديث من شيوخها، ثم رحل إلى مكة والكوفة والبصرة والمدينة واليمن والشام والجزيرة، فسمع من يحيى بن سعيد القطان، وابن عيينة، والشافعي، وعبدالرزاق بن الهمام، وخلق كثير، وروى عنه ابناه صالح وعبدالله، وابن عمه حنبل بن إسحاق، والبخاري، ومسلم، وأبوداود، وأبوزرعة، وأبوالقاسم البغوي، وخلق كثير سواهم، قال أبوزرعة: كانت كتبه اثني عشر جملا، وكان يحفظها على ظهر قلبه، وكان يحفظ ألف ألف حديث، قال الشافعي: خرجت من بغداد وما خلفت بها أحدا أتقى وأورع ولا أفقه ولا أعلم من أحمد بن حنبل، ودعي إلى القول بخلق القرآن فلم يجب، فضرب وحبس وهو مصر على الامتناع، وكان ضربه في العشر الأخير من شهر رمضان سنة عشرين ومائتين، وكان حبسه أيام المعتصم ثمانية وعشرين شهرا، ثم عرف المتوكل قدره وأكرمه وقدره، وألف المسند الكبير، أعظم المسانيد وأحسنها وضعا وانتقادا، انتقاه من أكثر من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألف حديث، ومناقبه كثيرة، وفضائله جمة، وله كرامات جليلة، وقد طول المؤرخون ترجمته، وترجمه الذهبي في النبلاء في مقدار خمسين ورقة، وأفردت ترجمته بمصنفات مستقلة بسيطة، قال الذهبي في التذكرة: سيرة أبي عبدالله – يعني الإمام أحمد – قد أفردها البيهقي في مجلد، وأفردها ابن الجوزي في مجلد، وأفردها شيخ الإسلام الأنصاري في مجلد لطيف – انتهى. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج1: ص75): لم يسق المؤلف – يعني مصنف التهذيب – قصة المحنة، وقد استوفاها ابن الجوزي في مناقبه في مجلد، وقبله شيخ الإسلام الهروي، وترجمته في تاريخ بغداد للخطيب (ج4: 412-423) مستوفاة – انتهى. قال ابن خلكان: وحرز من حضر جنازته من الرجال فكانوا ثمانمائة ألف، ومن النساء ستين ألفا، وقال أبوالحسن بن الزاغوني: كشف قبر أحمد حين دفن الشريف أبوجعفر بن أبي موسى إلى جانبه فوجد كفنه صحيحا لم يبل، وجنبه لم يتغير، وذلك بعد موته بمائتين وثلاثين سنة. (وأبي عيسى
(1/27)
محمد بن عيسى) بن سورة بن
الضحاك السلمي الضرير البوغي (الترمذي) نسبة إلى ترمذ، واختلف في ضبطها كثيرا،
والمعروف المشهور على الألسنة كسر التاء والميم وبينهما راء ساكنة بوزن
"إثمد" كما ضبطها صاحب القاموس، قال السمعاني في الأنساب (ورقة 105):
والناس مختلفون في كيفية هذه النسبة، بعضهم يقول بفتح التاء المنقوطة بنقطتين من
فوق، وبعضهم يقول بكسرها، والمتداول على لسان تلك البلدة - وكنت أقمت بها اثني عشر
يوما - فتح التاء وكسر الميم، والذي كنا نعرفه قديما كسر التاء والميم جميعا،
والذي يقوله المتنوقون وأهل المعرفة بضم التاء والميم، وكل واحد يقول معنى لما
يدعيه - انتهى. وقال الذهبي في التذكرة (ج1: ص188): قال شيخنا ابن دقيق العيد:
وترمذ بالكسر هو المستفيض على الألسنة حتى يكون كالمتواتر، وهذه البلدة ترمذ قال
السمعاني: مدينة قديمة على طرف نهر بلغ الذي يقال له جيحون، ولد سنة 209هـ، كتبه
نصا العلامة الشيخ محمد عابد السندي المتوفى سنة 1257هـ بخطه على نسخة من
كتاب الترمذي المكتوبة سنة 1221هـ المصححة المقابلة على أصل صحيح معتمد، ذكره
العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر في مقدمة تعليقه على الترمذي (77) قال: ولعله نقل
ذلك استنباطا من كلام غيره من المتقدمين، وقد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/28)
صرح بذلك أيضا جسوس والبيجوري
في شرحهما على الشمائل، وقد ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال أنه مات في رجب سنة
279هـ، وقال: وكان من أبناء السبعين، وقال القاري في شرح الشمائل بعد أن ذكر وفاته
سنة 279هـ: وله سبعون سنة، وقال الصلاح الصفدي في نكت الهميان: ولد سنة بضع
ومائتين، وقال ابن الأثير في جامع الأصول: ولد في ذي الحجة سنة مائتين(1)، فالله
أعلم بصحة ذلك، والأكثر على أنه توفي ليلة الاثنين الثالث عشر من رجب سنة 279هـ،
وقيل سنة 275هـ، وقيل سنة 277هـ، والصواب الأول، وهو – رحمه الله – أحد الأئمة
الحفاظ الأعلام المبرزين الذين يقتدى بهم في علم الحديث، صنف الجامع والتواريخ
والعلل تصنيف رجل عالم متقن، كان يضرب به المثل في الحفظ، قد امتحنه بعض المحدثين
بأن قرأ له أربعين حديثا من غرائب حديثه، فأعادها من صدره فقال: ما رأيت مثلك.
ونقل الحاكم أبوأحمد عن عمر بن علك أنه قال: مات البخاري فلم يخلف بخراسان مثل أبي
عيسى في العلم والحفظ والورع والزهد، بكى حتى عمي وبقي ضريرا سنين، وذكره ابن حبان
في الثقات وقال: كان ممن جمع وصنف وحفظ وذاكر، وقال أبوالفضل البيلماني: سمعت نصر
بن محمد الشيركوهي يقول: سمعت محمد بن عيسى الترمذي يقول: قال لي محمد بن إسماعيل
- يعني البخاري-: ما انتفعت بك أكثر مما انتفعت بي، وقال ابن خلكان: وهو تلميذ أبي
عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، وشاركه في بعض شيوخه، مثل قتيبة بن سعيد، وعلي
بن حجر، وابن بشار وغيرهم، وقال الشيخ أحمد المصري في مقدمة تعليقه: الترمذي تلميذ
البخاري وخريجه، وعنه أخذ علم الحديث، وتفقه فيه، ومرن بين يديه، وسأله، واستفاد
منه، وناظره فوافقه وخالفه كعادة هؤلاء العلماء في اتباع الحق حيث كان، وفي إنكار
التقليد والإعراض عنه، وقد طاف البلاد وسمع خلقا
__________
(1) كذا نقله شيخنا في مقدمة شرح الترمذي (ص167) ، والذي في جامع الأصول طبعة مصر
(ج1: ص114): ولد سنة تسع ومائتين.
(1/29)
من الخراسانيين والعراقيين
والحجازيين كما في التهذيب، والرواة عنه كثيرون، ذكر بعضهم في تذكرة الحفاظ وفي
التهذيب، وأهمهم عندنا ذكرا المحبوبي راوي كتاب الجامع عنه، ترجم له ابن العماد في
شذرات الذهب (ج2: ص373) فقال: أبوالعباس المحبوبي محمد بن أحمد بن محبوب المروزي،
محدث مرو وشيخها ورئيسها، توفي في رمضان سنة 346هـ، وله سبع وسبعون سنة، روى جامع
الترمذي عن مؤلفه، وروى عن سعيد بن مسعود صاحب النضر بن شميل وأمثاله. ووصفه
السمعاني في الأنساب (ورقة 511): شيخ أهل الثروة من التجار بخراسان وإليه كانت
الرحلة، وقد أراد البخاري أن يشهد لتلميذه الترمذي شهادة قيمة فسمع منه حديثا
واحدا كعادة كبار الشيوخ في سماعهم ممن هو أصغر منهم - انتهى كلام الشيخ أحمد
مختصرا. قلت: بل سمع البخاري من الترمذي حديثين، ذكر أحدهما في تفسير سورة الحشر،
والثاني في مناقب علي، وقال المصنف: وللترمذي تصانيف كثيرة في علم الحديث، وهذا
كتابه الصحيح أحسن الكتب وأكثرها فائدة وأحسنها ترتيبها وأقلها تكرارا، وفيه ما
ليس في غيره من ذكر المذاهب ووجوه الاستدلال وتبيين أنواع الحديث من الصحيح والحسن
والغريب، وفيه جرح وتعديل، وفي آخر كتاب العلل، وقد جمع فيه فوائد حسنة لا يخفى
قدرها على من وقف عليها(1). وارجع للبسط والتفصيل إلى مقدمة تحفة الأحوذي شرح
وأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، وأبي عبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) وكتاب العلل هذا الملحق بكتاب الجامع (سنن الترمذي) معروف بالعلل الصغير ، وقد
شرحه ابن رجب الحنبلي المتوفى سنة 795 ، وطبع هذا الشرح في بغداد سنة 1396هـ
بتحقيق السيد صحبي جاسم الحميدي البدري السامرائي ، وللترمذي أيضا كتاب العلل
الكبير ، ذكره ابن النديم في الفهرست ص(339) قال السيد صبحي: لم أقف عليه ولعله
فقد .
(1/30)
جامع الترمذي، وإلى مقدمة تعليق الترمذي للشيخ أحمد محمد شاكر المصري (وأبي داود سليمان بن الأشعث) بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو بن عمران الأزدي (السجستاني) بكسر السين المهملة وتفتح وبكسر الجيم وسكون السين الثانية بعدها تاء مثناة من فوقها وبعد الألف نون، نسبة إلى سجستان معرب سيستان الأقليم المشهور بين خراسان وكرمان، ويقال في النسبة إلى سجستان: "سجزي" أيضا، وقد نسب أبوداود وغيره كذلك، وهو عجيب التغير في النسب، ولد سنة 202هـ، وتوفي بالبصرة يوم الجمعة منتصف شوال سنة 275هـ عن ثلاث وسبعين سنة. وهو الإمام الثبت أحد حفاظ الحديث وعلله، وفي الدرجة العليا من النسك والصلاح وعلم الفقه والورع والإتقان، أحد من رحل وطوف البلاد وجمع وصنف وسمع بخراسان والعراق والجزيرة والشام والحجاز ومصر، وقدم بغداد مرارا، ثم نزل البصرة وسكنها، وأخذ عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وقتيبة بن سعيد وعبدالله بن مسلمة ومسدد بن مسرهد ومحمد بن بشار وغير هؤلاء أئمة الحديث ممن لا يحصى كثرة. وحدث عنه ابنه أبوبكر عبدالله بن أبي داود، وكان من أكابر الحفاظ ببغداد عالما متفقا عليه إمام بن إمام، وحدث عنه أيضا أبوعيسى الترمذي صاحب الجامع، وأبوعبدالرحمن النسائي صاحب السنن المشهورة، وأحمد بن محمد الخلال، وروى عنه شيخه أحمد بن حنبل فرد حديث أي حديث العتيرة، كان أبوداود يفتخر بذلك، وروى عنه خلق سوى هؤلاء، قال أبوبكر الخلال: أبوداود هو الإمام المقدم في زمانه، رجل لم يسبقه إلى معرفته بتخريج العلوم وبصره بمواضعه أحد في زمانه، وقال ابن حبان: أبوداود أحد أئمة الدنيا فقها وعلما وحفظا ونسكا وورعا وإتقانا، وقال الحافظ موسى بن هارون: خلق أبوداود في الدنيا للحديث وفي الآخر للجنة، وما رأيت أفضل منه، قال أبوداود: كتبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب، جمعت فيه أربعة آلاف حديث
(1/31)
وثمان مائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه وما يقاربه، وقال: ما ذكرت فيه حديثا أجمع الناس على تركه، وعرض كتابه هذا على شيخه أحمد بن حنبل فاستجاده واستحسنه، وارجع للبسط إلى تاريخ بغداد (ج9: ص55-59)، والتهذيب (ج4: 169-173)، والتذكرة (ج2: 168-170)، وبستان المحدثين، وإتحاف النبلاء (256-257)، وغير ذلك من كتب التواريخ والتراجم. (وأبي عبدالرحمن أحمد بن شعيب) بن علي بن سنان بن بحر بن دينار الحافظ الإمام القاضي صاحب السنن المشهورة (النسائي) نسبة إلى نسأ - بفتح النون والسين المهملة وبعدها همزة يعني بالقصر -، وهي مدينة بخراسان، وقال صاحب مجمع البحار في المغني: النسائي بنون مفتوحة وخفة سين مهملة ومد وهمزة نسبة إلى نسأ، مدينة بخراسان، وكذا ضبطه طاش كبرى زاده، قال شيخنا في مقدمة شرحه الجامع الترمذي (ص65): النسائي بالمد والنسائي بالقصر كلاهما صحيح، فإن الظاهر أن مدينة نساء التي هي بخراسان يقال لها نساء ونسأ بالوجهين انتهى. ولد سنة 214هـ أو سنة 215هـ أو سنة 221هـ على اختلاف الأقوال، والراجح هو القول الثاني، وتوفي برملة من أرض فلسطين، وقيل: بمكة يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من صفر، وقيل: من شعبان سنة 303. قال الذهبي في مختصره:
(1/32)
عاش ثمان وثمانين سنة. قال الحافظ: وكأنه بناه على ما تقدم من مولده فهو تقريب - انتهى. وهو - رحمه الله - أحد الأئمة الحفاظ العلماء الفقهاء، لقي المشايخ الكبار، وأخذ الحديث عن قتيبة بن سعيد وهناد بن السري ومحمد بن بشار وعلي بن حجر ومحمود بن غيلان وأبي داود سليمان بن الأشعث وغير هؤلاء من المشايخ الحفاظ، وأخذ عنه الحديث خلق كثير، ومنهم الطبراني والطحاوي وأبوبكر بن السني الحافظ، وله كتب كثيرة في الحديث والعلل وغير ذلك، قال أبوالحسين بن المظفر: سمعت مشايخنا بمصر يعترفون لأبي عبدالرحمن النسائي بالتقدم والإمامة، ويصفون من اجتهاده في العبادة بالليل والنهار ومواظبته على الحج والجهاد وإقامته السنن المأثورة واحترازه عن مجالس السلطان، وإن ذلك لم يزل دأبه إلى أن استشهد، وقال الحاكم: سمعت عمرو بن علي الحافظ غير مرة يقول: أبوعبدالرحمن مقدم على كل من يذكر بهذا العلم من أهل عصره، وقال مرة: سمعت عمرو بن علي يقول: النسائي أفقه مشايخ مصر في عصره، وأعرفهم بالصحيح والسقيم، وأعلمهم بالرجال، فلما بلغ هذا المبلغ حسدوه، فخرج إلى الرملة، فسئل عن فضائل معاوية فأمسك عنه، فضربوه في الجامع، فقال: أخرجوني إلى مكة، فأخرجوه وهو عليل، وتوفي مقتولا شهيدا، وقال: أما كلام أبي عبدالرحمن على فقه الحديث فأكثر من أن يذكر، ومن نظر في كتابه السنن تحير، قال السيد جمال الدين المحدث: صنف النسائي في أول الأمر كتابا يقال له السنن الكبير للنسائي، وهو كتاب جليل لم يكتب مثله في جمع طرق الحديث وبيان مخرجه، وبعده اختصره وسماه بالمجتنى - بالنون -، وسبب اختصاره أن أحدا من أمراء زمانه سأله أن جميع أحاديث كتابك صحيح ؟ فقال في جوابه: لا، فأمره الأمير بتجريد الصحاح وكتابة صحيح مجرد، فانتخب منه المجتنى، وكل حديث تكلم في إسناده أسقطه منه، فإذا أطلق المحدثون بقولهم "رواه النسائي" فمرادهم هذا المختصر المسمى بالمجتنى، لا الكتاب
(1/33)
الكبير، كذا في المرقاة، وقال
ابن الأثير (ج1: ص116): وسأله بعض الأمراء عن كتابه السنن أكله صحيح ؟ فقال: لا،
قال: فاكتب لنا الصحيح منه مجردا، فصنع المجتبى، فهو المجتبى من السنن، ترك كل
حديث أورده في السنن (الكبيرة) مما تكلم في إسناده بالتعليل، رواه ابن عساكر،
وسماه المجتنى بالنون أو الباء والمعنى قريب، والأشهر هو الأخير، وإذا أطلق أهل
الحديث على أن النسائي روى حديثا فإنما يريدون المجتبى لا السنن الكبرى، وهي إحدى
الكتب الستة، قال الحافظ أبوعلي: للنسائي شرط في الرجال أشد من شرط مسلم، وكذلك
الحاكم والخطيب كانا يقولان: إنه صحيح، وإن له شرطا في الرجال أشد من شرط مسلم، لكن
قولهم غير مسلم، قال البقاعي في شرح الألفية عن ابن كثير: إن في النسائي رجالا
مجهولين إما عينا أو حالا، وفيهم المجروح، وفيه أحاديث ضعيفة ومعللة ومنكرة، وقال
الشوكاني: وله مصنفات كثيرة في الحديث والعلل، منها السنن، وهي أقل السنن الأربع
بعد الصحيح حديثا ضعيفا، قال الذهبي والتاج السبكي: إن النسائي أحفظ من مسلم صاحب
الصحيح، هذا ملتقط من مقدمة تحفة الأحوذي (64-65)، والتذكرة (ج2: 266-269)،
والتهذيب (ج1: 37-39)، وإتحاف النبلاء (189-190)، وبستان المحدثين، هذا وقد ادعى
الشيخ تقي النقي العلامة عبدالصمد شرف الدين في مقدمته القيمة للسنن الكبرى
(17-19) أن حكاية ابن
وأبي عبدالله محمد بن يزيد ابن ماجه القزويني،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/34)
الأثير المذكورة كذب وزور، ولنا في كلامه نظر لا يخفى على الباحث المتأمل. (وأبي عبدالله محمد بن يزيد ابن ماجه) بفتح الميم وتخفيف الجيم وبينهما ألف وفي الآخر هاء ساكنه لا تاء مربوطة (القزويني) بفتح القاف وسكون الزاي وكسر الواو وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون، نسبة إلى قزوين وهي من أشهر مدن عراق العجم، كانت ولادته سنة 209هـ، وتوفي يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء لثمان بقين من شهر رمضان سنة273هـ، وله أربع وستون سنة، وهو الحافظ الكبير المشهور المفسر أبوعبدالله محمد بن يزيد ابن ماجه الربعي بالولاء (نسبة إلى ربيعة) القزويني، مصنف كتاب السنن في الحديث، كان إماما في الحديث عارفا بعلومه وجميع ما يتعلق به، ارتحل إلى العراق والبصرة والكوفة وبغداد ومكة والشام ومصر والري لكتب الحديث، وله تفسير القرآن الكريم، وتاريخ مليح، وكتابه في الحديث أحد الصحاح الستة. قال الخليلي: ثقة كبير متفق عليه محتج به، له معرفة بالحديث وحفظ، وله مصنفات في السنن والتفسير والتاريخ، قال: وكان عارفا بهذا الشأن، سمع أصحاب مالك والليث. وعنه أبوالحسن القطان وخلق سواه، قال السندي في مقدمة تعليقه على سنن ابن ماجه: قد اشتمل هذا الكتاب من بين الكتب الست على شؤون كثيرة انفرد بها عن غيره. والمشهور أن ما انفرد به يكون ضعيفا، وليس بكلي، لكن الغالب كذلك، ولقد ألف الحافظ الحجة العلامة أحمد بن أبي بكر البوصيري في زوائده تأليفا نبه على غالبها. وقال السيوطي في حاشية الكتاب: قال الحافظ نقلا عن الرافعي أنه قال: سمعت والدي يقول: عرض كتاب السنن لابن ماجه على أبي زرعة الرازي فاستحسنه، وقال: لم يخطئ إلا في ثلاثة أحاديث، وقال في حاشية النسائي نقلا عن غيره: إن ابن ماجه قد انفرد بإخراج أحاديث عن رجال متهمين بالكذب ووضع الأحاديث، وبعض تلك الأحاديث لا تعرف إلا من جهتهم، مثل حبيب بن أبي حبيب كاتب مالك، والعلاء بن زيد، وداود بن
(1/35)
المحبر، وعبدالوهاب بن الضحاك،
وإسماعيل بن زياد السكوني وغيرهم، وأما ما حكاه ابن طاهر عن أبي زرعة الرازي أنه
نظر فيه فقال: لعله لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثا مما فيه ضعف، فهي حكاية لا تصح
لانقطاع سندها، وإن كانت محفوظة فلعله أراد ما فيه من الأحاديث الساقطة إلى
الغاية، أو أراد من الكتاب بعضه، ووجد فيه هذا القدر، وقد حكم أبوزرعة على أحاديث
كثيرة منه بكونها باطلة أو ساقطة أو منكرة، وذلك محكي في كتاب العلل لأبي حاتم -
انتهى. قال السندي: وبالجملة فهو دون الكتب الخمسة في المرتبة، فلذلك أخرجه كثير
من عده في جملة الصحاح الستة، لكن غالب المتأخرين على أنه سادس الستة - انتهى.
وقال الذهبي : سنن أبي عبدالله كتاب حسن، لولا ما كدر من أحاديث واهية ليست
بالكثيرة، قال أبوالحسن القطان صاحب ابن ماجه: في السنن ألف وخمس مائة باب، وجملة
ما فيها أربعة آلاف حديث، وقال ابن الأثير: كتابه كتاب مفيد قوي النفع في الفقه
لكن فيه أحاديث ضعيفة جدا بل منكرة، حتى نقل عن المزي أن الغالب فيما تفرد به -
يعني بذلك ما انفرد به من الحديث عن الأئمة الخمسة - الضعف، ولذا لم يضفه غير واحد
إلى الخمسة بل جعلوا السادس الموطأ، وفيه عدة أحاديث ثلاثيات من طريق جبارة بن
المغلس، وفيه حديث في فضل قزوين منكر بل موضوع،
وأبي محمد عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/36)
ولذا طعنوا فيه، وفي مصنفه، وواضعه رجل اسمه ميسرة، قال الحافظ في التهذيب (ج9: ص531): كتابه في السنن جامع جيد كثير الأبواب والغرائب، وفيه أحاديث ضعيفة جدا حتى بلغني أن السري كان يقول: مهما انفرد بخبر فيه فهو ضعيف غالبا، وليس الأمر في ذلك على إطلاقه باستقرائي، وفي الجملة ففيه أحاديث كثيرة منكرة، ونقل القاري عن الحافظ أنه قال: وأول من أضاف ابن ماجه إلى الخمسة الفضل بن طاهر حيث أدرجه معها في أطرافه، وكذا في شروطه الأئمة الستة، ثم الحافظ عبدالغني في كتاب الإكمال في أسماء الرجال الذي هذبه الحافظ المزي، وقدموه على الموطأ لكثرة زوائده على الخمسة بخلاف الموطأ، انتهى. تنبيه: اختلف في ماجه فقيل: إنه لقب والد محمد بن يزيد، وقيل: إنه اسم أمه، قال القاري في المرقاة ما لفظه: بإثبات ألف يعني في ابن ماجه خطا، فإنه بدل من ابن يزيد، ففي القاموس: ماجه لقب والد محمد بن يزيد صاحب السنن لا جده، وفي شرح الأربعين: أن ماجه اسم أمه – انتهى. وقال صاحب الحطة: والصحيح أن ماجه أمه، وعلى كلا القولين يكتب الألف على لفظ ابن في الرسم ليعلم أنه وصف لمحمد لا لما يليه، فهو مثل عبدالله بن مالك ابن بحينة، وإسماعيل بن إبراهيم ابن علية، وفي إنجاح الحاجة: "ماجه" على ما ذكر المجد في القاموس، والنووي في تهذيب الأسماء، لقب والده لا جده – انتهى. والصحيح هو الأول – انتهى ما في الحطة -. قال في تاج العروس شرح القاموس (ج2: ص102) ما لفظه: "ماجه" بسكون الهاء كما جزم به الشمس بن خلكان: لقب والد محمد بن يزيد القزويني صاحب السنن لا جده – أي لا لقب جده – كما زعمه بعض. قال شيخنا: وما ذهب إليه المصنف فقد جزم به أبوالحسن القطان، ووافقه على ذلك هبة ا لله بن زاذان وغيره، قالوا: وعليه فيكتب ابن ماجه بالألف لا غير. وهناك قول آخر ذكره جماعة وصححوه وهو أن ماجه اسم لأمه – انتهى. (وأبي محمد عبدالله بن عبدالرحمن) بن فضل بن بهرام بن
(1/37)
عبدالصمد التميمي السمرقندي
(الدارمي) بكسر الراء المهملة - نسبة إلى دارم بن مالك بطن كبير من تميم. ولد سنة
181هـ، وتوفي يوم التروية ودفن يوم عرفة، وقيل: مات يوم الخميس يوم عرفة ودفن يوم
الجمعة للعاشر من ذي الحجة سنة 255هـ، وله من العمر أربع وسبعون سنة، وهو الإمام
الحافظ شيخ الإسلام عالم سمرقند صاحب المسند المشهور، وهو على الأبواب لا على الصحابة
على خلاف اصطلاح المحدثين. سمع النضر بن شميل ويزيد بن هارون وجعفر بن عون وطبقتهم
بالحرمين وخراسان والشام والعراق ومصر. وحدث عنه مسلم وأبوداود والترمذي وعبدالله
بن الإمام أحمد والنسائي خارج سننه وآخرون، وقال الخطيب: كان أحد الحفاظ
والرحالين، موصوفا بالثقة والصدق والورع والزهد، استقضى على سمرقند فأبى فألح عليه
السلطان فقضى بقضيه واحدة ثم استعفى فأعفي – إلى أن قال: وكان على غاية العقل وفي
نهاية الفضل، يضرب به المثل في الديانة والحلم والاجتهاد والعبادة والتقلل. صنف
المسند والتفسير وكتاب الجامع. قال أحمد بن حنبل وذكر الدارمي: عرضت عليه الدنيا
فلم يقبل. وقال أبوحاتم بن حبان: كان من الحفاظ المتقنين وأهل الورع في الدين ممن
حفظ وجمع وتفقه وحدث، وأظهر
وأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني، وأبي بكر بن الحسين البيهقي،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/38)
السنة في بلده ودعا إليها وذب عن حريمها وقمع من خالفها، وقال الحاكم أبوعبدالله: كان من حفاظ الحديث المبرزين، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: إمام أهل زمانه، وارجع لكشف حال مسنده وبيان مرتبته إلى تدريب الراوي (57)، ومقدمة المشكاة في مصطلح الحديث للشيخ الدهلوي، وثبت الشيخ محمد عابد السندي، وتوضيح الأفكار للأمير الصنعاني. (وأبي الحسن علي بن عمر) بن أحمد بن مهدي البغدادي الحافظ الشهير صاحب السنن (الدارقطني) بالدال المهملة بعدها ألف ثم راء مهملة مفتوحة وقاف مضمومة وطاء مهملة ساكنة وفي آخرها نون - منسوب إلى دار القطن محلة كبيرة كانت ببغداد قديما. ولد سنة 305هـ أو سنة 306هـ، ومات يوم الأربعاء لثمان خلون من ذي القعدة سنة 385هـ، وله ثمانون سنة. قال الذهبي في التذكرة (ج3: ص199-202): سمع البغوي وابن أبي داود وابن صاعد وابن دريد وخلائق ببغداد والبصرة والكوفة وواسط، وارتحل في كهولته إلى مصر وشام، وصنف التصانيف، حديث عنه الحاكم وأبوحامد الأسفرائني وتمام الرازي والحافظ عبدالغني الأزدي وأبوبكر البرقاني وأبوذر الهروي وأبونعيم الأصبهاني – صاحب حلية الأولياء – وأبومحمد الخلال والقاضي أبوالطيب الطبري وأبومحمد الجوهري وأمم سواهم. قال الحاكم: صار الدارقطني أوحد عصره في الحفظ والفهم والورع وإماما في القراء والنحويين. وأقمت في سنة سبع وستين ببغداد أربعة أشهر، وكثر اجتماعنا فصادفته فوق ما وصف لي، وسألته عن العلل والشيوخ، وله مصنفات يطول ذكرها، فأشهد أنه لم يخلف على أديم الأرض مثله. وقال الخطيب: كان فريد عصره وإمام وقته، وانتهى إليه علم الأثر والمعرفة بالعلل وأسماء الرجال مع الصدق والثقة وصحة الاعتقاد والأخذ من علوم كالقراءات، فإن له فيها مصنفا سبق فيه إلى عقد الأبواب قبل فهرس الحروف، وتأسى القراء به بعده، ومن ذلك المعرفة بمذاهب الفقهاء، بلغني أنه درس الفقة على أبي سعيد الأصطخري، ومنها المعرفة بالآداب
(1/39)
والشعر فقيل: كان يحفظ دواوين
جماعة، منها ديوان السيد الحميري، ولهذا نسب إلى التشيع، قال ابن الذهبي: ما أبعده
من التشيع، قال القاضي أبوالطيب الطبري: الدارقطني أمير المؤمنين في الحديث، قال
الذهبي: إذا شئت أن تبين براعة هذا الإمام فطالع العلل له فإنك تندهش ويطول تعجبك
– انتهى ما في التذكرة مختصرا ملخصا. وارجع للتفصيل إلى إتحاف النبلاء (316-317)،
وتاريخ ابن لخكان (ج1: ص331)، وبستان المحدثين (48-49). (وأبي بكر أحمد بن الحسين)
بن علي بن عبدالله بن موسى الخسروجردي (البيهقي) نسبة لبيهق بموحدة مفتوحة ومثناة
تحتية ساكنة وهاء مفتوحة فقاف، وهي قرية مجتمعة بنواحي نيسابور على عشرين فرسخا
منها، ولد بخسروجرد – قرية من قراها – في شعبان سنة 384هـ، وتوفي في العاشر من
جمادى الأولى سنة 458هـ بنيسابور، وله من العمر أربع وسبعون سنة، ونقل إلى بيهق
ودفن بخسروجرد، وقال أبوالحسن عبدالغافر في ذيل تاريخ نيسابور: أبوبكر البيهقي
الفقيه الحافظ الأصولي الدين الورع، واحد زمانه في الحفظ وفرد أقرانه في الإتقان
والضبط، من كبار أصحاب الحاكم (أبي عبدالله بن البيع في
وأبي الحسين رزين بن معاوية العبدري،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/40)
الحديث)، ويزيد عليه بأنواع من العلوم، كتب الحديث وحفظه من صباه وتفقه وبرع وأخذ في الأصول وارتحل إلى العراق والجبال والحجاز ثم صنف، وتواليفه تقارب ألف جزء ما لم يسبقه إليه أحد، وجمع بين علم الحديث والفقه وبيان علل الحديث ووجه الجمع بين الأحاديث، طلب منه الأئمة الانتقال من الناحية إلى نيسابور لسماع الكتب، فأتى في سنة إحدى وأربعين وأعدوا له المجلس لسماع كتب المعرفة، وحضره الأئمة، وكان على سيرة العلماء قانعا باليسير. قال الذهبي: ولم يكن عنده سنن النسائي ولا جامع الترمذي ولا سنن ابن ماجه، بلى كان عنده الحاكم فأكثر عنه، وعدنه عوال، وبورك له في عمله لحسن مقصده وقوة فهمه وحفظه، وعمل كتبا لم يسبق إلى تحريرها، منها الأسماء والصفات مجلدان، والسنن الكبير عشر مجلدات، ومعرفة السنن والآثار أربع مجلدات، وشعب الإيمان مجلدان، ودلائل النبوة ثلاث مجلدات، والسنن الصغير مجلدان، والزهد مجلد، والبعث مجلد، والدعوات مجلد، ونصوص الشافعي ثلاث مجلدات، والمدخل مجلد، والترغيب والترهيب مجلد، ومناقب الشافعي، ومناقب أحمد، وكتب عديدة لا أذكرها، قال إمام الحرمين أبوالمعالي: ما من شافعي إلا وللشافعي عليه منة إلا أبابكر البيهقي فإن له منة على الشافعي لتصانيفه في نصرة مذهبه، سمع أباعبدالله الحاكم وأبابكر بن فورك وأباعلي الروذباري وخلقا بخراسان وبغداد والكوفة، وحدث عنه شيخ الإسلام أبوإسماعيل الأنصاري بالإجازة وولده إسماعيل بن أحمد وأبوعبدالله الفزاري وخلق كثير – انتهى كلام الذهبي مختصرا، وقد بسط ترجمته في إتحاف النبلاء (190-191)، وبستان المحدثين (54-55). (وأبي الحسن رزين) بفتح الراء وكسر الزاي، ابن معاوية السرقسطي (العبدري) بفتح العين المهملة وسكون الموحدة وفتح الدال المهملة وبالراء المخففة - منسوب إلى عبدالدار بن قصي بطن من قريش، وهذه النسبة على خلاف قواعد النسبة، وهو الذي جمع الكتب الستة في كتابه تجريد
(1/41)
الصحاح الستة، وهو أكبر الكتب
الذي رآها ابن الأثير الجزري وأعمها، حيث حوى الكتب الستة التي هي أم كتب الحديث وأشهرها،
لكن قد أودع فيه أحاديث في أبواب غير تلك الأبواب أولى بها، وكرر فيه أحاديث كثيرة
وترك أكثر منها، وفيه أيضا أحاديث كثيرة لا توجد في كتب أصول الستة، وقد اعتمد في
ترتيب كتابه هذا على أبواب البخاري، وذكر فيه أيضا أقوال التابعين والأئمة سيما
فقه مالك، كما يظهر من كلام ابن الأثير في مقدمة كتابه جامع الأصول لأحاديث
الرسول، قال الشوكاني في الفوائد المجموعة (19): لقد أدخل رزين بن معاوية العبدري
في كتابه الذي جمع بين دواوين الإسلام بلايا وموضوعات لا تعرف ولا يدرى من أين جاء
بها، وذلك خيانة المسلمين، وقد أخطأ ابن الأثير خطأ بينا بذكر ما زاده رزين في
جامع الأصول، ولم ينبه على عدم صحته في نفسه إلا نادرا كقوله بعد ذكر هذه الصلاة
أي صلاة الرغائب المشهورة التي اتفق الحفاظ على أنها موضوعة ما لفظه: هذا الحديث
مما وجدته في كتاب رزين ولم أجده في واحد من الكتب الستة، والحديث مطعون فيه –
انتهى كلام الشوكاني، قال المؤلف في الإكمال، وطاش كبرى زاده في مفتاح السعادة
(ج2: ص12): مات رزين بعد العشرين
وغيرهم، وقليل ما هو. وإني إذا نسبت الحديث إليهم كأني أسندت إلى النبي - صلى الله
عليه وسلم - ؛ لأنهم قد فرغوا منه، وأغنونا عنه، وسردت الكتب والأبواب كما سردها،
واقتفيت أثره فيها، وقسمت كل باب غالبا على فصول ثلاثة: أولها ما أخرجه الشيخان أو
أحدهما،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/42)
وخمس مائة، وقال العلامة القنوجي البوفالي في الإتحاف (35): توفي سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، فالله أعلم، (وغيرهم) بالجر عطفا على أبي عبدالله، وقيل: بالرفع، عطفا على "مثل"، (وقليل ما) ما زائدة إبهامية تزيد الشيوع والمبالغة في القلة (هو) أي غيرهم والإفراد للفظ (غيرهم) وهو مبتدأ، خبره "قليل" يعني غير الأئمة الثلاثة عشر المذكورين قليل، كالنووي وابن حبان وابن عبدالبر وغيرهم، ولما قال فيما قدمه "فأعلمت ما أغفله" استشعر اعتراضا بأن الإعلام الحقيقي إنما هو بإيراد الإسناد الكلي ليترتب عليه معرفة رجاله التي يتوقف عليها الحكم بصحة الحديث وحسنه وضعفه وسائر أحواله، وأيضا كان طعن بعض النقاد على صاحب المصابيح من جهة ترك ذكر الإسناد وهو باق على حاله ؛ لأنه لم يتأت ذكر الإسناد بذكر أحد من المؤلفين، فاعتذر عن الإشكال، فقال: (وإني إذا نسبت) أي كل حديث (إليهم) أي إلى بعض الأئمة المذكورين المعروفة كتبهم بأسانيدهم (كأني أسندت) أي الحديث برجاله (إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي فيما إذا كان الحديث مرفوعا وهو الغالب ؛ (لأنهم قد فرغوا منه) أي من الإسناد الكامل بذكرهم على حد قوله: ?اعدلوا هو أقرب للتقوى? [ 5: 8]، (وأغنونا) بهمزة قطع، أي جعلونا في غنى وكفاية (عنه) أي عن ذكر الإسناد، وقال القاري: أي عن تحقيق الإسناد من وصله وقطعه ووقفه ورفعه وضعفه وحسنه وصحته ووضعه، ومن ثم لزم الأخذ بنص أحدهم على صحة السند أو الحديث أو على حسنه أو ضعفه أو وضعه، (وسردت الكتب والأبواب) أي أوردتها ووضعتها متتابعة ومتوالية (كما سردها) أي رتبها وعينها البغوي في المصابيح، (واقتفيت) أي اتبعت (أثره) بفتحتين، وقيل: بكسر الهمزة وسكون المثلثة، أي طريقة (فيها) أي في الكتب والأبواب من غير تقديم وتأخير وزيادة وتغيير، فإن ترتيبه على وجه الكمال وتبويبه في غاية من الحسن، (وقسمت) بالتخفيف (غالبا) أي في غالب الأحوال، وقيد
(1/43)
الغالبية بمعنى الأكثرية ؛
لأنه قد لا يوجد الفصل الأول أو الثاني أو الثالث أو الثاني والثالث كلاهما في بعض
الأبواب كما يأتي (أولها) أي أول الفصول في هذا الكتاب بدل قول البغوي في المصابيح
"من الصحاح" (ما أخرجه) أي رواه (الشيخان أو أحدهما) أي بزعم صاحب
المصابيح لما سيأتي من قوله "وإن عثرت على اختلاف في الفصلين" أو المراد
في الغالب، والنادر كالمعدوم، والمراد بالشيخين في اصطلاح المحدثين: البخاري
ومسلم، والإخراج والتخريج هو إيراد المحدث الحديث بسنده في كتابه، ويقال له
الرواية أيضا، فلا يقال في حق أحد ممن جمع الأحاديث في مؤلفاتهم ونقلوها من كتب
الأصول الصحاح الستة والمسانيد والمعاجم والسنن وأمثالها كالبغوي في المصابيح
والخطيب في المشكاة والحميدي في الجمع بين الصحيحين وابن الأثير في جامع الأصول
والسيوطي في جمع
واكتفيت بهما وإن اشترك فيه الغير لعلو درجتهما في الرواية. وثانيها ما أورده
غيرهما من الأئمة المذكورين. وثالثها ما اشتمل على معنى الباب من ملحقات مناسبة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/44)
الجوامع، والمناوي في الجامع الأزهر، والهيثمي في مجمع الزوائد، والروداني المغربي المالكي في جمع الفوائد وأمثالهم أنه أخرجه أو خرجه أو رواه في كتابه ؛ لأنه لم يرو هؤلاء تلك الأحاديث في كتبهم بأسانيدهم، بل نقلوها من الكتب المروية فيها مع ذكر الصحابة وذكر من خرجها من المحدثين، والفرق بين المخرج اسم فاعل والمخرج في قولهم في بعض الأحاديث "عرف مخرجه" أو "لم يعرف مخرجه" أن المخرج - بالتشديد أو التخفيف على صيغة اسم الفاعل - هو ذاكر الحديث على سبيل الرواية كالبخاري مثلا، وأما المخرج المذكور في القول المتقدم فهو – بفتح الميم والراء اسم مكان -، بمعنى محل خروجه، وهو الصحابي الراوي للحديث، أو رجاله الراوون له ؛ لأنه خرج منهم، وقد يطلق لفظ الإخراج أو التخريج على ذكر الحديث وإيراده مطلقا أي أعم من أن يذكره بسنده على سبيل الرواية، أو يذكره على سبيل النقل من الأصول مع ذكر المخرج أي الصحابي، والمخرج أي المحدث الذي رواه في كتابه، وعلى هذا يجوز أن يقال: خرجه أو أخرجه الخطيب في المشكاة، والهيثمي في مجمع الزوائد ونحو ذلك، فيكون الإخراج والتخريج أعم من الرواية، ثم رأيت الجزائري قال في توجيه النظر (142): أما المخرج – بفتح الميم – هو في الأصل بمعنى مكان الخروج، فأطلق على الموضع الذي ظهر منه الحديث، وهم الرواة الذين جاء عنهم، وأما التخريج فيطلق على معنيين: أحدهما إيراد الحديث بإسناده في كتاب أو إملاء، وأكثر ما تقع هذه العبارة للمغاربة، والأولى أن يقولوا: الإخراج كما يقوله غيرهم، الثاني: عزو الأحاديث إلى من أخرجها من الأئمة، ومنه قيل: "خرج فلان أحاديث كتاب كذا"، و"فلان له كتاب في تخريج أحاديث الإحياء"، ونحو ذلك – انتهى. وقد أطلق بعضهم لفظ الرواية على ذكر الحديث معلقا من غير سند، كما قال المجد بن تيمية في المنتقى وحفيده في فتاواه وابن قدامة في المغني والخطيب في المشكاة في حديث أبي هريرة الذي ذكره
(1/45)
مسلم تعليقا بلفظ: ((إذا قرئ
فأنصتوا)) رواه مسلم. وهذا الإطلاق غير جيد عندي، بل غير صحيح، (واكتفيت بهما) أي
بذكرهما في التخريج، (وإن اشترك) وصلية لا تطلب جزاء وجوابا (فيه لغير) أي في
تخريج الحديث وروايته غيرهما من المحدثين كبقية الكتب الستة ونحوها (لعلو درجتهما)
ورفعة شأنهما على سائر المخرجين مع الفرق بينهما (في الرواية) متعلق بالعلو أي في
شرائط إسنادها والتزم صحتها ما لم يلتزمه غيرهما من المحدثين فلا يحتاج مع
تخريجهما إلى ذكر رواية غيرهما الذين اشتركوا فيه في نفس صحة الحديث وإن كان
لرواية الغير مدخل في تقوية الحديث وتأييده وتوكيده، لكن ما ذكرت الغير طلبا
للاختصار، (وثانيها) أي الفصول، وهو المعبر عنه في المصابيح بقوله
"الحسان" (على معنى الباب) أي على معنى عقد له الباب (من ملحقات) بفتح
الحاء، ومن بيانية لما اشتمل (مناسبة) بكسر السين صفة لملحقات، والمراد بها زيادات
ألحقها صاحب المشكاة على وجه
مع محافظة على الشريطة وإن كان مأثورا عن السلف والخلف، ثم إنك إن فقدت حديثا في
باب فذلك عن تكرير أسقطه، وإن وجدت آخر بعضه متروكا على اختصاره أو مضموما إليه
تمامه فعن داعي اهتمام أتركه وألحقه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/46)
المناسبة بكل كتاب وباب غالبا لزيادة الفائدة (مع محافظة على الشريطة) أي من إضافة الحديث إلى راويه من الصحابة والتابعين ونسبته إلى مخرجه من الأئمة المذكورين. ولما كان صاحب المصابيح ملتزما للأحادث المرفوعة في كتابه في الفصلين ولم يلتزم المصنف ذلك نبه عليه بقوله (وإن كان) أي المشتمل (مأثورا) أي منقولا ومرويا (عن السلف) المتقدمين وهم الصحابة (والخلف) أي المتأخرين وهم التابعون، يعني أنه لم يلتزم ذكر الأحاديث المرفوعة في ما زاد من الفصل الثالث، بل أورد فيه بعض ما روي من أقوال الصحابة والتابعين وأفعالهم المناسبة للباب أيضا، ومن المعلوم أنه يطلق عليه أيضا لفظ الحديث، واعلم أنه لم يذكر البغوي في المصابيح القسم الأول والثاني بعنوان الفصل، بل عبر الأول أي أحاديث الشيخين أو أحدهما بقوله "من الصحاح"، والثاني أي أحاديث غيرهما بقوله "من الحسان"، وهو اصطلاح حادث، ولا مشاحة فيه، وقد تقدم، وعبرهما صاحب المشكاة بالفصل الأول والثاني، وزاد الفصل الثالث من عند نفسه، وأورد الأحاديث فيه من الكتب المذكورة من الصحيحين وغيرهما، وذكر أيضا الآثار الموقوفة، والتزم ذكر الراوي من الصحابة والتابعين وذكر المخرج من الأئمة المحدثين، (ثم إنك إن فقدت حديثا) من ههنا شرع في بيان بعض تصرفاته في المصابيح، أي بعد ما ذكرت لك أيها الناظر في كتابي هذا أني التزمت متابعة صاحب المصابيح في كل باب إن فقدت من محله حديثا من أصله الذي هو المصابيح (في باب) مثلا أو في كتاب وما وجدته بالكلية (فذلك) الفقدان وعدم الوجد ليس صادرا عن سهو بل صدر (عن تكرير) أي عن تكرار وقع في المصابيح (أسقطه) أي لم أذكر الحديث في الباب الذي ذكره فيه في المصابيح ؛ لكونه وقع مكررا فحذفته لأجل التكرار، وذكرته في موضع آخر بعينه من غير تغيير، (وإن وجدت آخر) أي حديثا آخر (بعضه) بالنصب بدل من آخر (متروكا) حال (على اختصاره) الضمير فيه للحديث،
(1/47)
ويؤيده قوله (أو مضموما إليه
تمامه) وقيل لمحي السنة، والأول أظهر فإنه حينئذ يكون الكلام على نسق واحد، وأما
على الثاني فيحصل تفكيك الضمير ثم المعنى، أو وجدت حديثا آخر مضموما إليه تمامه
الذي أسقطه البغوي أو أتى به في محل آخر (فعن داعي اهتمام) الفاء جزائية، أي فذلك
الترك أو الضم لم يقع اتفاقا، وإنما صدر عن موجب اهتمام، وقيل: عن بمعنى اللام أي
لأجل باعث اهتمام اقتضى أني (أتركه) على اختصاره في الأول (وألحقه) الواو بمعنى أو
أي وألحقه في الثاني ؛ لفوات الداعي والباعث على اختصاره، فهو لف ونشر مرتب،
والمعنى أنه قد يكون حديث اختصره الشيخ البغوي فأتركه أنا أيضا على اختصاره، وقد
أضم
وإن عثرت على اختلاف في الفصلين من ذكر غير الشيخين في الأول وذكرهما في الثاني
فاعلم أني بعد تتبعي كتابي الجمع بين الصحيحين للحميدي،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/48)
إليه بقية الحديث، وذلك لشيء
يدعوني إلى تركه على اختصاره أو إلى ضم بقيته إليه، أما الداعي إلى تركه مختصرا
فهو أن يكون جزء من حديث طويل مناسبا للباب دون باقي أجزائه، أو يكون حديث مشتملا
على معان كثيرة يقتضي كل باب معنى من معانيه أي يكون جزء منه مناسبا لهذا الباب،
وجزء آخر لباب آخر، وهكذا، وأورد الشيخ كلا في بابه فأقتفي أثره في الإيراد أي
أختصره وأقتصر على جزء منه في هذا الباب، وأذكر جزء آخر في ذلك الباب، وما لم يكن
على هذين الوصفين ألحقت معه بقيته، وإن ذكره الشيخ مختصرا، وحاصل المعنى أن بعض الروايات
كان مختصرا عن حديث طويل وكان جزء منه مناسبا للباب دون باقي أجزائه، فتركه في
المشكاة أيضا على الاختصار، وما كان يقتضي إتمام الحديث بجميع أجزائه أتمه في
المشكاة، (وإن عثرت) اطلعت (على اختلاف) بيني وبين صاحب المصابيح (في الفصلين)
الأول والثاني دون الثالث فإنه ليس محلا للخلاف، وبيان الاختلاف قوله (من ذكر غير
الشيخين في الأول) أي في الحديث المذكور في الفصل الأول (وذكرهما في الثاني) من
الفصلين بأن يسند بعض الأحاديث فيه إليهما أو إلى أحدهما (كتابي الجمع) تثنية مضاف
أي كتابين أحدهما (الجمع بين الصحيحين) أي بين كتابي البخاري ومسلم المسمين
بالصحيحين (للحميدي) متعلق بالجمع، وهو بالتصغير نسبة لجده الأعلى حميد الحافظ أبي
عبدالله محمد بن أبي نصر فتوح بن عبدالله بن حميد بن يصل(1) الأزدي الأندلسي(2)
الميورقي القرطبي، سمع بالأندلس ومصر والشام والعراق وسكن بغداد، وكان من كبار
تلامذة ابن حزم، حدث عنه فأكثر، وعن أبي عبدالله القضاعي وأبي عمر ابن عبدالبر
وأبي القاسم الجياني الدمشقي وأبي بكر الخطيب وغيرهم، ولم يزل يسمع ويكثر
__________
(1) بفتح الياء المثناة من تحتها وكسر الصاد المهملة وبعدها لام .
(2) نسبة إلى ميورقة بفتح الميم وضم المثناة من تحتها وسكون الواو وفتح الراء
والقاف وبعدها هاء ساكنة .
(1/49)
ويجد حتى كتب عن أصحاب الجوهري
وابن المذهب، سمع بإفريقية كثيرا ولقي بمكة كريمة المروزية راوية البخاري أول
رحلته وكان في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، قال يحيى بن البناء: كان الحميدي من
اجتهاده ينسخ بالليل في الحر، فكان يجلس في إجانة ماء يتبرد به، وقال الحسين بن
محمد بن خسرو: جاء أبوبكر بن ميمون فدق على الحميدي وظن أنه قد أذن له فدخل فوجده
مكشوف الفخذ، فبكى الحميدي، فقال: والله لقد نظرت إلى موضع لم ينظره أحد منذ عقلت،
وقال يحيى بن إبراهيم السلماسي: قال أبي: لم تر عيناي مثل الحميدي في فضله ونبله
وغزارة علمه وحرصه على نشر العلم، قال: وكان ورعا ثقة إماما في الحديث وعلله
ورواته، متحققا في علم التحقيق والأصول على مذهب أصحاب الحديث بموافقة الكتاب
والسنة، فصيح العبارة متبحرا في علم الأدب والعربية والترسل، وله كتاب الجمع بين
الصحيحين وهو مشهور، وأخذه الناس عنه، وله أيضا تاريخ علماء الأندلس سماه
"جذوة المقتبس" في مجلد واحد، ذكر في خطبته أنه كتبه من حفظه، وذكره
وجامع الأصول اعتمدت على صحيحي الشيخين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/50)
الأمير أبونصر علي بن ماكولا صاحب كتاب الإكمال فقال: أخبرنا صديقنا أبوعبدالله الحميدي، وهو من أهل العلم والفضل والتيقظ، وقال: لم أر مثله في عفته ونزاهته وورعه وتشاغله بالعلم، وقال القاضي عياض: أبوعبدالله الحميدي سمع بميورقة عن أبي محمد بن حزم قديما، وكان يتعصب له ويميل إلى قوله، وكان قد أصابته فيه فتنة علماء شددوا على ابن حزم، فخرج الحميدي إلى المشرق، قال الذهبي: روى عنه محمد بن علي الخلال وإسماعيل بن محمد الطلحي وشيخه أبوبكر الخطيب وآخرون، وكان صاحب حديث كما ينبغي علما وعملا، وكان ظاهريا ويسر ذلك بعض الأسرار – انتهى مختصرا. قال ابن الصلاح في الفائدة الرابعة من مقدمته: ويكفي وجوده في كتاب من اشترط الصحيح، وكذلك ما يوجد في الكتب المخرجة من تتمة لمحذوف أو زيادة شرح وكثير من هذا موجود في الجمع للحميدي، فربما نقل من لا يميز بعض ما يجده فيه عن الصحيحين أو أحدهما وهو مخطئ لكونه من تلك الزيادات التي لا وجود لها في واحد من الصحيحين. قال العراقي: وهذا مما أنكر على الحميدي ؛ لأنه جمع بين كتابين فمن أين تأتي الزيادة ؟ قال: واقتضى كلام ابن الصلاح أن الزيادات التي تقع في كتاب الحميدي لها حكم الصحيح، وليس كذلك ؛ لأنه ما رواه بسنده كالمستخرج ولا ذكر أنه يزيد ألفاظا واشترط فيها الصحة حتى يقلد في ذلك، قال الحافظ: قد اشار الحميدي إجمالا وتفصيلا إلى ما يبطل ما اعترض به عليه، أما إجمالا فقال في خطبة الجمع: وربما زدت زيادات من تتمات وشرح بعض ألفاظ الحديث ونحو ذلك، وقفت عليها في كتب من اعتنى بالصحيح كالإسماعيلي والبرقاني، وأما تفصيلا فعلى قسمين: جلي، وخفي، أما الجلي فيسوق الحديث، ثم يقول في أثنائه: "إلى هنا انتهت رواية البخاري، ومن هنا رواه البرقاني"، وأما الخفي فإنه يسوق الحديث كاملا أصلا وزيادة، ثم يقول: أما من أوله إلى كذا فرواه فلان، وما عداه زاده فلان، أو يقول: لفظة كذا زادها
(1/51)
فلان، ونحو ذلك، وإلى هذا أشار
ابن الصلاح بقوله: "ربما نقل من لا يميز"، وحينئذ فلزيادته حكم الصحة
لنقله لها عمن اعتنى بالصحيح، كذا في التدريب (33-34)، مات ببغداد ليلة الثلاثاء
السابع عشر من ذي الحجة سنة 488هـ، وكان مولده قبل العشرين وأربعمائة، (وجامع
الأصول) بالجر عطفا على الجمع أي والآخر جامع الأصول أي الكتب الستة للإمام مجد
الدين أبي السعادات المبارك بن محمد المشهور بابن الأثير الجزري صاحب النهاية في
غريب الحديث. كان عالما محدثا لغويا، روى عن خلق من الأئمة الكبار، كان بالجزيرة،
وانتقل منها إلى الموصل سنة خمس وستين وخمسمائة، ولم يزل بها إلى أن قدم بغداد
حاجا وعاد إلى الموصل، ومات بها يوم الخميس سلخ ذي الحجة سنة 606هـ، كذا في
الإكمال، وقال ابن خلكان في تاريخه (ج1: ص441): قال أبوالبركات بن المستوفي في
تاريخه في حقه: أشهر العلماء ذكرا، وأكبر النبلاء قدرا، وأحد الأفاضل المشار
إليهم، وفرد الأماثل المعتمد في الأمور عليهم، أخذ النحو عن شيخه أبي محمد سعيد بن
المبارك الدهان، وسمع الحديث متأخرا، ولم تتقدم روايته، وله المصنفات البديعة،
منها: جامع الأصول في أحاديث الرسول، جمع فيه بين الصحاح الستة، وهو على وضع كتاب
ومتنيهما، وإن رأيت اختلافا في نفس الحديث فذلك من تشعب طرق الأحاديث،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/52)
رزين إلا أن فيه زيادات كثيرة عليه، ومنها: كتاب النهاية في غريب الحديث، وكتاب الشافي في شرح مسند الإمام الشافعي، وغير ذلك من التصانيف، وكانت ودلاته بجزيرة ابن عمر في أحد الربيعين سنة 544هـ، ونشأ بها ثم انتقل إلى الموصل، ثم عرض له مرض كف يديه ورجليه فمنعه من الكتابة مطلقا، وقام في داره يغشاه الأكابر والعلماء – انتهى مختصرا، وهو أخو عزالدين بن الأثير الجزري صاحب الكامل في التاريخ، وأسد الغابة في معرفة الصحابة. (ومتنيهما) عطف بيان، قال القاري: وإنما لم يكتف بهما لأنه ربما يحتمل أن يتوهم أن تتبعه واستقراءه غير تام، فإذا وافق الحميدي وصاحب جامع الأصول يصير الظن قويا بصحة استقرائه للموافقة، ولو اكتفى بتتبع الجمع بين الصحيحين وجامع الأصول لاحتمل وقوع القصور في استقرائهما، فبعد اتفاق الأربعة يمكن الحكم بالجزم على سهو البغوي – انتهى. وتوضيح الكلام في هذا المقام أن المصنف يقول: قد تقرر أن ما أورده الشيخ محي السنة من الأحاديث في القسم الأول فهو من الشيخين منهما أو من أحدهما، وما أورده في القسم الثاني فهو من غيرهما من الأئمة المذكورين، وقد يذكر الشيخ حديثا في الأول ونسبته أنا إلى غير الشيخين، وذلك مذكور في مواضع، كما في الفصل الأول من باب سنن الوضوء، ومن باب فضائل القرآن، ومن باب السلام من كتاب الآداب وغيرها، ونسبت بعض أحاديث القسم الثاني إلى الشيخين، كما في الفصل الثاني من باب ما يقرأ بعد التكبير، وباب الموقف وغيرهما، فاعلم أن عذري في ذلك ودليلي عليه أني تتبعت كتابين جمع فيهما أحاديث الشيخين، أحدهما كتاب الجمع بين الصحيحين للحميدي، والثاني: جامع الأصول لابن الأثير الجزري، ولم أقتصر في معرفة أحاديث الشيخين على تتبع هذين الكتابين، بل اعتمدت على صحيحي الشيخين ومتنيهما أي أصل كتابيهما ونفسيهما دون الجمع بين الصحيحين، وجامع الأصول المشتملين عليهما المغايرين لهما كالشرحين لهما، فما وجدت
(1/53)
من الأحاديث للشيخين في
الكتابين المذكورين وفي أصلي صحيحيهما نسبتها إليهما، وما لم أجد لم أنسب إليهما،
وإن كان مخالفا لما ذكره الشيخ محي السنة، وهذا ادعاء منه كمال التتبع والتصفح
لأحاديث الشيخين، يعني لو اقتصرت على تتبع الكتابين وقلت: ليس هذا الحديث للشيخين
لكان لقائل أن يقول: لعله يكون في متني صحيحيهما، ووقع القصور في استقراء الحميدي
والجزري، ولو اقتصرت على متني صحيحيهما يقال: لعله يوجد في كتابي الجمع بين
الصحيحين وجامع الأصول، ووقع القصور في استقراء المصنف وتتبعه، فتتبعت الكل ليحصل
الوثوق والاعتماد في هذه النسبة على وجه الكمال، أي ويقع الجزم بسهو الشيخ في
المصابيح بلفظ، وأنا أوردته في المشكاة بلفظ آخر مخالفا للفظه في المصابيح (فذلك)
أي الاختلاف ناشئ (من تشعب طرق الأحاديث) أي اختلاف أسانيدها وتعددها، إذ كثيرا ما
يقع للشيخين وغيرهما سوق الحديث الواحد من عدة طرق بألفاظ مختلفة، فاللفظ الذي
أورده الشيخ لعله جاء بطريق، واللفظ الذي أوردته جاء من طريق آخر، لما كان ههنا
محل أن يقال:
ولعلي ما اطلعت على تلك الرواية التي سلكها الشيخ – رضي الله عنه – وقليلا ما تجد
أقول "ما وجدت هذه الرواية في كتب الأصول"، أو "وجدت خلافها
فيها"، فإذا وقفت عليه فانسب القصور إلى لقلة الدراية، لا إلى جناب الشيخ –
رفع الله قدره في الدارين -، حاشا لله من ذلك، رحم الله من إذا وقف على ذلك نبهنا
عليه، وأرشدنا طريق الصواب، ولم آل جهدا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/54)
فلم لم تورد بلفظ الشيخ، ولم اخترت هذا اللفظ ؟ قال في جوابه: (ولعلي ما اطلعت على تلك الرواية التي سلكها الشيخ) أي اختارها وأوردها في مصابيحه، فلما لم أطلع عليها كيف أوردها. أي فآتي باللفظ الذي وقفت عليه (وقليلا ما) زيادة "ما" لتأكيد القلة ونصب "قليلا" على المصدرية لقوله (أقول) أي وتجدني أقول قولا قليلا ما، في أي غاية من القلة، والمقول قوله (ما وجدت هذه الرواية) التي أوردها الشيخ في المصابيح مثلا (في كتب الأصول)، المراد بها كتب أئمة المحدثين ومؤلفاتهم التي هي أصول الروايات ومعادنها والعمدة في هذا الباب (ووجدت) من جملة المقول، أو للتنويع (خلافها فيها) أي خلاف هذه الرواية في الأصول (فإذا وقفت عليه) أي على قولي هذا، فالضمير راجع إلى المصدر المفهوم من قوله "أقول"، (فأنسب) بضم السين أي مع هذا (القصور) أي التقصير في التتبع (إلى لقلة الدراية) أي درايتي وتتبع روايتي، (لا) أي لا تنسب القصور (حاشا لله) أي تنزيها لله (من ذلك) أي من نسبة القصو إلى الشيخ. قال بعضهم : "حاشا" حرف جر وضعت موضع التنزيه والبراءة، وفي مغني اللبيب: الصحيح أنها اسم مرادف للتنزيه من كذا، وحينئذ قوله (لله) بيان للمنزه والمبرأة، كأنه قال: "براءة وتنزيه"، ثم قال "لله" بيانا للمبرأ والمنزه، فلامه كاللام في "سقيا لك"، فعلى هذا يقال: معنى عبارة المشكاة أن الشيخ مبرأ ومنزه عن قلة الدراية، ثم أتى لبيان المنزه والمبرأة بقوله "لله"، وكان الظاهر أن يقول "الله" بلا لام، وكأنها لإفادة معنى الاختصاص، فكأنه يقول: تنزيهه مختص لله، وله أن ينزهه، وليس لغيره ذلك، ويحتمل أن يكون التقدير: وأقول في حقه التنزيه لله لا لأمر آخر، وقيل "حاشا" فعل، وفسر الآية أي قوله تعالى: ?حاش لله? في سورة يوسف بأن معناها جانب يوسف الفاحشة لأجل الله، وعلى هذا يرجع عبارة المشكاة إلى أنه جانب الشيخ ذلك القصور لأجل الله، لا لغرض آخر، أو
(1/55)
قولنا في حقه "حاشا"
إنما هو لله لا لأمر آخر، وقيل معناه: معاذ الله، فمراد المصنف أن ما قلت في شأن
الشيخ قلت خالصا لوجه الله، لا لغرض آخر ؛ لأني أعوذ بالله من غرض آخر، (إذا وقف
على ذلك) أي على ما ذكر من الرواية التي أوردها الشيخ ولم أجدها في الأصول (طريق
الصواب) أي إليه بنسبة الرواية وتصحيحها إلى الباب والكتاب إما بالمشافهة حال
الحياة، أو بكتابة حاشية أو شرح بعد الممات، (ولم آل) بمد الهمزة وضم اللام من ألا
يألو في الأمر إذا قصر (جهدا) بالضم المشقة، أي لم أترك سعيا واجتهادا، فيكون
منصوبا
في التنقير والتفتيش بقدر الوسع والطاقة، ونقلت ذلك الاختلاف كما وجدت، وما أشار
إليه – رضي الله عنه – من غريب أو ضعيف أو غيرهما بينت وجهه غالبا، وما لم يشر
إليه مما في الأصول فقد قفيت في تركه إلا في مواضع لغرض، وربما تجد مواضع مهملة وذلك
حيث لم أطلع على راويه فتركت البياض، فإن عثرت عليه فألحقه به – أحسن الله جزاءك
-، وسميت الكتاب بمشكاة المصابيح، وأسأل الله التوفيق والإعانة والهداية والصيانة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/56)
على المفعولية لتضمين الألو معنى الترك، أو لم أقصر لكم في السعي والاجتهاد، فيكون منصوبا بنزع الخافض، أو هو منصوب على أنه حال أو تمييز (في التنقير) أي البحث والتجسس عن طرق الأحاديث، واختلاف ألفاظها في كتب الأصول (والطاقة) عطف بيان (ونقلت ذلك الاختلاف كما وجدت) أي بعد بذل السعي الموفور في المطابقة بين أحاديث المصابيح، وأحاديث الكتب الستة حيث بقي الاختلاف نقلت ذلك الاختلاف كما وجدت في الأصول بلا زيادة ونقصان وتغيير لإظهار أصل الحال، كما أقول "ما وجدت هذه الرواية في كتب الأصول، أو وجدت خلافها" وأنا أنسب القصور في التتبع إلي لا إلى صاحب المصابيح (وما أشار إليه) الشيخ محي السنة (من غريب) بيان لما أي من حديث غريب (أو غيرهما) اعتبارا لا حقيقة من نحو منكر أو شاذ أو معلل (بينت وجهه) أي وجه غرابته أو ضعفه أو نكارته، وذلك ما ينقل المؤلف عن الأئمة كلاما يحكم فيه بضعف الحديث أو غرابته مثلا (غالبا) أي في أكثر المواضع، ولعل ترك التبيين في بعض المواضع لعدم الاطلاع على وجه ما أشار إليه البغوي من غرابة الحديث أو ضعفه أو لأمر آخر (وما لم يشر) أي الشيخ البغوي (إليه مما في الأصول) أي مما أشير إليه من المنقطع والموقوف والمرسل في جامع الترمذي، وسنن أبي داود، والبيهقي، وهو كثير (فقد قفيته) بالتشديد أي اتبعته تاسيا به، قال في مختصر النهاية: قفيته وأقفيته: تبعته واقتديت به (في تركه) أي في ترك الإشارة (إلا في مواضع) قليلة أبينها (لغرض) وذلك أن بعض الطاعنين أفرزوا أحاديث من المصابيح ونسبوها إلى الوضع، ووجدت الترمذي صححها أو حسنها، وغير الترمذي أيضا كما تقدم التنبيه على ذلك فبينته لرفع تهمة الوضع منها، ومن الغرض أيضا، كما قال الطيبي: إن الشيخ شرط في خطبة المصابيح أنه أعرض عن ذكر المنكر وقد أتى في كتابه بكثير منه وبين في بعضها كونه منكرا وترك في بعضها، فبينت أنه منكر إظهار للواقع (وربما تجد) في
(1/57)
المشكاة (مواضع مهملة) أي غير
مبين فيها ذكر مخرجيها (وذلك) الإهمال وعدم التبيين (حيث لم أطلع على راويه) أي
مخرجه (فتركت البياض) أي عقب الحديث، دلالة على ذلك (فإن عثرت عليه) أي على مخرجه
(فألحقه) أي ذكر المخرج (به) أي بذلك الحديث، واكتبه في موضع البياض، ونحن نذكر
أسماء المخرجين في مواضع البياض حسب ما يتيسر لنا، إن شاء الله تعالى (وسميت
الكتاب بمشكاة المصابيح) قال الطيبي: روعي المناسبة بين الاسم والمعنى، فإن
المشكاة يجتمع فيها الضوء فيكون أشد
وتيسير ما أقصده وأن ينفعني في الحياة وبعد الممات وجميع المسلمين والمسلمات، حسبي
الله، ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تقويا بخلاف المكان الواسع، والأحاديث إذا كانت غفلا عن سمة الرواة انتشرت، وإذا
قيدت بالراوي انضبطت واستقرت في مكانها – انتهى. وقال الشيخ الدهلوي في اللمعات:
قد عرفت أن المشكاة هي الكوة الغير نافذة في الجدار التي توضع فيها المصابيح، فوجه
التسمية أنه كما يوضع المصباح في الكوة كذلك وضع كتاب المصابيح في كتاب المشكاة ؛
لأنه يشتمل عليه اشتمال المشكاة على المصباح، أو لأن الأحاديث التي ذكرت في هذا
الكتاب كل منها كالمصباح، فهذا الكتاب كالكوة التي وضع فيها المصابيح المتعددة –
انتهى. وقد علمت مما تقدم أن المشكاة تكملة للمصابيح، وتذييل لأبوابه، جمعه مؤلفه
بإشارة شيخه الحسين بن عبدالله بن محمد الطيبي المتوفى سنة 743هـ، وفرغ من تأليفه
آخر يوم الجمعة من رمضان عند رؤية هلال شوال سنة 737. وله أيضا أسماء رجال المشكاة
فرغ من تصنيفه يوم الجمعة عشرين رجب سنة 740هـ، جمعه بمعاونة شيخه العلامة الطيبي،
وقد عرض الكتابين عليه فاستحسنهما واستجادهما .
(1/58)
وللمشكاة شروح عديدة: فأول من شرحها هو شيخه الطيبي، سماه "الكاشف عن حقائق السنن"، وشرحه أنفس الشروح وأحسنها. قال في مقدمة شرحه: كنت قبل قد استشرت الأخ في الدين المساهم في اليقين بقية الأولياء قطب الصلحاء شرف الزهاد والعباد في الدين محمد بن عبدالله الخطيب بجمع أصل من الأحاديث المصطفوية، فاتفق رأينا على تكملة المصابيح وتهذيبه وتشذيبه وتعيين روايته ونسبة الأحاديث إلى الأئمة المتقنين، فما قصر فيما أشرت إليه من جمعه، فبذل وسعه واستفرغ طاقته فيما رمت منه، فلما فرغ من إتمامه شمرت عن ساق الجد في شرح معضله وحل مشكله وتلخيص عويصه وإبراز نكاته ولطائفه على ما يستدعيه غرائب اللغة والنحو ويقتضيه علم المعاني والبيان، بعد تتبع الكتب المنسوبة إلى الأئمة، معلما لكل مصنف بعلامة مختصة به، فعلامة معالم السنن وأعلامها (خط) وشرح السنة (حس) وشرح صحيح مسلم (مح) والفائق للزمخشري (فا) ومفردات راغب (غب) ونهاية الجزري (نه) والشيخ التوربشتي (تو) والقاضي ناصر الدين البيضاوي (قض) والمظهر (مظ) والأشرف (شف) وما لا ترى عليه علامة فأكثرها من نتائج خاطري، فإن ترى فيه خللا فسدده – جزاك الله خيرا -، فإن نظرت بعين الإنصاف لم تر مصنفا أجمع ولا أوجز منه ولا أشد تحقيقا في بيان حقائق السنة ودقائقها، وسميته "بالكاشف عن حقائق السنن"- انتهى.
(1/59)
وشرحه علم الدين السخاوي المتوفى سنة 643هـ، وعبدالعزيز الأبهري المتوفى في حدود سنة 895هـ، وسماه "منهاج المشكاة"، وهو تاريخ تأليفه. وشرحه أحمد بن الحجر المكي الهيثمي بالفوقية صاحب الزواجر والصواعق وغيرهما المتوفى سنة 975هـ، قال الشيخ عبدالحق الدهلوي في زاد المتقين في ترجمته: وشرح دارد بر شمائل ترمذي وبر أربعين نووي وبر مشكاة نيز نوشته كه دروي داد فقاهت داده – انتهى. وعلى المشكاة حاشية لعلي بن محمد بن علي المعروف بالسيد الشريف، والسيد السند الجرجاني وهي مختصرة من شرح الطيبي مع بعض زيادات قليلة. وحاشية
(1/60)
للسيد جمال الدين المحدث. وللعلامة علي بن سلطان المعروف بالقاري المتوفى سنة 1014هـ شرح عظيم ممزوج على المشكاة مسمى "بالمرقاة" جمع فيه جميع الشروح والحواشي واستقصاها. ثم جاء بعده واحد من الفضلاء فزاد في كل باب فصلا آخر فصار كله أربعة فصول مما وجد بعدهما في الدواوين المعتبرة للأئمة السبعة من كل حديث استدل به مجتهد في مذهبه، فكان كالشرح لهذين الكتابين وسماه "أنوار المشكاة"، ومن شروح المشكاة لمعات التنقيح، وأشعة اللمعات، الأول بالعربية وهو شرح لطيف بين الإيجاز والإطناب، والثاني بالفارسية، كلاهما للعلامة الشيخ عبدالحق الدهلوي المتوفى سنة 1052هـ، وللحافظ ابن حجر تأليف خرج فيه أحاديث المصابيح والمشكاة، اسمه "هداية الرواة إلى تخريج المصابيح والمشكاة"، ذكره صاحب كشف الظنون، وهو أيضا مذكور في فهرس تصانيف الحافظ، واعلم أنه أنكر على القاري أن يكون للسيد الشريف حاشية على المشكاة حيث قال في المرقاة في شرح حديث ((خرج معاوية على حلقة فقال: ما أجلسكم ؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال: آلله وما أجلسكم إلا هذا ؟ ...الحديث، قال السيد جمال الدين: قوله ((آلله) بالجر لقول المحقق الشريف في حاشيته: همزة الاستفهام وقعت بدلا عن حرف القسم ويجب الجر معها – انتهى. وهو يشعر بأن خلاصة الطيبي حاشية من المحقق الشريف الجرجاني على المشكاة كما هو المشهور بين الناس، وهو بعيد جدا، أما أولا فلأنه غير مذكور في أسامي مؤلفاته، وأما ثانيا فإنه مع جلالة قدره كيف يختصر كلام الطيبي اختصارا مجردا لا يكون معه تصرف مطلقا كما لا يخفى – انتهى كلام القاري. قلت: فيه نظر، فقد نسبها إليه جماعة، منهم المصطفى بن عبدالله المعروف بكاتب جلبي، وبحاجي خليفة في كشف الظنون، ومنهم السخاوي في "الضوء اللامع" نقلا عن سبط السيد الشريف، وحاشية السيد الشريف هذه موجودة في مكتبة خدا بخش خان بعظيم آباد. بتنه (الهند). قال القاري في المرقاة
(1/61)
(ج1: ص10): قيل أحاديث
المصابيح أربعة آلاف وأربعمائة وأربعة وثلاثون حديثا، وزاد صاحب المشكاة ألفا
وخمسمائة وأحد عشر حديثا، فصار المجموع خمسة آلاف وتسعمائة وخمسة وأربعين، وينضبط
بستة آلاف إلا كسر خمس وخمسين – انتهى. قلت: ما نقل القاري من قول البعض في عدد
أحاديث المصابيح هو مخالف لما ذكره حاجي خليفة جلبي في كشف الظنون وابن الملك في
شرح المصابيح، فالله أعلم. هذا ولم أقف على ترجمة صاحب المشكاة وعلى مولده ووفاته
ولا على مذهبه مع الجهد البالغ في التتبع، وقال الشيخ أبوبكر شاويش ناشر مشكاة
المصابيح بتحقيق العلامة الشيخ ناصر الدين الألباني في مقدمته: صاحب المشكاة من
علماء القرن الثامن للهجرة، ولم نجد له فيما بين أيدينا ترجمة وافية إلا أن من
عرضوا له ذكروه بالعلم والصلاح. قال فيه شيخه العلامة حسن بن محمد الطيبي أحد شراح
المشكاة: بقية الأولياء، قطب الصلحاء. وقال عنه الملا علي القاري صاحب مرقاة
المفاتيح: "مولانا الحبر العلامة والبحر الفهامة مظهر الحقائق وموضح الدقائق
الشيخ التقي النفي وإن فيما ألفه لدليلا واضحا على سعة علمه ووفرة فضله، ولا نعرف
تاريخ وفاته على الضبط كما لا نعرف تاريخ ولادته غير أننا نستطيع الجزم بأنه توفي
بعد سنة (737)، وهي السنة التي أكمل فيها كتابه المشكاة.
1- عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((إنما الأعمال بالنيات،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/62)
1- قوله (عن عمر بن الخطاب) هو أبوحفص عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبدالعزى العدوي القرشي المدني، يجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في كعب بن لؤي. أحد فقهاء الصحابة، ثاني الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد ضجيعي المصطفى، وأول خليفة دعي "أمير المؤمنين"، أسلم سنة ست من النبوة، وقيل: سنة خمس بعد أربعين رجلا، وإحدى عشرة امرأة، ويقال: به تمت الأربعون، ظهر الإسلام بإسلامه، وسمي "الفاروق" لذلك، شهد بدرا والمشاهد كلها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولي الخلافة بعد أبي بكر بعهده إليه ونصه عليه. وله مشاهد في الإسلام وفتوحات مشهورة في العراق والشام، عن ابن عمر مرفوعا: ((إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه))، ولما دفن قال ابن مسعود: ذهب اليوم بتسعة أعشار العلم، وكان أشدهم في أمر الله، له خمسمائة وتسعة وثلاثون حديثا، اتفقا على عشرة، وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر، قاله الخزرجي، طعنه نصراني اسمه : أبولؤلؤة، غلام مغيرة بن شعبة بالمدينة في صلاة الصبح من الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة 23 من الهجرة، وله من العمر ثلاث وستون سنة، ودفن يوم الأحد في أول المحرم سنة 24هـ، وكانت خلافته عشر سنين ونصفا، وصلى عليه صهيب ودفن في الحجرة النبوة، ومناقبه جمة، روى عنه أبوبكر وباقي العشرة، وخلق كثير من الصحابة والتابعين .
(1/63)
(إنما الأعمال بالنيات) أشار
المصنف بالبداية بهذا الحديث قبل الشروع في ذكر الكتب والأبواب إلى حسن نيته في
تأليفه هذا الكتاب، وأنه قصد به وجه الله فقط، وأراد به تنبيه الطالب على تحسين
النية وترغيبه إلى تصحيح الطوية، وكان المتقدمون يستحبون تقديم هذا الحديث أمام كل
شيء ينشأ ويبتدأ من أمور الدين لعموم الحاجة إليه، ولهذا صدر به المصنف تبعا
للبخاري وغيره، فينبغي لمن أراد أن يصنف كتابا أن يبدأ به. قال عبدالرحمن بن مهدي:
لو صنفت كتابا في الأبواب لجعلت حديث عمر بن الخطاب في الأعمال بالنيات في كل باب،
وعنه أنه قال : من أراد أن يصنف كتابا فليبدأ بحديث الأعمال بالنيات، وقد تواتر
النقل عن الأئمة في تعظيم قدر هذا الحديث، وهو أحد الأحاديث التي يدور عليها
الدين، اتفق ابن مهدي والشافعي وابن حنبل وابن المديني وأبوداود والترمذي وغيرهم
على أنه ثلث الإسلام، ومنهم من قال: ربعه، وقد تكلم العلماء على هذا الحديث في
أوراق وأطالوا فيه الكلام، والظاهر عندي في معناه أن الأعمال فيه على عمومها لا
يختص منها شيء، فالمراد بها مطلق الأفعال الاختيارية الصادرة عن المكلفين، وتقدير
الكلام: الأعمال واقعة أو متحققة أو حاصلة بالنيات، فيكون إخبارا عن الأعمال
الاختيارية أنها لا تقع إلا عن قصد من العامل، هو سبب عملها ووجودها، فهي مقدمة
عقلية ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - تمهيدا لما بعدها من المقدمات الشرعية
وتوضيحا لها، ولا استبعاد فيه، ومنه قوله : ((لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة
أبوعبيدة بن الجراح))، ويكون قوله بعد ذلك: ((وإنما لامرئ ما نوى)) إخبارا عن حكم
الشرع، وهو أن حظ العامل من عمله نيته، فإن كانت صالحة
وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن
كانت هجرته إلى دنيا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/64)
فعمله صالح فله أجره، وإن كانت فاسدة فعمله فاسد فعليه وزه، فالذي يرجع إليه من العمل نفعا وضرا هي النية، فإن العمل بحسبها يحسب خيرا وشرا، ويجزى المرء بحسبها على العمل ثوابا وعقابا، وإذا تقرر هاتان المقدمتان ترتب عليهما قوله: (فمن كانت هجرته إلى الله تعالى ورسوله - أي قصدا ونية – فهجرته إلى الله ورسوله) أجرا وثوابا ... إلى آخر الحديث، وعلى هذا فالنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي أي القصد، لا الشرعي هو توجه القلب نحو الفعل ابتغاء لوجه الله وامتثالا لحكمه، وذلك ليحسن تطبيقه على ما بعده وتقسيمه بقوله (فمن كانت هجرته ...)الخ، فإنه تفصيل لما أجمل، فالحديث ورد لبيان الفرق بين النية الفاسدة والصحيحة الصالحة، فالأولى مذمومة ضارة، والثانية محمود نافعة، ولم يرد لبيان ما فيه النية وما ليس فيه فلم يتعرض لوجود النية وعدمها ولم يختص بعمل دون عمل ولا بحكم دون حكم كما يشعر به تفاريع الشافعية والحنفية، وقد بسط المعنى الذي ذكرناه العلامة السندهي في تعليقه على البخاري فارجع إليه، وقيل: التقدير في قوله (الأعمال بالنيات) صالحة أو فاسدة أو مقبولة أو مردودة أو مثاب عليها أو غير مثاب عليها بالنيات، فيكون خبرا من الحكم الشرعي، وهو أن صلاحها وفسادها بحسب صلاح النية وفسادها كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالخواتيم)) أي إن صلاحها وفسادها وقبولها وعدمها بحسب الخاتمة، وقوله بعد ذلك ((وإنما لكل امرئ ما نوى)) إخبار أنه لا يحصل له من عمله إلا ما نواه به، فإن نوى خيرا حصل له خير، إن نوى به شرا حصل له شر، وليس هذا تكريرا محضا للجملة الأولى، فإن الجملة الأولى دلت على أن صلاح العمل وفساده بحسب النية المقتضية لإيجاده، والجملة الثانية دلت على أن ثواب العامل على عمله بحسب نيته الصالحة، وأن عقابه عليه بحسب نيته الفاسدة، وقد تكون نيته مباحة فيكون مباحا، فلا يحصل له ثواب ولا عقاب،
(1/65)
فالعمل في نفسه صلاحه وفساده
بحسب النية الحاصلة عليه المقتضية لوجوده، وثواب العامل وعقابه وسلامته بحسب النية
التي صار بها العمل صالحا أو فاسدا أو مباحا، (وإنما لامرئ ما نوى) وكذا لامرأة ما
نوت ؛ لأن النساء شقائق الرجال (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله
ورسوله) الخ، هو تفصيل ما أجمله أولا كما تقدمت الإشارة إليه، وقد ذكرنا هناك في
تقدير الكلام ما يدل على التغاير بين الشرط والجزاء، وقيل: اتحد الشرط والجزاء
لقصد المبالغة في التعظيم، ولإرادة التحقير في ما سيأتي فيكون التغاير معنى بدليل
قرائن السياق بأن يراد المعهود المستقر في النفس كقولهم "أنت أنت" أي
الصديق الخالص، وقولهم "هم هم" أي الذين لا يقدر قدرهم، وغير ذلك من
الأمثلة، فالمهاجر إلى دار الإسلام حبا لله ورسوله ورغبة في تعلم دين الإسلام
وإظهار دينه هو المهاجر إلى الله ورسوله، وكفاه شرفا وفخرا أنه حصل له ما نواه من
هجرته إلى الله ورسوله، ولهذا المعنى أقتصر في جواب هذا الشرط على إعادته بلفظه ؛
لأن حصول ما نواه بهجرته نهاية المطلوب في الدنيا والآخرة. (ومن كانت هجرته إلى
دنيا) فعلى من الدنو، لا تنون ؛
يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/66)
لأن ألفها مقصورة للتأنيث، أو هي تأنيث أدنى، وهي كافية في منع الصرف، وتنوينها في لغية شاذ، ولإجرائها مجرى الأسماء وخلعها عن الوصفية نكرت كرجعى، ولو بقيت على وصفيتها لعرفت كالحسنى (يصيبها) أي يحصلها (أو امرأة) قيل خصت بالذكر تنبيها على سبب الحديث وإن كانت العبرة بعموم اللفظ، وهو قصة مهاجر أم قيس المروية في المعجم الكبير للطبراني بإسناد رجاله ثقات، قال الحافظ بعد ذكره: لكن ليس فيه أن حديث الأعمال سيق بسبب ذلك، ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك – انتهى. وقال ابن رجب في شرح الأربعين: قد اشتهر أن قصة مهاجر أم قيس هي كانت سبب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (من كانت هجرته إلى دنيا ...)الخ، وذكر كثير من المتأخرين في كتبهم، ولم نر لذلك أصلا يصح – انتهى. قال الحافظ: لم نقف على تسمية مهاجر أم قيس، ونقل ابن دحية أن اسمها قيلة، وقال العلامة القنوجي في عون الباري: لم يسم هذا الرجل أحد ممن صنف في الصحابة فيما رأيته، والظاهر أن التنصيص على المرأة من باب التنصيص على الخاص بعد العام للاهتمام، والنكرة إذا كانت في سياق الشرط تعم، ونكتة الاهتمام الزيادة في التحذير ؛ لأن الافتتان بها أشد، وإنما وقع الذم ههنا على مباح، ولا ذم فيه ولا مدح ؛ لكون فاعله أبطن خلاف ما أظهر، إذ خروجه في الظاهر ليس لطلب الدنيا، وإنما خرج في صورة طلب فضيلة الهجرة. (فهجرته إلى ما هاجر إليه) أي منصرفة إلى الغرض الذي هاجر إليه، وفيه تحقير لما طلبه من أمر الدنيا واستهانة به، حيث لم يذكر بلفظه، وأيضا أن الهجرة إلى الله ورسوله واحدة فلا تعدد فيها، فلذلك أعاد الجواب فيها بلفظ الشرط، والهجرة لأمور الدنيا لا تنحصر، فقد يهاجر الإنسان لطلب الدنيا مباحة تارة ومحرمة تارة، وإفراد ما يقصد الهجرة من أمور الدنيا لا تنحصر، فلذلك قال: (فهجرته إلى ما هاجر إليه) يعني كائنا ما كان، واعلم أن النية في اللغة نوع من القصد والإرادة،
(1/67)
وفي كلام العلماء تقع بمعنيين:
أحدهما تمييز العبادات بعضها عن بعض كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلا، وتمييز
رمضان من صيام غيره، أو تمييز العبادات من العادات كتمييز الغسل من لجنابة من غسل
التبرد والتنظف ونحو ذلك، وهذه النية هي التي توجد كثيرا في كلام الفقهاء في
كتبهم. والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو لله وحده لا شريك له
أم لله وغيره، وهذه هي النية التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على
الإخلاص وتوابعه، وهي التي توجد كثيرا في كلام السلف المتقدمين، وهي التي يتكرر
ذكرها في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - تارة بلفظ النية وتارة بلفظ الإرادة
وتارة بلفظ مقارب لذلك، قيل: وحديث الباب دل على هذه النية بالقصد، وإن كان يدخل
في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (وإنما لامرئ ما نوى) المعنى الأول أيضا، وفي
بعض المسائل المتفرعة على المعنى الأول اختلاف مشهور بين العلماء، كما أنهم
اختلفوا في اشتراط النية للطهارة بعد اتفاقهم على اشتراطها في العبادات المقصودة لقوله
تعالى: ?وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين? [98: 5]، وهذا الخلاف يرجع
إلى أن الطهارة هل هي عبادة مستقلة أم هي شرط من شروط الصلاة كإزالة النجاسة وستر
العورة، فمن لم يشترط لها النية جعلها كسائر شروط الصلاة، ومن اشترط لها النية
جعلها
متفق عليه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/68)
عبادة مستقلة، فإذا كانت عبادة
في نفسها لم تصح بدون النية، وهذا قول جمهور العلماء مالك والشافعي وأبي ثور
وداود، قال ابن رجب: ويدل على صحة ذلك تكاثر النصوص الصحيحة عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - أن الوضوء يكفر الذنوب والخطايا وأن من توضأ كما أمر كان كفارة
لذنوبه، وهذا يدل على أن الوضوء المأمور به في القرآن عبادة مستقلة بنفسها حيث رتب
عليه تكفير الذنوب، والوضوء الخالي من النية لا يكفر شيئا من الذنوب بالاتفاق، فلا
يكون مأمورا به ولا تصح به الصلاة، ولهذا لم يرد في شيء من بقية شرائط الصلاة
كإزالة النجاسة وستر العورة ما ورد في الوضوء من الثواب. (متفق عليه) أي اتفق
البخاري ومسلم على روايته، ويقال عند المحدثين للحديث الذي اتفق الشيخان على
روايته من صحابي واحد "متفق عليه"، أي بين الشيخين، وهذا الحديث قد اتفق
العلماء على صحته وتلقيه بالقبول، قال الحافظ: ولم يبق من أصحاب الكتب المعتمدة
عليها من لم يخرجه سوى مالك، فإنه لم يخرجه في موطئه، ووهم من زعم أنه في الموطأ
مغترا بتخريج الشيخين له، والنسائي من طريق مالك، ورده السيوطي في تنوير الحوالك
بقوله: في موطأ محمد بن الحسن عن مالك أحاديث يسيرة زائدة على سائر الموطآت، منها
حديث ((إنما الأعمال بالنية))، وبذلك يتبين صحة قول من عزى روايته إلى الموطأ،
ووهم من خطأه في ذلك – انتهى.
كلمة الناشر للطبعة الثانية
(1/69)
الحمد لله وحده، والصلاة
والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد: فإن العصر الذي نعيش فيه هو عصر الإعلام
والنشر، وللناس فيه عناية كبيرة بشؤون المطابع والمكتبات، حتى نرى أنهم يطبعون
وينشرون ما فيه وصمة للعلم ومضرة بالغة للمجتمع. أما العلوم الدينية التي تضمن
السعادة الأبدية للإنسانية كلها وتطهر المجتمع من الفواحش والدنايا فقد قل بها
اهتمام الناس، واشتغلوا عنها بتوافه الأمور، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير،
والمدارس الدينية العربية بالهند التي تعتبر معاقل الدين وحصونه هي الأخرى قد عكفت
على تدريس العلوم وتلقينها، وأهملت ناحية التأليف والطبع والنشر، مع أنها كانت
معقد آمال الناس في الأوساط الدينية، وكان من واجبها أن لا تتخلف في مجال مهم مثل
التأليف والنشر، وقد شعرت بعض المدارس بهذا النقص، فحاولت التفادي منه ونجحت، ولكن
معظم المدارس العربية لا تزال على الحالة التي أشرنا إليها.
وبناء على ذلك كانت الجامعة السلفية قد جعلت من أهدافها – منذ أن أنشئت – الاهتمام
بشؤون التأليف والطبع والنشر بجانب الشؤون الدراسية والتعليمية، ولتحقيق هذا الهدف
قد تم في الجامعة إنشاء قسم خاص يهتم بشؤون التأليف والنشر، وهو قسم دار الترجمة
والتأليف والنشر، وقد أبدى هذا القسم نشاطا ملموسا في ترجمة بعض الكتب المهمة
النافعة وطبعها ونشرها في الهند وخارجها.
(1/70)
ومن أكبر مشاريع الدار وأهمها
مشروع طبع كتاب "مرعاة المفاتيح" شرح مشكاة المصابيح لفضيلة العلامة
المحدث الكبير الشيخ أبي الحسن عبيدالله الرحماني – حفظه الله تعالى -، وكان هذا
الكتاب قد طبع جزء منه في باكستان وجزآن في الهند، ولكنه نظرا إلى أهمية موضوعه
وطرافة مباحثه كان في حاجة إلى أن يعاد طبعه على طريقة علمية حديثة، بحيث يسهل
تناوله للقراء في الهند وغيرها من البلاد الإسلامية والعربية. ومن المتوقع أن يقع
الكتاب وفق هذه الطبعة الثانية في 12 جزء، وكل جزء يحتوي على نحو 600 صفحة بالقطع
الكبير. والدار حينما تحملت مسؤولية هذا المشروع الكبير – مع كثرة نفقاتها – لم
تهدف إلا إلى نشر العلوم الدينية والتعريف بما قام به العلماء السلفيون بالهند من
خدمة العلوم الإسلامية واللغة العربية، وما كان لهم من الإسهام في بناء صرح
الثقافة الإسلامية في شبه القارة.
ونحن إذ نقدم الجزء الأول من كتاب مرعاة المفاتيح نسأل الله عز وجل أن يكتب له
القبول لدى القراء والباحثين، ويوفقنا لإتمام هذا المشروع الكبير، ويجعل أعمالنا
خالصة لوجهه الكريم، فهو نعم المولى ونعم النصير.
……………………( إدارة البحوث الإسلامية )
مقدمة الطبعة الثانية
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات
أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد ! فهذه فصول مفيدة تشتمل على:
1- مقدمة الناشر للطبعة الأولى بعد تلخيصها وترجمتها إلى العربية.
2- ترجمة الشارح – حفظه الله -.
3- ذكر بعض ما يمتاز به هذا الشرح من الميزات والخصائص.
4- رسالة لطيفة في بيان مصطلحات علم الحديث التي لا بد من استحضارها لكل من يرغب
في مطالعة الحديث والتوسع فيها.
أحببت أن ألحقها بمرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ؛ ليكون القارئ على بصيرة عن
الكتاب وصاحبه.
(1/71)
وقد تركت ترجمة الإمام البغوي
– رحمه الله -، والتعريف بكتابه – المصابيح -، وكذلك التعريف بمشكاة المصابيح الذي
هو تكملة للمصابيح، وترجمة مؤلفه الخطيب العمري – رحمه الله -؛ لأن الشارح – حفظه
الله – قد تعرض لهذه الأمور في الشرح بما فيه غنى عن إعادة ذكرها هنا.
عبدالرحمن عبيدالله الرحماني المباركفوري.
مقدمة الناشر للطبعة الأولى
حامدا ومصليا ومسلما
اعلم أن الشاه ولي الله الدهلوي – رحمه الله – قد قرر في المبحث السابع من كتابه
"حجة الله البالغة" باعتبار فهم المعاني الشرعية من الكتاب والسنة
والاستنباط منهما والعمل بهما، مدرستين مستقلتين للتفكير: أهل الحديث، وأهل الرأي.
فذكر في إحداهما فقهاء أهل الحديث من مؤلفي الصحاح الستة وغيرهم مع الأئمة الثلاثة:
مالك والشافعي وأحمد، كمجتهدي الأمة – ونسب رئاسة المدرسة الأولى إلى إبراهيم
النخعي وأبي حنيفة وأصحابه. ثم قارن بين أصول استدلال المدرستين وطرق الاستنباط
والتخريج لهما. وعلاوة على شرحه الأحاديث فيه شرحا فقهيا، أرسخ قواعد حرية التفكير
وسعة النظر باختياره طريقة المدرسة الثانية في شرحه لموطأ الإمام مالك، وترجمته
"المسوى والمصفى" لتبقى الأمة المسلمة متحدة عملا مع اختلافها فكرا
ونظرا، متمشية على منهاج السلف الأول.
ثم روج الشاه ولي الله – رحمه الله – تدريس الصحاح الستة على طريقة أهل الحديث
بجنب التأليف والتصنيف ؛ لأن موضوع تلك الكتب جمع سيرة الرسول - صلى الله عليه
وسلم - كاملة حيث يهتدى بها في جميع نواحي الحياة البشرية قاطبة. ثم من أعظم
أوصافها وخصائصها أنها تحمل في طيها سعة النظر، وليس في جمع وتدوين أحاديثها ولا
في تبويبها ولا في طرق الاستدلال والاستنباط منها تحديد واقتصار.
(1/72)
فيورد أصحابها كل ما روي من
الأحاديث والآثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالحين، سواء كان
دليلا لطائفة أو عليها، لا يتعلق لهم بذلك غرض، فيعملون في ثبوت تلك المرويات
والاحتجاج بها حرية التفكير والبحث التي تورث الذهن استعداد النقد المثمر البناء.
ولعل هذا هو السبب الأكبر في اختياره مسلك الفقهاء المحدثين أساسا لتوحيد صفوف
الفرق المسلمة فكريا وعمليا، وجعله موضوعا لبعض مؤلفاته.
ولعله قد شعر بأنه قد ساد على العالم الإسلامي بعد القرن العاشر من الهجري عامة ؛
إما الفقه الجامد أو القاصر، أو التصوف المتخشن المفضي إلى الإلحاد، وإن كان هناك
شيء في المدارس باسم علوم الحديث فهو تابع للفقه المعاصر، ولم يكن يتعرض للروايات
إلا في مجالس الوعظ والقصص بغض النظر عن رطبها ويابسها وصحيحها وسقيمها، أو لتأييد
المذاهب الفقهية مهما كانت درجتها في الصحة والثبوت.
ولتحقيق أهداف الفقهاء المحدثين بدأ الشيخ ولي الله – رحمه الله – حركة تجديد عهد
المحدثين، وسقى هذا النبت حفيده الشيخ إسماعيل الشيهد (م 1246هـ)، ثم ترعرع بعده
وأثمر هذا الشجر عند طبقة من المحققين الذين استفادوا منه، أعني بهم المحدث الكبير
شيخ الكل السيد نذير حسين الدهلوي (م 1320هـ)، التلميذ الخاص للشاه محمد إسحاق (م
1262هـ)، والسيد أباالطيب محمد صديق حسن خان (م 1307هـ)، التلميذ الممتاز والمجاز
للشاه محمد يعقوب (م 1282هـ)، ابن بنت الشاه عبدالعزير – رحمه الله -.
فالمحدث الدهلوي السيد نذير حسين – رحمه الله – نشر هذه الحركة المقدسة تدريسا،
والسيد النواب – رحمه الله – قد أسهم فيها بتأليف الكتب الكثيرة والتزامه بطبع
المؤلفات النافعة النادرة الوجود على حسابه الخاص وتوزيعها في العالم الإسلامي، {
مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن
ربها }.
(1/73)
وألف السيد صديق حسن خان –
رحمه الله – على أساس خطة التفكير الفقهي للشاه ولي الله – رحمه الله – في سنة
1278هـ شرحا لبلوغ المرام باللغة الفارسية باسم "مسك الختام"، وفي سنة
1294هـ "عون الباري" شرح تجريد صحيح البخاري للشرجي، وفي سنة 1299هـ
"السراج الوهاج" شرح تلخيص الصحيح لمسلم للمنذري. هذا بجنب طبعه
لاستفادة أهل العلم وأصحاب التحقيق "نيل الأوطار" سنة 1297هـ، وفتح
الباري سنة 1300هـ بالمطبعة الأميرية ببولاق ( مصر ) بمبالغ باهضة مع عنايته
واهتمامه بترجمة كتب الصحاح الستة مع موطأ الإمام مالك وطبعها ؛ ليستنير عامة
الناس من أنوار علوم السنة رأسا وبدون واسطة.
ومن تلامذة المحدث الدهلوي العلامة الشيخ أبوالطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي
(م1329هـ) ألف "عون المعبود" شرح سنن أبي داود، والشيخ أبوالعلي محمد
عبدالرحمن المباركفوري (م1352هـ) شرح الجامع للترمذي باسم "تحفة
الأحوذي"، والشيخ محمد أبوالحسن السيالكوتي شرح صحيح البخاري باللغة الأردية
في 30 مجلدا، وسماه فيض الباري، والشيخ عبدالأول الغزنوي الأمرتسري (م 1331هـ) بن
محمد(1) بن العارف بالله الشيخ عبدالله الغزنوي – رحمهم الله تعالى – ترجم مشكاة
المصابيح وعلق عليها وطبعها.
ومن مفاخر علماء أهل الحديث في شبه القارة الهندية أنه باهتمامهم فحسب طبع أول مرة
عدة من كتب الحديث القيمة، أمثال: السنن للنسائي، والسنن للدارقطني، والتلخيص
الحبير، وغيرها، وإنها لحقيقة ثابتة أن تلك المطبوعات هي التي يستفيد بها أصحاب
التدريس والإفتاء وأهل التحقيق، فلله الحمد على ذلك.
__________
(1) المعلق على تفسير "جامع البيان" وناشر "المسوى والمصفى"
الأول .
(1/74)
وعلى كل حال فقد استمرت نهضة
تجديد وإحياء السنة بكل قوتها وحيويتها بفضل مساعي جماعة أهل الحديث الهندية
وجهودها العلمية والعملية، واستنارت بأشعة هذا النور العظيم أرجاء العالم الإسلامي
النائية، واعترف عديد من أهل العلم والتحقيق في العالم الإسلامي في العهد الحاضر
بسبق علماء أهل الحديث في الهند في ميدان نشر علوم السنة وطبع كتبها. فالشيخ
العلامة رشيد رضا المغفور له يقدر ويحسن جهودهم بما نصه: "ولولا عناية
إخواننا علماء الهند بعلوم الحديث في هذا العصر لقضي عليها بالزوال من أمصار
الشرق، فقد ضعفت في مصر والشام والعراق والحجاز منذ القرن العاشر حتى بلغت منتهى
الضعف في أوائل القرن الرابع عشر..." (مقدمة مفتاح كنوز السنة ).
ويمدحهم محقق آخر من مصر الشيخ عبدالعزيز الخولي: "... ولا يوجد في الشعوب
الإسلامية من وفى الحديث قسطه من العناية في هذا العصر مثل إخواننا مسلمي الهند،
أولئك الذين وجد بينهم حفاظ للحديث، ودارسون لها على نحو ما كانت تدرس في القرن
الثالث، حرية في الفهم، ونظر في الأسانيد، كما طبعوا كثيرا من كتبها النفيسة التي
كادت تذهب بها يد الإهمال، وتقضي عليها غير الزمان....، وإن أساس تلك النهضة في
البلاد الهندية أفذاذ أجلاء تمخضت بهم العصور الحديثة، وانتهجوا في تحصيل العلوم
نهج السلف، فنبه شأنهم وعلا أمرهم وذاع صيتهم،
(1/75)
فكان لها الأثر الصالح والسبق
الواضح، ومن أشهر هؤلاء الأعلام ولي الله الدهلوي صاحب التصانيف، أشهرها "حجة
الله البالغة"، والسيد صديق حسن خان ملك بهوبال صاحب التصانيف الكثيرة، ومن
حسناته ( يعني السيد حسن خان ) طبع فتح الباري ونيل الأوطار وتفسير الحافظ ابن
كثير...، طبعت هذه على نفقته في المطبعة الأميرية بمصر، فكانت من أنجح وسائل إحياء
السنة...، وفي الهند الآن طائفة تهتدي بالسنة في كل أمور الدين، ولا تقلد أحدا من
الفقهاء ولا المتكلمين وهي طائفة المحدثين".…( مفتاح السنة ص169).
ومحقق آخر الشيخ محمد منير الدمشقي يبدي رأيه عن حركة إحياء السنة هذه بما يأتي:
"وهي نهضة عظيمة، أثرت على باقي البلاد الإسلامية، فاقتدى بها غالب البلاد
الإسلامية في طبع كتب الحديث والتفسير". ( أنموذج من الأعمال الخيرية ص(468).
ويكتب عن "السيد صديق حسن خان": "كم له من أياد بيضاء في خدمة
العلم والعلماء، وإن جحد فضله الحاسدون وضعفاء العقول المتصنعون". ( أنموذج
ص388).
هذه هي حكاية ما أنجزه علماء أهل الحديث في شبه القارة الهندية من الأعمال الذهبية
في سبيل إحياء السنة وتجديد نهضة الشاه ولي الله – رحمه الله – باختصار، ولو سلك
مسلكه واختار منهجه العلماء المنتسبون إلى أسرته أيضا لكان الوضع الديني لبلادنا
مختلفا تماما عن الوضع الحالي.
(1/76)
وقد حدث – مع الأسف الشديد –
أن طائفة من علماء أسرته قد ترك منهج تدريسه، وترويج علوم الحديث لبعض مصالحها
الخاصة بعد وفاته بمدة لا تطول، ولا شك أن تلك الطائفة قد ساهمت في نشر الدين
بجهود لا تنكر قيمتها، ولكنهم لم يرضوا بإعطاء علوم الحديث حظها من عنايتهم، فإنهم
جعلوا نصب أعينهم عند الاشتغال بعلم الحديث مقاصد خاصة، مثل بعض سلفهم من المؤلفين
وشراح الحديث، ودرسوا هذه الكتب التي أساسها على الاجتهاد، على طريقة أصحاب الرأي،
معرضين عن منهج الشاه ولي الله – رحمه الله -، وزينت تلك الكتب بحواش مفيدة ولكن
غلبت عليهم العصبية الطائفية في شرح وتطبيق بعض الأحاديث وتعيين درجتها من الصحة
والضعف.
ويبذل قصارى الجهد في إبعاد الطالب عن تأثير ما ورد في المواضع المختلف فيها من
الكتاب، والتعليق يكون مخالفا للمتن، والحديث المعارض للمذهب في نظر المحشي أو
المدرس يعرض للتأويل والتوجيه، ولكن الذي حظي بالموافقة لمذهبهم يقبل من غير أن
ينظر إلى مرتبته من الصحة والضعف، والغرض من هذا التكلف أن لا يتسع طلبة الحديث
فكرا وصدرا بل ينحصروا في حصار خاص، ويتقيدوا بقالب معين، وإذا انبعث فيهم شعور
بالنقد والتحقيق فلا يكون إيجابيا ومنتجا بل سلبيا وجارحا.
ولو طالع أحد حواشي وتعليقات من هو في الطبقة العليا من فقهاء الهند على كتب
الحديث على سبيل المثال، لوجد لما ادعيناه في السطور الأولى أسسا ثابتة فيها، أعني
بها حواشي الشيخ أحمد علي السهارنبوري (م1297هـ) على صحيح البخاري، والجامع
للترمذي ومشكاة المصابيح، وحواشي الشيخ عبدالغني المجددي (م 1296هـ)، والشيخ محمد
التهانوي على سنن ابن ماجه وسنن النسائي، وحاشية النواب محمد قطب الدين الدهلوي (م
1289هـ) باللغة الأردية على مشكاة المصابيح.
(1/77)
واستمر على هذا المنهاج في
التأليف والتدريس من جاء بعدهم عامة إلا من شاء الله منهم، ولا يخفى أن هذا الوضع
قد يشوش أذهان طلاب الحديث، حيث يكون التعليق مخالفا للمتن، ولذا شعرنا بحاجة إلى
حواشي وتعليقات على كتب الأحاديث المتداولة بين المدارس الدينية في بلادنا تحل تلك
المشكلة ولا تشوش بنفسها ذهن الطالب، بل تؤيد اتجاه أئمة الحديث وتوضحه، وروعي
فيها المعايير المحايدة للمحدثين في الجرح والتعديل والبحث والتمحيص، ولوحظ فيها
الأصول الفقهية للشاه ولي الله – رحمه الله -، واحترم فيها جميع السلف من المحدثين
والفقهاء، بدون فرق بين مذهب ومذهب.
وتقع مسؤولية هذا العمل الجليل على عواتق علماء أهل الحديث في شبه القارة الهندية،
وقد اعتنوا به شيئا ما، فحواشي سنن ابن ماجه (1312هـ)، وسنن أبي داود (1318هـ)
للشيخ محمد بن نور الدين الهزاروي التلميذ الراشد للشيخ العلامة حسين بن محسن
اليماني البهوبالي (م 1327هـ) طبعت في أصح المطابع بلكنؤ، وحاشية سنن النسائي
للشيخ أبي عبدالرحمن محمد البنجابي (م 1315هـ)، والشيخ أبي يحيى محمد
الشاهجهانفوري (م1338هـ) تلميذي المحدث الدهلوي السيد نذير حسين، طبعت في المطبع
الأنصاري بدلهي سنة 1315هـ، ويندرج تحتها تنقيح الرواة حاشية على المشكاة للشيخ
السيد أحمد حسن الدهلوي (م1328هـ) تلميذ شيخ الكل السيد نذير حسين الدهلوي – رحمهم
الله -، ولكن جمعية أهل الحديث في شبه القارة الهندية قد تعرضت فيما بعد لحوادث –
ليس هذا محل تفصيلها -، فتوقف هذا العمل الجليل من جرائها لفترة طويلة، ولكن كل
فرد من أفرادها مازال يشعر بالحاجة إليه.
ـــــــــــــ
(1/78)
والغرض من إطالة هذه الحكاية
الممتعة للمسامع إزاحة الستار عما يكمن وراء الحوار، والمحادثات والمقترحات التي
كانت تمتد إلى ساعات طويلة بيني وبين صديقي المغفور له الحافظ محمد زكريا، وقد
لقيته إبان الحرب العالمية الثانية – كما أذكر – حينما كنت مقيما ببلدة فيروزبور (
البنجاب الشرقي ) للتدريس والخطابة، وقد كثرت اللقاءات، ووحدة الذوق والفكر دائما
يحدونا إلى اللقاء والمحادثة، وأكبر همنا كان التخطيط لإحياء نهضة سلفنا – عمل نشر
علوم الحديث – من جديد.
ـــــــــــــ
وعلى بعد 30 ميلا من المدينة الصناعية لائل بور ( البنجاب الغربي ) وفي ناحيتها
الغربية الجنوبية تقع قرية تسمى "جهوك دادو طور"، يسكنها العالم الرباني
الشيخ محمد الباقر، تلميذ المحدث الحافظ عبدالمنان الوزير آبادي (م 1334هـ)،
والمستفيض من علوم ومعارف الشيخ عبدالجبار الغزنوي (م1332هـ) – رحمهما الله وغفر
لهما -، وصديقنا المرحوم الحافظ محمد زكريا كان أكبر أولاده، وقد ولد في نفس
القرية سنة 1332هـ غالبا –، غيب القرآن وتعلم اللغة الأردية في بيته، وقرأ مبادئ
اللغة العربية في قرية قريبة من مديرية شيخوبورة، وأقام مدة يسيرة بمدرسة تقوية
الإسلام أمرتسر – البنجاب -، ثم ارتحل إلى كوجرانواله وتتلمذ على الشيخ العلامة
الحافظ محمد – حفظه الله ونفع بعلومه -، والشيخ محمد إسماعيل – رحمه الله -، وقرأ
عليهما الصحاح الستة وغيرها من كتب الحديث والعلوم، وحصل منهما الشهادة والإجازة،
وبما أنه كان يميل إلى الكتابة والتأليف ونشر الكتب – وهذا هو وجه الرابطة بيني
وبينه لأني أيضا كنت أميل إليه من بدء شعوري – فترجم رسائل لشيخ الإسلام ابن
تيمية، و"والوابل الصيب" لابن القيم – رحمهما الله – إلى اللغة الأردية،
وطبعها على رغبتي ومشورتي، ثم
(1/79)
شرح "زرادي"
بالأردية، وسماه "الهادي"، وكذلك طبع مقالتي الوجيزة "الإمام
الشوكاني" في سنة 1364هـ، وعلاوة عليها ترجم رسالة للرازي "عصمة
الأنبياء"، وشرح كتاب "أبواب الصرف" للشيخ الحافظ محمد اللكهوي،
ولم يطبعا بعد.
ولكن واحسرتاه ! هذا الشاب الطويل القامة النحيف الجسم، المليء بالعلم والذوق
السليم كان مصابا بمرض المعدة، وازداد مرضه تدريجا حتى قضى على حياته، وتوفاه
الأجل المحتوم في آخر شوال سنة 1368هـ، الموافق أغسطس سنة 1949م – إنا لله وإنا
إليه راجعون، وقد توفي والده الشيخ محمد الباقر أيضا.
وبعد انقسام شبه القارة إلى الدولتين: الهند والباكستان عام 1366هـ الموافق لعام
1947م هاجرت من فيروزبور الهند إلى باكستان، ولقاء صديقنا هناك كان أمرا طبيعيا،
وشعرنا بأنه قد حان موعد تعبير الأحلام التي كنا نحلم بها – وكانت المقترحات
والمشورات والمشاريع السابقة مواضيع لقاءنا -، فقررنا إحياء مشروع سلفنا بتحشية
وطبع كتب الحديث وما يتعلق بها، وأن نبدأ العمل بمشكاة المصابيح، وطلب مني التعليق
عليه فاعتذرت بعدم استعدادي له، وعرضت عليه اسم فضيلة الشيخ عبيدالله الرحماني
المباركفوري – حفظه الله وبارك في حياته ونفع بعلومه -، فوافق عليه والتمس هو من
الشيخ الرحماني المباركفوري – حفظه الله – بالقيام لهذه الخدمة الجليلة الشأن،
فقبل الشيخ اقتراحنا بكل بشاشة وفرح، ولكن قدر مدة تكميل العمل بأربع سنوات على
الأقل، وبدأ العمل في 1367هـ الموافق 1947م.
ــــــــــــ
(1/80)
وكنت قد انتقلت ذاك الوقت على
طلب مخدومنا الشيخ العلام السيد محمد داود الغزنوي – رحمه الله – إلى مدرسته تقوية
الإسلام في لاهور ؛ لأقوم بخدمة التدريس فيها، ونزل الصديق الحافظ محمد زكريا
لطباعة بعض الكتب لاهور، وأقام عندي عدة شهور، وشعرنا بأنه لا ينبغي الانتظار
لتكميل حاشية المشكاة، بل لابد من بدء عمل آخر، فقررنا طبع سيرة المحدث الدهلوي
السيد نذير حسين – رحمه الله – "الحياة بعد المماة" طباعة ممتازة أنيقة.
وبما أنه كان لا يوجد في ذاك الوقت سنن أبي داود في المكاتب فصممنا على طبعه
بتعليق جديد، وبدأت بتأليف "فيض الودود" تعليق سنن أبي داود على إلحاحه،
واعتنى هو لتسيير العمل بمساعدة مالية، وفي أثنائه غادر هو لاهور إلى بيته واشتد
مرضه، وبعد أيام جاء نعي وفاته المؤلم، اهتز له كل من كان يعرفه، وخاصة كاتب هذه
السطور، {فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر }.
ــــــــــــ
ومكتبتي التي ضاعت بفيروز بور قد أسستها من جديد بلاهور – باسم المكتبة السلفية،
وعمل تأليف فيض الودود تعليق سنن أبي داود، وإن لم يتعد على جزئين فقط، ولكن لم
تمض فترة إلا أن قيض الله سبحانه وتعالى أسبابا لا نتوقعها لتأليف وطبع كتاب عظيم
"التعليقات السلفية على سنن النسائي" في غضون أربع سنوات تحت إشراف
وعناية المكتبة السلفية، { وهذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر }.
وبعد سنة فصاعدا قد علمنا بأن فضيلة الشيخ عبيدالله الرحماني قد أرسى قواعد شرح
جليل لمشكاة المصابيح بدل تعليق بسيط عليه، وأكمل الجزء الأول منه وأرسله إلينا
للطبع، وإنها لحقيقة أننا ما كنا مستعدين له في ذاك الوقت؛ لأن جمعية قرية صغيرة
ما كانت تستطيع أن تتحمل نفقات الطبع الباهضة، ثم الموانع والمشاكل في كل مرحلة
حالت دون
(1/81)
طبعه، ولكن الله تعالى بفضله
وكرمه أزال جميع الموانع، ووفق عبدا ضعيفا من عباده أن يوفي بما عهد به صديقه،
وذلك من ثمرات إخلاص المغفور له، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.
وهل يخفى على أحد الحاجة إلى شرح مفصل للمشكاة ؟ ولا شك في أن شرح شيخ مؤلف
المشكاة العلامة حسين بن محمد الطيبي (م743هـ) "الكاشف عن حقائق السنن"
يعد من أحسن الشروح له، لكنه لم يطبع بعد، ويتبعه مرتبة المرقاة لملا علي بن سلطان
محمد القارئ (م1014هـ)، واللمعات للشيخ عبدالحق الدهلوي (م1052هـ)، وهما شرحان
جيدان من حيث جمع المواد المتعلقة بإيضاح المطالب وغيره، ولكن التزم فيهما تمثيل
مدرسة خاصة في الفقهيات، ثم إنهما لا يشفيان غليل الباحث في باب تخريج ونقد
الأحاديث مع أن الحاجة إليه شديدة في شرح المشكاة خاصة بالفصل الثالث منه. ونظرا
إلى ذلك فقد حبذنا عمل فضيلة الشيخ عبيدالله الرحماني بكل سرور وانشراح، فإن الله
تعالى قد هيأ أسبابا لملأ فراغ كبير في هذا الباب.
ونحمد الله على إحسانه وكرمه أن مرعاة المفاتيح يعد شرحا عديم النظير غير مسبوق به
بما يمتاز به من الأوصاف والخصائص، يحتوي بما في الشروع السابقة ويذكرنا القرن
العاشر في باب التحقيق مصداقا لـ"كم ترك الأول للآخر".
وإن هذا الكتاب لا يفي بحاجة المرقاة واللمعات فحسب، بل يغني عن كثير من الكتب في
باب تخريج الأحاديث وتنقيحها – إن شاء الله -، ونتضرع إلى الله تعالى أن يوفق
الشارح لتكميل هذا العمل، وينعم عليه بحسن القبول والإفادة العامة.
(1/82)
والحاجة إلى تعليق على المشكاة
التي لمسناها لغرض خاص باقية حتى الآن، ولا ندري من يوفق له ومتى؟ والحاشية شبه
الشرح للمشكاة "تنقيح الرواة في تخريج أحاديث المشكاة" التي مر ذكرها
فوق قد طبع نصفها الأول قبل مدة طويلة، وقد عثرنا على أوراق نصفها الأخير هذه
الأيام، ولكنها في حاجة ماسة إلى إعادة النظر فيها، بل شيء من آخرها مخروم ويحتاج
إلى كتابتها من جديد، ومن أماني المشرفين على المكتبة السلفية بلاهور طبعها ونشرها
في أقرب فرصة.
ولا نزال نلمس الحاجة إلى مشكاة مترجمة تحتوي على مقتضى القديم والحديث مع ترجمتها
الموثوق بها، وقد استكمل ترجمة نصفها الأول الشيخ محمد إسماعيل على اقتراح كاتب
هذه السطور، ستكون هذه المشكاة المترجمة عديمة النظير إن شاء الله.
ولا يخفى على أحد أن إشاعة ونشر تفسير القرآن الكريم في ضوء الأحاديث والآثار
وعلوم الحديث خالصة من واجبات جماعة أهل الحديث التي تمتاز بها، وقد أدى هذا
الواجب أسلافها في الماضي القريب بأحسن وجه، وإن العصر الذي نعيش فيه مليء
بالمخاطر، والحاجة ماسة إلى دفع مهاجمات ومهاترات المنكرين لحجية الحديث
والمتخبطين في ملتويات التأويل والتوجيه، وعمل أصحاب الحديث وأنصاره أضعف بكثير
وأبطأ بإزاء دعاية تلك القوى المعارضة، فهل من سبيل لمقاومة هذا السيل العارم، فهل
ينظرون في سبيل مقاومة هذا الاتجاه الزائف ؟
والحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه
أجمعين.
( أبوالطيب محمد عطاء الله حنيف – كان الله له ).
ترجمة الشارح – حفظه الله وبارك في حياته -.
هو أبوالحسن عبيدالله بن العلامة محمد عبدالسلام بن خان محمد بن أمان الله بن حسام
الدين.
(1/83)
ولد في محرم الحرام سنة 1327هـ ببلدة مباركفور التابعة المديرية أعظم كره إحدى مديريات الولاية الشمالية ( اتربرديش) في الهند، وتدرس كتب الأردية والفارسية الرائجة في المدارس الأهلية آنذاك في المدرسة العالية ببلدة مئو من بلاد أعظم كره، وكتب النحو والصرف والأدب والفقه والمنطق والهندسة أمثال الكافية لابن حاجب وشرحها لملا جامي وشرح الوقاية ومشكاة المصابيح والسراجية في علم الفرائض وشرح التهذيب وشرح الشمسية المعروف بالقطبي وديوان المتنبي وأقليدس على والده العلامة محمد عبدالسلام صاحب سيرة البخاري – رحمه الله – حينما كان هو مدرسا في مدرسة سراج العلوم بقرية بونديهار من قرى مديرية كونده في الولاية الشمالية، ثم انتقل مع والده – رحمه الله إلى دار الحديث الرحمانية بدلهي، وكمل دراسته هناك، وتخرج على أيدي الأساتذة المتخصصين في كل فن من فنون العلم، فدرس من كتب الحديث الصحيحين للإمامين البخاري ومسلم، والموطأ للإمام مالك على العلامة المحدث الشيخ أحمد الله البرتابكرهي ثم الدهلوي – رحمه الله -، تلميذ الشيخ السيد نذير حسين المحدث الدهلوي، والشيخ حسين بن محسن الأنصاري الخزرجي، وقد كتب هو له الإجازة برواية كتب الحديث، وهي محفوظة عندنا، وكتب العلوم العقلية الآلية من المنطق والفلسفة والهيأة وعلم الكلام وكتب الفقه مع أصوله كشرح هداية الحكمة للصدر الشيرازي، والشمس البازغة وشرح السلم للمولوي حمد الله والقاضي مبارك، وشرح العقائد النسفية وشرح المواقف والتصريح وشرح الجغميني وشرح المطالع ومسلم الثبوت والتلويح مع التوضيح والجزأين الأخيرين من الهداية والتفسير للبيضاوي على العلامة الشيخ غلام يحيى الكانبوري، ونور الأنوار وتفسير الجلالين وجامع الترمذي والمقامات الحريرية وديوان الحماسة على الشيخ الحافظ عبدالرحمن النكرنهسوي، والهدية السعيدية وسنن أبي داود على الشيخ أبي طاهر البهاري، والمقدمة لابن خلدون وشيئا من
(1/84)
الشمس البازغة على العلامة
الشيخ عبدالغفور الجيراجبوري، والفوز الكبير في أصول التفسير على الشيخ محمد إسحاق
الآروي، ودرس أيضا صدرا من شرح المطالع على العلامة الشيخ عبدالوهاب الآروي، وشيئا
من تفسير البيضاوي على العلامة المحدث محمد الكوجرانوالي البنجابي، وحصل شهادة
العالمية من المدرسة الرحمانية سنة خمس وأربعين بعد الألف وثلاثمائة 1345 من
الهجرة، وقرأ أيضا في أيام العطلة المدرسية أوائل جامع الترمذي، وقدرا معتدا به من
شرح النخبة ومقدمة ابن الصلاح والسراجية في علم الفرائض على الإمام المحدث الشيخ
عبدالرحمن المباركفوري صاحب تحفة الأحوذي – رحمه الله – في بيته، وأجاز له الشيخ –
رحمه الله – برواية كتب الحديث شفاها.
ونظرا إلى ذكائه ونجاحه في الاختبار دائما بالدرجة الممتازة عينه الشيخ عطاء
الرحمن صاحب دار الحديث الرحمانية والمشرف الوحيد عليها والمتكفل لجميع ما تحتاج
إليها من النفقات مدرسا فيها في نفس السنة التي تخرج فيها.
وكما هو معلوم لدى الإخوان أن الشيخ الأجل المحدث المباركفوري قد كف بصره قبل أن
يكمل شرحه – تحفة الأحوذي -، وكان بحاجة إلى عالم له مناسبة خاصة بعلوم الحديث
وفنونه، يساعده في عمله ذاك، فاختار الشيخ المباركفوري – رحمه الله – لذلك فضيلة
والدنا الشيخ عبيدالله الرحماني المباركفوري لمساعدته، فأرسله الشيخ عطاء الرحمن
على اقتراح الشيخ
(1/85)
المباركفوري – رحمه الله –
إليه، فقضى لديه سنتين خير مساعد له في تكميل الجزئين الأخيرين لشرح جامع الترمذي
– تحفة الأحوذي – مع زميله الفاضل الشيخ عبدالصمد المباركفوري، والعالم الشيخ محمد
اللاهوري البنجابي، وقرأ عليه أطرافا من الصحاح الستة وغيرها، وبذل جهده في
الاستغراف من بحار علومه والتأدب بآدابه والاستفادة من فوائده، ثم استدعاه الشيخ
عطاء الرحمن للتدريس في دار الحديث الرحمانية , وفوض إليه تدريس كتب الحديث، خاصة
جامع الترمذي وسنن أبي داود والصحيح الإمام البخاري والموطأ للإمام مالك مع خدمة
الإفتاء، فاشتغل به إلى أن انقسم الهند إلى الدولتين: الباكستان والهند في أغسطس
عام 1947م الموافق لعام 1366هـ، وقفلت دار الحديث الرحمانية لأجل هجرة مشرفه الشيخ
عبدالوهاب نجل الشيخ عطاء الرحمن – رحمهما الله – إلى كراتشي ( الباكستان ).
وهو مرجع للمسلمين فيما يشكل عليهم من الأمور الدينية والمسائل الشرعية ؛ لما أن
فتاواه تكون مدعمة بالدلائل من الكتاب والسنة، ولا يبالي في ذلك لومة لائم، وقد
طبع كثير منها في مجلتي "محدث" و"مصباح" وغيرهما.
وقد بدأ تأليف شرح المشكاة – مرعاة المفاتيح – الذي بأيدي القارئين في عام 1948م
الموافق لعام 1367هـ بأمر الحافظ محمد زكريا اللائلبوري – رحمه الله -، وأمر والده
التقي الورع الزاهد الشيخ محمد باقر – أطال الله حياته -، وهو إلى الآن مشتغل به
حسبما تسنح له فرصة، ويجد إفاقة من الأمراض التي لازمته من مدة طويلة – عجل الله
شفاءه ووفقه لخدمة سنة رسوله وتكميل الشرح -، إلى جانب رده على المسائل التي ترد
إليه كل يوم، وله بحوث قيمة في بعض المسائل طبعت في أجزاء، منها "بيان الشرعة
في بيان محل أذان خطبة الجمعة"، عين فيها محل أذان خطبة الجمعة من المسجد،
وبحث بسيط في عقد التأمين، وغير ذلك.
(1/86)
وقد وفقه الله لزيارة الحرمين
الشريفين أربع مرات: الأولى في رمضان سنة 1366هـ الموافق لعام 1947م مع العلامة
الشيخ خليل بن محمد بن حسين بن محسن الأنصاري، وفدا إلى المغفور له الملك
عبدالعزيز – برد الله مضجعه -، في شأن مدرسة دار الحديث الأهلية بالمدينة المنور،
فقابل الوفد المغفور له الملك عبدالعزيز ونائبه في الحجاز إذ ذاك جلالة الملك فيصل
بن عبدالعزيز – حفظه الله -، ولقي في الرياض الشيخ محمد بن عبداللطيف ومحمد بن
إبراهيم وعمر بن حسن، وفي الطائف عبدالله بن حسن آل الشيخ، وفي المدينة عبدالله بن
مزاحم وغيرهم من المشايخ، واعتمر أولا في آخر رمضان ثم في شوال حين رجوعه من
المدينة، ورجع الوفد بعد قضاء مهمته ونجاحه فيها في أوائل ذي القعدة في نفس السنة،
ثم إن والدنا الشارح - طالت حياته في صحة وعافية – قد أدى فريضة الحج عام 1375هـ
الموافق لعام 1956م عن نفسه، وبعده في عام 1382هـ الموافق لعام 1963م وعام 1391هـ
الموافق لعام 1971م نيابة، تقبل الله حجه ومد في أجله ووفقه لإتمام عمله، آمين.
بيان بعض ميزات الشرح وخصائصه
الكتاب بأيدي الناظرين والعيان أصدق شاهد، فلا حاجة إلى التنبيه على ما التزمه
الشارح – حفظه الله وبارك في حياته – فيه من الأمور التي لا بد من مراعاتها في شرح
مشكاة المصابيح، وما أودعه من بدائع الفوائد الجليلة ونفائس الأبحاث الممتعة التي
لا غنى لأحد ممن يشتغل بالحديث تدريسا وقراءة، ولكن لا بأس أن نشير إلى لمعة من
خصائصه ونذكر بعض ميزاته ؛ ليكون من أول الأمر بصيرة لأولي الأبصار، فيقع في
قلوبهم بانشراح وارتياح، ولو قلنا: إن الأمور التي راعاها المؤلف في هذا الشرح
الجليل لا توجد مجتمعة في شرح آخر من شروح المشكاة لم يكن فيه شيء من المبالغة
أصلا، وهاك بعض ميزاته:
(1/87)
1- وضع المؤلف – طال بقاؤه –
أرقاما مسلسلة لأحاديث الكتاب ؛ ليكون حصرا صحيحا لأحاديثه، ولأن عد الأحاديث بالأرقام
المسلسلة خير الطرق لنشر كتب الحديث وشروحها في هذا العصر، ولتكون هذه الأرقام
المسلسلة كالأعلام للحديث، ثم وضع بجنبها أرقاما مسلسلة لأحاديث كل باب علحدة
وجعلها بين القوسين ( ) ؛ ليمتاز عن الرقم المسلسل لأحاديث الكتاب، ولا يخفى فائدة
هذا العمل على القارئ والباحث.
2- وضع أربع فهارس: أحدها فهرس الكتب والأبواب والفصول حسب ما وقع في المشكاة.
وثانيها: فهرس الأحاديث مع أبوابها وفصولها مع أرقامها المسلسلة وبعض أبحاث الشرح
المهمة. ثالثها: فهرس الأعلام للصحابة والتابعين وغيرهم ممن لهم ذكر أو رواية في
كتاب المشكاة، وللأئمة أصحاب الأصول المذكورين في أول المشكاة. رابعها: فهرس
للأماكن التي ورد ذكرها في متن الحديث مرتبا على حروف المعجم، وقد جعل فهارس هذا
الجزء في أوله مع بيان رقم الصفحة، وهكذا يفعل في بقية الأجزاء، إن شاء الله
تعالى.
3- كتب ترجمة كل علم من الصحابة والتابعين وغيرهم بقدر الحاجة في أول موضع ذكر فيه
من المشكاة، وكذا وصف كل مكان في أول موضع وقع فيه.
4- أوفى القول في توضيح الأحاديث وتشريحها، وذكر من معاني الأحاديث المشتملة على
مسائل الفقه والكلام ما هو الصحيح الراجح المعول عليه عند السلف الصالح من الصحابة
والتابعين وفقهاء المحدثين – رضي الله عنهم -، وكثيرا ما أطنب الكلام في الرد على
التأويلات الواهية المزخرفة التي اخترعها أهل الهوى من المبتدعين والمقلدين
الجامدين المتعصبين لصوغ الأحاديث النبوية على مسالكهم الزائغة وأهوائهم الباطلة.
5- أجاب بأحسن وجه عن المطاعن التي يوردها المقلدون على مسالك فقهاء أهل الحديث في
شروحهم وحواشيهم وتعليقاتهم على كتب الحديث.
(1/88)
6- ذكر اختلاف الفقهاء
وأقوالهم في مسائل الخلاف مع سرد حجج هذه الأقوال، ثم عين القول الراجح المعول
عليه عنده، وأيده بالأحاديث والآثار، وأجاب عن دلائل الأقوال المرجوحة بوجوه
متعددة.
7- اعتنى بحل الإشكالات ودفع المعارضات عناية تامة.
8- أشار عند البحث في بعض المسائل إلى مظانها من الكتب المطولة من شرح الحديث
والفقه الجامع والسنن والمسانيد والجوامع والمعاجم والرجال مع أرقام الصفحات ؛ لكي
يسهل الرجوع إليها لمن يريد التوسع في الكلام، وصنع هذا حيث رأى أنه لو بسط القول
فيه على الوجه الذي أراد أفضى ذلك إلى التطويل الذي لا يحتمل، والإطناب الذي يوقع
في الضجر والملال.
9- التزم تخريج ما أورده المؤلف في الفصل الأول والثالث من أحاديث الصحيحين أو
أحدهما إن اشترك فيها الغير من أصحاب السنن والمسانيد والمعاجم، والتزم أيضا أن
يخرج أحاديث الفصل الثاني والثالث، من روايات غير الشيخين إن رواها غير من سماه
المؤلف، واستدرك أيضا ما وقع من المؤلف من ترك البياض بعد ذكر الحديث دون عزوه
لأحد، فبين الشارح من أخرجه.
10- وفي كثير من مثل هذا يذكر تلك الكتب بقيد الباب والصفحة.
11- التزم الكلام على أحاديث غير الصحيحين وانتقادها حسب ما تيسر وسنح له وبين
درجتها من الصحة أو الضعف، معتمدا في كل ذلك على كلمات أئمة هذا الفن الجليل
الشأن.
12- أشار إلى ما وقع للمؤلف من الأوهام والأخطاء في سوق ألفاظ الحديث، وفي وضع
حديث الصحيحين أو أحدها في الفصل الثاني، وحديث غيرهما في الفصل الأول، وفي تخريج
بعض الأحاديث، وغير ذلك مما أخذه الشارح على المؤلف واستدركه عليه، لا يخفى على من
طالع الشرح بالإمعان.
13- عنى بذكر الأحاديث والآثار المؤيدة لأحاديث غير الصحيحين مع بيان درجتها من
الصحة أو الضعف، وربما أشار إليها بقوله: وفي الباب عن فلان عند فلان، وعن فلان
عند فلان.
14- سرد الحديث بتمامه إن ذكره المؤلف مختصرا.
(1/89)
هذا، وغير ذلك من المحاسن التي
تظهر لمن يطالع الكتاب بإمعان النظر، والله الموفق.
ــــــــــــ
تحفة أهل الفكر في مصطلح أهل الأثر
جمعها وألفها
عبدالرحمن بن عبيدالله الرحماني المباركفوري
خريج الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة لطيفة في بيان مصطلحات علم الحديث مما لا بد لطالب الحديث أن يحفظها قبل
الشروع في قراءة كتب الحديث، وأن يستحضرها عند الخوض في هذا الفن الجليل، وقد
ذكرناها من غير تطويل وإطناب لتقاصر الهمم، ومن شاء البسط والتفصيل رجع إلى الكتب
المبسوطة في علم مصطلح الحديث، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــ
علم الحديث، غايته، وثمرته، وأنواعه.
علم الحديث: هو علم يعرف به أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وأحواله.
موضوعه : ذات الرسول - صلى الله عليه وسلم - من حيث أنه رسول الله، لا من حيث أنه
إنسان.
غايته وثمرته : الفوز بسعادة الدارين.
…وعلم الحديث بإطلاقه عام كلي ينقسم إلى ثلاثة أقسام: 1- العلم برواية الحديث. 2-
علم مصطلح الحديث. 3- العلم بدراية الحديث.
(1) العلم برواية الحديث: هو علم يشتمل على نقل ما أضيف إلى الرسول - صلى الله
عليه وسلم - أو إلى من دونه من الصحابي أو التابعي قولا أو فعلا أو تقريرا أو صفة.
(2) علم مصطلح الحديث: هو علم بأصول وقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن من حيث
الرد والقبول.
موضوعه: السند والمتن من حيث الرد والقبول.
غايته وثمرته: تمييز ما يقبل من ذلك وما يرد، ومعرفته.
اسمه: علم مصطلح الحديث، ويسمى أصول الحديث، وعلوم الحديث.
(3) العلم بدراية الحديث: هو علم يبحث فيه عن المعنى المفهوم من ألفاظ الحديث، وعن
المراد منها، مبنيا على قواعد العربية وضوابط الشريعة ومطابقا لأحوال النبي - صلى
الله عليه وسلم -.
موضوعه: أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - من حيث دلالتها على المعنى المفهوم
والمراد.
(1/90)
غايته: التحلي بالآداب النبوية
والتخلي عما يكرهه وينهاه.
واعلم أنه قسم كل قسم من الأقسام المذكورة إلى أقسام يسمى كل واحد منها باسم، ومن
أراد معرفة ذلك رجع إلى الكتب المبسوطة في علم أصول الحديث.
الحديث والخبر والأثر
الحديث: لغة: الجديد، واصطلاحا: هو ما أضيف إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من
قول أو فعل أو تقرير أو وصف خلقي أو خلقي، أو ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه
وسلم - أو إلى من دونه من الصحابي والتابعي كذلك، ويجمع على أحاديث على خلاف
القياس.
الخبر والنبأ: الخبر لغة يطلق على ما هو أعم من النبأ، فيشمل الأخبار الجليلة
والتافهة، بخلاف النبأ فإنه خاص بما له خطب وشأن.
واصطلاحا: مرادف للحديث، وقيل: هما متباينان، فالحديث ما جاء عن الرسول - صلى الله
عليه وسلم -، والخبر ما جاء عن غيره، وقيل في بيان التباين بينهما: أن الحديث ما
جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين، والخبر ما جاء عن أخبار
الملوك والسلاطين والأيام الماضية، ولهذا يقال لمن اشتغل بالسنة محدث، ولمن اشتغل
بالتواريخ أخباري، وقيل: بينهما عموم وخصوص مطلق، فالحديث ما جاء عن الرسول - صلى
الله عليه وسلم -، والخبر ما جاء عنه أو عن غيره، وعلى هذا فكل حديث خبر وليس كل
خبر حديث.
السنة: هي أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وتقريراته وصفاته، فهي
مرادفة للحديث.
الأثر: لغة: بقية الشيء، واصطلاحا: ما روي عن الصحابة والتابعين من أقوال أو
أفعال، وعند المحدثين الأثر مرادف للخبر والحديث، وفي التدريب "يقال: أثرت
الحديث بمعنى رويته، ويسمى المحدث أثريا نسبة للأثر".
الحديث القدسي والفرق بينه وبين القرآن الكريم
الحديث القدسي: هو ما نقل إلينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع إسناده إياه
إلى ربه عز وجل.
(1/91)
والفرق بينه وبين القرآن
الكريم أن القرآن لفظه ومعناه من الله سبحانه وتعالى، ويتعبد بتلاوته، ويشترط في
إثباته التواتر.
والحديث القدسي ليس لفظه من الله تعالى، ولا يتعبد بتلاوته، ولا يشترط في ثبوته
التواتر.
قال الكرماني: القرآن لفظ معجز، ونزل بواسطة جبريل عليه السلام، وهذا غير معجز،
وبدون الواسطة، ومثله يسمى بالحديث القدسي والإلهي والرباني.
الفرق بين الحديث القدسي وبين غير القدسي
فإن قلت: الأحاديث كلها كذلك، كيف وهو لا ينطق عن الهوى ؟ قلت: الفرق بأن القدسي
مضاف إلى الله تعالى، ومروي عنه بخلاف غيره، وقد يفرق بأن القدسي ما يتعلق بتبرئة
ذاته تعالى وصفاته الجلالية والكمالية.
قال الطيبي: القرآن هو اللفظ المنزل به جبريل – عليه السلام – على النبي - صلى
الله عليه وسلم -، والقدسي: إخبار الله معناه بالإلهام أو المنام، فأخبر النبي -
صلى الله عليه وسلم - أمته بعبارة نفسه، وسائر الأحاديث لم يضفها إلى الله، ولم
يروها عنه.
ولراوي الحديث القدسي صيغتان:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عز وجل.
قال الله تعالى فيما رواه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والمعنى واحد.
والأحاديث القدسية أكثر من مائة حديث، منها ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي ذر – رضي
الله عنه – عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن الله تعالى أنه قال:
((يا عبادي ! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم حراما، فلا تظالموا...))
الحديث.
أقسام الخبر باعتبار طرق وصوله إلينا
الخبر ينقسم بهذا الاعتبار إلى متواتر وآحاد.
المتواتر: لغة: المتتابع، واصطلاحا: هو ما نقله إلينا جماعة كثيرون تحيل العادة
تواطؤهم وتوافقهم على الكذب، عن جماعة كذلك، ويكون إخبارهم عن شيء محسوس من مشاهد
أو مسموع، كأن يقول: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل كذا، أو سمعت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا.
(1/92)
شروط التواتر: وشروطه أربعة:
(1) أن يرويه عدد كثيرون بلا حصر. (2) أن يرووا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى
الانتهاء في جميع طبقات السند. (3) أن تحيل العادة تواطؤهم وتوافقهم على الكذب.
(4) أن يكون انتهاء خبرهم مستندا إلى الحس من مشاهد أو سماع.
والمتواتر يفيد العلم اليقيني الضروري، وهو الذي يضطر إليه الإنسان، بحيث لا يمكنه
دفعه، وقيل: لا يفيد إلا العلم النظري، وليس بشيء ؛ لأن العلم بالتواتر يحصل لمن
ليس له أهلية النظر مثل العامي.
والمتواتر نوعان: لفظي، ومعنوي.
المتواتر اللفظي: هو ما تواتر لفظه ومعناه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كحديث:
((من كذب علي متعمدا....)) الخ.
المتواتر المعنوي: ما تواتر معناه دون لفظه، أو هو ما تواتر القدر المشترك فيه،
كحديث المسح على الخفين، وحديث رفع اليدين في الدعاء.
هذا، وقسم بعضهم التواتر إلى أربعة أقسام: أحدها:
تواتر الإسناد: وهو أن يروي الحديث من أول الإسناد إلى آخره جماعة يستحيل اجتماعهم
على الكذب، وهذا هو التواتر المشهور عند المحدثين. والثاني:
تواتر الطبقة: كتواتر القرآن، فإنه تواتر على البسيطة شرقا وغربا، درسا وتلاوة،
حفظا وقراءة، وتلقاه الكافة عن الكافة طبقة عن طبقة، ولا يحتاج إلى إسناد يكون عن
فلان عن فلان، بل هو شيء ينقله أهل المشرق والمغرب عن أمثالهم جيلا عن جيل، لا
يختلف فيه مؤمن ولا كافر منصف غير معاند، وهذا القسم من المتواتر يعسر إيراد إسناد
له على قواعد المحدثين فضلا عن أسانيد. والقسم الثالث:
تواتر عمل وتواتر توارث: وهو أن يعمل به في كل قرن من عهد صاحب الشريعة إلى يومنا
هذا جم غفير من العاملين، بحيث يستحيل عادة تواطؤهم على الكذب أو غلط، كالسواك في
الوضوء مثلا، فهو سنة، واعتقاد سنيته فرض ؛ لأنه ثابت بالتواتر العملي. والقسم
الرابع:
(1/93)
تواتر القدر المشترك: وهو ما
تختلف فيه ألفاظ الرواة، بأن يروي قسم منهم واقعة وغيره واقعة أخرى، وهلم جرا، غير
أن هذه الوقائع تكون مشتملة على قدر مشترك، فهذا القدر المشترك يسمى بالمتواتر
المعنوي أو المتواتر من جهة المعنى، وهذا كتواتر المعجزة، فإن مفرداتها ولو كانت
آحادا لكن القدر المشترك متواتر قطعا.
أخبار الآحاد
الآحاد جمع أحد بمعنى واحد. و
خبر الواحد: في اللغة: ما يرويه شخص واحد، وفي الاصطلاح: ما لم يصل حد التواتر، أو
لم يتوفر فيه شروط المتواتر، وهو يفيد الظن. وقيل: العلم النظري، وقال ابن حزم –
رحمه الله – في الإحكام: إن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - يوجب العلم والعمل به معا.
ويطلق المحدثون أخبار الآحاد على ما عدا المتواتر، وهي تنقسم إلى مشهور، وعزيز،
وغريب.
المشهور والمستفيض: المشهور لغة: ما اشتهر على الألسنة وإن كان كذبا، واصطلاحا: ما
رواه عدد محصور فوق الاثنين، وسمي بذلك لشهرته، ويقال له المستفيض أيضا، وسمي بذلك
لانتشاره، من فاض الماء يفيض فيضا، وقيل: بينهما عموم وخصوص مطلق، فالمستفيض ما
كان عدد الرواة في ابتداء السند وانتهائه سواء، والمشهور يشمل ما كان كذلك وما كان
العدد فيه مختلفا.
العزيز: لغة: النادر والقوي والشاق، واصطلاحا: ما رواه اثنان ولو في طبقة، وسمي
بذلك إما لندرته وقلة وجوده، أو لكونه عز أي قوي بمجيئه من طريق آخر، أو لمشقة
الحصول عليه عند البحث عنه.
تنبيه
لا يشترط لكون الحديث صحيحا أن يكون عزيزا عند الجمهور، خلافا لمن اشترط ذلك كأبي
علي الجبائي والحاكم وابن العربي، وثمرة الخلاف تظهر في أن الغريب لا يكون صحيحا
عند أبي علي
الجبائي ومن رأى رأيه ؛ لكونه قد جاء من طريق واحد، ومن شرط الصحيح عندهم أن يأتي
من طريقين على الأقل، أما عند غيرهم فيكون صحيحا لعدم اشتراطهم بذلك.
(1/94)
الغريب: لغة: فعيل من الغرابة،
وهي النزوح عن الوطن، وفي الاصطلاح: هو ما رواه راو واحد، ويسمى الفرد، وسمي غريبا
لانفراد راويه عن غيره به كالغريب الذي شأنه الانفراد والنزوح عن وطنه.
وينقسم الغريب إلى مطلق ونسبي.
الغريب المطلق: ويسمى الفرد المطلق: هو ما وقع الغرابة والتفرد في أصل السند، وهو
طرفه الذي فيه الصحابي، كأن ينفرد به تابعي واحد عن الصحابي ولا يتابع عليه، وقد
يستمر التفرد في جميع رواته أو أكثرهم.
الغريب النسبي: ويسمى الفرد النسبي: هو ما وقع الغرابة والتفرد فيه في أثناء السند
في تابع التابعي أو فيمن دونه من رجال السند، وصورة ذلك أن يروي الحديث عن الصحابي
أكثر من واحد من التابعين ثم ينفرد بروايته عن واحد منهم شخص واحد، وسمي بذلك لأن
التفرد وقع فيه بالنسبة إلى شخص معين، وقد يكون الحديث مشهورا في نفسه أي في
الواقع.
وإطلاق الفرد على الغريب قليل ؛ لأن الغريب والفرد وإن كانا مترادفين إلا أن
المحدثين قد غايروا بينهما من حيث كثرة الاستعمال وقلته، فالفرد أكثر ما يطلقونه
على الفرد المطلق والغريب على الفرد النسبي، وهذا من حيث إطلاق الاسم عليهما، أما
من حيث استعمالهم الفعل المشتق منه فلا يفرقون، فيقولون في المطلق والنسبي كليهما:
تفرد به فلان، أو أغرب به فلان.
تقسيم الآحاد إلى مقبول ومردود
تنقسم أخبار الآحاد من مشهور وعزيز وغريب إلى مقبول ومردود.
المقبول: ما ترجح صدق ناقله، وهو يوجب العمل عند الجمهور.
المردود: هو الذي لم يترجح صدق المخبر به.
وخبر الواحد المقبول مفيد للظن، وقد يفيد العلم النظري إذا احتف بالقرائن.
والخبر المحتف بالقرائن أنواع:
(1/95)
1- ما أخرجه الشيخان في
صحيحهما مما لم يبلغ حد التواتر، ولم يكن مما انتقده أحد من الحفاظ، فإنه قد حفت
به قرائن قوية كافية لحصول العلم النظري، منها جلالتهما في هذا الشأن، وتقدمهما في
تمييز الصحيح من السقيم على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول.
2- الخبر المشهور إذا كانت له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة والعلل القادحة.
3- الخبر المسلسل بالأئمة الحفاظ المتقنين، حيث لا يكون غريبا، كالحديث الذي يرويه
الإمام أحمد
وشريك له عن الشافعي، ثم الشافعي رواه وشريك له عن مالك بن أنس، ويرويه مالك عن
نافع مثلا، فهذه القرائن الثلاثة تختص الأولى منها بما في الصحيحين، والثانية بما
له طرق متعددة، والثالثة بما رواه الأئمة المتقنون.
العلم النظري: هو العلم الحاصل عن النظر والاستدلال.
العلم الضروري: هو الذي يضطر إليه الإنسان بحيث لا يمكنه دفعه.
والفرق بينه وبين العلم النظري أن العلم الضروري يحصل بلا استدلال ولكل سامع.
والنظري لا يتأتى إلا بالاستدلال على الإفادة، ولا يحصل إلا لمن له أهلية النظر.
تقسيم الخبر المقبول إلى صحيح وحسن لذاته ولغيره
تنقسم أخبار الآحاد المقبولة إلى أربعة أقسام: (1) الصحيح لذاته. (2) الصحيح
لغيره. (3) الحسن لذاته. (4) الحسن لغيره.
الصحيح لذاته: هو ما روي بنقل عدل تام الضبط عن مثله متصل السند غير معل ولا شاذ.
العدل: المراد بالعدل عدل تام الرواية، وهو المسلم البالغ والعاقل السالم من الفسق
بارتكاب كبيرة أو إصرار على صغيرة، والسالم أيضا مما يخل بالمروءة، وقيل: هو
المتصف بالعدالة، وهي التمسك بأحكام الشرع وآدابه فعلا وتركا، وقيل: العدل عند
المحدثين من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة، وينبغي أن يعلم أن عدل
الرواية أعم من عدل الشهادة، فإن عدل الشهادة مخصوص بالحر وعدل الرواية يشمل الحر
والعبد.
التقوى: هي اجتناب الأعمال السيئة من شرك وفسق وبدعة.
(1/96)
المروءة: هي الاحتراز عما يذم
عرفا عند ذوي العقول السليمة.
وتثبت العدالة بالاستفاضة والشهرة، كعدالة مالك والشافعي، وبتنصيص عالمين عليها،
والأصح أنه يكفي في التعديل والتجريح عدل واحد، ويشترط في التجريح ذكر السبب.
الضبط: هو الحزم في الحفظ، وهو نوعان: (1) ضبط الصدر. (2) ضبط الكتاب.
ضبط الصدر: أن يثبت ما سمعه في صدره، بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء.
ضبط الكتاب: هو أن يحفظ كتابه من التغيير والتبديل، ويصونه لديه منذ سمع فيه وصححه
إلى أن يؤديه منه.
ويعرف ضبط الراوي بموافقة الثقات المتقنين غالبا، ولو من حيث المعنى، ولا تضر
مخالفته النادرة، فإن كثرت اختل ضبطه ولا يحتج بحديثه، وارجع لتفصيل الكلام في
معنى العدالة والمروءة إلى "توجيه النظر" للجزائري (ص 25-30).
متصل السند: هو ما سلم إسناده من انقطاع مطلقا، بحيث يكون كل من رجاله سمع ذلك
المروي من شيخه.
المعل والمعلل: لغة: ما فيه علة، واصطلاحا: ما فيه علة خفية قادحة في صحة الخبر،
كالإرسال الخفي ونحوه.
العلة القادحة: هي ما تعرض للصحيح بحسب الظاهر بالتأمل في طرق الحديث، كأن يكون
معروفا عن صحابي ويروى عن غيره، وكأن يكون مرسلا أو منقطعا أو موقوفا فيروى متصلا،
والعلة قد تكون في المتن، وقد تكون في الإسناد.
الشاذ: هو لغة: المنفرد، أي من تفرد من الجملة وخرج منها، واصطلاحا: ما خالف فيه
الراوي من هو أرجح وأوثق منه.
الصحيح إسنادا: هو الذي اتصل سنده برواية الثقات الضابطين.
…ولا تلازم بين صحة الحديث وصحة الإسناد، فقد يصح الإسناد لاستجماع شروطه من
الاتصال والعدالة والضبط، ولا يصح المتن لشذوذ أو علة، وقد لا يصح السند ويصح
المتن لوجوده من طريق أخرى معتمدة، والصحيح بهذا التعريف المتقدم يشمل المرفوع
والموقوف.
مراتب الصحيح
(1/97)
تختلف مراتب الصحيح بسبب تفاوت
الأوصاف المقتضية للصحة، فما يكون رواته في الدرجة العليا من العدالة والضبط وسائر
الصفات التي توجب الترجيح كان أصح مما دونه، وبهذا الاعتبار يرجع تقسيم الصحيح إلى
سبعة أقسام، وهي:
(1) ما اتفق عليه الشيخان: البخاري ومسلم. (2) ما انفرد به البخاري. (3) ما انفرد
به مسلم. (4) ما كان على شرطهما ولم يخرجاه. (5) ما كان على شرط البخاري. (6) ما
كان على شرط مسلم. (7) ما صح عند غيرهما ممن التزم الصحة من الأئمة كابن خزيمة
وابن حبان وغيرهما مما لم يروياه، ولم يكن على شرطهما لا اجتماعا ولا انفرادا.
شرط الشيخين: المراد بشرط الشيخين أو أحدهما أن يكون الحديث مرويا برجال موجودة في
كتابيهما أو في أحدهما، مع مراعاة الكيفية التي التزمها الشيخان في الرواية عنهم.
…وهذه المراتب السبع كل واحدة منها مقدمة على التي تليها.
الصحيح لغيره: هو ما كانت شروطه أخف من شروط الصحيح لذاته، وانجبر بكثرة الطرق،
وقيل: هو الحسن لذاته إذا تعددت طرقه، فبذلك يقوى ويرتفع عن درجة الحسن إلى درجة
الصحيح لكن لا لذاته.
الحسن لذاته: هو ما رواه عدل خفيف الضبط متصل السند غير معل ولا شاذ، ولم يوجد ما
ينجبر به ذلك القصور، فهو جامع لشروط الصحيح لذاته، إلا أن الضبط خف في بعض رواته
ولم يوجد ما يجبر به ذلك القصور، ويشارك الصحيح أيضا في الاحتجاج به وإن كان دونه
رتبة وقوة.
والحسن على مراتب كالصحيح، أي تتفاوت مراتبه متنا وإسنادا كالصحيح.
الحسن لغيره: هو الخبر المتوقف عن قبوله إلا إذا قامت قرينة ترجح جانب قبوله كحديث
مستور الحال إذا تعددت طرقه.
ألقاب للحديث تشمل الصحيح والحسن
(1/98)
الجيد والقوي: الجيد والقوي
مرادفان للصحيح بالمعنى المتقدم، وليسا نوعين آخرين، قال السيوطي: الجودة قد يعبر
بها عن الصحة، فيتساوى حينئذ الجيد: الصحيح، إلا أن المحقق منهم لا يعدل عن الصحيح
إلى جيد إلا لنكتة، كأن يرتقي الحديث عنده من الحسن لذاته، ويتردد في بلوغه
الصحيح، فالوصف به حينئذ أنزل رتبة من الوصف بصحيح، وكذا القوي.
الصالح: هو يشمل الصحيح والحسن لصلاحيتهما للاحتجاج، ويستعمل أيضا في ضعيف يصلح
للاعتبار.
الثابت والمجود: هما أيضا يشملان الصحيح والحسن وليسا نوعين آخرين.
معنى قول بعض المحدثين: "حديث حسن صحيح".
قد يجمع الترمذي وغيره بين الصحيح والحسن في موصوف واحد، فيقول: هذا حديث حسن
صحيح، مع أن الحسن أقل درجة من الصحيح وقاصر عنها، وذلك لأحد أمرين:
1- حصول التردد من ذلك الإمام في الناقل إذا تفرد برواية الحديث هل هو من أهل تمام
الضبط، فيعتبر حديثه صحيحا، أو من الذين خف ضبطهم فيكون حديثه حسنا، وتقدير
العبارة: حسن أو صحيح، ويكون أقل رتبة مما قيل فيه: صحيح، بالجزم.
2- كون الحديث مرويا بإسنادين، هو من أحدهما صحيح، ومن الثاني حسن، فيكون إطلاق
الصحة والحسن عليه باعتبار إسنادين أحدهما صحيح والآخر حسن، ويكون الحديث أقوى مما
قيل فيه صحيح فقط.
قول الترمذي: "حسن غريب".
قد استشكل قول الترمذي "حسن غريب" بأن الحديث الحسن عنده "ما روي
من غير وجه"، والغريب "ما تفرد به راو واحد"، فإذا جمع بين الوصفين
جاء الإشكال للتنافي بين الوصفين.
والجواب عنه أن اصطلاح الترمذي هذا يحمل على كل حديث وصفه الترمذي بالحسن فقط، أي
من غير صفة أخرى، أما ما وصفه بالحسن والغرابة معا فالمراد به الحسن على اصطلاح
جمهور المحدثين، لا على اصطلاحه، ولا منافاة بين الحسن والغريب على اصطلاحهم، أو
أشار به إلى اختلاف الطرق، بأن جاء في بعض الطرق غريبا وفي بعضها حسنا يعني أنه
غريب من هذا الإسناد
(1/99)
الخاص وحسن من وجه آخر، أو
غريب سندا وحسن متنا ؛ لكونه مرويا عن جماعة من الصحابة.
وقيل: الواو بمعنى "أو" بأنه يشك ويتردد في أنه غريب أو حسن لعدم معرفته
جزما.
الضعيف: هو ما فقد صفة أو أكثر من صفات الصحيح والحسن وشروطهما، وأنواعه كثيرة كما
سيأتي.
حكم زيادة الثقة: ومما يحسن العناية به من أنواع علوم الحديث زيادات الثقة، وهي
كما تقع في المتن تقع في السند أيضا برفع موقوف أو وصل منقطع أو نحو ذلك، وهي ثلاثة
أقسام:
1- ما كان منافيا لما قد رواه الثقات أو الأوثق منه فهذا مردود، وتسمى رواية
الثقات أو الأوثق محفوظا، ورواية الثقة شاذا.
فالخبر المحفوظ: ما رواه الثقات أو الأوثق منافيا لما رواه الثقة.
والشاذ: ما رواه الثقة مخالفا لما رواه الثقات أو الأوثق منه.
2- ما رواه الثقة ولم يخالف غيره من الثقات أو الأوثق منه، فهذا مقبول.
3- ما زاده الثقة مع نوع مخالفة ومنافاة لما ليست فيه تلك الزيادة، ولكن هذه
المخالفة منحصرة في تقييد المطلق أو تخصيص العام، فهذا حكمه القبول على الراجح.
وإذا وقعت المخالفة من الثقة للضعيف فالراجح يقال له المعروف ومقابله المنكر.
فالمعروف: ما رواه الثقة مخالفا لما رواه الضعيف.
والمنكر: ما رواه الضعيف مخالفا للثقة.
والفرق بين الشاذ والمنكر أن بينهما عموما وخصوصا من وجه، يجتمعان في اشتراط
المخالفة ويفترقان في أن الشاذ راويه ثقة أو صدوق، والمنكر راويه ضعيف، فبينهما
عموم وخصوص من وجه.
المتابعة
المتابعة: هي لغة: الموافقة، واصطلاحا: أن تحصل المشاركة للراوي في الرواية، وهي
نوعان:
المتابعة التامة: وهي أن تحصل المشاركة للراوي نفسه.
المتابعة القاصرة: وهي أن تحصل المشاركة في شيخ الراوي أو فيمن فوقه من الرجال إلى
الصحابي.
المتابع: بكسر الباء، ويسمى تابعا: هو الخبر المشارك لخبر آخر في اللفظ أو المعنى
فقط مع الاتحاد في الصحابي.
(1/100)
المتابع: بفتح الباء، هو الخبر
الذي شارك راويه غيره في اللفظ والمعنى أو المعنى فقط.
الشاهد: هو الحديث المشارك لحديث آخر في اللفظ والمعنى أو المعنى فقط مع الاختلاف
في الصحابي.
فالفرق بين الشاهد والمتابع اختلاف الصحابي في الشاهد واتحاده في المتابع، وقد
يطلق كل من المتابع والشاهد على الآخر.
الاعتبار والاستشهاد: هو تتبع طرق الحديث الذي ظن أنه فرد من الجوامع والمسانيد
والأجزاء وغيرها ؛ ليعلم هل له متابع أو شاهد أم لا.
تقسيم الخبر المقبول إلى معمول به وغير معمول به
(1) المحكم: هو الحديث المقبول الذي سلم من معارضة مثله ينقض معناه، وحكمه وجوب
العمل به، وغالب الأحاديث من هذا النوع.
(2) مختلف الحديث: الحديث المقبول المعارض بمثله مع إمكان الجمع بينهما بغير تعسف
وتكلف.
(ألف) وإذا تعارض حديثان مقبولان وأمكن الجمع بينهما والتوفيق بدون تكلف وتعسف فلا
يصار إلى غيره.
( ب ) وإن لم يمكن الجمع بينهما بحث عن التاريخ، فإن علم فالمتأخر هو الناسخ
للمتقدم ويعمل به.
( ج ) وإن لم يعرف التاريخ وأمكن ترجيح أحد الخبرين بوجه من وجوه الترجيح المتعلقة
بالمتن أو الإسناد فالمصير إلى الترجيح، ويقدم الراجح على المرجوح.
( د ) وإن لم يمكن الجمع ولا النسخ ولا الترجيح توقف عن العمل بهما حتى يتبين
للناظر وجه الترجيح بينهما.
هذا إذا كان المتعارضان قويين، فإن كانت المعارضة من الضعيف للقوي فلا عبرة بها ؛
لأن القوي لا تؤثر فيه معارضة الضعيف.
النسخ وطرق معرفته
النسخ: في اللغة: الإزالة والنقل، وفي الاصطلاح: رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي
متأخر عنه.
(1/101)
ويعرف النسخ بأمور: (1) ما ورد
في النص وهو أصرحها، كحديث بريدة: (( كنت نهيتكم عن زيارة القبور...)) الحديث. (2)
ما أخبر الصحابي بتأخره، كقول جابر: (( كان آخر الأمرين من رسول الله ترك الوضوء
مما مست النار ))، (3) تعقل الراوي الناسخ والمنسوخ، كقول الصحابي: (( رخص لنا في
المتعة، فمكثنا ثلاثا ثم نهانا عنه )). (4) ما عرف بالتاريخ.
والإجماع ليس بناسخ، بل هو دال على النسخ.
وجوه الترجيح بين ما ظاهره التعارض
طرق الترجيح بين مختلف الحديث كثيرة جدا، قد عد الحازمي في كتابه "الناسخ
والمنسوخ" خمسين وجها، وأوصلها غيره إلى أكثر من مائة كما استوفى ذلك العراقي
في نكته، وقال القاسمي في قواعد التحديث: الترجيح قد يكون باعتبار الإسناد،
وباعتبار المتن، وباعتبار المدلول، وباعتبار أمر خارج، فهذه أربعة أنواع، ثم ذكر
وجوه الترجيح باعتبار الإسناد، وعد ثمانية عشر وجها، منها: (1) الترجيح بكثرة
الرواة، فيرجح ما رواته أكثر لقوة الظن به، وإليه ذهب الجمهور. (2) ترجيح رواية
الكبير على الصغير ؛ لأنه أقرب إلى الضبط إلا أن يعلم أن الصغير مثله في الضبط أو
أكثر ضبطا منه. (3) ترجيح رواية الأوثق. (4) ترجيح رواية الأحفظ. (5) أن يكون
أحدهما من الخلفاء الأربعة دون الآخر. (6) أن يكون أحدهما صاحب الواقعة ؛ لأنه
أعرف بالقصة. (7) ترجيح رواية من دام حفظه وعقله ولم يختلط على من اختلط في آخر
عمره ولم يعرف هل روى الخبر حال سلامته أو حال اختلاطه. (8) تقديم الأحاديث التي
في الصحيحين على الأحاديث الخارجة عنهما.
ثم ذكر وجوه الترجيح باعتبار المتن، وعد سبعة طرق، منها: (1) يقدم الخاص على
العام. (2) يقدم ما كان حقيقة شرعية أو عرفية على ما كان حقيقة لغوية. (3) يقدم
المقيد على المطلق.
(1/102)
ثم ذكر للترجيح باعتبار
المدلول أربعة أوجه، منها: (1) يقدم ما كان مقررا لحكم الأصل والبراءة على ما كان
ناقلا. (2) أن يكون أحدهما أقرب إلى الاحتياط فإنه أرجح. (3) يقدم المثبت على
المنفي ؛ لأن مع المثبت زيادة علم.
ثم بين وجوه الترجيح باعتبار أمور خارجة، وعد سبعة وجوه، منها: (1) أن يكون أحدهما
قولا والآخر فعلا، فيقدم القول ؛ لأن له صيغة والفعل لا صيغة له. (2) أن يكون
أحدهما موافقا لعمل الخلفاء الأربعة دون الآخر ؛ فإنه يقدم الموافق (4) أن يكون
أحدهما أشبه بظاهر القرآن دون الآخر، فإنه يقدم.
ثم قال: وللأصوليين مرجحات أخر في الأقسام الأربعة منظور فيها، ولا اعتداد عندي
بمن نظر فيما سقناه ؛ لأن القلب السليم لا يرى فيه مغمزا.
الخبر المردود وأسباب رده
الخبر المردود: هو الذي لم يترجح صدق المخبر به، وله أنواع كثيرة، وهي ترجع في
الجملة إلى سببين: (1) السقوط في السند. (2) الطعن في بعض رواته.
السقوط في السند: هو عدم اتصاله. و
الطعن في الراوي: أن يكون مجروحا بأمر يرجع إلى ديانته أو ضبطه.
أنوع المردود باعتبار السقوط
المعلق: وهو ما حذف من مبدأ سنده راو فأكثر على التوالي، ويعزى الحديث إلى من فوق
المحذوف، مأخوذ من تعليق الجدار والطلاق لاشتراكهما في قطع الاتصال، وإنما عد هذا
ونحوه من أنواع المردود للجهل بحال الراوي المحذوف.
وللتعليق صور، منها:
1- أن يحذف جميع السند، ويقول مثلا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا.
2- أن يحذف جميع السند إلا الصحابي.
3- أن يحذف جميعه إلا الصحابي والتابعي.
4- أن يحذف من حدثه ويضيفه إلى من فوقه.
وإذا قال محدث: جميع من أحذفه ثقات، فقد اختلف في قبول ذلك وعدمه، وعند الجمهور لا
يقبل إلا إن جاء مسمى من وجه آخر، وعرف بالعدالة والضبط ؛ لأن ذلك المحذوف قد يكون
ثقة عنده ومجروحا عند غيره.
(1/103)
وقال ابن حجر نقلا عن ابن
الصلاح: أنه إن وقع الحذف في كتاب التزمت صحته كصحيح البخاري فما أتى فيه بصيغة
الجزم دل على أنه ثبت إسناده عنده، فهو في حكم الصحيح، وما أتى فيه بغير صيغة
الجزم ففيه مقال، أي ليس فيه حكم بصحته، ومع ذلك فإيراده في كتاب الصحيح مشعر بصحة
أصله إشعارا يؤنس به ويركن إليه، وعلى الناظر إذا أراد الاستدلال أن ينظر في رجاله
وحال سنده ليرى صلاحيته للحجة وعدمها.
وصيغ الجزم عند البخاري: جاء، روى، قال، ونحوه ببناء الفاعل.
ومن صيغ التمريض عنده: قيل، ذكر، روي، حكي، يروى، يذكر، يقال، يحكى عن فلان، مبنيا
للمفعول.
المرسل: وهو ما كان السقوط فيه من آخر السند بعد التابعي، كأن يقول التابعي: قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، أو فعل كذا، أو فعل بحضرته كذا، أو أمر بكذا.
أو هو ما سقط منه الصحابي سواء أكان الراوي المرسل تابعيا كبيرا أو صغيرا، وهو
لغة: من قولهم: ناقة رسل أي سريعة، فكأن المرسل أسرع إلى الحديث فحذف بعض إسناده،
وقد يطلق المرسل على المنقطع والمعضل الآتي ذكرهما.
المعضل: وهو لغة: مأخوذ من أعضله بمعنى أعياه، وقيل: من قولهم: أمر عضيل أي مستغلق
شديد، واصطلاحا: هو ما سقط من سنده راويان أو أكثر على التوالي قبل الصحابي،
والفرق بينه وبين المعلق أن بينهما
عموما وخصوصا من وجه، يجتمعان فيما إذا كان الساقط اثنين أو أكثر في بدء السند،
وينفرد المعضل إذا وقع السقوط في غير بدئه كوسطه مثلا.
المنقطع: هو ما سقط من سنده راو أو أكثر بشرط عند التوالي، وقيل: هو ما لم يتصل
سنده من أي وجه وبأي حال كان انقطاعه، فيكون المنقطع على هذا أعم الأنواع الثلاثة.
(1/104)
حكم المنقطع والمعضل والمرسل:
عد المنقطع والمعضل من أنواع المردود ؛ للجهل بحال المحذوف والمحذوفين، وكذلك
المرسل ؛ لأن المحذوف فيه يحتمل أن يكون صحابيا أو تابعيا، وعلى الثاني يحتمل أن
يكون ضعيفا أو ثقة، وعلى الثاني يحتمل أن يكون أخذ عن صحابي أو تابعي، وعلى الثاني
يعود الاحتمال السابق ويتعدد، وإذا عرف من عادة تابعي أن لا يرسل إلا عن ثقة فقد
اختلف في مراسيله، فذهب جمهور المحدثين إلى التوقف لبقاء الاحتمال، وهو أحد قولي
أحمد، وثانيهما، وهو قول المالكية والحنفية: يقبل مطلقا، وقال الشافعي: يقبل إذا
اعتضد بمجيئه من وجه آخر يباين الطريق الأولى، وهذا الخلاف في مراسيل غير الصحابة،
وأما مرسل الصحابي فحجة عند الجميع.
تقسيم السقوط من السند
السقوط من السند قسمان:
(1) السقوط الواضح الجلي: وهو الذي يحصل الاشتراك في معرفته، ككون الراوي مثلا لم
يعاصر من روى عنه على زعمه، أو هو ما يعرف بعدم ملاقاة الراوي لشيخه، إما لأنه لم
يدرك عصره، أو أدركه ولكن لم يجتمع به، وليس له منه إجازة ولا وجادة.
المرسل الجلي: الإسناد الذي يكون السقوط فيه واضحا، ولذلك يحتاج إلى علم التاريخ ؛
لأنه يتضمن مواليد الرواة ووفياتهم وأزمان طلبهم وارتحالهم.
(2) السقوط الخفي: وهو الذي لا يدركه إلا الجهابذة المطلعون على طرق الحديث وعلل الأسانيد
دون غيرهم كما في المدلس.
المدلس: بفتح اللام – هو ما رواه راو عمن لقيه ولم يسمع منه بلفظ يوهم السماع منه،
كعن أو قال أو أن فلانا قال كذا، وهو مأخوذ من الدلس – بالتحريك – وهو اختلاط
الظلام بالنور، فكأن المدلس أظلم الأمر على الناظر والسامع لتغطيته وجه الصواب.
والتدليس نوعان: (1) تدليس الإسناد. (2) تدليس الشيوخ.
(1/105)
(1) تدليس الإسناد: هو أن يروي
عمن لقيه وسمع منه لكن لم يسمع منه ذلك الحديث الذي دلسه عنه، أو يروى عمن لقيه
ولم يسمع منه شيئا بلفظ موهم أنه سمعه منه، كأن يقول: عن فلان، أو قال فلان، وهو
ثلاثة أقسام:
1- تدليس القطع: ويسمى تدليس الحذف، وهو أن يسكت الراوي بين صيغ الأداء ناويا بذلك
القطع أو الحذف.
2- تدليس العطف: وهو أن يصرح الراوي بالتحديث عن شيخ له، ويعطف عليه شيخا آخر لم
يسمع منه ذلك الحديث.
3- تدليس التسوية: وهو أن يسقط الراوي ضعيفا بين ثقتين لقي أحدهما الآخر، ويروي
الحديث عن شيخه الثقة عن الثقة الثاني بلفظ يوهم الاتصال كعن ونحوها ؛ ليصير
الإسناد كله ثقات، وهو شر أنواع التدليس.
(2) تدليس الشيوخ: هو أن يسمي شيخه الذي سمع منه بغير ما اشتهر عند الناس من اسم
أو لقب أو كنية، قاصدا تعمية أمره على السامع.
وقد ذم جماعة من العلماء التدليس بأنواعه حتى قال شعبة: لأن أزني أحب إلي من أن
أدلس، وقال: التدليس أخو الكذب.
قال ابن الصلاح: والصحيح التفصيل بين ما صرح فيه بالسماع فيقبل، وبين ما أتى بلفظ
محتمل فيرد.
المرسل الخفي: هو ما رواه الراوي عن معاصر له لم يعرف اللقاء بينهما، وليس له منه
إجازة ولا وجادة، بلفظ موهم للاتصال، كعن وقال.
فالفرق بين المدلس والمرسل الخفي أن التدليس يختص بمن روى عمن عرف لقاؤه إياه،
فأما إن عاصره ولم يعرف اللقاء بينهما فهو المرسل الخفي.
ويعرف الإرسال الخفي والتدليس بأمور، منها: أن يعرف عدم اللقاء بين الراوي والمروي
عنه بنص بعض الأئمة على ذلك، ومنها: أن يعرف عدم سماعه مطلقا أو لذلك الحديث
بخصوصه بنص إمام على ذلك، أو إخبار المدلس والمرسل نفسه بذلك في بعض طرق الحديث،
أو نحو ذلك.
وجوه الطعن في الراوي
وهي عشرة، خمسة منها تتعلق بالعدالة، وخمسة تتعلق بالضبط.
فالخمسة التي تتعلق بالعدالة، هي (1) الكذب. (2) التهمة بالكذب. (3) الفسق. (4)
الجهالة. (5) البدعة.
(1/106)
والخمسة التي تتعلق بالضبط، هي
(1) فحش الغلط. (2) الغفلة. (3) الوهم. (4) مخالفة الثقات. (5) سوء الحفظ،
وترتيبها حسب تأثيرها في الرد كالآتي:
الوجه الأول: كذب الراوي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويسمى خبر الكاذب
عليه - صلى الله عليه وسلم -: الموضوع، من قولهم: وضع فلان، إذا ألصق به وافترى
عليه.
فالحديث الموضوع: هو الحديث الذي رواه راو عرف بتعمد الكذب على رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -.
ويعرف الوضع بإقرار الواضح نفسه باختلاقه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
أو بحال المروي، كأن يكون مناقضا للقرآن أو السنة المتواترة، أو يكون مخالفا للحس
والمشاهدة غير قابل للتأويل، أو يكون المروي خبرا عن أمر عظيم تتوافر الدواعي على
نقله ثم لا ينقله إلا راو واحد، أو يتضمن المروي وعيدا شديدا على أمر صغير، أو
وعدا عظيما على أمر حقير.
والأمور الداعية إلى الوضع كثيرة، منها:
1- قصد التقرب إلى الله تعالى بوضع ما يرغب الناس في طاعته ويرهبهم عن معصيته، كما
فعل المتصوفة.
2- التزلف إلى ولاة الأمر والحكام بوضع ما يوافق أهواءهم.
3- قصد إفساد الدين على أهله كما فعل الزنادقة.
4- غلبة الجهل كبعض المتعبدين.
5- فرط العصبية وانتصار للرأي كبعض المقلدين.
6- الإغراب لقصد الاشتهار.
7- التكسب والارتزاق بما يضع من الأحاديث كما هو شأن القصاصين.
ورواية الموضوع حرام بالاتفاق إلا مقرونا ببيانه على سبيل القدح ؛ ليحذره من يغتر
به من الجهلة والعوام.
الوجه الثاني: التهمة بالكذب، وذلك أن يعرف الراوي بالكذب في كلامه مع الناس، أو
أن ينفرد بما يخالف القواعد المعلومة من الدين بالضرورة، ويسمى رواية المتهم
بالكذب متروكا.
فالحديث المتروك: هو الحديث الذي رد بسبب تهمة راويه بالكذب، كرواية من يكون
معروفا بالكذب في كلامه، وإن لم يظهر منه وقوع ذلك في الحديث النبوي.
(1/107)
الوجه الثالث، والرابع،
والخامس: فحش الغلط، وكثرة الغفلة، والفسق بما لم يبلغ حد الكفر، ويقال للحديث
الذي في سنده راو فاحش الغلط، أو كثير الغفلة، أو الفاسق: المنكر.
فالحديث المنكر: هو الحديث الذي رواه راو فحش غلطه أو كثرت غفلته أو ظهر منه الفسق
بما لم يبلغ حد الكفر، ويسمى هذا القسم من الحديث منكرا على رأي من لم يشترط في
المنكر مخالفة الضعيف للثقة، أي لم يقصر المنكر على ما خالف الضعيف الثقة، وينبغي
أن يعلم أن المراد بالفسق: الفسق في العمل دون الاعتقاد، فإن ذلك داخل في البدعة،
وأكثر ما يستعمل البدعة في الاعتقاد، والكذب وإن كان داخلا في الفسق لكنهم عدوه
أصلا على حدة لكون الفسق به أشد وأغلظ.
الوجه السادس: الوهم، وهو أن يروى الحديث على سبيل التوهم، ويسمى حديث من عرف
بالوهم المعل
والمعلل، ويحصل معرفة ذلك بكثرة التتبع والاستقراء والنظر في اختلاف رواته وضبطهم
وإتقانهم حتى يطلع على وهم الراوي.
فالحديث المعلل: هو الحديث الذي ظاهره الصحة، وقد اطلع فيه على علة خفية قادحة في
صحته.
والوهم كما يقع في السند – وهو الغالب - كرفع موقوف، ووصل منقطع، يقع في المتن.
وهو من أغمض أنواع علوم الحديث وأدقها، ولا يطلع عليه إلا من رزق فهما ثاقبا
واطلاعا واسعا بمراتب الرواة، وإدراكا تاما بالأسانيد والمتون.
الوجه السابع: مخالفة الراوي للثقات، وتتضمن المخالفة ستة أنواع:
الأول المدرج: بفتح الراء – مأخوذ من قولهم: أدرجت الشيء في الشيء، إذا أدخلته فيه
وضمنته إياه، وهو ما اطلع على زيادة في سنده أو متنه ليست منه، وهو نوعان: (1)
مدرج الإسناد. (2) مدرج المتن.
مدرج الإسناد: هو ما كانت المخالفة فيه بتغيير سياق الإسناد، وله أقسام:
1- أن يروي الحديث جماعة بأسانيد مختلفة، فيرويه عنهم راو فيجمع الكل على إسناد
واحد من تلك الأسانيد، ولا يبين الاختلاف.
(1/108)
2- أن يكون المتن عند راو
بإسناد واحد إلا طرفا منه فإنه عنده بإسناد آخر، فيرويه عنه راو تاما بالإسناد
الأول.
3- أن يكون عند الراوي متنان مختلفان بإسنادين مختلفين، فيرويهما راو عنه مقتصرا
على أحد الإسنادين، أو يروي أحد الحديثين المختلفين بإسناده الخاص به ويزيد فيه من
المتن الآخر ما ليس بذلك الإسناد، أي ما ليس في الأول.
4- أن يسوق الراوي الإسناد فيعرض له عارض فيقول كلاما من قبل نفسه، فيظن بعض من
سمعه أن ذلك الكلام هو متن ذلك الإسناد، فيرويه عنه كذلك.
5- أن يسمع الخبر عن شيخه إلا طرفا منه فيسمعه عنه بواسطة ثم يرويه تاما محذوف
الواسطة.
مدرج المتن: هو أن يقع في المتن كلام ليس منه كدمج موقوف بمرفوع من غير بيان، أو
هو ما ذكر فيه الراوي وأدخل وضم إليه ما ليس منه موصولا بلا فصل، فيتوهم أنه من
الحديث، وهو قد يكون في أول الحديث وفي وسطه وفي آخره، وهو الأكثر.
ودواعي الإدراج كثيرة، منها: (1) تفسير الألفاظ الغريبة في الحديث. (2) استنباط
حكم من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. (3) تبيان حكم شرعي.
ويعرف الإدراج بأمور، منها:
(ألف) أن يرد رواية مفصلة للقدر المدرج مما أدرج فيه، بأن يصرح بعض الرواة أو
الراوي الذي ذكر ذلك الكلام بفصل تلك العبارة المدرجة عن متن الحديث ويضيفها إلى
قائلها.
( ب ) أن يصرح الصحابي بأنه لم يسمع تلك الجملة من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
( ج ) أن يستحيل أن يكون ذلك من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الثاني: المقلوب: ويسمى المنقلب من الانقلاب، والمقلوب لغة: اسم مفعول من
"قلب الشيء" إذا صرفه عن وجهه، واصطلاحا: هو ما كانت المخالفة فيه
بالتقديم والتأخير، أو هو ما انقلب فيه على أحد الرواة لفظ في متنه أو اسم راو أو
نسبة في سنده، فقدم ما حقه التأخير أو أخر ما حقه التقديم، أو وضع شيئا مكان شيء
آخر فتغير بذلك معناه.
(1/109)
وتبين من التعريف أن المقلوب
قسمان: (1) المقلوب في المتن. (2) المقلوب في السند، وهو أن يكون الحديث مشهورا
براو فيجعل مكانه راو آخر، أي يبدل براو آخر من طبقته، أو يكون مشهورا بإسناد
فيأتي بإسناد آخر مكانه لغرض الإغراب ونحوه، أو يقع القلب في اسم الراوي بالتقديم
والتأخير، ومن القلب أن يؤخذ إسناد متن فيجعل على متن آخر، ويؤخذ متن هذا فيجعل
بإسناد آخر، كما فعل أهل بغداد مع الإمام البخاري امتحانا واختبارا، فردها كلها
على وجهها، ويشترط لجواز ذلك عدم الاستقرار عليه بعد انتهاء الغرض.
الثالث: المزيد في متصل الأسانيد: وهو ما كان المخالفة فيه بزيادة راو في أثناء
السند الذي ظاهره الاتصال، ومن لم يزدها أتقن ممن زادها.
وشرطه أن يصرح من لم يزدها بالسماع في موضع الزيادة، وإلا فمتى كان الإسناد الخالي
من الزيادة معنعنا في موضع الزيادة ترجحت الزيادة، وكان الحكم للإسناد المزيد فيه.
الرابع: المضطرب: بكسر الراء – من الاضطراب، وهو لغة: الاختلاف، من قولهم: اضطرب
القوم، إذا اختلفت كلمتهم، واصطلاحا: هو أن تقع المخالفة فيه بإبدال راو براو، أو
مروي بمروي، ولا مرجح لإحدى الروايتين على الأخرى، وقيل: المضطرب ما روي على أوجه
مختلفة متفاوتة من غير ترجيح لإحدى الطرق سواء كان الاختلاف من راو واحد، بأن رواه
مرة على وجه ومرة على وجه أخرى مخالف للأول، أو أكثر من واحد بأن رواه جماعة كل
على وجه مخالف للآخر، فإن ترجحت إحدى الطرق لا يكون الحديث مضطربا.
وينقسم المضطرب إلى ثلاثة أقسام: (1) مضطرب سندا فقط. (2) مضطرب متنا فقط. (3)
مضطرب فيهما.
الخامس: المصحف: وهو ما كانت المخالفة فيه بتغيير حرف فأكثر بتغيير النقط مع بقاء
صورة الخط كمراجم ومزاحم وستا وشيئا وحميل وجميل.
والتصحيف لغة: الخطأ في الصحيفة باشتباه الحروف مؤلدة، وقد تصحف عليه لفظ كذا.
والتصحيف أكثر ما يقع في المتون، وقد يقع في الأسماء.
(1/110)
السادس: المحرف: هو ما كانت
المخالفة فيه بتغيير حرف فأكثر بتغيير في الشكل مع بقاء صورة الخط: كسليم وسليم،
وأبي وأبي، ولا يجوز التغيير في الحديث سواء كان تغيير كلمة بكلمة أو حرف بحرف أو
هيأة بهيأة، وكذا اختصار الحديث ورواية بعضه دون بعض، أو رواية الحديث بالمعنى،
إلا لعالم بمدلولات الألفاظ ومقاصدها وما يحيل معانيها، وإذا كان ما تركه غير
متعلق بما رواه بحيث لا يختل البيان ولا تختلف الدلالة إذا قطع بأداء المعنى.
الوجه الثامن: الجهالة – بفتح الجيم -، وهي عدم معرفة عيب الراوي أو حاله، بأن لا
يعلم فيه تجريح أو تعديل، وأسبابها ثلاثة:
1- كثرة نعوت الراوي من اسم أو كنية أو لقب أو حرفة أو صفة، فيشتهر بشيء منها،
فيذكر بغير ما اشتهر به لغرض من الأغراض، فيظن أنه آخر، فيحصل الجهل بحاله.
2- كون الراوي مقلا من الحديث فلا تكثر الرواية والأخذ عنه.
3- عدم تسمية الراوي اختصارا من الراوي عنه، كأن يقول: أخبرني رجل أو شيخ أو فلان،
ويسمى هذا القسم الأخير المبهم.
فالمبهم: هو من لم يصرح باسمه لأجل الاختصار ونحوه، وحكم روايته عدم القبول على
الأصح ولو أبهم بلفظ التعديل كأن يقول أخبرني الثقة.
والمجهول نوعان: (1) مجهول العين. (2) مجهول الحال.
(1) مجهول العين: هو ما انفرد بالرواية عنه راو واحد، فلا يقبل حديثه كالمبهم إلا
أن يوثقه غير من انفرد عنه، وكذلك من انفرد عنه إذا كان من أهل الجرح والتعديل.
(2) مجهول الحال: ويسمى مستور الحال، وهو أن يروي عنه اثنان فصاعدا ولم يوثقه أحد،
وحكم روايته التوقف فيها حتى تتبين حاله وتتضح.
الوجه التاسع: البدعة، وهي لغة: مأخوذة من الابتداع، وهو الاختراع على غير مثال
سابق، وشرعا: المحدث في الدين، أي ما لم يكن عليه أمره - صلى الله عليه وسلم - ولا
أصحابه، أي ليس عليه أثارة من كتاب الله ولا من سنة رسوله، ولا فعله أو أمر به
أصحاب رسوله، ويعتقد من الدين، وهو نوعان:
(1/111)
1- ما يوجب كفر صاحبه، كأن
يكون منكرا لأمر مجمع عليه متواتر من الشرع معلوم من الدين بالضرورة، فهذا لا يقبل
حديثه مطلقا.
2- ما يستلزم فسق صاحبه، وهذا يقبل منه الرواية إن لم يكن داعية إلى بدعته ولا
راويا لما يقوي
بدعته، فإن كان داعية إليها أو روى ما يقويها ردت روايته، وهذا على المذهب المختار
عند الجمهور، وهو الصحيح.
الوجه العاشر: سوء الحفظ، والمراد بسيء الحفظ هو من لم تترجح إصابته على خطئه.
وسوء الحفظ نوعان: (1) ما كان ملازما للراوي في جميع حالاته، وسيء الحفظ من نشأ
على سوء الحفظ ولزمه ذلك في جميع أحواله، ويسمى حديث من هذا شأنه شاذا على رأي بعض
المحدثين. (2) ما طرأ عليه سوء الحفظ لكبر سنه أو لذهاب بصره أو لضياع كتبه، بأن
كان يعتمدها فرجع إلى حفظه فساء، ويسمى هذا المختلط، وحكم روايته أن ما حدث به قبل
الاختلاط وهو معلوم متميز يقبل، وما حدث به بعده لا يقبل، وإذا لم يتميز توقف فيه.
وإذا توبع حديث من لازمه سوء الحفظ أو طرأ عليه ولم تتميز روايته بمعتبر فوقه أو
مثله صار حديثهما حسنا لغيره، ومثل رواية هذين الموصوفين بسوء الحفظ في هذا الحكم
بعد المتابعة، رواية المستور والإسناد المرسل وكذا المدلس إذا لم يعرف المحذوف منه،
والحاصل أنه إذا توبع من سيء الحفظ والمختلط والمستور والمرسل والمدلس بمن يعتبر
ويخرج حديثه للمتابعة والاستشهاد يصير حديثهم حسنا لغيره باعتبار المجموع من
المتابع والمتابع.
تنبيه
لم يذكر النووي وابن الصلاح لقبول الحديث الضعيف سوى هذا الشرط "كونه في
فضائل الأعمال ونحوها"، وذكر الحافظ له ثلاثة شروط: أحدها: أن يكون الضعف غير
شديد، فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب، ومن فحش غلطه، نقل العلائي
الاتفاق عليه. الثاني: أن يندرج تحت أصل معمول به. الثالث: أن لا يعتقد عند العمل
به ثبوته بل يعتقد الاحتياط.
مباحث الإسناد
(1/112)
الإسناد: حكاية طريق المتن أي
رفع الحديث وعزوه إلى قائله.
السند: بالتحريك، لغة: المعتمد، واصطلاحا: هو الطريق الموصلة إلى المتن، أي سلسلة
الرجال الموصلين إلى المتن، وسمي بذلك لاعتماد المحدث في صحة الحديث وضعفه عليه،
فالسند رواة الحديث، والإسناد فعل الرواة، وقد يطلق الإسناد على السند أيضا فيكون
الإسناد مرادفا للسند.
المتن: بالسكون، لغة: ما صلب وارتفع من الأرض، واصطلاحا: ما ينتهي إليه السند من
الكلام، وسمي بذلك لأن المسند يقوي الحديث بالسند ويرفعه إلى قائله.
المسند: بفتح النون، له ثلاثة معان:
1- الحديث المرفوع المتصل سندا، يعني ما اتصل سنده من راويه إلى منتهاه مرفوعا إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسيأتي أيضا.
2- كل كتاب جمع فيه مسندات كل صحابي، أي مروياته على حدة، فهو اسم مفعول.
3- أن يطلق ويراد به الإسناد فيكون مصدرا ميميا.
المسند: بكسر النون، هو من يروى الحديث بسنده سواء كان عنده علم به أو ليس له إلا
مجرد روايته، وتميز في ذلك حتى اشتهر فيه.
المحدث: هو من يشتغل بعلم الحديث رواية ودراية، ويطلع على كثير من الروايات وأحوال
رواتها، فهو أرفع من المسند.
الحافظ: هو مرادف للمحدث عند كثير من المحدثين، وقيل: الحافظ أرفع درجة من المحدث
بحيث يكون ما يعرفه من كل طبقة أكثر مما يجهله.
…والحديث ينقسم باعتبار منتهى الإسناد إلى ثلاثة أقسام: مرفوع، موقوف، مقطوع.
المرفوع: ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير، صريحا
أو حكما، وأنواعه ستة:
1- المرفوع القولي صريحا: قول الصحابي: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يقول كذا، أو قوله أو قول غيره: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا.
2- المرفوع الفعلي صريحا: قول الصحابي: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يفعل كذا، أو قوله أو قول غيره: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل كذا.
(1/113)
3- المرفوع التقريري صريحا:
قول الصحابي: فعلت بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا، أو قوله أو قول غيره:
فعل فلان بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا، ولا يذكر إنكاره.
4- المرفوع القولي حكما: أن يخبر الصحابي الذي لم يأخذ عن الإسرائيليات بما لا
مجال للاجتهاد فيه كالإخبار عن الأمور الماضية من بدأ الخلق وقصص الأنبياء، أو عن
الأمور الآتية كالفتن وأحوال يوم القيامة، وكذا الإخبار عما يحصل بفعله ثواب مخصوص
أو عقاب مخصوص.
5- المرفوع الفعلي حكما: أن يفعل الصحابي ما لا مجال للاجتهاد والرأي فيه كصلاة
علي – رضي الله عنه – الكسوف في كل ركعة أكثر من ركوعين.
6- المرفوع التقريري حكما: أن يخبر الصحابي أنهم كانوا يفعلون في زمن النبي - صلى
الله عليه وسلم - كذا، ولا ينكر عليهم، ومن الصيغ التي لها حكم الرفع قول الصحابي:
من السنة كذا، وأمرنا بكذا، نهينا عن كذا، أو يحكم الصحابي على فعل من الأفعال
بأنه طاعة لله تعالى أو لرسوله أو معصية.
الموقوف: ما أضيف إلى الصحابي من قول أو فعل أو تقرير.
الصحابي: من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنا به ومات على الإسلام ولو
تخللت ذلك ردة في الأصح، فمن لقيه - صلى الله عليه وسلم - في كفره، أو ارتد بعد
لقائه - صلى الله عليه وسلم - في الإسلام ومات على الردة فلا يعد من الصحابة.
…والمراد باللقي ما هو أعم من المجالسة والمماشاة والجلوس معه - صلى الله عليه
وسلم - قليلا أو كثيرا، والصحبة تعرف بالتواتر أو الاستفاضة أو بإخبار بعض الصحابة
أو بعض ثقات التابعين أو بإخباره عن نفسه أنه صحابي إذا كانت دعواه ممكنة.
المقطوع: ما أضيف إلى التابعي أو من دونه من قول أو فعل أو تقرير.
التابعي: من لقي الصحابي مؤمنا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومات على ذلك.
(1/114)
…والفرق بين المقطوع والمنقطع
أن القطع من صفات المتن أي المقطوع من مباحث المتن، كالرفع والوقف، والمراد به
المتن الذي انتهى سنده إلى التابعي أو من دونه، والانقطاع من صفات الإسناد
كالإرسال والتعليق، يعني أن المنقطع من مباحث السند، والمراد به السند الذي سقط
منه واحد أو أكثر بشرط عدم التوالي كما تقدم.
…والمحدثون قد يطلقون الأثر على الخبر الموقوف والمقطوع أيضا، فكل منهما يقال له
أثر.
المخضرم: هو الذي أدرك زمن الجاهلية والإسلام ولم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم
-، والمخضرمون معدودون في كبار التابعين على الأصح، سواء عرف أن الواحد منهم كان
مسلما في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كالنجاشي أم لا، والمخضرمون أكثر من
عشرين نفسا.
المسند: هو ما رفعه الصحابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد ظاهره
الاتصال.
المتصل: ويسمى الموصول، وهو ما اتصل سنده سواء كان مرفوعا إليه - صلى الله عليه
وسلم - أو موقوفا.
المعنعن: هو ما يقال في سنده: عن فلان عن فلان، قيل: إنه مرسل حتى يتبين اتصاله،
والجمهور على أنه متصل إذا أمكن لقاء من أضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضا مع براءة
المعنعن من التدليس وإلا فليس بمتصل.
المؤنن: هو ما يقال في سنده: "حدثنا فلان أن فلانا"، وهو كالمعنعن.
علو السند ونزوله
…العلو عبارة عن قلة رجال السند، والنزول عبارة عن كثرتهم، وهما من صفات الإسناد.
…والسند من حيث علوه ونزوله قسمان: عال، ونازل.
السند العالي: ما كان عدد رجاله قليلا بالنسبة إلى سند آخر يرد به ذلك الحديث
بعينه يكون عدد رجاله كثيرا.
السند النازل: هو ما كان عدد رجاله كثيرا بالنسبة إلى سند آخر يرد به ذلك الحديث
بعينه يكون عدد رجاله قليلا.
…والعلو في السند نوعان:
(1) العلو المطلق: هو ما انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدد قليل
بالنسبة إلى سند آخر ورد به ذلك الخبر بعدد كثير، وضده النزول المطلق.
(1/115)
(2) العلو النسبي: هو ما انتهى
سنده إلى إمام من أئمة الحديث كشعبة ومالك والبخاري وأحمد ومسلم مثلا بعدد قليل
بالنسبة إلى سند آخر ورد به ذلك الخبر بعدد كثير، وضده النزول النسبي.
…وإنما كان العلو مرغوبا فيه عند المحدثين لكونه أقرب إلى الصحة وقلة الخطأ ؛ لأنه
ما من راو من رجال الإسناد إلا والخطأ جائز عليه، فكلما كثرت الوسائط وطال السند
كثرت مظان تجويز الخطأ، وكلما قلت قلت.
…وإذا كانت في السند النازل مزية ليست في العالي كأن يكون رجاله أوثق منه أو أحفظ
أو أفقه أو الاتصال فيه أظهر فلا تردد في أن السند النازل أولى من العالي.
…وتتفرع من العلو النسبي أربعة أنواع: (1) الموافقة (2) البدل (3) المساواة (4)
المصافحة.
الموافقة: هي أن يصل الراوي إلى شيخ أحد من المصنفين من غير طريقه مع علو إسناده
على إسناد المصنف، كأن يكون مسلم مثلا روى حديثا عن يحيى عن مالك عن نافع عن ابن
عمر، فترويه أنت بإسناد آخر عن يحيى بعدد أقل مما لو رويته من طريق مسلم، فقد حصلت
لك الموافقة مع مسلم في شيخه يحيى مع علو الإسناد على الإسناد إليه.
البدل: ويسمى الإبدال، وهو أن يصل إلى شيخ شيخ أحد المصنفين من غير طريقه، وصورته
في المثال السابق أن ترويه بإسناد آخر عن مالك، أو عن نافع، أو عن ابن عمر بعدد
أقل أيضا، فيكون تلميذ مالك في هذا الإسناد الآخر بدلا عن يحيى، وقد يسمى هذا
موافقة بالنسبة إلى الشيخ الذي يجتمع فيه إسنادك بإسناد مسلم كمالك ونافع.
المساواة: وهي تساوي عدد الإسناد من الراوي إلى آخره مع إسناد أحد المصنفين، كأن
يروي النسائي مثلا حديثا بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه أحد عشر
نفسا، فيقع لنا ذلك الحديث بعينه بسند آخر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقع
بيننا وبينه - صلى الله عليه وسلم - فيه أحد عشر نفسا، فنساوي النسائي من حيث
العدد مع قطع النظر عن ملاحظة ذلك الإسناد الخاص.
(1/116)
قال السيوطي: ولا يوجد ذلك
الآن في حديث بعينه، بل يوجد التساوي في مطلق العدد، والعلو في تلك المساواة غير
ظاهر، إلا أن يقال: إن العلو فيها باعتبار أن الراوي لو روى عن أحد المصنفين للكتب
المذكورة لكان العدد أكثر.
المصافحة: هي أن يستوي عدد رجال الإسناد من الراوي إلى آخر الإسناد مع إسناد تلميذ
أحد المصنفين، أو هي أن تقع المساواة للراوي مع تلميذ أحد المصنفين على الوجه
المشروح، وسميت بذلك لأن العادة
جرت في الغالب بالمصافحة بين المتلاقين، فكأن الراوي لقي المصنف وصافحه، ومثالها
يفهم مما ذكر في المساواة قبلها.
…والنزول أيضا أقسام كالعلو، ويقابل كل قسم منها قسما من أقسام العلو.
رواية الأقران: القرينان هما المتقارنان في السن والأخذ عن المشايخ، ورواية
الأقران: هي أن يروي قرين عن قرينه كرواية سليمان بن مهران الأعمش عن سليمان بن
طرخان التيمي وهما قرينان، وبعبارة أخرى: هي أن يشترك تلميذان في الرواية عن شيخ،
ويكون أحد التلميذين قد روى عن زميله وقرينه.
المدبج: بفتح الدال المهملة وتشديد الباء الموحدة، مأخوذ من ديباجتي الوجه، وهما
الخدان لتساويهما وتقابلهما، وهو اصطلاحا: أن يشترك التلميذان في الرواية عن شيخ،
ويكون كل واحد من التلميذين قد روى عن الآخر، كرواية عائشة عن أبي هريرة ورواية
أبي هريرة عنها، وكرواية مالك والأوزاعي، ورواية أحمد بن حنبل وعلي بن المديني، كل
عن الآخر.
…والمدبج أخص مطلقا من رواية الأقران، ومن فوائد معرفة هذا النوع الأمن من أن يظن
زيادة في السند، أو يظن إبدال "عن" بالواو.
رواية الأكابر عن الأصاغر: هو أن يروي الراوي عمن هو دونه في السن أو في مقدار
الحفظ والعلم أو في كليهما، كرواية الزهري عن مالك، ورواية مالك عن عبدالله بن
دينار.
…ومن هذا النوع رواية الآباء عن الأبناء، ورواية الصحابة عن التابعين، والشيخ عن
تلميذه.
(1/117)
…ومن فوائد هذا النوع دفع توهم
الانقلاب في السند ؛ لأن الغالب رواية الأصاغر عن الأكابر.
رواية الأصاغر عن الأكابر: هي رواية الشخص عمن فوقه في السن أو في قدر العلم
والحفظ، وهي الأصل والطريقة المسلوكة المألوفة غالبا، ومن هذا النوع رواية الأبناء
عن الآباء عن الأجداد.
السابق واللاحق: هو أن يشترك اثنان متقدم ومتأخر موتا في الرواية عن شيخ واحد مع
التباعد بين وفاتيهما، مثال ذلك الإمام مالك روى عنه الزهري وتوفي سنة 124هـ،
وأحمد بن إسماعيل السهيمي وتوفي سنة 259هـ، وبين وفاتيهما مائة وخمسة وثلاثون سنة،
فالزهري يقال له السابق والسهيمي يقال له اللاحق.
…ومن فوائد معرفة هذا النوع الأمن من أن يظن سقوط شيء من إسناد المتأخر، أي
انقطاعه.
المهمل: هو أن يروي الراوي عن اثنين متفقين في الاسم فقط، أو مع اسم الأب، أو مع
اسم الجد، أو مع النسبة، ولم يتميزا بما يخص كل واحد منهما، فإن كانا ثقتين لم تضر
الجهالة بهما، وإن كان أحدهما ثقة والآخر ضعيفا ضرت الجهالة، مثال الأول: ما وقع
من البخاري في روايته عن أحمد غير منسوب عن ابن وهب، فإنه إما أحمد بن صالح أو
أحمد بن عيسى، وكلاهما ثقة، ومثال الثاني: سليمان بن داود الخولاني، وهو ثقة،
وسليمان بن داود اليمامي، وهو ضعيف.
والفرق بين المبهم والمهمل أن المبهم لم يذكر اسمه، وأما المهمل فذكر اسمه لكن مع
الاشتباه.
من حدث ونسي
من حدث ونسي: هو أن ينكر الشيخ رواية ما حدث به تلميذه عنه، فإن كان الإنكار بصيغة
الجزم واليقين كأن يقول: كذب علي، أو ما رويت له ذلك، أو كذبت علي، أو ما حدثتك
بهذا، فحكمه رد تلك الرواية، ولا يكون ذلك قادحا في عدالة واحد منهما، إذ ليس
أحدهما أولى بالطعن فيه من الآخر، وإن أنكر على سبيل التردد والشك كأن يقول: ما
أذكر هذا، أولا أعرفه، أو نحو ذلك، فيقبل هذا المروي محمولا على نسيان الشيخ وتذكر
التلميذ، إذ المثبت الجازم مقدم على النافي المتردد.
(1/118)
المسلسل: هو ما اتفق رواته في
صيغ الأداء أو غيرها من الصفات والحالات، كمسلسل التشبيك باليد والمصافحة والقبض
على اللحية.
…وحالات الرواة أفعالهم وأقوالهم، وحالات الرواية ما يتعلق بصيغ الأداء أو بزمنها
ومكانها.
…وهو نوع واسع جدا، ومن فوائده اشتماله على مزيد الضبط من رواته، وصيغ الأداء على
ثمان مراتب:
صيغ الأداء: (1) سمعت وحدثني (2) ثم أخبرني وقرأت عليه (3) ثم قرئ عليه وأنا أسمع
(4) ثم أنبأني. (5) ثم ناولني (6) ثم شافهني بالإجازة (7) ثم كتب إلي بالإجازة (8)
ثم عن ونحوها مثل "قال" و"ذكر" و"روى".
تحمل الحديث وأداؤه
تحمل الحديث: هو روايته وأخذه عن المشايخ، ويشترط في الأصح في ذلك اعتبار الفهم
والتمييز.
الأداء: هو تحديث الشيخ تلاميذه بما كان قد تحمله، ويشترط فيمن يحتج بروايته
العدالة والضبط، وقد تقدم معنى الضبط والعدالة.
طرق تحمل الحديث وصيغ الأداء
(1) السماع من لفظ الشيخ: وهو أعلى طرق تحمل الحديث، وكيفيته: أن يقرأ الشيخ من
كتابه أو حفظه والطالب يسمع إملاء أو غير إملاء، ويقول في الأداء: سمعت أو حدثني،
واللفظ الأول – أي سمعت – أصرح في التعبير عن سماع قائله ؛ لأنه لا يحتمل الواسطة،
وأما حدثني فقد استعملت في الإجازة تدليسا، وأرفع صيغ الأداء وأعلاها ما وقع منها
في الإملاء ؛ لما فيه من تثبت الشيخ وتيقظ الطالب وانتباهه فهما لذلك أبعد من
الغفلة وأقرب إلى التحقيق، وقوله "سمعت وحدثني" يدلان على أن الراوي
وحده سمع من لفظ الشيخ، فإنه شاركه غيره قال: سمعنا أو حدثنا، وأما الصيغة
الثالثة: أي أخبرني، والرابعة: أي
قرأت عليه، فهما للقراءة على الشيخ كما سيأتي، وهما تدلان على أن التلميذ قرأ على
الشيخ بنفسه، فإن جمع فقال: أخبرنا أو قرأنا عليه فهي كقوله: قرئ عليه وأنا أسمع،
فإنه يدل على أن غير الراوي شاركه في القراءة والعرض على الشيخ.
(1/119)
…ولا فرق بين التحديث والإخبار
لغة، أما في اصطلاح المحدثين فالشائع عندهم التفريق بينهما بتخصيص التحديث بما سمع
من لفظ الشيخ، والإخبار بالعرض والقراءة عليه.
(2) القراءة على الشيخ: ويسميها البعض عرضا ؛ لأن القارئ يعرض على الشيخ ما يقرأه،
سواء قرأ الطالب بنفسه على الشيخ من حفظه أو كتابه، أو قرأ عليه غيره وهو يسمع،
وسواء أكان الشيخ حافظا لما يقرأ عليه أو لا، ولكن أمسك أصله هو أو ثقة غيره،
ويقال في الأداء: قرأت على فلان، أو قرئ على فلان وأنا أسمع، ويجوز له أن يعبر بما
سبق من صيغ الأداء بشرط أن يقيد بالقراءة لا مطلقا، نحو حدثني فلان قراءة عليه.
…واختلف في أن العرض مساو للسماع من لفظ الشيخ رتبة أو فوقه أو دونه، والراجح أن
العرض دون السماع من لفظ الشيخ.
…والإنباء عند متقدمي المحدثين بمعنى الإخبار، أما عند متأخريهم فللإجازة كعن
فإنها في اصطلاحهم للإجازة.
…وعنعنة المعاصر محمولة على سماعه ممن عنعن عنه إلا أن يكون معروفا بالتدليس فيشترط
فيه ثبوت اللقاء بين الراوي والمروي عنه ولو مرة واحدة على المذهب المختار ؛ ليحصل
الأمن في باقي العنعنة عن كونه من المرسل الخفي.
(3) الإجازة: وهي الإذن في الرواية لفظا أو كتابة، أي إذن الشيخ لتلميذه بأن يروي
عنه مسموعاته، وإن لم يسمعها منه أو يقرأها عليه، وهي أنواع:
1- منها: الإجازة لمعين بمعين، نحو أجزتك أن تروي عني صحيح البخاري، ولا يناوله
إياه، وهي أعلى أنواع الإجازة المجردة عن المناولة، ولا خلاف في جواز الرواية بذلك
والعمل بها.
2- ومنها: الإجازة لمعين بغير معين، نحو أجزتك رواية مسموعاتي.
3- ومنها: الإجازة لغير معين بمعين، نحو أجزت لمن أدركني رواية صحيح مسلم.
4- ومنها: الإجازة لغير معين بغير معين، نحو أجزت لأهل زماني رواية مسموعاتي.
5- ومنها: الإجازة لمعدوم تبعا لموجود، نحو أجزت لفلان ومن يولد بعد بكذا.
(1/120)
…وفي جواز الرواية بهذه
الأنواع كلها خلاف ما عدا الأول.
المشافهة: هي أن يشافه الشيخ تلميذه بالإذن له بالرواية عنه، ويقول في الأداء:
شافهني بالإذن، فتستعمل المشافهة في الإجازة المتلفظ بها دون الإجازة بالمكاتبة،
وإنما يقال فيها: كتب إلي.
(4) المناولة: وهي إعطاء الشيخ الطالب شيئا من مروياته، وهي نوعان:
1- المناولة المقرونة بالإجازة: وهي أن يناول الشيخ الطالب أصله أو فرعا مقابلا
به، أو يحضر الطالب أصل الشيخ ويقول له الشيخ: هذا روايتي عن فلان فاروه عني، أو
أجزت لك روايته.
…وشرطه أن يمكن الشيخ الطالب على أصله تمليكا بالبيع أو الهبة أو عارية لينقل عنه
ويقابل عليه ثم يرده، وأما إذا ناوله الأصل وأذن له بالرواية عنه ثم استرده في
الحال فلا مزية لها على الإجازة المعينة ؛ لعدم احتواء الطالب على الكتاب المجاز
به، وقد تقدمت صورة الإجازة المعينة.
2- المناولة المجردة عن الإجازة: بأن يناوله أصله أو ما قام مقامه مقتصرا على
قوله: هذا سماعي أو روايتي عن فلان، ولم يعتبر بها عند الجمهور.
…وصورة الأداء بالإجازة أو المناولة: حدثني فلان إجازة، أو مناولة، وكذا أخبرني
إجازة، أو مناولة، أو نحو ذلك.
(5) المكاتبة: وهي أن يكتب الشيخ مسموعه لحاضر أو غائب، سواء كتب بخطه أم كتب عنه
بأمره، وهي نوعان أيضا: (1) مقرونة بالإجازة، وهي في الصحة والقوة مثل المناولة
المقرونة بالإذن. (2) مجردة عنها، فهي في الحكم كالمناولة المجردة عن الإذن.
…وصورة الأداء: حدثني فلان مكاتبة، أو كتب إلي فلان، أو نحو ذلك.
(6) الإعلام: وهو أن يقول الشيخ للطالب: إن هذا الكتاب أو الحديث من مسموعاتي عن
فلان.
(7) الوصية: وهي أن يوصي الشيخ عند موته أو سفره لشخص معين بكتاب مروي له، ويقال
في الأداء: أوصى إلي فلان، أو حدثني فلان وصية.
(1/121)
(8) الوجادة: وهي أن يجد
الطالب كتابا أو حديثا بخط يعرف كاتبه، فيقول في الأداء: وجدت بخط فلان كذا وكذا،
أو قرأت بخط فلان كذا وكذا، والمروي بالوجادة من قبيل المنقطع الذي فيه شائبة
الاتصال.
…ويشترط لصحة الرواية بكل من الإعلام والوصية والوجادة أن يكون مقرونا بالإجازة
والإذن بالرواية على الصحيح، وإلا فلا عبرة بها كالإجازة العامة في المجاز له.
الإجازة العامة في المجاز به: كأن يقول الشيخ لتلميذه: أجزت لك أن تروي عامة
مروياتي، وما أشبه ذلك، وتقبل على الأصح.
الإجازة العامة في المجاز له: وهي أن يقول الشيخ: أجزت لجميع المسلمين أو لمن أدرك
حياتي أو نحوه، فلا عبرة بها على الأصح عند المحدثين.
المتفق والمفترق: هو أن تتفق أسماء الرواة وأسماء آبائهم فصاعدا أو كناهم أو
أنسابهم وتختلف أشخاصهم، كالخليل بن أحمد - يطلق على جماعة، منهم النحوي صاحب
العروض، ومنهم المزني.
وفائدة معرفة هذا النوع الأمن من اللبس، فربما يظن الأشخاص شخصا واحدا كما وقع
لجماعة.
المؤتلف والمختلف: هو أن تتفق أسماء الرواة خطا وتختلف نطقا، سواء كان مرجع
الاختلاف النقط أو الحركات، كسلام وسلام، ومسور ومسور.
…وفائدة هذا النوع الأمن من التصحيف والتحريف.
المتشابه: هو أن تتفق أسماء الرواة نطقا وخطا وتختلف أسماء آبائهم نطقا لا خطا،
وسمي بذلك لتشابهه بالنوعين اللذين قبله ؛ لأنه مركب منهما، نحو محمد بن عقيل
ومحمد بن عقيل، أو بالعكس نحو شريح بن النعمان، وسريج بن النعمان، ويتركب من
المتشابه ومما قبله من المؤتلف والمختلف أنواع.
معنى الطبقة ومراتب الجرح والتعديل
الطبقة: عبارة عن جماعة اشتركوا في السن واللقي الذي هو الأخذ عن المشايخ، مثل
الصحابة والتابعين.
…وفائدة معرفة طبقات الرواة الأمن من تداخل المشتبهين، وإمكان الوقوف على تبيين
التدليس والاطلاع على حقيقة المراد من العنعنة.
(1/122)
…وللجرح مراتب أسوأها الوصف
بما دل على المبالغة، مثل قولهم: فلان أكذب الناس، أو إليه المنتهى في الوضع، أو
هو ركن الكذب، أو معدنه، أو نحو ذلك، ثم دجال، أو كذاب، أو وضاع، أو يضع الحديث،
أو يكذب.
…وأسهل الألفاظ الدالة على الجرح قولهم: فلان لين، أو سيء الحفظ، أو فيه أدنى
مقال.
…وبين أسوأ الجرح وأسهله مراتب، مثل قولهم: فلان متروك، أو ساقط، أو فاحش الغلط،
أو منكر الحديث، وهي أشد من قولهم فلا ضعيف، أو ليس بالقوي، أو فيه مقال.
…وأرفع مراتب التعديل الوصف بما دل على المبالغة فيه، كالوصف بأفعل، مثل فلان أوثق
الناس، وكذا قولهم: فلان إليه المنتهى في التثبت، ثم ما تأكد بصفة أو صفتين من
الصفات الدالة على التعديل، مثل: ثقة ثقة، أو ثقة حافظ، أو عدل ضابط.
…وأدنى مراتب التعديل ما أشعر بالقرب من أسهل التجريح، مثل قولهم: فلان شيخ، يروى
حديثه، ولا بأس به، ونحو ذلك.
…واعلم أنهم اختلفوا في عدد مراتب ألفاظ التجريح والتعديل وبيانها وترتيبها، فجعل
ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل وتبعه ابن الصلاح في مقدمته، لكل منهما أربع
مراتب، وجعل العراقي في شرح ألفيته خمس مراتب، والسخاوي في شرح الألفية، والسندي
في شرح النخبة ست مراتب، من أحب الوقوف عليها وعلى أحكامها رجع إلى الكتب المذكورة
وغيرها من الكتب المبسوطة في أصول الحديث.
التعديل والتزكية تقبل إذا صدرت من عارف بأسبابها ولو كان واحدا على الأصح، ويقدم
الجرح على التعديل إذا تعارضا ؛ لأن المجرح معه زيادة علم خفيت على المعدل، ولكن
يشترط لتقديم الجرح على التعديل أن يكون الجرح مفسرا ومبينا، ويصدر من عارف
بأسبابه ؛ لأنه إن كان غير مفسر لم يقدح فيمن ثبتت عدالته، وإن كان صادرا من غير
عارف بالأسباب لم يعتبر به أيضا، فإن خلا عن التعديل قبل مجملا غير مبين السبب.
ومن الأمور المهمة فيما يتعلق بالرواة معرفة طبقاتهم ومواليدهم ووفياتهم وأحوالهم.
(1/123)
ومنها معرفة كنى المسمين ممن
اشتهر باسمه وله كنيته لئلا يظن أنه آخر.
ومعرفة من اشتهر بكنيته وله اسم.
ومعرفة من كنيته اسمه.
ومعرفة من كثرت كناه.
ومعرفة من اختلف في كنيته.
ومعرفة من وافقت كنيته اسم أبيه.
ومعرفة من وافق اسمه كنية أبيه.
ومعرفة من وافق اسم شيخه اسم أبيه.
ومعرفة من وافق اسم الراوي عنه اسم شيخه.
ومعرفة من اتفق اسمه اسم أبيه واسم جده.
ومعرفة من اتفق اسمه واسم شيخه واسم شيخ شيخه.
ومعرفة من نسب إلى غير أبيه.
ومعرفة من نسب إلى أمه.
ومعرفة من نسب إلى غير ما يسبق إلى الذهن والفهم.
ومعرفة المفردة من الأسماء والكنى والأنساب: وهي التي لم يشارك صاحبها أحد في
التسمية والكنية واللقب، أي التي لم يسمع بها إلا واحد.
ومعرفة الأنساب والألقاب، والنسبة تقع تارة إلى القبائل، وتارة إلى الأوطان، وقد
تقع إلى الصنائع والحرف والعاهات.
…وقد تقع الأنساب ألقابا، ومن المهم أيضا معرفة أسباب الألقاب والأنساب، إذ قد
تكون على خلاف الظاهر.
ومنها معرفة الموالي من الرواة، والولاء ثلاثة أنواع:
(1) ولاء العتاقة، وهي الأكثر، وكثير من الرواة نسب إلى قبيلة معتقه.
(2) ولاء بالإسلام: وهو أن يسلم رجل على يد رجل آخر فينسب إلى قبيلته.
(3) ولاء بالحلف – بالكسر – وهي المعاقدة والمعاهدة على التناصر والتآزر، ولفظ
المولى مشترك بين المولى الأعلى، هو المعتق – بالكسر -، والمحالف – بالفتح -، ومن
أسلم على يديه غيره، وبين المولى الأسفل وهو العتيق، والمحالف – بالكسر -، والمسلم
على يد الغير.
ومنها معرفة الإخوة والأخوات ؛ للأمن من اللبس والسلامة من أن يظن المتعدد واحدا،
أو يظن غير الأخ أخا للاشتراك في اسم الأب، وارجع لأمثلة ذلك كله إلى الكتب
المبسوطة في علم مصطلح الحديث.
الرحلة في طلب الحديث، وكيفية كتابته وتصنيفه
(1/124)
صفة كتابة الحديث: هي أن يكتبه
بخط واضح جلي مبينا مفسرا، ويشكل المشكل منه، وينقط ويكتب الساقط من أصله على
الحاشية اليمنى إن أمكن وإلا ففي اليسرى، ولا يكتب بين الأسطر.
الرحلة في طلب الحديث: ينبغي للطالب قبل الرحلة أن يبدأ بحديث أهل بلدته فيستوعبه،
ثم يرحل لتحصيل ما ليس عنده من المتون والأسانيد، ويكون اعتناؤه بتكثير المسموع
أولى من اعتنائه بتكثير الشيوخ.
سماع الحديث: أن يكون الطالب يقظا عند سماع الحديث من لفظ الشيخ أم القراءة عليه،
وأن لا يتشاغل بما يخل من كلام أو قراءة أو كتابة شيء غير المسموع.
عرض الحديث: هو أن يقابل الطالب مع الشيخ سواء كان مع الشيخ أصله أم عول على حفظه،
أو يقابل مع ثقة غيره، أو يقابل بنفسه على أصل الشيخ أو فرع مقابل عليه.
إسماع الحديث: هو أن يكون الشيخ يقظا وقت الإسماع والتحديث، غير مشغول بما يخل،
وأن يكون أداؤه من أصله الذي سمع فيه، أو من فرع مقابل عليه، فإن تعذر فيجبره
بالإجازة.
آداب الشيخ والطالب
يشتركان في تصحيح النية، وبذل النصيحة للمسلمين، وتطهير القلب من أغراض الدنيا،
والعمل بالعلم، وتحسين الخلق.
وينفرد الشيخ بأن يسمع إذا احتيج إليه مع رغبته في الخير للطالب، ويقبل على
الحاضرين، ويفتتح مجلسه بالتحميد والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - ويختمه كذلك، وأن يجلس بالوقار والسكينة، وأن يستنصت الطلاب، وإن رفع أحدهم
صوته زجره ؛ لأن رفع الصوت عند حديثه عليه الصلاة والسلام
مثل رفعه عنده، وقد نهى الله عن ذلك، وأن لا يقوم لأحد أثناء التحديث، ولا يحدث
قائما ولا عجلا ولا في الطريق إلا لحاجة.
(1/125)
وينفرد الطالب بأن يوقر الشيخ
ويعظمه، ولا يمنعه الكبر أو الحياء من الاستفادة والسعي التام في التحصيل وأخذ
العلم ولو عمن هو دونه في السن أو القدر أو النسب، وأن لا يكتم شيئا من العلم، ولا
يمتنع من إفادة غيره من الطلبة، وأن يصبر على جفاء الشيخ، ويعتني بالضبط والتقييد
وكثرة المذاكرة لما كتبه ليرسخ في ذهنه، ويكتب ما سمعه تاما.
التصنيف في الحديث
الكتب المصنفة في الحديث أنواع:
1- الجوامع
الجامع: كل كتاب يكون جامعا لأحاديث الأبواب الثمانية، أي لأحاديث العقائد،
والأحكام، والرقاق، وآداب الأكل والشرب والسفر والقيام والقعود، والتفسير،
والتاريخ والسير، والفتن، وأحاديث المناقب والمثالب، مثل الجامع الصحيح للبخاري.
2- المسانيد
المسند: كل كتاب جمع فيه مرويات كل صحابي على حدة من غير تقييد بصحة الحديث وحسنه،
ولا بمناسبة لباب ونحوه، ووقع ترتيب الصحابة فيه باعتبار فضلهم أو سبقهم إلى
الإسلام أو قرابتهم منه - صلى الله عليه وسلم -، كمسند الإمام أحمد بن حنبل ( رح
).
3- السنن
السنن: كل كتاب جمع فيه الأحاديث على الأبواب الفقهية، بأن يجمع في كل باب ما ورد
فيه ما يدل على حكمه وجوبا أو ندبا أو كراهة أو حلا أو حرمة، مثل السنن الأربعة.
4- المعاجم
المعجم: كل كتاب ذكر فيه الأحاديث على ترتيب الشيوخ، سواء اعتبر فيه تقدم وفاة
الشيخ أو توافق حروف التهجي أو الفضيلة أو التقدم في العلم والتقوى، والغالب فيه
الترتيب على حروف الهجاء، كالمعاجم الثلاثة للطبراني.
5- الأجزاء
الجزء: ما يجمع فيه أحاديث رجل واحد، سواء كان ذلك الرجل من الصحابة أو من بعدهم،
كجزء حديث أبي بكر مثلا، وجزء حديث مالك.
أو ما يذكر فيه الأحاديث المتعلقة بموضوع واحد، كجزء رفع اليدين في الصلاة للإمام
البخاري، ويقال له الرسالة أيضا، وقد يطلق كل واحد منهما على الآخر.
6- الأربعون
(1/126)
الأربعون حديثا: هو ما يجمع في
باب واحد أو أبواب شتى بسند واحد أو أسانيد متعددة، كأربعين حديثا للنووي وغيره.
7- الأفراد أو المفردات
الفرد أو المفرد: ما لم يروه إلا راو واحد، أو ما يحتوي على أحاديث شخص واحد، مثل
أحاديث أبي هريرة.
8- الغرائب
الغريب: هو ما وقع في موضع من سنده التفرد.
9- التراجم
التراجم: هو مجموع الأحاديث التي رويت بإسناد واحد، كمالك عن نافع عن ابن عمر.
10- المشيخة
المشيخة: هو ما جمع فيه مرويات شيخ مخصوص ومسموعاته.
11- العلل
العلل: هي الكتب التي يجمع فيها الأحاديث المعلولة مع بيان عللها.
12- المستخرجات
المستخرج: كل كتاب يخرج فيه أحاديث كتاب آخر بأسانيد صحيحة من غير طريق صاحب
الكتاب، ويجتمع معه في شيخه أو فيمن فوقه من الرجال، كمستخرج أبي نعيم الأصبهاني
على الصحيحين.
13- المستدركات
المستدرك: كل كتاب استدرك فيه ما فات صاحب كتاب آخر على شريطته، كمستدرك الحاكم
على الصحيحين.
14- الأطراف
الأطراف: هو أن يذكر طرف الحديث الدال على بقيته، ويجمع أسانيده إما مستوعبا أو
مقيدا بكتب مخصوصة، كتحفة الأشراف بمعرفة الأطرف للمزي.
15- المسلسلات
المسلسلات: وهو كل كتاب جمع فيه الأحاديث التي تتابع رجال إسناده واحدا فواحدا على
صفة واحدة أو حالة واحدة، للرواة تارة وللرواية تارة أخرى.
16- الأمالي
الأمالي: جمع الإملاء، وهو كل كتاب جمع فيه الأحاديث التي أملاه عالم على
تلاميذته، وصفة الإملاء أن يقعد عالم وحوله تلامذته بالمحابر والقراطيس، فيتكلم
العالم بما فتح الله عليه من العلم، ويكتبه التلامذة، فيصير كتابا، ويسمونه
الإملاء والأمالي.
ــــــــــــــ
(1/127)
انتهت الرسالة بعونه تعالى
وحسن توفيقه، وبنعمته تتم الصالحات، وقد استفدت في جمعها من الكتب المؤلفة في هذا
الفن، وكان جل اعتمادي في تهذيبها وتنسيقها على "اجتناء الثمر لمصطلح أهل
الأثر" و"أطيب المنح في علم المصطلح"، و"سح المطر على قصب
السكر"، فجزى الله مؤلفيها، فإن الفضل في هذا الباب راجع إليهم.
وهذا آخر ما أردنا إيراده المقدمة للطبعة الثانية للجزء الأول من المرعاة، ولله
الحمد أولا وآخرا.
عبد الرحمن عبيد الله الرحماني المباركفوري
…………………… 6/ رجب سنة 1393هـ.
(1) كتاب الإيمان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/128)
(كتاب الإيمان) الكتاب مصدر بمعنى المكتوب، مأخوذ من "الكتب" بمعنى الجمع والضم، أي هذا مجموع الأحاديث الواردة في الإيمان، والكتاب عند المصنفين: عبارة عن طائفة من المسائل اعتبرت مستقلة شملت أنواعا أي أبوابا، أو لم تشمل، وإنما عنون به مع ذكره الإسلام أيضا لأنهما بمعنى واحد في الشرع، وعلى اعتبار المعنى اللغوي من الفرق يكون فيه إشارة إلى أنه الأصل، وقدمه لأنه أفضل الأمور على الإطلاق وأشرفها، ولأنه أول واجب على المكلف؛ ولأنه شرط لصحة العبادات المتقدمة على المعاملات، والكلام في الإيمان على أنواع: الأول: في معناه اللغوي، وقد أوضحه الزمخشري وابن تيمية وغيرهما، والثاني: في معناه الشرعي، واختلفوا فيه على أقوال، فقال الحنفية: الإيمان هو مجرد تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما علم مجيئه به بالضرورة تفصيلا في الأمور التفصيلية وإجمالا في الأمور الإجمالية، تصديقا جازما ولو بغير دليل، فالإيمان بسيط عندهم غير مركب، لا يقبل الزيادة والنقصان من حيث الكمية، فجعلوه كالكلي المتواطئ لا تفاوت في صدقه على أفراده، واستدلوا على ذلك بوجوه، ذكرها العيني في شرح البخاري وغيره في غيره، لا يخلو واحد منها من الكلام، ثم المتكلمون منهم جعلوا الإقرار شرطا لإجراء الأحكام، فمن صدق فهو مؤمن بينه وبين الله وإن لم يقر بلسانه، وقال الفقهاء منهم: الإقرار بالشهادتين ركن لكنه ليس بأصلي له كالتصديق، بل هو ركن زائد، ولهذا يسقط حالة الإكراه والعجز، قال القاري: والحق أنه ركن عند المطالبة به وشرط لإجراء الأحكام عند عدم المطالبة – انتهى. وفي المسايرة: وجعل الإقرار بالشهادتين ركنا من الإيمان هو الاحتياط بالنسبة إلى جعله شرطا خارجا عن حقيقة الإيمان – انتهى. وإنما جعل هؤلاء الإقرار بالشهادتين وبالتزام الطاعة ركنا أو شرطا لإخراج تصديق أبي طالب وهرقل والذين قال الله فيهم: ?وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما
(1/129)
وعلوا? [27: 14] من مسمى
الإيمان الشرعي، وقال المرجئة: هو اعتقاد فقط، والإقرار باللسان ليس بركن فيه ولا
شرط، فجعلوا العمل خارجا من حقيقة الإيمان كالحنفية وأنكروا جزئيته، إلا أن
الحنفية اهتموا به وحرضوا عليه وجعلوه سببا ساريا في نماء الإيمان، وأما المرجئة
فهدروه وقالوا: لا حاجة إلى العمل، ومدار النجاة هو التصديق فقط، فلا يضر المعصية
عندهم مع التصديق، وقال الكرامية: هو نطق فقط، فالإقرار باللسان يكفي للنجاة عندهم
سواء وجد التصديق أم لا، وقال السلف من الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد
وغيرهم من أصحاب الحديث: هو اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، فالإيمان
عندهم مركب ذو أجزاء، والأعمال داخلة في حقيقة الإيمان، ومن ههنا نشأ لهم القول
بالزيادة والنقصان بحسب الكمية، فهو كالكلي المشكك عندهم، واحتجوا لذلك بالآيات
والأحاديث، وقد بسطها البخاري في جامعه، والحافظ ابن تيمية في كتاب الإيمان، قيل
وهو مذهب المعتزلة والخوارج، إلا أن السلف لم يجعلوا أجزاء الإيمان متساوية
الأقدام، فالأعمال عندهم كواجبات الصلاة لا
?الفصل الأول?
2- (1) عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: ((بينما نحن عند رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - ذات يوم إذ طلع علينا رجل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/130)
كأركانها، فلا ينعدم الإيمان بانتفاء الأعمال، بل يبقى مع انتفائها، ويكون تارك الأعمال وكذا صاحب الكبيرة مؤمنا فاسقا لا كافرا بخلاف جزئيه: التصديق والإقرار، فإن فاقد التصديق وحده منافق، والمخل بالإقرار وحده كافر، وأما المخل بالعمل وحده ففاسق ينجو من الخلود في النار ويدخل الجنة. وقال الخوارج والمعتزلة: تارك الأعمال خارج من الإيمان لكون أجزاء الإيمان المركب متساوية الأقدام في أن انتفاء بعضها – أي بعض كان – يستلزم انتفاء الكل، فالأعمال عندهم ركن من أركان الإيمان كأركان الصلاة، ثم اختلف هؤلاء، فقالت الخوارج: صاحب الكبيرة وكذا تارك الأعمال كافر مخلد في النار، والمعتزلة أثبتوا الواسطة فقالوا: لا يقال له مؤمن ولا كافر، بل يقال له فاسق مخلد في النار، وقد ظهر من هذا أن الاختلاف بين الحنفية وأصحاب الحديث اختلاف معنوي حقيقي لا لفظي كما توهم بعض الحنفية، والحق ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة والمحدثون لظاهر النصوص القرآنية والحديثية، ومحل الجواب عن دلائل الحنفية هو المطولات، والثالث في أن الإيمان هل يزيد وينقص؟ قيل: هو من فروع اختلافهم في حقيقة الإيمان، والرابع: في أن الإسلام مغاير للإيمان شرعا، أو هما متحدان، فقال بعضهم بالترادف والتساوي، وإنهما عبارة عن معنى واحد، وإليه ذهب البخاري، وقيل بالتغاير والاختلاف والتباين، وقيل: إن بينهما عموما وخصوصا مطلقا، وقال بعضهم: إن بينهما عموما وخصوصا من وجه، وقيل: إنهما مختلفان باعتبار المفهوم، متحدان في المقاصد، والتفصيل في إحياء العلوم للغزالي، وشرحه للزبيدي الحنفي، والخامس: في قران المشيئة بالإيمان، ومحل بسط الدلائل والجواب عن أدلة الأقوال الزائغة هو المطولات مثل شرح مسلم للنووي، والفتح للحافظ، وكتاب الإيمان لابن تيمية، والعمدة للعيني، وحجة الله للشيخ ولي الله الدهلوي.
(1/131)
2- قوله: (عن عمر بن الخطاب)
قال القرطبي: هذا الحديث يصلح أن يقال له "أم السنة" لما تضمنه من جمل
علم السنة، قال الطيبي: ولهذه النكتة استفتح به البغوي كتابه "المصابيح"
و"شرح السنة" اقتداء بالقرآن في افتتاحه بالفاتحة؛ لأنها تضمنت علوم
القرآن إجمالا – انتهى. وبالجملة إنه حديث جليل فيه وحده كفاية لمن تأمل فيه، سمي
"حديث جبريل" و"أم الأحاديث"؛ لأن العلوم الشرعية التي يتكلم
عليها فرق المسلمين من الفقه والكلام والمعارف والأسرار كلها منحصرة فيه، راجعة
إليه، ومتشعبة منه، كما أن فاتحة الكتاب تسمى أم القرآن وأم الكتاب؛ لاشتمالها على
المعاني القرآنية والمقاصد الفرقانية إجمالا. (بينما نحن عند رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - ذات يوم إذ طلع علينا رجل) أي بين أوقات نحن حاضرون عنده فاجأنا وقت
طلوع ذلك الرجل فأصله "بين" عوض بما عن كلمة أوقات المحذوفة التي
تقتضيها بين عند الإضافة إلى الجملة، وهو ظرف زمان مثل إذ بمعنى المفاجأة، يضافان
إلى الجملة الاسمية تارة، وإلى
شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد،
حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه
على فخذيه، وقال: يا محمد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/132)
الفعلية أخرى، ويكون العامل معنى المفاجأة في إذ ويكون بينما ظرفا لفاجأنا المقدر، وإذ مفعول به لهذا المقدر بمعنى الوقت، ونحن مبتدأ وعند ظرف مكان ذات يوم ظرف لقوله عند باعتبار أن فيه معنى الاستقرار، أي بين أوقات نحن حاضرون عنده، فنحن مخبر عنه بجملة ظرفية، والمجموع صفة المضاف إليه المحذوف وزيادته ذات لدفع توهم التجوز بأن يراد باليوم مطلق الزمان لا النهار، وقيل: ذات مقحم، وقيل: بمعنى الساعة، وكان مجيء هذا الرجل في آخر عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يدل عليه رواية ابن مندة في كتاب الإيمان بإسناده الذي هو على شرط مسلم، فجاء بعد إنزال جميع الأحكام لتقرير أمور الدين التي بلغها متفرقة في مجلس واحد لتضبط وتحفظ. وسبب ورود الحديث ما في مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سلوني، فهابوه أن يسألوه، فجاء رجل فجلس عند ركبتيه، وقوله: طلع علينا رجل، أي ظهر علينا رجل في غاية الأبهة ونهاية الجلالة، كما تطلع علينا الشمس، وفيه دليل على تمثل الملائكة بأي صورة شاءوا من صور بني آدم كقوله تعالى: ?فتمثل لها بشرا سويا? [19: 17]، وقد كان جبريل يتمثل بصورة دحية وغيره كما في هذا الحديث. (شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر) بإضافة شديد إلى ما بعده إضافة لفظية مفيدة للتخفيف فقط، صفة رجل، واللام في الموضعين عوض عن المضاف إليه العائد إلى الرجل، أي شديد بياض ثيابه شديد سواد شعره، والمراد به شعر اللحية كما في رواية ابن حبان ((شديد سواد اللحية))، (لا يرى عليه أثر السفر) روي بصيغة المجهول الغائب ورفع الأثر، وهو رواية الأكثر والأشهر، وروي بصيغة المتكلم المعلوم ونصب الأثر، والجملة حال من رجل أو صفة له، والمراد بالأثر ظهور التعب والتغير والغبار. (ولا يعرفه منا أحد) استند في ذلك عمر إلى صريح قول الحاضرين، ففي رواية لأحمد: فنظر القوم بعضهم إلى بعض فقالوا: ما نعرف هذا، والمعنى تعجبنا من إتيانه وترددنا
(1/133)
في أنه من الملك والجن، إذ لو
كان بشرا من المدينة لعرفناه، أو كان غريبا لكان عليه أثر السفر. (حتى جلس) غاية
لمحذوف دل عليه طلع؛ لأنه بمعنى أتى، أي أقبل واستأذن حتى جلس متوجها ومائلا إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم -. (فأسند ركبتيه إلى ركبتيه) أي إلى ركبتي رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الجلوس على الركبة أقرب إلى التواضع والأدب، وإيصال
الركبة بالركبة أبلغ في الإصغاء وأكمل في الاستئناس (على فخذيه) أي على فخذي النبي
- صلى الله عليه وسلم -، كما تفيده رواية ابن خزيمة في صحيحه وغيره، وحديث ابن
عباس وأبي عامر الأشعري عند أحمد بإسناد حسن، ورواه النسائي من حديث أبي هريرة
وأبي ذر بلفظ: حتى وضع يده على ركبتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسنده صحيح،
والظاهر أنه أراد بذلك جبريل المبالغة في تعمية أمره؛ ليقوى الظن بأنه من جفاة
الأعراب، ولهذا تخطى الناس حتى انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا
استغرب الصحابة صنيعه. (وقال: يا محمد) أي بعد ما قال: "السلام عليك"
كما في حديث أبي هريرة وأبي ذر عند أبي داود والنسائي، ووقع في حديث ابن عمر عند
الطبراني وفي حديث عمر عند أبي عوانة في صحيحه وفي حديث أبي هريرة عند البخاري في
تفسير سورة لقمان أنه قال له: "يا رسول الله"، ويجمع بأنه بدأ أولا
أخبرني عن الإسلام، قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول
الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا،
قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله
وملائكته
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/134)
ببداءة اسمه قصدا للتعمية، فصنع صنيع الأعراب، ثم خاطبه بعد ذلك بقوله "يا رسول الله"، (أخبرني عن الإسلام) فيه أنه قدم السؤال عن الإسلام وثنى بالإيمان وثلث بالإحسان، وفي رواية أبي عوانة بدأ بالإسلام وثنى بالإحسان وثلث بالإيمان، وفي حديث أبي هريرة عند البخاري قدم السؤال بالإيمان وثنى بالإسلام وثلث بالإحسان، قال الحافظ: لا شك أن القصة واحدة، واختلفت الرواة في تأديتها، وليس في السياق ترتيب، ويدل عليه رواية مطر الوراق عند أبي عوانة، فالحق أن الواقع أمر واحد، والتقديم والتأخير وقع من الرواة، عبروا عنه بأساليب مختلفة. واعلم أن البغوي ذكر في المصابيح السؤال عن الإيمان وجوابه مقدما على الإسلام، هو خلاف ما وقع في حديث عمر عند مسلم وغيره، ففي إيراد الحديث بهذا اللفظ اعتراض فعلي من صاحب المشكاة على البغوي في المصابيح. (وتقيم) أي وأن تقيم، وكذا بالنصب في تؤتي وتصوم وتحج. (الصلاة) أي المكتوبة كما في حديث أبي هريرة عند مسلم (الزكاة) أي المفروضة (البيت) أي الحرام، قال فيه للعهد، أو اسم جنس غلب على الكعبة علما، واللام فيه جزء كما في النجم (إن استطعت إليه سبيلا) المراد بهذه الاستطاعة: الزاد والراحلة، وكان طائفة لا يعدونهما منها، ويثقلون على الحاج فنهو عن ذلك، وإيراد الأفعال المضارعة لإفادة الاستمرار التجددي لكل من الأركان الإسلامية، وحكم الإسلام يظهر بالشهادتين، وإنما أضاف إليهما الأعمال المذكورة لأنها أظهر شعائره وأعظمها. (قال) أي الرجل (صدقت) بفتح الفوقية، دفعا لتوهم أن السائل ما عده من الصواب (قال) أي عمر (فعجبنا له) أي للسائل (يسأله ويصدقه) سبب تعجبهم أن هذا خلاف عادة السائل الجاهل، إنما هذا كلام خبير بالمسؤول عنه، ولم يكن في ذلك الوقت من يعلم هذا غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس هذا السائل ممن عرف بلقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بالسماع منه (فأخبرني عن الإيمان، قال: أن
(1/135)
تؤمن بالله) دل الجواب على أنه
- صلى الله عليه وسلم - علم أنه سأله عن متعلقات الإيمان لا عن معنى لفظه، وإلا
لكان الجواب: الإيمان التصديق، وقال الطيبي: هذا يوهم التكرار وليس كذلك، فإن قوله
"أن تؤمن بالله" مضمن معنى تعترف به، ولهذا عداه بالباء أي أن تصدق
معترفا بكذا، والإيمان بالله هو التصديق بوجوده، وأنه متصف بصفات الكمال منزه عن
صفات النقص (وملائكته) أي تصدق بوجودهم وأنهم – كما وصفهم الله – عباد مكرمون،
وقدم الملائكة على الكتب والرسل نظرا للترتيب الواقع؛ لأنه سبحانه وتعالى أرسل
الملك بالكتاب إلى الرسول، وليس فيه تمسك
وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن
الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/136)
لمن فضل الملك على الرسول. (وكتبه) أي تصدق بأنها كلام الله، وأن ما تضمنته حق (ورسله) أي تصدق بأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله. ودل الإجمال في الملائكة والكتب والرسل على الاكتفاء بذلك في الإيمان بهم من غير تفصيل إلا من ثبتت تسميته فيجب الإيمان به على التعيين. (واليوم الآخر) أي يوم القيامة؛ لأنه آخر أيام الدنيا، والمراد بالإيمان به التصديق بما يقع فيه من الحساب والميزان والجنة والنار، (وتؤمن) أي وأن تؤمن (بالقدر) بفتح الدال ويسكن ما قدره الله وقضاه، والمراد أن الله علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد، فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته، وهذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية، وسيجيء الكلام عليه في كتاب القدر، وأعاد العامل ومتعلقه تنبيها على الاهتمام بالتصديق به لشرف قدره وتعاظم أمره. (خيره وشره) بالجر بدل من القدر (فأخبرني عن الإحسان) أي الإحسان في العبادة، وهو إتقانها والإخلاص فيها والخشوع وفراغ البال حال التلبس بها ومراقبة المعبود، قال الحافظ: وأشار في الجواب إلى حالتين أرفعهما أن يغلب عليه مشاهدة الحق حتى كأنه يراه بعينه هو قوله "كأنك تراه" أي وهو يراك، والثانية: أن يستحضر أن الحق مطلع عليه، يرى كل ما يعمل، وهو قوله "يراك"، وهاتان الحالتان يثمرهما معرفة الله وخشيته، وقال النووي: معناه أنك إنما تراعي الآداب المذكورة إذا كنت تراه ويراك لكونه يراك لا لكونك تراه، فهو دائما يراك فأحسن عبادته وإن لم تره، فتقدير الحديث: فإن لم تكن تراه فاستمر على إحسان العبادة فإنه يراك (كأنك تراه) صفة مصدر محذوف، أي عبادة شبيهة بعبادتك حين تراه، أو حال من الفاعل أي حال كونك مشبها بمن يراه، قاله الكرماني، وقال العيني: التقدير: الإحسان عبادتك الله تعالى حال كونك في عبادتك مثل حال كونك رائيا، وهذا التقدير أحسن وأقرب للمعنى من تقدير الكرماني؛ لأن
(1/137)
المفهوم من تقديره أن يكون هو
في حال العبادة مشبها بالرائي إياه، وفرق بين عبادة الرائي بنفسه وعبادة المشبه
بالرائي بنفسه – انتهى. وقال السندهي: وليس المقصود على تقدير الحالية أن ينتظر
بالعبادة تلك الحال فلا يعبد قبل تلك الحال، بل المقصود تحصيل تلك الحال في
العبادة، والحاصل أن الإحسان هو مراعاة الخشوع والخضوع وما ي معناهما في العبادة
على وجه مراعاته لو كان رائيا، ولا شك أنه لو كان رائيا حال العبادة لما ترك شيئا
مما قدر عليه من الخشوع وغيره، ولا منشأ لتلك المراعاة حال كونه رائيا إلا كونه
رقيبا مطلعا على حاله، وهذا موجود وإن لم يكن العبد يراه تعالى. ولذلك قال - صلى
الله عليه وسلم - في تعليله: فإن لم تكن تراه فإنه يراك، أي هو يكفي في مراعاة
الخشوع على ذلك الوجه، فإن على هذا وصلية لا شرطية، والكلام بمنزلة فإنك وإن لم
تكن تراه فإنه يراك – انتهى. (فإن لم تكن تراه) أي تعامله معاملة من تراه (فإنه
يراك) أي فعامل معاملة من يراك أو فأحسن في عملك فإنه يراك.
قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن
أماراتها، قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء
يتطاولون في البيان، قال: ثم انطلق، فلبثت مليا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/138)
فالفاء دليل الجواب وتعليل الجزء الأول؛ لأن ما بعدها لا يصلح للجواب؛ لأن رؤية الله للعبد حاصلة سواء رآه العبد أم لا، بل الجواب محذوف استغناء عنه بالمذكور؛ لأنه لازمه، كذا في المرقاة. (عن الساعة) أي عن وقت قيامها (ما المسؤول) ما نافية (عنها) أي عن وقتها (بأعلم من السائل) الباء مزيدة لتأكيد النفي، والمقام يقتضي أن يقال: لست بأعلم بها منك، لكنه عدل إشعارا بالتعميم تعريضا للسامعين أن كل سائل ومسؤول فهو كذلك، قال الحافظ: هذا وإن كان مشعرا بالتساوي في العلم لكن المراد التساوي في العلم بأن الله تعالى استأثر بعلمها؛ لقوله بعد خمس: لا يعلمها إلا الله – انتهى. فهو كناية عن تساويهما في عدم العلم، وإنما سأل جبريل ليعلمهم أن الساعة لا يسأل عنها (عن أماراتها) بفتح الهمزة جمع أمارة أي علامة، والمراد منها ما يكون من نوع المعتاد ويكون سابقا على غير المعتاد مثل طلوع الشمس من مغربها (أن تلد الأمة ربتها) أي تحكم البنت على الأم من كثرة العقوق حكم السيدة على أمتها، ولما كان العقوق في النساء أكثر خصصت البنت والأمة بالذكر، ووقع في الرواية الأخرى ربها على التذكير والمراد بالرب والربة السيد والسيدة، أو المالك والمالكة، واختلفوا في معنى ذلك على وجوه، والأوجه عندنا ما قدمنا من أنه يكثر العقوق في الأولاد فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة بالسب والضرب والاستخدام، فأطلق عليها ربها مجازا لذلك، قال الحافظ: أو المراد بالرب المربي، فيكون حقيقة، وهذا أوجه الأوجه عندي لعمومه؛ ولأن المقام يدل على أن المراد حالة تكون مع كونها تدل على فساد الحال مستغربة، ومحصلة الإشارة إلى أن الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور بحيث يصير المربى مربيا، والسافل عاليا، وهو مناسب لقوله في العلامة الأخرى ((أن تصير الحفاة العراة ملوك الأرض)) انتهى. (الحفاة) بضم الحاء جمع الحافي، وهو من لا نعل له (العراة) جمع العاري،
(1/139)
وهو المجرد عن الثياب (العالة)
جمع عائل، وهو الفقير من عال يعيل إذا افتقر، أو من عال يعول، إذا افتقر وكثر
عياله (رعاء الشاء) بكسر الراء والمد جمع راع والشاء جمع شاة (يتطاولون في
البنيان) أي يتفاضلون في ارتفاعه وكثرته ويتفاخرون في حسنه وزينته، وهو مفعول ثان
إن جعلت الرؤية فعل البصيرة، أو حال إن جعلتها فعل الباصرة، والمراد أن أسافل
الناس يصيرون رؤساءهم، وتكثر أموالهم حتى يتباهون بطول البنيان وزخرفته وإتقانه
(قال) أي عمر: (ثم انطلق) أي السائل (فلبثت مليا) بفتح الميم وتشديد الياء، من
الملاوة، أي زمانا أو مكثا طويلا، وبينته رواية أبي داود والنسائي والترمذي، قال
عمر: فلبثت ثلاثا، وهو مخالف لحديث أبي هريرة من أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكره
في ذلك المجلس، وجمع النووي بين الحديثين بأن عمر لم يحضر قول النبي - صلى الله
عليه وسلم - في المجلس، بل كان ممن قام، إما مع الذين توجهوا في طلب الرجل أو لشغل
آخر، ولم يرجع مع من رجع لعارض عرض له
ثم قال لي: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبرئيل
أتاكم يعلمكم دينكم)) رواه مسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/140)
فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحاضرين في الحال ولم يتفق الإخبار لعمر إلا بعد ثلاثة أيام، ويدل عليه قوله: فقال لي: يا عمر، فوجه الخطاب له وحده بخلاف إخباره الأول (فإنه جبريل) أي إذا فوضتم العلم إلى الله ورسوله فإنه جبريل على تأويل الإخبار أي تفويضكم ذلك سبب للإخبار به، وقرينة المحذوف قوله (الله ورسوله أعلم) فالفاء فصيحة لأنها تفصح عن شرط محذوف (أتاكم) استئناف بيان أو خبر لجبريل على أنه ضمير الشأن (يعلمكم دينكم) جملة حالية من الضمير المرفوع في أتاكم أي عازما تعليمكم، فهو حال مقدرة لأنه لم يكن وقت الإتيان معلما، أو مفعول له بتقدير اللام كما في رواية، أسند التعليم إليه مجازا لأنه السبب فيه، أو لأن غرضه من السؤال كان التعليم، فأطلق عليه المعلم لذلك، وفيه دلالة على أن السؤال الحسن يسمى علما وتعليما، لأن جبريل لم يصدر منه سوى السؤال ومع ذلك فقد سماه معلما، وقد اشتهر قولهم "السؤال نصف العلم"، فإن قيل: قد فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بين الإسلام والإيمان، وجعل الأعمال كلها من الإسلام لا من الإيمان، والمشهور عن السلف وأهل الحديث أن الإيمان قول وعمل ونية، وأن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان، وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم، تدل على دخول الأعمال في الإيمان النصوص الصريحة من آيات القرآن والأحاديث الصحيحة، وأيضا ظاهر سؤال جبريل عن الإسلام والإيمان وجوابه يقتضي تغايرهما، وأن الإيمان تصديق بأمور مخصوصة، والإسلام إظهار أعمال مخصوصة، وتقدم عن البخاري أنه يرى أنهما عبارة عن معنى واحد، قلت: عقد البخاري على حديث جبريل هذا بابا في صحيحه ليرد ذلك التأويل إلى مسلكه وطريقته فارجع إليه، وقال البغوي في الكلام على حديث جبريل هذا: جعل النبي- صلى الله عليه وسلم - الإسلام اسما لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسما لما بطن من
(1/141)
الاعتقاد، وليس ذلك لأن
الأعمال ليست من الإيمان، والتصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هي
كلها شيء واحد وجماعها الدين، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أتاكم يعلمكم
دينكم))، والتصديق والعمل يتناولهما اسم الإيمان والإسلام جميعا، يدل عليه قوله
سبحانه تعالى: ?إن الدين عند الله الإسلام? [3: 18]، ?ورضيت لكم الإسلام دينا? [5:
3]، ?ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه? [3: 83]، فأخبر سبحانه وتعالى أن
الدين الذي رضيه ويقبله من عباده هو الإسلام، ولا يكون الدين في محل القبول
والرضاء إلا بانضمام التصديق إلى العمل – انتهى. وقيل: فسر في الحديث الإيمان
بالتصديق والإسلام بالعمل، وإنما فسر إيمان القلب والإسلام في الظاهر لا الإيمان
الشرعي والإسلامي الشرعي، ولا شك في تغايرهما لغة، وأجاب ابن رجب في شرح الأربعين
(19) بوجه آخر، ومحصل جوابه أن الإيمان والإسلام يفترقان إذا اجتمعا، وحيث أفرد كل
منهما بالذكر فلا فرق بينهما، وارجع للتفصيل إلى شرح الأربعين وكتاب الإيمان لابن
تيمية. (رواه مسلم) هذا الحديث تفرد به مسلم عن البخاري بإخراجه، قال الحافظ:
وإنما لم يخرجه البخاري
3- (2) ورواه أبوهريرة مع اختلاف، وفيه: ((وإذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم
ملوك الأرض)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لاختلاف فيه على بعض رواته – انتهى. وحديث عمر هذا أخرجه أيضا أحمد وأبوداود في
السنة والترمذي والنسائي في الإيمان وابن ماجه في السنة وابن خزيمة وأبوعوانة وابن
حبان وغيرهم، وفي الباب عن غير واحد من الصحابة، ذكرهم الحافظ في الفتح والعيني في
العمدة.
(1/142)
3- (رواه أبوهريرة) الدوسي اليماني الصحابي الجليل حافظ الصحابة الفقيه كان من أوعية العلم ومن كبار أئمة الفتوى مع الجلالة والعبادة والتواضع، واختلف في اسمه واسم أبيه اختلافا كثيرا يبلغ إلى نحو ثلاثين قولا، وأشهر ما قيل فيه: إنه كان في الجاهلية عبد شمس أو عبد عمرو، وفي الإسلام عبدالله أو عبدالرحمن، وقال أبوأحمد الحاكم في الكنى: أصح شيء عندنا في اسم أبي هريرة: عبدالرحمن بن صخر، وقد غلبت عليه كنيته فهو كمن لا اسم له غيرها، أسلم عام خيبر وشهدها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لزمه وواظب عليه رغبة في العلم راضيا بشبع بطنه، فكانت يده مع يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يدور معه حيث ما دار، وكان من أحفظ الصحابة، وكان يحضر ما لا يحضر سائر المهاجرين والأنصار؛ لاشتغال المهاجرين بالتجارة والأنصار بحوائطهم، وقد شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه حريص على العلم والحديث، وقال أبوهريرة: يا رسول الله إني قد سمعت منك حديثا كثيرا وأنا أخشى أن أنسى، فقال: ابسط رداءك، قال: فبسطته فغرف بيده فيه، ثم قال: ضمه فضممته، فما نسيت شيئا بعد، وقال البخاري: روى عنه أكثر من ثمانمائة رجل من بين صاحب وتابع، وممن روى عنه من الصحابة ابن عباس وابن عمر وجابر بن عبدالله وأنس وواثلة، ولم يزل يسكن المدينة وبها كانت وفاته سنة 57هـ، وقيل سنة 58هـ، وقيل سنة 59هـ، وهو ابن ثمان وسبعين، وقيل مات بقصره بالعقيق، فحمل إلى المدينة وصلى عليه الوليد بن عقبة بن أبي سفيان، وكان يومئذ أميرا على المدينة، كذا في الاستيعاب، قال أبوهريرة: كنت أرعى غنما وكان لي هرة صغيرة ألعب بها فكنوني بها، وقيل: رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي كمه هرة فقال: يا أباهريرة، وهو أكثر الصحابة رواية بإجماع، روى له خمسة آلالف حديث وثلاثمائة وأربعة وستون حديثا، اتفقا على ثلاثمائة وخمسة وعشرين، وانفرد البخاري بثلاثة
(1/143)
وتسعين ومسلم بمائة وتسعين،
ذكره العيني (ج1: ص124)، (مع اختلاف) أي بين بعض ألفاظهما (وفيه) أي في مروي أبي
هريرة (الصم) أي عن قبول الحق (البكم) أي عن النطق بالصدق جعلوا لبلادتهم وحماقتهم
كأنه أصيبت مشاعرهم مع كونها سليمة تدرك ما ينتفعون به (ملوك الأرض) زاد مسلم:
فذاك من أشراطها، وقوله (ملوك الأرض) منصوب على أنه مفعول ثان لرأيت، أو على أنه
حال، ومضمون ما ذكر من أشراط الساعة في هذين الحديثين يرجع إلى أن الأمور توسد إلى
غير أهلها كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عن الساعة: ((إذا وسد
الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة))، فإنه إذا صار الحفاة العراة
في خمس لا يعلمهن إلا الله ثم قرأ: ?إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث...?
الآية [31: 4]، متفق عليه.
4- (3) وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/144)
رعاء الشاء، وهم أهل الجهل والجفاء رؤساء الناس وأصحاب الثروة والأموال حتى يتطاولون في البنيان، فإنه يفسد بذلك نظام الدين والدنيا، فإنه إذا كان رؤوس الناس من كان فقيرا عائلا فصار ملكا على الناس سواء كان ملكه عاما أو خاصا في بعض الأشياء، فإنه لا يكاد يعطي الناس حقوقهم بل يستأثر عليهم بما استولى عليهم من المال، وإذا كان مع هذا جاهلا جافيا فسد بذلك الدين؛ لأنه لا يكون له همة في إصلاح دين الناس ولا تعليمهم، بل همته في جمع المال وإكثاره ولا يبالي بما أفسده من دين الناس ولا بمن ضاع من أهل حاجاتهم. (في خمس) أي معرفة وقت الساعة هي واحدة من خمس لا يعملهن إلا الله، وقيل: أي علم وقت قيام الساعة داخل في خمس من الغيب، فهو مرفوع المحل على الخبرية، تدل عليه رواية أبي نعيم في الحلية، وفيها قال: فمتى الساعة؟ قال: هي في خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله، ووجه الانحصار في هذه الخمس مع أن الأمور التي لا يعلمها إلا الله كثيرة هو أنهم سألوا الرسول عن هذه الخمس، فنزلت الآية جوابا لهم، أو أن هذه الخمسة أمهاتها وأصولها وما سواها راجعة إليها، والمراد من العلم في الحديث والآية العلم الكلي، وإليه إشارة بقوله: ?وعنده مفاتح الغيب? [6: 59]، فلا يعترض بما صدر عن الأولياء وبما يخبر به بعض الكهنة والمنجمين؛ لأن علم الجزئيات ليس بعلم في الحقيقة، فالعلم هو العلم الكلي، أو لأنه من الظن لا من العلم، فافهم، الآية تمامها: ?ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت. إن الله عليم خبير? [31: 34]. (متفق عليه) أي اتفق الشيخان على رواية أصل حديث أبي هريرة، مع قطع النظر عن خصوص الزيادة المذكورة، فإنها تفرد بها مسلم عن البخاري، نعم هي رواية الإسماعيلي كما ذكره الحافظ في الفتح، وحديث أبي هريرة أخرجه أيضا أبوداود والنسائي وابن ماجه ورواه النسائي أيضا عن أبي ذر مقرونا مع أبي هريرة.
(1/145)
4- (وعن ابن عمر) المراد به حيث
أطلق عبدالله بن عمر بن الخطاب، وإن كان لعمر أبناء آخرون أيضا، كما أنه يراد بابن
عباس وابن مسعود وابن الزبير عند الإطلاق هو عبدالله، بسط ترجمته الذهبي في
تذكرته، والحافظ في الإصابة، وهو أبوعبدالرحمن عبدالله بن عمر بن الخطاب القرشي
العدوي المكي، أسلم بمكة قديما مع أبيه وهو صغير وهاجر معه واستصغر عن أحد وشهد
الخندق وله خمس عشرة سنة وما بعدها، وهو أحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية،
وأحد العبادلة الأربعة، وكان من أهل الورع والعلم والزهد، شديد التحري والاحتياط
والاتباع للأثر، قال جابر بن عبدالله: ما منا أحد إلا مالت به الدنيا ومال بها، ما
خلا عمر وابنه عبدالله، وقال ميمون بن مهران: ما رأيت أورع من ابن عمر، ولا أعلم
من ابن عباس، وقال نافع: ما مات ابن عمر حتى أعتق ألف إنسان، أو زاد، وهو الذي قال
فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه رجل صالح، ومناقبه وفضائله كثيرة جدا، روي
له ألفا حديث وستمائة وثلاثون حديثا، اتفقا منها على مائة وسبعين حديثا، وانفرد
البخاري بأحد وثمانين، ومسلم بأحد
((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام
الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/146)
وثلاثين، وهو أكثر الصحابة رواية بعد أبي هريرة، ولد بعد البعثة بقليل، وما بعد الحج سنة 73هـ، وقيل: سنة 74هـ، بعد قتل ابن الزبير بثلاثة أشهر، وقيل: بستة أشهر، ودفن بالمحصب أو بفخ أو بذي طوى، وكلها مواضع بقرب مكة، ذكر الزبير أن عبدالملك لما أرسل إلى الحجاج أن لا يخالف ابن عمر شق عليه ذلك، فأمر رجلا معه حربة يقال: إنها كانت مسمومة، فلما دفع الناس من عرفة لصق ذلك الرجل به فأمر الحربة على قدمه فمرض منها أياما ثم مات وله 84 سنة، وقيل 86، روى عن خلق كثير. (بني الإسلام) ذكر المصنف هذا الحديث في كتاب الإيمان ليبين أن الإسلام يطلق على الأفعال، وأن الإسلام والإيمان بمعنى واحد، ولاشتماله على لفظ البناء الدال على تركب الإيمان صراحة، ولاحتوائه على أهم أجزاء الإيمان، وقد تقدم أن الإيمان عند السلف مركب ذو أجزاء، وأن الأعمال داخلة في حقيقتها. (على خمس) أي خمس دعائم، كما في رواية عبدالرزاق ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة، أو خصال أو قواعد أو نحو ذلك، مثلت حالة الإسلام مع أركانه الخمس بحالة خباء أقيمت على خمسة أعمدة وقطبها الذي تدور عليه الأركان هو الشهادة المشبهة بالعمود الوسط للخيمة، وبقية شعب الإيمان وخصاله بمنزلة الأوتاد للخباء وتتمة لها، فإذا فقد منها شيء نقص الخباء وهو قائم لا ينقض بنقص ذلك بخلاف نقص هذه الدعائم الخمس، فإن الإسلام يزول بفقدها جميعا بغير إشكال، وكذلك يزول بفقد الشهادتين، واختلفوا في ترك الصلاة، فذهب أحمد وطائفة من السلف والخلف إلى أن تركها كفر، واستدلوا بأحاديث متعددة تدل على كون تاركها كافرا، قال محمد بن نصر: هو قول جمهور أهل الحديث، وذهب طائفة منهم إلى أن من ترك شيئا من أركان الإسلام الخمس عمدا أنه كافر، قال النووي: حكم الإسلام في الظاهر يثبت بالشهادتين، وإنما أضيف إليهما الصلاة ونحوها لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها، وبقيامه بها يتم إسلامه، وتركه لها يشعر بانحلال
(1/147)
قيد انقياده أو اختلاله، فإن
قيل المبنى لا بد أن يكون غير المبنى عليه، أجيب بأن الإسلام عبارة عن المجموع،
والمجموع غير كل واحد من أركانه، أو يقال: إن المراد بالإسلام هو التذلل العام
الذي هو اللغوي لا التذلل الشرعي الذي هو فعل الواجبات حتى يلزم بناء الشيء على
نفسه، ومعنى الكلام أن التذلل اللغوي يترتب على هذه الأفعال مقبولا من العبد طاعة
وقربة. (شهادة أن لا إله إلا الله) بالجر على البدل من خمس، ويجوز الرفع على حذف
الخبر، والتقدير: منها شهادة أن لا إله إلا الله، أو على حذف المبتدأ والتقدير:
أحدها شهادة أن لا إله إلا الله، ويجوز النصب بتقدير أعني. (وإقام) أصلة إقامة،
حذفت تاؤه للازدواج، وقيل: هما مصدران (الصلاة) المفروضة أي المداومة عليها، أو
الإتيان بها بشروطها وأركانها (وإيتاء الزكاة) أي إعطائها أهلها (والحج وصوم
رمضان) لم يذكر الجهاد؛ لأنه من فروض الكفاية وتلك فرائض الأعيان، ولم يذكر
متفق عليه.
5- (4) وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول "لا إله إلا الله"، وأدناها
إماطة الأذى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإيمان بالأنبياء والملائكة وغير ذلك مما تضمنه حديث جبريل؛ لأن المراد بالشهادة
تصديق الرسل بكل ما جاء به، فيستلزم جميع ما ذكر من المعتقدات، والواو لمطلق الجمع
فلا يرد أن الصوم فرض في السنة الثانية من الهجرة، والحج سنة ست أو تسع على أنه
ورد في رواية لمسلم بتقديم الصوم على الحج، ووجه الحصر في الخمس أن العبادة إما
قولية وهي الشهادة، أو غير قولية فهي إما تركي وهو الصوم، أو فعلي وهو إما بدني
وهو الصلاة، أو مالي وهو الزكاة، أو مركب منهما وهو الحج (متفق عليه) أخرجه
البخاري في الإيمان وفي التفسير، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي
والنسائي في الإيمان.
(1/148)
5- قوله: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) البضع بكسر الباء وقد تفتح: القطعة من الشيء، وهو في العدد ما بين الثلاث إلى التسع؛ لأنه قطعة من العدد، وكونه عددا مبهما مقيدا بما بين الثلاث إلى التسع هو الأشهر، وفيه أقوال أخرى ذكرها العيني، واختلفت الروايات الصحيحة في ذكر العدد من غير شك، ففي مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي (بضع وسبعون)، وفي رواية البخاري (بضع وستون)، فرجح الحليمي وعياض والنووي الرواية الأولى؛ لأنها زيادة من ثقة فتقبل وتقدم، وليس في رواية الأقل ما يمنعها ويخالفها، قال الحافظ: لا يستقيم ذلك إذ الذي زادها لم يستمر على الجزم، لاسيما مع اتحاد المخرج، وقد رجح ابن الصلاح الأقل لكونه المتيقن – انتهى. وقيل: هو كناية عن الكثرة، وليس المراد التحديد، فإن كثيرا من أسماء العدد تجيء كذلك، ويحمل الاختلاف على تعدد القضية ولو من جهة راو واحد، و( الشعبة) بالضم القطعة والفرقة، وهي واحدة "الشعب" وهي أغصان الشجر، والمراد في الحديث الخصلة أي الإيمان ذو خصال متعددة، وكما شبه الإسلام في حديث ابن عمر المتقدم بخباء ذات أعمدة وأطناب شبه الإيمان في هذا الحديث بشجرة ذات أغصان وشعب، ومن المعلوم أن الشعب وكذا الأوراق والثمار أجزاء للشجرة، والأغصان والأوراق والثمار قد تكون وقد لا تكون مع بقاء الشجرة، كذلك الأعمال قد تكون وقد لا تكون مع بقاء أصل الإيمان، فنسبة الأعمال إلى الإيمان كنسبة الأغصان والأوراق والثمار إلى الشجرة، (فأفضلها) هو جزاء شرط محذوف، كأنه قيل: إذا كان الإيمان ذا شعب يلزم التعدد، وحصول الفاضل والمفضول بخلافه إذا كان أمرا واحدا، (قول لا إله إلا الله) المراد به مجموع الشهادتين عن صدق قلب، أو الشهادة بالتوحيد فقط لكن عن صدق قلب على أن الشهادة بالرسالة شعبة أخرى (وأدناها) أو أدونها مقدارا ومرتبة، بمعنى أقربها تناولا وأسهلها تواصلا من الدنو بمعنى القرب (إماطة الأذى) أي إزالته
(1/149)
وتنحيته وإبعاده، والأذى اسم
لما يؤذي
عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) متفق عليه.
6- (5) وعن عبدالله بن عمرو – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الطريق كالشوك والحجر والنجاسة ونحوها، وفي الحديث إشارة إلى أن مراتب الإيمان
متفاوتة (والحياء) بالمد (شعبة) أي عظيمة (من الإيمان) أي من شعبه، وهو في اللغة
تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، وقد يطلق على مجرد ترك الشيء بسبب،
والترك إنما هو من لوازمه، وفي الشرع خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من
التقصير في حق ذي الحق، ولهذا جاء في الحديث: ((الحياء خير كله))، فإن قيل: الحياء
من الغرائز، فكيف جعل شعبة من الإيمان؟ أجيب بأنه قد يكون غريزة، وقد يكون تخلقا،
ولكن استعماله على وفق الشرع يحتاج إلى اكتساب وعلم ونية، فهو من الإيمان لهذا،
ولكونه باعثا على أفعال الطاعة وحاجزا عن فعل المعصية، ولا يقال: رب حياء يمنع عن
قول الحق أو فعل الخير، فكيف يصح أن يقال: الحياء خير كله، ولا يأتي إلا بخير؛ لأن
ذلك ليس شرعيا بل هو عجز وخور، وإنما تسميته حياء من إطلاق بعض أهل العرف، أطلقوه
مجازا لمشابهته الحياء الحقيقي الشرعي، وإنما أفرد الحياء بالذكر من بين سائر
الشعب لأنه كالداعي إلى سائر الشعب، فإن الحي يخاف فضيحة الدنيا والآخرة فيأتمر
وينزجر، وقال الطيبي: معنى إفراد الحياء بالذكر بعد دخوله في الشعب كأنه يقول: هذه
شعبة واحدة من شعبه، فهل تحصى شعبه كلها؟ هيهات إن البحر لا يغرف، قال القاضي
عياض: تكلف جماعة حصر هذه الشعب بطريق الاجتهاد وفي الحكم يكون ذلك مراد النبي -
صلى الله عليه وسلم - صعوبة، ثم إنه لا يلزم معرفة أعيانها، ولا يقدح عدم معرفة
حصر ذلك على التفصيل في الإيمان، إذ أصول الإيمان وفروعه معلومة محققة، والإيمان
بأنها هذا العدد واجب في الجملة – انتهى. (متفق
(1/150)
عليه) أي اتفق الشيخان على
رواية أصل الحديث، وليس المراد أنهما اتفقا على خصوص اللفظ الذي ذكره، فلا يعترض
بأن قوله ((بضع وسبعون)) من إفراد مسلم، وكذا قوله ((فأفضلها)) إلى قوله ((عن
الطريق)) من إفراده فلا يكون متفقا عليه.
6- قوله: (وعن عبدالله بن عمرو) كتب بالواو ليتميز عن عمر، ومن ثمة لم يكتب حالة
النصب لتميزه عنه بالألف، وهو ابن العاص السهمي القرشي أبومحمد، أسلم قبل أبيه،
وكان بينه وبين أبيه في السن اثنتي عشرة سنة، وقيل: إحدى عشرة، وكان غزير العلم
كثير الاجتهاد في العبادة، وكان أكثر حديثا من أبي هريرة لأنه كان يكتب وأبوهريرة
لا يكتب، ومع ذلك فالذي روي له قليل بالنسبة إلى ما روي لأبي هريرة، روي له
سبعمائة حديث، اتفقا منها على سبعة عشر، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بعشرين،
روى عنه خلق كثير، كان يلوم أباه على القتال في الفتنة بأدب وتؤدة، ويقول: واصفين
مالي ولقتال المسلمين لوددت أني مت قبلها بعشرين سنة، توفي بمكة أو بالطائف أو
بمصر في ذي الحجة من سنة (63)، أو (65)، أو (67)، وقيل مات سنة (72)، أو (73)، عن
((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/151)
اثنتين وسبعين سنة. (المسلم) أي الكامل، نحو زيد الرجل، أي كامل في الرجولة، والمال الإبل، والناس العرب، وقيل: معناه: المسلم الممدوح، قال ابن جني: من عادتهم أن يوقعوا على الشيء الذي يخصونه بالمدح اسم الجنس، ألا ترى كيف سموا الكعبة بالبيت، وكتاب سيبويه بالكتاب – انتهى. فإن قيل: إنه يستلزم أن من اتصف بهذا خاصة كان كاملا، أجيب بأن المراد هو الكامل مع مراعاة باقي الأركان والصفات، قال الخطابي: المراد أفضل المسلمين من جمع إلى أداء حقوق الله، وأداء حقوق المسلمين – انتهى. واقتصر على الثاني لأن الأول مفهوم بالطريق الأولى، ويمكن أن يكون هذا واردا على سبيل المبالغة تعظيما لترك الإيذاء، فهو محصور فيه على سبيل الادعاء، وأمثاله كثيرة، والحاصل أن القصر فيه باعتبار تنزيل الناقص منزلة المعدوم، فلا حاجة إلى تقدير الكمال، ويحتمل أن يكون المراد بذلك أن يبين علامة المسلم التي يستدل بها على إسلامه، وهي سلامة المسلمين من لسانه ويده كما ذكر مثله في علامة المنافق (من) أي إنسان كان ذكرا أو أنثى (سلم المسلمون) أي والمسلمات إما تغليبا، أو تبعا كما في سائر النصوص والمخاطبات، ويلحق بهم أهل الذمة حكما، فذكر المسلمين خرج مخرج الغالب؛ لأن محافظة المسلم على كف الأذى عن أخيه المسلم أشد تأكيدا، ولأن الكفار بصدد أن يقاتلوا وإن كان فيهم من يجب الكف عنه، ووقع في رواية ابن حبان: من سلم الناس (من لسانه) أي بالشتم واللعن والغيبة والبهتان والنميمة والسعي إلى السلطان وغير ذلك، (ويده) بالضرب والقتل والهدم والدفع والكتابة بالباطل ونحوها، وخصا بالذكر لأن أكثر الأذى بهما، أو أريد بهما مثلا، وقدم اللسان لأن الإيذاء به أكثر وأسهل، ولأنه أشد نكاية، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لحسان: اهج المشركين فإنه أشق عليه من رشق النبل، ولأنه يعم الأحياء والأموات، وابتلي به الخاص ولعام خصوصا في هذه الأيام، وعبر
(1/152)
به دون القول ليشمل إخراجه
استهزاء لغيره، وقيل: خص اليد مع أن الفعل قد يحصل بغيرها لأن سلطنة الأفعال إنما
تظهر بها إذ بها البطش والقطع والوصل والمنع والإعطاء والأخذ ونحوه، وقال
الزمخشري: لما كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدي غلبت، فقيل في كل عمل "هذا
مما عملته أيديهم" وإن لم يكن وقوعه بها، ثم الحد والتعزير وتأديب الأطفال
والدفع لنحو الصيال ونحوها فهي استصلاح وطلب السلامة، أو مستثنى شرعا، أو لا يطلق
عليه الأذى عرفا. (والمهاجر) هو بمعنى الهاجر وإن كان لفظ المفاعل يقتضي وقوع فعل
من اثنين لكنه هنا للواحد كالمسافر بمعنى السافر، والمنازع بمعنى النازع، لأن باب
فاعل قد يأتي بمعنى فعل (هجر) أي ترك وهذه الهجرة ضربان: ظاهرة، وباطنة، فالباطنة
ترك ما تدعوا إليه النفس الأمارة بالسوء والشيطان، والظاهرة الفرار بالدين من
الفتن، وكان المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتكلوا على مجرد تحولهم من دارهم حتى
يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيه، ويحتمل أن يكون ذلك بعد انقطاع الهجرة لما فتحت مكة
تطييبا لقلوب من لم يدرك ذلك، بل حقيقة الهجرة تحصل لمن هجر ما نهى
ما نهى الله عنه))، وهذا لفظ البخاري، ولمسلم قال: ((إن رجلا سأل النبي - صلى الله
عليه وسلم - أي المسلمين خير؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده)).
7- (6) وعن أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا
يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/153)
الله عنه، فاشتملت هاتان الجملتان على جوامع من معاني الحكم والأحكام، كذا في الفتح، وفي الحديث بيان شعبتين من شعب الإيمان وهما سلامة المسلمين من لسان المسلم ويده، وهجر ما نهى الله عنه. (هذا لفظ البخاري) وأخرجه أبوداود والنسائي، (ولمسلم) أي في صحيحه عن عبدالله بن عمرو (خير) أي أفضل وأكمل، ورواه البخاري من حديث أبي موسى بلفظ ((قالوا: أي الإسلام أفضل؟ قال: من سلم المسلمون...))الخ، والمراد أي ذوي الإسلام، أو أي أصحاب الإسلام، وفيه بيان للتأويل الذي ذكرناه في قوله ((المسلم)) من أنه محمول على التفضيل، والمراد المسلم الكامل، أو أفضل المسلمين، هذا، وقد ثبت من كون من سلم الناس من أذاه أفضل المسلمين وأخيرهم وأكملهم أن بعض خصال المسلمين المتعلقة بالإسلام أفضل من بعض، وحصل منه القول بقبول الإيمان للزيادة والنقصان، ففيه رد على المرجئة فإنه ليس عندهم إيمان وإسلام ناقص.
(1/154)
7- قوله: (وعن أنس) بن مالك بن
النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام الأنصاري الخزرجي النجاري، خادم رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -، نزيل البصرة، خدمه عشر سنين بعد ما قدم رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - المدينة، وهو ابن عشر سنين، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- ألفا حديث ومائتا حديث وست وثمانون حديثا، اتفقا على مائة وثمانية وستين حديثا
منها، وانفرد البخاري بثلاثة وثمانين، ومسلم بأحد وتسعين، وكان أكثر الصحابة ولدا،
قالت أمه: يا رسول الله خويدمك أنس ادع الله له، فقال: اللهم بارك في ماله وولده
وأطل عمره واغفر ذنبه، فقال: لقد دفنت من صلبي مائة إلا اثنين، وكان له بستان يحمل
في سنة مرتين، وفيه ريحان يجيء منه ريح المسك، وقال لقد بقيت حتى سئمت من الحياة
وأنا أرجو الرابعة أي المغفرة، قيل: عمر مائة سنة وزيادة، وهو آخر من مات من
الصحابة بالبصرة سنة (93هـ)، روى عنه خلق كثير، وكنيته أبوحمزة، وهي اسم بقلة كان
يحبها، ومنه حديث أنس: ((كناني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببقلة كنت
أجتنيها))، (لا يؤمن) أي لا يكمل إيمان من يدعي الإيمان، فالمراد بالنفي كمال
الإيمان ونفي اسم الشيء على معنى نفي الكمال عنه مستفيض في كلامهم كقولهم: فلان
ليس بإنسان. (حتى أكون) بالنصب بأن مضمرة، وحتى جارة، ومعنى هذه الغاية أعني حتى
أكون ههنا وفي أمثاله هو أنه لا يكمل الإيمان بدون هذه الغاية، لا أن حصول هذه
الغاية كافية في كمال الإيمان وإن لم يكن هناك شيء آخر. (أحب) بالنصب لأنه خبر
أكون، وهو أفعل التفضيل بمعنى المفعول، وهو على خلاف القياس وإن كان كثيرا، إذ
القياس أن يكون بمعنى الفاعل، وقال ابن
من والده وولده والناس أجمعين)) متفق عليه.
8- (7) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن
حلاوة الإيمان:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/155)
مالك: إنما يشذ بناءه للمفعول إذا خيف اللبس بالفاعل، فإن أمن بأن لم يستعمل للفاعل، أو قرن به ما يشعر بأنه للمفعول لا يشذ...الخ، وفصل بينه وبين معموله "من والده" لأن الممتنع الفصل بأجنبي لا مطلقا، والظرف فيه توسع فلا يمنع. (من والده) المراد به ذات له ولد، أو هو بمعنى ذو ولد نحو لابن وتامر، فيتناول الأب والأم كليهما، أو يقال: اكتفى بذكر أحدهما كما يكتفى عن أحد الضدين بالآخر، ولم يذكر النفس لأنها داخلة في عموم قوله "والناس أجمعين"، أو لم تكن حاجة إلى ذكرها مع ذكر الوالد والولد لأنهما أعز على العاقل من الأهل والمال، بل ربما يكونان أعز من نفس الرجل على الرجل، فذكرهما إنما هو على سبيل التمثيل، فكأنه قال "حتى أكون أحب إليه من جميع أعزته"، ويعلم منه حكم غير الأعزة؛ لأنه يلزم في غيرهم بالطريق الأولى. (وولده) أي الذكر والأنثى (والناس أجمعين) هو من عطف العام على الخاص، وهو كثير كقوله تعالى: ?ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم? [15: 87]، قال الخطابي: لم يرد بالحب حب الطبع، بل أراد به حب الاختيار المسند إلى الإيمان؛ لأن حب الإنسان أهله وماله طبع مركوز فيه، خارج عن حد الاستطاعة، ولا سبيل إلى قلبه، قال: فمعناه لا يصدق في إيمانه حتى يفدي في طاعتي نفسه ويؤثر رضاي على هواه وإن كان فيه هلاكه – انتهى. وحاصله ترجيح جانبه - صلى الله عليه وسلم - في أداء حقه بالتزام طاعته، واتباع طريقته على كل من سواه، قال النووي: المحبة أصلها الميل إلى ما يوافق المحب، ثم الميل قد يكون بما يستلذه بحواسه كحسن الصورة والصوت والطعام وبما يستلذه بعقله كمحبة الفضل والجمال، وقد يكون لإحسانه إليه ودفعه المضار عنه، ولا يخفى أن المعاني الثلاثة كلها موجودة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لما جمع من جمال الظاهر والباطن وكمال أنواع الفضائل، وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايتهم إلى الصراط المستقيم ودوام النعيم،
(1/156)
والإبعاد من الجحيم، ولا شك أن
الثلاثة فيه أكمل مما في الوالدين لو كانت فيها فيجب كونه أحب منهما؛ لأن المحبة
ثابتة لذلك، حاصلة بحسبها، كاملة بكمالها، ومن محبته وحقه نصرة سنته والذب عن
شريعته وقمع مخالفيها وامتثال أوامره وتمني إدراكه في حياته ليبذل نفسه وماله
دونه، والحديث صريح في أن محبة الرسول من أمور الإيمان، والناس فيها متفاوتون وهو
يستلزم زيادة الإيمان ونقصانه. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والنسائي في الإيمان
وابن ماجه في السنة.
8- قوله: (ثلاث) مبتدأ والجملة الشرطية خبر، وجاز مع أنه نكرة لأن التقدير خصال
ثلاث، أو ثلاث خصال، أو تنوينه للتعظيم فجاز الابتداء به، ويجوز أن تكون الشرطية
صفة له ويكون الخبر من كان (من كن) أي حصلن فيه فهي تامة، أو من كن مجتمعة فيه وهي
ناقصة (وجد بهن) أي بسبب وجودهن في نفسه (حلاوة الإيمان) أي حسنه
من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/157)
من حلي فلان في عيني وبعيني بالكسر يحلى بالفتح: إذا حسن وأعجب، أو لذته وطعمه من حلاله الشيء يحلو: أي لذ فهو حلو وهو نقيض المر، والأظهر الثاني على ما لا يخفى، فالمراد بحلاوة الإيمان التلذذ بالطاعات، وتحمل المشاق في رضى الله ورسوله، وإيثار ذلك على عرض الدنيا، وذلك لأن المرء إذا تأمل أن الشارع لا يأمر ولا ينهى إلا بما فيه صلاح عاجل أو خلاص آجل يصير هواه تبعا له فيلتذ بامتثال أوامره، وتحمل المشقة في رضى الله ورسوله، قال الحافظ في الفتح: قوله حلاوة الإيمان استعارة تخييلية، شبه رغبة المؤمن في الإيمان بشيء حلو، وأثبت له لازم ذلك الشيء، وأضافه إليه، وفيه تلميح إلى قصة المريض والصحيح؛ لأن المريض الصفراوي يجد طعم العسل مرا، والصحيح يذوق حلاوته على ما هي عليه، وكلما نقصت الصحة شيئا ما نقص ذوقه بقدر ذلك، فكانت هذه الاستعارة من أوضح ما يقوي استدلال المصنف أي البخاري على الزيادة والنقص – انتهى. وإنما عبر الالتذاذ بالطاعات بالحلاوة لأنها أظهر اللذائذ الحسية، وإن كان لا نسبة بين هذه اللذة واللذات الحسية، وهذه الأمور الثلاثة عنوان لكمال الإيمان المحصل لتلك اللذة التي ربما تغلب على جميع لذات الدنيا، قال البيضاوي: وإنما جعل هذه الأمور الثلاثة عنوانا لكمال الإيمان لأن المرء إذا تأمل أن المنعم بالذات هو الله تعالى، وأن لا مانح ولا مانع في الحقيقة سواه، وأن ما عداه وسائط، وأن الرسول هو الذي يبين له مراد ربه اقتضى ذلك أن يتوجه بكليته نحوه، فلا يحب إلا ما يحب ولا يحب من يحب إلا من أجله، وإن يتيقن أن جملة ما وعدوا وعد حق يقينا ويخيل إليه الموعود كالواقع، فيحسب أن مجالس الذكر رياض الجنة، وأن العود إلى الكفر إلقاء في النار – انتهى ملخصا، قال القاضي عياض: هذا الحديث بمعنى حديث ((ذاق طعم الإيمان من رضي الله ربا...))الخ، وذلك أنه لا تصح محبة الله ورسوله حقيقة وحب الآدمي في الله ورسوله وكراهة
(1/158)
الرجوع في الكفر إلا لمن قوي
الإيمان في نفسه، وانشرح له صدره، وخالط لحمه ودمه، هذا هو الذي وجد حلاوته، قال:
والحب في الله من ثمرات حب الله (من كان) لا بد من تقدير مضاف قبله؛ لأنه على
الوجه الأول إما بدل أو بيان أو خبر لمبتدأ محذوف هو "هي" أو
"هن"، أو "إحداها" وعلى الثاني خبر، أي محبة من كان (الله
ورسوله) برفعهما (أحب إليه) بالنصب على أنه خبر كان (مما سواهما) من نفس وأهل ومال
وكل شيء، ولم يقل ممن سواهما ليعم من يعقل ومن لا يعقل، ومحبة العبد ربه بفعل
طاعته وترك مخالفته، وكذلك محبة الرسول، وثنى الضمير في سواهما مع أنه رد على
الخطيب قوله ((ومن يعصهما فقد غوى)) فقال: ((بئس الخطيب أنت)) إيماء إلى أن
المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين لا كل واحدة منهما، فإنها وحدها ضائعة
لاغية، وأمر بالإفراد في حديث الخطيب إشعارا بأن كل واحد من المعطوفين مستقل
باستلزام الغواية، إذ العطف في تقدير التكرير، والأصل استقلال كل من المعطوفين في
الحكم، وله أجوبة أخرى ذكرها الحافظ في الفتح (ومن أحب) أي
عبدا لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره
أن يلقى في النار)) متفق عليه.
9- (8) وعن العباس بن عبدالمطلب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/159)
وثانيتها محبة من أحب (لا يحبه) أي لشيء (إلا لله) استثناء مفرغ، والجملة حال من الفاعل أو المفعول أو منهما. (ومن يكره) أي وثالثتها كراهة من كره (أن يعود) أي يصير أو يرجع ويتحول (في الكفر بعد أن أنقذه الله) أي أخلصه: قال الحافظ: الإنقاذ أعم من أن يكون بالعصمة منه ابتداء بأن يولد على الإسلام ويستمر، أو بالإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان كما وقع لكثير من الصحابة، وعلى الأول فيحمل قوله "يعود" على معنى الصيرورة بخلاف الثاني فإن العود فيه على ظاهره – انتهى، و"في" هذا بمعنى "إلى" كما في قوله تعالى: ?أو لتعودن في ملتنا? [7: 88]، أي تصيرن إلى ملتنا (كما يكره) الكاف للتشبيه وما مصدرية، أي مثل كرهه (أن يلقى) في محل النصب؛ لأنه مفعول يكره، وأن مصدرية أي الإلقاء وهو على صيغة المجهول (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه.
(1/160)
9- قوله: (وعن العباس بن
عبدالمطلب) أي عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكنيته أبوالفضل، وكان أسن من
النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنتين، وقيل بثلاث سنين، وضاع وهو صغير فنذرت أمه
إن وجدته أن تكسو البيت الحرير، فوجدته فكست البيت الحرير، فهي أول عربية كست ذلك،
وكان إليه في الجاهلية سقاية الحاج وعمارة البيت، والمراد بها أنه كان يحمل قريشا
على عمارته بالخير وترك السيئات فيه وقول الهجر، وحضر بيعة العقبة مع الأنصار قبل
أن يسلم، وشهد بدرا مع المشركين مكرها، فأسر فافتدى نفسه وابن أخيه عقيل بن أبي
طالب ورجع إلى مكة، فيقال: إنه أسلم وكتم قومه ذلك وصار يكتب إلى النبي - صلى الله
عليه وسلم - بالأخبار، ثم هاجر قبل الفتح بقليل، وشهد الفتح وثبت يوم حنين، وقال
النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من آذى العباس فقد آذاني، فإنما عم الرجل صنو
أبيه))، أخرجه الترمذي في قصة، قال سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب: كان العباس أعظم
الناس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والصحابة يعترفون للعباس فضله
ويشاورونه ويأخذون رأيه، وقال مجاهد: أعتق العباس عند موته سبعين مملوكا، وقال ابن
عبدالبر: كان رئيسا في الجاهلية، وإليه العمارة والسقاية وأسلم قبل فتح خيبر، وكان
أنصر الناس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أبي طالب، وكان جوادا مطعما
وصولا للرحم ذا رأي حسن ودعوة مرجوة، وكان لا يمر بعمر وعثمان وهما راكبان إلا
نزلا حتى يجوز إجلالا له، وفضائله ومناقبه كثيرة وترجمته مطولة في تاريخ دمشق، مات
بالمدينة يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت من رجب، أو رمضان سنة 32هـ، وهو ابن (88) سنة
ودفن بالبقيع، روي له خمسة وثلاثون حديثا، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري
ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا)) رواه مسلم.
(1/161)
10- (9) وعن أبي هريرة – رضي
الله عنه – قال: قال رسول الله: ((والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه
الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب
النار)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بحديث، ومسلم بثلاثة، روى عنه جماعة (ذاق طعم الإيمان) أي حلاوة الإيمان ولذته (من
رضي الله بالله ربا) منصوب على التمييز وكذا أخواته، قال صاحب التحرير: معنى رضيت
بالشيء: قنعت به، واكتفيت به، ولم أطلب معه غيره، فمعنى الحديث: لم يطلب غير الله
تعالى ولم يسع في غير طريق الإسلام ولم يسلك إلا ما يوافق شريعة محمد - صلى الله
عليه وسلم -، ولا شك في أن من كانت هذه صفته فقد خلصت حلاوة الإيمان إلى قلبه وذاق
طعمه، وقال القاضي عياض: معنى الحديث: صح إيمانه واطمأنت به نفسه وخامر باطنه؛ لأن
رضاه بالمذكورات دليل لثبوت معرفته ونفاذ بصيرته ومخالطة بشاشته قلبه؛ لأن من رضي
أمرا سهل عليه فكذا المؤمن إذا دخل قلبه الإيمان سهل عليه طاعات الله تعالى ولذت
له (رواه مسلم) وكذا أحمد (ج1: ص208) والترمذي في الإيمان وصححه.
(1/162)
10- قوله: (لا يسمع بي) هو
جواب القسم، والباء زائدة، وقيل: بمعنى من، قال القاري: والأظهر أنها لتأكيد
التعدية كما في قوله تعالى: ?ما سمعنا بهذا? [38: 7]، وضمن معنى الإخبار أي ما
يسمع مخبرا ببعثي، وحاصل المعنى لا يعلم برسالتي (أحد) أي ممن هو موجود في زمني
وبعدي إلى يوم القيامة فكلهم ممن يجب عليه الدخول في طاعته (من هذه الأمة) أي أمة
الدعوة وهم الخلق جميعا، ومن تبعيضية، وقيل: بيانية (يهودي ولا نصراني) صفتان
لأحد، وحكم المعطلة وعبدة الأوثان يعلم بالطريق الأولى؛ لأن اليهود والنصارى لهم
كتاب، فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتابا فغيرهم ممن لا كتاب له أولى، أو بدلان
عنه بدل البعض من الكل، وخصا بالذكر لأن كفرهما أقبح لكونهم يعرفونه كما يعرفون
أبناءهم، قال تعالى: ?يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل? [7: 157] وعلى كل
لا زائدة لتأكيد الحكم (ثم يموت) ثم للاستبعاد كما في قوله تعالى: ?ومن أظلم ممن
ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها? [32: 22]، أي ليس أحد أظلم ممن بينت له آيات الله
الظاهرة والباطنة ودلائله القاهرة فعرفها ثم أنكرها أي بعيد عن العاقل، قاله
الطيبي (إلا كان) أي في علم الله، أو بمعنى يكون وتعبيره بالمضي لتحقق وقوعه، وهو
استثناء مفرغ من أعم الأحوال، قال القاري: "لا" في لا يسمع بمعنى ليس،
و"ثم يموت" عطف على يسمع المثبت، و"لم يؤمن" عطف على يموت، أو
حال من فاعله وليس لنفي هذا المجموع، وتقديره: ليس أحد يسمع بي ثم يموت ولم يؤمن،
أو غير مؤمن كائنا من أصحاب شيء إلا من أصحاب النار – انتهى. وذلك لأن معجزته
القرآن المستمر إلى يوم القيامة مع خرقه العادة في
رواه مسلم.
11- (10) وعن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: ((ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/163)
أسلوبه وأخباره بالمغيبات،
وعجز الجن والإنس عن أن يأتوا بسورة مثله يوجب الإيمان برسالته، ويوجب الدخول على
الكل في طاعته، فمن لم يؤمن بما أرسل به كان من أصحاب النار. قال النووي: في
الحديث نسخ الملل كلها برسالة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وفي مفهومه دلالة على
أن من لم يبلغه دعوة الإسلام فهو معذور. (رواه مسلم) هو من إفراد مسلم من بين
أصحاب الكتب الستة.
11- قوله: (وعن أبي موسى الأشعري) نسبة إلى الأشعر، أحد أجداده وهو عبدالله بن قيس
بن سليم بن حضار الأشعري، مشهور باسمه وكنيته معا، قيل: إنه قدم مكة قبل الهجرة،
فأسلم ثم هاجر إلى الحبشة، ثم قدم المدينة مع أصحاب السفينتين بعد فتح خيبر، وقيل:
بل رجع إلى بلاد قومه، ولم يهاجر إلى الحبشة، ثم خرج من بلاد قومه في سفينة
فألقتهم الريح بأرض الحبشة، فوافقوا بها جعفر بن أبي طالب، فأقاموا عنده ورافقوه إلى
المدينة، وهذا قول الأكثر، وهو أصح، واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على
بعض اليمن كزبيد وعدن وأعمالهما، واستعمله عمر على البصرة بعد المغيرة فافتتح
الأهواز ثم الأصبهان ثم استعمله عثمان على الكوفة، ثم كان أحد الحكمين بصفين، ثم
اعتزل الفريقين، وكان حسن الصوت بالقرآن، وفي الصحيح المرفوع: ((لقد أوتي مزمارا
من مزامير آل داود))، وقال أبوعثمان النهدي: صليت خلف أبي موسى فما سمعت في
الجاهلية صوت صنج ولا بربط ولا نأي أحسن من صوت أبي موسى بالقرآن، وكان عمر إذا
رآه قال: ذكرنا يا أباموسى، وفي رواية: شوقنا إلى ربنا، فيقرأ عنده، وكان أبوموسى
هو الذي فقه أهل البصرة وأقرأهم، وأخرج البخاري عن الحسن قال: ما أتاها – يعني
البصرة – راكب خير لأهلها منه، يعني من أبي موسى، قال الشعبي: كتب عمر في وصيته أن
لا يقر لي عامل أكثر من سنة، واقروا الأشعري أربع سنين، ومناقبه كثيرة، له ثلاثمائة
وستون حديثا، اتفقا على خمسين، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة وعشرين، روى
(1/164)
عن خلق، مات سنة (50)، وقيل
بعد ذلك، وهو ابن (63)، قيل: بالكوفة، وقيل: بمكة. (ثلاثة) مبتدأ تقديره: ثلاثة
رجال، أو رجال ثلاثة (لهم أجران) أي لكل واحد أجران يوم القيامة، وهو مبتدأ وخبر،
والجملة خبر المبتدأ الأول (رجل) خبر مبتدأ محذوف، تقديره: أولهم أو أحدهم بدل من
ثلاثة بدل البعض، بالنظر إلى كل رجل بدل الكل بالنظر إلى المجموع، وقيل: غير ذلك،
وحكم المرأة الكتابية حكم الرجل كما هو مطرد في جل الأحكام، حيث يدخلن مع الرجال
بالتبعية إلا ما خصه الدليل (من أهل الكتاب) في محل الرفع؛ لأنه صفة لرجل، ولفظ
الكتاب عام ومعناه خاص أي المنزل من عند الله، والمراد به التوراة والإنجيل، كما
تظاهرت به نصوص الكتاب والسنة، حيث يطلق
آمن بنبيه وآمن بمحمد ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/165)
أهل الكتاب، ويؤيد العموم أي الحمل على أهل التوراة والإنجيل، أعني اليهود والنصارى ما رواه أحمد في مسنده (ج5: ص259) عن أبي أمامة قال: إني لتحت راحلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، فقال قولا حسنا جميلا وقال فيما قال: ((من أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين، وله ما لنا، وعليه ما علينا، ومن أسلم من المشركين فله أجره، وله ما لنا وعليه ما علينا))، وما رواه النسائي في آداب القضاة (ج2: ص265) عن ابن عباس في تأويل قوله عز وجل: ?ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون? [5: 44] من حديث طويل وفيه فقال الله تبارك وتعالى: ?يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته? [57: 28] أجرين بإيمانهم بعيسى وبالتوراة والإنجيل، وبإيمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -...الحديث، ويؤيده أيضا أن الحديث مستفاد من قوله تعالى: ?أولئك يؤتون أجرهم مرتين? [28: 53]، وأنه نزل في عبدالله بن سلام وأشباهه، كما رواه الطبراني من حديث رفاعة القرظي، والطبري عن علي بن رفاعة القرظي وغيره أنها نزلت في رفاعة القرظي، وعبدالله بن سلام، وسلمان وغيرهم من أهل الكتاب الذين كانوا بالمدينة، وأما ما ورد في البخاري (ج1: ص490) في كتاب الأنبياء، وإذا آمن بعيسى ثم آمن بي بدل قوله "من أهل الكتاب" وهو يدل على أن المراد في حديث الباب أهل الإنجيل أي النصارى فقط، فهو محمول على اقتصار الراوي واختصاره، والأصل كما ذكره آخرون، فإن قيل: حمل الكتاب على العموم حتى يشمل اليهود صعب جدا؛ لأنهم كفروا بعيسى – عليه السلام – فحبط إيمانهم بموسى، ثم إنهم لما آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - لم يبق لهم إلا عمل واحد، وهو الإيمان بنبينا - صلى الله عليه وسلم - فلا يستحقون عليه إلا أجرا واحدا، قلنا: من دخل في اليهودية من غير بني إسرائيل ولم يكن بحضرة عيسى عليه السلام فلم تبلغه دعوته، يصدق عليه أنه يهودي مؤمن، إذ
(1/166)
هو مؤمن بنبيه موسى عليه
السلام، ولم يكذب نبينا آخر بعده، فمن أدرك بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - ممن
كان بهذه المثابة وآمن به لا يشكل أنه يدخل في حديث أبي موسى، ومن هؤلاء عرب نحو
اليمن متهودون ولم تبلغهم دعوة عيسى لكونه أرسل إلى بني إسرائيل خاصة إجماعا دون
غيرهم، وكذا يدخل في قوله "أهل الكتاب" يهود المدينة الذين كانوا بحضرة
النبي - صلى الله عليه وسلم - كما دخلوا في قوله تعالى: ?أولئك يؤتون أجرهم مرتين?
لأنه لم تبلغهم دعوة عيسى عليه السلام؛ لكونها لم تنتشر في أكثر العباد فاستمروا
على يهوديتهم مؤمنين بنبيهم موسى عليه السلام إلى أن جاء الإسلام فآمنوا بمحمد -
صلى الله عليه وسلم -، وقيل: الظاهر أنه بلغ عبدالله بن سلام وأصحابه ممن أسلموا
من يهود المدينة خبر عيسى عليه السلام كسائر الأخبار تحمل من بلد إلى بلد من غير
أن يبلغ إليه الدعوة إلى شريعته بخصوصها، فآمنوا به وصدقوه، فحاشا مثل ابن سلام
وأضرابه مع سعة علومهم، وكمال عقولهم، وسلامة فطرتهم، أن يبلغ إليهم خبر عيسى ثم
يكذبوه، فلا نسيء الظن بهم، وإذا كان الأمر كذلك فقد كفاهم تصديقهم به إجمالا
لاستحقاق أجر إيمانهم عن عهدة التزام شريعته؛ لأنه لم تبلغهم الدعوة إلى شريعته
بخصوصها
والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة يطأها فأدبها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/167)
فلم يكن عليهم إلا التصديق مجملا، وحينئذ بقاءهم على اليهودية لا يمنع من إحراز الأجر، ثم لما آمنوا بنبينا - صلى الله عليه وسلم - حصل لهم الأجر مرتين، نعم يخرج من الحديث يهود الشام من بني إسرائيل الذين بعث فيهم عيسى ودعاهم إلى شريعته، فكذبوه وكفروا به، فلا يحصل لهم بالإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أجر واحد، وقال الطيبي: يحتمل إجراء الحديث على عمومه، إذ لا يبعد أن يكون طريان الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - سببا لثوابه على الإيمان السابق وسببا لقبول تلك الأعمال والأديان، وإن كانت منسوخة كما ورد في الحديث ((إن مبرات الكفار وحسناتهم مقبولة بعد إسلامهم)) – انتهى. واعلم أنه قال بعضهم: إن الكتابي الذي يضاعف أجره مرتين هو الذي بقي على ما بعث به نبيه من غير تبديل وتحريف، فمن كان على الحق في شرعه عقدا وفعلا إلى أن آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فله الأجر مرتين، ومن بدل منهم أو حرف لم يبق له أجر في دينه، فليس له أجر إلا بإيمانه بنبينا - صلى الله عليه وسلم -. قلت: هذا خلاف نص الحديث؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك في أهل زمانه من اليهود والنصارى، وحالهم في التحريف والتبديل معلوم، وقال الحافظ: ويشكل عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى هرقل: ((أسلم يؤتك الله أجرك مرتين))، وهرقل ممن دخل النصرانية بعد التبديل، ثم إن الكرماني قال: هذا مختص بمن آمن من أهل الكتاب في عهد البعثة، فلا يشمل من آمن منهم في زماننا، وعلل ذلك بأن نبيهم بعد البعثة إنما هو محمد - صلى الله عليه وسلم - باعتبار عموم بعثته، قال الحافظ: وقضيته أن ذلك أيضا لا يتم لمن كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن خصه بمن لم تبلغه الدعوة فلا فرق في ذلك بين عهده وبعده، فما قاله شيخنا أظهر، أراد به ما قاله من أن هذه الثلاثة المذكورة في الحديث مستمرة إلى يوم القيامة، وتعقبهما العيني بما يطول
(1/168)
الكلام بذكره، ثم إنه مخصوص
بما عدا أكابر الصحابة بالإجماع، فيدخل في هذا الحكم كل صحابي لا يدل دليل على
زيادة أجره على من كان كتابيا، والله أعلم. (والعبد المملوك) وصف به لأن جميع
الناس عباد الله، فأراد تمييزه بكونه مملوكا للناس (إذا أدى حق الله) مثل الصلاة
والصوم ونحوهما (وحق مواليه) من خدمتهم الجائزة جهده وطاقته، وجمع الموالي لأن
المراد بالعبد جنس العبيد، حتى يكون عند التوزيع لكل عبد مولى؛ لأن مقابلة الجمع
بالجمع أو ما يقوم مقامه مفيدة للتوزيع، أو أراد أن استحقاق الأجرين إنما هو عند
أداء حق جميع مواليه لو كان مشتركا بين طائفة مملوكا لهم، لا يقال: إنه يلزم أن
يكون أجر المماليك ضعف أجر السادات؛ لأنه قد يكون للسيد جهات أخر يستحق بها أضعاف
أجر العبد، أو المراد ترجيع العبد المؤدي للحقين على العبد المؤدي لأحدهما (كانت
عنده أمة) في محل الرفع؛ لأنها صفة رجل، وارتفاع أمة لكونها اسم كانت (يطأها) أي
يحل وطؤها سواء صارت موطوءة أو لا، وهو في محل الرفع؛ لأنه صفة لأمة (فأدبها) بأن
راضها بحسن الأخلاق وحملها على جميل الخصال من الأدب، وهو حسن الأحوال والأخلاق،
فالتأديب
فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها فله أجران ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/169)
يتعلق بالمروءات والأمور الدنيوية، وهو عطف على يطأها (فأحسن تأديبها) أن استعمل معها الرفق واللطف واجتنب العنف والضرب، وبذل الجهد في إصلاحها (وعلمها) ما لا بد من أحكام الشريعة لها (فأحسن تعليمها) بتقديم الأهم فالأهم (ثم أعتقها) بعد ذلك كله، عطفه بثم خلا الجميع فإنه عطفه بالفاء، قال العيني: لأن التأديب والتعليم يتعقبان على الوطأ، بل لابد ههنا من نفس الوطأ، بل قبله أيضا لوجوبهما على السيد بعد التملك بخلاف الإعتاق، أو لأن الإعتاق نقل من صنف من أصناف الأناسي إلى صنف آخر منها، ولا يخفى ما بين الصنفين المنتقل منه والمنتقل إليه من البعد من الضدية في الأحكام، والمنافاة في الأحوال، فناسب لفظ دال على التراخي بخلاف التأديب – انتهى. (فله) أي فللرجل الأخير (أجران) أجر على إعتاقه وأجر على تزوجه، فالأجران على هذين العملين على الإعتاق؛ لأنه عبادة بنفسها، وعلى النكاح لأن التزوج بعد العتق عبادة أخرى، وفائدة ذكر التأديب والتعليم أنها أكمل للأجر إذ تزوج المرأة المؤدبة المعلمة أكثر بركة وأقرب أن تعين زوجها على دينه، ولم يقتصر على قوله أولا فلهم أجران، مع كونه داخلا في الثلاثة بحكم العطف؛ لأن الجهة كانت فيه متعددة، هي التأديب والتعليم والعتق والتزوج، وكانت مظنة أن يستحق الأجر أكثر من ذلك، فأعاد قوله "فله أجران" إشارة إلى أن المعتبر من الجهات أمران: وهو الإعتاق والتزوج، ولذا ذكر عقبهما قوله "فله أجران"، بخلاف التأديب والتعليم، فإنهما موجبان للأجر في الأجنبي والأولاد وجميع الناس، فلا يكون مختصا بالإماء، فلم يبق الاعتبار إلا في الجهتين: العتق والتزويج؛ لأنه يصير محسنا إليها إحسانا أعظم بعد إحسان أعظم بالعتق؛ لأن الأول فيه تخليص من الرق وأسره، والثاني فيه الترقي إلى إلحاق المقهور بقاهره، وقيل: في بيان تكرير الحكم غير ذلك، ويجوز أن يعود الضمير في "فله" إلى كل واحد من الثلاثة، فيكون التكرير
(1/170)
للتأكيد أو لطول الكلام، فيكون
كالفذلكة ويمكن أن يكون من باب اختصار الراوي أو نسيانه، قلت: هذان الأخيران هو
الظاهر؛ لأن الحديث أخرجه البخاري في العلم، وفي العتق، وفي الجهاد، وفي الأنبياء،
وفي النكاح، ومسلم في الإيمان مطولا، وفي النكاح مختصرا، والنسائي مطولا ومختصرا،
والترمذي وابن ماجه الثلاثة في النكاح، وعند الجميع كرر الحكم في الأمور الثلاثة،
ما خلا البخاري في العلم، والنسائي في النكاح، واعلم أنه لا مفهوم للعدد المذكور
في حديث أبي موسى، فالمراد هذه الأشياء وأمثالها، وليس المقصود بذكرها نفي ما
عداها، فإن التنصيص باسم الشيء لا يدل على نفي الحكم عما عداه، وهو مذهب الجمهور،
وهذا لأن عدد الذين يؤتون أجرهم مرتين بلغ بالتتبع إلى عشرين، بل يحصل بمزيد
التتبع أكثر من ذلك، وقد ذكر بعضها العزيزي في السراج المنير (ج1: ص189)، والحافظ
في الفتح في شرح باب اتخاذ السراري (ج11: ص38)، والعلقمى والسيوطي، وقال بعضهم:
الظاهر أن المراد بالحديث لهم أجران على كل عمل لا أن لهم أجرين على العملين، إذ
ثبوت أجرين على
متفق عليه.
12- (11) وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/171)
عملين لا يختص بأحد دون أحد، نعم يمكن لهؤلاء أن يكون لهم أجران على كل عمل من جميع أعمالهم، والله تعالى أعلم. وقيل: في وجه التخصيص لهؤلاء الثلاثة أن في هذه الخصال الثلاثة أشكالا لا يتعقل حصول الأجرين فيها لما قد يتوهم في العبد أنه مملوك لمولاه، فلعله لا يستحق الأجر والثواب في خدمته؛ لأنه يؤدي بخدمته ما لزمه من حق مولاه، وكذلك تزوجها لغرض نفسه وفائدته، فلا يحصل له فيه الأجر أيضا، وكذلك قد يخطر في البال أن مؤمن أهل الكتاب لابد أن يكون مؤمنا بنبينا - صلى الله عليه وسلم - لما أخذ الله عليهم العهد والميثاق، فإذا بعث فإيمانه مستمر، فكيف يتعدد إيمانه حتى يتعدد أجره؟ وأيضا يتبادر إلى بعض الأذهان أن الإيمان عمل واحد، فإن أصل جميع الأديان السماوية واحد لا فرق إلا في الفروع، فاعتبار الإيمان بعيسى أو بموسى أولا، ثم اعتبار الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ثانيا وعدهما شيئين ربما يستبعد، فنبه في الحديث أن الإيمان التفصيلي بعد بعثة محمد بأنه هو الموصوف والمنعوت في الكتابين مغاير للإيمان الإجمالي بأن الموصوف بكذا هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فثبت التعدد وصرح بأن الإيمان وإن كان عملا واحدا إجمالا لكنه لما تعلق بعيسى أو بموسى بخصوصه تفصيلا، ولا شك أنه عمل ثم تعلق بمحمد كذلك صار متعددا، أو صار عملين وحصل إيمانان بالنظر إلى التفصيل، وفي وجه التخصيص بهؤلاء الثلاثة أقوال أخر، وأورد المصنف هذا الحديث في الإيمان؛ لأنه يدل على فضل من آمن من أهل الكتاب بنبينا - صلى الله عليه وسلم - وأن له ضعف أجر من لم يكن كتابيا، فإيمانه بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من هذه الجهة أفضل من إيمان غيره، والله أعلم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في العلم والعتق والجهاد والأنبياء والنكاح، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضا الترمذي والنسائي وابن ماجه في النكاح.
(1/172)
12- قوله: (أمرت) على صيغة
المجهول أي أمرني الله؛ لأنه لا آمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا الله
(أن أقاتل) أي بأن أقاتل، وحذف الجار من أن كثير سائغ مطرد، وأن مصدرية تقديره:
مقاتلة الناس (حتى يشهدوا) أي يقروا ويذعنوا (أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول
الله) جعلت غاية المقاتلة وجود ما ذكر فمقتضاه أن من شهد وأقام وآتى عصم دمه ولو
جحد باقي الأحكام، لكنه ليس كذلك، والجواب أن الشهادة بالرسالة تتضمن التصديق
بجميع ما جاء به مع أن نص الحديث وهو قوله "إلا بحق الإسلام" يدخل فيه
جميع ذلك، فكأنه أراد الخمسة التي بني الإسلام عليها، فإن قيل: فلم لم يكتف به ونص
على الصلاة والزكاة؟ أجيب بأن ذلك لعظمهما والاهتمام بأمرهما؛ لأنهما أم العبادات
البدنية والمالية وأساسهما والعنوان لغيرهما، قلت: والذي يتبين ويظهر من ألفاظ
أحاديث الباب أن كلمتي الشهادتين بمجردهما تعصم من أتى بهما ويصير بذلك مسلما،
فإذا دخل في الإسلام فإن أقام الصلاة وآتى الزكاة وقام بشرائع
ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق
الإسلام، وحسابهم على الله ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/173)
الإسلام فله ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، وإن أخل بشيء من هذه الأركان فإن كانوا جماعة لهم منعة قوتلوا، وقد ظن بعضهم أن معنى الحديث أن الكافر يقاتل حتى يأتي بالشهادتين ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، وجعلوا ذلك حجة على خطاب الكفار بالفروع، وفي هذا نظر، وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتال الكفار تدل على خلاف ذلك (ويقيموا الصلاة) أي يداوموا على الإتيان بشروطها، والمراد بالصلاة المفروضة منها لا جنسها، واستدل بالحديث على مذهب الشافعي ومالك أن تارك الصلاة عمدا يقتل حدا، ومذهب أحمد أن تاركها يقتل كفرا وردة، وفي هذا الاستدلال نظر للفرق بين أقاتل وأقتل، فالكلام في المقاتلة لا في القتل، ومقاتلة الإمام لتاركي الصلاة إلى أن يأتوا بها محل وفاق، مع أنه منقوض بترك الزكاة فإنه لم يقل بقتل تاركها. وقد أطنب ابن دقيق العيد في شرح العمدة في الإنكار على من استدل بهذا الحديث على جواز قتل تارك الصلاة، قال: ولا يلزم من إباحة المقاتلة إباحة القتل...الخ. (ويؤتوا الزكاة) فيه دليل لقتال مانعي الزكاة، ولا نزاع فيه، ومن ثم قاتلهم الصديق، وأجمع عليه الصحابة، ولم ينقل أنه قتل أحدا منهم صبرا، قلت: وكذا لا نزاع في من ترك سائر أركان الإسلام أن يقاتلوا عليها كما يقاتلوا على ترك الصلاة والزكاة. (فإذا فعلوا ذلك) أي المذكور من الشهادة والصلاة والزكاة، ويسمى القول فعلا؛ لأنه فعل اللسان أو تغليبا (عصموا) بفتح الصاد أي منعوا وحفظوا (مني) أي من أتباعي أو من قبلي وجهة ديني (دماءهم وأموالهم) استباحتهم بالسيف والنهب (إلا بحق الإسلام) الإضافة لامية، ويجوز أن تكون بمعنى "في" وبمعنى "من" على ما لا يخفى، والاستثناء مفرغ، والمستثنى منه أعم عام الجار والمجرور، والعصمة متضمنة لمعنى النفي حتى يصح تفريغ الاستثناء، إذ هو شرط أي إذا فعلوا ذلك لا يجوز إهدار دمائهم واستباحة أموالهم بسبب من الأسباب إلا بحق الإسلام من
(1/174)
نحو قصاص أو حد أو غرامة متلف
ونحو ذلك (وحسابهم) فيما يسرون من الكفر والمعاصي بعد ذلك (على الله) أي كالواجب
على الله في تحقق الوقوع، وكان الأصل فيه أن يقال: وحسابهم لله، أو إلى الله،
والمعنى أن أمور سرائرهم إلى الله، وأما نحن فنحكم بالظاهر، فنعاملهم في الدنيا
بمقتضى ظاهر أقوالهم وأفعالهم، ففيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما
يقتضيه الظاهر، ومقتضى الحديث قتال كل من امتنع من التوحيد، فيدخل فيه أهل الكتاب
الملتزمون لأداء الجزية وكذا المعاهد، والجواب من أوجه، منها دعوى النسخ بأن يكون
الإذن بأخذ الجزية، والمعاهدة متأخرا عن هذه الأحاديث، بدليل أنه متأخر عن قوله
?اقتلوا المشركين? [9: 5]، ومنها أن يكون من العام الذي أريد به الخاص، فيكون
المراد بالناس في قوله "أقاتل الناس" أي المشركين من غير أهل الكتاب،
ويدل عليه رواية النسائي بلفظ "أمرت أن أقاتل المشركين"، فإن قيل: إذا
تم هذا في أهل الجزية لم يتم
متفق عليه، إلا أن مسلما لم يذكر ((إلا بحق الإسلام)).
13- (12) وعن أنس أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى
صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله،
فلا تخفروا الله في ذمته
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/175)
في المعاهدين ولا في منع الجزية، أجيب بأن الممتنع في ترك المقاتلة رفعها لا تأخيرها مدة كما في الهدنة، ومقاتلة من امتنع من أداء الجزية بدليل الآية، ومنها أن يقال: الغرض من ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام وسبب السبب سبب، فكأنه قال: حتى يسلموا أو يلتزموا ما يؤديهم إلى الإسلام، قال الحافظ: وهذا أحسن، وفي الحديث رد على المرجئة في قولهم: إن الإيمان غير مفتقر إلى الأعمال، وفيه تنبيه على أن الأعمال من الإيمان، والحديث موافق لقوله تعالى: ?فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم? [9: 5]. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الإيمان والصلاة، ومسلم في الإيمان، (إلا أن مسلما لم يذكر إلا بحق الإسلام) لكنه مراد، والحديث أخرجه أيضا الشيخان من حديث أبي هريرة والبخاري من حديث أنس ومسلم من حديث جابر.
(1/176)
13- قوله: (من صلى صلاتنا) منصوب بنزع الخافض، وهو في نفس الأمر صفة لمصدر محذوف، أي من صلى صلاة كصلاتنا، ولا يوجد إلا من معترف بالتوحيد والنبوة، ومن اعترف بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد اعترف بجميع ما جاء به عن الله تعالى، فلهذا جعل الصلاة علما لإسلامه، ولم يذكر الشهادتين لأنهما داخلتان في الصلاة (واستقبل قبلتنا) إنما ذكره والصلاة متضمنة له مشروطة به؛ لأن القبلة أعرف من الصلاة، فإن كل أحد يعرف قبلته، وإن كان لا يعرف صلاته، ولأن من أعمال صلاتنا ما هو يوجد في صلاة غيرنا كالقيام والقراءة، واستقبال قبلتنا مخصوص بنا، ثم لما ذكر من العبادات ما يميز المسلم من غيره أعقبه بذكر ما يميزه عادة وعبادة (وأكل ذبيحتنا) فإن التوقف عن أكل الذبائح كما هو من العادات، فكذلك هو من العبادات الثابتة في كل ملة، كذا في شرح الطيبي، والذبيحة: فعيلة بمعنى مفعولة، والتاء للجنس كما في الشاة، وقيل في تخصيص هذه الثلاثة من بين سائر الأركان وواجبات الدين أنها أظهرها وأعظمها وأسرعها علما بها إذ في اليوم الأول عن الملاقاة مع الشخص يعلم صلاته وطعامه غالبا، بخلاف نحو الصوم فإنه لا يظهر الامتياز بيننا وبينهم به، ونحو الحج فإنه قد يتأخر إلى شهور وسنين وقد لا يجب عليه أصلا (فذلك) أي من جمع هذه الأوصاف الثلاثة، وهو جواب الشرط وذلك مبتدأ وخبره (المسلم) أو هو صفة وخبره (الذي له ذمة الله وذمة رسوله) أي أمانهما وعهدهما وضمانهما من وبال الكفار وما شرع لهم من القتل والقتال وغيرهما، أي يرتفع عنه هذا (فلا تخفروا الله في ذمته) بضم التاء من الإخفار، والهمزة فيه للسلب، أي لسلب الفاعل عن المفعول أصل الفعل نحو أشكيته أي أزلت شكايته، وكذلك أخفرته أي أزلت خفارته، ويقال أخفره: إذا نقض عهده وغدر به، أي لا تخونوا الله في عهده ولا تتعرضوا في حقه من ماله ودمه وعرضه، أو الضمير للمسلم أي فلا تنقضوا عهد الله بحذف المضاف وإقامة
(1/177)
المضاف إليه مقامه، في ذمته أي
مادام هو في أمانه، وقال التوربشتي:
رواه البخاري.
14- (13) وعن أبي هريرة قال: أتى أعرابي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: دلني
على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال: ((تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة
المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المعنى أن الذي يظهر عن نفسه شعار أهل الإسلام والتدين بدينهم، فهو في أمان الله
لا يستباح منه ما حرم من المسلم، فلا تنقضوا عهد الله فيه – انتهى، وإنما اكتفى في
النهي بذمة الله وحده ولم يذكر الرسول كما ذكر أولا لأنه ذكر الأصل لحصول المقصود
به ولاستلزامه عدم إخفاره ذمة الرسول، وأما ذكره أولا فللتأكيد وتحقيق عصمته
مطلقا، وفي الحديث دليل كالذي قبله على أن أمور الناس محمولة على الظاهر دون
باطنها، فمن أظهر شعار الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك، وفيه
أنه لابد للمؤمن من الأعمال خلافا للمرجئة. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا النسائي في
الإيمان.
(1/178)
14- قوله: (أتى أعرابي) أي بدوي منسوب إلى الأعراب، وهم سكان البادية، قال بعضهم: الأعرابي السائل في حديث أبي هريرة هذا هو ابن المنتفق على ما رواه البغوي وابن السكن والطبراني في الكبير وأبومسلم الكجي في السنن، وزعم الصيرفي أن اسم ابن المنتفق هذا لقيط بن صبرة، وافد بني المنتفق، قلت: في قول هذا البعض عندي نظر، فإن قصة سؤال ابن المنتفق شبيهة بسياق حديث أبي أيوب عند مسلم دون سياق حديث أبي هريرة كما لا يخفى على من له اطلاع على الروايات، وقال العيني: هو سعد بن الأخرم، وفيه أيضا نظر. (دلني) بضم الدال وفتح اللام المشددة (على عمل) صفة أنه (إذا عملته دخلت الجنة) دخولا أوليا (قال: تعبد الله) مرفوع المحل بالخبرية لمبتدأ محذوف، أي هو يعني العمل الذي إذا عملته دخلت الجنة هو عبادة الله، قال النووي: العبادة هي الطاعة مع خضوع، فيحتمل أن يكون المراد بالعبادة هنا معرفة الله تعالى، والإقرار بوحدانيته، وهو شامل للنبوة لأنه لا يعتبر بدونها، فذكره مغن عن ذكرها، قال: فعلى هذا يكون عطف الصلاة والزكاة والصوم عليها لإدخالها في الإسلام، فإنها لم تكن دخلت في العبادة، وعلى هذا إنما اقتصر على هذه الثلاث لكونها من أركان الإسلام وأظهر شعائره، والباقي ملحق بها، ويحتمل أن يكون المراد بالعبارة الطاعة مطلقا، فيدخل جميع وظائف الإسلام فيها فعلى هذا يكون عطف الصلاة وغيرها من باب ذكر الخاص بعد العام، تنبيها على شرفه ومرتبته، وأما قوله: (لا تشرك به شيئا) فإنما ذكره بعد العبادة لأن الكفار يعبدونه سبحانه في الصورة ويعبدون معه أوثانا يزعمون أنها شركاء، فنفى هذا (الصلاة المكتوبة) أي المفروضة (الزكاة المفروضة) فرق بن القيدين للتفنن، أي كراهية لتكرير اللفظ الواحد، وقيل: عبر في الزكاة بالمفروضة للاحتراز عن صدقة التطوع، فإنها زكاة لغوية، وقيل: احترز من الزكاة المعجلة قبل الحول ،
(1/179)
وتصوم رمضان، قال: والذي نفسي
بيده لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فلما ولى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا)) متفق عليه.
15- (14) وعن سفيان بن عبدالله الثقفي قال: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا
أسأل عنه أحدا بعدك، وفي رواية: غيرك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإنها زكاة وليست مفروضة (وتصوم رمضان) ولا يكون إلا مفروضا، ولذا لم يقيده (لا
أزيد على هذا) أي ما ذكر (شيئا) من عند نفسي (ولا أنقص منه) برأيي، ولما كانت
العبادة شاملة لفعل الواجبات وترك المنكرات صح إثبات النجاة له بمجرد ذلك (من سره...)الخ،
الظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - علم أنه يوفي ما التزم، وأنه يدوم على ذلك
ويدخل الجنة، ولم يخبر السائل بالتطوع في هذا الحديث، وكذا في حديث طلحة الآتي في
قصة الأعرابي وغيرهما، بل أقره على الحلف بترك التطوعات في حديث طلحة؛ لأن أصحاب
هذه القصص كانوا حديثي عهد بالإسلام، فاكتفى منهم بفعل ما وجب عليهم لئلا يثقل ذلك
عليهم فيملوا، حتى إذا انشرحت صدورهم للفهم عنه والحرص على تحصيل ثواب المندوبات
سهلت عليهم، وقيل: لئلا يعتقدوا أن التطوعات واجبة، واعلم أنه لم يأت ذكر الحج في
هذا الحديث، وكذا لم يذكر في بعض هذه الأحاديث الصوم، ولم يذكر في بعضها الزكاة،
وذكر في بعضها صلة الرحم، وفي بعضها ذكر الإيمان فتفاوت هذه الأحاديث في عدد خصال
الإيمان زيادة ونقصانا وإثباتا وحذفا، وأجاب القاضي عياض وغيره بما ملخصه: أن سبب
ذلك تفاوت الرواة في الحفظ والضبط، فالاقتصار على بعض الخصال إنما لقصور حفظ
الراوي عن تمامه، وليس هذا باختلاف صادر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد
استحسن النووي هذا الجواب، وقال العيني بعد ذكره: والأحسن أن يقال: إن رواة هذه
الأحاديث متعددة، وكل ما روى واحد منهم بزيادة على ما رواه غيره أو بنقص لم يكن بتقصير
(1/180)
الراوي وإنما وقع ذلك بحسب
اختلاف الموقع واختلاف الزمان – انتهى. وفي الحديث دليل على أنه لابد من أعمال
الجوارح في الإيمان خلافا للمرجئة.
15- قوله: (وعن سفيان بن عبدالله) بن ربيعة بن الحارث الثقفي الطائفي، يكنى
أباعمرو، وقيل: أباعمرة، أسلم مع وفد ثقيف، واستعمله عمر على صدقات الطائف، روى
عنه أولاده عاصم وعبدالله وعلقمة وعمرو وأبوالحكم وغيرهم، قال ابن عبدالبر: هو
معدود في أهل الطائف، له صحبة وسماع ورواية، كان عاملا لعمر بن الخطاب على الطائف،
ولاه عليها إذ عزل عثمان بن أبي العاص عنها، ونقل عثمان حينئذ إلى البحرين –
انتهى. قال الخزرجي: انفرد له مسلم بحديث، وقال القاري: مروياته خمسة أحاديث –
انتهى. (الثقفي) بفتحتين نسبة إلى قبيلة ثقيف. (قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه
أحدا بعدك) أي بعد سؤالك، طلب منه - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمه كلاما جامعا لأمر
الإسلام كافيا حتى لا يحتاج بعده إلى غيره (وفي رواية غيرك) أي لا أسأل عنه أحدا
غيرك، والأول مستلزم
قال: قل: آمنت بالله، ثم استقم))، رواه مسلم.
16- (15) وعن طلحة بن عبيدالله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/181)
لهذا؛ لأنه إذا لم يسأل أحدا بعد سؤاله لم يسأل غيره، وبهذا يظهر وجه أولوية الأول يجعله أصلا والثاني رواية خلافا لما فعل النووي في أربعينه، قاله القاري، (قل آمنت بالله) أي جدد إيمانك بالله ذكرا بقلبك ونطقا بلسانك وعملا بمقتضاه بجوارحك، وفي رواية ((قل ربي الله)) أي وحد ربك، وأراد به التوحيد الكامل الذي يحرم صاحبه على النار، هو تحقيق معنى لا إله إلا الله، فإن الإله هو المعبود الذي يطاع فلا يعصى خشية وإجلالا ومهابة ومحبة ورجاء وتوكلا ودعاء، والمعاصي كلها قادحة في هذا التوحيد؛ لأنها إجابة لداعي الهوى، وهو الشيطان، وعلى رواية الكتاب المعنى أظهر، فإن الإيمان يدخل فيه الأعمال الصالحة عند السلف ومن تابعهم من أهل الحديث (ثم استقم) الاستقامة: هي سلوك الطريق المستقيم، وهو الدين القويم من غير تعويج عنه يمنه ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك، فصارت هذه الوصية جامعة لخصال الدين كلها، فالحديث من جوامع الكلم الشامل لأصول الإسلام: التوحيد والطاعة، وهو مطابق لقوله تعالى: ?إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا? [41: 30] أي لم يحيدوا عن التوحيد، والتزموا طاعته سبحانه إلى أن توفوا على ذلك، وهو معنى الحديث، ولا يخفى مناسبة الحديث لكتاب الإيمان، فإن يدل على وجوب امتثال الطاعات والانتهاء عن المعاصي، ففيه رد على المرجئة (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه والحاكم وابن حبان في صحيحه.
(1/182)
16- قوله: (وعن طلحة بن
عبيدالله) بن عثمان التيمي القرشي المدني، يكنى أبامحمد، يجتمع مع رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - في الأب السابع كأبي بكر، أحد العشرة وأحد الثمانية الذين سبقوا
إلى الإسلام، والخمسة الذين أسلموا على يد الصديق، والستة أصحاب الشورى الذين توفي
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض، شهد المشاهد كلها غير بدر لأن
النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه مع سعيد بن زيد يتعرفان خبر العير التي كانت
لقريش مع أبي سفيان، ثم رجعا إلى المدينة فقدماها يوم وقعة بدر، وقد ضرب له رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - بسهمه، وآجره فيها وأبلى يوم أحد بلاء شديدا، ووقى
النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده فشلت، وجرح يومئذ أربعة وعشرين جراحة، وقيل
خمسا وسبعين جراحة بين طعنة وضربة ورمية، وكان أبوبكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك
يوم كله لطلحة، وروى من وجوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: طلحة ممن
قضى نحبه، وروي أيضا أنه نظر إليه فقال: من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه
الأرض فلينظر إلى طلحة، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - ((طلحة خير))، و((
طلحة الفياض)) و((طلحة الجواد))، له ثمانية وثلاثون حديثا، اتفقا منها على حديث،
وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بثلاثة، وقال القسطلاني: له في البخاري أربعة
أحاديث، استشهد يوم الجمل، أتاه سهم غرب لا يدرى من رماه واتهم به مروان، لعشر
خلون من جمادى الأولى سنة (36) عن (64) سنة، وقيل (63)، وقيل غير ذلك، ودفن
بالبصرة، وقال ابن قتيبة: دفن بقنطرة قرة ثم رأته بنته بعد ثلاثين سنة في المنام أنه
يشكر إليها النداوة، فأمرت
قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع
دوي صوته ولا نفقه ما يقول: حتى دنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هو
يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خمس صلوات
(1/183)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فاستخرج طريا، ودفن بدار البحرتين بالبصرة، روى له جماعة، وقال ابن عبدالبر: لا
يختلف العلماء في أن مروان قتل طلحة يوم الجمل، قال الخزرجي: خلف طلحة ثلاثين ألف
ألف درهم، ومن العين ألفي ألف ومائتي ألف دينار. (جاء رجل) قيل: هو ضمام بن ثعلبة
وافد بني سعد بني بكر، وفيه نظر، والتفصيل في الفتح (ج1: ص56) وفي مقدمته، (من أهل
نجد) صفة رجل، ونجد من بلاد العرب خلاف الغور، والغور: هو تهامة، وكل ما ارتفع من
تهامة أي مكة إلى أرض العراق فهو نجد، وهو في الأصل ما ارتفع من الأرض (ثائر
الرأس) أي منتفش شعر الرأس ومنتشره من عدم الارتفاق والرفاهة، ففيه إشارة إلى قرب
عهده بالوفادة، من ثار الغبار: إذا ارتفع وانتشر، أطلق اسم الرأس على الشعر مجازا
تسمية للحال باسم المحل، أو مبالغة بجعل الرأس كأنه المنتشر، أو يكون هو من باب
حذف المضاف بقرينة عقلية، وهو مرفوع على أنه صفة، وقيل: إنه منصوب على الحالية من
رجل لوصفه بقوله من أهل نجد، والإضافة في ثائر الرأس لفظية فلا تفيد إلا تخفيفا،
ويجوز وقوع صاحب الحال نكرة إذا اتصف بشيء كما في المبتدأ أو أضيف أو وقع بعد نفي
(نسمع) بصيغة المتكلم المعلوم على الصحيح (دوي صوته) بالنصب على أنه مفعوله، وفي
بعض النسخ يسمع بالياء مجهولا ورفع دوي على النيابة عن الفاعل، وكذا الوجهان في
قوله ((لا نفقه)) بالنون والياء، قال العيني: رواية النون فيهما هي المشهورة،
وعليها الاعتماد، والدوي: بفتح الدال وكسر الواو وتشديد الياء، قال الخطابي:
الدوي: صوت مرتفع متكرر لا يفهم، وإنما كان كذلك لأنه نادى من بعد، ويقال: الدوي
شدة الصوت وبعده في الهواء وعلوه، والمعنى نسمع شدة صوته وبعده في الهواء فلا يفهم
منه شيء كدوي النحل والذباب (ما يقول) في محل النصب على أنه مفعول، أو في الرفع
على النيابة والمعنى نسمع كلامه ولا نفهمه لبعده (حتى) للغاية بمعنى
(1/184)
إلى أن (دنا من رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -) ففهمنا كلامه (فإذا) للمفاجأة (هو) أي الرجل (يسأل عن
الإسلام) أي عن شرائعه وفرائضه، يدل عليه ما زاد البخاري في آخر حديث طلحة هذا في
كتاب الصيام، فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرائع الإسلام، ويحتمل أنه
سأل عن حقيقة الإسلام، وإنما لم يذكر له الشهادة لأنه علم أنه يعلمها، أو علم أنه
يسأل عن الشرائع الفعلية، أو ذكر الشهادة له ولم يسمعها طلحة منه لبعد موضعه، أو
نسيها أو اختصرها لشهرتها، ولم يذكر الحج؛ لأن الراوي اختصره، ويؤيده ما ذكرنا من
الزيادة في آخر هذا الحديث، فقد دخل فيه باقي المفروضات بل والمندوبات (خمس صلوات)
الرفع على الصحيح، على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الإسلام، أو هي خمس صلوات، أو مبتدأ
محذوف الخبر من شرائعه أداء خمس صلوات، ويجوز النصب بتقدير خذ أو صل، قال
في اليوم والليلة، فقال: هل علي غيرهن؟ فقال: لا، إلا أن تطوع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/185)
العيني: ويجوز الجر على أنه بدل من الإسلام، قال القاري: لا يصح الجر رواية ولا دراية، أما الأول فيظهر من تتبع النسخ المصححة، وأما الثاني فلأن البدل والمبدل لا يكونان إلا في كلام شخص واحد...الخ. (هل علي غيرهن) أي هل يجب علي من الصلاة غير الصلوات الخمس في اليوم والليلة، أو الجار خبر مقدم وغيرهن مبتدأ مؤخر (فقال: لا) أي لا يجب عليك غيرها، وفيه حجة على من أوجب الوتر، وهو الحنفية، وأجاب القاري عنه بأن هذا قبل وجوب الوتر، أو إنه تابع للعشاء، وقال العيني: لم يكن الوتر واجبا حينئذ، يدل عليه أنه لم يذكر الحج – انتهى. وتعقب بأن هذا يحتاج إلى معرفة التاريخ، ودونها خرط القتاد، على أنه موقوف على ثبوت وجوب صلاة الوتر، ولا دليل على وجوبها لا من كتاب ولا من سنة صحيحة ولا من إجماع، بل الأمر على عكس ما قالوا، فإن الدلائل الصحيحة الصريحة من السنة قائمة على عدم وجوبها كما ستعرف إن شاء الله، فلا يصح أن يقال: إن هذا كان قبل وجوب الوتر، وأما قول العيني "يدل عليه أنه لم يذكر الحج" ففيه أنه إنما يتم ذلك إذا ثبت أنه لم يفرض الحج حينئذ، وفيه نظر؛ لأنه يحتمل أن الرجل سأل عن حاله خاصة، حيث قال ((هل علي غيرها)) فأجابه – عليه السلام – بما عرف من حاله، ولعله ممن لم يكن الحج واجبا عليه، والظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكره له لكن اختصره الراوي، يدل عليه رواية البخاري في الصيام، فأخبره بشرائع الإسلام كما تقدم، فحصره - صلى الله عليه وسلم - جنس الصلاة الواجبة في اليوم والليلة في الخمس ونفي وجوب الصلاة الأخرى مع ذكر باقي الواجبات يدل على عدم وجوب الوتر، وأما قول القاري: إنه تابع للعشاء، ففيه أنه قد أنكر أبوبكر بن مسعود الكاساني الحنفي كونه تابعا للعشاء حيث قال في بدائعه (ج1: ص270): وذا – أي كون تقديم العشاء شرطا عند التذكر – لا يدل على التبعية كتقديم كل فرض على ما يعقبه من الفرائض، ولهذا اختص بوقت
(1/186)
استحسانا فإن تأخيرها إلى آخر
الليل مستحب، وتأخير العشاء إلى آخر الليل يكره أشد الكراهة، وذا أمارة الأصالة،
إذ لو كانت تابعة للعشاء لتبعته في الكراهة والاستحباب جميعا، انتهى. (إلا أن
تطوع) بتشديد الطاء والواو، وأصله "تتطوع" بتائين، فأدغمت إحداهما في
الطاء، ويجوز تخفيف الطاء على حذف إحداهما، قال النووي: المشهور التشديد، ومعناه:
إلا أن تفعله بطواعيتك. واعلم أن هذا الاستثناء يجوز أن يكون منقطعا بمعنى لكن،
ويجوز أن يكون متصلا، واختارت الشافعية والحنابلة الانقطاع، والمعنى: لكن يستحب لك
أن تطوع، وتمسكوا به على أنه لا يلزم إتمام النفل بالشروع، بل يستحب فقط فيجوز
قطعه، ولا يجب القضاء عمدا قطعه أو من عذر، واختارت الحنفية والمالكية الاتصال
فإنه هو الأصل في الاستثناء، واستدلوا به على أن من شرع في صلاة نفل أو صوم نفل
وجب عليه إتمامه، ولا يجوز القطع إلا بعذر، ثم اختلفوا فقال الحنفية: يلزم القضاء
مطلقا عمدا قطعه أو عذرا،
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/187)
وقالت المالكية: لا يلزم القضاء إلا إذا قطعه عمدا من غير عذر، وقال القرطبي المالكي: نفى في الحديث وجوب شيء آخر، والاستثناء من النفي إثبات، فيلزم أن يكون التطوع واجبا، ولا قائل لوجوبه لاستحالته، فتعين أن يكون المراد إلا أن تشرع في تطوع فيلزمك إتمامه – انتهى. قالت الحنفية: ويدل على كون الاستثناء في الحديث للاتصال حديث عائشة عند أحمد والنسائي والترمذي، وفيه أنه قال: صوما يوما مكانه، فأمر بالقضاء، فدل على أن الشروع ملزم، وأن القضاء بالإفساد واجب. وأجيب عن تقرير القرطبي أولا بأنه مغالطة؛ لأن الاستثناء ههنا من غير الجنس؛ لأن التطوع لا يقال فيه: عليك، فكأنه قال: لا يجب عليك شيء إلا إن أردت أن تطوع، فذلك لك، وقد علم أن التطوع ليس بواجب فلا يجب شيء آخر أصلا، وثانيا: بأن الحنفية لا يقولون بفرضية الإتمام، بل بوجوبه، واستثناء الواجب من الفرض منقطع لتبيانهما، فلا يصح حملهم الاستثناء في الحديث على الاتصال، وثالثا: بأن الاستثناء من النفي عندهم ليس للإثبات، بل مسكوت عنه. ورابعا بما قاله بعض العلماء الحنفية: إن الحديث خارج عن موضع النزاع، فإن الإيجاب المذكور فيه إنما هو الإيجاب من جهة الوحي، ومسألة لزوم النفل بالشروع إنما هو إيجاب العبد على نفسه شيئا بخيرته وطوعه. وخامسا: بأنه قال - صلى الله عليه وسلم - في الزكاة مثل ما قال في الصلاة والصوم، لكن لا يمشي تقرير القرطبي وغيره ممن قال بوجوب الإتمام في الزكاة، قال السندهي الحنفي: لا يظهر هذا في الزكاة إذ الصدقة قبل الإعطاء لا تجب، وبعده لا توصف بالوجوب، ولا يقال: إنه صار واجبا بالشروع فلزم إتمامه، فالوجه أنه استثناء منقطع، أي لكن التطوع جائز أو خير، ويمكن أن يقال من باب المبالغة في نفي واجب آخر، على معنى ليس عليك واجب آخر إلا التطوع، والتطوع ليس بواجب، فلا واجب غير المذكور – انتهى. قال القاري مجيبا عن الثاني: بأنه ممنوع، فإن الواجب
(1/188)
عندنا فرض عملي لا اعتقادي، وبهذا الاعتبار يطلق عليه أنه فرض، فالمراد بالفرض في الحديث المعنى الأعم، مع أنه لا محذور في جعل الاستثناء منقطعا لصحة الكلام، فيكون المعنى: لكن التطوع باختيارك، أي ابتداء كما هو مذهبنا، قلت: الفرق بين الفرض والواجب بالمعنى الاصطلاحي، ثم تقسيم الفرض إلى الفرض الاعتقادي والعملي، وجعل الواجب الاصطلاحي فرضا عمليا من المصطلحات الحادثة لم يعرفها الصحابة، فلا ينبغي أن يحمل الحديث على مصطلحات الفنون الحادثة بعد عصر الصحابة، والظاهر بل المتعين في معناه على كون الاستثناء للانقطاع هو أن يقال لكن يستحب لك أن تطوع، أو لكن التطوع باختيارك انتهاء كما هو في طواعيتك ابتداء، ويؤيده حديث أم هانئ عند الترمذي وغيره، وفيه الصائم المتطوع أمير أو أمين نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر، ويؤيده أيضا ما رواه النسائي عن عائشة مرفوعا: إنما مثل صوم التطوع مثل الرجل الذي يخرج من ماله الصدقة، فإن شاء أمضاها، وإن شاء حبسها، وقال القاري مجيبا عن الثالث: بأنه مدخول، فإن هذا إنما يرد عليهم لو استدلوا بهذا الحديث، وتقدم أن دليلهم الآية والإجماع، وإنما حملوا لفظ الحديث على المعنى المستفاد منهما يعني بالآية قوله تعالى:
(1/189)
?لا تبطلوا أعمالكم? [47: 33]. قلت: قد استدل بهذا الحديث غير واحد من الحنفية والمالكية على مذهبهم، وذكروه في معرض الاستدلال، كما صرح به العيني في شرح البخاري، والقرطبي في شرح مسلم، والزرقاني في شرح الموطأ وغيرهم، وأما الاحتجاج بالآية والإجماع فهو مخدوش كما ستعرف، فلا يصح حمل هذا الحديث على ما ذهبوا إليه في معناه، وذلك لفساد البناء، وأما حديث عائشة الذي جعلوه قرينة على حمل الاستثناء على الاتصال، فالجواب عنه أن الأمر فيه للاستحباب لا للوجوب، والقرينة على ذلك حديث أبي سعيد عند البيهقي، وسنذكره على أن حديث عائشة مرسل، والمرسل على الصحيح ليس بحجة، قال الخلال: اتفق الثقات على إرساله، وشذ من وصله، وتوارد الحفاظ على الحكم بضعف حديث عائشة هذا، ضعفه أحمد والبخاري والنسائي بجهالة زميل، كذا في الفتح، قلت: قد استدل عامة الحنفية على لزوم الإتمام بعد الشروع بقوله تعالى: ?لا تبطلوا أعمالكم? وبإجماع الصحابة على وجوب الإتمام، وبالقياس على الحج والعمرة. وأجيب عن الاستدلال بالآية بوجوه: الأول أنه يلزم الحنفية حيث استدلوا بها أن يقولوا إن الإتمام فرض، وهم إنما يقولون بوجوبه، قال القاري: هذا مدفوع بأن الآية قطعية، والدلالة ظنية – انتهى. وفيه أن هذا لا يفيد الحنفية بل يضرهم، إذ يقطع أصل الاستدلال؛ لأن أحاديث أم هانئ وعائشة وأبي سعيد وما في معناها وإن كانت ظنية لكن دلالتها على التخير قطعية بلا شبهة، ومن المعلوم أن مناط الاستدلال هي الدلالة لا الثبوت، وعلى هذا ففي الاستدلال بالآية المذكورة على وجوب الإتمام ترجيح ما هو ظني الدلالة على ما هو قطعي الدلالة، ولا شك أنه ترجيح المرجوح، وذا لا يجوز عند أحد، والثاني: أن الآية المذكورة عامة، قال ابن المنير المالكي: ليس في تحريم الأكل في صوم النفل من غير عذر إلا الأدلة العامة كقوله لا تبطلوا أعمالكم، إلا أن الخاص مقدم على العام كحديث سلمان – انتهى. والثالث:
(1/190)
أن المراد في الآية بالإبطال هو الإبطال الأخروي بالرياء والسمعة، لا الإبطال الفقهي، قال ابن عبدالبر المالكي: من احتج في هذا بقوله لا تبطلوا أعمالكم فهو جاهل بأقوال أهل العلم، فإن الأكثر على أن المراد بذلك النهي عن الرياء، كأنه قال: لا تبطلوا أعمالكم بالرياء، بل أخلصوها لله، وقال الآخرون: لا تبطلوا أعمالكم بارتكاب الكبائر، ولو كان المراد بذلك النهي عن إبطال ما لم يفرض الله عليه، ولا أوجب على نفسه بنذر أو غيره لامتنع عليه الإفطار إلا بما يبيح الفطر من الصوم الواجب، وهم لا يقولون بذلك – انتهى. وقال الشيخ محمد أنور الحنفي: أما الاستدلال بقوله تعالى: ?لا تبطلوا أعمالكم? فليس بناهض؛ لأن الآية إنما سيقت لبطلان الثواب لا للبطلان الفقهي، كما يدل عليه السياق، فهي كقوله تعالى: ?لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى? [2: 262]–انتهى. والرابع: ما ذكره الشيخ بحر العلوم اللكنوي الحنفي في شرح مسلم الثبوت (58 من طبعة الهند): إن ههنا كلامان عويصان: الأول أن الدليل لو تم لدل على وجوب الإتمام، فتركه يكون إثما، وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم إفساد صوم النفل بالأكل، ولا ينفع حينئذ ما في فتح القدير أنه – عليه الصلاة والسلام– لعله قضاه، فإن الكلام في نفس الإفطار فإنه حينئذ مشتمل على ترك الواجب، فإن قلت: لعله يكون الإفطار في صيام التطوع رخصة مطلقا كما أنه رخصة في الفرض في حق المسافر، قلت: فأين الوجوب فإن
(1/191)
الواجب ما يأثم بتركه، ولا مخلص عند هذا العبد إلا بإبداء عذر (أي معين لا احتمالا) أو بإثبات المنسوخية، أو بالقول بأن الوجوب كوجوب الصلاة على من استأهل في الآخر، فتدبر، الثاني: أن بعض الصوم لما لم يكن صوما لم يكن فيه إبطال العمل، فإنه ما عمل إلا بعد الصوم، وليس بعمل، فالإفطار لا يوجب إبطال العمل، فتأمل فيه – انتهى. وأجاب بعضهم عن الثاني بأن بعض الصوم وإن لم يكن عملا بالفعل لكنه في معرض أن يصير عملا، فتركه إبطال للعمل، وتعقب بأن إطلاق العمل على ما هو معرض أن يصير عملا لا شك أنه مجاز، وعلى هذا فيلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، وهو لا يجوز عند الحنفية، وأجيب عن الاحتجاج بإجماع الصحابة بأنه مجرد دعوى بلا سند، فلا يقبل، قال القاري: هو مردود؛ لأن ذكر السند ليس بشرط لصحة الإجماع، مع أن الآية سند معتمد لصحة الإجماع، قلت: لم يثبت نصا عن أحد من الصحابة أنه ذهب إلى وجوب الإتمام بعد الشروع، فضلا عن إجماعهم على ذلك فلا يلتفت إلى دعوى الإجماع مع وجود النصوص الصريحة على عدم الوجوب، وأما الاستناد بالآية فقد عرفت فساده، وأما الجواب عن القياس فهو أن الحج امتاز عن غيره بلزوم المضي في فاسده، فكيف في صحيحه، وكذلك امتاز بلزوم الكفارة في نفله كفرضه، ويرد على أصل مذهب الحنفية بأن النفل إذا كان واجبا بالشروع كما في كتب الأصول ففي التلويح (ج1: ص306 – طبعة مصر): والنفل لا يضمن بالترك، وأما إذا شرع فيه، وأفسد فقد صار بالشروع واجبا فيقضي – انتهى. وفي كشف الأسرار (ج1: ص135): وأما إذا شرع النفل ثم أفسده، فإنما يجب القضاء؛ لأنه بالشروع صار ملحقا بالواجب، لا لأنه نفل كما قبل الشروع – انتهى. فيلزم حينئذ أن لا يكون النفل من حيث أنه نفل عبادة عملا، وعلى هذا فالمسائل التي تتعلق بنفس النفل لا يكون لها مصداق في الواقع، مثل قولهم: صلاة المفترض خلف المتنفل لا تجوز، فتأمل. وقالت الشافعية: الدليل على كون
(1/192)
الاستثناء في الحديث منقطعا ما
روى النسائي وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أحيانا ينوي صوم التطوع ثم
يفطر، وفي البخاري أنه أمر جويرية بنت الحارث أن تفطر يوم الجمعة بعد أن شرعت، ولم
يأمرها بالقضاء، وروى البيهقي عن أبي سعيد قال: صنعت للنبي - صلى الله عليه وسلم -
طعاما، فلما وضع قال رجل أنا صائم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((دعاك
أخوك وتكلف لك، أفطر فصم مكانه إن شئت))، قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث:
إسناده حسن – انتهى. ففي هذه الأحاديث الثلاثة، وحديثي أم هانئ وعائشة المتقدمين
دليل على أن الشروع في العبادة لا يستلزم الإتمام إذا كانت نافلة، بهذه النصوص في
الصوم، وبالقياس في الباقي إلا الحج. وأجاب العيني عن ذلك بأن حديث النسائي لا يدل
على أنه - صلى الله عليه وسلم - ترك القضاء، وإفطاره - صلى الله عليه وسلم - ربما
كان لعذر مثل الجوع أو غيره، وحديث جويرية إنما أمرها بالإفطار عند تحقق واحد من
الأعذار كالضيافة، أو لأنها صامت بغير إذنه واحتاج إليها، وليس فيه أنها تركت
القضاء، وكل ما جاء من أحاديث الباب محمول على مثل هذا – انتهى. وقال الزرقاني:
وإذا احتمل ذلك سقط به الاستدلال؛ لأن القصتين من وقائع الأحوال التي لا عموم لها،
وقد قال تعالى: ?لا تبطلوا أعمالكم? – انتهى. قلت: إبداء مثل هذه الاحتمالات من
غير منشأ وقرينة تدل عليها مما لا يلتفت إليه، فإنه تحكم محض، يفعله صاحبه ترويجا
لدعواه وتمشية لمذهبه، ولو كان القضاء
وصيام شهر رمضان، فقال: هل علي غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع، قال: وذكر له رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - الزكاة، فقال: هل علي غيرها؟ فقال: لا، إلا أن تطوع ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/193)
واجبا لأمر - صلى الله عليه وسلم - جويرية بالقضاء، ونقل إلينا ألبتة، فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولو سلم أنه وقع القضاء منهما لما كفى لإثبات وجوب القضاء، فإن الفعل لا يدل على الوجوب، فيحتمل أن قضاءهما كان ندبا، لا لأنه واجب، وأما قول الزرقاني ففيه أن قوله - صلى الله عليه وسلم - وأمره وفعله وتقريره حجة لكل شخص في كل زمان ومكان وحال، ما لم يدل دليل على الخصوصية، وقد تقدم أن الاستناد بالآية على وجوب الإتمام جهل، وقال العيني: ولو وقع التعارض بين الأخبار فالترجيح معنا لثلاثة أوجه، أحدها: إجماع الصحابة. والثاني: أحاديثنا مثبتة، وأحاديثهم نافية، والمثبت مقدم. والثالث: أنه احتياط في العبادة. قلت: قد عرفت فيما تقدم أن دعوى الإجماع باطلة، وأما قوله: إن أحاديث الحنفية تقدم على أحاديث الشافعية لكون الأولى مثبتة والثانية نافية، ففيه أن تقديم المثبت على النافي إنما هو إذا كانت أحاديث الطرفين متساوية في القوة والضعف، وهاهنا أحاديث النفي أرجح وأقوى من حيث الكثرة والصحة، وأحاديث الإثبات مرجوحة ضعيفة، فتقدم أحاديث النفي عليها، وليس الاحتياط في جعل الشيء واجبا من غير دليل قوي، بل الاحتياط في العمل بالسنة الصحيحة سواء كانت مثبتة للوجوب أو نافية له مع أن الأصل براءة الذمة، فافهم. (وصيام شهر رمضان) عطف على خمس صلوات، وجملة السؤال والجواب معترضة (قال) أي طلحة راوي الحديث (وذكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة) هذا قول الراوي، كأنه نسي ما نص عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو التبس عليه فقال: (وذكر له الزكاة)، هذا يؤذن بأن مراعاة الألفاظ معتبرة في الرواية، فإذا التبس عليه يشير في لفظه إلى ما ينبئ عنه كما فعل الراوي هاهنا، وفي رواية البخاري في الصيام: قال: فأخبرني بماذا فرض الله علي من الزكاة، قال: فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرائع الإسلام أي بنصب الزكاة
(1/194)
ومقاديرها وغير ذلك مما يتناول
الحج وأحكامه وجميع المنهيات، وأما تعقب الأبي بإرجاع لفظ الشرائع إلى ما ذكر قبله
لأن العام المذكور عقب خاص يرجع إلى ذلك الخاص على الصحيح، فهو مردود عليه، فإن
الصحيح والحق في مثل هذا أن ذكر العام بعد الخاص يكون للتعميم ولدفع توهم اختصاص
الحكم بالخاص المذكور قبله، فافهم، قال الحافظ: تضمنت هذه الرواية أن في القصة
أشياء أجملت منها بيان نصب الزكاة، فإنها لم تفسر في الروايتين، وكذا أسماء
الصلوات، وكان السبب فيه شهرة ذلك عندهم، أو القصد من القصة بيان أن المتمسك
بالفرائض ناج وإن لم يفعل النوافل – انتهى. (فقال: لا، إلا أن تطوع) قيل: يعلم منه
أنه ليس في المال حق سوى الزكاة بشروطها، قال القاري: وهو ظاهر إن أريد به الحقوق
الأصلية المتكررة تكررها وإلا فحقوق المال كثيرة كصدقة الفطر والنفقات الواجبة،
قلت: الكلام في حقوق المال وليس شيء من هذه الأشياء من حقوق المال بمعنى أنه يوجبه
المال بل يوجبه أسباب أخر كالفطر والقرابة والزوجية وغير ذلك
قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -: ((أفلح الرجل إن صدق))، متفق عليه.
17- (16) وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: إن وفد عبدالقيس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/195)
( والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه) أي لا أزيد على شرائع الإسلام ولا أنقص منها شيئا، والدليل عليه ما في رواية البخاري (ج1: ص254) في الصيام لا أتطوع شيئا ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا، قيل: كيف أقره على حلفه وقد ورد النكير على من حلف أن لا يفعل خيرا؟ وأجيب بأن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، وهذا جار على الأصول بأن لا إثم على غير تارك الفرائض، فهو مفلح وإن كان غيره أكثر فلاحا منه، وقال الباجي: يحتمل أنه سومح في ذلك لأنه في أول الإسلام (أفلح الرجل إن صدق) قال ابن بطال: دل هذا على أنه إن لم يصدق في التزامها أنه ليس بمفلح، وهذا خلاف قول المرجئة، وليس فيه تسويغ لترك السنن لما قال القرطبي: لم يسوغ له تركها دائما ولكن لقرب عهده بالإسلام اكتفى منه بالواجبات، وأخره حتى يأنس وينشرح صدره ويحرص على الخير، فيسهل عليه المندوبات – انتهى، وفي الحديث رد على المرجئة إذ شرط في فلاحه أن لا ينقص من الأعمال والفرائض المذكورة، وهو يقولون: التصديق وحده كاف للنجاة، لا حاجة إلى العمل، ولا يضر المعصية مع التصديق (متفق عليه) وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي.
(1/196)
17- قوله: (وعن ابن عباس) هو
عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب القرشي الهاشمي، أبوالعباس المكي ثم المدني ثم
الطائفي، ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه، وأمه أم الفضل لبابة الكبرى
بنت الحارث أخت ميمونة أم المؤمنين، ولد بالشعب قبل الهجرة بثلاث سنين، وتوفي
النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وقال أحمد: خمس عشرة سنة،
والأول أثبت، كان يقال له: الحبر والبحر لكثرة علمه، وترجمان القرآن. دعا له النبي
- صلى الله عليه وسلم - بالحكمة والفقه والعلم وتأويل الكتاب، ورأى جبرائيل – عليه
السلام – مرتين، قال مسروق: كنت إذا رأيت ابن عباس قلت: أجمل الناس، وإذا نطق قلت:
أفصح الناس، وإذا حدث قلت: أعلم الناس، وكان عمر يدنيه ويقربه ويشاوره مع أجلة
الصحابة، ومناقبه كثيرة وفضائله مشهورة، بسط ترجمته الحافظ في الإصابة، وابن
عبدالبر في الاستيعاب. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفا وستمائة وستين
حديثا، اتفقا على خمسة وسبعين، وانفرد البخاري بثمانية وعشرين، ومسلم بتسعة
وأربعين، روى عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين، مات بالطائف سنة 68، وهو ابن 71
سنة على الصحيح، في أيام ابن الزبير، وصلى عليه محمد بن الحنفية، وقد كف بصره في
آخر عمره، وقال الخزرجي: ابن عباس سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسة وعشرين
حديثا، وباقي حديثه من الصحابة، واتفقوا على قبول مرسل الصحابي – انتهى. (إن وفد
عبدالقيس) الوفد جمع وافد، وهو الذي أتى إلى الأمير برسالة من قوم، وقيل: الوفد
الجماعة المختارة من
لما أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((من القوم أو من الوفد؟ قالوا: ربيعة، قال: مرحبا بالقوم أو بالوفد غير خزايا ولا
ندامى)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/197)
القوم ليتقدموهم إلى لقي العظماء والمصير إليهم في المهمات، وعبدالقيس: أبوقبيلة عظيمة تنتهي إلى ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، وربيعة: قبيلة عظيمة في مقابلة مضر، وكان قبيلة عبدالقيس ينزلون البحرين وحوالي القطيف وما بين هجر إلى الديار المضرية، وقال صاحب التحرير: وفد عبدالقيس كانوا أربعة عشر راكبا، كبيرهم الأشج العصري، وقيل: كانوا ثلاثة عشر راكبا، كما في المعرفة لابن مندة، وقيل: كانوا أربعين رجلا، رواه الدولابي، وجمع بأن لهم وفادتين: إحداهما في سنة خمس أو قبلها أو سنة ست، وكان عدد الوفد فيها ثلاثة عشر راكبا، وكان فيهم الأشج العصري. وثانيتهما كانت في سنة الوفود، وكان عددهم حينئذ أربعين رجلا، وكان فيهم الجارود العبدي، أو يقال بأن الأربعة عشر كانوا رؤوس الوفد وأشرافهم وكان الباقون أتباعا، وقال العيني (ج1: 309) جملة الجمع تكون خمسة وأربعين نفسا، فعلمنا أن التنصيص على عدد معين لم يصح، ولهذا لم يخرجه البخاري ومسلم بالعدد المعين، ثم ذكر العيني نقلا عن شرح مسلم للنووي سبب قدومهم، قال القاضي: كان وفودهم عام الفتح قبل خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة، قال الحافظ: "تبع القاضي فيه الواقدي وليس بجيد؛ لأن فرض الحج كان سنة ست على الأصح، ولكن القاضي يختار أن فرض الحج كان سنة تسع حتى لا يرد على مذهبه أنه على الفور". (لما أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي حضروه (من القوم أو من الوفد) شك من الراوي، والسؤال للاستئناس، أو ليعرفوا فينزلوا منازهم (قالوا ربيعة) أي قال بعض الوفد: نحن ربيعة أو وفد ربيعة، على حذف مضاف، وفي نسخة بالنصب أي نسمى ربيعة، وفيه التعبير عن البعض بالكل؛ لأنهم بعض ربيعة، وهذا من بعض الرواة فإن عند البخاري في الصلاة: فقالوا: إنا هذا الحي من ربيعة (قال: مرحبا بالقوم أو بالوفد) أي أصاب الوفد رحبا – بضم الراء – أي سعة، والرحب – بالفتح -: الشيء الواسع أو
(1/198)
أتى القوم موضعا واسعا، فالباء
زائدة في الفاعل، ومرحبا مفعول به لمقدر، أو أتى الله بالقوم مرحبا، فالباء
للتعدية ومرحبا مفعول مطلق، وقيل: هو من المفاعيل المنصوبة بعامل مضمر لازم إضماره
لكثرة دورانه على ألسنة العرب، ويقال: هذا لتأنيس الوافد وإزالة الاستحياء عن نفس
من أتى من باغي خير وقاصد حاجة (غير خزايا) بفتح الخاء جمع خزيان من الخزي وهو
الذل والإهانة، أي غير أذلاء مهانين، ونصب غير على الحال من الوفد، والعامل فيه
الفعل المقدر في مرحبا، وفي رواية للبخاري مرحبا بالوفد الذين جاءوا غير خزايا،
قال القاري: وجوز جره على أنه بدل من القوم، وقال العيني: ويروى غير بكسر الراء
على أنه صفة للقوم، فإن قلت: إنه نكرة كيف وقعت صفة للمعرفة؟ قلت: للمعرف بلام
الجنس قرب المسافة بينه وبين النكرة فحكمه حكم النكرة إذ لا توقيت فيه ولا تعيين –
انتهى. (ولا ندامى) جمع نادم على غير قياس، إذ قياسه نادمين، لكنه اتبع خزايا
تحسينا للكلام، كما قالوا العشايا والغدايا، والقياس الغدوات جمع غداة لكنه اتبع
لما يقارنه ،
قالوا: يا رسول الله، إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، وبيننا وبينك
هذا الحي من كفار مضر، فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/199)
وإذا أفردت لم يجز إلا الغدوات، وقيل: هو جمع ندمان بمعنى نادم من الندامة كما حكى القزاز والجوهري وغيرهما من أهل اللغة. وعلى هذا يكون الجمع على الأصل ولا يكون من باب الاتباع، والمعنى: ما كانوا بالإتيان إلينا خاسرين خائبين؛ لأنهم أسلموا طوعا من غير حرب أو سبي يخزيهم ويفضحهم. (قالوا: يا رسول الله) فيه دليل على أنهم كانوا حين المقابلة مسلمين، وكذا في قولهم "كفار مضر" وفي قولهم "الله ورسوله أعلم". (لا نستطيع أن نأتيك) أي في جميع الأزمنة (إلا في الشهر الحرام) المراد به الجنس، فيشمل الأربعة الحرم، ويؤيده رواية البخاري في المغازي بلفظ (إلا في أشهر الحرم)، وفي المناقب (إلا في كل شهر حرام)، وقيل: اللام للعهد، والمراد شهر رجب، وفي رواية للبيهقي التصريح به، وكانت مضر تبالغ في تعظيم شهر رجب، فلهذا أضيف إليهم في حديث أبي بكرة عند البخاري حيث قال: ((رجب مضر))، والظاهر أنهم يخصونه بمزيد التعظيم مع تحريمهم القتال في الأشهر الثلاثة الأخرى إلا أنهم ربما أنسوها بخلافه، وإنما قالوا ذلك اعتذارا عن عدم الإتيان إليه - صلى الله عليه وسلم - في غير هذا الوقت؛ لأن الجاهلية كانوا يحاربون بعضهم بعضا، ويكفون في الأشهر الحرم تعظيما لها وتسهيلا على زوار البيت الحرام من الحروب والغارات الواقعة منهم في غيرها، ومن ثم كان يمكن مجيء هؤلاء إليه – عليه الصلاة والسلام – فيها دون ما عداها، قال الحافظ: وفيه دليل على تقدم إسلام عبدالقيس على قبائل مضر الذين كانوا بينهم وبين المدينة، ويدل على سبقهم إلى الإسلام أيضا ما رواه البخاري في الجمعة عن ابن عباس قال: إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجد عبدالقيس بجواثي من البحرين، وإنما جمعوا بعد رجوع وفدهم إليهم، فدل على أنهم سبقوا جميع القرى إلى الإسلام – انتهى. واحفظه فإنه ينفعك في مسألة الجمعة في القرى. (وبيننا وبينك هذا الحي)
(1/200)
الجملة حال من فاعل نأتيك، أو
بيان لوجه عدم الاستطاعة، والحي: هو اسم لمنزل القبيلة ثم سميت القبيلة به اتساعا
لأن بعضهم يحيى ببعض (من كفار مضر) كلمة من للبيان، ومضر هو ابن نزار بن معد بن
عدنان، فهو أخو ربيعة أبي عبدالقيس (بأمر فصل) الفصل بمعنى الفاصل كالعدل بمعنى
العادل، أي يفصل بين الحق والباطل، أو بمعنى المفصل المبين المكشوف، حكاه الطيبي،
وقال الخطابي: الفصل هو الواضح البين الذي ينفصل به المراد ولا يشكل، وقيل:
المحكم، والأمر بمعنى الشأن، واحد الأمور، والباء صلة والمراد به معنى اللفظ
ومورده، وقيل: الأمر واحد الأوامر أي القول الطالب للفعل والباء للاستعانة،
والمراد به اللفظ والمأمور به محذوف، أي مرنا بعمل بقولك آمنوا أو قولوا آمنا كذا
في المرقاة. (نخبر) بالرفع على أنه صفة ثانية لأمر أو استئناف، وبالجزم على أنه
جواب الأمر (من وراءنا) بفتح الميم، والهمزة موصولة أي من استقروا خلفنا (وندخل)
برفع اللام وجزمها عطفا على نخبر الموجه بوجهين (به) أي بسبب قبول أمرك والعمل به
(الجنة) هذا لا ينافي قوله - صلى الله عليه وسلم - ((لن يدخل الجنة
وسألوه عن الأشربة، فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع، أمرهم بالإيمان بالله وحده،
قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا
إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان،
وأن تعطوا من المغنم الخمس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/201)
أحد منكم بعمله؛ لأن المراد نفي كون العمل سببا مستقلا في الدخول مع قطع النظر عن كونه من الرحمة والفضل، إذ القصد به الرد على من يرى عمله متكفلا بدخولها من غير ملاحظة لكونها من جملة رحمة الله، أو المراد الجنة العالية أو أن درجاتها بالعمل ودخولها بالفضل. (وسألوه عن الأشربة) جمع شراب وهو ما يشرب أي عن حكم ظروف الأشربة، فالمضاف محذوف، أو التقدير عن الأشربة التي تكون في الأواني المختلفة فعلى هذا يكون محذوف الصفة، والمراد عن حكمها (فأمرهم بأربع) أي بأربع خصال، أو بأربع جمل بقولهم حدثنا بحمل من الأمر في رواية البخاري في المغازي (ونهاهن عن أربع) أي أربع خصال وهي أنواع الشرب باعتبار أصناف الظروف الآتية (قالوا: الله ورسوله أعلم) تأدبا وطلبا للسماع منه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن القوم كانوا مؤمنين (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) برفع شهادة لا غير على أنها خبر مبتدأ محذوف هو هو، أي الإيمان بالله وحده الذي هو بمعنى الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله...الخ (وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان) برفع الثلاثة على ما سيأتي بيانها، وقيل: بجرها عطفا على الإيمان في قوله: أمرهم بالإيمان بالله وحده، (وأن تعطوا من المغنم) بفتح الميم والنون أي الغنيمة (الخمس) بضم الميم وسكونها، وأن تعطوا في محل الرفع عطفا على قوله وصيام رمضان، فيكون واحدا من الأركان. قال الطيبي: في الحديث إشكالان: أحدهما: أن المأمور به واحد والأركان تفسير للإيمان بدلالة قوله ((أتدرون ما الإيمان بالله وحده))، وقد قال أربع أي الإيمان واحد والموعود بذكره أربع، فأين الثلاثة الباقية؟ وثانيهما: أن الأركان أي المذكورة خمسة، وقد ذكر أولا أنها أربعة، وأجيب عن الأول بأنه جعل الإيمان أربعا نظرا إلى أجزائه المفصلة، يعني أن الإيمان باعتبار أجزائه المفصلة أربع وهو في حد ذاته واحد، والمعنى: أنه اسم جامع للخصال الأربع
(1/202)
التي ذكر أنه يأمرهم بها ثم
فسرها، فهو واحد بالنوع متعدد بحسب وظائفه، كما أن المنهي عنه وهو الانتباذ فيما
يسرع إليه الإسكار واحد بالنوع متعدد بحسب أوعيته، وعن الثاني بأن عادة البلغاء
إذا كان الكلام منصبا لغرض من الأغراض جعلوا سياقه له، وكأن ما سواه مطروح، فهاهنا
ذكر الشهادتين ليس مقصودا؛ لأن القوم كانوا مؤمنين مقرين بكلمتي الشهادة، ولكن
ربما كانوا يظنون أن الإيمان مقصور عليهما كما كان الأمر في صدر الإسلام، قال
فلهذا لم يعد الشهادتين في الأوامر، وقال الكرماني: لم يجعل الشهادة بالتوحيد
وبالرسالة من الأربع لعلمهم بذلك، وإنما أمرهم بأربع لم يكن في علمهم أنها دعائم الإيمان،
وإلى هذا نحا القرطبي فقال: ذكر الشهادتين تبركا بهما كما في قوله ?واعلموا أنما
غنمتم من شيء فأن لله خمسه? [8: 41]،
ونهاهم عن أربع، عن الحنتم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/203)
ومحمل كلام الطيبي والكرماني والقرطبي أن ذكرهما ليس مقصودا من الأربع، بل هو جملة معترضة بين الأربع وبين مبينها، ويؤيده رواية البخاري (ج2: ص612) في الأدب: ((أربع وأربع، أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان وأعطوا خمس ما غنمتم...)) الحديث. ويؤيده أيضا حديث أبي سعيد الخدري عند أحمد (ج3: ص23) في قصة وفد عبدالقيس من طريق يحيى بن سعيد عن ابن عروبة، وفيه ((آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا))، فهذا ليس من الأربع ((وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان وأعطوا من الغنائم الخمس...)) الحديث. لكن ينافي قولهم ويعارض حديث أبي سعيد هذا رواية البخاري في المغازي بلفظ: ((آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله، وعقد واحدة، وفي فرض الخمس، وعقد بيده))، وفي رواية أبي داود: ((وعقد بيده واحدة)) فدلت هذه الروايات أن الشهادة إحدى الأربع، لا يقال: إن العقد كان للإشارة إلى التوحيد؛ لأن المعهود فيها الإشارة بنصب المسبحة دون العقد، والراوي ذكر العقد، وكذا يخالفهم ما في رواية البخاري في أوائل المواقيت ولفظه: ((آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله))، ثم فسرها لهم ((شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله...)) الحديث، فهذا أيضا يدل على أنه عد الشهادتين من الأربع؛ لأنه أعاد الضمير في قوله ((ثم فسرها)) مؤنثا فيعود على الأربع، ولو أراد تفسير الإيمان لأعاده مذكرا، لكن يمكن أن يقال: إنه أنث الضمير نظرا إلى أن المراد بالإيمان الشهادة أو إلى أنه خصلة، وأجيب أيضا عن الإشكال الثاني بأنه عد الصلاة والزكاة واحدة؛ لأنها قرينتها في كتاب الله، وتكون الرابعة أداء الخمس، وقيل: أداء الخمس داخل في عموم إيتاء الزكاة فلم يعده مستقلا. والجامع بينهما أنهما إخراج مال معين في حال دون حال، هذا، وما ذكرناه في توضيح الإشكال ورفعه يوافق حديث جبريل
(1/204)
ومذهب السلف في الإيمان من كون
الأعمال داخلة في حقيقته، فإنه قد فسر الإسلام في حديث جبريل بما فسر به الإيمان
في قصة وفد عبدالقيس، فدل هذا على أن الأشياء المذكورة – وفيها أداء الخمس – من
أجزاء الإيمان، وأنه لابد في الإيمان من الأعمال خلافا للمرجئة. قال الحافظ معتذرا
عن عدم ذكر الحج في الحديث: إنما أخبرهم ببعض الأوامر؛ لكونهم سألوه أن يخبرهم بما
يدخلون بفعله الجنة، فاقتصر لهم على ما يمكنهم فعله في الحال، ولم يقصد إعلامهم
بجميع الأحكام التي تجب عليهم فعلا وتركا، ويدل على ذلك اقتصاره في المناهي على
الانتباذ في الأوعية مع أن في المناهي ما هو أشد في التحريم من الانتباذ، لكن
اقتصر عليها لكثرة تعاطيهم لها – انتهى. (ونهاهم عن أربع) أي خصال (عن الحنتم) بدل
من قوله عن أربع بإعادة الجار، وهو من إطلاق المحل وإرادة الحال أي ما في الحنتم
ونحوه، وصرح بالمراد في رواية للنسائي فقال: ((وأنهاكم عن أربع ما ينتبذ في
الحنتم...))الحديث، والحنتم – بفتح الحاء المهملة وسكون النون وفتح المثناة من فوق
-: هي الجرة مطلقا، وقيل: خضراء، وقيل: حمراء، أعناقها من جنوبها يجلب فيها الخمر
من مضر، وقيل: من الطائف، وقيل: هي جرار تعمل من طين ودم وشعر، أقوال للصحابة
وغيرهم، ولعلهم كانوا ينتبذون في ذلك كله
والدباء والنقير والمزفت، وقال: احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم)) متفق عليه، ولفظه
للبخاري.
18- (17) وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحوله
عصابة من أصحابه: ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا،
ولا تقتلوا أولادكم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/205)
( والدباء) بضم المهملة وتشديد الموحدة والمد وقد يقصر: وعاء القرع وهو اليقطين اليابس، وهو جمع والواحدة دباءة، ومن قصر قال: "دباة" (والنقير) بفتح النون وكسر القاف: أصل النخلة ينقر وسطه فيتخذ من وعاء وينبذ فيه (والمزفت) بتشديد الفاء أي المطلي بالزفت أي القار، وربما قال ابن عباس المقير بدل المزفت، ومعنى النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية بخصوصها لأنه يسرع فيها الإسكار، فربما شرب منها من لا يشعر بذلك، ثم ثبتت الرخصة في الانتباذ في كل وعاء مع النهي عن شرب كل مسكر كما سيأتي في باب النقيع. (احفظوهن) أي الكلمات المذكورات (وأخبروا بهن) بفتح الهمزة (من وراءكم) بفتح من وهي موصولة، ووراءكم يشمل من جاءوا من عندهم، وهذا باعتبار المكان، ويشمل من يحدث لهم من الأولاد وغيرهم، وهذا باعتبار الزمان، فيحتمل إعمالها في المعنيين حقيقة ومجازا (متفق عليه) وأخرجه أيضا أبوداود والترمذي والنسائي وغيرهم (ولفظه للبخاري) يعني لمسلم معناه، فبهذا المعنى صار الحديث متفقا عليه.
(1/206)
18- قوله: (وعن عبادة) بضم
العين وتخفيف الموحدة (بن الصامت) بن قيس الأنصاري الخزرجي المدني، يكنى
أباالوليد، شهد العقبتين وبدرا والمشاهد كلها، وهو أحد النقباء، ثم وجهه عمر إلى
الشام قاضيا ومعلما، فأقام بحمص ثم انتقل إلى فلسطين ومات بها في الرملة، وقيل:
ببيت المقدس سنة 34 وهو ابن 72سنة، وقيل عاش إلى خلافة معاوية، وهو أحد من جمع
القرآن في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، رواه البخاري في تاريخه الصغير وابن
سعد عن محمد بن كعب القرظي، وكان طويلا جسيما جميلا فاضلا، قال سعيد بن عفير: كان
طوله عشرة أشبار. له مائة وأحد وثمانون حديثا، اتفقا منها على ستة، وانفرد البخاري
بحديثين، وكذا مسلم، روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين. (وحوله) نصب على الظرفية
خبر لقوله (عصابة) بالكسر اسم جمع كالعصبة لما بين العشرة إلى الأربعين من العصب
وهو الشد، كأن بعضهم يشد بعضا، والجملة حالية (من أصحابه) في محل الرفع؛ لأنه صفة
لعصابة، أي عصابة كائنة من أصحابه، وكلمة (من) للتبعيض، ويجوز أن تكون للبيان
(بايعوني) أي عاقدوني، سميت المعاهدة على الإسلام بالمبايعة تشبيها لنيل الثواب في
مقابلة الطاعة بعقد البيع الذي هو مقابلة مال، ووجه المفاعلة أن كلا من المتبايعين
يصير كأنه باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته كما في قوله تعالى: ?إن
الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة? [9: 111]. (لا تشركوا
بالله شيئا) مفعول به أو مفعول مطلق (ولا تسرقوا) من سرق بالفتح يسرق بالكسر سرقا،
وهو أخذ مال الغير محرزا بخفية (ولا تقتلوا أولادكم) خص القتل بالأولاد لأنه قتل
وقطيعة رحم، فالعناية بالنهي عنه
ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم
فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/207)
آكد ولأنه كان شائعا فيهم، هو وأد البنات خوف لحوق عيب وعار، وقتل البنين خشية إملاق وإقتار، أو خصهم بالذكر لأنهم بصدد أن لا يدفعوا عن أنفسهم (ولا تأتون ببهتان) الباء للتعدية والبهتان - بالضم - الكذب الذي يبهت سامعه أي يدهشه لفظاعته (تفترونه) أي تخلقونه، صفة بهتان (بين أيديكم وأرجلكم) أصل هذا كان في بيعة النساء، وكنى بذلك عن نسبة المرأة الولد الذي تزني به أو تلتقطه إلى زوجها كذبا؛ لأن بطنها الذي يحمله بين يديها وفرجها الذي تلد منه بين رجليها، ثم لما استعمل هذا اللفظ في بيعة الرجال احتيج إلى حمله على غير ما ورد فيه أولا، فقيل معناه: لا تأتوا ببهتان من قبل أنفسكم ومن عند ذواتكم، فاليد والرجل كنايتان عن الذات؛ لأن معظم الأفعال يقع بهما، وقد يعاقب الرجل بجناية قولية، فيقال له: هذا بما كسبت يداك. أو معناه: لا تنسبوا مبنيا على ظن فاسد وغش مبطن من ضمائركم وقلوبكم التي بين أيديكم وأرجلكم، فالأول كناية عن إلقاء البهتان من تلقاء أنفسهم، والثاني: عن إنشاء البهتان من دخيلة قلوبهم مبنيا على الغش المبطن. وقيل معناه: لا تبهتوا الناس بالعيوب كفاحا مواجهة، كما يقال: فعلت هذا بين يديك أي بحضرتك، وأراد هاهنا الأيدي، وذكر الأرجل تأكيدا له (ولا تعصوا) بضم الصاد، وفي رواية للبخاري: ((ولا تعصوني)) وهو مطابق للآية، (في معروف) قال في النهاية: هو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله تعالى والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات – انتهى. ونبه بذلك على أن طاعة المخلوق إنما تجب فيما كان غير معصية لله، فهي جديرة بغاية التوقي في معصية الله (فمن وفى) أي ثبت على ما بايع عليه بتخفيف الفاء وتشديدها وهما بمعنى (فأجره على الله) قال الحافظ: أطلق هذا على سبيل التفخيم لأنه لما ذكر المبايعة المقتضية لوجود العوضين أثبت ذكر الأجر في موضع أحدهما، وأفصح في رواية الصنابحي عن عبادة في
(1/208)
هذا الحديث في الصحيحين بتعيين
العوض فقال: بالجنة، وعبر هنا بلفظ على للمبالغة في تحقيق وقوعه كالواجبات. فإن
قيل: لم اقتصر على المنهيات ولم يذكر المأمورات؟ فالجواب: أنه لم يهملها بل ذكرها
على طريق الإجمال في قوله ((ولا تعصوا))، إذ العصيان مخالفة الأمر، والحكمة في
التنصيص على كثير من المنهيات دون المأمورات أن الكف أيسر من إنشاء الفعل؛ لأن
اجتناب المفاسد مقدم على اجتلاب المصالح والتخلي عن الرذائل قبل التحلي بالفضائل،
وترك سائر المنهيات لزيادة الاهتمام بالمذكورات، وفيه رد على المرجئة الذين يقولون
بأن التصديق وحده كاف للنجاة، وأنه لا تضر المعصية مع الإيمان. (ومن أصاب من ذلك)
أي من المذكور (فعوقب به) هو أعم من أن تكون العقوبة حدا أو تعزيرا، واختلفوا في
أنه يعم العقوبات الشرعية ويشمل العقوبات القدرية كالمصائب والآلام والأسقام
وغيرها أم لا؟ فقيل: نعم، كما في الحديث: ((لا يصيب المسلم نصب ولا هم ولا حزن حتى
الشوكة يشاكها الرجل إلا كفر الله بها من خطاياه))، وقيل: لا، لحديث
فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء عفا
عنه وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/209)
خزيمة بن ثابت عند أحمد في مسنده (ج5: ص214، 215) بإسناد حسن: ((من أصاب ذنبا أقيم عليه حد ذلك الذنب فهو كفارته))، فإنه صريح في أن المراد عن العقوبة المذكورة في الحديث الحدود دون المصائب، وقال الحافظ: يحتمل أن يراد أن المصائب تكفر ما لا حد فيه. (فهو) العقاب، وهذا مثل هو في قوله تعالى: ?اعدلوا هو أقرب للتقوى? [5: 8]، (كفارة له) زاد في رواية للبخاري: ((وطهور)) بفتح الطاء أن يكفر إثم ذلك ولم يعاقب به في الآخرة، قال النووي: عموم هذا الحديث مخصوص بقوله تعالى: ?إن الله لا يغفر أن يشرك به? [4: 48]، فالمرتد إذا قتل على الردة لا يكون القتل له كفارة – انتهى. ويستفاد من الحديث أن إقامة الحد كفارة للذنب ولو لم يتب المحدود، وهو قول الجمهور، وقيل: لا بد من التوبة، وبذلك جزم بعض التابعين، وهو قول للمعتزلة، ووافقهم ابن حزم، ومن المفسرين البغوي وطائفة يسيرة – انتهى. قلت: الأول قول مجاهد وزيد بن أسلم والثوري والإمام أحمد، ورجحه ابن جرير وضعف القول بخلاف ذلك ووهنه جدا، قال الحافظ في الفتح: واستدل البغوي ومن وافقه باستثناء من تاب في قوله تعالى: ?إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم? [5: 34]، قال: والجواب في ذلك أنه في عقوبة الدنيا ولذلك قيدت بالقدرة عليه. انتهى. (ثم ستره الله) أي ذلك الشيء المصاب (فهو إلى الله) أي أمره وحكمه من العفو العقاب مفوض إليه فلا يجب عليه عقاب عاص كما لا يجب عليه ثواب مطيع على المذهب الحق، وفيه رد على الخوارج الذين يكفرون بالذنوب، ورد على المعتزلة الذين يوجبون تعذيب الفاسق إذا مات بلا توبة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأنه تحت المشيئة، ولم يقل: لا بد أن يعذبه (إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه) يشمل من تاب من ذلك ومن لم يتب، وقال بذلك طائفة، وذهب الجمهور إلى أن من تاب لا يبقى عليه مؤاخذة ومع ذلك فلا يأمن مكر الله؛ لأنه لا إطلاع له هل قبلت توبته أو لا، وقيل:
(1/210)
يفرق بين ما يجب فيه الحد وما لا يجب، كذا في الفتح. اعلم أنه ذهب أكثر العلماء ومنهم الشافعية إلى أن الحدود كفارات وسواتر، واستدلوا بحديث عبادة هذا، وهو صريح في ذلك، ويؤيده ما رواه غير واحد من الصحابة منهم علي بن أبي طالب، أخرج حديثه أحمد والترمذي في الإيمان وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه، ومنهم أبوتميمة الجهيمي أخرجه حديثه الطبراني بإسناد حسن، ومنهم خزيمة بن ثابت أخرج حديثه أحمد، وقد تقدم لفظه، ومنهم ابن عمر وأخرج حديثه الطبراني مرفوعا، واختلفت الحنفية فيه، فقال أبولحسن الطالقاني الحنفي كما في طبقات الشافعية وأبوبكر الكاساني صاحب البدائع: إن الحدود كفارات، وصرح صاحب الدر المختار بأنها ليست بكفارة بل هي روادع وزواجر فقط. واستدل له بقوله تعالى: ?ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم? [5: 33] في آية المحاربة، فإنه يدل على أنه يعذبون في الآخرة بعد إقامة الحد عليهم في
(1/211)
الدنيا فلم يكن الحد كفارة لهم، وأجيب بأن الآية نزلت في العرنيين، ومعلوم أنهم كانوا ارتدوا بعد إسلامهم، وحينئذ فالآية خارجة عن موضع النزاع؛ لأن المسألة إنما كانت في المسلمين؛ لأن التكفير في حق المشركين لم يقل به أحد، والآية وإن لم تأخذ الكفر والارتداد في العنوان بل أدارت الحكم على وصف قطع الطريق وهو يقتضي أن يدور الحكم على هذا الوصف سواء كان من المسلم أو المرتد أو الكافر أو الذمي، ولا يقتصر على المرتد والكافر فقط، لكن يمكن أن يقال: إنه جرى ذكر العذاب في الآخرة في الآية لحال الفاعلين أي لحال كفرهم لا لحال الفعل، فإن المعصية الواحدة تختلف شدة وضعفا باعتبار حال الفاعلين، فقد تكون المعصية من المؤمن ويخف العذاب عليها رعاية لإيمانه، وقد تكون تلك المعصية بعينها من الكافر ويزاد في عقوبته لحال كفره، فقطع الطريق من المسلمين شنيع، وهو من المرتدين أشنع، وعلى هذا فلا دليل في الآية على أن المسلم لو فعل ذلك ثم أقيم عليه الحد كان له عذاب في الآخرة أيضا؛ لأنه ليس جزاء للفعل على هذا التقدير بل الشناعة في الجزاء بشناعة الفاعلين، كذا قرره الشيخ محمد أنور الحنفي. ويمكن أن يقال: إنه يحتمل أن يكون حديث عبادة مخصصا لعموم الآية أو مبينا أو مفسرا لها، واستدلوا له أيضا بقوله تعالى: ?فمن تاب من بعده ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم? [5: 39] في آية حد السرقة، قيل: هو دليل صريح على أن إقامة الحد لا تكون كفارة إلا بعد التوبة من ظلمه وإصلاح عمله. وأجيب عنه بأنه لا دليل في الآية على ذلك؛ لأن ظاهر معنى الآية: أن من تاب من بعد ظلمه، أي سرقته يعني حسن حاله في المستقبل وأصلح عمله وعزم على ترك العود إلى مثل ذلك فيقبل الله توبته ويرحمه ويطهره من جميع الذنوب، وأما ذنب هذه السرقة فقد زال بنفس إقامة حد السرقة، ولم يتوقف على التوبة، وبالجملة الآية إنما تتعلق بالتوبة والإصلاح في الاستقبال لا
(1/212)
بما تقدم من ذنب السرقة، وقيل: معنى الآية: فمن تاب أي من السرقة وأصلح أمره فإن الله يتوب عليه، أي يغفر له ويتجاوز عنه ويقبل توبته أي يسقط عنه حق الله، وأما حق الآدميين من القطع، ورد المال فلا يسقط، نعم إن عفا قبل الرفع إلى الإمام سقط القطع، كما ذهب إليه الشافعي، واستدل له أيضا بقوله تعالى: ?فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم? [24: 4-5] في آية حد القذف، قيل: هو أقوى دليل على أن إقامة الحد لا تطهر القاذف من الذنب ولا تخرجه من الفسق إلا بعد التوبة، وإنما وعد الله المغفرة والرحمة لمن تاب بعد ذلك وأصلح عمله. وأجيب عنه بأن حد القذف ليس هو الجلد فقط، بل هو مجموع أمرين أو ثلاثة أمور: الجلد، وعدم قبول الشهادة، والحكم بكونه فاسقا، لكن بينها فرق وهو أن الجلد لا يرتفع بالتوبة، فإنه يجلد التائب كالمصر بالإجماع، وأما عدم قبول الشهادة والحكم بالفسق فيزولان بالتوبة بناء على أن الاستثناء يتعلق بالجملتين، وهذا عند الأئمة الثلاثة، خلافا لأبي حنيفة، فإنه ذهب إلى أنه لا يقبل شهادة القاذف أبدا أي مادام حيا وإن تاب، وهذا لأن الاستثناء عنده يرجع إلى الجملة الأخيرة فقط، فلا يزول عنده بالتوبة إلا اسم الفسق، وأما عدم قبول الشهادة فيبقى على حاله بعد التوبة، وإصلاح العمل أيضا كالجلد، ففرق أبوحنيفة بين القذف
(1/213)
وسائر الكبائر مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر والميسر، فقال بقبول الشهادة من التائبين من هذه المعاصي بعد إقامة الحدود عليهم كالأئمة الثلاثة، وخالفهم في التائب من ذنب القذف، فلم يقبل شهادته أبدا، وإذا كان عدم قبول الشهادة داخلا في حد القذف وجزءا منه خلافا لسائر الحدود، حتى إنه لا يقبل شهادته بعد التوبة أيضا عند أبي حنيفة، ظهر منه أن حكم حد القذف مخالف لحكم سائر الحدود، فلا يتطهر القاذف من ذنب القذف إلا بالتوبة كما نص على ذلك الآية بخلاف سائر الحدود، فإنها تكون كفارة ومطهرة بنفسها من غير احتياج إلى التوبة بعد إقامة الحد، واستدل له أيضا بما سيأتي في باب الشفاعة في الحدود من حديث أبي أمية المخزومي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بلص قد اعترف اعترافا...الحديث، وفيه ((فأمر به فقطع فجيء به، فقال له رسول ا لله - صلى الله عليه وسلم -: استغفر الله وتب إليه، فقال: أستغفر الله وأتوب إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم تب عليه)) أخرجه أبوداود والنسائي وابن ماجه، قالو: لو كان الحد كفارة لما احتاج إلى الاستغفار بعد القطع مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالاستغفار، فعلم أن الحدود أصلها للزجر لا للستر والتكفير. وأجيب عنه بأن معنى قوله ((تب)) أي في الاستقبال بأن لا تفعله ثانيا، فيخرج الحديث عما نحن فيه ولا يتم الاستدلال، وقال السندي في حاشية النسائي: قوله ((استغفر الله)) – أي في حديث أبي أمية المذكور – لعل المراد الاستغفار والتوبة من سائر الذنوب، أو لعله قال ذلك ليعزم إلى عدم العود إلى مثله، فلا دليل لمن قال الحدود ليست كفارات لأهلها مع ثبوت كونها كفارات بالأحاديث الصحاح التي كادت تبلغ حد التواتر، كيف والاستغفار مما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((استغفر لذنبك))، وقد قال الله تعالى: ?لقد تاب الله على النبي? [9: 117] لمعان ومصالح ذكروا في محله،
(1/214)
فمثله لا يصلح دليلا على بقاء
ذنب السرقة، والله تعالى أعلم – انتهى. وقال القاري: هذا منه - صلى الله عليه وسلم
- يدل على أن الحد ليس مطهرا بالكلية مع فساد الطوية وإنما هو مطهر لعين ذلك
الذنب، فلا عقاب عليه ثانيا من جهة الرب – انتهى. وتوقف بعض العلماء في كون الحدود
كفارات ولم يقضوا في ذلك بشيء؛ لحديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال: ((لا أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا)) أخرجه الحاكم في المستدرك، وقال:
صحيح على شرط الشيخين، وأخرجه البزار وأحمد أيضا، واختلف في وصله وإرساله، وأجيب
عنه بأن حديث عبادة أصح وصحته متفق عليها، بخلاف حديث أبي هريرة على ما نص عليه
القاضي وغيره، فلا تعارض لكون حديث عبادة واجب التقديم فلا وجه للتوقف في كون
الحدود كفارة، ولو سلم التساوي والمعارضة جمع بينهما بأنه يمكن أن يكون حديث أبي
هريرة ورد أولا قبل أن يعلمه الله ثم أعلمه بعد ذلك، قال القاضي: فإن قيل: حديث
عبادة هذا كان بمكة ليلة العقبة لما بايع الأنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- البيعة الأولى بمنى، وأبوهريرة إنما أسلم بعد ذلك بسبع سنين عام خيبر، فكيف يكون
حديثه متقدما؟ قيل: يمكن أن يكون أبوهريرة ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم
-، وإنما سمعه من صحابي آخر كان سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - قديما، ولم
يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك أن الحدود كفارة كما سمعه عبادة،
انتهى. وقال الحافظ: الحق عندي أن حديث أبي هريرة صحيح، وهو سابق عن حديث عبادة،
والمبايعة المذكورة
متفق عليه.
19- (18) وعن أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أضحى
أو فطر إلى المصلى فمر على النساء فقال: يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر
أهل النار ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/215)
في حديث عبادة على الصفة المذكورة لم تقع ليلة العقبة، ثم ذكر نص بيعة ليلة العقبة من مغازي ابن إسحاق وغيره، وقال بعد سرد الروايات من صحيحي البخاري ومسلم والنسائي والطبراني: فهذه أدلة ظاهرة في أن هذه البيعة صدرت بعد نزول آية الممتحنة بل بعد صدور بيعة النساء بل بعد فتح مكة وذلك بعد إسلام أبي هريرة – انتهى. هذا، وقد أطال الحافظ البحث هاهنا، وتقبه العيني فارجع إلى الفتح والعمدة وتأمل في تعقبات العيني (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم.
(1/216)
19- قوله: (وعن أبي سعيد الخدري) بضم الخاء وسكون الدال المهملة نسبة إلى خدرة، وهو أبجر بن عوف أحد أجداد أبي سعيد، اسمه سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري الخزرجي، اشتهر بكنيته، استصغر يوم أحد فرد ثم غزا بعد ذلك اثنتي عشرة غزوة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأول مشاهده الخندق، واستشهد أبوه يوم أحد، روي له ألف حديث ومائة وسبعون حديثا، اتفقا منها على ستة وأربعين، وانفرد البخاري بستة عشر، ومسلم باثنين وخمسين، روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين، قال ابن عبدالبر: كان ممن حفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سننا كثيرة، وروى عنه علما جما، وكان من نجباء الأنصار وعلمائهم وفضلائهم، قال حنظلة بن أبي سفيان عن أشياخه: لم يكن أحد من أحداث أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفقه من أبي سعيد، مات بالمدينة سنة (63) أو (64) أو (65)، وقيل: سنة (74). (في أضحى) بفتح الهمزة والتنوين واحدة أضحاة، لغة في الأضحية، أي في عيد أضحى على حذف المضاف، بل غلب على عيد النحر فحينئذ مغن عن التقدير كالفطر، وفي بعض النسخ بترك التنوين، سمي بذلك لأنه يفعل وقت الضحى وهو ارتفاع النهار. (أو فطر) شك من الراوي (إلى المصلى) هو موضع صلاة العيد في الجبانة (يا معشر النساء) أي جماعتهن، قال الليث: المعشر: كل جماعة أمرهم واحد (أريتكن) بضم الهمزة وكسر الراء على صيغة المجهول، أي أراني الله إياكن (أكثر أهل النار) بالنصب على الحال بناء على أن أفعل لا يتعرف بالإضافة كما صار إليه الفارسي وغيره، قيل: المراد أن الله تعالى أراهن في ليلة الإسراء، والظاهر أن هذه الرؤية وقعت في صلاة الكسوف كما يدل عليه رواية ابن عباس الآتية في صلاة الكسوف، وقيل: أريتكن متعد إلى ثلاثة مفاعيل: الأول التاء التي هي مفعول ناب عن الفاعل، والثاني: كن، والثالث: أكثر، أي أخبرت وأعلمت على طريق الوحي بأنكن أكثر دخولا في النار من الرجال،
(1/217)
والصدقة تقي منها، قال – عليه
السلام -: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة))، ولا يعارض هذا ما أخرجه أبويعلى عن أبي
هريرة في حديث الصور الطويل مرفوعا: ((فيدخل الرجل على اثنتين وسبعين زوجة مما
ينشئ الله وزوجتين من ولد آدم)) وغير ذلك من الأحاديث
فقلنا: وبم يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل
ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟
قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/218)
الدالة على كون الزوجتين من نساء الدنيا، وكثرة النساء في الجنة دون النار لأنه يحتمل أن يكون ذلك في أول الأمر قبل خروج العصاة من النار بالشفاعة، وقيل: كانت الأكثرية عند مشاهدته إذ ذاك ولا تنسحب على مجموع الزمان، فتأمل (وبم) أصله بما حذفت ألف ما الاستفهامية بدخول حرف الجر عليها تخفيفا، والباء للسببية متعلقة بمقدر بعدها، والواو للعطف على مقدر قبله، والتقدير: كيف يكون ذلك وبأي شيء نكن أكثر أهل النار، أو ما ذنبنا وبم...الخ. (تكثرن اللعن) في مقام التعليل، وكان المعنى لأنكن تكثرن اللعن، وهو في اللغة الطرد والإبعاد، وفي الشرع الإبعاد من رحمة الله تعالى، قال القاري: لعل وجه التقييد بالإكثار أن اللعن يجري على ألسنتهن لاعتيادهن من غير قصد لمعناه السابق فخفف الشارع عنهن ولم يتوعدهن بذلك إلا عند إكثاره، قال: وقد يستعمل في الشتم والكلام القبيح، يعني عادتكن إكثار اللعن والشتم والإيذاء باللسان، انتهى. (وتكفرن) بضم الفاء، قال الراغب: الكفر في اللغة: ستر الشيء، وكفر النعمة وكفرانها سترها بترك أداء شكرها، والكفران في جحود النعمة أكثر استعمالا، والكفر في الدين أكثر والكفور فيهما. (العشير) أي المعاشر، وهو المخالط، والمراد به الزوج أو أعم من ذلك، وكفران العشير جحد نعمته وإحسانه واستقلال ما كان منه. (ما رأيت ناقصات عقل ودين) من مزيدة للاستغراق بمجيئها بعد النفي، صفة لمفعوله المحذوف، أي ما رأيت أحدا من ناقصات. العقل: غزيرة في الإنسان يدرك بها المعنى ويمنعه عن القبائح، وهو نور الله في قلب المؤمن. (أذهب) بالنصب، وهو صفة أخرى للمفعول المحذوف إن كان رأيت بمعنى أبصرت، وهو مفعول ثان له إن كان بمعنى علمت، والمفضل عليه مفروض مقدر، وهو أفعل التفضيل من الإذهاب لمكان اللام في قوله (للب الرجل) أي أكثر إذهابا للب، وهذا جائز على رأي سيبويه حيث جوزه من الثلاثي المزيد، واللب: العقل الخالص من شوائب الهوى،
(1/219)
وسمي بذلك لكونه خالص ما في
الإنسان من قواه كاللباب من الشيء، وقيل: ما ذكا من العقل، فكل لب عقل ولا يعكس.
(الحازم) الضابط لأمره من الحزم، وهو ضبط الرجل أمره وأخذه بالثقة، وهذه مبالغة في
وصفهن بذلك؛ لأن الضابط لأمره إذا كان ينقاد لهن فغير الضابط أولى (من إحداكن)
متعلق بأذهب (وما نقصان ديننا وعقلنا) هذا استفسار منهن عن وجه نقصان دينهن، وذلك
لأنه خفي عليهن ذلك حتى استفسرن، وما ألطف ما أجابهن به - صلى الله عليه وسلم - من
غير تعنيف ولا لوم بل خاطبهن على قدر عقولهن وفهمهن (أليس شهادة المرأة مثل نصف
شهادة الرجل) إشارة إلى قوله تعالى: ?فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان? [2: 282]؛
لأن الاستظهار بأخرى مؤذن بقلة ضبطها وهو مشعر بنقص عقلها (فذلك) بكسر الكاف خطابا
للواحدة التي تولت الخطاب، ويجوز
من نقصان عقلها، قال: أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان
دينها))، متفق عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/220)
فتحها على أنه للخطاب العام، والإشارة للحكم السابق (من نقصان عقلها) فيه دلالة على أن ملاك الشهادة العقل مع اعتبار الأمانة والصدق، وعلى أن شهادة المغفل ضعيف وإن كان قويا في الدين والأمانة. (قال) هو موجود في أكثر النسخ، وأما في أصل السيد جمال الدين ومتن صحيح البخاري فغير موجود، قاله القاري. (فذلك من نقصان دينها) قال النووي: قد يستشكل معنى وصفه - صلى الله عليه وسلم - النساء بنقصان الدين لتركهن الصلاة والصوم في زمن الحيض، وليس بمشكل، فإن الدين والإيمان والإسلام مشتركة في معنى واحد، وقد قدمنا أن الطاعات تسمى إيمانا ودينا، وإذا ثبت هذا علمنا أن من كثرت عبادته زاد إيمانه ودينه، ومن نقصت عبادته نقص إيمانه ودينه – انتهى. قال الحافظ: وليس المقصود بذكر النقص في النساء لومهن على ذلك؛ لأنه من أصل الخلقة، لكن التنبيه على ذلك تحذيرا من الافتتان بهن، ولذا رتب العذاب على ما ذكر من الكفران وغيره لا على النقص، وليس نقص الدين منحصرا فيما يحصل به الإثم بل في أعم من ذلك، فإنه قد يكون على وجه لا إثم فيه كمن ترك الجمعة أو الغزو أو غير ذلك مما لا يجب عليه لعذر، وقد يكون على وجه هو مكلف به كترك الحائض الصلاة والصوم، قال: فالنقص أمر نسبي، فالكامل مثلا ناقص عن الأكمل ومن ذلك الحائض لا تأثم بترك الصلاة زمن الحيض لكنها ناقصة عن المصلي. وفي الحديث دليل على أن جحد النعم حرام، وكذا كثرة استعمال الكلام القبيح كاللعن والشتم. واستدل النووي على أنهما من الكبائر بالتوعد عليهما بالنار، وفيه ذم اللعن وهو الدعاء بالإبعاد من رحمة الله، وهو محمول على ما إذا كان في معين، وفيه إطلاق الكفر على الذنوب التي لا تخرج من الملة تغليظا على فاعلها، لقوله في رواية أخرى ((بكفرهن)) ففيه دلالة على جواز إطلاق الكفر على غير الكفر بالله ككفر العشير والإحسان والنعمة والحق، لكنه كفر دون كفر أي كفر أدون وأخف من الكفر بالله،
(1/221)
فالكفر متنوع متفاوت زيادة
ونقصانا بعضه أخف من بعض، فكما أن الإيمان ذو شعب كثيرة، أعلاها لا إله إلا الله
وأدناها إماطة الأذى عن الطريق وبينها مراتب كثيرة، كذلك في الكفر مراتب بعضها أخف
من بعض، وبين أعلاه وأدناه مراتب كثيرة، أو يقال: إن الكفر نوعان: كفر بالله، وله
أربعة أقسام: كفر إنكار، وجحود، وعناد، ونفاق، على ما قاله الأزهري، وكفر بغير
الله، وهو كفر دون كفر، أي مغاير للكفر بالله، فالأول مخرج من الملة موجب للخلود،
والثاني موجب للفسوق فقط غير موجب للخلود، مثلا الرجل يقر بالوحدانية والنبوة
بلسانه ويعتقد ذلك بقلبه لكنه يرتكب الكبائر من القتل والسعي في الأرض بالفساد
وكفران الحقوق والنعم ونحو ذلك، ويوجد في ذلك صحة تأويل الأحاديث التي أطلق فيه
الكفر على الكبائر مثل قوله: ((وقتاله كفر))، وقوله: ((من ترك الصلاة متعمدا فقد
كفر))، وغير ذلك، فلا حجة فيها للخوارج الذين يكفرون مرتكب الكبيرة. (متفق عليه)
وأخرجه
20- (19) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الله
تعالى: ((كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي
فقوله لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أيضا النسائي وابن ماجه، وأخرجه مسلم عن أبي هريرة وابن عمر أيضا وأخرجاه عن جابر
أيضا.
(1/222)
20- قوله: (قال الله تعالى) هذا من الأحاديث الإلهية، وتسمى القدسية والربانية، وهي أكثر من مائة، وقد جمعها بعضهم في جزء كبير، والفرق بين الحديث القدسي وبين القرآن أن الأول يكون بإلهام أو منام أو بواسطة ملك بالمعنى فيعبره بلفظه وينسبه إلى ربه، والثاني لا يكون إلا بإنزال جبريل باللفظ المعين، وهو أيضا متواتر بخلاف الأول فلا يكون حكمه حكمه في الفروع وبقية الأحاديث وإن كانت كلها بالوحي لقوله تعالى: ?وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى?، لكنها لم يضفها إلى الله تعالى ولم يروها عنه تعالى، فهي في الدرجة الثالثة، وإن شئت التفصيل فارجع إلى قواعد التحديث (39-44). (كذبني) بتشديد الذال المعجمة من التكذيب، وهو نسبة المتكلم إلى أن خبره خلاف الواقع، والمعنى نسب إلي الكذب حيث أخبرته أني أعيده يوم القيامة، وهو ينكر البعث ويكذبني في ذلك الإخبار (ابن آدم) المراد به بعض بني آدم وهم من أنكر البعث من العرب وغيرهم من عباد الأوثان والدهرية وغيرهم.( ولم يكن) أي ما صح وما استقام وما كان ينبغي له (ذلك) أي التكذيب (وشتمني) ابن آدم أي بعضهم، وهم من ادعى أن لله ولدا من اليهود والنصارى، ومن مشركي العرب من قال إن الملائكة بنات الله، والشتم توصيف الشيء بما فيه ازدراء ونقص، وإثبات الولد له كذلك؛ لأنه قول بمماثلة الولد في تمام حقيقته، وهي مستلزمة للإمكان المتداعي إلى الحدوث، وذلك غاية النقص في حق البارئ تعالى، ولأن الحكمة في التوالد استبقاء النوع فلو كان البارئ تعالى متخذا ولدا لكان مستخلفا خلفا يقوم بأمره بعد عصره، فيلزم زواله وفناءه سبحانه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. (ولم يكن له ذلك) أي الشتم. (فقوله لن يعيدني) الإعادة هي الإيجاد بعد العدم المسبوق بالوجود، فالمعنى لن يحييني بعد موتي كما بدأني أي أوجدني عن عدم وخلقني ابتداء أي إعادة مثل بدئه إياي أو لن يعيدني مماثلا لما بدأني عليه. (وليس أول
(1/223)
الخلق) من قبيل إضافة الصفة
إلى الموصوف، أي ليس الخلق الأول للمخلوقات أو من قبيل حذف المضاف وإقامة المضاف
إليه مقامه أي ليس أول خلق الخلق، والخلق بمعنى المخلوق، أو اللام عوض عن المضاف
إليه أي أول خلق الشيء (بأهون) الباء زائدة للتأكيد، من هان الأمر: إذا سهل (علي
من إعادته) أي المخلوق أو الشيء، بل هو يستويان في قدرتي بل الإعادة أسهل عادة
لوجود أصل البنية وأثرها، أو أهون على زعمكم وبالنسبة إليكم، ففيه إشارة إلى تحقيق
المعاد وإمكان الإعادة، وهو أن ما يتوقف عليه تحقق البدن من أجزائه وصورته لو لم
يكن وجوده ممكنا لما وجد أولا وقد وجد، وإذا أمكن
وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد،
ولم يكن لي كفوا أحد)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/224)
لم يمتنع لذاته وجوده ثانيا وإلا لزم انقلاب الممكن لذاته ممتنعا لذاته وهو محال، وتنبيه على مثال يرشد العامي وهو ما يرى في الشاهد أن من اخترع صنعة لم ير مثلها ولم يجد لها أصلا، صعب عليه ذلك وتعب فيها تعبا شديدا وافتقر فيها إلى مكابدة أفعال ومعاونة أعوان ومرور أزمان، ومع ذلك فكثيرا لا يستت له الأمر ولا يتم له المقصود، ومن أراد إصلاح منكسر أو إعادة منهدم، وكانت العدد حاصلة والأصول باقية هان عليه ذلك وسهل جدا، فيا معشر الغواة ! تحيلون إعادة أبدانكم وأنتم تعترفون بجواز ما هو أصعب منها، بل هو كالمتعذر بالنسبة إلى قدركم وقواكم، وأما بالنسبة إلى قدرة الله تعالى فلا سهولة ولا صعوبة، يستوي عنده تكوين بعوض طيار وتخليق فلك دوار كما قال: ?وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر? [54: 50]، والحاصل أن إنكارهم الإعادة بعد أن أقروا بالبداية تكذيب منهم له تعالى، والجملة حالية وعاملها قوله في "فقوله" وصاحبها الضمير المضاف إليه في قوله (اتخذ الله ولدا) أي اختاره سبحانه، وإنما كان ذلك شتما لما فيه من التنقيص؛ لأن الولد إنما يكون أي عادة عن والدة تحمله ثم تضعه ويستلزم ذلك سبق نكاح، والتناكح يستدعي باعثا له على ذلك، والله تعالى منزه عن جميع ذلك (وأنا الأحد) أي المنفرد المطلق ذاتا وصفاتا، وقيل: إن أحدا وواحدا بمعنى، وأصل أحد وحد بفتحتين، وقيل: ليسا مترادفين بل بينهما فرق من حيث اللفظ والمعنى جميعا من وجوه، ذكره القسطلاني في شرح البخاري نقلا عن شرح المشكاة. والجملة حالية كما مر (الصمد) فعل بمعنى مفعول كالقنص والنقص، وهو السيد المصمود أي المقصود إليه في الحوائج، الغني عن كل أحد (لم ألد ولم أولد) لأنه لما كان الواجب الوجود لذاته قديما موجودا قبل وجود الأشياء وكان كل مولود محدثا انتفت عنه الولدية، ولما كان لا يشبهه أحد من خلقه ولا يجانسه حتى يكون له من جنسه صاحبة فيتوالد انتفت عنه
(1/225)
الوالدية. ومن هذا قوله: ?أنى
يكون له ولد ولم تكن له صاحبة? [6: 102]. (ولم يكن لي كفوا) بضم الكاف والفاء
وسكونها مع الهمزة وضمهما مع الواو، ثلاث لغات متواترات يعني مثلا وهو خبر كان
وقوله (أحد) اسمها أخر عن خبرها رعاية للفاصلة، ولي متعلق بكفوا وقدم عليه لأنه
محط القصد بالنفي، ونفي الكفو يعم الوالدية والزوجية وغيرها، قال الطيبي: ذكر الله
تعالى تكذيب ابن آدم وشتمه وعظمتهما، ولعمري أن أقل الخلق وأدناه إذا نسب ذلك إليه
استنكف وامتلأ غضبا وكاد يستأصل قائله، فسبحانه ما أحمله وما أرحمه ?وربك الغفور
ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه
موئلا? [18: 57] ثم انظر إلى كل واحد من التكذيب والشتم وما يؤديان إليه من
التهويل والفظاعة، أما الأول فإن منكر الحشر يجعل الله عزوجل كاذبا، والقرآن الذي
هو مشحون بإثباته مفترى، ويجعل كلمة الله تعالى في خلق السموات والأرض عبثا ولعبا.
قال الله تعالى: ?إن ربكم الله الذي خلق
21- (20) وفي رواية ابن عباس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/226)
السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرض يدبر الأمر? إلى قوله: ?ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون? [10: 3، 4] علل الله خلق السماوات والأرض والاستواء على العرض لتدبير العالم بالجزاء من ثواب المؤمن وعقاب الكافر، ولا يكون ذلك إلا في القيامة، فيلزم منه أن لو لم يكن الحشر لكان ذلك عبثا ولهوا. وقال تعالى: ?وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين? [21: 16] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك. وأما الثاني فإن قائله يحاول إزالة المخلوقات بأسرها وتخريب السماوات من أصلها، قال تعالى: ?تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا. أن دعوا للرحمن ولدا? [19: 90-91]، ثم تأمل في مفردات التركيب لفظة لفظة فإن قوله (لم يكن له ذلك) من باب ترتيب الحكم على الوصف المناسب المشعر بالعلية؛ لأن قوله (لم يكن له ذلك) نفي الكينونة التي بمعنى الانتفاء، كقوله تعالى: ?ما كان لكم أن تنبتوا شجرها? [27: 60]، أراد أن تأتي ذلك محال من غيره تعالى ومنه قوله تعالى: ?ما كان لنبي أن يغل? [3: 161] معناه: ما صح له ذلك، يعني أن النبوة تنافي الغلول، فحينئذ يجب أن يحمل لفظ ابن آدم على الوصف الذي يعلل الحكم به بحسب التلميح وإلا لم يكن لتخصيص لفظ ابن آدم دون الناس والبشر فائدة، وذلك من وجوه، أحدها: أنه تمليح إلى قوله: ?ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم? [7: 11] من الله تعالى عليهم بها، المعنى إنا أنعمنا عليكم بإيجادكم من العدم، وصورناكم في أحسن تقويم ثم أكرمنا الملائكة المقربين بالسجود لأبيكم لتعرفوا قدر الإنعام فتشكروا، فقلبتم الأمر فكفرتم ونسبتم المنعم المتفضل إلى الكذب، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ?وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون? [56: 82] أي شكر رزقكم. وثانيها: تلميح إلى قوله تعالى: ?أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة
(1/227)
فإذا هو خصيم مبين? [36: 77]
المعنى أم تر أيها المكذب إلى أنا خلقناك من ماء مهين، خرجت من إحليل أبيك واستقرت
في رحم أمك فصرت تخاصمني بحججك وبرهانك فيما أخبرت به من الحشر والنشر بالبرهان فأنت
خصيم لي بين الخصومة، وما أحسن موقع المفاجأة التي يعطيها قوله تعالى: ?فإذا هو
خصيم مبين?. وثالثها إلى قوله تعالى: ?أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على
أن يخلق مثلهم? [36: 81] المعنى أو ليس الذي خلق هذه الأجرام العظام بقادر على أن
يخلق مثل هذا الجرم الصغير الذي خلق من تراب ثم من نطفة، وكذلك قوله: (أنا الأحد
الصمد الذي لم ألد ولم أولد) أوصاف مشعرة بعلية الحكم، أما قوله (الأحد) فإنه بنى
لنفي ما يذكر معه من العدد، فلو فرض له ولد يكون مثله، فلا يكون أحدا، والصمد هو
الذي يصمد إليه في الحوائج، فلو كان له ولدا لشركه فيه، فيلزم إذا فساد السماوات
والأرض، وقوله (كفوا) أي صاحبة لا ينبغي له لأنه لو فرض له ذلك للزم منه الاحتياج
إلى قضاء الشهوة، وكل ذلك وصف له بما فيه نقص وإزراء، وهذا معنى الشتم، والله أعلم
– انتهى كلام الطيبي.
21- قوله: (وفي رواية ابن عباس) أي في هذا الحديث، قال الحافظ بعد ذكر الاختلاف
بين روايتي أبي هريرة
وأما شتمه إياي فقوله: لي ولد، وسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا)) رواه البخاري.
22- (21) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله
تعالى: ((يؤذيني ابن آدم يسب الدهر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/228)
وابن عباس: وهو محمول على أن كلا من الصحابيين حفظ في آخره ما لم يحفظ الآخر (لي ولد) اسم جنس يشمل الذكر والأنثى (وسبحاني) وفي نسخة صحيحة بالفاء، وكذا في البخاري، وهو مضاف إلى ياء المتكلم، أي نزهت ذاتي (أن أتخذ) أي من أن أتخذ، وأن مصدرية (صاحبة) أي زوجة (أو ولدا) أو للتنويع لا للشك، ومناسبة الحديث لكتاب الإيمان من حيث إنكار الحشر والنشر ونسبة الولد إلى الله تعالى ضد للإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالله المنعوت في حديث جبريل. (رواه البخاري) عن أبي هريرة في بدء الخلق، وفي تفسير سورة الإخلاص، وعن ابن عباس في تفسير سورة البقرة، وأخرجه أحمد والنسائي أيضا عن أبي هريرة.
(1/229)
22- قوله: (يؤذيني ابن آدم) أي يقول في حقي ما أكره، وينسب إلي ما لا يليق لي أو ما يتأذى به من يجوز في حقه التأذي، وهذا من المتشابهات، والله تعالى منزه عن أن يلحقه أذى، إذ هو محال عليه، فإما أن يفوض أو يؤول كما تقدم، ويقال: هو من التوسع في الكلام، والمراد أن من وقع ذلك منه تعرض لسخط الله وغضبه. وقال الطيبي: الإيذاء إيصال المكروه إلى الغير قولا أو فعلا أثر فيه أو لم يؤثر، وإيذاء الله تعالى عبارة عن فعل ما يكرهه ولا يرضى به وكذا إيذاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, وقال تعالى: ?إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة? [33: 57]، (يسب الدهر) بصيغة المضارع استئناف بيان، يعني يقول إذا أصابه مكروه من موت أو هرم أو تلف مال أو غير ذلك: تبا للدهر وبؤسا له ويا خيبة الدهر ونحو ذلك، والدهر اسم لمدة العالم من مبدأ تكوينه إلى انقراض العالم، كانت الجاهلية تضيف المصائب والنوائب للدهر الذي هو من الليل والنهار، وهم في ذلك فرقتان، فرقة لا تؤمن بالله ولا تعرف إلا الدهر الليل والنهار اللذان هما محل للحوادث وظرف لساقط الأقدار، فتنسب المكاره إليه على أنها من فعله، ولا ترى أن لها مدبرا غيره، وهذه الفرقة هي الدهرية من الكفار والفلاسفة الدورية المنكرين للصانع، المعتقدين أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه، وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى، فكابروا المعقول وكذبوا المنقول، ولهذا قالوا: ?وما يهلكنا إلا الدهر? [45: 24] أي مر الزمان وطول العمر واختلاف الليل والنهار، وفرقة تعرف الخالق وتنزهه من أن تنسب إليه المكاره فتضيفها إلى الدهر والزمان، وعلى هذين الوجهين كانوا يسبون الدهر ويذمونه، وقد يقع من بعض عوام المؤمنين غفلة وجهالة، قال المحققون من نسب شيئا من الأفعال إلى الدهر حقيقة كفر، ومن جرى هذا اللفظ على لسانه غير معتقد لذلك فليس بكافر لكنه يكره له ذلك
(1/230)
لشبهه بأهل
وأنا الدهر بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار)) متفق عليه.
23- (22) وعن أبي موسى قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أحد أصبر على
أذى يسمعه من الله، يدعون له
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكفر في الإطلاق (وأنا الدهر) برفع الراء، قيل: هو الصواب، ويؤيده الرواية التي
فيها: ((فإن الله هو الدهر))، وهو مضاف إليه أقيم مقام المضاف، أي أنا خالق الدهر
أو صاحب الدهر، فحذف اختصارا للفظ وتوسعا في المعنى، وقيل: التقدير مقلب الدهر
ولذا عقبه بقوله: بيدي الأمر أقلب الليل والنهار، وقيل: الدهر في قوله (وأنا
الدهر) غير الأول، فإنه بمعنى زمان مدة العالم من مبدأ التكوين إلى أن ينقرض
العالم، والثاني مصدر بمعنى الفاعل ومعناه أنا الداهر المتصرف المدبر المفيض لما
يحدث، واستضعف هذا القول لعدم الدليل عليه، وقيل: الأظهر في معناه أنا فاعل ما
يضاف إلى الدهر من الخير والشر والمسرة والمساءة، فإذا سب ابن آدم الدهر من أجل
أنه فاعل هذه الأمور عاد سبه إلي؛ لأني فاعلها وإنما الدهر زمان جعلته ظرفا لمواقع
الأمور. قال عياض: زعم بعض من لا تحقيق له أن الدهر من أسماء الله تعالى، وهو غلط،
فإن الدهر مدة زمان الدنيا، وقال ابن كثير: قد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من
الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى أخذا من هذا الحديث – انتهى. ويروى بنصب
الدهر على الظرفية، أي أنا المتصرف في الدهر، أو أنا مدة الدهر، أقلب ليله ونهاره،
أو أنا باق مقيم أبدا لا أزول (بيدي الأمر) بالإفراد وفتح الياء وتسكن، وجوز
التثنية وفتح الياء المشددة للتأكيد والمبالغة، أي الأمور كلها خيرها وشرها حلوها
ومرها مما تنسبونها إلى الدهر تحت تصرفي (أقلب الليل والنهار)، وعند أحمد (ج2:
ص496) بسند صحيح عن أبي هريرة: ((لا تسبوا الدهر فإن الله تعالى قال: أنا الدهر،
الأيام والليالي لي أجددها وأبليها، وآتي بملوك بعد ملوك))، ولا
(1/231)
تخفى مطابقة الحديث لكتاب
الإيمان على من تأمل في معناه. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود.
23- قوله: (ما أحد أصبر) أي ليس أحد أشد صبرا، وهو حبس النفس على المكروه، والله
تعالى منزه عن ذلك، فالمراد لازمه وهو حبس العقوبة عن مستحقها إلى زمن آخر
وتأخيرها أي ترك المعاجلة بالعقوبة، وقال الحافظ: أصبر: أفعل تفضيل من الصبر ومن
أسمائه الحسنى الصبور، ومعناه: الذي لا يعاجل العصاة بالعقوبة، وهو قريب من معنى
الحليم، والحليم أبلغ في السلامة من العقوبة (على أذى) قيل: إنه اسم مصدر آذى يؤذي
بمعنى المؤذي، صفة محذوف أي كلام مؤذ قبيح صادر من الكفار (يسمعه) صفة أذى، وهو
تتميم لأن المؤذى إذا كان بمسمع من المؤذي كان تأثير الأذى أشد، وهذا بالنسبة
إلينا وإلا فالمسموع وغيره معلوم عنده تعالى (من الله) متعلق بقوله أصبر لا بيسمعه
(يدعون له) بسكون الدال، وقيل بتشديدها أي ينسبون إليه، والجملة استئناف بيان
للأذى، واستشكل بأن الله تعالى منزه عن تعلق الأذى به؛ لكونه صفة نقص، وهو منزه عن
كل نقص، وأجيب بأن المراد أذى يلحق
الولد ثم يعافيهم ويرزقهم)) متفق عليه.
24- (23) وعن معاذ كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - على حمار ليس بيني وبينه
إلا مؤخرة الرحل، فقال: ((يا معاذ هل تدري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/232)
رسله وصالحي عباده، إذ في إثبات الولد له إيذاء لهم؛ لأنه تكذيب لهم في نفي الصاحبة والولد عن الله وإنكاره لمقالتهم، فأضيف الأذى لله تعالى للمبالغة في الإنكار عليهم والاستعظام لمقالتهم (ثم يعافيهم) بدفع المكاره والبليات والمضرات عنهم (ويرزقهم) السلامة وأصناف الأموال، ولا يعجل تعذيبهم، فهو أصبر على الأذى من الخلق، لكن لا يؤخر النقمة قهرا بل تفضلا مع القدرة على الانتقام، وفي الحديث إشارة إلى أن الصبر على احتمال الأذى محمود، وترك الانتقام ممدوح، ولهذا كان جزاء كل عمل محصورا وجزاء الصبر غير محصور، قال تعالى: ?إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب? [39: 10] (متفق عليه) أخرجه البخاري في التوحيد باللفظ الذي ذكره المصنف، إلا أن فيه سمعه بصيغة الماضي مكان قوله "يسمعه"، وأخرجه أيضا في الأدب، وأخرجه مسلم في باب الكفار من كتاب صفة القيامة، وأخرجه النسائي في النعوت.
(1/233)
24- قوله: (عن معاذ) بضم الميم هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عائذ بن عدي الأنصاري الخزرجي، أبوعبدالرحمن المدني، أسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة، وشهد بدرا وما بعدها، وكان إليه المنتهى في العلم بالأحكام والقرآن، روى الترمذي وغيره عن أبي قلابة عن أنس مرفوعا في ذكر بعض الصحابة: وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا ومتصلا: ((يأتي معاذ يوم القيامة أمام العلماء برتوة))، وقال ابن مسعود: كنا نشبهه بإبراهيم – عليه السلام -، وكان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين، وقال الأعمش عن أبي سفيان حدثني أشياخ لنا فذكر قصة فيها فقال عمر: عجزت النساء أن تلدن مثل معاذ، لولا معاذ لهلك عمر، وبعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - قاضيا ومعلما إلى اليمن، وقال أبونعيم في الحلية: إمام الفقهاء وكنز العلماء، شهد العقبة وبدرا والمشاهد وكان من أفضل شباب الأنصار حلما وحياء وسخاء وكان جميلا وسيما، ومناقبه كثيرة جدا، روى عنه خلق من الصحابة والتابعين، له مائة وسبعة وخمسون حديثا، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة ومسلم بحديث، قدم اليمن في خلافة أبي بكر، وكانت وفاته بالطاعون في الشام سنة سبع عشرة أو التي بعدها، وهو قول الأكثر، وعاش أربعا وثلاثين سنة، وقيل غير ذلك (كت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم -) الردف بكسر الراء وسكون الدال، والرديف: الراكب خلف الراكب بإذنه، وردف كل شيء مؤخره، وأصله من الركوب على الردف وهو العجز، ولهذا قيل للراكب الأصلي: ركب صدر الدابة، وردفت الرجل إذا ركبت وراءه وأردفته إذا أركبته وراءك (على حمار) اسمه عفير تصغير أعفر، أهداه المقوقس أو فرزة بن عمرو (ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل) بفتح الراء وسكون الحاء المهملة، وهو للبعير كالسرج للفرس، والمراد قدر مؤخرة الرحل
(1/234)
ما حق الله على عباده، وما حق
العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه
ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاله النووي، والمؤخرة: هي العود التي يجعل خلف الراكب يستند إليه، بضم الميم
وسكون الهمزة بعدها خاء مكسورة، وقد تفتح، وفيه لغة أخرى بفتح الهمزة والخاء
المشددة المكسورة وقد تفتح، وفائدة ذكره المبالغة في شدة قربه؛ ليكون أرقع في نفس
سامعه أنه ضبط ما رواه (ما حق الله على عباده، وما حق العباد على الله) قال
الطيبي: الحق نقيض الباطل؛ لأنه ثابت والباطل زائل، ويستعمل في الواجب واللازم
والجدير والنصيب والملك، وحق الله تعالى بمعنى الواجب واللازم، وحق العباد بمعنى
الجدير لأن الإحسان إلى من لم يتخذ ربا سواه جدير في الحكمة أن يفعله، قال هذا هو
الوجه، وقيل: حق العباد على الله تعالى ما وعدهم به من الثواب والجزاء، ومن صفة
وعده أن يكون واجب الإنجاز فهو حق بوعده الصدق، وقوله الحق الذي لا يجوز عليه
الكذب في الخبر ولا الخلف في الوعد، أو المراد أنه كالواجب في تحققه وتأكده، أو
قال حقهم على الله على جهة المقابلة والمشاكلة لحقه عليهم، فالله تعالى لا يجب
عليه شيء بحكم الأمر، إذ لا آمر فوقه، ولا حكم للعقل لأنه كاشف لا موجب، قال
الحافظ: وتمسك بعض المعتزلة بظاهره ولا متمسك لهم مع قيام الاحتمال (قال: فإن) أي
إذا فوضت فاعلم أن (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا) المراد
بالعبادة عمل الطاعات واجتناب المعاصي، عطف عليها عدم الإشراك لأنه تمام التوحيد،
والحكمة في عطفه على العبادة أن بعض الكفرة كانوا يدعون أنهم يعبدون الله، ولكنهم
يعبدون آلهة أخرى، فاشترط نفي ذلك، والجملة حالية، والتقدير: يعبدونه في حال عدم
الإشراك به، قال ابن حبان: عبادة الله إقرار باللسان وتصديق بالقلب
(1/235)
وعمل الجوارح، ولهذا قال في
الجواب: فما حق العباد إذا فعلوا ذلك؟ فعبر بالفعل ولم يعبر بالقول كذا في الفتح
(وحق العباد) بالنصب ويجوز رفعه (أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا) من الأشياء أو
الإشراك، وفي رواية لمسلم: ((أتدري ما حقهم عليه إذا فعلوا ذلك؟)) والإشارة إلى ما
تقدم من قوله: يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وفي رواية للبخاري: ((إذا فعلوه))، قال
القاري: أي لا يعذبهم عذابا مخلدا، فلا ينافي دخول جماعة النار من عصاة هذه الأمة
كما ثبت به الأحاديث الصحيحة – انتهى. قلت: لا حاجة إلى هذا التأويل فإن عدم
التعذيب إنما هو لمن عبده ولم يشرك به شيئا، والمراد بالعبادة عمل الطاعات واجتناب
المعاصي مع الإقرار باللسان والتصديق بالقلب كما علمت، ومن كان كذلك لا يعذب مطلقا
ويدخل الجنة أولا معافى، ومن هاهنا ظهر أن الوعد المذكور في الحديث إنما هو بعد
ملاحظة جميع ما ورد في الشرع من الأوامر والنواهي، ومراعاة جميع الفرائض والواجبات
الشرعية، ثم الاتكال فيما وراء ذلك من فضائل الأعمال وفواضلها أي السنن والنوافل،
وهذا لأن الإنسان أرغب في دفع المضرة من جلب المنفعة ،
قلت: يا رسول الله أفلا أبشر به الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا)) متفق عليه.
25- (24) وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعاذ رديفه على الرحل، قال:
يا معاذ ! قال: ((لبيك يا رسول الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/236)
فإذا علم أن الإقرار والتصديق والعمل بالفرائض والاجتناب عن المعاصي يكفي له في نجاته من العذاب وتخليصه منه ذهب يقنع ويتكاسل عن السنن والمستحبات ولا يجتهد في تحصيل الدرجات العليا، وهذا أمر كأنه جبل عليه، ولا شك أن الاكتفاء بالفرائض والواجبات والتقاعد عن السنن والنوافل نقيصة وحرمان عن المدارج العالية، فمنع النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذا أن يخبر به لئلا يتكلوا وليجتهدوا في معالي الأمور، والدليل على أن المراد من الاتكال الآتي في الحديث الاتكال عن السنن والنوافل ما رواه الترمذي في صفة الجنة عن معاذ بن جبل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من صام رمضان وصلى الصلاة وحج البيت – لا أدري أذكر الزكاة أم لا – إلا كان حقا على الله أن يغفر له إن هاجر في سبيل الله أو مكث بأرضه التي ولد بها، قال معاذ: ألا أخبر بها الناس؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذر الناس يعملون فإن في الجنة مائة درجة، والفردوس أعلا الجنة وأوسطها، قال: فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس))، ففيه ذكر الفرائض أيضا والتحريض على الدرجة العلياء، ويدل عليه أيضا ما رواه أحمد عن معاذ، وسيأتي في آخر الفصل الثالث، فظهر أنه لم يرد في الحديث المجمل الاتكال عن الفرائض كيف وترك الفرائض لا يرجى من عوام المؤمنين وشأن الصحابة أرفع. (أفلا أبشر به الناس) الهمزة للاستفهام، ومعطوف الفاء محذوف، تقديره: أقلت ذلك فلا أبشر، وبهذا يجاب عما قيل إن الهمزة تقضي الصدارة والفاء تقتضي عدم الصدارة فما وجه جمعهما؟ قاله العيني. وقال القاري: الفاء في جواب الشرط المقدر أي إذا كان كذلك أفلا أبشرهم بما ذكرت من حق العباد، والبشارة: إيصال خبر إلى أحد يظهر أثر السرور منه على بشرته، وأما قوله: ?فبشرهم بعذاب أليم?، فمن الاستعارة التهكمية (لا تبشرهم) بذلك (فيتكلوا) منصوب في جواب النهي بتقدير أن بعد الفاء أي يعتمدوا ويتركوا الاجتهاد في حق الله
(1/237)
تعالى، فالنهي منصب على السبب
والمسبب معا أي لا يكن منك تبشير فاتكال منهم، قال الطيبي: وإنما رواه معاذ مع
كونه منهيا لأنه علم أن هذا الإخبار يتغير بتغير الأزمان والأحوال، والقوم يومئذ
كانوا حديثي عهد بالإسلام ولم يعتادوا بتكاليفه، فلما استقاموا وتثبتوا أخبرهم به
بعد ورود الأمر بالتبليغ والوعيد على الكتمان والتضييع، ثم إن معاذا مع جلالة قدره
لم يخف عليه ثواب من نشر علما، ووبال من كتمه ضنا فرأى التحديث به واجبا، ويؤيده
ما ورد في الحديث الذي يتلوه: فأخبر به معاذ عند موته تأثما. انتهى (متفق عليه)
أخرجه البخاري في الجهاد وفي الاستئذان وفي الرقاق وفي التوحيد، وأخرجه مسلم
والترمذي في الإيمان وأبوداود في الجهاد مختصرا.
25- قوله: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ رديفه على الرحل) أي راكب خلفه
- صلى الله عليه وسلم -، والجملة حالية معترضة بين اسم أن وخبرها، والرحل أكثر ما
يستعمل في البعير لكن معاذا كان في تلك الحالة رديفه على حمار كما مر، فيأول بما
تقدم في كلام النووي (قال: يا معاذ) في محل الرفع لأنه خبر أن المتقدمة (لبيك)
بفتح اللام مثنى مضاف بني للتكرير والتكثير من
وسعديك، قال: يا معاذ ! قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: يا معاذ ! قال: لبيك
يا رسول الله وسعديك – ثلاثا -، قال: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا
رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/238)
غير حصر، من لب أي أجاب أو أقام، أي أجبت لك إجابة بعد إجابة، أو أقمت على طاعتك إقامة بعد إقامة، وكان حقه أن يقال لبالك فثنى على معنى التأكيد، وقال العيني: قال ابن الأنباري: في لبيك أربعة أقوال، أحدها: إجابتي لك، مأخوذ من لب بالمكان وألب به: إذا أقام به، وقالوا: لبيك فثنوا لأنهم أرادوا إجابة بعد إجابة كما قالوا حنانيك أي رحمة بعد رحمة، والثاني: اتجاهي يا رب وقصدي لك، فثنى للتأكيد أخذا من قولهم داري تلب دارك أي تواجهها، والثالث: محبتي لك يا رب، من قول العرب امرأة لبة إذا كانت محبة لولدها عاطفة عليه. الرابع: إخلاصي لك يا رب، من قولهم: حسب لباب إذا كان خالصا محضا، ومن ذلك لب الطعام ولبابه (وسعديك) تثنية سعد، والمعنى أنا مسعد طاعتك إسعادا بعد إسعاد، فثنى للتأكيد وتكرير النداء بقوله (يا معاذ) لتأكيد الاهتمام بما يخبر به وليكمل تنبيه معاذ فيما يسمعه، فيكون أوقع في النفس وأشد في الضبط والحفظ (ثلاثا) أي قيلا ثلاثا، وهو يتعلق بقول كل واحد من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ أي وقع هذا النداء والجواب ثلاث مرات (ما من أحد) من زائدة لاستغراق النفي، وأحد مبتدأ وصفته قوله (يشهد) وخبر المبتدأ قوله: إلا حرمه الله على النار، وهو استثناء مفرغ أي ما من أحد يشهد محرم على شيء إلا محرما على النار، والتحريم بمعنى المنع، قاله القاري. وقال العيني: كلمة ما للنفي، وكلمة من زائدة لتأكيد النفي، وأحد اسم ما ويشهد خبرها وأن مفسرة، وإلا حرمه الله على النار استثناء من أعم عام الصفات، أي ما أحد يشهد كائنا بصفة التحريم، انتهى. فتأمل (صدقا) يجوز أن يكون حالا عن فاعل يشهد بمعنى صادقا، أو يكون صفة مصدر محذوف أي شهادة صدقا، وقال القاري: هو مصدر فعل محذوف أي يصدق صدقا، وقوله (من قلبه) صفة صدقا؛ لأن الصدق قد لا يكون من قلب أي اعتقاد كقول المنافقين: ?إنك لرسول الله?، وقال العيني: قوله من قلبه يجوز
(1/239)
أن يتعلق بقوله صدقا، أي يشهد
بلفظه ويصدق بقلبه، فالشهادة لفظية، ويجوز أن يتعلق بقوله يشهد، فالشهادة قلبيه أي
يشهد بقلبه ويصدق بلسانه، قال السندهي: الشهادة فعل اللسان، وفعل القلب لا يسمى
شهادة، فجعل من قلبه متعلقا بيشهد على معنى أنه يشهد بالقلب غير ظاهر، نعم يمكن
جعله متعلقا به على معنى شهادة ناشئة من مؤاطاة قلبه، لكن لا يبقى حينئذ لقوله
صدقا كثير فائدة – انتهى. (إلا حرمه الله على النار) ظاهر هذا يقتضي عدم دخول جميع
من شهد الشهادتين النار لما فيه من التعميم والتأكيد، وهو مصادم للأدلة القطعية
الدالة على دخول طائفة من عصاة الموحدين النار ثم يخرجون بالشفاعة، وقد أجيب عنه
بأجوبة، منها أن ذلك لمن قالها عند الندم والتوبة ومات على ذلك قبل أن يتمكن من
الإتيان بفرض آخر، وهذا قول البخاري، ومنها أن المراد بالتحريم تحريم الخلود لا
أصل الدخول، ومنها أنه خرج مخرج الغالب إذ الغالب
قال: يا رسول الله ! أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: إذا يتكلوا)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/240)
أن الموحد يعمل بالطاعات ويجتنب المعاصي، ومنها أن ذلك لمن قال الكلمة وأدى حقها وفريضتها ليكون الامتثال والانتهاء مندرجين تحت الشهادة، وهذا قول الحسن، ومنها أن المراد تحريم جملته؛ لأن النار لا تأكل موضع السجود من المسلم وكذا لسانه الناطق بالتوحيد، ومنها أن معناه حرمه الله على النار الشديدة المؤبدة التي أعدها للكافرين وإن عمل الكبائر، وقد أوضحه الشاه ولي الله في حجة الله، ومنها أن ذلك يختص لمن أخلص، والإخلاص يقتضي تحقيق القلب بمعناها، ولا يتصور حصول التحقيق مع الإصرار على المعصية لامتلاء القلب بمحبة الله تعالى وخشيته، فتنبعث الجوارح إلى الطاعة وتنكف عن المعصية، ومنها ما قاله الطيبي: إن قوله صدقا أقيم هنا مقام الاستقامة؛ لأن الصدق يعبر به قولا عن مطابقة القول المخبر عنه، ويعبر به فعلا عن تحري الأخلاق المرضية كقوله تعالى: ?والذي جاء بالصدق وصدق به? [39: 32]، أي حقق ما أورده قولا بما تحراه فعلا – انتهى. وحاصل ما قال: إن ذلك مقيد بمن عمل الأعمال الصالحة، قال ولأجل خفاء ذلك لم يؤذن لمعاذ في التبشير به، ومنها أنه مقيد بوجود شرائط وارتفاع موانع كما ترتب الأحكام على أسبابها المقتضية المتوقفة على انتفاء الموانع، فإذا تكامل ذلك عمل المقتضى علمه، وإنما يذكر الكلام في مواقع الوعد والبشارة مرسلا مع كون الشرائط والموانع معتبرة وملحوظة هناك لظهوره، ولأن المناسب للبشارة الإجمال والإبهام، فلا يتعرض فيها لتحقق الشرائط وانتفاء الموانع واستيفاء الأمور الواجبة، والحاصل أن الامتثال بالطاعات والاجتناب عن المعاصي مراعى هاهنا، وإن لم يذكر في العبارة، وهذا لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد كان فرغ من ذكر أكثر الفرائض والمناهي، وتفصيلها واحدة واحدة، والترغيب في الطاعات طاعة طاعة، والترهيب في المعاصي معصية معصية؛ لأن مثل هذا الحديث وقع لأبي هريرة كما رواه مسلم، وصحبته متأخرة عن نزول أكثر الفرائض، كذا
(1/241)
ورد نحوه من حديث أبي موسى
رواه أحمد بإسناد حسن، وكان قدومه في السنة التي قدم فيها أبوهريرة، فاستغنى عن
ذكرها في كل مرة؛ لأنه قد بين لهم أن الأعمال الصالحة لابد منها في الإيمان، وأن
المعاصي مضرة موجبة لسخط الله، فحصلت غنية عن تكريرها في كل موضع لكون المعلوم
كالمذكور، وإنما خص كلمة الشهادتين بالذكر من بين أجزاء الإيمان لكونها أصلا
وأساسا للكل ومدارا للحياة الأبدية، وحاصل الكلام أن تحريم النار وإن حصل بالمجموع
لكنه خص من هذا المجموع ما كان أهم من بينها وهو الكلمة، فهي كأصل الشجرة فإنه لا
حياة لها بدون الأصل، وهو أحسن الأجوبة عندي، وهو نحو قول الحسن البصري.
(فيستبشروا) بحذف النون؛ لأن الفعل ينصب بعد الفاء المجاب بها بعد النفي
والاستفهام والعرض والتقدير: فأن يستبشروا أي يفرحوا بأن يظهر أثر السرور على
بشرتهم (إذا يتكلوا) بتشديد المثناة الفوقية وكسر الكاف، وإذا حرف جواب وجزاء، وقد
يستعمل لمحض الجواب كما هنا، أي لا تخبرهم بذلك لأنك إن أخبرتهم يعتمدوا على
الكلمة والفرائض ويتركوا فضائل الأعمال وفواضلها من السنن والنوافل فينجروا
فأخبر بها معاذ عند موته تأثما)) متفق عليه
26- (25) وعن أبي ذر قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثوب أبيض وهو
نائم، ثم أتيته وقد استيقظ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/242)
إلى نقصان درجاتهم وتنزل حالاتهم، وهذا حكم الأغلب من العوام وإلا فالخواص كلما بشروا ازدادوا في العبادة، فتضمن هذا الحديث أنه يخص بالعلم قوم فيهم الضبط وصحة الفهم، ولا يبذل المعنى اللطيف لمن لا يستأهله، ومن يخاف عليه الترخص والاتكال لتقصير فهمه. (فأخبر بها) أي بهذه البشارة (عند موته) أي موت معاذ (تأثما) مفعول له، وهو بفتح الهمزة وتشديد المثلثة المضمومة، أي تجنبا وتحرزا عن الوقوع في إثم كتمان العلم، إذ في الحديث: ((من كتم علما ألجم بلجام من نار))، فإن قلت: سلمنا أنه تأثم من الكتمان، فكيف لا يتأثم من مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التبشير؟ أجيب بأن النهي كان مقيدا بالاتكال، فأخبر به من لا يخشى عليه ذلك، وإذا زال القيد زال المقيد، أو أن معاذا عرف أنه لم يكن المقصود من النهي التحريم بل هو محمول على التنزيه وإلا لما كان يخبر به أصلا، والحاصل أنه اطلع على أن النهي للمصلحة لا للتحريم، فلذلك أخبر لعموم الآية بالتبليغ، والله أعلم (متفق عليه) أخرجه البخاري في أواخر العلم، ومسلم في الإيمان، وهو من مسند أنس، ذكر فيه حكم الشهادتين، والذي قبله من مسند معاذ، ذكر فيه ما يتعلق بحق الله على العباد، قال الحافظ في شرح حديث معاذ المتقدم في باب اسم الفرس والحمار من كتاب الجهاد ما لفظه: تقدم في العلم من حديث أنس بن مالك أيضا لكن فيما يتعلق بشهادة أن لا إله إلا الله، وهذا فيما يتعلق بحق الله على العباد، فهما حديثان، ووهم الحميدي ومن تبعه حيث جعلوهما حديثا واحدا، نعم وقع في كل منهما منعه - صلى الله عليه وسلم - أن يخبر بذلك الناس لئلا يتكلوا، ولا يلزم من ذلك أن يكونا حديثا واحدا، وزاد في الحديث الذي في العلم: فأخبر به معاذ عند موته تأثما، ولم يقع ذلك هنا – انتهى.
(1/243)
26- قوله: (عن أبي ذر) الغفاري
الزاهد المشهور الصادق اللهجة، في اسمه أقوال أشهرها جندب بن جنادة، كان من كبار
الصحابة قديم الإسلام، يقال: أسلم بمكة بعد أربعة فكان خامسا في الإسلام ثم انصرف
إلى بلاد قومه فأقام بها حتى قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة بعد
الخندق، وله في إسلامه خبر حسن ذكره ابن عبدالبر في الاستيعاب، والحافظ في
الإصابة، روي مرفوعا: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر))،
حسنه الترمذي من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص، وقال أبوداود: كان يوازي ابن
مسعود في العلم، ومناقبه وفضائله كثيرة جدا، روي له مائتا حديث وأحد وثمانون
حديثا، اتفقا على اثني عشر، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بتسعة عشر، سكن الربذة
إلى أن مات بها سنة (32) في خلافة عثمان، وكان يتعبد قبل أن يبعث النبي - صلى الله
عليه وسلم -، روى عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين. (أتيت النبي - صلى الله عليه
وسلم - وعليه ثوب أبيض) حال من النبي - صلى الله عليه وسلم - (وهو نائم) عطف على
الحال (ثم أتيته وقد استيقظ) حال من الضمير المنصوب، وفائدة ذكر الثواب والنوم
والاستيقاظ تقرير التثبت والإتقان فيما يرويه في
فقال: ((ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن
زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق؟ قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق،
قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/244)
آذان السامعين ليتمكن في قلوبهم (ما من عبد قال لا إله إلا الله) وإنما لم يذكر "محمد رسول الله" لأنه معلوم أنه بدونه لا ينفع (ثم مات على ذلك) أي الإقرار والاعتقاد، وثم للتراخي في الرتبة؛ لأن العبرة بالخواتيم، وفيه إشارة إلى الثبات على الإيمان حتى الموت احترازا عمن ارتد ومات عليه، فحينئذ لا ينفع إيمانه السابق (إلا دخل الجنة) استثناء مفرغ، أي لا يكون له حال من الأحوال إلا حال استحقاق دخول الجنة، قال الحافظ: ليس في قوله ((دخل الجنة)) من الإشكال ما تقدم في السياق الماضي، أي في حديث أنس المتقدم؛ لأنه أعم من أن يكون قبل التعذيب أو بعده – انتهى. ففيه إشارة إلى أنه مقطوع له بدخول الجنة، لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرا عليها دخل الجنة أولا، وإن كان صاحب كبيرة مات مصرا عليها فهو تحت المشيئة، فإن عفى عنه دخل أولا وإلا عذب بقدرها ثم أخرج من النار وخلد في الجنة، كذا قرروا في شرح الحديث، والظاهر أن الذي مات على التوحيد موعود بهذا الحديث بدخول الجنة ابتداء، وقد تقدم أن الائتمار بالطاعات والانتهاء عن المعاصي مراعى في هذه الأحاديث، ورفع الموانع وتحقق الشرائط ملحوظ ومعتبر في مواقع الوعد والوعيد، وإنما ذكر الكلام مرسلا من غير تعرض للقيود لكونها معلومة، ولأن المناسب في حق الوعد والبشارة هو الإجمال والإبهام، وهذا كقولهم "من توضأ صحت صلاته" أي مع سائر الشرائط والأركان، وعلى هذا معنى الحديث: إن من مات مؤمنا بجميع ما يجب الإيمان به مؤتمرا بالطاعات ومحترزا عن المعاصي دخل الجنة ابتداء، والله أعلم. (قلت: وإن زنى وإن سرق) قال ابن مالك: حرف الاستفهام في أول هذا الكلام مقدر، ولابد من تقديره أي أدخل الجنة وإن زنى وإن سرق؟ وقال غيره: التقدير: أو إن زنى أو إن سرق دخل الجنة، وتسمى هذه الواو واو المبالغة، و"إن" بعدها وصلية، وجزاءها محذوف لدلالة ما قبلها عليه، قاله القاري. (قال: وإن زنى وإن سرق)
(1/245)
أي وإن ارتكب كل كبيرة فلابد
من دخوله الجنة إما ابتداء إن عفي عنه، أو بعد دخوله النار حسبما نطقت به الأخبار،
وإنما ذكر من الكبائر نوعين ولم يقتصر على واحد؛ لأن الذنب إما حق الله وهو الزنا،
أو حق العباد وهو أخذ مالهم بغير حق، وفي تكريره أيضا معنى الاستيعاب والعموم
كقوله تعالى: ?ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا? [19: 62] أي دائما، قاله الطيبي، وفيه
دليل على أن الكبيرة لا تسلب اسم الإيمان فإن من ليس بمؤمن لا يدخل الجنة وفاقا،
وأنها لا تحبط الطاعات لتعميمه - صلى الله عليه وسلم - الحكم وعدم تفصيله، وأن
صاحبها لا يخلد في النار، وأن عاقبته دخول الجنة، ففيه رد على الخوارج والمعتزلة
الذي يدعون وجود خلود من مات من مرتكبي الكبائر من غير
على رغم أنف أبي ذر))، وكان أبوذر إذا حدث بهذا قال: وإن رغم أنف أبي ذر، متفق
عليه.
27- (26) وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من
شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبدالله
ورسوله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/246)
توبة في النار (على رغم أنف أبي ذر) بفتح الراء وضمها وكسرها - أي كراهة منه (وإن رغم أنف أبي ذر) بكسر الغين وقيل بالفتح والضم، أي لصق بالرغام - بفتح الراء - وهو التراب، ويستعمل مجازا بمعنى كره أو ذل، إطلاقا لاسم السبب على المسبب، وأما تكرير أبي ذر فلاستعظام شأن دخول الجنة مع اقتراف الكبائر وتعجبه منه؛ وذلك لشدة نفرته من معصية الله تعالى وأهلها، وأما تكريره - صلى الله عليه وسلم - فلإنكار استعظامه وتحجيره واسعا، أي أتبخل يا أباذر برحمة الله، فرحمة الله واسعة على خلقه وإن كرهت ذلك، وأما حكاية أبي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رغم أنف أبي ذر فللتشرف والافتخار (متفق عليه) أخرجه البخاري في اللباس، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أحمد (ج5: ص166) وابن حبان وغيرهما أيضا.
(1/247)
27- قوله: (وأن عيسى عبدالله)
قال النووي: هذا حديث عظيم الموقع، وهو من أجمع الأحاديث المشتملة على العقائد،
فإنه جمع فيه ما يخرج عنه جميع ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعدهم، وقال
الطيبي: في ذكر عيسى تعريض بالنصارى وإيذان بأن إيمانهم مع قولهم بالتثليث شرك
محض، وكذا قوله (عبده ورسوله) تعريض باليهود في إنكارهم رسالته وانتمائهم إلى ما
لا يحل من قذفه أمه (وابن أمته) تعريض بالنصارى وتقرير لعبديته، أي هو عبدي وابن
أمتي، كيف ينسبونه إلى البنوة؟ وتعريض باليهود ببراءة ساحته من قذفهم، فالإضافة في
أمته إذا للتشريف، (وكلمته) إشارة إلى أنه حجة الله على عباده، أبدعه من غير أب،
وأنطقه في غير أوانه، وأحيى الموتى على يده، فالإضافة للتشريف، وقيل: سمي بكلمة
الله لأنه أوجده بقوله ?كن?، فلما كان بكلامه سمي به، وقيل لما انتفع بكلامه سمي به،
كما يقال: فلان سيف الله وأسد الله، وقيل: لما قال في صغره: ?إني عبدالله? (ألقاها
إلى مريم) استئناف بيان، أي أوصلها الله تعالى إليها وحصلها فيها (وروح منه) قيل:
سماه بالروح لما كان له من إحياء الموتى بإذن الله، فكان كالروح، أو لأنه ذو روح
وجد من غير جزء من ذي روح كالنطفة المنفصلة عن حي وإنما اخترع اختراعا من عند الله
تعالى، قال الطيبي: الإضافة في أمته للتشريف، وعلى هذا تسميته بالروح ووصفه بقوله
((منه)) إشارة إلى أنه – عليه الصلاة والسلام – مقربه وحبيبه، وتعريض باليهود
بحطهم من منزلته، وتنبيه للنصارى على أنه مخلوق من المخلوقات، وهذا كقوله تعالى:
?وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا? [45: 13]، فمعنى قوله "روح
منه" أي كائن منه وحاصل
والجنة والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)) متفق عليه.
28- (27) وعن عمرو بن العاص
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/248)
من عنده وهو خالقه وموجده بقدرته، كما أن معنى الآية أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه وحاصلة من عنده، أي أنه مكون كل ذلك وموجده بقدرته وحكمته ثم سخره لخلقه (والجنة) منصوب ويرفع (والنار حق) مصدر مبالغة في الحقية، وإنهما عين الحق، كزيد عدل، أو صفة مشبهة أي ثابت، وأفرد لأنه مصدر أو لإرادة كل واحدة منهما، وفيه تعريض بمن ينكر دار الثواب والعقاب (أدخله الله الجنة) ابتداء وانتهاء، والجملة جواب الشرط أو خبر المبتدأ (على ما كان) حال من ضمير المفعول من قوله "أدخله الله" أي كائنا على ما كان عليه موصوفا به (من العمل) من صلاح أو فساد، لكن أهل التوحيد لابد لهم من دخول الجنة، ويحتمل أن يكون معنى قوله "على ما كان من العمل" أي يدخل أهل الجنة الجنة على حسب أعمال كل منهم في الدرجات، كذا في الفتح، قال القسطلاني: في الحديث أن عصاة أهل القبلة لا يخلدون في النار لعموم قوله: ((من شهد أن لا إله إلا الله))، وأنه تعالى يعفو عن السيئات قبل التوبة واستيفاء العقوبة؛ لأن قوله (على ما كان من العمل) حال من قوله (أدخله الله الجنة)، ولا ريب أن العمل غير حاصل حينئذ بل الحاصل حال إدخاله استحقاق ما يناسب عمله من الثواب والعقاب، لا يقال: إن ما ذكر يستدعي أن لا يدخل أحد من العصاة النار؛ لأن اللازم منه عموم العفو وهو لا يستلزم عدم دخول النار؛ لجواز أن يعفو عن بعضهم بعد الدخول وقبل استيفاء العذاب، وقال الطيبي: التعريف في العمل للعهد والإشارة به إلى الكبائر، يدل له نحو قوله "وإن زنى وإن سرق" في حديث أبي ذر، وقوله (على ما كان) حال، والمعنى: من شهد أن لا إله إلا الله يدخل الجنة في حال استحقاقه العذاب بموجب أعماله من الكبائر، أي حال هذا مخالفة للقياس في دخول الجنة، فإن القياس يقتضي أن لا يدخل الجنة من شأنه هذا كما زعمت المعتزلة، وإلى هذا المعنى ذهب أبوذر في قوله ((وإن زنى وإن سرق))، ورد بقوله: ((وإن زنى وإن سرق على
(1/249)
رغم أنف أبي ذر)) – انتهى.
(متفق عليه) أخرجه البخاري في الأنبياء، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضا أحمد في
مسنده (ج5: ص314)، والنسائي في التفسير وفي اليوم والليلة.
28- قوله: (وعن عمرو) بالفتح (بن العاص) بن وائل السهمي القرشي، أسلم عام
الحديبية، وأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - على جيش ذات السلاسل ثم استعمله على
عمان فقبض النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أميرها، وكان أحد أمراء الأجناد في
فتوح الشام، وافتتح مصر في عهد عمر بن الخطاب وعمل عليها له ولعثمان ثم عمل عليها
زمن معاوية منذ غلب عليها معاوية إلى أن مات عمرو، أخرج أحمد من حديث ابن أبي
مليكة عن طلحة أحد العشرة رفعه: ((عمرو بن العاص من صالحي قريش)) ورجال سنده ثقات
إلا أن فيه انقطاعا بين ابن أبي مليكة وطلحة، وقال مجاهد عن الشعبي: دهاة العرب في
الإسلام أربعة، فعد منهم عمرا، وقال فأما عمرو فللمعضلات، وقال أبوعمر: كان عمرو
من أبطال قريش في الجاهلية
قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أبسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه
فقبضت يدي، فقال: ما لك يا عمرو؟ قلت: أردت أن أشترط، قال تشترط ماذا؟ قلت: أن
يغفر لي، قال: أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/250)
مذكورا بذلك فيهم، وفضائله ومناقبه كثيرة جدا، قال الخزرجي: له تسعة وثلاثون حديثا، اتفقا على ثلاثة، وانفرد البخاري بطرف حديث، ومسلم بحديثين، مات بمصر سنة (43) وله (90) سنة، ودفن بالمقطم، وخلف أموالا جزيلة، واعلم أنهم اختلفوا في لفظ العاصي المذكور هل هو بالياء أو بدونها؟ قال الزرقاني في شرح الموطأ: بالياء وبحذفها والصحيح بالياء، وقال في شرح المواهب: العاص بالياء وحذفها، والصحيح الأول عند أهل العربية، وهو قول الجمهور كما قال النووي وغيره، وفي تبصير المنتبه قال النحاس: سمعت الأخفش يقول: سمعت المبرد يقول: هو بالياء لا يجوز حذفها، وقد لهجت العامة بحذفها، قال النحاس: هذا مخالف لجميع النحاة يعني أنه من الأسماء المنقوصة فيجوز فيه إثبات الياء وحذفها، كذا في التعليق الممجد، وقال القاري: الأصح عدم ثبوت الياء إما تخفيفا أو بناء على أنه أجوف، ويدل عليه ما في القاموس: الأعياص من قريش أولاد أمية بن عبد شمس الأكبر، وهم العاص وأبوالعاص والعيص وأبوالعيص، فعلى هذا لا يجوز كتابة العاص بالياء ولا قراءته بها لا وقفا ولا وصلا، فإنه معتل العين، بخلاف ما يتوهم بعض الناس أنه اسم فاعل من عصى، فحينئذ يجوز إثبات الياء وحذفه وقفا ووصلا بناء على أنه معتل اللام – انتهى. (ابسط يمينك) أي افتحها ومدها (فلأبايعك) بكسر اللام وفتح العين على الصحيح، والتقدير لأبايعك تعليلا للأمر والفاء مقحمة، وقيل: بضم العين، والتقدير فأنا أبايعك، وأقحم اللام توكيدا، ويحتمل وجوها أخرى، ذكرها القاري، (فقبضت يدي) بسكون الياء وتفتح أي إلى جهتي (ما لك يا عمرو) أي أي شيء خطر لك حتى امتنعت عن البيعة (أردت أن أشترط) مفعوله محذوف أي شرطا أو شيئا يحصل لي به الانتفاع (قال: تشترط ماذا) قيل: حق ماذا أن يكون مقدما على تشترط؛ لأنه يتضمن معنى الاستفهام وهو يقتضي الصدارة، فحذف ماذا وأعيد بعد تشترط تفسيرا للمحذوف، وقيل: كأنه –
(1/251)
عليه الصلاة والسلام – لم
يستحسن منه الاشتراط في الإيمان، فقال: أتشترط؟ إنكارا فحذف الهمزة ثم ابتدأ فقال:
ماذا، أي ما الذي تشترط أو أي شيء تشترط، وقال المالكي في قول عائشة: أقول ماذا
شاهد؟ على أن ما الاستفهامية إذا ركبت مع ذا تفارق وجوب التصدير فيعمل فيها ما
قبلها رفعا ونصبا، فالرفع كقولك "كان ماذا"، والنصب كما في الحديث (أن
يغفر لي) بالبناء للمفعول، وقيل: للفاعل أي الله (أما علمت يا عمرو) أي من حقك مع
رزانة عقلك وجودة رأيك وكمال حذقك أن لا يكون خفي عن علمك (أن الإسلام) أي إسلام
الحربي؛ لأن إسلام الذي لا يسقط شيئا من حقوق العباد، قاله القاري (يهدم) بكسر
الدال أي يمحو ويسقط (ما كان قبله) من الكفر والمعاصي مطلقا مظلمة كانت أو غيرها
صغيرة أو كبيرة (وأن الهجرة) من دار الحرب إلى دار الإسلام
تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟)) رواه مسلم، والحديثان المرويان
عن أبي هريرة قال: قال الله تعالى: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك))، والآخر:
((الكبرياء ردائي)) سنذكرهما في بابي الرياء والكبر إن شاء الله تعالى.
? الفصل الثاني ?
29- (28) عن معاذ قال: قلت: يا رسول الله ! أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني من
النار، قال: لقد سألت عن أمر عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه، تعبد
الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/252)
( تهدم ما كان قبلها) أي من
الخطايا المتعلقة بحق الله لا التبعات، وتكفر الكبائر التي بين العبد ومولاه لا
المظالم بين العباد وحقوق الآدميين (وأن الحج) أي المبرور (يهدم ما كان قبله)
الحكم فيه كالذي قبله، قيل: وعليه الإجماع، وإنما حملوا الحديث في الحج والهجرة
على ما عدا حقوق العباد والمظالم لما عرفوا ذلك من أصول الدين فردوا المجمل إلى
المفصل، وعليه اتفاق الشارحين، وقد تكلم الطيبي في الحديث كلاما حسنا بحسب ما
تقتضيه البلاغة، وهو كالتعقب على الشارحين، إن شئت الوقوف عليه فارجع إلى شرحه
للمشكاة (رواه مسلم) في الإيمان، وأخرجه أحمد أيضا في مسنده (ج4: ص204، 205).
قوله: (والحديثان المرويان عن أبي هريرة) أي المذكوران هنا في المصابيح (قال الله
تعالى...) الخ بيان للحديث (سنذكرهما في بابي الرياء والكبر) لف ونشر مرتب، أي لأن
الحديثين أنسب بالبابين من هذا الباب.
(الفصل الثاني) أي المعبر به عن قوله من الحسان في المصابيح.
(1/253)
29- قوله: (عن معاذ) أي ابن
جبل (أخبرني بعمل) التنوين للتعظيم أو للتنويع، أي بعمل عظيم أو معتبر في الشرع
(يدخلني) من الإدخال، وهو بالرفع صفة العمل، وإسناد العمل إلى الإدخال مجازا،
وبالجزم على أنه جزاء شرط محذوف هو صفة العمل، أي أخبرني بعمل إن عملته يدخلني
الجنة، أو لأنه جواب الأمر؛ لأنه ترتب على فعل العمل المترتب على الإخبار، فترتبه
على الإخبار إشارة إلى سرعة الامتثال بعد الاطلاع على حقيقة الحال، وعطف (يباعدني
من النار) على يدخلني الجنة يفيد أن مراده دخول الجنة من غير سابقة عذاب (عن أمر
عظيم) أي مستعظم الحصول لصعوبته على النفوس إلا من سهل الله عليه (وإنه ليسير) أي
فعله سهل (على من يسره الله تعالى عليه) فيه إشارة إلى أن التوفيق كله بيد الله عز
وجل (تعبد الله) خبر بمعنى الأمر، وهو خبر مبتدأ محذوف على تقدير أن المصدرية،
واستعمال الفعل موضع المصدر مجاز، أي هو ذلك العمل أن تعبد الله، وقد تقدم معنى
العبادة وبيان الحكمة في
ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال:
ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار،
وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا ?تتجافى جنوبهم عن المضاجع? حتى بلغ ?يعملون?،
ثم قال: ألا أدلك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/254)
عطف عدم الإشراك على العبادة (ألا أدلك على أبواب الخير) أي الطرق الموصلة به، والمراد بها النوافل، يدل عليه قوله: ((صلاة الرجل في جوف الليل)) لئلا يلزم التكرار؛ لأنه قد تقدم ذكر الصلاة وغيرها من الفرائض، وجعل هذه الأشياء أبواب الخير لأن الصوم شديد على النفس وكذا إخراج المال في الصدقة وكذا الصلاة في جوف الليل، فمن اعتادها يسهل عليه كل خير؛ لأن المشقة في دخول الدار تكون بفتح الدار المغلق (الصوم جنة) بضم الجيم: الترس والوقاية، أي يقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات والمعاصي المؤدية إلى النار في الآخرة، كالمجن الذي يقي صاحبه عند القتال من الضرب، فالشبع مجلبة للآثام منقصة للإيمان، فإنه يوقع الإنسان في مداحض فيزيغ عن الحق ويغلب عليه الكسل، فيمنعه من وظائف العبادات ويكثر المواد الفضول فيه فيكثر غضبه وشهوته ويزيد حرصه، فيوقعه في طلب ما زاد على حاجته فيوقعه في المحارم (تطفئ الخطيئة) من الإطفاء يعني تذهبها وتمحو أثرها، أي إذا كانت متعلقة بحق الله، وإذا كانت من حقوق العباد فتدفع تلك الحسنة إلى خصمه عوضا من مظلمته، ونزل في الحديث الخطيئة منزلة النار المؤدية هي إليها على الاستعارة المكنية، ثم أثبت لها على الاستعارة التخييلية ما يلازم النار من الإطفاء (وصلاة الرجل في جوف الليل) مبتدأ حذف خبره، أي هي مما لا يكننه كنهها، أو هي مما نزلت فيها الآية المذكورة، أو هي من أبواب الخير، أو هي شعار الصالحين، والأظهر بل المتعين أن يقدر خبره كذلك، أي أنها تطفئ الخطيئة أيضا كالصدقة، يدل عليه ما أخرجه أحمد من رواية عروة بن النزال عن معاذ قال: أقبلت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك... فذكر الحديث، وفيه ((إن الصوم جنة، والصدقة وقيام العبد في جوف الليل يكفر الخطيئة))، (ثم تلا) يعني قرأ هاتين الآيتين عند ذكره فضل صلاة الليل ليبين بذلك فضل صلاة الليل (تتجافى جنوبهم) أي تتباعد (يدعون ربهم) بالصلاة
(1/255)
والذكر والقراءة والدعاء،
ويدخل في عموم لفظ الآية من صلى بين العشائين ومن انتظر صلاة العشاء فلم يقم حتى
يصليها لا سيما مع حاجته إلى النوم ومجاهدة نفسه على تركه لأداء الفريضة، ومن نام
ثم قام من نومه بالليل للتهجد، وهو أفضل أنواع التطوع بالصلاة مطلقا، وربما دخل
فيه من ترك النوم عند طلوع الفجر وقام إلى أداء صلاة الصبح لا سيما مع غلبة النوم
عليه (حتى بلغ يعملون) بقية الآية:?خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون. فلا تعلم نفس
ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون? [سورة السجدة ] (ألا أدلك برأس
الأمر) أي مخبرا بأصله، والمراد بالأمر الدين الذي بعث به (وعموده) بفتح أوله أي
ما يقوم به الدين ويعتمد عليه (وذروة سنامه) بكسر الذال وهو الأشهر وبضمها، وحكى
قلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه
الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه
فقال: كف عليك هذا، فقلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك
يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/256)
فتحها: أعلى الشيء والجمع ذرى بالضم، والسنام بفتح السين ما ارتفع من ظهر الجمل قريب عنقه يقال له بالفارسية "كوهان شتر"، (رأس الأمر الإسلام) قد جاء تفسير الإسلام في رواية أخرى بالشهادتين، ففي رواية أحمد من طريق شهر بن حوشب عن ابن غنم عن معاذ أن رأس هذا الأمر أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، قال القاري: وهو من باب التشبيه المقلوب، إذ المقصود تشبيه الإسلام برأس الأمر؛ ليشعر بأنه من سائر الأعمال بمنزلة الرأس من الجسد في احتياجه إليه وعدم بقائه دونه (وعموده الصلاة) أي ما يقوم به الدين كما يقوم الفسطاط على عموده هي الصلاة، وفي الرواية المشار إليها ((وأن قوام هذا الأمر إقام الصلاة وإيتاء الزكاة))، (وذروة سنامه الجهاد) فيه إشارة إلى صعوبة الجهاد وعلو أمره، وهو يدل على أنه أفضل الأعمال بعد الفرائض كما هو قول الإمام أحمد وغيره من العلماء، قال التوربشتي: المراد بالإسلام كلمتا الشهادة، وبالأمر أمر الدين يعني ما لم يقر العبد بكلمتي الشهادة لم لكن له من الدين شيء أصلا، وإذا أقر بهما حصل له أصل الدين إلا أنه ليس له عمود، فإذا صلى وداوم على الصلاة قوي دينه ولكن لم يكن له رفعة وكمال، فإذا جاهد حصل لدينه رفعة (بملاك ذلك كله) الملاك بكسر الميم وفتحها لغة، والرواية الكسر: ما به إحكام الشيء وتقويته، أي بما به يملك الإنسان ذلك كله بحيث يسهل عليه جميع ما ذكر من تلك العبادات (فأخذ) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (بلسانه) الضمير راجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (كف) الرواية بفتح الفاء المشدد أي امنع (هذا) إشارة إلى اللسان، وتقديم المجرور على المنصوب للاهتمام به، وتعديته بعلى للتضمين أو بمعنى عن، وإيراد اسم الإشارة لمزيد التعيين أو للتحقير، وهو مفعول كف، والمعنى: لا تتكلم بما لا يعنيك، فإن من كثر من كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ولكثرة الكلام
(1/257)
مفاسد يطول إحصاءها وارجع لذلك
إلى الإحياء (لمؤاخذون) بالهمزة ويبدل، أي هل يؤاخذنا ويعاقبنا أو يحاسبنا ربنا
(بما نتكلم به) أي بجميعه، إذ لا يخفى على معاذ المؤاخذة ببعض الكلام (ثكلتك أمك)
بكسر الكاف أي فقدتك، وهو دعاء عليه بالموت ظاهرا، ولا يراد وقوعه بل هو تأديب
وتنبيه من الغفلة (وهل يكب) بفتح الياء وضم الكاف وتشديد الباء، من كبه إذا صرعه
على وجهه، بخلاف أكب فإن معناه سقط على وجهه، وهو من النوادر، وهو عطف على مقدر،
أي هل تظن غير ما قلت، وهل يكب (على وجوههم أو على مناخرهم) شك من الراوي،
والمناخر جمع منخر بفتح الميم وكسر الخاء وفتحها ثقب الأنف
إلا حصائد ألسنتهم؟)) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.
30- (29) وعن أبي أمامة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/258)
والمراد هنا الأنف، والاستفهام للنفي، خصهما بالكب لأنهما أول الأعضاء سقوطا (إلا حصائد ألسنتهم) جمع حصيدة، فعيلة بمعنى مفعولة من حصد إذا قطع الزرع، وهذا إضافة اسم المفعول إلى فاعله، أي محصودات الألسنة، شبه ما يتكلم به الإنسان بالزرع المحصود بالمنجل، وهو من بلاغة النبوة، فكما أن المنجل يقطع ولا يميز بين الرطب واليابس والجيد والرديء، فكذلك لسان بعض الناس يتكلم بكل نوع من الكلام حسنا وقبيحا، والمعنى: لا يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم من الكفر والشرك والقول على الله بغير علم وشهادة الزور والسحر والقذف والشتم والكذب والغيبة والنميمة والبهتان ونحوها، وسائر المعاصي الفعلية لا يخلو غالبا من قول يقترن بها يكون معينا عليها، وهذا الحكم وارد على الأغلب؛ لأنك إذا جربت لم تجد أحدا حفظ اللسان عن السوء ولا يصدر عنه شيء يوجب دخول النار إلا نادرا (رواه أحمد) في مسنده (ج5: ص231)، (والترمذي) في الإيمان (وابن ماجه) في الفتن، وأخرجه أيضا النسائي، كلهم من طريق معمر عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن معاذ بن جبل، وقال الترمذي: حسن صحيح، قال ابن رجب في شرح الأربعين: وفيما قاله نظر من وجهين: أحدهما أنه لم يثبت سماع أبي وائل من معاذ وإن كان قد أدركه بالسن، وكان معاذ بالشام وأبووائل بالكوفة، ومازال الأئمة كأحمد وغيره يستدلون على انتفاء السماع بمثل هذا، وقد قال أبوحاتم الرازي في سماع أبي وائل من أبي الدرداء: قد أدركه وكان بالكوفة وأبوالدرداء بالشام يعني أنه لم يصح له سماع منه، وقد حكى أبوزرعة الدمشقي عن قوم أنهم توقفوا في سماع أبي وائل من عمر أو نفوه فسماعه من معاذ أبعد، والثاني: أنه قد رواه حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن شهر بن حوشب عن معاذ، خرجه الإمام أحمد مختصرا (ج5: ص248)، قال الدارقطني: وهو أشبه بالصواب؛ لأن الحديث معروف من رواية شهر على اختلاف عليه فيه. قلت: رواية شهر عن
(1/259)
معاذ مرسلة يقينا، وشهر مختلف
في توثيقه وتضعيفه، قد خرجه الإمام أحمد (ج5: ص245) من رواية شهر عن عبدالرحمن بن
غنم عن معاذ، وخرجه الإمام أحمد أيضا (ج5: ص237) من رواية عروة بن النزال بن عروة
وميمون بن أبي شبيب كلاهما عن معاذ، ولم يسمع عروة ولا ميمون عن معاذ، وله طرق
أخرى عن معاذ كلها ضعيفة – انتهى.
30- قوله: (وعن أبي أمامة) بضم الهمزة، اسمه صدي – بالتصغير - ابن عجلان بن وهب
الباهلي، غلبت عليه كنيته، سكن مصر ثم انتقل منها إلى حمص فسكنها ومات بها، وكان
من المكثرين في الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأكثر حديثه عند
الشاميين، قال له - صلى الله عليه وسلم -: ((أنت مني وأنا منك))، ذكره الحافظ في
الإصابة (ج2: ص172)، له مائتا حديث وخمسون حديثا، روى له البخاري خمسة أحاديث،
ومسلم ثلاثة، روى عنه خلق كثير، مات سنة (81).
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله
ومنع لله، فقد استكمل الإيمان))، رواه أبوداود.
31- (30) ورواه الترمذي عن معاذ بن أنس مع تقديم وتأخير، وفيه: ((فقد استكمل
إيمانه)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/260)
وقيل: سنة (86) وهو ابن (91) سنة، وقيل: ابن (106) سنة، وهو آخر من مات بالشام من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قول بعضهم. (من أحب لله) أي لأجله ولوجهه لا لحظ نفسه (وأبغض لله) أي لكفره وعصيانه لا لإيذائه له (وأعطى لله) أي لثوابه ورضاه لا لميل نفسه وريائه (ومنع لله) أي لأمر الله فلا يصرف الزكاة عن كافر لخسته ولا عن هاشمي لشرفه بل لمنع الله لهما منها، وكذلك سائر الأعمال، فسكت لله وتكلم لله، واختلط بالناس لله واعتزل عن الخلق لله، كقوله تعالى حاكيا: ?إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين? [6: 162]، وإنما خص الأفعال الأربعة لأنها حظوظ نفسانية، إذ قلما يمحضها الإنسان لله، فإذا محضها مع صعوبة تمحيضها كان تمحيض غيرها بالطريق الأولى، ولذا أشار إلى استكمال الدين بتمحيضها بقوله (فقد استكمل الإيمان) بالنصب أي أكمله، وقيل بالرفع، أي تكمل إيمانه. (رواه أبوداود) في السنة وسكت عليه، وفي إسناده القاسم بن عبدالرحمن أبوعبدالرحمن الشامي، قال المنذري: قد تكلم فيه غير واحد – انتهى. وأخرجه أيضا الضياء المقدسي، قال العزيزي: بإسناد ضعيف، والطبراني في الأوسط، وفي إسناده صدقة بن عبدالله السمين، ضعفه البخاري وأحمد وغيرهما، وقال أبوحاتم: محله الصدق، كذا في مجمع الزوائد.
(1/261)
31- قوله: (ورواه الترمذي) أي
في آخر أبواب الزهد (عن معاذ بن أنس) الجهني حليف الأنصار، قال ابن يونس: صحابي
كان بمصر والشام، قد ذكر فيهما، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، وله
رواية عن أبي الدرداء وكعب الأحبار، روى عنه ابنه سهل بن معاذ وحده، وهو لين
الحديث إلا أن أحاديثه حسان في الفضائل والرغائب، قال الخزرجي: له ثلاثون حديثا،
وروى البغوي في معجمه من طريقه ما يدل على أنه بقي إلى خلافة عبدالملك بن مروان.
(مع تقديم وتأخير) ولفظه: ((من أعطى لله ومنع لله، وأحب لله وأبغض لله، وأنكح
لله))، (وفيه) أي في حديث الترمذي أو في مروي معاذ (فقد استكمل إيمانه) أي
بالإضافة، قال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث منكر، قال شيخنا في شرح الترمذي: لم
يظهر لي وجه كون هذا الحديث منكرا – انتهى. ويمكن أن يقال: إن الترمذي أراد بقوله
منكر أنه غريب من حديث معاذ بن أنس، فقد تفرد بروايته عنه ابنه سهل، فهو غريب من
جهة هذا الطريق، والمنكر يطلق على معنيين: أحدهما ما خالف فيه الضعيف القوي،
والثاني ما تفرد به الضعيف من دون اشتراط المخالفة، وهاهنا قد انفرد بروايته سهل
بن معاذ عن أبيه، وقد ضعفه ابن معين، وقال أبوحاتم الرازي: لا يحتج به، ووقع في
بعض نسخ الترمذي: "حديث حسن"، بدل قوله "منكر" فليحرر، ولعل
الترمذي حسنه مع أن في سنده أبامرحوم عبدالرحيم بن ميمون، وضعفه ابن معين وتكلم
فيه غير واحد، وسهل بن معاذ قد عرفت حاله؛ لأن أبامرحوم هذا قد قال فيه
32- (31) وعن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفضل الأعمال
الحب في الله والبغض في الله)) رواه أبوداود.
33- (32) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المسلم من
سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/262)
النسائي: أرجو أنه لا بأس به، وقال الحافظ: صدوق، وسهل بن معاذ وثقه ابن حبان، وقال الحافظ: لا بأس به، إلا في رواية زبان عنه، وفي الاستيعاب وتهذيب التهذيب: هو لين الحديث إلا أن أحاديثه حسان في الفضائل والرغائب، ولأن له شاهدين، أحدهما حديث أبي أمامة، والثاني حديث أبي هريرة، أخرجه أحمد والبزار بلفظ: ((من سره أن يجد طعم الإيمان فليحب المرء لا يحبه إلا لله...)) الحديث، ورجاله ثقات، وحديث معاذ أخرجه أيضا الحاكم، وقال: صحيح الإسناد، وأخرجه أحمد بعين لفظ الترمذي من روايتين، من رواية عبدالله بن يزيد عن سعيد بن أبي أيوب عن عبدالرحيم بن ميمون عن سهل بن معاذ عن أبيه (ج3: ص440)، وهي طريق الترمذي، والأخرى من طريق ابن لهيعة عن زبان بن فائد عن سهل عن أبيه معاذ (ج3: ص438).
(1/263)
32- قوله: (أفضل الأعمال) أي
من أفضل أعمال الإيمان (الحب في الله) أي لوجهه وفي سبيله لا لغرض آخر كميل قلب
وإحسان، ومن لازم الحب في الله حب أولياءه وأصفياءه، ومن شرط محبتهم اقتفاء آثارهم
وطاعتهم. (والبغض في الله) أي لأمر يسوغ له البغض كالفسق والظلم والكفر والعصيان.
قال ابن رسلان: فيه دليل على أنه يجب أن يكون للرجل أعداء يبغضهم في الله كما يكون
له أصدقاء يحبهم في الله، بيانه أنك إذا أحببت إنسانا لأنه مطيع لله ومحبوب عند
الله، فإن عصاه فلا بد أن تبغضه لأنه عاص لله وممقوت عند الله، فمن أحب بسبب
فبالضرورة يبغض لضده، وهذان وصفان متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، وهو مطرد في
الحب والبغض في العادات – انتهى. (رواه أبوداود) قال المنذري: في إسناده يزيد بن
أبي زياد الكوفي، ولا يحتج بحديثه، وقد أخرج له مسلم متابعة، وفيه أيضا رجل مجهول
– انتهى. وأخرجه أحمد مطولا وفيه أيضا رجل لم يسم، وللحديث شواهد من حديث ابن عباس
أخرجه الطبراني في الكبير، ومن حديث البراء بن عازب أخرجه أحمد والبيهقي، ومن حديث
ابن مسعود أخرجه الطبراني في الصغير، وفيه عقيل بن الجعد قال البخاري: منكر
الحديث.
33- قوله: (والمؤمن من أمنه الناس)) الخ كعلمه أي ائتمنوه يعني جعلوه أمينا عليها
وصاروا منه على أمن؛ لكونه مجربا مختبرا في حفظها وعدم الخيانة فيها، يقال: أمنت
زيدا على هذا الأمر وأتمنته أي جعلته أمينا وصرت منه على أمن، يعني المؤمن الكامل
هو الذي ظهرت أمانته وعدالته وصدقه بحيث لا يخاف منه الناس على إذهاب مالهم وقتلهم
ومد اليد على نسائهم، والمقصود أن الكمال في الإيمان لا يتحقق بدون هذا، ولا يكون
المرء بدون هذا الوصف مؤمنا كاملا لا أنه
على دمائهم وأموالهم))، رواه الترمذي والنسائي.
34- (33) وزاد البيهقي في شعب الإيمان برواية فضالة: ((والمجاهد من جاهد نفسه في
طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب)).
(1/264)
35- (34) وعن أنس قال: قلما
خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذا تحقق هذا الوصف تحقق الكمال في الإيمان، وإن كان مع ترك الصلاة ونحوها، لجواز
عموم المحمول من الموضوع، قاله السندهي. قال الطيبي: وفي ترتب من سلم على المسلم
ومن أمنه على المؤمن رعاية للمطابقة لغة – انتهى. وقال القاري: حاصل الفقرتين إنما
هو التنبيه على تصحيح اشتقاق الاسمين، فمن زعم أنه متصف به ينبغي أن يطالب نفسه
بما هو مشتق منه، فإن لم يوجد فيه فهو كمن زعم أنه كريم ولا كرم له – انتهى. قال
المناوي: وذكر المسلم والمؤمن بمعنى واحد تأكيد أو تقرير. (رواه الترمذي) وقال:
حسن صحيح، (والنسائي) كلاهما في الإيمان، وأخرجه أيضا أحمد والحاكم وابن حبان.
(1/265)
34- (برواية فضالة) بفتح الفاء أي ابن عبيد الأنصاري الأوسي، كنيته أبومحمد، أسلم قديما، أول مشاهده أحد ثم شهد ما بعدها وبايع تحت الشجرة وشهد فتح مصر والشام قبلها ثم سكن الشام وولي الغزو، وولاه معاوية قضاء دمشق بعد أبي الدرداء، وكان ذلك بمشورة من أبي الدرداء، قال ابن حبان: مات في خلافة معاوية، وكان معاوية ممن حمل سريره، وكان معاوية استخلفه على دمشق في سفرة سافرها، أرخ المدائني وغيره وفاته سنة (53)، قال الخزرجي: له خمسون حديثا انفرد مسلم بحديثين. روى عنه جماعة. (والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله) يعني المجاهد ليس من قاتل الكفار فقط، بل المجاهد من جاهد نفسه وحملها وأكرهها على طاعة الله تعالى؛ لأن نفس الرجل أشد عداوة من الكفار؛ لأن الكفار أبعد منه، ولا يتفق التلاحق والتقاتل معهم إلا حينا بعد حين، وأما نفسه فأبدا يلازمه ويمنعه من الخير والطاعة، ولا شك أن القتال مع العدو الذي يلزم الرجل أهم من القتال مع العدو الذي هو بعيد منه. قال الطيبي: اللام في قوله (المجاهد) للجنس أي المجاهد الحقيقي الذي ينبغي أن يسمى مجاهدا من جاهد نفسه، وكان مجاهدته مع غيره بالنسبة إليه كلا مجاهدته، ونحوه قوله - صلى الله عليه وسلم - ((فذلك الرباط))، (والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب) قال القاري: أي ترك الصغائر والكبائر، وقيل: الذنب أعم من الخطيئة؛ لأنه يكون عن عمد بخلاف الخطيئة – انتهى. قال الطيبي: الحكمة في الهجرة أن يتمكن المؤمن من الطاعة بلا مانع، ويتخلص عن صحبة الأشرار المؤثرة بدوامها في اكتساب الأخلاق الذميمة والأفعال الشنيعة، فهي في الحقيقة التحرز عن ذلك، والمهاجر الحقيقي من يتحاشا عنها – انتهى. وحديث فضالة هذا أخرجه أيضا أحمد في مسنده (ج6: ص21، 22)، والحاكم في مستدركه بإسناد على شرط مسلم، وابن حبان في صحيحه، والطبراني في الكبير.
(1/266)
35- قوله: (قلما خطبنا) ما
مصدرية أي قل خطبة خطبنا، ويجوز أن تكون كافة، وهو يستعمل في النفي ويدل
إلا قال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) رواه البيهقي في
شعب الإيمان.
( الفصل الثالث )
عليه الاستثناء أي ما وعظنا (إلا قال) أي فيها، ولعل الحصر غالبي (لا إيمان لمن لا
أمانة له) فإن المؤمن من أمنه الخلق على أنفسهم وأموالهم، فمن خان وجار فليس
بمؤمن، أراد نفي الكمال دون الحقيقة، قاله المناوي. وقال القاري: انتفى كمال
الإيمان بانتفاء الأمانة؛ لأنه يؤدي إلى استباحة الأموال والأعراض والأبضاع
والنفوس، وهذه فواحش تنقص الإيمان وتقهقره إلى أن لا يبقى منه إلا أقله بل ربما
أدت إلى الكفر، ومن ثم قيل: المعاصي بريد الكفر – انتهى. (ولا دين لمن لا عهد له)
المراد به الزجر والردع ونفي الفضيلة والكمال دون الحقيقة، والمعنى أن من جرى بينه
وبين أحد عهد وميثاق ثم غدر من غير عذر شرعي فدينه ناقص، قال الطيبي: وفي هذا
الحديث إشكال، وهو أنه قد سبق أن الدين والإيمان الإسلام أسماء مترادفة، فلم فرق
بينها وخص كل واحد منها بمعنى؟ والجواب: أنها وإن اختلفت لفظا فقد اتفقا هاهنا
معنى، فإن الأمانة ومراعاتها إما مع الله تعالى فهي ما كلف به من الطاعة وسمي
أمانة لأنه لازم الوجود كما أن الأمانة لازم الأداء، قال الله تعالى: ?إنا عرضنا
الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها
الإنسان? [34: 72]، وإما مع الخلق فظاهر، ولأن العهد وتوثيقه إما مع الله تعالى
فاثنان العهد الأول الذي أخذه على جميع ذرية آدم في الأزل، وهو الإقرار بربوبيته
قبل الأجساد، مصداقه قوله تعالى: ?وإذ أخذ ربك من بني آدم...? الآية [7: 172]،
والثاني ما أخذه عند هبوط آدم – عليه الصلاة والسلام – إلى الدنيا من متابعة هدى
من الاعتصام بكتاب ينزله ورسول يبعثه، مصداقه قوله تعالى: ?قلنا اهبطوا منها جميعا
فإما يأتينكم
(1/267)
مني هدى...? [2: 38]، وإما مع
الخلق وحينئذ فمرجع الأمانة والعهد إلى طاعة الله بأداء حقوقه وحقوق العباد كأنه
قال: لا إيمان ولا دين لمن لا يفي بعهد الله بعد ميثاقه، ولا يؤدي أمانة الله بعد
حملها، وهي التكاليف من الأوامر والنواهي، ويشهد له قوله تعالى: ?وما أمروا إلا
ليعبدوا الله مخلصين له الدين – إلى قوله – دين القيمة? [98: 5]، والتكرير المعنوي
توكيد وتقرير – انتهى. (رواه البيهقي في شعب الإيمان) وكذا رواه في السنن الكبرى
(ج6: ص288) قال القاري: وكذا رواه محي السنة أي صاحب المصابيح في شرح السنة
بإسناده – انتهى. قلت: وأخرجه أيضا أحمد في المسند (ج3: ص135، 154، 210، 251)، وفي
السنة (ص97)، وابن حبان وأبويعلى والبزار والطبراني في الأوسط والضياء في
المختارة، قال العزيزي: إسناده قوي، وقال الهيثمي: فيه أبوهلال وثقه ابن معين
وغيره، وضعفه النسائي وغيره – انتهى. وللحديث شاهدان من حديث أبي أمامة عند
الطبراني في الكبير ومن حديث ابن مسعود ذكرهما الهيثمي، وقال الشيخ الألباني: رواه
الضياء في الأحاديث المختارة (ق234/2) من طريقين عن أنس أحد إسناديه حسن وله
شواهد.
قوله (الفصل الثالث) المراد به الأحاديث الملحقة بالباب ألحقها صاحب المشكاة غير
مقيدة بأن تكون مما أخرجها الشيخان أو غيرهما من أصحاب السنن، ولا بأن تكون عن
صحابي أو تابعي.
36- (35) عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
((من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله حرم الله عليه النار)) رواه
مسلم.
37- (36) وعن عثمان – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/268)
36- قوله: (قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول) هذا ما يتكرر كثيرا، وقد اختلف في المنصوبين بعد سمعت، فالجمهور على أن الأول مفعول، وجملة يقول حال، أي سمعت كلامه؛ لأن السمع لا يقع على الذوات، ثم بين هذا المحذوف بالحال المذكور فهي حال مبينة لا يجوز حذفها، واختار الفارسي أن ما بعد سمعت إن كان مما يسمع كسمعت القرآن تعدت إلى مفعول واحد، وإلا كما هنا تعدت إلى مفعولين، فجملة يقول على هذا مفعول ثان (من شهد أن لا إله إلا الله...) الخ، أي صادقا من قلبه كما في حديث أنس في قصة معاذ، وقد تقدم الكلام على معنى الحديث هناك (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج5: ص318)، والترمذي في الإيمان.
(1/269)
37- قوله: (وعن عثمان) أي ابن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي القرشي المدني، يكنى أباعبدالله وأباعمرو، أمير المؤمنين ومجهز جيش العسرة ومشتري بئر رومة، وأحد العشرة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين أخبر عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات وهو عنهم راض، ولد بعد الفيل بست سنين، أسلم في أول الإسلام على يدي أبي بكر قبل دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دار الأرقم، وهاجر إلى الحبشة الهجرتين ولم يشهد بدرا لتخلفه على تمريض زوجته رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وضرب له النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بسهم، ولم يشهد بالحديبية بيعة الرضوان لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بعثه إلى مكة في أمر الصلح، فلما كانت البيعة ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - يده على يده وقال: هذه لعثمان، وسمي ذا النورين لجمعه بين بنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقية وأم كلثوم، واحدة بعد أخرى، قال ابن عمر: كنا نقول على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -: أبوبكر ثم عمر ثم عثمان، وقال ابن سيرين: كان يحيي الليل كله بركعة، ومناقبه وفضائله كثيرة شهيرة جدا، بويع له بالخلافة بعد دفن عمر بثلاثة أيام، وذلك غرة المحرم سنة (24)، وقتل مظلوما في ذي الحجة سنة (35) وهو ابن (82) سنة، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا أياما، له مائة وستة وأربعون حديثا، اتفقا على ثلاثة، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بخمسة، روى عنه خلق. قال عبدالله بن سلام: لقد فتح الناس على أنفسهم بقتل عثمان باب فتنة لا يغلق إلى يوم القيامة، وترجمته مستوفاة في تاريخ دمشق (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله) هذه الكلمة علم لكلمتي الشهادة، ولذا اقتصر عليها، قال النووي: في قوله (وهو يعلم) إشارة إلى الرد على غلاة المرجئة أن مظهر الشهادتين يدخل الجنة وإن لم يعتقد ذلك بقلبه، وقد قيد ذلك في حديث آخر بقوله ((غير شاك
(1/270)
فيهما))، وهذا يؤيد ما قلنا،
قال القاضي: وقد يحتج به أيضا من يرى أن مجرد
رواه مسلم.
38- (37) وعن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثنتان موجبتان،
قال رجل: يا رسول الله ما الموجبتان؟ قال: من مات يشرك بالله شيئا دخل النار، ومن
مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة))، رواه مسلم.
39- (38) وعن أبي هريرة قال: ((كنا قعودا حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
ومعنا أبوبكر وعمر – رضي الله عنهما – في نفر، فقام رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - من بين أظهرنا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معرفة القلب نافعة دون النطق بالشهادتين لاقتصاره على العلم، ومذهب أهل السنة أن
المعرفة مرتبطة بالشهادتين لا تنفع أحداهما ولا تنجي من النار دون الأخرى إلا لمن
لم يقدر على الشهادة بلسانه إذا لم تمهله المدة ليقولها بل اخترمته المنية، ولا
حجة لمخالف الجماعة بهذا اللفظ، إذ قد ورد مفسرا في الحديث الآخر: ((من قال لا إله
إلا الله ومن شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله))، وقد جاء هذا الحديث
وأمثاله كثيرة، في ألفاظها اختلاف ولمعانيها عند أهل التحقيق ائتلاف – انتهى.
(رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج1: 65، 69).
(1/271)
38- قوله: (وعن جابر) هو جابر
بن عبدالله بن عمرو بن حرام الأنصاري الخزرجي السلمي أبوعبدالله، شهد العقبة
الثانية مع أبيه وهو صغير ولم يشهد الأولى، قال ابن عبدالبر: ذكره بعضهم في
البدريين ولا يصح لأنه قد روي عنه أنه قال: لم أشهد بدرا ولا أحدا، منعني أبي،
وذكر البخاري أنه شهد بدرا وكان ينقل لأصحابه الماء يومئذ ثم شهد بعدها مع النبي -
صلى الله عليه وسلم - ثمان عشرة غزوة، ذكر ذلك الحاكم أبوأحمد، وكان من المكثرين
الحفاظ للسنن، وكف بصره في آخر عمره، روي عنه أنه قال: استغفر لي رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - ليلة البعير خمسا وعشرين مرة، وقال هشام بن عروة: رأيت لجابر بن
عبدالله حلقة في المسجد النبوي يؤخذ عنه العلم، توفي بالمدينة سنة (73)، وقيل
(74)، وقيل (77)، وقيل (78)، ويقال: مات وهو ابن (94) سنة، وصلى عليه أبان بن
عثمان، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة في قول. له ألف وخمسمائة حديث وأربعون
حديثا، اتفقا على ثمانية وخمسين حديثا، وانفرد البخاري بستة وعشرين، ومسلم بمائة
وستة وعشرين (ثنتان) صفة مبتدأ محذوف أي خصلتان (موجبتان) يقال: أوجب الرجل إذا
عمل ما يجب به الجنة أو النار، ويقال للحسنة والسيئة موجبة، فالوجوب عند أهل السنة
بالوعد أو الوعيد، وعند المعتزلة بالعمل (ما الموجبتان) السببان، فإن الموجب
الحقيقي هو الله تعالى (من مات يشرك بالله...) الخ فالموت على الشرك سبب لدخول
النار وخلودها، والموت على التوحيد سبب لدخول الجنة (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد
في مسنده (ج3: ص345، 374، 391)، وأخرج الطبراني في الكبير نحوه عن عمارة بن رويبة،
وفيه محمد بن أبان وهو ضعيف.
39- قوله: (كنا قعودا) أي ذوي قعود أو قاعدين (في نفر) أي مع جماعة من الصحابة (من
بين أظهرنا)
(1/272)
فأبطأ علينا وخشينا أن يقتطع
دوننا وفزعنا فقمنا، فكنت أول من فزع، فخرجت أبتغي رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- حتى أتيت حائطا للأنصار لبني النجار، فدرت به هل أجد له بابا فلم أجد، فإذا ربيع
يدخل في جوف حائط من بئر خارجة، والربيع الجدول، قال: فاحتفزت فدخلت على رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -، فقال أبوهريرة؟ فقلت: نعم يا رسول الله، قال: ما شأنك؟
قلت: كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت علينا، فخشينا أن تقتطع دوننا ففزعنا فكنت أول من
فزع، فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، وهؤلاء الناس ورائي، فقال: يا
أباهريرة !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/273)
أظهر زائدة للتأكيد أي من بيننا (فأبطأ علينا) أي مكث وتو