الخميس، 1 سبتمبر 2022

ج7.وج8.مرعاة المفاتيح

 

7 مرعاة المفاتيح

حديث أبي ذر وغيره، وإليه ذهب صاحب فيض الباري من الحنفية حيث قال: المختار عندي أن التراويح وصلاة الليل واحد وإن اختلفت صفتاهما، كعدم المواظبة على التراويح، وأدائها بالجماعة، وأدائها في أول الليل تارة، وإيصالها إلى السحر أخرى بخلاف التهجد، فإنه كان في آخر الليل، ولم تكن فيه الجماعة، وجعل اختلاف الصفات دليلا على اختلاف نوعيهما ليس بجيد عندي، بل كانت تلك صلاة واحدة، إذا تقدمت سميت باسم التراويح، وإذا تأخرت سميت باسم التهجد، ولا بدع في تسميتها باسمين عند تغاير الوصفين، فإنه لا حجر في التغاير الاسمي إذا اجتمعت عليه الأمة، وإنما يثبت تغاير النوعين إذا ثبت عن النبي ? أنه صلى التهجد مع إقامته بالتراويح-انتهى. قلت: لا شك في أن التراويح والتهجد صلاة واحدة، لكن تخصيص التهجد بكونه في آخر الليل، فيه عندي كلام، نعم أكثر صلاته ? بالليل كانت في آخره.
1303- قوله: (اتخذ) أي في رمضان. (حجرة) بالراء. قال الحافظ: كذا للأكثر بالراء، ولأبي ذر عن الكشمهيني: بالزاي أي شيئا حاجزا، يعني مانعا بينه وبين الناس. (في المسجد) أي في مسجد المدينة
من حصير، فصلى فيها ليالي، حتى اجتمع عليه ناس، ثم فقدوا صوته ليلة، وظنوا أنه قد نام،
فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم، فقال:

(6/80)


(من حصير) أي موضعا من المسجد بحصيرة ليستره، يعني جعل الحصير كالحجرة ليصلي فيه التطوع، ولا يمر بين يديه مار ليتوفر خشوعه ويتفرغ قلبه، وفيه جواز مثل هذا إذا لم يكن فيه تضييق على المصلين ونحوهم ولم يتخذه دائما؛ لأن النبي ? كان يحتجره بالليل يصلي فيه، ويبسطه بالنهار فيجلس عليه، كما في رواية عائشة عند الشيخين. (فصلى فيها) أي في تلك الحجرة. (ليالي) أي من رمضان. (حتى اجتمع) قال القاري: أي فكان يخرج عليه الصلاة والسلام منها، ويصلي بالجماعة في الفرائض والتراويح حتى اجتمع. (عليه ناس) أي وكثروا، وقول ابن حجر ههنا: فأتموا به موهم أن الإقتداء وقع به، وهو في داخل الحجرة، وهو محل بحث، ويحتاج إلى نقل صحيح- انتهى كلام القاري. قلت: ظاهر الحديث أنهم اقتدوا بالنبي ?، وهو في داخل الحجرة، ويؤيده رواية البخاري في الأدب بلفظ: فخرج رسول الله ? يصلي فيها قال: فتتبع إليه رجال. (أي طلبوا موضعه واجتمعوا عليه) وجاءوا يصلون بصلاته الخ. ويؤيده أيضا حديث عائشة عند البخاري قالت: كان رسول الله ? يصلي من الليل في حجرته. (أي التي اتخذها من حصير) وجدار الحجرة قصيرة فرأى الناس شخص النبي ? فقام أناس يصلون بصلاته- الحديث. وقيل: هذه قصة أخرى غير ما وقع في حديث زيد بن ثابت، والله أعلم. واستشكل صلاته ? في المسجد؛ لأنه يلزم منه أن يكون تاركا للأفضل الذي أمر به الناس به حيث قال: فصلوا في بيوتكم الخ. وأجيب عنه بوجوه: منها أن هذه الصلاة مما استثني عنه؛ لأن الأفضل عند الجمهور في صلاة التراويح المسجد، كما سيأتي. ومنها أنه ?كان إذ ذاك معتكفا، ومن المعلوم أن المعتكف لا يصلي إلا في المسجد. ومنها أنه إذا احتجر صار كأنه بيت بخصوصية. ومنها أن السبب في كون صلاة التطوع في البيت أفضل عدم شوبه بالرياء غالبا، والنبي ? منزه عن الرياء في بيته وفي غير بيته. (ثم فقدوا صوته) أي حسه. (ليلة) بأن دخل الحجرة بعد ما صلى بهم الفريضة ولم

(6/81)


يخرج إليهم بعد ساعة للتراويح، قاله القاري، وفيه ما تقدم. (فجعل بعضهم يتنحنح) فيه دليل لما أعتيد في بعض النواحي من التنحنح إشارة إلى الاستئذان في دخوله، أو إلى الإعلام بوجود المتنحنح بالباب أو بطلبه خروج من قصده إليه. (ليخرج) أي النبي ? من الحجرة. (إليهم) لصلاة التراويح بعد أن دخل فيها، كما في الليالي الماضية، قاله القاري. (فقال) أي فخرج فقال، ففي رواية البخاري في الأدب: ثم جاءوا ليلة فحضروا وابطأ رسول الله ? عنهم، فلم يخرج إليهم فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم مغضبا، وقوله: حصبوا الباب يدل بظاهره على أنه دخل بيتا من بيوت أزواجه بعد ما صلى بهم الفريضة
ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم، حتى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما
قمتم به، فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة)).

(6/82)


فلم يخرج منه إلى الحجرة التي كان احتجرها في المسجد بالحصير، فحصبوا باب بيته ليخرج منه إلى حجرة الحصير فيصلوا بصلاته من ورائها. (ما زال بكم) أي متلبسا كم. (الذي رأيت) بكم خبر زال قدم على الاسم، وهو الموصول بصلته، أي أبدا ثبت بكم الذي رأيت. (من صنيعكم) قال الحافظ: كذا للأكثر، وللكشمهيني بضم الصاد وسكون النون، أي من شدة حرصكم على إقامة صلاة التراويح بالجماعة، حتى رفعتم أصواتكم وحصب بعضكم الباب وتنحنح بعضكم. (حتى خشيت أن يكتب) أي يفرض (عليكم) أي لو واظبت على إقامتها بالجماعة لفرضت عليكم. (ولو كتب عليكم) ذلك (ما قمتم به) ولم تطيقوه بالجماعة كلكم بعجزكم. قال القاري: فيه دليل على أن التراويح سنة جماعة وانفرادا، والأفضل في عهدنا الجماعة لكسل الناس. وقد استشكلت هذه الخشية مع ما ثبت في حديث الإسراء من أن الله تعالى قال: هن خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي، فإذا أمن التبديل فكيف يقع الخوف من الزيادة؟ وقد أجيب عنه بأجوبة ذكرها الحافظ في الفتح عن الشراح، وتكلم في كل واحد منها، ثم قال: وقد فتح الباري بثلاثة أجوبة أخرى: أحدها يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام الليل بمعنى جعل التهجد في المسجد جماعة شرطا في صحة التنفل بالليل، ويومئ إليه قوله في حديث زيد بن ثابت: حتى خشيت أن يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فمنعهم من التجميع في المسجد إشفاقا عليهم من اشتراطه وأمن مع أذنه في المواظبة على ذلك في بيوتهم من افتراضه عليهم. ثانيها: يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام الليل على الكفاية لا على الأعيان، فلا يكون زائدا على الخمس، بل هو نظير ما ذهب إليه قوم في العيد ونحوها. ثالثها: يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام رمضان خاصة، فقد وقع في حديث الباب. (أي حديث عائشة) إن ذلك كان في رمضان، وفي رواية سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة عن عائشة عند أحمد: خشيت أن يفرض عليكم قيام

(6/83)


هذا الشهر، فعلى هذا يرتفع الإشكال؛ لأن قيام رمضان لا يتكرر كل يوم في السنة، فلا يكون ذلك قدرا زائدا على الخمس، وأقوى هذه الأجوبة الثلاثة في نظري الأول-انتهى كلام الحافظ. (فصلوا أيها الناس في بيوتكم) أي النوافل التي لم تشرع فيها الجماعة والتي لا تخص المسجد، والأمر للاستحباب. (فإن أفضل صلاة المرء) هذا عام لجميع النوافل والسنن إلا النوافل التي من شعار الإسلام كالعيد والكسوف والاستسقاء. قاله القاري. وقال بعض الأئمة الشافعية: هو محمول على ما لا يشرع فيه التجميع، وكذا ما لا يخص المسجد كركعتي التحية. (في بيته) خبر إن أي صلاته في بيته. (إلا الصلاة المكتوبة) أي المفروضة. قال النووي:
متفق عليه.
1304-(2) وعن أبي هريرة قال: ((كان رسول الله ? يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة فيقول: من قام رمضان إيمانا واحتسابا،

(6/84)


إنما حث على النافلة في البيت، لكونه أخفى وأبعد من الرياء، وليتبرك البيت بذلك فتنزل فيه الرحمة وينفر منه الشيطان. قلت: والحديث يدل على أن صلاة التراويح في البيت أفضل؛ لأنه ورد في صلاة رمضان في مسجده ?، فإذا كان صلاة رمضان في البيت أفضل منها في مسجده ? فكيف غيرها في مسجد آخر؟ وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن صلاة رمضان أي التراويح في المسجد أفضل، وهذا يخالف هذا الحديث؛ لأن مورده صلاة رمضان. وأجيب عنهم بأن رسول الله ? قال ذلك لخشية الافتراض، فإذا زالت الخشية بوفاته ? ارتفعت العلة المانعة، وصار أداءها في المسجد أفضل، كما أداها ? في المسجد عدة ليال، ثم أجراها عمر بن الخطاب واستمر عليها عمل المسلمين إلى يومنا هذا؛ لأنه من الشعائر الظاهرة للإسلام فأشبه صلاة العيد، وأجاب السندي بأنه يقال: صار أفضل حين صار أداءها في المسجد من شعار الإسلام، والله تعالى أعلم. وفي الحديث ندب قيام رمضان جماعة؛ لأن الخشية المذكورة أمنت بعد النبي ?، ولذلك جمعهم عمر بن الخطاب على أبي بن كعب، كما سيأتي. وفيه أن الكبير إذا فعل شيئا خلاف ما اعتاده أتباعه ينبغي أن يذكر لهم عذره وحكمه والحكمة فيه. وفيه ما كان النبي ? عليه من الشفقة على أمته والرأفة بهم. وفيه ترك بعض المصالح لخوف المفسدة وتقديم أهم المصلحتين. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة والأدب والاعتصام، ومسلم في الصلاة، واللفظ للبخاري في الاعتصام. وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي والبيهقي (ج2 ص494).

(6/85)


1304- قوله: (يرغب) أي الناس، وهو بضم الياء وفتح الراء وكسر الغين المعجمة المشددة من الترغيب. (في قيام رمضان) أي يحضهم على قيام لياليه، مصليا أي صلاة التراويح، كما قاله النووي. (من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة) أي بعزم وقطع وبت، يعني بفريضة، وفيه التصريح بعدم وجوب القيام. قال النووي: معناه لا يأمرهم أمر إيجاب وتحتيم بل أمر ندب وترغيب، ثم فسره بقوله فيقول الخ. وهذه الصيغة تقتضي الندب والترغيب دون الإيجاب، واجتمعت الأمة على أن قيام رمضان ليس بواجب بل هو مندوب. (من قام رمضان) أي قام لياليه مصليا يعني صلى التراويح، وقيل: المراد ما يحصل به مطلق القيام. (إيمانا أي تصديقا بوعد الله عليه بالثواب. (واحتسابا) أي طلبه للأجر والثواب من غير رياء وسمعة،
غفر له ما تقدم من ذنبه، فتوفي رسول الله ? على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة
أبي بكر، وصدرا من خلافة عمر على ذلك)).

(6/86)


فنصبهما على المفعول له. وقيل: على الحال مصدران بمعنى الوصف أي مؤمنا بالله ومصدقا بأن هذا القيام حق وتقرب إليه معتقدا فضيلته ومحتسيا بما فعله عند الله أجرا، مريدا به وجه الله، لا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص. وقيل: منصوبان على التمييز، يقال: فلان يحتسب الإخبار أي يتطلبها، ويقال: احتسب بالشيء أي اعتد به. (غفر له ما تقدم من ذنبه) أي من الصغائر من حقوق الله. وقال الحافظ: ظاهره يتناول الصغائر والكبائر، وبه جزم ابن المنذر. وقال النووي: المعروف عند الفقهاء أنه يختص بالصغائر، وبه جزم إمام الحرمين، وعزاه عياض لأهل السنة. قال بعضهم: ويجوز أن يخفف من الكبائر إذا لم يصادف صغيرة- انتهى. وزاد أحمد وغيره وما تأخر. وقال الحافظ: وقد ورد في غفران ما تقدم وما تأخر من الذنوب عدة أحاديث جمعتها في كتاب مفرد، وقد استشكلت هذه الزيادة من حيث أن المغفرة تستدعي سبق شيء يغفر، والمتأخر من الذنوب لم يأت فكيف يغفر، والجواب عنه أنه كناية عن عدم الوقوع يعني يحفظهم الله في المستقبل عن الكبائر فلا تقع منهم كبيرة، وقيل: معناه أن ذنوبهم تقع مغفورة، وبهذا أجاب جماعة منهم الماوردي في الكلام على حديث صيام عرفة، وأنه يكفر سنتين سنة ماضية وسنة آتية. (فتوفى رسول الله ?) كذا وقع مدرجا في نفس الخبر عند مسلم والترمذي وأبي داود، وهو قول الزهري صرح به مالك في الموطأ والبخاري في صحيحة ومحمد بن نصر في قيام الليل من رواية مالك. قال الباجي: وهذا مرسل أرسله الزهري وأدرجه معمر في نفس الحديث. أخرجه مسلم والترمذي وأبوداود من طريق معمر عن ابن شهاب. (والأمر على ذلك) أي على ترك اهتمام الجماعة الواحدة في صلاة التراويح، يعني كانوا يصلون أوزاعا متفرقين يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، ويصلي بعضهم في أول الليل، وبعضهم في آخره ويصلي بعضهم في بيته وبعضهم في المسجد، إما لكونهم معتكفين أو؛ لأنهم من

(6/87)


أهل الصفة أو لغير ذلك. (ثم كان الأمر) أي أمر صلاة التراويح. (على ذلك) أي على وفق ما كان زمانه ? في خلافة أبي بكر أي في جميع زمانها. (وصدرا) بالنصب عطفا على خبر كان. (من خلافة عمر) أي في أول خلافته، وصدر الشيء وجهه وأوله. (على ذلك) أي ما ذكر، ثم جمعهم عمر على قاري في المسجد واهتم بالجماعة الواحدة، قيل: المراد بصدر من خلافته السنة الأولى من خلافته؛ لأن بدء خلافته في أخرى الجمادين سنة ثلاث عشرة، واستقر أمر التراويح سنة أربع عشرة من الهجرة في السنة الثانية من خلافته، كما ذكره السيوطي وابن الأثير وابن سعد. قال الباجي: وإنما أمضاه أبوبكر على ما كان في زمنه ? وإن كان قد علم أن
رواه مسلم.
1305-(3) وعن جابر، قال: قال رسول الله ? : ((إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده، فليجعل لبيته نصيبا من صلاته، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرا)).

(6/88)


الشرائع لا تفرض بعد النبي ? لأحد وجهين: إما لأنه شغل بأمر أهل الردة وغير ذلك من مهمات الأمور، ولم يتفرغ للنظر في جميع أمور المسلمين مع قصر مدة خلافته، أو لأنه رأى من قيام الناس في آخر الليل وقوتهم عليه ما كان أفضل عنده من جمعهم على إمام واحد في أول الليل، ثم رأى عمر أن يجمعهم على إمام واحد-انتهى مختصرا. والحديث يدل على فضيلة قيام رمضان وتأكد استحبابه، واستدل به أيضا على استحباب صلاة التراويح؛ لأن القيام المذكور في الحديث المراد به صلاة التراويح، كما تقدم عن النووي والكرماني. قال النووي: واتفق العلماء على استحبابها، قال: واختلفوا في أن الأفضل صلاتها في بيته منفردا أم في جماعة في المسجد، فقال الشافعي: وجمهور أصحابه وأبوحنيفة وأحمد وبعض المالكية وغيرهم: أن الأفضل صلاتها جماعة في المسجد، كما فعله عمر بن الخطاب والصحابة رضي الله عنهم، واستمر عمل المسلمين عليه؛ لأنه من الشعائر الظاهرة فأشبه صلاة العيد، وبالغ الطحاوي فقال: إن صلاة التراويح في الجماعة واجبة على الكفاية. وقال مالك وأبويوسف وبعض الشافعية وغيرهم: الأفضل فرادى في البيت لحديث زيد بن ثابت المتقدم بلفظ: صلوا في بيوتكم الخ. وقد تقدم الجواب عنه. وقال الحافظ: عند الشافعية في أصل المسألة ثلاثة أوجه، ثالثها: من كان يحفظ القرآن ولا يخاف من الكسل ولا تختل الجماعة في المسجد بتخلفه فصلاته في الجماعة والبيت سواء، فمن فقد بعض ذلك فصلاته في الجماعة أفضل- انتهى. قلت: وهذا هو الراجح عندي، والله تعالى أعلم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد ومالك والبخاري والترمذي وأبوداود ومحمد بن نصر والبيهقي (ج2 ص492). لكن ليس عند البخاري قوله: كان يرغب في قيام رمضان إلى قوله بعزيمة وأخرجه النسائي وابن ماجه مختصرا.

(6/89)


1305- قوله: (إذا قضى أحدكم الصلاة) أي أداها "وال" للعهد أي المكتوبة. (في مسجده) يعني أدى الفرض في محل الجماعة، ويحتمل أن المراد مطلق الصلاة التي يريد أن يصليها في المسجد. قال السندي: يحتمل أن المراد بالصلاة جميع ما يريد أن يصلي من الفرائض والنوافل، والمعنى إذا أراد أن يقضي ويؤدي تلك الصلاة. (فليجعل لبيته نصيبا من صلاته) أي فليصل شيئا منها في البيت، "فمن" تبعيضية، ويحتمل أن المراد بها الفرائض، والمعنى إذا فرغ من الفرائض في المسجد فليجعل نصيبا منه في البيت يجعل سنته ومتعلقاته فيه، ومن سببية. (فإن الله تعالى جاعل) أي خالق أو مصير. (في بيته من صلاته) أي من أجلها. (خيرا) يعود على أهله
رواه مسلم.
?الفصل الثاني?
1306-(4) عن أبي ذر، قال: ((صمنا مع رسول الله ? فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقي سبع، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، فلما كانت السادسة لم يقم بنا، فلما كانت الخامسة قام بنا، حتى ذهب شطر الليل،
بتوفيقهم وهدايتهم ونزول البركة في أرزاقهم وأعمارهم. قال العلقمي: من سببية بمعنى من أجل، والخير الذي يجعل في البيت بسبب التنفل فيه هو عمارته بذكر الله تعالى وطاعته، وحضور الملائكة واستغفارهم ودعاؤهم، وما يحصل لأهله من الثواب والبركة، وتستثنى التراويح لما تقدم من فعله عليه السلام ولما تقرر عليه عمل الصحابة بعده، فيراد المصنف هذا الحديث في هذا الباب تبعا للبغوي موهم، كما لا يخفى. (رواه مسلم) وكذا أحمد (ج3 ص316) والبيهقي (ج2 ص189) كلهم من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر، وأخرجه ابن ماجه والبيهقي أيضا من حديث أبي سعيد كلاهما من طريق سفيان عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن أبي سعيد الخدري. قال البوصيري في الزوائد: رجاله ثقات. وأخرجه أيضا ابن خزيمة في صحيحة من حديث أبي سعيد، كما في الترغيب، وأخرجه الدارقطني في الإفراد عن أنس.

(6/90)


1306- قوله: (صمنا مع رسول الله ?) أي في رمضان، كما في رواية أبي داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي. (فلم يقم بنا) أي في لياليه يعني لم يصل لنا التراويح. (شيئا من الشهر) بل كان إذا صلى الفرض دخل حجرته. (حتى بقي سبع) أي من الشهر، كما في الترمذي والنسائي أي ومضى اثنان وعشرون. قال الطيبي: أي سبع ليال نظرا إلى المتيقن، وهو أن الشهر تسع وعشرون، فيكون القيام في قوله: (فقام بنا) ليلة الثالثة والعشرين، وهو مصرح في بعض روايات أحمد، وصرح أيضا بذلك في حديث النعمان بن بشير عند النسائي. ولفظ ابن ماجه: فقام بنا ليلة السابعة. قال السندي: وهي الأولى من الباقية، ودأب العرب أنهم يحسبون الشهر من الآخر، وهذا القيام لم يعلم كيف كان، وفسره كثير من العلماء بالتراويح- انتهى. ورواه البيهقي بلفظ: فلم يقم بنا من الشهر شيئا حتى كانت ليلة ثلاث وعشرين قام بنا حتى ذهب نحو من ثلث الليل. (حتى ذهب ثلث الليل) قال شيخنا: المراد بالقيام صلاة الليل، والمعنى صلى بنا بالجماعة صلاة الليل إلى ثلث الليل، وفيه ثبوت صلاة التراويح بالجماعة في المسجد أول الليل- انتهى كلام الشيخ. وهذا يدل على أن المراد عنده بقيام ليالي رمضان صلاة التراويح، كما ذهب إليه كثير من العلماء، وادعى الكرماني الاتفاق عليه. (فلما كانت السادسة) أي مما بقي وهي الليلة الربعة والعشرون. (فلما كانت الخامسة) وهي الليلة الخامسة والعشرون. (حتى ذهب شطر الليل) أي نصفه
فقلت: يا رسول الله ! لو نفلتنا قيام هذه الليلة؟ فقال: إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى
ينصرف، حسب له قيام الليلة. فلما كانت الرابعة لم يقم بنا حتى بقي ثلث الليل،

(6/91)


(لو نفلتنا) بتشديد الفاء من التنفيل. (قيام هذه الليلة) وفي رواية الترمذي والنسائي وابن ماجه بقية ليلتنا هذه، أي لو أعطيتنا قيام بقية الليل وزدتنا إياه كان أحسن وأولى، ويحتمل أن كلمة "لو" للتمني فلا جواب لها. وقال القاري: أي لو جعلت الليل زيادة لنا على قيام الشطر. وفي النهاية: لو زدتنا من الصلاة النافلة، سميت بها النوافل؛ لأنها زائدة على الفرض. قال المظهر: تقديره لو زدت قيام الليل على نصفه لكان خيرا لنا. (إن الرجل) أي جنسه. (إذا صلى) أي الفرض. (مع الإمام) أي وتابعه. (حتى ينصرف) أي الإمام. (حسب) على البناء للمفعول أي عد واعتبر (له) وفي رواية النسائي: كتب الله له. (قيام ليلة) قال القاري: أي حصل له ثواب قيام ليلة تامة، يعني الأجر حاصل بالفرض، وزيادة النوافل مبنية على قدر النشاط؛ لأن الله لا يمل حتى تملوا. والظاهر أن المراد بالفرض العشاء والصبح لحديث ورد بذلك يعني عثمان المتقدم في باب فضائل الصلاة بلفظ: من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله. أخرجه مسلم وغيره. وقيل: المراد بالصلاة في قوله: إذا صلى مع الإمام صلاة التراويح، والمعنى: (إن الرجل إذا صلى) أي التراويح في أول الليل في رمضان. (مع الإمام حتى ينصرف) أي يفرغ الإمام من الصلاة ويرجع. (حسب له قيام ليلة) أي كاملة، وعلى هذا يكون دليلا للجمهور على أن صلاة التراويح مع الإمام أفضل من الانفراد، وأجاب من خالفهم بأنه يجوز أن يكتب له بالقيام مع الإمام بعض الليل قيام كله، وأن يكون قيامه في بيته أفضل من ذلك، ولا منافاة بين الأمرين. وأما حديث عثمان الذي أشار إليه القاري، فيقال في معناه: أن من صلى فريضة العشاء والصبح مع الإمام أي بالجماعة يكون له ثواب ليلة كاملة ثواب صلاة الفرض، ويقال ههنا أنه إذا صلى التراويح مع الإمام حتى ينصرف يحصل له ثواب ليلة كاملة ثواب صلاة النفل. قيل: ويؤيد ذلك

(6/92)


رواية الترمذي والنسائي وابن ماجه بلفظ: "من قام مع الإمام" بدل "إذا صلى مع الإمام"، فإن لفظ القيام ظاهر في معنى صلاة الليل أي التراويح، ويؤيده أيضا أن أبا ذر سأله ? أن ينفل بقية الليلة، وهذا يقتضي أن يجيب بأنه لا يحتاج إلى قيام بقية الليلة؛ لأن ثواب الليلة التامة قد حصل بالقدر الذي قام بهم، ويؤيده أيضا أن قوله: "حتى ينصرف" فإنه يشير إلى أن الانصراف قبل أن ينصرف الإمام من جميع صلاته ممكن، ومن المعلوم أن الانصراف في الفرض في أثناء الصلاة غير ممكن؛ لأنه لا يحصل إلا بعد ما ينصرف الإمام، بخلاف التراويح فإن الانصراف فيها قبل انصراف الإمام ممكن؛ لأنها شفعات متعددة فيمكن أن ينصرف الرجل قبل أن يفرغ الإمام من جميع صلاة التراويح. (فلما كانت الرابعة) أي من الباقية، وهي السادسة والعشرون. (لم يقم بنا حتى بقي ثلث الليل)
فلما كانت الثالثة، جمع أهله ونساءه والناس، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح. قلت: وما
الفلاح؟ قال: السحور. ثم لم يقم بنا بقية الشهر)). رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي.

(6/93)


كذا في جميع النسخ الموجودة، ولم يظهر لي معناه، ولفظ أبي داود ثم على قوله لم يقم أي ليس عنده "بنا حتى بقي ثلث الليل" ولفظ النسائي ثم لم يصل بنا ولم يقم بنا حتى بقي ثلث من الشهر. ولفظ الترمذي: ثم لم يصل بنا حتى بقي ثلث من الشهر، وذكره الجزري في جامع الأصول (ج7 ص82) بلفظ: ثم لم يقم بنا حتى بقي ثلث من الشهر. وذكره البغوي في المصابيح بلفظ: فلما كانت الرابعة لم يقم بنا حتى بقي ثلاث. والظاهر أن البغوي أخذ قوله "فلما كانت الرابعة لم يقم" من أبي داود، وأخذ قوله "بنا حتى بقي ثلاث" من الترمذي والنسائي وأسقط لفظ: من الشهر، فسياق البغوي مجموع ما في أبي داود والنسائي والترمذي. والمراد بقوله: ثلاث أي ثلاث من الشهر، كما هو مصرح عند الترمذي والنسائي. وأما ما وقع في المشكاة من قوله: ثلث الليل فهو خطأ بلا شبهة، والعجب أنه لم يتنبه لذلك أحد من الشراح. ولفظ ابن ماجه: ثم كانت الرابعة التي تليها فلم يقمها حتى كانت الثالثة التي تليها. (فلما كانت الثالثة) أي من الباقية وهي الليلة السابعة والعشرون (جمع أهله ونساءه) فيه استحباب ندب الأهل إلى فعل الطاعات وإن كانت غير واجبة، وفيه تأكد مشروعية القيام في الإفراد من ليالي العشر الآخرة من رمضان؛ لأنها مظنة الظفر بليلة القدر، واهتم ? في السابعة والعشرين بجمع أهله وغيرهم؛ لأنها أرجاها. (حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح) قال في القاموس: الفلاح الفوز والنجاة والبقاء في الخير والسحور. (قلت) قائله جبير بن نفير الراوي عن أبي ذر. (وما الفلاح قال) أي أبوذر. (السحور) أي المراد بالفلاح السحور، وهو بفتح السين ما يتسحر به من الطعام والشراب، أي ما يوكل وقت السحر، وهو بفتحتين آخر الليل قبيل الصبح، وبالضم المصدر والفعل نفسه. قال القاضي: الفلاح الفوز بالبغية، سمي السحور به؛ لأنه يعين على إتمام الصوم، وهو الفوز بما قصده ونواه والموجب للفلاح في الآخرة. وقال الخطابي: أصل الفلاح

(6/94)


البقاء، وسمي السحور فلاحا لكونه سببا لبقاء الصوم ومعينا عليه، ومن ذلك حي على الفلاح أي العمل الذي يخلدكم في الجنة، فهو من تسمية السبب باسم المسبب. وقيل: سمي به لأنه معين على إتمام الصوم المفضي إلى الفلاح، وهو الفوز بالزلفى والبقاء في العقبى. (ثم لم يقم بنا بقيه الشهر) أي في الثامنة والعشرين والتاسعة والعشرين، وحديث أبي ذر هذا يخالف ما روته عائشة من قيامه ? في ليالي رمضان بالجماعة في المسجد عند الشيخين وغيرهما، فإن ظاهره يدل على أن صلاته ? بالجماعة كانت في الليالي الموصولة، وفي حديث أبي ذر تصريح بأن صلاته كانت في الليالي المفصولة، أي في الأوتار فقط، فأما أن يحمل على تعدد القصة أو يقال بأنه ليس في حديث عائشة ذكر الوصل صريحا، فيحمل على الفصل، كحديث أبي ذر. (رواه أبوداود ) واللفظ له إلا قوله: بنا حتى بقي ثلث الليل. (والترمذي والنسائي)
وروى ابن ماجه نحوه، إلا أن الترمذي لم يذكر: ثم لم يقم بنا بقية الشهر.

(6/95)


وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص159و 163و 172و 180) والحاكم ومحمد بن نصر (ص89) والبيهقي (ج2 ص494). والحديث صححه الترمذي والحاكم، وسكت عنه أبوداود ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. (وروى ابن ماجه نحوه) أي بمعناه. (إلا أن الترمذي لم يذكر: ثم لم يقم بنا بقية الشهر) وكذا لم يذكره النسائي. تنبيه اعلم أنه لم يرو في حديث أبي ذر هذا بيان عدد الركعات التي صلاها رسول الله ? في تلك الليالي، لكن قد ورد بيانه في حديث جابر بن عبدالله قال: صلى بنا رسول الله ? في شهر رمضان ثمان ركعات وأوتر- الحديث. أخرجه الطبراني في الصغير، وأبويعلى ومحمد بن نصر في قيام الليل، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. قال الذهبي في الميزان (ج2 ص311) بعد ذكر هذا الحديث إسناده وسط- انتهى. وذكر الحافظ: هذا الحديث في الفتح في شرح عائشة الذي أشرنا إليه لبيان عدد الركعات التي صلاها النبي ? في شهر رمضان بالجماعة، فهو صحيح عنده أو حسن، لما ذكر في المقدمة أنه يسوق الباب وحديثه أولا، ثم يذكر وجه المناسبة بينهما إن كانت خفية، ثم يستخرج ثانيا ما يتعلق به غرض صحيح في ذلك الحديث من الفوائد المتنية والإسنادية من تتمات وزيادات، وكشف غامض وتصريح مدلس بسماع ومتابعة سامع من شيخ اختلط قبل ذلك، كل ذلك من أمهات المسانيد والجوامع والمستخرجات والأجزاء والفوائد بشرط الصحة أو الحسن فيما يورده من ذلك، وذكره أيضا في التلخيص لبيان عدد تلك الركعات، وسكت عنه ولم يتكلم فيه، وذكره أيضا العيني في شرح البخاري لبيان عدد ركعاته ? في قيامه بالناس في ليالي رمضان نقلا عن صحيحي ابن خزيمة وابن حبان، ولم يتكلم فيه. فإن قلت قال النيموني في آثار السنن بعد ذكر حديث جابر المذكور: في إسناده لين، وقال في تعليقه مداره على عيسى بن جارية، ثم ذكر جرح ابن معين وأبي داود والنسائي وتوثيق أبي زرعة وابن حبان، ثم قال قول الذهبي: إسناده وسط ليس بصواب، بل اسناده دون وسط –

(6/96)


انتهى. قلت: قال الحافظ في شرح النخبة: الذهبي من أهل الاستقرار التام في نقد الرجال- انتهى. فلما حكم الذهبي بأن إسناده وسط بعد ذكر الجرح والتعديل في عيسى بن جارية، وهو من أهل الاستقرار التام في نقد الرجال، فحكمه بأن إسناده وسط هو الصواب. ويؤيده إخراج ابن خزيمة وابن حبان هذا الحديث في صحيحيهما، فلا يلتفت إلى قول النيموني، ويشهد لحديث جابر هذا حديث أبي سلمة بن عبدالرحمن أنه سأل عائشة: كيف كان صلاة رسول الله ? في رمضان؟ فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي

(6/97)


ثلاثا- الحديث. أخرجه الشيخان وغيرهما، فهذا الحديث نص في أنه ? إنما صلى التراويح في رمضان ثمان ركعات فقط، ولم يصل بأكثر منها. قال في العرف الشذى (ص201): هذه الرواية رواية الصحيحين، وفي الصحاح صلاة تراويحة عليه السلام ثمان ركعات. وفي السنن الكبرى وغيره بسند ضعيف من جانب أبي شيبة فإنه ضعيفة اتفاقا: عشرون ركعة، وقال في (ص329، 330): ثم أن حديث: يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، فيه تصريح أنه حال رمضان، فإن السائل سأل عن حال رمضان وغيره، كما عند الترمذي ومسلم، ولا مناص من تسليم أن تراويحه عليه السلام كانت ثمانية ركعات، ولم يثبت في رواية من الروايات أنه عليه السلام صلى التراويح والتهجد على حدة في رمضان، بل طول التراويح، وبين التراويح والتهجد في عهده عليه السلام لم يكن فرق في الركعات، بل في الوقت والصفة أي التراويح تكون بالجماعة في المسجد بخلاف التهجد، وأن الشروع في التراويح يكون في أول الليل، وفي التهجد في آخر الليل، ثم مأخوذ الأئمة الأربعة من عشرين ركعة هو عمل الفاروق الأعظم. وأما النبي ? فصح عنه ثمان ركعات، وأما عشرون ركعة، فهو عنه عليه السلام بسند ضعيف، وعلى ضعفه إتفاق- انتهى. فإن قلت قد ثبت في الصحيح من حديث عائشة: أنه ? كان إذا دخل العشر الأواخر يجتهد مالا يجتهد في غيره، وفي الصحيح أيضا من حديثها كان إذا دخل العشر أحيى الليل وأيقظ أخله وجد وشد ميزره، وهذا يدل على أنه كان يزيد في العشر الأواخر على عادته، وهو مخالف لحديث أبي سلمة عن عائشة المذكور. قلت: المراد بالاجتهاد تطويل الركعات لا الزيادة في العدد. قال العيني: إن الزيادة في العشر الأواخر يحمل على التطويل دون الزيادة في العدد- انتهى. وأما ما روى ابن أبي شيبة في مصنفه والطبراني في الكبير والأوسط والبيهقي (ج2 ص496) عن ابن عباس أن النبي ? كان يصلي في رمضان عشرين ركعة سوى الوتر، فهو ضعيف جدا لا يصلح للاستدلال ولا

(6/98)


للاستشهاد ولا للاعتبار، فإن مداره على أبي شيبة إبراهيم بن عثمان، وهو متروك الحديث، كما في التقريب. قال الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص153): هو معلول بأبي شيبة إبراهيم بن عثمان، وهو متفق على ضعفه، ولينه ابن عدي في الكامل، ثم إنه مخالف للحديث الصحيح عن أبي سلمة بن عبدالرحمن أنه سأل عائشة: كيف كانت صلاة رسول الله ? في رمضان قالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة- الحديث. انتهى كلام الزيلعي. وقال ابن الهمام في فتح القدير بعد ذكر هذا الحديث: هو ضعيف بأبي شيبة إبراهيم بن عثمان متفق على ضعفه مع مخالفته للصحيح. وقال العيني في شرح البخاري (ج11 ص128) بعد ذكر هذا الحديث: وأبوشيبة هو إبراهيم بن عثمان العبسي الكوفي، قاضي واسط، جد أبي بكر أبي شيبة، كذبه

(6/99)


شعبة، وضعفه أحمد وابن معين والبخاري والنسائي وغيرهم، وأورد له ابن عدي هذا الحديث في الكامل في مناكيره- انتهى. وقال البيهقي (ج2 ص496) بعد روايته: تفرد به أبوشيبة إبراهيم بن عثمان العبسي الكوفي، وهو ضعيف- انتهى. وقال النيموني في تعليق آثار السنن (ج2 ص56): وقد أخرجه عبد بن حميد الكشي في مسنده، والبغوي في معجمه، والبيهقي في سننه، كلهم من طريق أبي شيبة إبراهيم بن عثمان وهو ضعيف، ثم نقل كلام البيهقي المذكور، وجروح أئمة الجرح والتعديل عن التهذيب والميزان والتقريب. وقال الزرقاني في شرح الموطأ: حديث ابن عباس في عشرين ركعة حديث ضعيف. وهذا كله يدل على أن حديث ابن عباس هذا ضعيف جدا عند جميع العلماء الحنفية والشافعية والمالكية وغيرهم، ومع ذلك قد تفوه بعض الحنفية في هذا العصر بأن رواية ابن عباس إذ هي مؤيدة بآثار الصحابة أولى من رواية جابر. (المتقدمة) وإن كان فيها بعض الضعف، فإن جمهور الصحابة متفقة على صلاة التراويح بعشرين ركعة- انتهى. قلت: قد تقدم أن حديث ابن عباس ضعيف جدا، قد أطبق الأئمة على ضعفه، ومع هذا فهو مخالف لحديث عائشة المتفق عليه بخلاف حديث جابر فإنه صحيح أو حسن، ولم يضعفه أحد ممن يعتمد عليه، وله شاهد صحيح، وهو حديث عائشة، فهو أولى بالقبول وأحق بالعمل. وأما دعوى تأيد حديث ابن عباس بعمل جمهور الصحابة فهي مردودة بما سيأتي من حديث السائب بن يزيد قال: أمر عمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وبما روى سعيد بن منصور في سننه عن السائب بن يزيد قال: كنا نقوم في زمن عمر بن الخطاب بإحدى عشرة ركعة. قال السيوطي: هذا الأثر إسناده في غاية الصحة، هذا وقد حاول بعضهم إثبات صحة حديث ابن عباس حيث قال في تعليقه على المشكاة: حديث ابن عباس في عشرين ركعة الذي ضعفه أئمة الحديث هو صحيح عندي، لما ذكر السيوطي في التدريب. قال بعضهم: يحكم للحديث بالصحة إذا تلقاه الناس بالقبول

(6/100)


وإن لم يكن له إسناد صحيح، يعني فحديث ابن عباس هذا حقيق بأن يصحح، لما تلقاه الخلفاء الراشدون والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذي استقر عليه الأمر في سائر البلدان والأمصار- انتهى كلامه مخلصا مختصرا. قلت: التصدي لإثبات صحة حديث ابن عباس المتفق على ضعفه بمثل هذا الكلام الواهي عصبية باردة، لا يفعل هذا إلا صاحب التقليد الأجوف والعصبية العمياء؛ لأن الصحيح الثابت عن عمر، هو جمعه الناس على إحدى عشرة ركعة لا عشرين، كما تقدم، وسيأتي أيضا، ولو سلمنا أن طائفة من الصحابة والتابعين كانوا يصلون عشرين ركعة فليس ههنا أثر للتلقي الذي جعله بعض العلماء موجبا لقبول الخبر الغير الصحيح؛ لأنه لا دليل على أن حديث ابن عباس هذا قد بلغ هؤلاء الصحابة ولا على أنهم
1307-(5) عن عائشة، قالت: ((فقدت رسول الله ? ليلة، فإذا هو بالبقيع، فقال: أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسول؟ قلت: يا رسول الله ! إني ظننت إنك أتيت بعض نسائك،

(6/101)


تعرضوا للاحتجاج به واستشهدوا به عند العمل أو استأنسوا به، وما لم يثبت ذلك لا تصح دعوى وجود التلقي المصطلح الذي يكون فيه غني من الإسناد، على أنه قال السيوطي في التدريب (ص115): مما يدل على صحة الحديث أيضا كما ذكره أهل الأصول موافقة الإجماع له على الأصح لجواز أن يكون المستند غيره. وقيل يدل- انتهى. والحاصل أن الثابت عن رسول الله ? في قيام رمضان في الجماعة هو إحدى عشرة ركعة مع الوتر لا غير، فهي السنة لا العشرون، ولله در ابن الهمام حيث اعترف بضعف حديث ابن عباس ومخالفته لحديث عائشة الصحيح، ولم يتحمل لتصحيح حديث ابن عباس، وصرح بأن العشرين ليست سنة النبي ? . قلت: ويدل أيضا على كون التراويح ثمان ركعات ما روي عن جابر بن عبدالله قال: جاء أبي بن كعب إلى رسول الله ? فقال يا رسول الله! أنه كان منى الليلة شيء، يعني في رمضان قال: وما ذاك يا أبي؟ قال: نسوة في داري قلن إنا لا نقرأ القرآن فنصلي بصلاتك، قال: فصليت بهن ثمان ركعات وأوترت، فكانت سنة الرضا ولم يقل شيئا. رواه أبويعلى والطبراني بنحوه في الأوسط. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص74): إسناده حسن- انتهى. قلت: وأخرجه أيضا محمد بن نصر المروزي في قيام الليل وعبدالله بن أحمد في المسند (ج5 ص115)، وفي إسناده من لم يسم، وسيأتي مزيد الكلام في هذه المسألة.

(6/102)


1307- قوله: (فقدت رسول الله ? ) أي غاب عني. قال في النهاية: فقدت الشيء أفقده إذا غاب عنك. (ليلة) من ليالي تعني الليلة التي كان فيها عندي. (فإذا هو بالبقيع) أي فخرجت أطلبه فإذا هو واقف بالبقيع، والمراد بالبقيع بقيع الغرقد، وهو موضع بظاهر المدينة، فيه قبور أهلها، كان به شجر الغرقد، فذهب وبقي اسمه، كذا في النهاية. (أن يحيف) الحيف الظلم والجور، أي أظننت أن قد ظلمتك يجعل نوبتك لغيرك، وذلك مناف لمنصب الرسالة وذكر الله تعظيما لرسوله ودلالة على أن فعل الرسول عادة لا يكون إلا بإذنه وأمره. وقال الطيبي: أو تزيينا للكلام وتحسينا، أو حكاية لما وقع في الآية أم تخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله، وإشارة إلى التلازم بينهما كالإطاعة والمحبة. قال العيني: يعني ظننت أني ظلمتك بأن جعلت من نوبتك لغيرك، وذلك مناف لمن تصدي بمنصب الرسالة، وهذا معنى العدول عما هو مقتضى ظاهر العبارة، وهو ظننت أني أحيف عليك، فوضع رسوله موضع الضمير للاشعاء بأن لحيف ليس من شيم الرسل، وفيه أن القسم كان واجبا عليه، إذ لا يكون تركه جورا إلا إذا كان واجبا. (قلت يا رسول الله إني ظننت أنك أتيت بعض نسائك) أي زوجاتك لبعض مهماتك فأردت تحقيقها، وحملني على
فقال: إن الله تعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا، فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب)). رواه الترمذي، وابن ماجه. وزاد رزين: ممن استحق النار. وقال الترمذي: سمعت محمدا ـ يعني ـ يضعف هذا الحديث.

(6/103)


هذا الغيرة الحاصلة للنساء التي تخرجهن عن دائرة العقل وحائزة التدبر للعاقبة من المعاتبة أو المعاقبة. والحاصل إني ما ظننت أن يحيف الله ورسوله علي أو على غيري، بل ظننت أنك بأمر من الله أو باجتهاد منك خرجت من عندي لبعض نسائك؛ لأن عادتك أن تصلي النوافل في بيتك، كذا في المرقاة. ولفظ ابن ماجه قالت. (أي عائشة): قد قلت. (أي في جوابه ? ) وما بي ذلك. (أي الخوف والظن السوء بالله ورسوله) ولكني ظننت أنك أتيت بعض نسائك. قال السندي: أي لكني ظننت أنك فعلت ما أحل الله لك من الإتيان لبعض نسائك، تريد أنها ما جوزت ذلك ولا زعمته من جهة كونه حيفا وجورا، ولكونه جوزته من جهة أنه في ذاته إتيان بعض النساء، وهو حلال، والمقصود أنها ما لاحظت ذلك من جهة كونه ظلما، ولكن لاحظت من جهة كونه حلالا، فلذلك جوزته فانظر إلى كمال عقلها، فإنها قد زعمت ذلك للنبي ? وذلك جورا، وقال: أتخافين من الله تعالى ورسوله؟ فإن قالت في الجواب نعم خفت ذلك يكون قبيحا، وإن قالت ما خفته يكون كذبا فتفطن- انتهى. (فقال: إن الله تعالى ينزل) استئناف لبيان موجب خروجه من عندها، يعني خرجت للدعاء لأهل البقيع لما رأيت من كثرة الرحمة في هذه الليلة. (فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب) أي قبيلة بني كلب وخصمهم؛ لأنهم أكثر غنما من سائر العرب نقل الأبهري عن الأزهار: أن المراد بغفران أكثر عدد الذنوب المغفورة لا عدد أصحابها، وهكذا رواه البيهقي- انتهى. وأما الحديث الآتي فيغفر لجميع خلقه فالمراد أصحابها، كذا في المرقاة. (رواه الترمذي) في الصيام. (وابن ماجه) في أواخر الصلاة كلاهما من رواية حجاج بن أرطاة عن يحيى بن أبي كثير عن عروة عن عائشة. قال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، والحديث منقطع، كما ستعرف. (وزاد رزين ممن استحق النار) قال ابن حجر: أي من المؤمنين، كما صرح به قوله تعالى: ?إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء? [4: 48].

(6/104)


وقيد ذلك في روايات بينتها ثم بغير المشاحن وقاطع الرحم ومدمن الخمر ومسبل الإزار وعاق لوالديه. (وقال الترمذي: سمعت محمدا يعني البخاري) هو تفسير من المصنف. (يضعف) يعني البخاري. (هذا الحديث) ويقول يحيى بن أبي كثير: لم يسمع من عروة والحجاج لم يسمع من يحيى بن أبي كثير- انتهى. فالحديث منقطع في موضعين أحدهما ما بين الحجاج ويحيى، والآخر ما بين يحيى وعروة. والحديث المنقطع من أقسام
(1) كذا في الأصل، ولعله وسمي ذلك جورا.
1308-(6) وعن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله ?: ((صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة)). رواه أبوداود، والترمذي.
?الفصل الثالث?
1309-(7) عن عبدالرحمن بن عبد القاري،
الضعيف، لكنه ورد في فضيلة ليلة النصف من شعبان أحاديث أخرى، وقد ذكر المصنف بعضها في الفصل الثالث، وسنذكر بقيتها هناك إن شاء الله تعالى. وهي بمجموعها حجة على من زعم أنه لم يثبت في فضيلتها شيء. قيل في وجه مناسبة هذا الحديث بالباب: الإيذان بأن ليلة النصف من شعبان لما ورد في إحيائها من الثواب ما لا يحصى كانت كالمقدمة لقيام رمضان، فاستدعى ذكره: ذكرها قال القاري، أو لأن الكلام لما كان في القيام والمراد الأعظم منه إدراك ليلة القدر فذكر ليلة البراءة طرد الباب.

(6/105)


1308- قوله: (صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا)؛ لأنه أبعد من الرياء. والحديث يدل على استحباب فعل صلاة التطوع في البيوت. وأن فعلها فيها أفضل من فعلها في المساجد، ولو كانت المساجد فاضلة كالمسجد الحرام ومسجده ? ومسجد بيت المقدس، فلو صلى الرجل نافلة في مسجد المدينة كانت بألف صلاة على القول بدخول النوافل في عموم الحديث، وإذا صلاها في بيته كانت أفضل من ألف صلاة، وهكذا حكم المسجد الحرام ومسجد المقدس. وقد تقدم أنه استثنى من عموم حديث الباب ما تشرع فيه الجماعة من النوافل كالعيدين، والاستسقاء، والكسوف، والتراويح، وما يخص المسجد كصلاة القدوم من السفر، وتحية المسجد. (إلا المكتوبة) أي الصلوات المكتوبات، وهي الصلوات الخمس. وهذا في حق الرجال دون النساء، فيجب على الرجال أن يصلوا المكتوبات في المساجد بالجماعة. وأما النساء فصلاتهن في البيوت أفضل، مكتوبة كانت أو نافلة وإن أذن لهن في حضور المكتوبات في المساجد. (رواه أبوداود والترمذي) واللفظ لأبي داود، وقد سكت عنه هو، وحسنه الترمذي، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. والحديث ذكره المجد في المنتقى في باب إخفاء التطوع بلفظ: أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة، وقال رواه الجماعة إلا ابن ماجه، لكن له معناه من رواية عبدالله بن سعد-انتهى.
1309- قوله: (عن عبدالرحمن بن عبد) بالتنوين أي بغير إضافة. (القاري) بخفة راء وشدة ياء بلا همزة، نسبة إلى القارة بن الديش قبيلة مشهور، يقال إنه ولد على عهد رسول الله ?، وليس له منه سماع ولا رؤية، وقيل: أتي به إليه، وهو صغير. وذكره العجلي في ثقات التابعين. واختلف قول الواقدي فيه، قال تارة:
قال خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل
لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط ، فقال عمر : إني لو جمعت هؤلاء على قاري
واحد لكان أمثل، ثم عزم، فجمعهم على أبي بن كعب،

(6/106)


له صحبة، وتارة: تابعي. والمشهور أنه تابعي من أجلة تابعي المدينة، وكان عاملا لعمر على بيت المال. مات سنة. (88)، وهو ابن (78) سنة. (خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة) أي في رمضان كما في البخاري. (إلى المسجد) النبوي. (فإذا الناس) بعد صلاتهم العشاء جماعة واحدة. وكلمة "إذا" للمفاجأة. (أوزاع) بفتح الهمزة وسكون الواو بعدها زاي أي جماعات متفرقة، لا واحد له من لفظه. وقوله: (متفرقون) تأكيد لفظي. وقال الطيبي. كعطف البيان. (يصلي الرجل لنفسه) هذا وما بعده بيان لما أجمل أولا بقوله: أوزاع. (ويصلي الرجل) الآخر. (فيصلي) أي مقتديا (بصلاته الرهط) بسكون الهاء ويحرك، ما بين الثلاثة إلى العشرة. وقيل: إلى الأربعين والحاصل أن بعضهم كان يصلي منفردا، وبعضهم يصلي جماعة. (فقال عمر: إني لو) قال ابن حجر: وفي نسخة: إني أرى لو قلت، وكذا وقع عند البخاري، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7:ص83) وفي الموطأ: إني لأراني لو (جمعت هؤلاء على قارئ واحد) يأتمون كلهم به، ويسمعون قراءته. (لكان أمثل) أي أفضل؛ لأنه أنشط لكثير من المصلين فيكون الثواب أكمل. يقال: هذا أمثل من كذا أي أفضل وأدنى إلى الخير، وأماثل الناس خيارهم. قال ابن التين وغيره: استنبط عمر ذلك من تقرير النبي ? من صلى معه في تلك الليالي وإن كان كره ذلك لهم، فإنما كرهه خشية أن يفرض عليهم، فلما مات النبي ? حصل الأمن من ذلك، ورجح عند عمر ذلك لما في الاختلاف من افتراق الكلمة، ولأن الاجتماع على واحد أنشط لكثير من المصلين.وإلى قول عمر جنح الجمهور. (ثم عزم) أي على ذلك وصمم عليه عمر. (فجمعهم) أي الرجال منهم في سنة أربع عشرة. (على أبي بن كعب) أي جعله إماما لهم يصلي بهم التراويح. وكأنه اختاره عملا بقوله ?: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، وقال عمر: اقرؤنا أبي. وقيل: اختاره لما قد علم أن أبيا كان يصلي بالناس التراويح في عهد رسول الله ?، فقد أخرج أبوداود، ومن طريقه

(6/107)


البيهقي عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله ?، فإذا أناس في رمضان يصلون في ناحية المسجد، فقال: ما هؤلاء؟ فقيل هؤلاء الناس ليس معهم قرآن، وأبي بن كعب يصلي وهم يصلون بصلاته، فقال النبي ?: أصابوا، ونعم ما صنعوا، لكن قال الحافظ: فيه مسلم بن خالد، وهو ضعيف. والمحفوظ أن عمر هو الذي جمع الناس على أبي-انتهى. وأجيب عن هذا بأن مسلم بن خالد وإن ضعفه ابن المديني والبخاري وابن معين في رواية
قال: ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعمت البدعة هذه،

(6/108)


وأبوداود، فقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من فقهاء الحجاز، ومنه تعلم الشافعي الفقة قبل أن يلقى مالكا، وكان مسلم بن خالد يخطئ أحيانا. وقال ابن معين في رواية والدارقطني : ثقة، حكاه ابن القطان. وقال ابن عدي: حسن الحديث، وأرجو أنه لا بأس به. وقال الساجي: صدوق كثير الغلط. ولحديث أبي هريرة هذا شاهد مرسل عند البيهقي في المعرفة وفي السنن (ج2:ص495) من حديث ثعلبة بن أبي مالك القرظي. وكون عمر هو الذي جمع الناس على أبي لا ينافي كون أبي قد صلى بالناس في زمنه ?؛ لأن صلاة أبي بالناس في زمنه عليه السلام لم يكن من أمره ولا من اهتمامه. فالاجتماع على إمام واحد أي أبي، والاهتمام بجماعة واحدة إنما كان في زمان عمر، فهو الذي رفع التفرق والتوزع، وجمعهم على قاري واحد، واهتم بجماعة واحدة، ثم إنه لا ينافي هذا ما سيأتي من أن عمر جمعهم على تميم الداري، كما ستعرف. وروى سعيد بن منصور من طريق عروة أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب، فكان يصلي بالرجال، وكان تميم الداري يصلي بالنساء. ورواه محمد بن نصر في قيام الليل من هذا الوجه، فقال: سليمان بن أبي حثمة بدل تميم الداري. قال الحافظ: ولعل ذلك كان في وقتين. (قال) أي عبدالرحمن. (ثم خرجت معه) أي مع عمر. (والناس يصلون) مقتدين. (بصلاة قارئهم) أي إمامهم المذكور، فالإضافة للعهد. وفيه دليل على أن عمر لم يكن يصلي معهم لشغله بأمور المسلمين، أو كان يصليها منفردا في بيته، أو كان يرى أن الصلاة في آخر الليل أفضل. (نعمت البدعة) وفي البخاري: نعم البدعة بغير تاء. قال الحافظ: في بعض الروايات: نعمت البدعة بزيادة تاء. (هذه) أي الجماعة الكبرى، لا أصل التراويح، ولا نفس الجماعة، فإنهما ثابتان من فعله ?. قال الإمام تقي الدين ابن تيمية في منهاج السنة: قد ثبت أن الناس كانوا يصلون بالليل جماعة في رمضان على العهد النبوي، وثبت أنه ? صلى ليلتين أو ثلاثا-انتهى. وفي وصفها

(6/109)


بـ"نعمت" إشارة إلى أن أصلها سنة، وليست ببدعة شرعية حتى تكون ضلالة، بل بدعة لغوية، وهي حسنة، وقد تعتريها الأحكام الخمسة. والبدعة الشرعية ما ليس لها أصل في الشرع، فلا تكون إلا سيئة، وفيه تصريح من عمر بأنه أول من جمع الناس في التراويح على إمام واحد بالجماعة الكبرى، واهتم بذلك؛ لأن البدعة لغة ما فعله أحد ابتداء من غير أن يتقدمه غيره فالمراد بالبدعة في قوله هي البدعة اللغوية، وهي ههنا اجتماعهم على إمام واحد، والاهتمام لذلك، والمواظبة عليه، لا أصل التراويح، أو نفس الجماعة، فإنهما قد ثبتا من فعل النبي ? وفعل الصحابة في عهده بحضرته. قال ابن تيمية: إنما سماها عمر بدعة؛ لأن ما فعل ابتداء بدعة لغة، وليس ذلك بدعة شرعية، فإن البدعة الشرعية التي هي ضلالة ما فعل بغير دليل شرعي، كاستحباب ما لم يحبه الله، وإيجاب ما لم يوجبه الله، وتحريم ما لم يحرمه الله. وبه يندفع ما يقال إن قول عمر: "نعمت البدعة" مخالف لحديث:
والتي تنامون عنها

(6/110)


كل بدعة ضلالة، بأن المراد بالبدعة في الكلية البدعة الشرعية، وتوصيف الحسن للبدعة اللغوية. وقال الشاطبي في الاعتصام: قد قام بصلاة التراويح في رمضان رسول الله ? في المسجد، واجتمع الناس خلفه، فخرج أبوداود عن أبي ذر، قال: صمنا مع رسول الله ? رمضان فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقي سبع-الحديث، لكنه ? لما خاف افتراضه على الأمة أمسك عن ذلك، ففي الصحيح عن عائشة: أن رسول الله ? صلى ذات ليلة في المسجد، فصلى بصلاته ناس-الحديث. ففي هذا الحديث ما يدل على كونها سنة، فإن قيامه أولا بهم دليل على صحة القيام في المسجد جماعة في رمضان، وامتناعه بعد ذلك من الخروج خشية الافتراض لا يدل على امتناعه مطلقا؛ لأن زمانه كان وحي وتشريع، فيمكن أن يوحى إليه إذا عمل به الناس بالإلزام، فلما زالت علة التشريع بموت رسول الله ? رجع الأمر إلى أصله، وقد ثبت الجواز فلا ناسخ له، وإنما لم يقم ذلك أبوبكر رضي الله عنه لأحد أمرين: إما لأنه رأى أن قيام الناس في آخر الليل، وما هم به عليه كان أفضل عنده من جمعهم على إمام أول الليل، وإما لضيق زمانه عن النظر في هذه الفروع، مع شغله بأهل الردة وغير ذلك مما هو أوكد من صلاة التراويح، فلما تمهد الإسلام في زمن عمر، ورأى الناس في المسجد أوزاعا كما جاء في الخبر، قال: لو جمعت الناس على قاري واحد لكان أمثل، فلما تم له ذلك نبه على أن قيامهم في آخر الليل أفضل. ثم اتفق السلف على صحة ذلك وإقراره، والأمة لا تجتمع على ضلالة. وقد نص الأصوليون أن الإجماع لا يكون إلا عن دليل شرعي، فإن قيل: فقد سماها عمر بدعة، وحسنها بقوله "نعمت البدعة هذه"، وإذا ثبت بدعة مستحسنة في الشرع ثبت مطلق الاستحسان في البدع، فالجواب إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله ?، واتفق أن لم تقع في زمان أبي بكر رضي الله عنه، لا أنها بدعة في المعنى، فمن سماها بدعة بهذا الاعتبار فلا مشاحة في الأسامي-

(6/111)


انتهى كلام الشاطبي مختصرا. وقال ابن رجب في شرح الخمسين (ص191): أما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية. فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك فقال: "نعمت البدعة هذه" وروى عنه (من طريق نوفل بن إياس الهذلي عند ابن سعد وجعفر الفريابي في السنن، كما في كنز العمال (ج4 ص284) أنه قال: إن كانت هذه بدعة فنعمت البدعة، وروي عن أبي بن كعب. (أخرجه ابن منيع في مسنده) قال له: إن هذا لم يكن، فقال عمر: قد علمت، ولكنه حسن، ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له أصل في الشريعة يرجع إليها، فمنها أن النبي ? كان يحث على قيام رمضان ويرغب فيه، وكان في زمنه يقومون في المسجد جماعات متفرقة ووحدانا، وهو ? صلى بأصحابه في رمضان غير ليلة الخ. (والتي تنامون) بالفوقية أي الصلاة أو الساعة التي تنامون. (عنها) والمراد الصلاة في آخر
أفضل من التي تقومون – يريد آخر الليل – وكان الناس يقومون أوله. رواه البخاري.
1310-(8) وعن السائب بن يزيد، قال: أمر عمر أبي بن كعب، وتميما الداري أن يقوما للناس
في رمضان بإحدى عشرة ركعة،

(6/112)


الليل. وعند أبي شيبة عن عبدالرحمن بن عبد القاري، قال عمر في الساعة التي تنامون عنها. أعجب إلى من الساعة التي يقومون فيها. (أفضل من) الصلاة أو الساعة (التي يقومون) بها. (يريد) أي عمر بن الخطاب بهذا الكلام بيان الفضل في الصلاة. (آخر الليل) وهو قول عبدالرحمن، وكذلك قوله: (وكان الناس) أي أكثرهم. (يقومون) إذ ذاك. (أوله) وبالضرورة ينامون آخره. قال الحافظ: هذا تصريح من عمر بأن الصلاة في آخر الليل أفضل من أوله، لكن ليس فيه أن الصلاة في قيام الليل فرادى أفضل من التجميع. وقال الطيبي: هذا تنبيه منه، على أن صلاة التراويح في آخر الليل أفضل. قال القاري: وفي كلامه رضي الله عنه إيماء إلى عذره في التخلف عنهم. وفي هامش المسوي: يعني آخر الليل أفضل، لكن الصلاة في أول جماعة أفضل كما أن صلاة العشاء في أول جماعة أفضل، والوقت المفضول قد يختص العمل فيه بما يوجب أن يكون أفضل منه في غيره، كما أن الجمع بين الصلاتين بعرفة والمزدلفة أفضل من التفريق بسبب أوجب ذلك، وإن كان الأصل أن فعل الصلاة في وقتها أفضل، والإبراد بالظهر أفضل، لكن الصلاة يوم الجمعة عقيب الزوال أفضل. قاله ابن تيمية في المنهاج- انتهى. ولم يقع في هذه الرواية عدد الركعات التي كان يصلي بها أبي بن كعب. وقد اختلف في ذلك، والصحيح أنها كانت إحدى عشرة ركعة كما سيأتي. (رواه البخاري) في الصيام، وأخرجه أيضا مالك والبيهقي (ج2 ص493).

(6/113)


1310- قوله: (الداري) بتشديد الياء، نسبة إلى جده الأعلى الدار بن هانيء بن حبيب. (أن يقوما للناس) أي يؤماهم. قال الباجي: يصلي بهم أبي ما قدر ثم يخرج، فيصلي تميم. والصواب أن يقرأ الثاني من حيث انتهى الأول؛ لأن الثاني إنما هو بدل عن الأول ونائب عنه، وسنة قراءة القرآن على الترتيب- انتهى. وقال القاري: أي يكون هذا إماما تارة، والآخر أخرى. وهو يحتمل أن تكون المناوبة في الركعات أو الليالي. (بإحدى عشرة ركعة) هذا نص في أن الذي جمع عليه الناس عمر في قيام رمضان، وأمرهم بإقامته هو إحدى عشرة ركعة مع الوتر، وأن الصحابة والتابعين على عهده كانوا يصلون التراويح إحدى عشرة ركعة موافقا لما تقدم من حديث عائشة: ما كان يزيد في رمضان ولا في غير رمضان على إحدى عشرة ركعة، وموافقا لما تقدم من حديث جابر: صلى بنا رسول الله ? في شهر رمضان ثمان ركعات. فإن قلت: قال الحافظ في الفتح بعد ذكر أثر عمر هذا: ورواه عبدالرزاق من وجه آخر. (أي من طريق داود بن قيس) عن محمد بن يوسف، فقال إحدى وعشرين- انتهى.

(6/114)


وقال ابن عبدالبر: روى غير مالك في هذا أحد وعشرون، وهو الصحيح، ولا أعلم أحدا قال فيه إحدى عشرة إلا مالكا. ويحتمل أن يكون ذلك أولا ثم خفف عنهم طول القيام، ونقلهم إلى أحد وعشرين إلا أن الأغلب عندي أن قوله: إحدى عشرة وهم- انتهى. قلت: قال شيخنا في شرح الترمذي: قول ابن عبدالبر: إن الأغلب عندي أن قوله إحدى عشرة وهو باطل جدا. قال الزرقاني في شرح الموطأ بعد ذكر قول ابن عبدالبر. هذا ما لفظه ولا وهم، وقوله: إن مالكا انفرد به، ليس كما قال، فقد رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن محمد بن يوسف، فقال إحدى عشرة، كما قال مالك- انتهى كلام الزرقاني. وقال النيموني في تعليق آثار السنن (ج2 ص52): ما قاله ابن عبدالبر من وهم مالك فغلط جدا؛ لأن مالكا قد تابعه عبدالعزيز بن محمد عند سعيد بن منصور في سننه، ويحيى بن سعيد القطان عند أبي بكر بن أبي شيبة في مصنفه كلاهما عن محمد بن يوسف، وقالا إحدى عشرة ركعة، كما رواه مالك عن محمد بن يوسف. وأخرج محمد بن نصر المروزي في قيام الليل من طريق محمد بن إسحاق حدثني محمد بن يوسف عن جده السائب بن يزيد، قال: كنا نصلي في زمن عمر في رمضان ثلاث عشرة ركعة- انتهى. قال النيموني: هذا قريب مما رواه مالك عن محمد بن يوسف أي مع الركعتين بعد العشاء- انتهى كلام النيموني. قال الشيخ: فلما ثبت أن الإمام مالكا لم ينفرد بقوله إحدى عشرة، بل تابعه عليه عبدالعزيز بن محمد، وهو ثقة، ويحيى بن سعيد القطان إمام الجرح والتعديل، وهو ثقة متقن حافظ إمام على ما قال الحافظ في التقريب، ظهر لك حق الظهور أن قول ابن عبدالبر: إن الأغلب أن قوله إحدى عشرة وهم، ليس بصحيح، بل لو تدبرت ظهر لك أن الأمر على خلاف ما قال ابن عبدالبر أن الأغلب أن قول غير مالك في هذا الأثر: إحدى وعشرون، كما في رواية عبدالرزاق، وهم، فانه قد انفرد هو بإخراج هذا الأثر بهذا لفظ، ولم يخرجه به أحد غيره فيما أعلم. وعبدالرزاق وإن كان

(6/115)


ثقة حافظا لكنه قد عمى في آخر عمره فتغير، كما صرح به الحافظ في التقريب. وأما الإمام مالك فقال الحافظ في التقريب: إمام دار الهجرة رأس المتقنين وكبير المتثبتين، حتى قال البخاري: أصح الأسانيد كلها مالك عن نافع عن ابن عمر- انتهى. ومع هذا لم ينفرد هو بإخراج هذا الأثر بلفظ: إحدى عشرة، بل أخرجه أيضا بهذا اللفظ سعيد بن منصور وابن أبي شيبة، كما عرفت. فالحاصل أن لفظ: إحدى عشرة في أثر عمر بن الخطاب المذكور صحيح ثابت محفوظ، ولفظ إحدى وعشرين في هذا الأثر غير محفوظ، والأغلب إنه وهم، والله تعالى أعلم- انتهى كلام الشيخ. فإن قلت: قال صاحب الأوجز: الظاهر عندي ما رجحه ابن عبدالبر؛ لأن جل الروايات نص في أنها كانت عشرين ركعة، لكن الوهم عندي فيه عن محمد بن يوسف؛ لأن نسبة الوهم إلى الإمام أبعد من النسبة إليه. ويؤيده رواية سعيد بن منصور، وقد روى يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد أنهم كانوا يقومون في عهد عمر بن الخطاب بعشرين ركعة- انتهى.
فكان القاري يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العصا من طول القيام، فما كنا ننصرف إلا في
فروع الفجر. رواه مالك.

(6/116)


قلت: كلام صاحب الأوجز باطل جدا؛ لأنه لم يثبت الأمر بعشرين عن عمر بسند صحيح خال عن الكلام، والآثار التي تذكر في ذلك لا يخلو واحد منها عن مقال، فإنها إما مراسيل منقطعة أو موصولة ضعيفة، كما حققه شيخنا في شرح الترمذي، فكيف تكون هي دليلا على كون رواية إحدى عشرة الصحيحة وهما؟ وأما نسبة الوهم إلى محمد بن يوسف فهي كنسبة الوهم إلى الإمام مالك مما لا يلفت إليه، لكونها مجرد ادعاء، وأما رواية يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد فهي عند البيهقي من وجهين، في أحدهما أبوعثمان عمرو بن عبدالله البصري، وفي الآخر أبوعبد الله الحسين بن فنجويه الدنيوري، ولم أقف على ترجمتها، ولم يعرف حالهما، وإنهما ثقتان قابلان للاحتجاج أم لا. (فكان) وفي الموطأ قال. (أي السائب) وكان (القاري) أي الإمام. (يقرأ) في كل ركعة. (بالمئين) بكسر الميم جمع مائة، أي السور التي تلي السبع الطول، سميت بذلك لزيادة كل منها على مائة آية. قال ابن حجر: أي بالسور التي يزيد كل منها على مائة آية. قال القاري: وفيه أنه لا دلالة على الزيادة، ولا على أنها سورة مستقلة، قال: والظاهر أن المراد بقوله بالمئين التقريب لا التحديد- انتهى. والظاهر عندي ما ذكره ابن حجر. (حتى كنا نعتمد على العصا) وفي بعض النسخ: على العصي، كما في الموطأ، وهكذا نقله الجزري أي بكسر العين والصاد المهملتين وتشديد الياء، جمع عصا، فالأولى للجنس، والثانية من مقابلة الجمع بالجمع. (من طول القيام) أي من أجل طول القيام؛ لأن الاعتماد في النافلة لطول القيام على حائط أو عصا جائز وإن قدر على القيام بخلاف الفرض، قاله الزرقاني والباجي. قلت: ويدل على جواز الاعتماد على العصا عند العذر حديث أم قيس بنت محصن عند أبي داود. (فما) وفي الموطأ: وما (كنا ننصرف) عن التراويح. (إلا في فروع الفجر) أي أوائله وأعاليه، وفرع كل شيء أعلاه، ذكره الطيبي. وفي رواية سعيد بن منصور: ننقلب عند بزوغ الفجر. قال

(6/117)


في النهاية: البزوغ الطلوع، والمراد أوائل مقدماته، فلا ينافي ما سيأتي أنهم كانوا يتسحرون بعد انصرافهم. قال القاري: ولعل هذا التطويل كان في آخر الأمر، فلا ينافي ما تقدم من قوله: والتي تنامون عنها أفضل. (رواه مالك) عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد، وأخرجه أيضا سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والبيهقي في السنن (ج2 ص496) والمعرفة. واعلم أنهم اختلفوا في المختار من عدد الركعات التي يقوم بها الناس. قال العيني في شرح البخاري (ج11 ص126): قد اختلف العلماء في العدد المستحب في قيام رمضان على أقوال كثيرة. فقيل: إحدى وأربعون. قال الترمذي: رأى بعضهم أن يصلي إحدى وأربعين ركعة مع الوتر، وهو قول أهل المدينة، والعمل على هذا عندهم بالمدينة. قال شيخنا. (يعني العراقي): وهو أكثر

(6/118)


ما قيل فيه. قال العيني: ذكر ابن عبدالبر في الاستذكار عن الأسود بن يزيد، كان يصلي أربعين ركعة، ويوتر بسبع، هكذا ذكره، ولم يقل إن الوتر من الأربعين. وقيل: ثمان وثلاثون، رواه محمد بن نصر من طريق ابن أيمن عن مالك، قال: يستحب أن يقوم الناس في رمضان بثمان وثلاثين ركعة، ثم يسلم الإمام والناس، ثم يوتر بهم بواحدة، قال وهذا العمل بالمدينة قبل الحرة منذ بضع ومائة سنة إلى اليوم. وقيل: ست وثلاثون، وهو الذي عليه عمل أهل المدينة. وروى ابن وهب، قال: سمعت عبدالله بن عمر يحدث عن نافع، قال: لم أدرك الناس إلا وهم يصلون، تسعا وثلاثين ركعة، ويوترون منها بثلاث. وقيل: أربع وثلاثون على ما حكى عن زرارة بن أوفي أنه كذلك كان يصلي بهم في العشر الأخير. وقيل: ثمان وعشرون وهو المروي عن زرارة بن أوفي في العشرين الأولين من الشهر، وكان سعيد بن جبير يفعله في العشر الأخير. وقيل: أربع وعشرون، وهو مروي عن سعيد بن جبير. وقيل: عشرون، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم، فإنه مروي عن عمر وعلي وغيرهما من الصحابة، وهو قول أصحابنا الحنفية. وقيل: إحدى عشرة ركعة، وهو اختيار مالك لنفسه. واختاره ابن العربي- انتهى كلام العيني. وقال السيوطي في رسالته المصابيح في صلاة التراويح: قال ابن الجوزي: من أصحابنا عن مالك أنه قال: الذي جمع عليه الناس عمر بن الخطاب أحب إلي، وهي إحدى عشرة ركعة، وهي صلاة رسول الله ?. قيل له: إحدى عشرة ركعة بالوتر؟ قال نعم، وثلاث عشرة قريب، قال: ولا أدري من أين أحدث هذا الركوع الكثير- انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: القول الراجح المختار الأقوى من حيث الدليل هو هذا القول الأخير الذي اختاره مالك لنفسه، أعني إحدى عشرة ركعة، وهو الثابت عن رسول الله ? بالسند الصحيح، وبها أمر عمر بن الخطاب. وأما الأقوال الباقية فلم يثبت واحد منها عن رسول الله ? بسند صحيح، ولا ثبت الأمر به عن أحد من الخلفاء الراشدين بسند صحيح

(6/119)


خال عن كلام، ثم ذكر حديث عائشة المذكور: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، وحديث جابر قال: صلى بنا رسول الله ? في شهر رمضان ثمان ركعات، وحديث جابر عن أبي في إمامته للنساء في داره بثمان ركعات، ثم ذكر أثر عمر الذي نحن بصدد شرحه. قلت: واستدل لمن ذهب إلى أن التراويح عشرون ركعة سوى الوتر بما تقدم من حديث ابن عباس: أن النبي ? كان يصلي في رمضان عشرين ركعة سوى الوتر، وقد تقدم أنه حديث ضعيف جدا، غير صالح للاستدلال، وبما روى عبدالرزاق عن داود بن قيس عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أن عمر بن الخطاب جمع الناس في رمضان على أبي بن كعب وعلى تميم الداري على إحدى وعشرين ركعة، وقد تقدم أن قوله: "إحدى وعشرين في هذه الرواية" وهم، على

(6/120)


أنه مضر للحنفية من حيث أنه يستلزم أن يقولوا بكون التراويح ثماني عشرة ركعة، أو بكون الوتر ركعة واحدة فردة، فافهم، وبما روى البيهقي في المعرفة من طريق محمد بن جعفر عن يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد قال: "كنا نقوم في زمان عمر بن الخطاب بعشرين ركعة والوتر". وصحح إسناده السبكي في شرح المنهاج، والقاري في شرح الموطأ. وأجيب عنه بأن في سنده أبا عثمان البصري واسمه عمرو بن عبدالله. قال النيموني في تعليق آثار السنن: لم أقف على من ترجم له. وقال شيخنا في شرح الترمذي: لم أقف أنا أيضا على ترجمته مع التفحص الكثير، فمن يدعي صحة هذا الأثر فعليه أن يثبت كونه ثقة قابلا للاحتجاج، ومع هذا فهو معارض بما روى سعيد بن منصور في سننه قال: حدثنا عبدالعزيز بن محمد بن يوسف سمعت السائب بن يزيد يقول: كنا نقوم في زمان عمر بن الخطاب بإحدى عشرة ركعة. قال السيوطي في رسالته المصابيح: إسناده في غاية الصحة- انتهى. وأيضا هو معارض بما روى أبوبكر بن أبي شيبة قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن محمد بن يوسف إن السائب أخبره إن عمر جمع الناس على أبي وتميم، فكانا يصليان إحدى عشرة ركعة، وإسناده صحيح. وأيضا هو معارض بما روى محمد بن نصر في قيام الليل من طريق محمد بن إسحاق حدثني محمد بن يوسف عن جده السائب بن يزيد قال: كنا نصلى في زمن عمر ثلاث عشرة ركعة. وهو أيضا معارض بما ذكره المصنف من رواية مالك عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنه قال: أمر عمر أبي بن كعب وتميما الداري إن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة. فأثر السائب بن يزيد الذي رواه البيهقي لا يصلح للاحتجاج، فان قلت: روى البيهقي هذا الأثر في السنن من طريق ابن أبي ذئب عن يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد بلفظ: كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب في شهر رمضان بعشرين ركعة، وصحح إسناده النووي وغيره. قلت: قال شيخنا: في إسناده أبوعبدالله بن فنجوية الدنيوري. (شيخ البيهقي) ولم

(6/121)


أقف على ترجمته، فمن يدعي صحة هذا الأثر فعليه أن يثبت كونه ثقة قابلا للاحتجاج. وأما قول النيموني هو من كبار المحدثين في زمانه لا يسأل عن مثله فمما لا يلتفت إليه، فإن مجرد كونه من كبار المحدثين لا يستلزم كونه ثقة. تنبيهان: الأول قال صاحب الأوجز: قال في الفتح الحماني: قال العلامة العيني: احتج أصحاب الشافعي وأحمد بما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن السائب بن يزيد قال: كانوا يقومون على عهد عمر بعشرين ركعة وعلى عهد عثمان وعلي مثله، قلت: قال النيموني في تعليق آثار السنن: قوله: "وعلى عهد عثمان وعلي مثله" قول مدرج لا يوجد في تصانيف البيهقي- انتهى. الثاني: قد جمع البيهقي وغيره بين روايتي السائب المختلفتين المذكورتين بأنهم كانوا يقومون بإحدى عشرة ركعة، ثم كانوا يقومون بعشرين، ويوترون بثلاث. قال شيخنا: فيه أنه لقائل أن يقول بأنهم كانوا يقومون أولا

(6/122)


بعشرين ركعة، ثم كانوا يقومون بإحدى عشرة ركعة، وهذا هو الظاهر؛ لأن هذا كان موافقا لما هو الثابت عن رسول الله ? وذاك كان مخالفا له، فتفكر- انتهى. قال بعض الحنفية: ويمكن أن يجمع بينهما بوجه آخر وهو أن يقال: إن رواية إحدى عشرين باعتبار مجموع ما صلياه، وإحدى عشرة باعتبار كل واحد منهما، فكان يلي كل منهما عشرا عشرا، والواحد الوتر يصلي مرة هذا ومرة هذا، فيصح النسبة إليهما. وفيه أن هذا الجمع مضر للحنفية؛ لأنه يدل على أن عمر جمع الصحابة على الإيتار بركعة واحدة فردة، وهو مخالف لمذهب الحنفية إلا أن يقولوا بأن التراويح كانت ثماني عشرة ركعة، لكن ليس هذا مذهبهم، فتفكر. قلت: واستدل أيضا للحنفية ومن وافقهم بما روى مالك، ومن طريقه البيهقي عن يزيد بن رومان أنه قال: كان الناس يقومون في رمضان عمر بن الخطاب في رمضان بثلاث وعشرين ركعة. وفيه أن هذا الأثر منقطع غير صالح للاستدلال؛ لأن يزيد بن رومان لم يدرك عمر بن الخطاب كما صرح به الزيلعي والعيني وغيرهما، وبما روى ابن أبي شيبة عن وكيع عن مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب أمر رجلا يصلي بهم عشرين ركعة. وفيه أن يحيى بن سعيد الأنصاري لم يدرك عمر، كما اعترف به النيموني. وقال ابن المديني: لا أعلمه سمع من صحابي غير أنس، فهذا الأثر منقطع لا يصلح للاحتجاج، ومع هذا فهو مخالف لما ثبت بسند صحيح عن عمر أنه أمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وأيضا هو مخالف لما ثبت عن رسول الله ? بالحديث الصحيح، وبما روى أيضا ابن أبي شيبة عن عبدالعزيز بن رفيع قال: كان أبي بن كعب يصلي بالناس في رمضان بالمدينة عشرين ركعة، ويوتر بثلاث. وفيه أن هذا أيضا منقطع غير صالح للاستدلال؛ لأن عبدالعزيز بن رفيع لم يدرك أبي بن كعب، كما صرح به النيموني، ومع هذا فهو مخالف لما تقدم أن عمر أمر أبيا وتميما أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وهذا أيضا منقطع،

(6/123)


فإن الأعمش لم يدرك ابن مسعود، وبما روى البيهقي في السنن (ج2 ص497) وابن أبي شيبة في المصنف عن أبي الحسناء أن علي بن أبي طالب أمر رجلا أن يصلي بالناس خمس ترويحات عشرين ركعة. وفيه أن مدار هذا الأثر على أبي الحسناء، وهو مجهول، كما قال الحافظ في التقريب: وقال الذهبي في الميزان: لا يعرف. ورواه أيضا البيهقي (ج2 ص496) من وجه آخر أي من طريق حماد بن شعيب عن عطاء بن السائب عن أبي عبدالرحمن السلمي عن علي قال: دعا القراء في رمضان، فأمر منهم رجلا يصلي بالناس عشرين ركعة، قال: وكان علي يوتر بهم. وفيه أن هذا الأثر أيضا ضعيف غير صالح للاحتجاج بل ولا للاستشهاد ولا للاعتبار. قال النيموني في تعليق آثار السنن بعد ذكره: حماد بن شعيب ضعيف. قال الذهبي في
1311-(9) وعن الأعرج، قال: ما أدركنا الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان.

(6/124)


الميزان: ضعفه ابن معين وغيره. وقال يحيى مرة: لا يكتب حديثه. وقال البخاري: فيه نظر. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن عدي: أكثر حديثه مما لا يتابع عليه- انتهى كلام النيموني. واستدل لهم أيضا بآثار أخرى ذكرها النيموني وغيره، لا يخلو واحد منها عن وهن. تنبيه: قد ادعى بعض الناس أنه وقع الإجماع على عشرين ركعة في عهد عمر، واستقر الأمر على ذلك في الأمصار. قال شيخنا: دعوى الإجماع على عشرين، واستقرار الأمر على ذلك في الأمصار باطلة جدا، كيف وقد عرفت في كلام العيني أن في هذا أقوالا كثيرة، وأن الإمام مالكا قال وهذا العمل يعني القيام في رمضان بثمان وثلاثين ركعة، والإيتار بركعة بالمدينة قبل الحرة منذ بضع ومائة سنة إلى اليوم- انتهى. واختار هذا الإمام إمام دار الهجرة لنفسه إحدى عشرة ركعة، وكان الأسود بن يزيد النخعي الفقيه يصلي أربعين ركعة، ويوتر بسبع وتذكر باقي الأقوال التي ذكرها العيني، فأين الإجماع على عشرين ركعة، وأين الاستقرار على ذلك في الأمصار؟- انتهى كلام الشيخ. هذا، ولشيخ مشائخنا العلامة التقي الورع الزاهد الحافظ الشيخ عبدالله الغازيفوري رسالة بسيطة في مسألة التراويح بالأردية طبعت مرارا، وهي نفيسة جدا عديم النظير في هذه المسألة، وقد ألف أيضا بعض أفاضل علماءنا رسالة حافلة في تنقيد بعض رسائل الحنفية في هذه المسألة سماها تحقيق التراويح في جواب تنوير المصابيح، وهي أيضا نفيسة، فعليك أن تطالعهما.

(6/125)


1311- قوله: (وعن الأعرج) هو عبدالرحمن بن هرمز أبوداود المدني مولى ربيعة بن الحارث من مشاهير التابعين وثقاتهم، روى عن أبي هريرة وغيره، واشتهر بالرواية عن أبي هريرة. قال الحافظ: ثقة ثبت عالم من أوساط التابعين، مات بالإسكندرية سنة (117). (ما أدركنا) كذا في جميع النسخ الحاضرة، وهكذا نقله الجزري (7ص83)، وفي الموطأ: ما أدركت الناس، وكذا وقع في رواية البيهقي من طريق مالك. (الناس) أي الصحابة والتابعين. (إلا وهم يلعنون الكفرة) بفتحات، جمع الكافر. (في رمضان) أي في قنوت الوتر. قد سبق أن الشافعية والمالكية ذهبوا إلى استحباب قنوت الصبح دائما، وخالفهم الحنفية والحنابلة، فقالوا بعدم مشروعيته في الصبح إلا عند النازلة، وسبق أيضا أن الشافعية ذهبوا إلى استحباب قنوت الوتر في النصف الآخر من رمضان فقط، أي لا في جميع السنة، وهي رواية عن مالك خلافا للحنفية والحنابلة، فإنهم قالوا باستحباب قنوت الوتر في جميع السنة، والرواية الثانية عن مالك، وهي المشهورة المعتمدة عند المالكية، نفي القنوت في الوتر جملة، كما سيأتي، وتقدم أيضا أن قنوت اللعن عند الحنفية والحنابلة مختص بالنازلة، سواء كانت في رمضان أو في غيره، والحديث بظاهرة موافق للشافعية. قال ابن حجر: لهذا الحديث استحسن أصحابنا للإمام أن يذكر في قنوت
قال: وكان القاري يقرأ سورة البقرة في ثماني ركعات، وإذا قام بها في ثنتي عشرة ركعة رأى
الناس أنه قد خفف. رواه مالك.

(6/126)


الوتر اللهم اهدنا فيمن هديت الخ، واللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونستهديك الخ، واللهم العن كفرة أهل الكتاب والمشركين الذين يصدون عن سبيلك. قال الطيبي: لعل المراد أنهم لما لم يعظموا ما عظمه الله تعالى من الشهر، ولم يهتدوا بما أنزل فيه من الفرقان، استوجبوا بأن يدعى عليهم، ويطردوا عن رحمة الله الواسعة- انتهى. وقال بعض الحنفية: لا ذكر للوتر في هذه الرواية، فيصدق على الصبح أيضا، قال: وقنوت اللعن المذكور فيها محمول على القنوت المخصوص الذي فيه لعن الكفرة المسمى بقنوت النوازل-انتهى. وحمله القاري على قنوت الوتر، وقال: لعل هذه الزيادة. (أي زيادة اللعن) مخصوصة بالنصف الأخير من رمضان. وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث، فلا ينافي ما صح عن عمر رضي الله عنه: السنة إذا انتصف رمضان أن يلعن الكفرة في آخر ركعة من الوتر بعد ما يقول القاري: سمع الله لمن حمده، ثم يقول اللهم العن الكفرة. وما رواه أبوداود أنه لما جمع الناس على أبي لم يقنت بهم إلا في النصف الثاني محمول على القنوت المخصوص الذي فيه لعن الكفرة على العموم- انتهى. قلت: أثر عمر في اللعن على الكفرة ذكره الحافظ في التلخيص (ص120)، وقال إسناده حسن. وأما رواية أبي داود فقد تقدم أنها ضعيفة. وقال في المدونة بعد ذكر حديث الأعرج هذا: ليس عليه العمل، ولا أرى أن يعمل به ولا يقنت في رمضان في لا أوله ولا في آخره ولا في غير رمضان ولا في الوتر أصلا انتهى. (قال) أي الأعرج. (في ثماني ركعات) بفتح الياء. قال القاري: وفي نسخة صحيحة بحذف الياء. قلت: وهكذا وقع في نسخ الموطأ، وفي جامع الأصول، وفي السنن للبيهقي أي بإسقاط الياء. قيل: وهذا كان بعد إن خففت الصلاة عن القراءة بالمئين في كل ركعة. (وإذا) وفي الموطأ: فإذا. (قام) القاري. (بها) أي بسورة البقرة. (في ثنتي) وفي الموطأ: في اثنتي. (عشرة ركعة) فيه دليل على أن جماعة من الصحابة ممن أدركهم الأعرج كانوا يصلون في ليالي

(6/127)


رمضان أكثر من ثماني ركعات، ولا بأس بذلك، فإنه تطوع وليس فيه ضيق ولا حد ينتهي إليه؛ لأنها نافلة، فيجوز له أن يكثر الركوع والسجود، وكان طائفة من السلف يقومون بإحدى وأربعين ركعة، كما روى محمد بن نصر عن محمد بن سيرين أن معاذا أبا حليمة القاري كان يصلي بالناس في رمضان إحدى وأربعين ركعة، وعن ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة قال: أدركت الناس قبل الحرة يقومون بإحدى وأربعين ركعة يوترون منها بخمس، لكن السنة النبوية الفعلية هي إحدى عشرة ركعة مع الوتر؛ لأنها هي الثابت عن رسول الله ? لا غير. (رأى الناس) بالرفع فاعل. (أنه قد خفف) أي الإمام في الإطالة. قيل: هذا يدل على أن تطويل القراءة في التراويح أفضل، وهو عندي على قدر نشاط القوم فيراعيهم في ذلك لئلا يملوا، فيتركوا التراويح بالجماعة أو جملة. (رواه مالك) عن داود بن الحصين أنه سمع
1312-(10) وعن عبدالله بن أبي بكر، قال: سمعت أبيا، يقول: كنا ننصرف في رمضان من القيام، فنستعجل الخدم بالطعام مخافة فوت السحور، وفي أخرى: مخافة الفجر. رواه مالك.
1313-(11) وعن عائشة، عن النبي ?، قال: ((هل تدرين ما هذه الليلة؟
الأعرج يقول: ما أدركت الناس الخ، وداود بن الصين ثقة إلا في عكرمة، ورمي برأي الخوارج، وأخرجه أيضا البيهقي (ص497) من طريق مالك.

(6/128)


1312- قوله: (وعن عبدالله بن أبي بكر) أي ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري. (قال سمعت أبيا) بضم الهمزة وفتح الموحدة تشديد الياء منصوبا منونا، كذا وقع في جميع النسخ للمشكاة. في الموطأ وقيام الليل للمروزي، وجامع الأصول، والبيهقي. سمعت أبي. أي بفتح الهمزة وكسر الباء وسكون التحتية، يعني والده أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهذا هو الصحيح. وأما ما وقع في المشكاة فهو غلط؛ لأن عبدالله بن أبي بكر المذكور من صغار التابعين الذين رأوا الواحدة والاثنين من الصحابة، ولم يثبت لبعضهم السماع منهم، ومات هو سنة (135)، وهو ابن (70) سنة، فيكون ولادته سنة (65) بعد وفاة أبي بن كعب بأكثر من ثلاثين سنة، فإن أبيا توفي سنة (32) في خلافة عثمان على ما قيل، والأكثر على أنه توفي سنة (22) في خلافة عمر. وأما والد عبدالله المذكور فهو أبوبكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري الخزرجي ثم النجاري بالنون والجيم المدني القاضي اسمه وكنيته واحد. وقيل إنه يكنى أبا محمد، ثقة عابد من صغار التابعين، مات سنة (120) ، وقيل غير ذلك. (كنا ننصرف في رمضان من القيام) أي من صلاة التراويح. قال القاري: سمي بذلك لأنهم كانوا يطيلون القيام فيها. (الخدم) بفتحتين جمع خادم. (بالطعام) أي بتهيئته وإحضاره لنتسحر به. (مخافة) بالنصب علة للاستعجال. (فوت السحور) بالضم والفتح. (وفي أخرى مخافة الفجر) أي طلوعه فيفوت السحور فمآل الروايتين واحد، لكن ليس في نسخ الموطأ الموجودة عندنا إلا رواية: مخافة الفجر، وهكذا عند البيهقي. وذكر الجزري الروايتين جميعا، ولعل الرواية الأولى عند غير يحيى المصمودي، والله أعلم. قال الباجي: هذا لمن كان يستديم القيام إلى آخر الليل أو لمن كان يخص آخره بالقيام. فأما من قال فيهم عمر: والتي ينامون عنها خير فلم يكن هذا حالهم، وهذا يدل على اختلاف أحوال الناس في ذلك- انتهى، فبعضهم يقوم أول الليل، وبعضهم آخره، وبعضهم يستديم

(6/129)


القيام إلى آخره. (رواه مالك) عن عبدالله بن أبي بكر أنه قال: سمعت أبي الخ، ورواه البيهقي (ج2 ص497) من طريق مالك.
1313- قوله: (هل تدرين ما) أي ما يقع. (في هذه الليلة) قال ابن حجر: نبه عليه السلام بهذا
يعني ليلة النصف من شعبان- قالت: ما فيها يا رسول الله ؟ فقال: فيها أن يكتب كل مولود بني آدم في هذه السنة، وفيها أن يكتب كل هالك من بني آدم في هذه السنة، وفيها ترفع أعمالهم، وفيها تنزل أرزاقهم،
الاستفهام على عظم خطر هذه الليلة وما يقع فيها ليحمل ذلك الأمة بأبلغ وجه ،وأكده على إحيائها بالعبادة والدعاء والفكر والذكر (يعني) يريد النبي ? بهذه الليلة. (ليلة النصف من شعبان) وقائل يعني عائشة أو الراوي عنها. (قالت) نقل بالمعنى، وإلا فالظاهر قلت. (ما فيها) أي ما يقع فيها. (فيها أن يكتب) أي كتابة ثانية بعد الكتابة في اللوح المحفوظ. (كل مولود بني آدم) أي كل من يولد من بني آدم، وخصصهم تشريفا لهم. (في هذه السنة) أي الآتية إلى مثل هذه الليلة. (كل هالك) أي ميت. (وفيها ترفع أعمالهم) قال الطيبي: أي تكتب الأعمال الصالحة التي ترفع في هذه السنة يوما فيوما، ولهذا سألت عائشة: ما من أحد الخ أي كما سيأتي، فيكون رفع الأعمال في كل يوم. وأما كتابتها فتكون في هذه الليلة، كذا قال. وفيه بعد، فإن المذكور رفع الأعمال فيها لا كتابتها، ويمكن أن يكون المراد أن أعمال السنة التي ترفع وتكتب يوما فيوما ترفع أيضا في هذه الليلة، وتعرض جملة واحدة للمقابلة، كما يفعل أهل الحساب لتكريم هذه الليلة. قال الطيبي: والاستفهام على سبيل التقرير، يعني إذا كانت الأعمال الصالحة الكائنة في تلك السنة تكتب قبل وجودها يلزم من ذلك أن أحدا لا يدخل الجنة إلا برحمة الله، فقرره النبي ? بما أجاب. قال ابن حجر: حذف في هذه السنة من هذا وما بعده للعلم به مما قبله. والمعنى ترفع أعمالهم إلى الملأ الأعلى. ولا ينافيه رفعها كل يوم أعمال الليل

(6/130)


بعد صلاة الصبح. وأعمال النهار بعد صلاة العصر، وكل يوم اثنين وخميس؛ لأن الأول رفع عام لجميع ما يقع في السنة، والثاني رفع خاص لكل يوم وليلة، والثالث رفع لجميع ما يقع في الأسبوع، وكان حكمة تكرير هذا الرفع مزيد من تشريف الطائعين وتقبيح العاصين، كذا في المرقاة. وقال السندي: قد ثبت في الصحيحين: يرفع إلى الله تعالى عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، فيتحمل أن أعمال العباد تعرض عليه كل يوم، ثم تعرض عليه أعمال الجمعة في كل اثنين وخميس، ثم تعرض عليه أعمال السنة في (ليلة النصف من) شعبان، فتعرض عرضا بعد عرض، ولكل عرض حكمة يطلع عليها من يشاء من خلقه، أو يستأثر بها عنده، مع أنه تعالى لا يخفى عليه من أعمالهم خافية، ويحتمل أن المراد إنها تعرض كل يوم تفصيلا، ثم في الجمعة إجمالا أو بالعكس- انتهى. (وفيها تنزل) بالبناء الفاعل أو للمفعول مخففا ومشددا. (أرزاقهم) أي أسباب أرزاقهم أو تقديرها قال ابن حجر: يحتمل أن المراد تنزيل علم مقاديرها للمؤكلين بها أو أسبابها كالمطر بأن ينزل إلى سماء الدنيا أو من سماء الدنيا إلى السحاب الذي بينها وبين الأرض. وقيل: المراد بإنزال الأرزاق كتابتها. قال الطيبي: هذا كله مأخوذ من قوله تعالى: ?فيها يفرق كل أمر حكيم? [44: 4]
فقالت يا رسول الله ! ما من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى؟ فقال: ما من أحد يدخل
الجنة إلا برحمة الله تعالى ثلاثا. قلت: ولا أنت يا رسول الله ؟!

(6/131)


من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم إلى السنة الأخرى القابلة- انتهى. قال ابن حجر: وهو مبني على أن المراد في الآية هذه الليلة، وهو وإن قال به جماعة من السلف إلا أن ظاهر القرآن بل صريحة يرده لإفادته في آية أنه نزل في رمضان، وفي أخرى أنه نزل ليلة القدر، ولا تخالف بينهما؛ لأن ليلة القدر من جملة رمضان، والمراد بهذا النزول نزوله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا، ثم نزل عليه عليه الصلاة والسلام متفرقا بحسب الحاجة والوقائع. وإذا ثبت أن هذا النزول ليلة القدر ثبت أن الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم في الآية هي ليلة القدر لا ليلة النصف من شعبان. ولا نزاع في أن ليلة نصف شعبان يقع فيها فرق، كما صرح به الحديث، وإنما النزاع في أنها المرادة من الآية. والصواب أنها ليست مرادة منها. وحينئذ يستفاد من الحديث والآية وقوع ذلك الفرق في كل من الليلتين إعلاما بمزيد شرفهما- انتهى. قال القاري: ويحتمل أن يقع الفرق في إحداهما إجمالا، وفي الأخرى تفصيلا، أو تخص إحداهما بالأمور الدنيوية، والأخرى بالأمور الأخروية وغير ذلك من الاحتمالات العقلية- انتهى. قلت: ذهب الجمهور إلى أن المراد من ليلة مباركة في قوله تعالى: ?إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم? [44: 3] هي ليلة القدر لا ليلة نصف من شعبان. وقولهم هو الحق والصواب. قال الحافظ ابن كثير: من قال إنها ليلة من النصف من شعبان فقد أبعد، فإن نص القرآن أنها رمضان- انتهى. وقال العلامة الشوكاني في فتح القدير (ج4 ص554): والحق ما ذهب إليه الجمهور من أن هذه الليلة المباركة هي ليلة القدر لا ليلة النصف من شعبان؛ لأن الله سبحانه أجملها ههنا وبينها في سورة البقرة بقوله: ?شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن? [2: 185] ، وبقوله في سورة القدر: ?إنا أنزلناه في ليلة القدر? فلم يبق بعد هذا لبيان الواضح ما يوجب الخلاف، ولا ما يقتضي

(6/132)


الاشتباه- انتهى. (ما من أحد) من زائدة لتأكيد الاستغراق. (يدخل الجنة) أي أولا وآخرا بدلالة الإطلاق. (إلا برحمة الله تعالى) لا يعارضه قوله تعالى: ?وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون? [43: 72]؛ لأن العمل سبب صوري، وسببه الحقيقي هو رحمة الله لا غير، على أنه من جملة الرحمة بالعبد، فلم يدخل إلا بمحض الرحمة على كل تقدير. وقيل: دخولها بالرحمة، وتفاوت الدرجات بتفاوت الطاعات، والخلود بالنيات. وقد بسط الحافظ الكلام في توجيه الآية المذكورة والجواب عنها في الفتح في شرح حديث أبي هريرة: لن ينجي أحدا منكم عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله !؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته. (ثلاثا) أي قال هذا القول ثلاث مرات للتأكيد. (قلت) هذا رجوع إلى الأصل في الكلام أن يكون باللفظ لا بالمعنى. (ولا أنت يا رسول الله ) أي ما تدخل الجنة إلا برحمته تعالى مع كمال
فوضع يده على هامته فقال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه برحمته يقولها ثلاث مرات)).
رواه البيهقي في الدعوات الكبير.
1314-(12) وعن أبي موسى الأشعري، عن رسول الله ?، قال: ((إن الله تعلى ليطلع في ليلة
لنصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن)). رواه ابن ماجه.

(6/133)


مرتبتك في العلم والعمل (فوضع يده على هامته) بتخفيف الميم أي رأسه. قال الطيبي: في وضع اليد على الرأس، والله أعلم، إشارة إلى افتقاره كل الافتقار إلى استنزال رحمة الله تعالى وشمول الستر من رأسه إلى قدمه. (ولا أنا) أي ولا أدخلها أنا في زمان من الأزمنة. (إلا أن يتغمدني الله) أي إلا وقت أن يسترني ويحيط بي من جميع جهاتي، مأخوذ من الغمد وهو غلاف السيف. (منه) أي من عنده وفضله وكرمه. (برحمته) لا بعلم وعمل مني، مع أنهما لا يتصوران من غير جهة عنايته. ( يقولها) أي هذه الجمل وهي ولا أنا الخ. (ثلاث مرات) طبق الأول في التأكيد. (رواه البيهقي في الدعوات الكبير) لم أقف على سنده ولا على من أخرجه غيره، فالله أعلم، كيف حاله، نعم ورد في رفع الأعمال في شعبان ما رواه النسائي وصححه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد قال: قلت: لم أرك تصوم في شهر من الشهور ما تصوم من شعبان. قال: ذاك شهر يغفل عنه الناس بين رجب ومضر، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يرفع عملي، وأنا صائم. وفي كتابة الموت في شعبان ما روى أبويعلى عن عائشة بسند حسن أن النبي ? كان يصوم شعبان كله قالت: قلت: يا رسول الله! أحب الشهور إليك أن تصومه شعبان؟ قال: إن الله يكتب فيه على كل نفس ميتة تلك السنة، فأحب أن يأتيني أجلي، وأنا صائم. وفي عدم دخول أحد الجنة بدون رحمة الله وحديث أبي هريرة الذي أشرنا إليه.

(6/134)


1314- قوله: (إن الله تعالى ليطلع) بتشديد الطاء، أي يتجلى على خلقه بمظهر الرحمة العامة والإكرام الواسع، قاله ابن حجر. وقال الطيبي: بمعنى ينزل وقد مر، وقيل: أي ينظر نظر الرحمة السابقة والمغفرة البالغة. (إلا لمشرك) أي كافر بأي نوع من الكفر، فإن الله لا يغفر أن يشرك به. (أو) للتنويع. (مشاحن) أي مباغض ومعاد لمسلم من غير سبب ديني من الشحناء. وهي العداوة والبغضاء. قال الأوزاعي: أراد به صاحب البدعة المفارق لجماعة الأمة. وقال الطيبي: لعل المراد ذم البغضة التي تقع بين المسلمين من قبل النفس الأمارة بالسوء لا للدين، فلا يأمن أحدهم أذى صاحبه من يده ولسانه؛ لأن ذلك يؤدي إلى القتل، وربما ينتهي إلى الكفر إذ كثيرا ما يحمل على استباحة دم العدو وماله، ومن ثم قرن المشاحن في الرواية الأخرى بقاتل النفس. (رواه ابن ماجه) في أواخر الصلاة من طريق الوليد عن ابن لهيعة عن الضحاك بن أيمن عن الضحاك بن عبدالرحمن بن عرزب عن

(6/135)


أبي موسى الأشعري. قال في الزوائد: إسناد ضعيف لضعف عبدالله بن لهيعة، وتدليس الوليد بن مسلم-انتهى. قلت: ولجهالة الضحاك بن أيمن الكلبي، وللانقطاع في الإسناد. قال في تهذيب التهذيب (ج4:ص443) في ترجمة الضحاك بن أيمن بعد ذكر الطريق المذكور: وهو حديث مختلف في إسناده. قال الحافظ: قرأت بخط الذهبي: لا يدرى من هو. وقال السندي: ابن عرزب لم يلق أبا موسى، قاله المنذري، كذا بخطه روى ابن ماجه أيضا نحوه من طريق النضر بن عبدالجبار ثنا ابن لهيعة عن الزبير بن سليم عن الضحاك بن عبدالرحمن بن عرزب عن أبيه عن أبي موسى. والزبير بن سليم وعبدالرحمن بن عرزب مجهولان، فالحديث ضعيف بطريقيه، لكن له شواهد روي بعضها بإسناد حسن. فمنها حديث عبدالله بن عمرو بن العاص، وقد أشار إليه المصنف. ومنها حديث معاذ بن جبل رواه الطبراني في الأوسط وابن حبان في صحيحه والبيهقي. قال الزرقاني في شرح المواهب بعد عزوه إلى صحيح ابن حبان: فيه رد على قول ابن دحية: لم يصح في ليلة نصف شعبان شئ، إلا أن يريد نفي الصحة الاصطلاحية، فإن حديث معاذ هذا حسن لا صحيح-انتهى. وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج8:ص65) إلى الطبراني في الكبير والأوسط، وقال رجالهما ثقات. ومنها حديث أبي بكر الصديق رواه البزار والبيهقي. قال المنذري: بإسناد لا بأس به. وقال الهيثمي: فيه عبدالملك بن عبدالملك، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يضعفه، وبقية رجاله ثقات. قلت: ذكر عبدالملك هذا الذهبي في الميزان (ج2:ص151) قال: عبدالملك بن عبدالملك عن مصعب بن أبي ذئب عن القاسم قال البخاري في حديثه: نظر، يريد حديث عمرو بن الحارث عن عبدالملك أنه حدثه عن المصعب بن أبي ذئب عن القاسم بن محمد عن أبيه أو عمه عن جده عن رسول الله ?: ينزل الله ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا-الحديث. وقيل: إن مصعبا جده. وقال ابن حبان وغيره: لا يتابع على حديثه. قال الحافظ في اللسان (ج4:ص67): قال

(6/136)


ابن عدي: هو معروف بهذا الحديث، ولا يروي عنه غير عمرو بن الحارث، وهو حديث منكر بهذا الإسناد. ومنها حديث أبي هريرة، رواه البزار. قال الهيثمي: وفيه هشام بن عبدالرحمن، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. ومنها حديث عوف بن مالك، رواه البزار أيضا، وفيه عبدالرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وابن لهيعة. وقد تقدم الكلام فيهما، وبقية رجاله ثقات. ومنها حديث مكحول عن كثير بن مرة. (التابعي)، رواه البيهقي، وقال: هذا مرسل جيد. ومنها حديث مكحول عن أبي ثعلبة رواه الطبراني والبيهقي. قال البيهقي: وهو أيضا بين مكحول وأبي ثعلبة مرسل جيد، يعني لأنه لم يدرك مكحول أبا ثعلبة الخشني الصحابي، وعزاه الهيثمي إلى الطبراني، وقال فيه الأحوض بن حكيم، وهو ضعيف. ومنها حديث العلاء بن الحارث عن عائشة، رواه البيهقي أيضا، وقال: هذا مرسل جيد. ويحتمل أن يكون العلا أخذه من مكحول كذا في الترغيب. وهذه الأحاديث كلها تدل على عظم خطر ليلة نصف شعبان وجلالة
1315- (13) ورواه أحمد، عن عبدالله بن عمرو بن العاص، وفي روايته:

(6/137)


شأنها وقدرها، وأنها ليست كالليالي الأخر، فلا ينبغي أن يغفل عنها، بل يستحب إحياءها بالعبادة والدعاء والذكر والفكر. ويدل على ندب إحيائها حديث على الآتي لكنه ضعيف جدا، كما ستعرف، وحديث معاذ بن جبل مرفوعا: من أحياء الليالي الخمس وجبت له الجنة: ليلة التروية وليلة عرفة وليلة النحر وليلة الفطر وليلة النصف من شعبان، رواه الأصبهاني في ترغيبه، وهذا أيضا ضعيف؛ لأن المنذري صدره بلفظة "روي" وأهمل الكلام عليه في آخره، وجعل هذا علامة للإسناد الضعيف. وأما إحياء هذه الليلة خاصة والاهتمام لذلك مع ترك بعض الصلوات الخمس أو جمعها، ومع عدم المبالاة بالواجبات الأخرى، كما هو حال عامة المسلمين في عصرنا هذا، فلا شك أنه أمر قبيح، كيف والاشتغال بالمندوب مع إهمال الفرائض ليس من الدين والرأي في شيء. وكذا الاهتمام بزيارة القبور فيها مع تركها جميع السنة ليس بشئ من السنة. فإن قلت: قد ورد في ذهابه ? إلى البقيع في هذه الليلة حديثان: أحدهما حديث عائشة السابق في الفصل الثاني. والثاني حديثها الذي ذكره المنذري في باب الترهيب من التهاجر نقلا عن البيهقي. قلت: هذا الحديثان ضعيفان جدا. أما الأول فقد تقدم بيانه. وأما الثاني فقد صدره المنذري بلفظه "روي" وأهمل الكلام عليه في آخره، على أنه لا دليل فيهما على تخصيص زيارة القبور بهذه الليلة، بل كان ذهابه ? إلى البقيع على ما اعتاده في نوبة عائشة. كما يدل عليه ما روى مسلم عنها قالت: كان رسول الله ? كلما كان ليلتها من رسول الله ? يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين-الحديث. فهذا ظاهر في أن ذهابه إلى البقيع في نوبة عائشة كان عادة له مستمرة، وقد صادف ذلك في بعض الأعوام ليلة نصف شعبان، فذهب إليه على عادته من غير أن يهتم لذلك. وأما تقسيم أنواع الأطعمة على الفقراء في هذه الليلة خاصة، فلم يرو فيه حديث مرفوع ولا موقوف لا صحيح ولا ضعيف. وأما اعتقاد

(6/138)


حضور أرواح الأموات في هذه الليلة، وتنظيف البيوت، وتطيين جدرانها لتكريمها، وزيادة السرج والقناديل على الحاجة فيها فهي من البدع والضلالات بلا شك. قال القاري: أول حدوث الوقيد من البرمكة، وكانوا عبدة النار. فلما أسلموا أدخلوا في الإسلام ما يموهون أنه من سنن الدين، ومقصودهم عبادة النيران حيث ركعوا وسجدوا مع المسلمين إلى تلك النيران، ولم يأت في الشرع استحباب زيادة الوقيد على الحاجة في موضع، وقد أنكر الطرطوسي الاجتماع ليلة الختم في التراويح، ونصب المنابر وبين أنه بدعة منكرة. وأما صوم يوم ليلة نصف شعبان، فسيأتي الكلام فيه في شرح حديث علي الآتي.
1315- قوله: (ورواه أحمد) (ج2:ص176). (عن عبدالله بن عمرو بن العاص) قال المنذري: بإسناد لين. قلت: في سنده ابن لهيعة. قال الهيثمي (ج8:ص65): هو لين الحديث، وبقية رجاله وثقوا. (وفي روايته)
إلا اثنين: مشاحن وقاتل نفس.
1316- (14) وعن علي، قال: قال رسول الله ?: ((إذا كانت ليلة النصف من الشعبان، فقوموا ليلها، وصوموا يومها، فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له؟ ألا مسترزق فأرزقه؟ ألا مبتلى فأعافيه؟ ألا كذا ألا كذا؟ حتى يطلع الفجر)).
أي رواية أحمد. (إلا اثنين مشاحن) بالرفع أي هما مشاحن. (وقاتل نفس) أي تعمدا بغير حق. ويجوز جرهما على البدلية.

(6/139)


1316- قوله: (فقوموا ليلها) أي الليلة التي هي تلك الليلة، فالإضافة بيانية، وليست هي كالتي في قوله: "وصوموا يومها". وقال الطيبي: الظاهر أن يقال: فقوموا فيها، وإذا ذهب إلى وضع الظاهر موضع المضمر أن يقال ليلة النصف، فأنت الضمير اعتبار للنصف؛ لأنها عين تلك الليلة-انتهى. قال القاري: وقد يقال: لعل المراد أن يقع القيام في جميع ما يطلق عليه إسم الليل من أجزاء تلك الليلة، وهو أبلغ من القيام فيها، وحسنه أيضا مقابلة قوله: (وصوموا يومها) أي في نهار تلك الليلة بكماله، ويعاضده قوله: (فإن الله تعالى ينزل فيها) أي في تلك الليلة. (لغروب الشمس) أي أول وقت غروبها. وقال السندي: أي في وقت غروبها أو مع غروبها متصلا به. (ألا) للتنبيه والعرض. (من) زائدة لتأكيد الاستغراق، وحذفت مما بعده للإكتفاء، قال القاري. (مستغفر) يستغفر (فأغفر له) قال الطيبي: بالنصب على جواب العرض و"من" في مستغفر زائدة بشهادة قرينه، والتقدير ألا مستغفر فأغفر له. (ألا مسترزق) بالرفع. (فأرزقه) بالنصب. (ألا مبتلى) أي مستعف يطلب العافية، وهو مقدر لظهوره. (فأعافيه). ولا يشكل وجود كثير من المبتلين يسألون العافية ولا يجابون لعدم استجماعهم لشروط الدعاء. (ألا كذا) من طالب عطاء فأعطيه. (ألا كذا) من طالب دفع بلاء فأدفعه. والحديث يدل على ندب صوم يوم ليلة النصف من شعبان، لكنه ضعيف جدا كما ستعرف، والإباحة والندب من الأحكام الخمسة الشرعية، ولا يعمل بالضعيف في الأحكام، كما تقرر في موضعه، وأما في الفضائل فيعمل به، لكن بشروط ثلاثة لا يوجد شيء منها ههنا، فإن هذا الحديث شديد الضعف، وليس هو بمندرج تحت أصل معمول به، ولا يعتقد الاحتياط أحد ممن يعمل به، بل يعتقد ثبوته، كما هو الظاهر من حال من يصوم ذلك اليوم. هذا، وقد استدل لذلك بالأحاديث التي فيها الندب إلى صيام أيام البيض. ولا يخفى بطلانه، فإن المطلوب هو استحباب صوم يوم واحد فقط أي الخامس عشر من

(6/140)


شعبان خاصة، وأين هذا من الندب إلى صيام ثلاثة أيام أي البيض من كل شهر.
رواه ابن ماجه.
(38) باب صلاة الضحى
وقد يستدل لذلك أيضا بما روى الشيخان عن عمران بن حصين مرفوعا في صيام سرر شعبان. وقد قيل في تفسير السرر: أنه وسط الشهر. وفيه أن الجمهور على أن المراد بالسرر هنا آخر الشهر، سميت بذلك لاستمرار القمر فيها، وهي ليلة ثمان وعشرين وتسع وعشرين وثلاثين. وبه فسر أبوعبيد، واختاره البخاري حيث بوب عليه: باب الصوم من آخر الشهر، وهذا لمن كانت له عادة بصيام آخر كل شهر، فإنه مستثنى من النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين، ومأمور بأن لا يترك ما كان اعتاده من ذلك. ولو سلمنا أن المراد به وسط الشهر لا آخره لا يثبت المطلوب؛ لأن الحديث يدل حينئذ على ندب صيام أيام البيض؛ لأنها وسط الشهر. ويؤيده الأحاديث التي فيها الحض على صيام البيض. والحاصل أنه ليس في صوم يوم ليلة النصف من شعبان حديث مرفوع صحيح أو حسن أو ضعيف خفيف الضعف ولا أثر قوي أو ضعيف. (رواه ابن ماجه) في أواخر الصلاة، وسنده ضعيف جدا؛ لأن فيه أبا بكر بن عبدالله بن محمد بن أبي سبرة القرشي العامري المدني، وقد ينسب إلى جده. قال في التقريب: رموه بالوضع. قلت: ضعفه ابن معين وابن المديني والجوزجاني والبخاري. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال البخاري وابن المديني مرة: منكر الحديث. وقال عبدالله وصالح ابنا أحمد عن عن أبيهما قال كان أبوبكر بن أبي سبرة يضع الحديث، ويكذب. وقال ابن عدي: هو في جملة من يضع الحديث. وقال ابن حبان والحاكم أبوعبدالله: يروي الموضوعات عن الثقات، زاد ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. كذا في تهذيب التهذيب.

(6/141)


(باب صلاة الضحي) قال العيني في شرح البخاري: الضحى بالضم فوق الضحوة، وهي ارتفاع الشمس أول النهار. والضحاء بالفتح والمد هو إذا علت الشمس إلى ربع السماء فما بعده-انتهى. وقال المجد في القاموس: الضحو والضحوة. (كلاهما بفتح المعجمة وسكون المهملة) والضحية كعشية ارتفاع النهار. والضحى فويقه. والضحاء بالمد إذا كرب انتصاف النهار-انتهى مختصرا. قال القاري: قيل: التقدير صلاة وقت الضحى، والظاهر أن إضافة الصلاة إلى الضحى بمعنى في كصلاة الليل وصلاة النهار، فلا حاجة إلى القول بحذف المضاف. وقيل: من باب إضافة المسبب إلى السبب كصلاة الظهر-انتهى. قيل: وقت الضحى عند مضي ربع اليوم إلى قبيل الزوال. وقيل: هذا وقته المتعارف. وأما وقته فوقت صلاة الإشراق. وقيل: الإشراق أو الضحى. قال ابن العربي: هي كانت صلاة الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى مخبرا عن دواد عليه السلام:

(6/142)


?إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق? [18:38]. وروى ابن أبي شيبة في المصنف، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس أنه سئل عن صلاة الضحى. فقال: إنها في كتاب الله، ولا يغوص عليها الأغواص، ثم قرأ. ?في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له بالغدو والآصال? [36:24] وروى أيضا عنه قال: لم يزل في نفسي من صلاة الضحى حتى قرأت. ?إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق?. واختلف العلماء في حكمها، وقد جمع ابن القيم في زاد المعاد (ج1:ص92-97) الأقوال، فبلغت ستة: الأول أنها مستحبة، واختلف في عددها فقيل: أقلها ركعتان، وأكثرها وأفضلها ثمان، وهو مذهب الحنابلة والمالكية والشافعية في القول المعتمد عندهم، وقيل: أكثرها ثنتا عشرة ركعة وأوسطها ثمان، وهو أفضلها لثبوته بفعله عليه السلام وقوله. وأما أكثرها فبقوله فقط، وهو مذهب الحنفية والشافعية أيضا في قول. قال النووي في الروضة: أفضلها ثمان، وأكثرها ثنتا عشرة. قال الحافظ: فرق بين الأكثر والأفضل، ولا يتصور ذلك إلا فيمن صلى ثنتي عشر بتسليمة واحدة، فإنها تقع نفلا مطلقا عند من يقول إن أكثر سنة الضحى ثمان ركعات فأما من فصل فإنه يكون صلى الضحى، وما زاد على الثمان يكون له نفلا مطلقا، فتكون صلاة اثنتي عشرة في حقه أفضل من ثمان لكونه أتى بالأفضل وزاد. وقيل: أفضلها أربع ركعات لكثرة الأحاديث الواردة في ذلك. وذهب قوم منهم أبوجعفر الطبري، وبه جزم الحليمي والروياني من الشافعية والباجي من المالكية أنه لا حد لأكثرها. الثاني لا تشرع إلا بسبب، واحتج له بأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعلها إلا بسب، واتفق وقوعها وقت الضحى. وتعددت الأسباب فحديث أم هاني، الآتي في صلاته يوم الفتح كان بسبب الفتح، وإن سنة الفتح أن يصلي ثمان ركعات، ونقله الطبري من فعل خالد بن الوليد لما فتح الحيرة، وفي حديث عبدالله بن أبي أوفى أنه صلى الله عليه وسلم صلى الضحى حين بشر برأس أبي جهل،

(6/143)


وهذه صلاة شكر كصلاة يوم الفتح، وصلاته في بيت عتبان إجابة لسؤاله أن يصلي في بيته مكانا يتخذه مصلى، فاتفق أنه جاءه وقت الضحى فاختصره الراوي فقال: صلى في بيت الضحى، وحديث عائشة لم يكن يصلي الضحى إلا أن يجيء من مغيبه؛ لأنه كان ينهى عن الطروق ليلا، فيقدم في أول النهار، فيبدأ بالمسجد، فيصلي وقت الضحى. الثالث لا تستحب أصلا، وصح عن عبدالرحمن بن عوف أنه لم يصلها، وكذلك ابن مسعود. الرابع يستحب فعلها تارة وتركها تارة بحيث لا يواظب عليها، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد، والحجة فيه حديث أبي سعيد الآتي في الفصل الثالث. وعن عكرمة كان ابن عباس يصليها عشرا ويدعها عشرا. وقال الثوري عن منصور: كانوا يكرهون أن يحافظوا عليها كالمكتوبة. الخامس: تستحب صلاتها، والمواظبة عليها في البيوت للأمن من خشية

(6/144)


أن ترى حتما. السادس أنها بدعة، صح ذلك عن ابن عمر. قلت: ورجح ابن القيم القول الثاني، وبسط الكلام على الأحاديث المثبتة لها. والراجح عندنا هو القول الأول أعني أنها مستحبة، وإليه ذهبت الأئمة الأربعة وأتباعهم؛ لأن الأحاديث الواردة بإثباتها قد بلغت مبلغا لا تقصر عن اقتضاء الاستحباب، وفيها الصحيح والحسن وما يقاربه، وقد جمع الحاكم الأحاديث في إثباتها في جزء مفرد عن نحو عشرين نفسا من الصحابة، وكذلك السيوطي صنف جزءا في الأحاديث الواردة في إثباتها، وروى فيه عن جماعة من الصحابة أنهم كانوا يصلونها. قال الزبيدي في شرح الإحياء: ورد فيها أحاديث كثيرة صحيحة مشهورة، حتى قال ابن جرير الطبري: إنها بلغت حد التواتر-انتهى. وقال البيجوري في شرح الشمائل: وبالجملة فقد قام الإجماع على استحبابها وفي شأنها أحاديث كثيرة. وأما احتجاج القائلين بأنها لا تشرع إلا لسبب بما سلف فيرده ويبطله الأحاديث التي ذكرها المصنف في هذا الباب، والعيني في شرح البخاري، والشوكاني في النيل، وابن عبدالبر في الاستذكار والتمهيد، والزبيدي في شرح الإحياء، والهيثمي في مجمع الزوائد. وأما ما روي عن ابن عمر أنه قال في الضحى إنها بدعة، فقد قال النووي: إنه محمول على أن صلاتها في المسجد والتظاهر بها، كما كانوا يفعلونها بدعة، لا أن أصلها في البيوت مذموم. قيل: وهذا الاختلاف إنما هو في الصلاة التي تصلي عند مضي ربع اليوم إلى قبيل الزوال لا في التي تؤدي بعد خروج وقت الكراهة أول النهار وتسمى صلاة الإشراق. ثم إن صلاة الضحى وصلاة الإشراق واحدة أو ثنتان؟ فقيل: إنهما واحدة، وقتها من بعد خروج وقت الكراهة إلى قبيل الزوال. وقيل صلاة الضحى غير صلاة الإشراق، فهما صلاتان، يؤدي الإشراق في الضحوة الصغرى، وصلاة الضحى في الضحوة الكبرى، ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الإشراق في الأحاديث التي رغب فيها في الجلوس في المسجد بعد صلاة الصبح حتى تطلع

(6/145)


الشمس، فيصلي ركعتين. قال القاري في شرح حديث معاذ بن أنس الآتي: وهذه الصلاة تسمى صلاة الاشراق، وهي أول صلاة الضحى. قلت: ويدل عليه أيضا الأحاديث التي في الترغيب في أربع ركعات من أول النهار، فإنها أوفق بصلاة الإشراق. ويدل عليه أيضا حديث أبي ذر في الفصل الأول وما في معناه، فإن المناسب لأداء ما عليه من الحق أن يصليها أول النهار بعد خروج وقت الكراهة. قال القاري: التحقيق أن أول وقت الضحى إذا خرج وقت الكراهة، وآخره قبيل الزوال، وإن ما وقع في أوائله يسمى صلاة الاشراق أيضا، وما وقع بعد ذلك إلى آخره يختص باسم صلاة الضحى-انتهى بتصرف يسير: وقال في شرح الإحياء: أما وقتها أي الضحى فقد روى على أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى ستا في وقتين: الأول إذا أشرقت الشمس وارتفعت قيد رمح قام، فصلى ركعتين، وهذه الصلاة المسماة بصلاة الإشراق عند مشائخنا. والثاني إذا انبسطت الشمس وكانت في ربع السماء، صلى أربعا. قال العراقي: أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث علي كان
?الفصل الأول?
1317- (1) عن أم هانئ، قالت: ((إن النبي ? دخل بيتها يوم فتح مكة، فاغتسل، وصلى ثماني ركعات لم أر صلاة قط أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود. وقالت في رواية أخرى: وذلك ضحى)).
النبي صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس من مطلعها قيد رمح أو رمحين كقدر صلاة العصر من مغربها صلى ركعتين، ثم أمهل حتى إذا ارتفع الضحى صلى أربعا. لفظ النسائي. وقال الترمذي: حسن –انتهى. قلت: هذا الحديث ظاهر بل نص في التفريق بين صلاتي الإشراق والضحى. والله أعلم.

(6/146)


1317- قوله: (عن أم هانئ) بهمزة بعد النون. (دخل بيتها يوم فتح مكة) في رمضان سنة ثمان من الهجرة. (فاغتسل) أي بيتها، كما هو ظاهر التعبير بالفاء المقتضية للترتيب والتعقيب، لكن في مسلم كالموطأ من طريق أبي مرة عنها أنها قالت: ذهبت إلى النبي ? وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل. قال الحافظ: وجمع بينهما بأن ذلك تكرر منه. ويؤيده ما رواه ابن خزيمة من طريق مجاهد عن أم هانئ، وفيه أن أبا ذر ستره لما اغتسل. وفي رواية أبي مرة: أن فاطمة بنته هي التي سترته. ويحتمل أن يكون نزل في بيتها بأعلى مكة، وكانت هي في بيت آخر بمكة، فجاءت إليه فوجدته يغتسل فيصح القولان. وأما الستر فيحتمل أم يكون أحدهما ستره في ابتداء الغسل، والآخر في أثنائه- انتهى. (وصلى ثماني) بالياء التحتية المفتوحة، وللأصيلي وأبي ذر ثمان بإسقاط الياء. قاله القسطلاني. (ركعات) زاد كريب عن أم هانئ يسلم من كل ركعتين. أخرجه أبوداود وابن خزيمة، وفيه رد على من تمسك به صلاتها موصولة سواء صلى ثمان ركعات أو أقل. (فلم أر صلاة) أي ما رأيته صلى صلاة. (قط) أي أبدا. (أخف منها) يعني من صلاة النبي ?. وفي رواية: فما رأيته صلى صلاة قط أخف منها أي من هذه الثمان. وفي رواية لمسلم: لا أدري أقيامه فيها أطول أم ركوعه أم سجوده كل ذلك متقارب. واستدل به على استحباب تخفيف صلاة الضحى. وفيه نظر لاحتمال أن يكون السبب فيه التفرغ لمهمات الفتح لكثرة شغله به، وقد ثبت من فعله ? أنه صلى الضحى فطول فيها. أخرجه ابن أبي شيبة من حديث حذيفة. (غير أنه) عليه الصلاة والسلام. (يتم) أي كان يتم (الركوع والسجود) قالته دفعا لتوهم من يفهم أنه نقص منهما حيث عبرت بأخف. وقال الطيبي: نصب غير على استثناء، وفيه إشعار بالاعتناء بشأن الطمأنينة في الركوع والسجود؛ لأنه عليه الصلاة والسلام خفف سائر الأركان من القيام والقراءة والتشهد، ولم يخفف من الطمأنينة في الركوع والسجود- انتهى. (وقالت) أي أم

(6/147)


هانئ. (وذلك ضحى) أي
متفق عليه.
1318- (2) وعن معاذة، قالت: سألت عائشة: ((كم كان رسول الله ? يصلي صلاة الضحى؟
قالت: أربع ركعات ويزيد ما شاء الله))
ما فعله ? صلاة ضحى أو ذلك الوقت وقت ضحى، ويؤيد الأول ما يأتي من رواية أبي داود وابن عبدالبر وغيرهما. والحديث استنبط منه سنية صلاة الضحى خلافا لمن قال ليس في حديث أم هانئ دلالة لذلك بل هو إخبار منها بوقت صلاته فقط وكانت سنة الفتح. قال السهيلي: هذه الصلاة تعرف عند العلماء بصلاة الفتح، وكان الأمراء يصلونها إذا فتحوا بلدا، صلاها خالد بن الوليد لما فتح الحيرة، وصلاها سعد بن أبي وقاس حين افتتح المدائن في إبوان كسرى، والأصل فيها صلاته صلى الله عليه وسلم يوم الفتح. وقيل: إنها كانت قضاء عما شغل عنه تلك الليلة من حزبه فيها. وأجيب بأن الصواب صحة الاستدلال به لقولها في حديث أبي داود وغيره صلى سبحة الضحى. والسبحة بالضم الصلاة ومسلم في الطهارة ثم صلى ثمان ركعات سبحة الضحى، وفي التمهيد لابن عبدالبر قالت: قدم رسول الله ? مكة فصلى ثمان ركعات، فقلت: ما هذه الصلاة، قالت: هذه صلاة الضحى، واستدل بحديث الباب على أن أفضلها ثمان ركعات وهي أكثر ما ورد من فعله صلى الله عليه وسلم، وقد ورد ذلك من قوله أيضا وورد من فعله دون ذلك ركعتان وأربع وست، وورد الزيادة على الثمان من قوله فقط، ففي حديث أبي ذر مرفوعا قال: إن صليت الضحى عشرا لم يكتب لك ذلك اليوم ذنب، وإن صليتها اثنتي عشرة ركعة بنى الله لك بيتا في الجنة. رواه البيهقي، وقال: في إسناده نظر، وضعفه النووي في شرح المهذب، وفي ثنتي عشرة أحاديث أخرى يقوي بعضها بعضا، وهي أكثر ما ورد في صلاة الضحى. (متفق عليه) وأخرجه أيضا مالك والترمذي وأبوداود والبيهقي (ج3:ص48).

(6/148)


1318- قوله: (وعن معاذة) بضم الميم بنت عبدالله العدوية. (كم كان رسول الله ?) أي كم ركعة، وهو مفعول مطلق لقوله: (يصلي صلاة الضحى) وفي ورواية ابن ماجه: أ كان النبي ? يصلي الضحى؟ قالت نعم. (قالت: أربع ركعات) روى الحاكم من طريق أبي الخير عن عقبة بن عامر قال: أمرنا رسول الله ? أن نصلي الضحى بسور منها. ?والشمس وضحاها?. ?والضحى? ومناسبة ذلك ظاهرة جدا. (ويزيد) عطف على مقدر، وهو مقول للقول أي يصلي أربع ركعات ويزيد (ما شاء الله) قال المظهر: أي يزيد من غير حصر، ولكن لم ينقل أكثر من اثنتي عشرة ركعة. وقال الحافظ: قد ذهب قوم منهم أبوجعفر الطبري وبه جزم الحليمي والروياني من الشافعية إلى أنه لا حد لأكثرها، وروى من طريق إبراهيم النخعي قال: سأل رجل الأسود بن يزيد كم أصلي
رواه مسلم.

(6/149)


الضحى قال: كم شئت، ثم ذكر الحافظ حديث عائشة هذا وقال: وهذا الإطلاق قد يحمل على التقييد، فيؤكد أن أكثرها اثنتا عشرة ركعة-انتهى. واعلم أنه قد جاء عن عائشة في صلاة الضحى أشياء مختلفة، فروي عنها أنه ? صلاها من غير تقييد، كما في حديث الباب، وروي عنها أنها سئلت هل كان رسول الله ? يصلي الضحى؟ قالت: لا إلا أن يجيء من مغيبه. أخرجه مسلم وروى عنها قالت: ما رأيت رسول الله ? يصلي سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها. متفق عليه. ففي رواية الكتاب إثباتها مطلقا، وفي الثالثة النفي مطلقا، وفي الثانية الإثبات مقيدا، وقد اختلف العلماء في ذلك فذهب ابن عبدالبر وجماعة إلى ترجيح الرواية الثالثة؛ لاتفاق الشيخين عليها فتقدم على ما انفرد به مسلم، وذهب بعضهم إلى ترجيح رواية الإثبات، وقالوا: إن عدم رؤيتها لذلك لا يستلزم عدم الوقوع، ويؤيد ذلك روايات من روى عنه من الصحابة الإثبات. وذهب بعضهم إلى الجمع، قال ابن حبان: قولها ما كان يصلي إلا أن يجيء من مغيبه مخصوص بالمسجد، وقولها: كان يصلي أربعا ويزيد محمول على البيت، وقولها: ما رأيته يصلي سبحة الضحى المنفي فيه صفة مخصوصة. وجمع عياض بين هذا وبين الثاني أي قولها: كان يصلي أربعا بأن المنفي في الثالث، أي في قولها ما رأيته يصلي الرؤية بنفسها، وفي الثاني إخبار الصلاة برواية غيرها، فأخبرت في الإنكار عن مشاهدتها، وفي الإثبات عن غيرها. وقال المنذري: يحتمل أنها أخبرت في الإنكار عن رؤيتها ومشاهدتها، وفي الآخر بغير المشاهدة، إما من خبره عليه السلام أو خبر غيره عنه. وجمع الباجي بأن النفي في قولها: ما رأيته يصلي مقيد بدون السبب، والإثبات في قولها كان يصلي أربعا مقيد بالسبب، وهو المجيء من السفر وإن لم يذكر فيهما، كما في بينه قولها: لا إلا أن يجيء من مغيبه. وقيل في الجمع أيضا: يحتمل أن يكون لفت صلاة الضحى المعهودة حينئذ من هيئة مخصوصة بعدد مخصوص في وقت مخصوص، وأنه ? كان

(6/150)


يصليها إذا قدم من سفر لا بعدد مخصوص ولا بغيره، كما قالت: يصلي أربعا ويزيد ما شاء الله. قال المنذري: وقد يكون. الإنكار إنما هو لصلاة الضحى المعهودة عند الناس على الذي اختاره جماعة من السلف من صلاتها ثمان ركعات وأنه كان يصليها أربعا. ويزيد ما شاء فيصليها مرة أربعا ومرة ستا ومرة ثمانية، وأقلها ركعتان. وقيل: النفي محمول على صلاة الاشراق، فإنها ما رأته ? يصليها قط؛ لأنه كان يصليها في المسجد إذا خرج وقت الكراهة، وقولها: لا إلا أن يجيء من مغيبه، وقولها: كان يصلي أربعا محمول على صلاة الضحى. والنفي المقيد بغير المجيء من مغيبه محمول على المسجد والإثبات مطلقا على البيت، والله أعلم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص47) وأخرجه أبويعلى من طريق عمرة عن عائشة قالت كان رسول الله ? يصلي الضحى أربع ركعات لا يفصل بينهن بكلام.
1319- (3) وعن أبي ذر قال: قال رسول الله ?: ((يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة،
فكل تسبيحه صدقة، وكل تحميده صدقة، وكل تهليله صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر
بالمعروف صدقة، ونهى عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى))

(6/151)


1319- قوله: (يصبح على كل سلامى) بضم السين المهملة وتخفيف اللام وفتح الميم. قال النووي: أصله عظام الأصابع وسائر الكف، ثم استعمل في جميع عظام البدن ومفاصله، ويدل على ذلك ما في صحيح مسلم من حديث عائشة أن رسول الله ? قال: خلق الإنسان على ستين وثلثمائة مفصل على كل مفصل صدقة-انتهى. وفي النهاية: السلامى جمع سلامية، وهي الأنملة من الأنامل الأصابع. وقيل: واحده وجمعه سواء ويجمع على سلاميات، وهي التي بين كل مفصلين من أصابع الإنسان. (من أحدكم صدقة) قال الطيبي: اسم يصبح. أما صدقة أي كصبح الصدقة وأحبه على كل سلامي. وأما من أحدكم على تجويز زيادة من، والظرف خبره، وصدقة فاعل الطرف، أي يصبح أحدكم واجبا على كل مفصل منه صدقة. وأما ضمير الشأن والجملة الاسمية بعدها مفسرة له. قال عياض: يعني أن كل عظم من عظام ابن آدم وكل مفصل من مفاصله يصبح سليما عن الآفات باقيا على الهيئة التي تتم بها منافعه فعليه صدقة شكرا لمن صوره ووقاه عما يغيره ويؤذيه. (فكل تسبيحه صدقة) قال الطيبي: الفاء تفصيلية ترك تعديد كل واحد من المفاصل للاستغناء يذكر تعديد ما ذكر من التسبيح وغيره-انتهى. أو لأن تعديد المفاصل يجر إلى الإطالة، وفي تركه إيماء إلى قوله تعالى. ?وإن تعدو نعمة الله لا تحصوها? [34:14]. والمقصود ما به القيام بشكرها على أن جعل له ما يكون به متمكنا من الحركات والسكنات، وليس الصدقة بالمال فقط بل كل خير صدقة. (وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة) وكذا سائر الأذكار وباقي العبادات صدقات على نفس الذاكر. (وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة)؛ لأن منفعتهما راجعة إليه وإلى غيره من المسلمين، وفي ترك ذكر الصدقة الحقيقية تسلية للفقراء والعاجزين عن الخيرات المالية. (ويجزئ) قال النووي: ضبطناه بالضم أي ضم الياء من الإجزاء، وبالفتح من جزى يجزي أي يكفي. (من ذلك) هي بمعنى عن أي يكفي عما ذكر مما وجب على السلامي

(6/152)


من الصدقات. (ركعتان) لأن الصلاة عمل بجميع أعضاء البدن فيقوم كل عضو بشكره، ولاشتمال الصلاة على الصدقات المذكورة وغيرها، فإن فيها أمرا للنفس بالخير ونهيا لها عن ترك الشكر، وإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. (يركعهما من الضحى) أي من صلاة الضحى، أو في وقت الضحى. والحديث يدل على عظم فضل صلاة الضحى وكبر موقعها وتأكيد مشروعيتها، وأن ركعتيها تجزئان عن ثلثمائة وستين صدقة، وما كان كذلك فهو حقيق بالمواظبة والمداومة، ويدل أيضا على مشروعية الاستكثار من التسبيح والتحميد والتهليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر أنواع الطاعات والقربات؛ ليسقط بفعل ذلك ما على الإنسان من الصدقات اللازمة في كل يوم.
رواه مسلم.
1320- (4) وعن زيد بن أرقم أنه رأى قوما يصلون من الضحى، فقال: ((لقد علموا أن الصلاة
في غير هذه الساعة أفضل، إن رسول الله ? قال: صلاة الأوابين حين ترمض الفصال ))
(رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والبيهقي (ج3:ص47).

(6/153)


1320- قوله: (رأى قوما يصلون) أي في مسجد قباء، كما في رواية البيهقي. (من الضحى) أي بعد طلوع الشمس وارتفاعها شيئا يسيرا. وفي رواية للبيهقي: رأى نأسا جلوسا إلى قاص، فلما طلعت الشمس ابتدروا السواري يصلون. قال الطيبي: "من" زائدة أي يصلون صلاة الضحى، ويجوز أن تكون تبعيضية، وعليه ينطبق قوله: (لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل) أنكر عليهم إيقاع صلاتهم في بعض وقت الضحى أي أوله ولم يصبروا إلى الوقت المختار، أي كيف يصلون مع علمهم بأن الصلاة في غير هذا الوقت أفضل، ويجوز أن تكون ابتدائية أي صلاة مبتدأة من أول الوقت، ويكون المعنى إنكار إنشاء الصلاة في أول وقت الضحى. (إن رسول الله ?) بكسر الهمزة استئناف بيان، ويجوز فتحها للعله. (قال) وفي رواية: خرج رسول الله ? على أهل قباء، وهم يصلون فقال (صلاة الأوابين) بتشديد الواو جمع أواب، وهو الكثير الرجوع إلى الله تعالى بالتوبة عن الذنوب وبالإخلاص وفعل الخيرات، من آب إذا رجع. (حين ترمض) بفتح التاء الفوقية والميم من باب فرح أي تحترق من الرمضاء، وهو شدة حرارة الأرض من وقوع الشمس على الرمل وغيره، وذلك يكون عند ارتفاع الشمس وتأثيرها الحر. (الفصال) بكسر الفاء جمع الفصيل، ولد الناقة إذا فصل عن أمه، يعني تحترق أخفافها من شدة حر النهار. وقيل: لأن هذا الوقت زمان الإستراحة فإذا تركها ورجع إلى الله تعالى بالاشتغال بالصلاة استحق الثناء الجميل. قال ابن الملك: إنما أضاف الصلاة في ذلك الوقت إلى الأوابين لميل النفس فيه إلى الدعة والاستراحة، فالاشتغال فيه بالصلاة أوب من مراد النفس إلى مرضات الرب. وقال التوربشتي: إنما قال ? هذا القول حين دخل مسجد قباء، ووجد أهل قباء يصلون في ذلك الوقت وإنما مدحهم بصلاتهم في الوقت الموصوف؛ لأنه وقت تركن فيه النفوس إلى الاستراحة ويتهيأ فيه أسباب الخلوة وصرف العناية إلى العبادة، فيرد على قلوب الأوابين من الإنس بذكر الله

(6/154)


وصفاء الوقت ولذاذة المناجاة ما يقطعهم عن كل مطلوب سواه-انتهى. والحديث يدل على أن المستحب فعل الضحى في ذلك الوقت، وقد توهم أن قول زيد بن أرقم أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل يدل على نفي صلاة الضحى، وليس الأمر كذلك بل مراده أن تأخير الضحى إلى ذلك الوقت أفضل. قلت: الأحاديث الواردة في الضحى تتضمن صلاتين: إحداهما ما يفعل بعد طلوع الشمس إذا خرج وقت
رواه مسلم.
?الفصل الثاني?
1321، 1322-(5، 6) عن أبي الدرداء، وأبي ذر قالا: ((قال رسول الله ? عن الله تبارك وتعالى
أنه قال: يا ابن آدم! اركع لي أربع ركعات من أول النهار، أكفك آخره)) رواه الترمذي.
الكراهة، ويسمونها صلاة الاشراق وصلاة الضحوة الصغرى أيضا والأخرى قبيل نصف النهار عند شدة الحر، وتسمى صلاة الضحوة الكبرى، وهذه هي المرادة في هذا الحديث، وجاء في الأحاديث اسم الضحى شاملا لكل من الصلاتين. (رواه مسلم) في باب صلاة الليل. وأخرجه أيضا أحمد والبيهقي (ج3 ص39). وفي الباب عن أبي هريرة مرفوعا قال: لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب. قال: وهي صلاة الأوابين. أخرجه الحاكم (ج1 ص344) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وأخرجه أيضا الطبراني وابن خزيمة في صحيحه.

(6/155)


1321، 1322- قوله: (عن الله) أي ناقلا أو قائلا عن الله (تبارك) أي كثر خيره وبركته. (وتعالى) أي علا مجده وعظمته. وفي بعض نسخ الترمذي عن الله عزوجل. (أنه) بفتح الهمزة. (يا ابن آدم) وفي نسخ الترمذي الموجودة عندنا ابن آدم بدون حرف النداء. (اركع) أي صل (لي) أي خالصا لوجهي. (أربع ركعات من أول النهار) قيل: المراد صلاة الضحى. وقيل: صلاة الإشراق. وقيل: سنة الصبح وفرضه؛ لأنه أول فرض النهار الشرعي. قلت: حمل الترمذي وأبوداود هذه الركعات على صلاة الضحى، ولذا أخرجا هذا الحديث في باب صلاة الضحى. قال العراقي: وهذا الاختلاف ينبني على أن النهار هل هو من طلوع الفجر أو من طلوع الشمس؟ والمشهور الذي يدل عليه كلام جمهور أهل اللغة وعلماء الشريعة أنه من طلوع الفجر، قال: وعلى تقدير أن يكون النهار من طلوع الفجر فلا مانع من أن يراد بهذه الأربع ركعات بعد طلوع الشمس؛ لأن ذلك الوقت ما خرج عن كونه أول النهار، وهذا هو الظاهر من الحديث وعمل الناس، فيكون المراد بهذه الأربع ركعات الضحى- انتهى. وقال القاري: النهار في عرف الشرع من طلوع الصبح إلى المغرب، غايته أنه يطلق على الضحوة وما قبلها أنه أول النهار، فمن تبعيضية في قوله من أول النهار. (أكفك) أي مهماتك. (آخره) أي إلى آخر النهار. قال الطيبي: أي أكفك شغلك وحوائجك وارفع عنك ما تكرهه بعد صلاتك إلى آخر النهار. والمعنى فرغ بالك بعبادتي في أول النهار أفرغ بالك في آخره بقضاء حوائجك. (رواه الترمذي) وقال: حديث حسن غريب. قال المنذري في تلخيص السنن: وفي إسناده إسماعيل بن عياش، وفيه مقال، ومن الأئمة من يصحح حديثه عن الشاميين، وهذا الحديث شامي الإسناد، يعني أن إسماعيل بن عياش روى هذا الحديث
1323-(7) ورواه أبوداود، والدارمي، عن نعيم بن همار الغطفاني، وأحمد عنهم.

(6/156)


1324-(8) وعن بريدة، قال: سمعت رسول الله ? يقول: ((في الإنسان ثلثمائة وستون مفصلا، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منه بصدقة،
عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان، وهما حمصيان شاميان. وقال في الترغيب بعد نقل تحسين الترمذي: في إسناده إسماعيل بن عياش، ولكنه إسناده شامي. ورواه أحمد (ج6 ص440- 451) عن أبي الدرداء وحده ورواته كلهم ثقات.
1323- قوله: (ورواه أبوداود والدارمي) وكذا أحمد (ج5 ص286، 287) والبيهقي (ج3 ص48). (عن نعيم) مصغرا، صحابي، له أحاديث. (بن همار) بفتح الهاء وتشديد الميم وبالراء المهملة. وقد اختلف في اسم والد نعيم هذا، فقيل: هكذا همار. وقيل: هبار بفتح الهاء وتشديد الباء الموحدة. وقيل: هدار بفتح الدال المهملة المشددة وآخره راء. وقيل: همام بميمين الأولى مشددة. وقيل: خمار بفتح الخاء المعجمة وشدة الميم وبالراء. وقيل: حمار بفتح الحاء المهملة وتشديد الميم وآخره راء. وقيل: حمار بكسر الحاء المهملة وخفة الميم. قال الحافظ في التقريب: ورجح الأكثر أن اسم أبيه همار. وقال في التهذيب: وصحح الترمذي وابن أبي داود وأبوالقاسم البغوي وأبوحاتم بن حبان وأبوالحسن الدارقطني وغيرهم: أن اسم أبيه همار. وقال الغلابي عن ابن معين: أهل الشام يقولون نعيم بن همار، وهم أعلم به، يعني لأنه غطفاني شامي. (الغطفاني) منسوب إلى قبيلة غطفان بحركتين. ذكر ابن أبي داود أن نعيم بن همار من غطفان جذام. قال المنذري: حديث نعيم بن همار قد اختلف الرواة فيه اختلافا كثيرا، وقد جمعت طرقه في جزء مفرد- انتهى. (وأحمد عنهم) أي يروي أحمد عن الثلاثة المذكورين من الصحابة، وفيه نظر؛ لأني لم أجده في المسند من رواية أبي ذر، لا في مسند أبي الدرداء ولا في مسند أبي ذر، اللهم أن يكون ذكره في أثناء مسند صحابي آخر، لكن قول المنذري في الترغيب بعد نقل الحديث عن الترمذي من رواية أبي الدرداء وأبي ذر: "ورواه أحمد عن أبي الدرداء وحده" يؤكد أن قول

(6/157)


المصنف "وأحمد عنهم" وهم. والصواب أن يقول: وأحمد عنهما أي عن أبي الدرداء ونعيم بن همار، وفي الباب عن غير واحد من الصحابة، ذكرهم الشوكاني والهيثمي وغيرهما.
1324- قوله: (مفصلا) بفتح الميم وكسر الصاد، كمجلس أحد مفاصل الأعضاء. (فعليه) أي على الإنسان. (أن يتصدق عن كل مفصل منه بصدقة) و"على" هنا لتأكيد ندب التصدق، لا بمعنى الوجوب الشرعي، إذ لم يقل أحد بوجوب ركعتي الضحى وسائر الصدقات المذكورة، وإن كان الشكر على نعم الله تعالى إجمالا
قالوا: ومن يطيق يا نبي الله؟ قال: النخاعة في المسجد تدفنها، والشيء تنحيه عن الطريق، فإن لم تجد، فركعتا الضحى تجزئك)). رواه أبوداود.
1325-(9) وعن أنس، قال: قال رسول الله ?: ((من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له
قصرا من ذهب في الجنة)) رواه الترمذي وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا
نعرفه إلا من هذا الوجه.

(6/158)


وتفصيلا واجبا، قاله القاري: (ومن يطيق ذلك) أي أن يتصدق ثلاث مائة وستين صدقة، فكأنهم حملوا الصدقة على المتعارف من الخيرات المالية، أي لا يطيق كل أحد ذلك؛ لأن أكثر الناس فقراء. ( قال) أي رسول الله ? (النخاعة) بضم النون. قيل: هي النخامة. وقيل: النخاعة هي الخارجة من أسفل الحلق الخارجة من الصدر، كمخرج الحاء. والنخامة هي الخارجة من مخرج الخاء النازلة من الدماغ. (في المسجد) أي النخاعة التي تكون في المسجد. (تدفنها) أي أيها المخاطب خطابا عاما، عدل عن صيغة الجمع لئلا يتوهم الاختصاص بالصحابة أي دفنها صدقة. (والشيء) بالرفع أي المؤذي للمار من شوك أو حجر أو غيرهما. (تنحيه) بالتشديد أي تبعده. (عن الطريق) أي تنحيه ذلك صدقة، وكذا كل معروف صدقة. وقال الطيبي: الظاهر أن يقال من يدفن النخاعة في المسجد، فعدل عنه إلى الخطاب العام اهتماما بشأن هذه الخلال، وأن كل من شأنه أن يخاطب بخطاب ينبغي أن يهتم بها. (فإن لم تجد) أي شيئا مما يطلق عليه اسم الصدقة عرفا أو شرعا يبلغ عدد الثلاث مائة والستين. (فركعتا الضحى) أي صلاته. (تجزئك) أي تكفيك عن جميعها، وأفرد الخبر باعتبار المعنى أي فصلاة الضحى تجزئك. قال المناوي: وخصت الضحى بذلك لتمحضها للشكر؛ لأنها لم تشرع جابرة لغيرها بخلاف الرواتب. (رواه أبوداود) في أواخر الأدب، وسكت عنه وقال المنذري: في إسناده علي بن الحسين بن واقد، وفيه مقال- انتهى. قلت: هو من رجال مقدمة صحيح مسلم، أخرج من طريقه كلام سفيان الثوري في عباد بن كثير، وليس هو من رجال صحيحه. قال أبوحاتم: ضعيف الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات، وكان إسحاق بن راهويه سيء الرأي فيه لعلة الإرجاء، كذا في التهذيب. وقال في التقريب: أنه صدوق يهم. وقال الذهبي: صدوق، فالظاهر أن حديثه حسن. والحديث أخرجه أيضا أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. قال المناوي: في شرح الجامع الصغير:

(6/159)


إسناده حسن.
1325- قوله: (من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة) هذا أكثر ما ورد من قوله في عدد صلاة الضحى. قال العيني وغيره: لم يرد في عدد صلاة الضحى أكثر من ذلك. (رواه الترمذي وابن ماجه) واستغربه الترمذي،
1326-(10) وعن معاذ بن أنس الجهني، قال: قال رسول الله ?: ((من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح، حتى يسبح ركعتي الضحى، لا يقول إلا خيرا، غفر له خطاياه وإن كانت أكثر من زبد البحر)). رواه أبوداود.
?الفصل الثالث?
1327-(11) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ?: ((من حافظ على شفعة الضحى، غفرت له
ذنوبه
كما نقله المصنف، وذكره النووي في الأحاديث الضعيفة، قاله ميرك. وقال الحافظ في الفتح: قال النووي: في شرح المهذب: فيه. (أي في فضل صلاة الضحى ثنتي عشرة ركعة) حديث ضعيف، كأنه يشير إلى حديث أنس. (يعني الذي نحن بصدد شرحه). لكن إذا ضم إليه حديث أبي ذر عند البزار، وحديث أبي الدرداء عند الطبراني. (وفي إسنادهما ضعف) قوى وصلح للاحتجاج به، وقال فيه أيضا: أن حديث أنس ليس في إسناده من أطلق عليه الضعف، وبه يندفع تضعيف النووي له، ولكنه تابعها الحافظ في التلخيص (ص118) حيث قال بعد ذكر الحديث: وإسناده ضعيف.

(6/160)


1326- قوله: (الجهني) بضم الجيم وفتح الهاء، منسوب إلى قبيلة جهنية مصغرا. (من قعد) أي استمر (في مصلاه) من المسجد مشتغلا بذكر الله. (حين ينصرف) أي يفرغ. (حتى يسبح) أي إلى أن يصلي. (ركعتي الضحى) أي بعد طلوع الشمس وارتفاعها. (لا يقول) أي فيما بينهما. (إلا خيرا) يعني يستمر على الذكر في ذلك الوقت ولا يتكلم بسوء. وقال القاري: هو ما يترتب عليه الثواب. واكتفى بالقول عن الفعل. (غفر له خطاياه) أي الصغائر، ويحتمل الكبائر، قاله القاري. (وإن كانت أكثر من زبد البحر) الزبد بفتحتين ما يعلو الماء ونحوه من الرغوة. والحديث من أدلة فضل صلاة الإشراق؛ لأنها أقرب النوافل بعد صلاة الصبح. وقد تقدم أن الضحى يطلق على صلاة الإشراق أيضا. (رواه أبوداود) من طريق زبان بن فائد عن سهل بن معاذ، وقد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري: سهل بن معاذ ضعيف، والراوي عنه زبان بن فائد ضعيف أيضا. وقال العراقي: إسناده ضعيف. وأخرجه البيهقي من طريق أبي داود (ج3 ص49).
1327- قوله: (من حافظ على شفعة الضحى) أي داوم عليها أو أداها على وجهها ولو مرة، والمراد بشفعة الضحى ركعتا الضحى. قال الجزري في النهاية: من الشفع الزوج، ويروى بالفتح والضم، كالغرفة والغرفة،
وإن كانت مثل زبد البحر)). رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه.
1328-(12) وعن عائشة: ((أنها كانت تصلي الضحى ثماني ركعات، ثم تقول: لو نشر لي أبواي ما تركتها))

(6/161)


وإنما سماها شفعة؛ لأنها أكثر من واحدة. قال القتيبي: الشفع الزوج، ولم أسمع به مؤنثا إلا ههنا، وأحسبه ذهب بتأنيثه إلى الفعلة الواحدة أو إلى الصلاة- انتهى. وقال العراقي: المشهور في الرواية ضم الشين. (وإن كانت مثل زبد البحر) ما يعلو على وجهه عند هيجانه، مبالغة في الكثرة. قيل: إنما خص الكثرة بزبد البحر لاشتهاره بالكثرة عند المخاطبين. وقال ابن حجر: عبر هنا بمثل وفيما سبق بأكثر؛ لأن عمل ذلك أشق فكانت الزيادة به أحق. قال القاري: وفيه نظر؛ لأنه لا شبهة أن المواظبة المذكورة أقوى من مجرد القعود المسطور، اللهم إلا أن تكون المداومة فيه أيضا معتبرة، أو يضم إليه أداء الصلاة الفريضة- انتهى. (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه) من طريق نهاس ابن قهم عن شداد أبي عمار عن أبي هريرة، ونهاس ضعيف، وشداد ثقة، وفي سماعه من أبي هريرة خلاف. قال صالح بن محمد: شداد أبوعمار صدوق، لم يسمع من أبي هريرة، ولا من عوف بن مالك، كذا في التهذيب.

(6/162)


1328- قوله: (كانت تصلي الضحى ثماني) بكسر النون وفتح الياء. (ركعات) قال الباجي: يحتمل أنها تفعل ذلك بخبر منقول عن النبي ?، كخبر أم هانئ، ولذا اقتصرت على هذا العدد، ويحتمل أن هذا القدر هو الذي كان يمكنها المداومة عليه، قال: وليست صلاة الضحى من الصلوات المحصورة بالعدد، فلا يزاد عليها ولا ينقص منها، ولكنها من الرغائب التي يفعل الإنسان منها ما أمكنه- انتهى. قال الزرقاني: هذا مختار الباجي، وإلا فالمذهب عندنا أن أكثرها ثمان؛ لأن ذلك أكثر ما ورد من فعله ?- انتهى. وقال السيوطي: وهذا الذي قاله الباجي، هو الصواب المختار، فلم يرد في شيء من الأحاديث ما يدل على حصرها في عدد مخصوص. (ثم تقول) بيانا لشدة الاهتمام وحثا على المحافظة والمداومة. (لو نشر لي) بضم النون وكسر الشين المعجمة أي أحي. (أبواي) أبوبكر وأم رومان. (ما تركتها) أي ما تركت هذه اللذة بتلك اللذة. قال الطيبي: هم من باب التعليق على المحال العادي، ولذلك خصته بقولها: لي أي لو فرض إحياءهما لي لم أتركها فكيف وأن ذلك محال عادة، أي لا أدع هذه اللذة بتلك اللذة. وقال ابن حجر: معناه لو خصصت بإحياء أبوي الذي لا ألذ منه لذات الدنيا. وقيل: لي أتركي لذة فعلها في مقابلة تلك اللذة ما تركت ذلك الإيثار اللذة الأخروية وإن دعا الطبع الجبلي إلى تقديم تلك اللذة الدنيوية، أو المعنى ما تركت هذه الصلاة اشتغالا بالترحيب بهما والقيام بخدمتهما، فهو كناية عن نهاية المواظبة وغاية المحافظة بحيث لا يمنعها قاطع عنها- انتهى. قلت: وفي الموطأ: ما تركتهن أي بضمير الجمع يعني
رواه مالك.
1329-(13) وعن أبي سعيد، قال: ((كان رسول الله ? يصلي الضحى حتى نقول: لا يدعها،
ويدعها حتى نقول: لايصليها)). رواه الترمذي.
1330-(14) وعن مورق العجلي قال: ((قلت لابن عمر: تصلى الضحى؟ قال: لا. قلت: فعمر؟
قال:لا. قلت: فأبو بكر؟ قال: لا. قلت: فالنبي ?؟ قال: لا إخاله)).

(6/163)


هذه الركعات فإن لذتها أكثر من لذة إحيائهما. (رواه مالك) عن زيد بن أسلم عن عائشة أم المؤمنين.
1329- قوله: (حتى نقول) بالنون. (لا يدعها) أي لا يتركها أبدا. (ويدعها) أي أحيانا. (حتى نقول لا يصليها) وفي بعض نسخ الترمذي: لا يصلي بدون الضمير المنصوب وكان ذلك بحسب مقتضى الأوقات من العمل بالرخصة والعزيمة، كما يفعل في صوم النفل. والحديث من أدلة القائلين بأن صلاة الضحى يستحب فعلها تارة وتركها تارة، بحيث لا يواظب عليها بل يصلي أحيانا ويترك أحيانا، كما كان عادته ? من العمل بالرخصة والعزيمة، وسيأتي شيء من الكلام في ذلك في شرح الحديث الآتي. وأما ما روي عنه ? أن صلاة الضحى كانت واجبة عليه، فضعيف. قال الحافظ في الفتح: لم يثبت ذلك في خبر صحيح. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا أحمد (ج3 ص21، 36) ونسبه الحافظ في الفتح للحاكم. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب- انتهى. وفي سنده عطية بن سعيد بن جنادة العوفي الكوفي، وهو صدوق، يخطىء كثيرا، وكان شيعيا مدلسا، قاله الحافظ.

(6/164)


1330- قوله: (وعن مورق) بضم الميم وفتح الواو وتشديد الراء المكسورة، ابن المشمرج بضم الميم وفتح الشين المعجمة وسكون الميم وفتح الراء وبكسرها وبالجيم، يكنى أبا المعتمر البصري، ثقة عابد، من كبار الطبقة الوسطى من التابعين، مات سنة (103) وقيل: (105) وقيل: (108). (العجلي) بكسر العين المهملة وسكون الجيم نسبة إلى عجل قبيلة. (تصلى الضحى) بحذف أداة الاستفهام. وفي البخاري: أتصلي بإثباتها. (قال) ابن عمر. (لا) أصليها قال. (قلت) له. (فعمر) كان يصليها. (قال لا) أي لم يصليها. (قلت فأبو بكر) كان يصليها. (قال: لا) أي لم يصليها، والفاء للترقي من الأدنى إلى الأعلى. (قلت فالنبي ?) كان يصليها. (قال: لا إخاله) برفع اللام وكسر الهمزة في الأشهر الأفصح. وقد تفتح والخاء معجمة أي لا أظنه عليه الصلاة والسلام صلاها، وكان سبب توقف ابن عمر في ذلك أنه بلغه عن غيره أنه صلاها، ولم يثق بذلك عمن ذكره، نعم جاء عنه الجزم بكونها محدثة من رواية سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن مجاهد عنه، وروى البخاري في أول
رواه البخاري.
(39) باب التطوع
?الفصل الأول?
1331-(1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ? لبلال عند صلاة الفجر: ((يا بلال! حدثني
بأرجى عمل عملته

(6/165)


أبواب العمرة من وجه آخر عن مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبدالله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة، وإذا ناس يصلون الضحى فسألناه عن صلاتهم، فقال: بدعة، وروى سعيد بن منصور أن ابن عمر كان لا يصلي الضحى إلا أن يأتي قباء، وهذا يحتمل أن يريد به صلاة تحية المسجد في وقت الضحى لا صلاة الضحى، ويحتمل أن يكون ينويهما معا، كما قيل في ما روى عنه أنه قال: ما صليت الضحى منذ أسلمت إلا أن أطوف البيت، أي فأصلي في ذلك الوقت لا على نية صلاة الضحى بل على نية الطواف، ويحتمل أنه كان ينويهما معا. وفي الجملة ليس في أحاديث ابن عمر هذه ما يدفع مشروعية صلاة الضحى؛ لأن نفيه محمول على عدم رؤيته، لا على عدم الوقوع في نفس الأمر، أو الذي نفاه صفة مخصوصة، كما تقدم نحوه في الكلام على حديث عائشة في الفصل الأول. قال عياض وغيره: إنما أنكر ابن عمر ملازمتها وإظهارها في المساجد وصلاتها جماعة، لا أنها مخالفة للسنة. وقيل: لم يبلغ ابن عمر فعل النبي ? وأمره بذلك. (رواه البخاري) الحديث من إفراد البخاري. قال الحافظ: وليس لمورق المذكور في البخاري عن ابن عمر سوى هذا الحديث- انتهى. وأخرجه أيضا أحمد (ج2 ص23).
(باب التطوع) أي سائر أنواع التطوع من الصلوات الثابتة عن النبي ? من صلاة الوضوء وصلاة الاستخارة والتوبة والحاجة ومنها صلاة التسبيح، مأخوذ من الطوع والطاعة، وهو الانقياد، ويطلق التطوع على كل عبادة نافلة مما لم يفرض ولم يجب فعله على العبد، والمتطوع على كل متنفل بالخير أي الذي يأتي من الأعمال الصالحة زيادة على الفرائض والواجبات، وأكثر إطلاق التطوع في الصلاة على غير سنن الرواتب، وصيغة التفعل للمبالغة من حيث أن العبد يفعله من غير أن يكلفه الشارع بذلك، ويبالغ في الانقياد له بفعله.

(6/166)


1331- قوله: (لبلال) هو ابن رباح المؤذن. (عند صلاة الفجر) أي في الوقت الذي كان ? يقص فيه رؤياه ويعبر ما رآه غيره من أصحابه. قال الحافظ: في قوله عند صلاة الفجر إشارة إلى أن ذلك وقع المنام؛ لأن عادته ? أنه كان يقص ما رآه ويعبر ما رآه أصحابه بعد صلاة الفجر، كما وردت بذلك الأحاديث. (حدثني) أي أخبرني (بأرجى عمل عملته) بلفظ أفعل التفضيل المبني من المفعول، وهو سماعي مثل أشغل وأعذر،
في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة. قال: ما عملت عملا أرجى عندي أني لم أتطهر طهورا في ساعة من ليل ولا نهار،

(6/167)


أي أكثر مشغولية ومعذورية، والعمل ليس براج للثواب، وإنما هو مرجو الثواب، وأضيف إلى العمل؛ لأنه السبب الداعي إليه، والمعنى أخبرني بما أنت أرجى من نفسك به من أعمالك. قال التوربشتي: سأله عن أوثق أعماله وأحقها بالرجاء عنده وأضاف الرجاء إلى العمل؛ لأنه هو السبب الداعي إلى الرجاء، والمعنى أنبئني عن أعمالك بنا أنت أشد رجاء فيه أي يكون رجاءك بثوابه أكثر. (في الإسلام) زاد مسلم في روايته منفعة عندك. (فإني سمعت) أي الليلة، كما في مسلم، وفيه إشارة إلى أن ذلك وقع في المنام، ويدل على ذلك أيضا أن الجنة لا يدخلها أحد أي من غير الأنبياء إلا بعد الموت وإن كان النبي ? يدخلها يقظة كما وقع له في المعراج إلا أن بلالا لم يدخل. وقال التوربشتي: هذا شيء كوشف به ? من عالم الغيب في نومه أو يقظته. وقيل: هذا مبالغة في دخول الجنة، كأنه دخل في حال حياته، قلت: حديث بريدة الآتي في الفصل الثاني ظاهر في كونه رآه دخل الجنة، ويؤيد كونه وقع في المنام ما روى البخاري في أول مناقب عمر من حديث جابر مرفوعا: رأيتني دخلت الجنة فسمعت خشفة، فقيل: هذا بلال ورأيت قصرا بفنائه جارية، فقيل: هذا لعمر- الحديث. وبعده من حديث أبي هريرة مرفوعا: بينا أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب القصر، فقيل: هذا لعمر- الحديث. فعرف أن ذلك وقع في المنام ورؤيا الأنبياء وحي ولذلك جزم النبي ?له بذلك. (دف نعليك) بفتح الدال المهملة والفاء المشددة أي حسيسهما عند المشي فيهما. قال التوربشتي: أراد أخذ من دفيف الطائر إذا أراد النهوض قبل أن يستقل، وأصله ضربه بجناحيه، وفيه وهما جنباه فيسمع لهما حسيس. وقال الخليل: دف الطائر إذا حرك جناحيه، وهو قائم على رجليه. وقال الحميدي: الدف الحركة الخفيفة والسير اللين. والمراد هنا الصوت اللين الملائم الناشيء من السير، ووقع في رواية لمسلم خشف نعليك بفتح الخاء وسكون الشين المعجمتين وتخفيف الفاء. قال

(6/168)


أبوعبيدة وغيره: الخشف الحركة الخفيفة. (بين يدي في الجنة) ظرف للسماع، وتقدم بلال بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام في الجنة على عادته في اليقظة لا يستدعي أفضليته على العشرة المبشرة بالجنة فضلا عن رسول الله ?، بل هو سبق خدمة، كما يسبق العبد سيده، وإنما أخبره عليه السلام بما رآه ليطيب قبله باستحقاقه الجنة ليداوم عليه ولإظهار رغبة السامعين. وفيه إشارة إلى بقاء بلال على ما هو عليه في حال حياته واستمراره على قرب منزلته وذلك منقبة عظيمة لبلال. (ما عملت عملا أرجى عندي أني) بفتح الهمزة. و"من مقدرة قبلها صلة لأفعل التفضيل، وثبتت في رواية مسلم وللكشمهيني أن بنون خفيفة بدل أني. (لم أتطهر طهورا) بضم الطاء زاد مسلم تاما أي لم أتوضأ وضوءا. (في ساعة من ليل ولا نهار) هذا لفظ مسلم، وفي رواية البخاري: في ساعة ليل أو نهار. قال
إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي)). متفق عليه.
1332-(2) وعن جابر، قال: ((كان رسول الله ? يعلمنا الاستخارة في الأمور،

(6/169)


القسطلاني: بغير تنوين ساعة على الإضافة، كما في بعض الأصول المقابل على اليونينية، ورأيته بها كذلك، وفي بعضها ساعة بالتنوين، وجر ليل على البدل، وهو الذي ضبطه به الحافظ ابن حجر والعيني، ولم يتعرض لضبطه البرماوي، كالكرماني، ونكر ساعة لإفادة العموم، فيدل على جواز هذه الصلاة في الأوقات المكروهة، وتعقب بأن الأخذ بعموم هذا ليس بأولى من الأخذ بعموم النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة، وتعقبه ابن التين بأنه ليس فيه ما يقتضي الفورية فيحمل على تأخير الصلاة قليلا ليخرج وقت الكراهة، وأنه كان يؤخر الطهور إلى آخر وقت الكراهة لتقع صلاته في غير وقت الكراهة، ورد بأنه في حديث بريدة عند الترمذي وابن خزيمة في نحو هذه القصة: ما أصابني حدث قط إلا توضأت عندها، ولأحمد من حديثه إلا توضأت وصليت ركعتين، فدل على أن يعقب الحدث بالوضوء والوضوء بالصلاة في أي وقت كان. (إلا صليت) زاد الإسماعيلي لربي. (بذلك الطهور) بضم الطاء. (ما كتب لي أن أصلي) أي ما قدر لي أعم من النوافل والفرائض، وكتب على صيغة المجهول. والجملة في موضع نصب، وأن أصلي في موضع رفع. قال ابن التين: إنما اعتقد بلال ذلك؛ لأنه علم من النبي ? أن الصلاة أفضل الأعمال، وأن عمل السر أفضل من عمل الجهر. قال الحافظ. والذي يظهر أن المراد بالأعمال التي سأله عن أرجاها الأعمال المتطوع بها وإلا فالمفروضة أفضل قطعا- انتهى. والحكمة في فضل الصلاة على هذا الوجه من وجهين: أحدهما أن الصلاة عقب الطهور أقرب إلى اليقين منها إذا تباعدت؛ لكثرة عوارض الحدث من حيث لا يشعر المكلف. ثانيهما: ظهور أثر الطهور باستعماله في استباحة الصلاة وإظهار آثار الأسباب مؤكد لها ومحقق. وفي الحديث فضيلة الصلاة عقب الوضوء، وإنها سنة، وسؤال الشيخ عن عمل تلميذه ليحضه عليه ويرغبه فيه إن كان حسنا وإلا فينهاه. (متفق عليه) أخرجه البخاري في باب فضل الصلاة بعد الوضوء بالليل والنهار قبل أبواب

(6/170)


التطوع، ومسلم في الفضائل واللفظ للبخاري إلا قوله: في ساعة من ليل ولا نهار فإنه لمسلم، ولفظ البخاري: في ساعة ليل أو نهار، وسيأتي في حديث الترمذي أنه ذكر أمورا متعددة غير ذلك، فأما أن يكون ذكر الكل فحفظ بعض الرواة هذا وبعضهم ذاك أو تكون الواقعة مكررة فذكر هذا في مرة وذاك في أخرى.
1332- قوله: (يعلمنا الاستخارة) أي صلاتها ودعاءها، وهو استفعال من الخير ضد الشر، أو من الخيرة بكسر أوله وفتح ثانية بوزن العنبة، اسم من قولك: خار الله له، أي أعطاه ما هو خير له، واستخارا لله، طلب منه الخيرة، والمراد طلب خير الأمرين من الفعل والترك لمن احتاج إلى أحدهما. (في الأمور) أي التي نريد
كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة،

(6/171)


الإقدام عليها مما يعتني بشأنها مثل السفر والنكاح والعمارة ونحوها لا كأكل والشرب المعتاد. ولأبي ذر والأصيلي زيادة: كلها أي جليلها وحقيرها، كثيرها وقليلها، فإن اللفظ يدل على العموم وأن المرء لا يحتقر أمرا لصغره وعدم الاهتمام به، فيترك الاستخارة فيه فرب أمر يستخف بأمره، فيكون في الإقدام عليه ضرر عظيم أو في تركه. قال ابن أبي جمرة: هو عام أريد به الخصوص، فإن الواجب والمستحب لايستخار في فعلهما، والحرام والمكروه لايستخار في تركهما، فانحصرا الأمر في المباح وفي المستحب إذا تعارض منه أمران أيهما يبدأ به ويقتصر عليه. وقال الحافظ: وتدخل الاستخارة فيما عدا ذلك في الواجب والمستحب المخير، وفيما كان زمنه موسعا. (كما يعلمنا السورة من القرآن) أي يعتني بشأن تعليمنا الاستخارة لعظم نفعها وعمومه كما يعتني بتعليمنا السورة، ففيه دليل على الاهتمام بأمر الاستخارة، وأنه متأكد مرغب فيه. قال الطيبي: فيه إشارة إلى الاعتناء التام البالغ بهذا الدعاء وهذه الصلاة لجعلهما تلوين للفريضة والقرآن. (يقول) بيان لقوله: "يعلمنا الاستخارة". (إذا هم أحدكم بالأمر) أي أراده، كما في حديث ابن مسعود عند الطبراني والحاكم. والأمر يعم المباح، وما يكون عبادة إلا أن الاستخارة في العبادة بالنسبة إلى إيقاعها في وقت معين، وإلا فهي خير، ويستثنى ما يتعين إيقاعها في وقت معين، إذ لا يتصور فيه الترك. قال القسطلاني: أي قصد أمرا مما لا يعلم وجه الصواب فيه. أما ما هو معروف خيره كالعبادات وصنائع المعروف فلا، نعم قد يفعل ذلك لأجل وقتها المخصوص كالحج في هذه السنة لاحتمال عدو أو فتنة ونحوهما. (فليركع) أي ليصل في غير وقت الكراهة عند الأكثرين، وهو أمر ندب يدل عليه الأحاديث الدالة على عدم وجوب صلاة زائدة على الخمس من قوله: "هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع"، وغير ذلك. (ركعتين) بنية الاستخارة، وهما أقل ما يحصل به المقصود. وهل يجزيء في ذلك

(6/172)


إذا صلى أربعا بتسليمة؟ يتمل أن يقال يجزيء ذلك لحديث أبي أيوب الأنصاري المروي في صحيح ابن حبان وغيره: "ثم صل ما كتب الله لك"، فهو دال على أن الزيادة على الركعتين لا تضر. (من غير الفريضة) فيه دليل على أنه لا تحصل سنة صلاة الاستخارة بوقوع الدعاء بعد صلاة الفريضة لتقييد ذلك في النص بغير الفريضة. وأما السنن الراتبة وغيرها من النوافل المطلقة فقال العراقي: إن كان همه بالأمر قبل الشروع في الراتبة ونحوها، ثم صلى من غير نية الاستخارة، وبدا له بعد الصلاة الإتيان بدعاء الاستخارة، فالظاهر حصول ذلك- انتهى. والظاهر أنه لا يجزئ ذلك إلا إذا نوى تلك الصلاة بعينها، وصلاة الاستخارة معا. وأفاد النووي أنه يقرأ في الركعتين: ?الكافرون? و?الإخلاص? قال العراقي في شرح الترمذي: لم أقف على دليل ذلك، ولعله ألحقهما بركعتي الفجر والركعتين بعد المغرب، قال: ولهما مناسبة بالحال لما فيهما من الإخلاص والتوحيد، والمستخير محتاج لذلك، قال ومن المناسب أن يقرأ فيهما مثل قوله: ?وربك يخلق ما يشاء
ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم،
فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم إن هذا
الأمر خير لي في ديني، ومعاشي،

(6/173)


ويختار?الآية [28: 68]، وقوله: ?وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة? الآية [33: 36]. (ثم ليقل) ندبا. وهذا ظاهر في تأخير الدعاء عن الصلاة، فلو دعا به في أثناء الصلاة احتمل الإجزاء، كما يشير إليه رواية أبي داود بلفظ: وليقل. (اللهم إني أستخيرك) أي أطلب منك بيان ما هو خير لي. (بعلمك) أي أسألك أن ترشدني إلى الخير فيما أريد بسبب أنك عالما. (واستقدرك) أي أطلب منك أن تجعل لي قدرة عليه، أي تجعلني قادرا عليه إن كان فيه خير. ويحتمل أن يكون المعنى أطلب منك أن تقدره لي، والمراد بالتقدير التيسير. (بقدرتك) الباء فيه وفي قوله: "بعلمك" للتعليل، أي لأنك أعلم وأقدر، أو للاستعانة، كقوله: ?بسم الله مجريها ومرساها? [11: 41] أي أطلب منك الخير والقدرة مستعينا بعلمك وقدرتك، أو للاستعطاف كما في قوله: ?رب بما أنعمت علي? [28: 17] أي بحق علمك وقدرتك الشاملين. (وأسألك من فضلك العظيم) أي أسألك ذلك لأجل فضلك العظيم لا لاستحقاقي لذلك ولا لوجوبه عليك، إذ كل عطائك فضل، ليس لأحد عليك حق في نعمة ولا في شيء، فكل ما تهب فهو زيادة مبتدأة من عندك لم يقابلها منا عوض فيما مضى ولا يقابلها فيما يستقبل. (فإنك تقدر) بالقدرة الكاملة على كل شيء ممكن تعلقت به إرادتك. (ولا أقدر) على شيء إلا بقدرتك وحولك وقوتك. (وتعلم) بالعلم المحيط بجميع الأشياء خيرها وشرها كليها وجزئيها ممكنها وغيرها. (ولا أعلم) شيئا منها إلا بإعلامك. (وأنت علام الغيوب) بضم الغين أي أنت كثير العلم بجميع المغيبات؛ لأنك تعلم السر وأخفى فضلا عن الأمور الحاضرة والأشياء الظاهرة في الدنيا والآخرة. قال الحافظ في قوله: "فإنك تقدر"الخ. إشارة إلى أن العلم والقدرة لله وحده، وليس للعبد من ذلك إلا ما قدر الله له، وكأنه قال أنت يا رب تقدر قبل أن تخلق في القدرة، وعندما تخلقها فتى، وبعد ما تخلقها. (اللهم أن كنت تعلم) الترديد راجع إلى

(6/174)


عدم علم العبد بمتعلق علمه تعالى، إذ يستحيل أن يكون خيرا ولا يعلمه العليم الخبير، وهذا ظاهر. قال الكرماني: الشك في أن العلم متعلق بالخير أو الشر لا في أصل العلم. (إن هذا الأمر) زاد في رواية أبي داود. يسميه بعينه الذي يريد، وظاهرها أن ينطق به. ويحتمل أن يكتفي باستحضاره بقلبه عند الدعاء. وعلى الأول تكون التسمية في أثناء الدعاء عند ذكره بالكناية عنه في قوله: "إن هذا الأمر". (خير لي) أي أمر الذي أريده أصلح لي. (في ديني) أي فيما يتعلق بديني. (ومعاشي) أي حياتي. قال العيني: المعاش والمعيشة واحد يستعملان مصدرا
وعاقبة أمري ـ أو قال: في عاجل أمري وآجله ـ فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي
فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري ـ أو قال:
في عاجل أمري وآجله ـ فاصرفه عني واصرفني عنه،

(6/175)


وأسماء، وفي المحكم: العيش الحياة عاش عيشا وعيشة ومعيشا ومعاشا، ثم قال المعيش والمعاش والعيشة ما يعاش به- انتهى. قال الحافظ: زاد أبوداود: ومعادي، وهو يؤيد أن المراد بالمعاش الحياة. ويحتمل أن يريد بالمعاش ما يعاش فيه، ولذلك وقع في حديث ابن مسعود، في بعض طرقه عند الطبراني في الأوسط: في ديني ودنياي، وفي حديث أبي أيوب عند الطبراني: في دنياي وآخرتي. زاد ابن حبان في روايته: وديني. وفي حديث أبي سعيد عند ابن حبان وأبي يعلي: في ديني ومعيشتي- انتهى. (وعاقبة أمري أو قال في عاجل أمري وآجله) قال الحافظ: هو شك من الراوي، واقتصر في حديث أبي سعيد على عاقبة أمري وكذا في حديث ابن مسعود. وهو يؤيد أحد الاحتمالين في أن العاجل والآجل مذكوران بدل الألفاظ الثلاثة، أو بدل الأخيرين فقط. وعلى هذا فقول الكرماني: لا يكون الداعي جازما بما قال رسول الله ? إلا إن دعا ثلاث مرات: يقول: مرة في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، ومرة في عاجل أمري وآجله، ومرة في ديني وعاجل أمري وآجله. قلت. (قائله الحافظ) ولم يقع ذلك أي الشك في حديث أبي أيوب وأبي هريرة أصلا- انتهى. وقال الطيبي: الظاهر أنه شك أي لا تخيير، كما توهم بعضهم في أن النبي ? قال في عاقبة أمري، أو قال عاجل أمري وآجله، وإليه ذهب القوم حيث قالوا: هي على أربعة أقسام: خير في دينه دون دنياه، وهو مقصود الأبدال، وخير في دنياه فقط، وهو حظ حقير ، وخير في العاجل دون الآجل، وبالعكس، وهو أولى، والجمع. (بين الأربعة) أفضل. ويحتمل أن يكون الشك في أنه عليه السلام قال: في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال بدل الألفاظ الثلاثة في عاجل أمري وآجله، ولفظ في المعادة في قوله: "في عاجل أمري" ربما يؤكد هذا. وعاجل الأمر يشمل الديني، والدنيوي، والآجل يشملهما، والعاقبة كذا في المرقاة. (فاقدره لي) بضم الدال وكسرها، أي اجعله مقدورا لي أي أدخله تحت قدرتي. وقيل: اقض لي به، أو أنجزه لي وهيئه، أو

(6/176)


قدره لي أي يسره، فهو مجاز عن التيسير، فلا ينافي كون التقدير أزليا، ويكون قوله: (ويسره لي) عطفا تفسيريا. (ثم بارك لي فيه) أي أدمه وضاعفه. (وإن كنت تعلم أن هذا الأمر) أي المذكور أو المضمر، فاللام للعهد. (شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري) أي معادي. قال السندي: ينبغي أن يجعل الواو ههنا بمعنى أو بخلاف قوله: "خير لي في كذا وكذا"، فإن هناك على بابها؛ لأن المطلوب حين تيسره أن تكون خيرا من جميع الوجوه. وأما حين الصرف فيكفي أن يكون شرا من بعض الوجوه- انتهى. (فاصرفه عني واصرفني عنه)
واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به، قال: ويسمى حاجته)).

(6/177)


فلا تعلق بالي بطلبه. وفي دعاء بعض العارفين: اللهم لا تتعب بدني في طلب ما لم تقدره لي، ولم يكتف بقوله اصرفه عني؛ لأنه قد يصرف الله عن المستخير ذلك الأمر، ولا يصرف قلبه عنه، بل يبقى متعلقا متطلبا متشوقا إلى حصوله، فلا يطيب له خاطره، فإذا صرف كل منهما عن الآخر كان ذلك أكمل، ولذا قال في آخره: (واقدر لي الخير) أي يسره علي واجعله مقدور الفعل. (حيث كان) أي الخير. وفي حديث أبي سعيد: أينما كان لا حول ولا قوة إلا بالله. (ثم أرضني به) بهمزة قطع أي اجعلني راضيا به؛ لأنه إذا قدر له الخير ولم يرض به، كان منكد العيش آثما بعدم رضاه بما قدره الله له مع كونه خيرا له. وفي رواية: ثم رضني به بالتشديد من الترضية، وهو جعل الشيء راضيا. وأرضيت ورضيت بالتشديد بمعنى. (قال: ويسمى حاجته) أي في أثناء الدعاء عند ذكرها بالكناية عنها في أوله: "إن كنت تعلم أن هذا الأمر". قال الطيبي: "يسمي حاجته" إما حال من فاعل "يقل" أي فليقل هذا مسميا حاجته، أو عطف على "ليقل" على التأويل؛ لأنه أي يسمي في معنى الأمر- انتهى. وفي الحديث دليل لأهل السنة أن الشر من تقدير الله على العبد؛ لأنه لو كان يقدر على اختراعه لقدر على صرفه ولم يحتج إلى طلب صرفه عنه. وفيه شفقة النبي ? على أمته وتعليمهم جميع ما ينفعهم في دينهم ودنياهم. وفيه أن العبد لا يكون قادرا إلا مع الفعل لا قبله والله هو خالق العلم بالشيء للعبد وهمه به واقتداره عليه، فإنه يجب على العبد رد الأمور كلها إلى الله، والتوكل عليه، والتفويض إليه، والتبرئ من الحول والقوة إليه، وأن يسأل ربه وفيه أموره كلها. وفيه استحباب صلاة الاستخارة والدعاء المأثور عقيبها، وليس في ذلك خلاف. واختلف فيماذا يفعل المستخير بعد الاستخارة. فقيل: يفعل ما بدا له ويختار أي جانب شاء من الفعل والترك وإن لم ينشرح صدره لشيء منهما، فإن فيما يفعله يكون خيره ونفعه، فلا يوفق إلا لجانب الخير، وهذا لأنه

(6/178)


ليس في الحديث أن الله ينشئ في قلب المستخير بعد الاستخارة انشراحا لجانب أو ميلا إليه. كما أنه ليس فيه ذكر أن يرى المستخير رؤيا أو يسمع صوتا من هاتف أو يلقى في روعه شيء، بل ربما لا يجد المستخير في نفسه انشراحا بعد تكرار الاستخارة وهذا يقوي أن الأمر ليس موقوفا على الانشراح. وفي الجملة المذكور في الحديث أنما هو أمر للعبد بالدعاء بأن يصرف الله عنه الشر ويقدر له الخير أينما كان، وهذا اختاره ابن عبدالسلام حيث قال: يفعل المستخير ما اتفق، واستدل له بقوله في بعض طرق حديث ابن مسعود في آخره: ثم يعزم، وأول الحديث: إذا أراد أحدكم أمرا فليقل. وقال الشيخ كمال الدين الزملكاني: إذا صلى الإنسان ركعتي الاستخارة لأمر فليفعل بعدها ما بدا له سواء انشرحت نفسه له أم لا، فإن فيه الخير وإن لم تنشرح له نفسه. وليس في الحديث اشتراط انشراح النفس. كذا في طبقات الشافعية (ج5 ص258). وقيل: ينبغي أن يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح له حتى أنه يستحب له
رواه البخاري.

(6/179)


تكرار الصلاة والدعاء في الأمر الواحد إذا لم يظهر له وجه الصواب في الفعل أو الترك ما لم ينشرح صدره لما يفعل، واختاره النووي ومن وافقه، قال النووي في الأذكار (ص93): يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح به صدره، واستدل له بحديث أنس عند ابن السني (ص192): إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى الذي يسبق إلى قلبك، فإن الخير فيه. قال الحافظ: وهذا لو ثبت لكان هو المعتمد، لكن سنده واه جدا- انتهى. وبسط العيني والشوكاني الكلام في بيان وجه ضعف الحديث وسقوطه، قال الشوكاني بعد ذكر كلام النووي: فلا ينبغي أن يعتمد على انشراح كان له فيه هوى قبل الاستخارة، بل ينبغي للمستخير ترك اختياره رأسا، وإلا فلا يكون مستخيرا لله، بل يكون مستخيرا لهواه، وقد يكون غير صادق في طلب الخيرة وفي التبرئ من العلم والقدرة وإثباتهما لله، فإذا صدق في ذلك تبرأ من الحول والقوة ومن اختياره لنفسه- انتهى. قلت: والراجح عندي قول من ذهب إلى أنه يفعل المستخير بعد الاستخارة ما بدا له واتفق، فليس الأمر منوطا عندي على الانشراح أو الرؤيا؛ لأنه ليس في الحديث اشتراط انشراح النفس، ولا ذكر النوم بعد الاستخارة، وإطلاع ما هو خير له في رؤياه، والله أعلم. وارجع إلى زاد المعاد (ج1 ص286)، ومدارج السالكين (ج2 ص68). (رواه البخاري) في أبواب التطوع من الصلاة، وفي الدعوات، وفي التوحيد، وهو من أفراد البخاري. وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وصححه وأبوداود في أواخر الصلاة، والنسائي في النكاح، وابن ماجه في الصلاة، والبيهقي (ج3 ص52). والحديث مع كونه في صحيح البخاري وتصحيح الترمذي وابن حبان له، قد ضعفه أحمد بن حنبل، وقال: إن حديث عبدالرحمن بن أبي الموال يعني الذي أخرجه هؤلاء الجماعة من طريق منكر في الاستخارة، ليس يرويه غيره. وقال ابن عدي في الكامل: والذي أنكر عليه حديث الاستخارة، وقد رواه غير واحد من الصحابة كما رواه ابن أبي الموال- انتهى. قال

(6/180)


العراقي: كان ابن عدي أراد بذلك أن لحديثه هذا شاهدا من حديث غير واحد من الصحابة، فخرج بذلك أن يكون فردا مطلقا، وقد وثقه جمهور أهل العلم- انتهى. وقد جاء من رواية ابن مسعود عند الطبراني والحاكم، وعن أبي أيوب عند الطبراني وابن حبان والحاكم، وعن أبي سعيد عند أبي يعلى وابن حبان، وعن أبي هريرة عند ابن حبان، وعن ابن عباس وابن عمر عند الطبراني، وليس في شيء من هذه الأحاديث ذكر الصلاة سوى حديث جابر إلا أن لفظ أبي أيوب: أكتم الخطبة، وتوضأ فأحسن الوضوء ثم صل ما كتب الله لك- الحديث. فالتقييد بركعتين وبقوله: من غير الفريضة خاص بحديث جابر. وارجع للكلام في هذه الأحاديث إلى مجمع الزوائد (ج2 ص280، 281) والفتح والعيني والنيل.
?الفصل الثاني?
1333-(3) عن علي، قال: حدثني أبوبكر- وصدق أبوبكر- قال: سمعت رسول الله ? يقول: ((ما من رجل يذنب ذنبا، ثم يقوم فيتطهر، ثم يصلي، ثم يستغفر الله، إلا غفر الله له، ثم قرأ: ?والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم?. رواه الترمذي، وابن ماجه،

(6/181)


1333- قوله: (وصدق أبوبكر) جملة معترضة بين بها علي رضي الله عنه جلالة أبي بكر رضي الله عنه، ومبالغة في الصدق حتى سماه رسول الله ? صديقا. (قال) أي أبوبكر. (ما من رجل) أي أو امرأة. و"من" زائدة لزيادة إفادة الاستغراق. (يذنب ذنبا) أي أي ذنب كان صغيرا أو كبيرا. (ثم يقوم) قال الطيبي: "ثم" للتراخي في الرتبة. قال القاري: والأظهر أنه للتراخي الزماني، يعني ولو تأخر القيام بالتوبة عن مباشرة المعصية؛ لأن تعقيب ليس بشرط، فالإتيان بـ"ثم" للرجاء. والمعنى ثم يستيقظ من نوم الغفلة، كقوله تعالى: ?أن تقوموا لله? [34: 46]. (فيتطهر) أي فيتوضأ، كما في رواية ابن السني. وفي رواية أبي داود: فيحسن الطهور. (ثم يصلي) أي ركعتين، كما في رواية ابن السني وابن حبان والبيهقي وأبي داود وابن ماجه. (ثم يستغفر الله) أي لذلك الذنب، كما في رواية ابن السني. والمراد بالاستغفار التوبة بالندامة والإقلاع والعزم على أن لا يعود إليه أبدا. وأن يتدارك الحقوق إن كانت هناك. و"ثم" في الموضعين لمجرد العطف التعقيبي. (ثم قرأ) أي النبي ? استشهادا وإعتضادا، أو قرأ أبوبكر تصديقا وتوفيقا. (والذين) مبتدأ خبره سيأتي ويحتمل وجهين آخرين. (إذا فعلوا فاحشة) أي ذنبا قبيحا كالزنا. (أو ظلموا أنفسهم) أي بما دونه كالقبلة واللمس. قال الطيبي: أي أي ذنب كان مما يؤاخذون به- انتهى. فيكون تعميما بعد تخصيص. (ذكروا الله) أي ذكروا عقابه، قاله الطيبي. وظاهر الحديث أن معناه صلوا، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فالمعنى ذكروا الله بنوع من أنواع الذكر، قاله القاري. (فاستغفروا) أي طلبوا المغفرة مع وجود التوبة والندامة. (لذنوبهم) اللام معدية أو تعليلية. وفي الترمذي إلى آخر الآية بعد قوله ذكروا الله وتمامها: ?ومن يغفر الذنوب إلا الله، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. أولئك جزاءهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها

(6/182)


ونعم أجر العالمين? [3: 135: 136]. والحديث يدل على استحباب الصلاة عند التوبة من الذنب، وتسمى صلاة الاستغفار وصلاة التوبة. (رواه الترمذي) في الصلاة، وفي تفسير سورة آل عمران من طريق قتيبة عن أبي عوانة عن عثمان بن المغيرة عن علي بن ربيعة عن أسماء بن الحكم
إلا أن ابن ماجه لم يذكر الآية.
1334-(4) وعن حذيفة، قال: ((كان النبي ? إذا حزبه أمر صلى)). رواه أبوداود.
الفزاري عن علي، وقال: حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث عثمان بن المغيرة، وروى شعبة وغير واحد فرفعوه مثل أبي عوانة، ورواه سفيان الثوري ومسعر فأوقفاه ولم يرفعاه إلى النبي ? ، وقد روي عن مسعر هذا الحديث مرفوعا أيضا- انتهى. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: وفيه أي في كلام الترمذي نظر فإنه جزم بأن الثوري رواه موقوفا وأن مسعرا رواه موقوفا ومرفوعا، ولكن الحديث رواه أيضا أحمد في مسنده (ج1 ص2). (وكذا ابن ماجه) عن وكيع عن مسعر وسفيان كلاهما عن عثمان بن المغيرة بهذا الإسناد مرفوعا. ورواية شعبة التي أشار إليها رواها عنه أبوداود الطيالسي في مسنده، وهو أول حديث فيه، . (ورواها أيضا ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص117). وهذا الحديث صحيح نسبه المنذري في الترغيب والسيوطي في الدر المنثور (ج2 ص77) لابن حبان والبيهقي، ونسبه السيوطي أيضا لابن أبي شيبة وعبد بن حميد والدارقطني والبزار وغيرهم. وأطال الكلام عليه الحافظ ابن حجر في التهذيب في ترجمة أسماء بن الحكم، وقال: هذا الحديث جيد الإسناد، وذكر أن ابن حبان أخرجه في صحيحه- انتهى. ورواه أبوداود أيضا في سننه من طريق مسدد عن أبي عوانة عن عثمان بنحو ما رواه الترمذي. وكان صاحب المشكاة لم يقف على موضع إيراده في سننه، فترك ذكره في التخريج. (إلا أن ابن ماجه) وضع الظاهر موضع الضمير، وإلا فالظاهر أن يقول إلا أنه. (لم يذكر الآية) وكذا لم يذكرها أحمد في روايته. وعند ابن السني

(6/183)


(ص117) وتلا هذه الآية: ?ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما? [4: 110].
1334- قوله: (إذا حزبه) بحاء مهملة وزاي فموحدة من باب نصر أي أصابه. (أمر) أي شديد. قال في النهاية: أي إذا نزل به أمر مهم أو أصابه غم. وفي بعض النسخ بالنون من الحزن أي أوقعه في الحزن (صلى) أي بادر إلى الصلاة امتثالا لقوله تعالى: ?واستعينوا بالصبر والصلاة? [2: 45] أي بالصبر على البلايا والالتجاء إلى الصلاة، وذلك؛ لأن الصلاة معينة على دفع النوائب. ومنه أخذ بعضهم ندب صلاة المصيبة، وهي ركعتان عقيبها. وكان ابن عباس يفعل ذلك، ويقول نفعل ما أمرنا الله به بقوله: ?واستعينوا بالصبر والصلاة? فينبغي لمن نزل به غم أن يشتغل بالصلاة، فإنه تعالى يفرجه عنه ببركة الصلاة. قال القاري: وهذه الصلاة ينبغي أن تسمى بصلاة الحاجات؛ لأنها غير مقيدة بكيفية من الكيفيات، ولا مختصة بوقت من الأوقات. (رواه أبوداود) في باب وقت قيام النبي ? من الليل، وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: وذكر بعضهم أنه روي مرسلا- انتهى. وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص388) وإسناده صحيح أو حسن.
1335-(5) وعن بريدة، قال: ((أصبح رسول الله ?، فدعا بلالا، فقال: بما سبقتني إلى الجنة؟ ما
دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي. قال: يا رسول الله ! ما أذنت قط إلا صليت
ركعتين، وما أصابني حدث قط إلا توضأت عنده ورأيت أن لله علي ركعتين. فقال رسول
الله?: بهما)).

(6/184)


1335- قوله: (أصبح رسول الله ?) أي ذات يوم. (فدعا بلالا) أي بعد صلاة الصبح كما مر. (بما) وفي المصابيح: بم بإسقاط الألف، وكذا وقع في الترمذي أي بأي شيء. (سبقتني إلى الجنة) قال التوربشتي نرى ذلك- والله أعلم- عبارة عن مسارعة بلال إلى العمل الموجب لتلك الفضيلة قبل ورود الأمر عليه، وقبل بلوغ الندب إليه، وذلك مثل قول القائل لعبده: تسبقني إلى العمل أي تعمل قبل ورود أمري عليك. ومن ذهب في معناه إلى ما يقتضيه ظاهر اللفظ فقد أحال فإن نبي الله? جل قدرة أن يسبقه أحد من الأنبياء إلى الجنة فضلا عن بلال، وهو رجل من أمته، كذا قال. وقد قدمنا أن الواقعة واقعة منام، وأن حديث بريدة هذا ظاهر في كونه ? رأى بلالا دخل الجنة، وأن مشيه بين يدي النبي ? كان من عادته في اليقظة، فاتفق مثله في المنام. ولا يلزم من ذلك دخول بلال الجنة قبل النبي ? ؛ لأنه في مقام التابع والخادم، وكأنه أشار ? إلى بقاء بلال على ما كان عليه في حال حياته واستمراره على قرب منزلته. (ما دخلت الجنة قط) يدل على دخوله ? إياها ورؤيته بلالا كذلك مرات. (إلا سمعت خشخشتك) بمعجمتين مكررتين، وهي حركة لها صوت كصوت السلاح خشخش السلاح أو الحلي خشخشة أي سمع له صوت عند اصطكاكه. (أمامي) أي قدامي. (ما أذنت قط إلا صليت ركعتين) أي قبل الإقامة يعني بين الأذان والإقامة. (وما أصابني حدث) بفتحتين. هو لغة الشيء الحادث نقل إلى ناقضات الوضوء. (إلا توضأت عنده) أي بعد حدوث ذلك الحدث. وفي الترمذي: عندها أي عند إصابة الحدث. (ورأيت) عطف على "توضأت". قال ابن الملك: أي ظننت. وقال ابن حجر: أي اعتقدت. وقال القاري: الأظهر أن يكون من الرأي أي اخترت. (أن لله علي ركعتين) أي شكرا لله تعالى على إزالة الأذية وتوفيق الطهارة. قال الطيبي: كناية عن مواظبته عليهما. (بهما) أي بهما نلت ما نلت أو عليك بهما، قاله الطيبي. ثم الظاهر أن ضمير التثنية راجع إلى القريبين المذكورين،

(6/185)


وهما دوام الطهارة وتمامها بأداء شكر الوضوء، فيوافق الحديث السابق أول الباب. ولا يبعد أن يرجع إلى الصلاة بين كل أذانين، والصلاة بعد كل طهارة، أو إلى الصلاة بين كل الأذانين ومجموع دوام الوضوء وشكره، قاله القاري. وفي الحديث استحباب إدامة الطهارة، ومناسبة المجازاة على ذلك بدخول الجنة؛ لأن من لازم دوام الطهارة أن يبيت المرء طاهرا، ومن بات طاهرا عرجت روحه، فسجدت
رواه الترمذي.
1336-(6) وعن عبدالله بن أبي أوفي، قال: قال رسول الله ? : ((من كانت له حاجة إلى الله أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ فليحسن الوضوء ثم ليصل ركعتين، ثم ليثن على الله تعالى، وليصل على النبي ? ، ثم ليقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين، أسألك موجبات رحمتك،
تحت العرش، كما رواه البيهقي في الشعب من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص، والعرش سقف الجنة. وظاهره أن هذا الثواب وقع بسبب ذلك العمل، ولا معارضة بينه وبين قوله?: لا يدخل أحدكم الجنة عمله؛ لأن أحد الأجوبة المشهورة بالجمع بينه وبين قوله تعالى: ?ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون? [16: 32] أن أصل الدخول إنما يقع برحمة الله، واقتسام الدرجات بحسب الأعمال، فيأتي مثله في هذا. وفيه أن الجنة موجودة الآن خلافا لمن أنكر ذلك من المعتزلة. (رواه الترمذي) أي في مناقب عمر رضي الله عنه مطولا، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وذكره المصنف تبعا للبغوي مقتصرا على ما يناسب الباب، وهو إثبات تطوع تحية الوضوء، وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص354- 360) وابن خزيمة في صحيحه.

(6/186)


1336- قوله: (من كانت له حاجة) دينية أو دنيوية. (فليتوضأ) ظاهره أنه يجدد الوضوء إن كان على وضوء. ويحتمل أن المراد إن لم يكن له وضوء. (فليحسن الوضوء) باستعمال سننه وآدابه. وفي المستدرك: وليحسن وضوءه، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص164). (ثم ليصل ركعتين) وتسمى هذه الصلاة بصلاة الحاجة. (ثم ليثن) من الإثناء. (وليصل على النبي ?) الأصح الأفضل لفظ صلاة التشهد. (لا إله إلا الله الحليم) الذي لا يعجل بالعقوبة. (الكريم) الذي يعطي بغير استحقاق وبدون المنة. (رب العرش العظيم) اختلف في كون العظيم صفة للرب أو العرش، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: لا إله إلا الله رب العرش العظيم. نقل ابن التين عن الداودي أنه رواه برفع العظيم. على أنه نعت للرب، والذي ثبت في رواية الجمهور الجر على أنه نعت للعرش. وكذلك قراءة الجمهور في قوله تعالى: ?رب العرش العظيم? [9: 129) و ?رب العرش الكريم? [23: 116] بالجر. والمعنى المراد في المقام أنه منزه عن العجز. فإن القادر على العرش العظيم. لا يعجز عن إعطاء مسؤل عبده المتوجه إلى ربه الكريم. (والحمد لله) وفي الترمذي وابن ماجه والمستدرك بدون العاطف، وهكذا في جامع الأصول. (موجبات رحمتك) بكسر الجيم أي أسبابها يعني أفعالا وخصالا أو كلمات تتسبب لرحمتك وتقتضيها بوعدك، فإنه لا يجوز التخلف فيه، وإلا فالحق سبحانه لا يجب عليه شيء. وقال الطيبي: جمع موجبة، وهي الكلمة
وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم، لا تدع لي ذنبا إلا غفرته، ولا
هما إلا فرجته، ولا حاجة هي لك رضا إلا قضيتها يا أرحم الراحمين)). رواه الترمذي وابن
ماجه وقال الترمذي: هذا حديث غريب.

(6/187)


الموجبة لقائلها الجنة. (وعزائم مغفرتك) أي موجباتها جمع عزيمة، قاله السيوطي. وقال الطيبي: أي أعمالا وخصالا تتعزم وتتأكد بها مغفرتك. (والغنيمة من كل بر) بكسر الباء أي طاعة وعبادة، فإنهما غنيمة مأخوذة بغلبة دواعي عسكر الروح على جند النفس، فإن الحرب قائم بينهما على الدوام ولهذا يسمى الجهاد الأكبر؛ لأن أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك، قاله القاري. (والسلامة من كل إثم) وعند الحاكم: والعصمة من كل ذنب والسلامة من كل إثم، وأسقط قوله "غنيمة من كل بر". قال العراقي: فيه جواز سؤال العصمة من كل الذنوب، وقد أنكر بعضهم جواز ذلك إذ العصمة إنما هي للأنبياء والملائكة، قال: والجواب أنها في حق الأنبياء والملائكة واجبة، وفي حق غيرهم جائزة، وسؤال الجائز جائز إلا أن الأدب سؤال الحفظ في حقنا لا العصمة، وقد يكون هذا هو المراد هنا- انتهى. (لا تدع) بفتح الدال وسكون العين أي لا تترك. (إلا غفرته) أي إلا موصوفا بوصف الغفران، فالاستثناء فيه وفيما يليه مفرغ من أعم الأحوال. (ولا هما) أي غما. (فرجته) بالتشديد ويخفف أي أزلته وكشفته. (ولا حاجة هي لك رضا) أي مرضية لك. والحديث يدل على مشروعية الصلاة عند الحاجة أي حاجة كانت بشرط أن تكون مباحة. (رواه الترمذي وابن ماجه) كلاهما من رواية فائد بن عبدالرحمن بن أبي الورقاء، وزاد ابن ماجه بعد قوله "قضيتها" ثم يسأل الله من أمر الدنيا والآخرة ما شاء، فإنه يقدر. وأخرجه الحاكم في المستدرك (ج1 ص320) باختصاره، ثم قال: إنما أخرجته شاهدا، وفائد مستقيم الحديث. وتعقبه الذهبي بأنه متروك، فالحديث ضعيف. قال الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص138): وأخرج ابن النجار في تاريخ بغداد عن غير فائد. قال ابن حجر (العسقلاني) في أمالية: والحديث له شاهد من حديث أنس، وسنده ضعيف. وأخرجه أيضا الأصبهاني من حديث أنس فذكر لفظه، قال: وأخرجه الطبراني، وفي إسناده أبومعمر عباد بن عبدالصمد ضعيف جدا،

(6/188)


وأخرج لهذا الحديث في مسند الفردوس طريقا أخرى من حديث أنس، وفي إسناده أبوهاشم، واسمه عبدالرحمن، وهو ضعيف، وأخرجه أحمد بإسناد صحيح عن أبي الدرداء مختصرا قال: سمعت رسول الله ? يقول من توضأ فأسبغ الوضوء ثم صلى ركعتين يتمهما أعطاه الله عزوجل ما سأل معجلا أو مؤخرا. قال الشوكاني: وذكرت ما قيل فيه أي في حديث ابن أبي أوفي الذي نحن بصدد شرحه بأطول من هذا في الفوائد المجموعة (ص16)، استدركت على من قال: إنه موضوع. والحاصل أن جميع طرق أحاديث هذه الصلاة لا تخلو عن ضعف إلا حديث أبي الدرداء، وبعده حديث ابن أبي أوفي.
(40) باب صلاة التسبيح
1337-(1) عن ابن عباس، أن النبي ? قال للعباس بن عبدالمطلب: ((يا عباس! يا عماه! ألا أعطيك؟ ألا أمنحك؟ ألا أحبوك؟ ألا أفعل بك؟ عشر خصال إذا أنت فعلت ذلك، غفر الله لك ذنبك أوله وآخره، قديمه وحديثه، خطأه
(باب صلاة التسبيح) أي هذا بيانها وسميت بذلك لكثرة ما يقرأ فيها من التسبيحات.

(6/189)


1337- قوله: (يا عماه) بسكون الهاء إشارة إلى مزيد استحقاقه بالعطية الآتية، وهو منادى مضاف إلى ياء المتكلم قلبت ياءه الفاء، وألحقت بها هاء السكت كيا غلاماه. (ألا) الهمزة للاستفهام. (أعطيك) بضم همزة وكسر طاء من الإطاء أي عطية رفيعة. (ألا أمنحك) بفتح همزة ونون أي أعطيك منحة سنية، وأصل المنح أن يعطي الرجل الرجل شأة أو ناقة ليشرب لبنها ثم يردها إذا ذهب درها، هذا أصله ثم كثر استعماله حتى قيل في كل عطاء. (ألا أحبوك) بفتح همزة وسكون حاء مهملة وضم موحدة، من حباه كذا وبكذا إذا أعطاه والحباء العطية فهما تأكيد بعد تأكيد، وكذا أفعل بك فإنه بمعنى أعطيك أو أعلمك. (ألا أفعل بك) بالباء موافقا لما في أبي داود ووقع عند ابن ماجه باللام. (عشر خصال) منصوب تنازعت فيه الأفعال قبله. وقيل: بالرفع على تقدير هي. والمراد بعشر خصال الأنواع العشرة للذنوب المعدودة بقوله: أوله وآخره إلى قوله: سره وعلانيته، أي فهو على حذف المضاف أي ألا أعطيك مكفر عشرة أنواع ذنوبك، أو المراد التسبيحات، فإنهما فيما سوى القيام عشر عشر، وعلى هذا يراد الصلاة المشتملة على التسبيحات العشر بالنظر إلى غالب الأركان. وأما جملة: (إذا أنت فعلت ذلك) الخ فهي في محل النصب على أنها نعت للمضاف المقدر على الأول، أو لنفس عشر خصال على الثاني، وعلى الثاني لا يكون إلا نعتا مخصصا باعتبار أن المكفر يحتمل أن يكون علمه مكفرا، فبين بالنعت أن يكون عمله مكفرا لا علمه. (غفر الله لك ذنبك) أي ذنوبك بقرينة قوله أوله الخ على وجه الأبدال أو على وجه التفسير. (أوله وآخره) بالنصب قال التوربشتي: أي مبدأه ومنتهاه. وذلك أن من الذنب ما لا يواقعه الإنسان دفعة واحدة، وإنما يتأتى منه شيئا فشيئا، ويحتمل أن يكون معناه ما تقدم من ذنبه وما تأخر. (وحديثه) أي جديده. (وخطأه) بفتحتين وهمزة. قيل: يشكل بأن الخطأ لا إثم فيه لقوله عليه الصلاة والسلام: إن الله تجاوز عن أمتي

(6/190)


الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه، فكيف يجعل من الذنب؟ وأجيب بأن المراد بالذنب ما فيه نقص وإن لم يكن فيه إثم. ويؤيده قوله تعالى: ?ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا? [2: 286] ويحتمل أن يراد مغفرة ما يترتب على الخطأ من نحو الإتلاف من ثبوت بدلها في
وعمده، صغيره وكبيره، سره وعلانيته: أن تصلي أربع ركعات، تقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة وأنت قائم. قلت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، خمس عشرة مرة،

(6/191)


الذمة ومعنى المغفرة حينئذ إرضاء الخصوم وفك النفس عن مقامها الكريم، المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام: نفس المؤمن مرهونة حتى يقضي عنه دينه ، كذا في المرقاة (وعمده) بفتح أوله وسكون ثانيه ضد الخطأ (صغيره وكبيره) قيل: المراد بالكبير ما هو من أفراد الصغائر، فإن الصغائر متفاوتة بعضها أكبر من بعض، والكبائر لا تغفر إلا بالتوبة. (سره وعلانيته) بفتح الياء المخففة والضمير في هذه كلها عائد إلى قوله: "ذنبك" فإن قلت أوله وآخره يندرج تحته ما يليه، وكذا باقيه فما الحاجة إلى تعدد أنواع الذنوب؟ قلت ذكره قطعا لوهم أن ذلك الأول والآخر ربما يكون عمدا أو خطأ. وعلى هذا في أقرانه وأيضا في التنصيص على الأقسام حث للمخاطب على المحثوث عليه بأبلغ الوجوه، ذكره القاري نقلا عن الأزهار. وسقط من المشكاة كالمصابيح هنا لفظ "عشر خصال وهو موجود في الأصول. (أن تصلي) خبر مبتدأ محذوف، والمقدر عائد إلى ذلك أي هو يعني المأمور به أن تصلي. وقيل: التقدير هي، وهي راجعة إلى الخصال العشر. وأما على ما في الأصول من وجود لفظ عشر خصال قبل قوله: أن تصلي" فيقال إن قوله: "عشر خصال" على الأول. (أي على حذف المضاف، وهو المكفر من قوله عشر خصال في الموضع الأول) بالرفع بتقدير مبتدأ أي هي أي أنواع الذنوب عشر خصال أو بالنصب على أنه بدل من مجموع أوله وآخره الخ، وعلى الثاني. (أي على كون المراد من الخصال العشر الصلاة المشتملة على التسبيحات العشر) مبتدأ وما بعده خبره، أو خبر مقدم وما بعده مبتدأ لئلا يلزم تنكير المبتدأ مع تعريف الخبر. (أربع ركعات) قيل: أي بتسليمة واحدة على ما هو الظاهر من الإطلاق ليلا كان أو نهارا. وقيل: يصلي في النهار بتسليمة، وفي الليل بتسليمتين. وقيل: يصلي مرة بتسليمة وأخرى بتسليمتين. واعلم أن الأولى أن يصلي صلاة التسبيح بعد زوال الشمس قبل صلاة الظهر لما روى أبوداود في سننه من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص

(6/192)


مرفوعا: إذ زال النهار فقم فصل أربع ركعات- الحديث. وقد سكت عنه أبوداود والمنذري. (وسورة) قيل يقرأ فيها تارة بـ?الزلزلة? و ?العاديات? و ?الفتح? و(الإخلاص)، وتارة بـ?ألهاكم التكاثر? و?العصر? و ?الكافرون? و (الإخلاص) وقيل: الأفضل أن يقرأ أربعا من المسبحات. ?الحديد? و?الحشر? و?الصف? و?التغابن? لمناسبة بينها وبين كل الصلاة، لكن لم أقف على ما يدل على شيء من ذلك من سنة ولا أثر. (في أول ركعة) أي قبل الركوع. (خمس عشرة مرة) فيه أن التسبيح بعد القراءة، وبه أخذ أكثر الأئمة. وأما ما كان يفعله عبدالله بن المبارك من جعله الخمس عشرة قبل
ثم تركع، فتقولها وأنت راكع عشرا، ثم ترفع رأسك من الركوع، فتقولها عشرا، ثم تهوي ساجدا، فتقولها وأنت ساجد عشرا، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشرا، ثم تسجد فتقولها عشرا، ثم ترفع رأسك فتقولها عشرا، فذلك خمس وسبعون في كل ركعة، تفعل ذلك في أربع ركعات، إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل، فإن لم تفعل، ففي كل جمة مرة، فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة، فإن لم تفعل ففي عمرك مرة)) رواه أبوداود، وابن ماجه، والبيهقي في الدعوات الكبير.

(6/193)


القراءة وبعد القراءة عشرا، ولا يسبح في الاعتدال فهو مخالف لهذا الحديث. قال المنذري: إن جمهور الرواة على الصفة المذكورة في حديث ابن عباس وأبي رافع والعمل بها أولى، إذ لا يصح رفع غيرها-انتهى. قال الشيخ: الأمر كما قال المنذري. (ثم تركع فتقولها وأنت راكع عشرا) أي بعد تسبيح الركوع كذا في شرح السنة، وقد روى الترمذي عن ابن المبارك أنه قال: يبدأ في الركوع بسبحان ربي العظيم، وفي السجود بسبحان ربي الأعلى ثلاثا، ثم يسبح التسبيحات. وقيل: له إن سها فيها أ يسبح في سجدتي السهو عشرا عشرا؟ قال لا، إنما هي ثلاثمائة تسبيحة. (ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشرا) أي بعد التسميع والتحميد. (ثم تهوي) أي تنخفض وتنحط حال كونك. (ساجدا) أي مريدا للسجود من هوى بالفتح يهوي بالكسر الشيء إذا سقط من علو إلى سفل. (فتقولها وأنت ساجد عشرا) أي بعد تسبيح السجود. (ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشرا) أي بعد رب اغفرلي ونحوه. (ثم تسجد) ثانيا. (ثم ترفع رأسك) أي من السجدة الثانية. (فتقولها عشرا) أي قبل أن تقوم على ما في حديث أبي رافع عند الترمذي وابن ماجه. ففيه ثبوت جلسة الاستراحة في صلاة التسبيح، وهو المختار عند الشافعية وأهل الحديث خلافا للحنفية. (فذلك) أي مجموع ما ذكر من التسبيحات. (خمس وسبعون) أي مرة، كما في رواية البيهقي. (في كل ركعة) أي ثابتة فيها. (تفعل ذلك) أي ما ذكر في هذه الركعة. ( في أربع ركعات) أي في مجموعها بلا مخالفة بين الأولى والثلاث فتصير ثلاثمائة تسبيحة. (إن استطعت) استئناف أي إن قدرت. (أن تصليها) أي هذه الصلاة. (فإن لم تفعل) أي في كل يوم لعدم القدرة أو مع وجودها لعائق. (ففي كل جمعة) أي في كل أسبوع. (مرة) وفي التعبير بها إشارة إلى أنها أفضل أيام الأسبوع. (ففي عمرك) بضم الميم وتسكن. (رواه أبوداود وابن ماجه والبيهقي في الدعوات الكبير) أي عن ابن عباس، وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان في

(6/194)


صحيحيهما، والحاكم في المستدرك (ج1:ص318-320) والبيهقي في السنن الكبرى (ج3:ص51-52)، والبخاري في جزء القراءة كلهم من طريق عكرمة عن ابن عباس، وإسناده حسن. وفي الباب عن جماعة من الصحابة: الفضل بن عباس، وأبيه العباس، وعبدالله بن عمرو، وعبدالله بن عمر، وعلي بن أبي طالب، وأخيه جعفر، وابنه عبدالله بن
جعفر، وأبي رافع، وأم سلمة، والأنصاري غير مسمى. وقد قيل: إنه جابر بن عبدالله. وقد ساق الحافظ في أمالي الأذكار تخريج أحاديث هؤلاء الصحابة جميعا. ونقلها السيوطي في تعقباته على ابن الجوزي (ص16، 17) واللآتي المصنوعة (ج2:ص20-24) من أحب الوقوف عليها رجع إلى هذين الكتابين. واعلم أنه اختلف كلام العلماء في حديث صلاة التسبيح، فضعفه جماعة، منهم العقيلي وابن العربي والنووي في شرح المهذب، وابن تيمية وابن عبدالهادي والمزي والحافظ في التلخيص، وبالغ ابن الجوزي فأورده في الموضوعات، وقال: فيه موسى بن عبدالعزيز مجهول. وصححه أو حسنه جماعة منهم أبوبكر الآجري وأبومحمد عبدالرحيم المصري والحافظ أبوالحسن المقدسي وأبوداود صاحب السنن ومسلم صاحب الصحيح والحافظ صلاح الدين العلائي والخطيب وابن الصلاح والسبكي وسراج الدين البلقيني وابن مندة والحاكم والمنذري وأبوموسى المديني والزركشي والنووي في تهذيب الأسماء واللغات، وأبوسعد السمعاني والحافظ في الخصال المكفرة، وفي أمالي الأذكار، وأبومنصور الديلمي والبيهقي والدارقطني وآخرون. والحق عندي أن حديث ابن عباس ليس بضعيف فضلا عن أن يكون موضوعا أو كذبا، بل هو حسن لا شك في ذلك عندي، فسنده لا ينحط عن درجة الحسن، بل لا يبعد أن يقال إنه صحيح لغيره لما ورد من شواهده، وبعضها لا بأس بإسناده، كما ستعرف. وقد أكثر الحفاظ من الرد على ابن الجوزي بذكره حديث ابن عباس في الموضوع. وأما ما قال الحافظ في التلخيص: "والحق أن طرقه كلها ضعيفة وإن كان حديث ابن عباس يقرب من شرط الحسن إلا أنه شاذ

(6/195)


لشدة الفردية فيه وعدم المتابع والشاهد من وجه معتبر، ومخالفة هيئتها لهيئة باقي الصلوات. وموسى بن عبدالعزيز وإن كان صادقا صالحا، فلا يحتمل منه هذا التفرد، فجوابه ظاهر من كلامه في الخصال المكفرة حيث قال: رجال إسناد حديث ابن عباس لا بأس بهم، عكرمة احتج به البخاري والحكم بن أبان صدوق، وموسى بن عبدالعزيز قال ابن معين: لا أرى فيه بأسا. وقال النسائي نحو ذلك. وقال ابن المديني: فهذا الإسناد من شرط الحسن، فإن له شواهد تقويه، وقد أساء ابن الجوزي بذكره في الموضوعات. وقوله: إن موسى مجهول، لم يصب فيه؛ لأن من يوثقه ابن معين والنسائي فلا يضره أن يجهل حاله من جاء بعدهما. وشاهده ما رواه الدارقطني من حديث العباس والترمذي وابن ماجه من حديث أبي رافع. ورواه أبوداود من حديث ابن عمرو بإسناد لا بأس به. ورواه الحاكم من طريق ابن عمرو له طرق أخرى-انتهى. وقال في أمالي الأذكار بعد ذكر من روى حديث صلاة التسبيح من الصحابة: أما حديث ابن عباس فأخرجه أبوداود وابن ماجه والحسن بن علي المعمري في كتاب اليوم والليلة عن عبدالرحمن بن بشر بن الحكم عن موسى بن عبدالعزيز عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس، وهذا إسناد حسن، وقال بعد بسط الكلام في سند حديث الأنصاري الذي لم يسم عند أبي داود: فسند الحديث
1338- (2) وروى الترمذي عن أبي رافع نحوه.
1339- (3) وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ? يقول: ((إن أول ما يحاسب به العبد يوم
القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح،

(6/196)


لا ينحط عن درجة الحسن، فكيف إذا ضم إلى رواية أبي الجوزاء عن عبدالله بن عمرو التي أخرجها أبوداود، وقد حسنها المنذري. ثم ذكر جماعة ممن صحح حديث ابن عباس أو حسنه، ومن شاء الإطلاع على تمام كلامه فليرجع إلى اللآلي المصنوعة. وأما مخالفة هيئة صلاة التسبيح لهيئة باقي الصلوات فلا يدل على ضعف الحديث وشذوذه بعد ما صح وثبت بطرق قوية، كذا أفاد شيخنا في شرح الترمذي.
1338- قوله: (وروى الترمذي) وكذا ابن ماجه والدارقطني. (عن أبي رافع نحوه) قال الترمذي: هذا حديث غريب من حديث أبي رافع. قال السيوطي في قوت المغتذي: بالغ ابن الجوزي، فأورد هذا الحديث في الموضوعات، وأعله بموسى بن عبيدة الربذي، وليس كما قال، فإن الحديث وإن كان ضعيفا، لم ينته إلى درجة الوضع. وموسى ضعفوه، وقال فيه ابن سعد: ثقة وليس بحجة. وقال يعقوب بن شيبة: صدوق ضعيف الحديث جدا. وشيخه سعيد بن أبي سعيد له عند المصنف أي الترمذي إلا هذا الحديث، وقد ذكره ابن حبان في الثقات. وقال الذهبي في الميزان: ما روى عنه إلا موسى بن عبيدة-انتهى ما في قوت المغتذي. ونقل السيوطي في التعقبات عن الحافظ أنه قال: وقول ابن الجوزي: إن موسى بن عبيدة علة الحديث، مردود، فإنه ليس بكذاب مع ماله من الشواهد فذكرها.

(6/197)


1339- قوله: (إن أول ما يحاسب به العبد) بالرفع على نيابة الفاعل. (يوم القيامة من عمله صلاته) أي المفروضة. قال العراقي في شرح الترمذي: لا تعارض بينه وبين الحديث الصحيح إن أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء، فحديث الباب محمول على حق الله تعالى، وحديث الصحيح محمول على حقوق الآدميين فيما بينهم. فإن قيل: فأينما يقدم محاسبة العباد على حق الله تعالى، أو محاسبتهم على حقوقهم؟ فالجواب أن هذا أمر توقيفي، وظواهر الأحاديث دالة على أن الذي يقع أولا المحاسبة على حقوق الله تعالى قبل حقوق العباد-انتهى. وقيل: حديث الباب من ترك العبادات، وحديث الصحيح من فعل السيئات. وقيل: المحاسبة غير القضاء، فيكون المحاسبة أولا في الصلاة ويكون القضاء أولا في الدماء. وقيل: حديث الباب مضطرب الإسناد، كما يظهر من كلام الحافظ في ترجمة أنس بن حكيم الضبي من التهذيب، فلا يقاوم حديث الصحيح. (فإن صلحت) بضم اللام وفتحها. قال ابن الملك: صلاحها بأدائها صحيحة-انتهى. أو بوقوعها مقبولة. (فقد أفلح وأنجح) الفلاح الفوز
وإن فسدت وقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضة شيء، قال الرب تبارك وتعالى: أنظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك)). وفي رواية:

(6/198)


والظفر والإنجاح بتقديم الجيم على الحاء، يقال: أنجح فلان إذا أصاب مطلوبه. قال القاري: "فقد أفلح" أي فاز بمقصوده، "وأنجح" أي ظفر بمطلوبه، فيكون فيه تأكيدا وفاز بمعنى خلص من العقاب، وأنجح أي حصل له الثواب. (وإن فسدت) بأن لم تود أو أديت غير صحيحة أو غير مقبولة. (فقد خاب) بحرمان المثوبة. (وخسر) بوقوع العقوبة. وقيل: معنى "خاب" ندم وخسر أي صار محروما من الفوز والخلاص قبل العذاب. (فإن انتقص) بمعنى نقص اللازم. (من فريضته شيء) أي من الفرائض وفي بعض نسخ الترمذي: شيئا وفعلا نقص وانتقص بمعنى، ويستعملان لازمين ومتعديين. (انظروا) يا ملائكتي. (هل لعبدي من تطوع) أي في صحيفته سنة أو نافلة من صلاة على ما هو ظاهر من السياق قبل الفرض أو بعده أو مطلقا. (فيكمل) بالتشديد ويخفف على بناء الفاعل أو المفعول وهو الأظهر، وبالنصب، ويرفع على الاستئناف. (بها) قال ابن الملك: أي بالتطوع، وتأنيث الضمير باعتبار النافلة. قال الطيبي: الظاهر نصب "فيكمل" على أنه من كلام الله تعالى جوابا للاستفهام. ويؤيده رواية أحمد: فكملوا بها فريضته، وإنما أنث ضمير التطوع في "بها" نظرا إلى الصلاة. (ما انتقص من الفريضة) ضمير "انتقص" راجع إلى الموصول على أنه لازم، أو إلى العبد، فيكون متعديا أي ما نقصه العبد من الفريضة. وظاهر الحديث أن من فاتته الصلاة المفروضة، وصلى تطوعا يحسب عنه التطوع موضع الفريضة. وقيل: بل ما نقص من خشوع الفريضة ورواتها يجبر بالتطوع. ورد بأن قوله: "ثم يكون سائر عمله على ذلك" لا يناسبه، إذ ليس في الزكاة إلا فرض أو فضل، فكما تكمل فرض الزكاة بفضلها كذلك في الصلاة، وفضل الله أوسع. قال العراقي في شرح الترمذي: يحتمل أن يراد به ما انتقصه من السنن والهيئات المشروعية فيها من الخشوع والأذكار والأدعية، وإنه يحصل له ثواب ذلك في الفريضة وإن لم يفعله فيها، وإنما فعله في التطوع. ويحتمل أن يراد به ما انتقص أيضا من

(6/199)


فروضها وشروطها. ويحتمل أن يراد ما ترك من الفرائض رأسا فلم يصله، فيعوض عنه من التطوع، والله تعالى يقبل من التطوعات الصحيحة عوضا عن الصلوات المفروضة-انتهى. وقال ابن العربي: الأظهر عندي أنه يكمل بفضل التطوع ما نقص من فرض الصلاة وإعدادها؛ لقوله ثم الزكاة كذلك وسائر الأعمال، وليس في الزكاة إلا فرض أو فضل، فكما يكمل فرض الزكاة بفضلها كذلك الصلاة، وفضل الله أوسع، وكرمه أعم وأتم. (ثم يكون سائر عمله) من الصوم والزكاة وغيرهما. (على ذلك) أي إن انتقص فريضة من سائر الأعمال المفروضة تكمل بالتطوع. (وفي رواية) ظاهره أن الألفاظ الآتية في طريق من طرق حديث أبي هريرة، وليس كذلك، فإن هذه
ثم الزكاة مثل ذلك، ثم الزكاة مثل ذلك، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك)) رواه أبوداود.
1340- (4) ورواه أحمد عن رجل.

(6/200)


الألفاظ إنما هي في حديث تميم الداري عند أبي داود (ثم الزكاة مثل ذلك) أي مثل ما في الصلاة. (ثم تؤخذ الأعمال) أي المفروضة، ففي حديث أبي هريرة عند ابن ماجه: ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك. (على حسب ذلك) أي على حسب ذلك المثال المذكور في الصلاة من تكميل الفريضة بالتطوع. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد (ج2 ص290، 425) والترمذي وابن ماجه والحاكم (ج1 ص262) كلهم من حديث أبي هريرة. واللفظ المذكور للترمذي لا لأبي داود إلا قوله: "ثم الزكاة" الخ فإنه من حديث تميم الداري عند أبي داود. ففي قول المصنف: رواه أبوداود، تسامح ظاهر، إلا أن يقال إنه أراد أصل الحديث لا السياق المذكور بعينه. والحديث سكت عنه أبوداود والمنذري، وحسنه الترمذي وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وما ذكر من الاضطراب في سنده فيمكن أن يدفع بما قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: لعل الحسن البصري سمعه من ناس متعددين: حريث بن قتيبة (عند الترمذي) وأنس بن حكيم (عند أحمد وأبي داود والحاكم) ورجل من بني سليط (عند أحمد (ج4 ص103) وأبي داود وابن ماجه والحاكم) أو يكون هذا الرجل المبهم أحدهما، وليس هذا اضطرابا فيه يوجب ضعفه، بل هي طرق يؤيد بعضها بعضا. ورواه أحمد. (وابن ماجه أيضا) بإسناد آخر (ج2 ص290) عن يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين الواسطي عن علي بن زيد بن جدعان عن أنس بن حكيم الضبي قال: قال لي أبوهريرة، فذكر الحديث بتمامه، وقال: وهذا إسناد صحيح، وعلى زيد بن جدعان ثقة- انتهى. قلت: علي بن زيد هذا ضعفه الأكثرون، ولعله لسوء حفظه واختلاطه، قيل: وكان يتشيع. ووثقه يعقوب بن شيبة. وقال العجلي: كان يتشيع لا بأس به. وقال الساجي: كان من أهل الصدق. ويحتمل لرواية الجلة عنه، وليس يجري مجرى من أجمع على ثبته. وقال الترمذي: صدوق إلا أنه ربما رفع الشيء الذي يوقفه غيره، كذا في التهذيب، وحديث تميم الداري أخرجه أحمد (ج4 ص103) وأبوداود وابن

(6/201)


ماجه والحاكم (ج1 ص262، 263).
1340- قوله: (ورواه أحمد عن رجل) (ج4 ص103) قال: حدثنا الحسن بن موسى قال: حدثنا حماد بن سلمة عن الأزرق بن قيس عن يحيى بن يعمر عن رجل من أصحاب النبي ? ، قال: قال رسول الله ? : أول ما يحاسب به العبد الخ. وأخرجه أيضا الحاكم (ج1 ص263) من طريق الربيع بن يحيى عن حماد بن سلمة، وذكر الاختلاف فيه على حماد بن سلمة، وأشار إلى تقوية رواية حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند عن زرارة بن أوفي عن تميم الداري.
1341-(5) وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله ?: ((ما أذن الله لعبد في شيء أفضل من الركعتين يصليهما، وإن البر ليذر على رأس العبد ما دام في صلاته، وما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه، يعني القرآن)). رواه أحمد والترمذي.

(6/202)


1341- قوله: (ما أذن الله) أي ما استمع، في القاموس: أذن له وإليه كفرح استمع معجبا أو عام. والمراد هنا الإقبال من الله بالرأفة والرحمة على العبد. وذلك أن العبد إذا كان في الصلاة، وقد فرغ من الشواغل متوجها إلى مولاه، مناجيا بقلبه ولسانه، فالله سبحانه أيضا يقبل عليه بلطفه وإحسانه إقبالا لا يقبل في غيره من العبادات. ولعله ذكر الاستماع، وإن كانت الصلاة من جملة الأفعال لكونها مشتملة على الكلام من القرآن والتسبيحات والتكبيرات. (لعبد في شيء) أي في شيء من العبادات. (أفضل من الركعتين) في مسند الإمام أحمد والجامع للترمذي والجامع الصغير للسيوطي والترغيب للمنذري من ركعتين. (يصليهما) يعني أفضل العبادات الصلاة، كما ورد في الصحيح: الصلاة خير موضوع، أي خير من كل ما وضعه الله لعباده ليتقربوا إليه، قاله القاري. (وإن البر) بكسر الباء بمعنى الخير والإحسان. (ليذر) بالذال المعجمة والراء المشددة على بناء المجهول، أي ينثر ويفرق من قولهم: ذررت الحب والملح أي فرقته. (على رأس العبد) أي ينزل الرحمة والثواب هو أثر البر على المصلي. (ما دام في صلاته) أي مدة دوام كونه مصليا. (وما تقرب العباد الله بمثل ما خرج منه) أي بأفضل من كلامه. قال في مجمع البحار: أي ما ظهر من الله ونزل على نبيه. (فضمير "منه" راجع إلى الله، و"خرج" بمعنى ظهر). وقيل: ما خرج من العبد بوجود على لسانه محفوظا في صدره، مكتوبا بيده. وقيل: ما ظهر من شرائعه وكلامه، أو خرج من كتابة المبين. (وهو اللوح المحفوظ). و"ما" استفهامية للإنكار. ويجوز كونه نافية، وهو أقرب أي ما تقرب بشيء مثل- انتهى ما في المجمع. (يعني القرآن) هذا تفسير من بعض الرواة لقوله: "ما خرج منه" وهو أبوالنضر هاشم بن القاسم الليثي شيخ أحمد وشيخ شيخ الترمذي. قال شيخنا: وهذا تفسير أولى عندي، يعني ضمير "منه" يرجع إلى الله. والمراد بما خرج منه ما أنزل الله على نبيه ? وهو القرآن.

(6/203)


قال الطيبي: أطلق المصنف هذا التفسير، ولم يقيده بما يفهم منه أن المفسر من هو. والحديث نقله المؤلف من كتاب الترمذي. وفي روايته قال أبوالنضر يعني القرآن. ومثل لا يتسامح فيه أهل الحديث، فإنه يوهم أن التفسير من فعل الصحابي، فيجعل متن الحديث- انتهى. قلت: أطلق صاحب المشكاة هذا التفسير تبعا للبغوي في المصابيح. والحديث رواه أحمد، ولم يذكر في روايته ما يفهم منه أن المفسر من هو، ولعل المؤلف نقله من مسند الإمام أحمد، فهو معذور في الإطلاق وعدم بيان من فسره بذلك. (رواه أحمد) (ج5 ص268) عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن بكر بن خنيس عن ليث بن أبي سليم عن زيد بن أرطاة عن أبي أمامة. (والترمذي) في فضائل القرآن عن أحمد بن منيع عن
(41) باب صلاة السفر
أبي النضر هاشم بن القاسم، قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وبكر بن خنيس قد تكلم فيه ابن المبارك، وتركه في آخر أمره- انتهى. وقال الحافظ في التقريب في ترجمة بكر بن خنيس: إنه عابد صدوق له أغلاط أفرط فيه ابن حبان- انتهى. واختلف فيه قول ابن معين، فقال مرة: ليس بشيء، وقال مرة: ضعيف، وقال مرة: شيخ صالح لا بأس به. وقال أبوحاتم: صالح غزاء ليس بالقوى. وقال العجلي: كوفي ثقة. وضعفه غير واحد، كما في التهذيب. وليث بن أبي سليم صدوق اختلط أخيرا ولم يتميز حديثه فترك، قاله في التقريب. فالحديث لا يخلو عن ضعف.

(6/204)


(باب صلاة السفر) قال في حجة الله (ج2 ص17): لما كان من تمام التشريع أن يبين لهم الرخص عند الأعذار ليأتي المكلفون من الطاعة بما يستطيعون، ويكون قدر ذلك مفوضا إلى الشارع ليراعي فيه التوسط لا إليهم فيفرطوا أو يفرطوا، اعتنى رسول الله ? بضبط الرخص والأعذار. ومن أصول الرخص أن ينظر إلى أصل الطاعة حسبما تأمر به حكمة البر، فيعض عليها بالنواجذ على كل حال، وينظر إلى حدود وضوابط شرعها الشارع ليتيسر لهم الأخذ بالبر، فيتصرف فيها إسقاطا وإبدالا حسبما تؤدي إليه الضرورة، فمن الأعذار السفر، وفيه من الحرج ما لا يحتاج إلى بيان، فشرع رسول الله ? له رخصا: منها القصر، ومنها الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ومنها ترك السنن، ومنها الصلاة على الراحلة حيث توجهت به يومىء إيماء، وذلك في النوافل وسنة الفجر والوتر لا الفرائض- انتهى مختصرا. والسفر لغة: قطع المسافة، وليس كل قطع تتغير به الأحكام من جواز الإفطار وقصر الرباعية وغيرهما، فاختلف العلماء فيه شرعا، كما ستعرف. قال ابن رشد في البداية (ج1 ص130): السفر له تأثير في القصر باتفاق، فقد اتفق العلماء على جواز قصر الصلاة للمسافر إلا قول شاذ أن القصر لا يجوز إلا للخائف لقوله تعالى: ?إن خفتم? الآية [4: 101]. واختلفوا من ذلك في خمسة مواضع: أحدها في حكم القصر. والثاني في المسافة التي يجب فيها القصر. والثالث في السفر الذي يجب فيه القصر. والرابع في الموضع الذي يبدأ منه المسافر بالتقصير. والخامس في مقدار الزمان الذي يجوز للمسافر فيه إذا قام في موضع أن يقصر الصلاة. فأما حكم القصر، فاختلفوا فيه على أقوال: فمنهم من رأى أن القصر هو فرض المسافر المتعين عليه. ومنهم من رأى أن القصر سنة. ومنهم من رأى أنه رخصة، والإتمام أفضل، بالقول الأول قال أبوحنيفة وأصحابه والكوفيون بأسرهم أعني أنه فرض متعين. وبالثاني أعنى سنة قال مالك في أشهر الروايات عنه. وبالثالث أعنى

(6/205)


رخصة. قال الشافعي في أشهر الروايات عنه، وهو المنصور عند أصحابه- انتهى باختصار يسير. ويكون القصر أولى وأفضل. قال أحمد. قال ابن قدامة: المشهور عن أحمد أن المسافر على الاختيار إن
شاء صلى ركعتين، وإن شاء أتم، والقصر عنده أفضل وأعجب- انتهى. والراجح عندي: أن لا يتم المسافر الصلاة، بل يلازم القصر كما لازمه ?، فالقصر في السفر كالعزيمة عندي، لكن لو خالف ذلك وأتم الصلاة أجزأ، سواء قعد القعدة الأولى أو نسيها ولم يقعد، فلا تلزم الإعادة، فيكون الإتمام مجزئا، والله أعلم. وأما المسافة التي إذا أراد المسافر الوصول إليها ساغ له القصر، ولا يسوغ له في أقل منها، فاختلف العلماء في مقدارها اختلافا كثيرا، فحكى ابن المنذر وغيره فيها نحوا من عشرين قولا. وأقل ما قيل في ذلك الميل كما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر، وإليه ذهب ابن حزم الظاهري. واحتج له بإطلاق السفر في كتاب الله وسنة رسوله ?، فلم يخص الله ولا رسوله سفرا دون سفر، واحتج على ترك القصر فيما دون الميل بأنه ? قد خرج إلى الفضاء للغائط فلم يقصر. وذهب الظاهرية – كما قال النووي- إلى أن أقل مسافة القصر ثلاثة أميال، وكأنهم احتجوا في ذلك بما رواه مسلم وأبوداود من حديث أنس قال: كان رسول الله ? إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو فراسخ قصر الصلاة. قال الحافظ: وهو أصح حديث ورد في بيان ذلك وأصرحه. وقد حمله من خالفه على أن المراد به المسافة التي يبتدأ منها القصر لا غاية السفر. (يعني أنه أراد به إذا سافر سفرا طويلا قصر إذا بلغ ثلاثة أميال، كما قال في لفظه الآخر: إن النبي ? ، صلى بالمدينة أربعا وبذي الحليفة ركعتين). ولا يخفى بعد هذا الحمل مع أن البيهقي ذكر في روايته من هذا الوجه أن يحيى بن يزيد راويه عن أنس قال: سألت أنسا عن قصر الصلاة، وكنت أخرج إلى الكوفة يعني من البصرة فأصلي ركعتين ركعتين حتى أرجع. فقال أنس، فذكر الحديث. فظهر أنه سأله عن

(6/206)


جواز القصر في السفر لا عن الموضع الذي يبتدأ منه القصر، ثم إن الصحيح في ذلك أنه لا يتقيد بمسافة، بل بمجاوزة البلد الذي يخرج منها. ورده القرطبي بأنه مشكوك فيه فلا يحتج به، فإن كان المراد به أنه لا يحتج به في التحديد بثلاثة أميال فمسلم، لكن لا يمتنع أن يحتج به في التحديد بثلاثة فراسخ، فإن الثلاثة أميال مندرجة فيها، فيؤخذ بالأكثر احتياطا. وقد روى ابن أبي شيبة عن حاتم بن إسماعيل عن عبدالرحمن بن حرملة قال: قلت لسعيد بن المسيب: أ أقصر الصلاة وأفطر في بريد من المدينة؟ قال: نعم- انتهى. وقيل: مذهب الظاهرية القصر في كل سفر قريبا كان أو بعيدا. وقال مالك والشافعي وأحمد وفقهاء أصحاب الحديث وغيرهم: إنه لا تقصر الصلاة إلا في مسيرة اليوم التام بالسير الوسط، وهي أربعة برد وهو ستة عشر فرسخا أي ثمانية وأربعون ميلا بالهاشمي؛ لأن البريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال. قال النووي: والميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربعة وعشرون إصبعا معترضة ومعتدلة، والإصبع ست شعيرات معترضة معتدلة.

(6/207)


قال الحافظ: وهذا الذي قاله هو الأشهر. ومنهم من عبر ذلك باثني عشر ألف قدم بقدم الإنسان. وقيل: هو أربعة آلاف ذراع. وقيل: بل ثلاثة آلاف ذراع. وقيل: وخمس مائة، صححه ابن عبدالبر. وقيل غير ذلك، وقد عقد البخاري في صحيحة ترجمة أورد فيها ما يدل على أن اختياره أن أقل مسافة القصر يوم وليلة، كما هو مختار الأئمة الثلاثة، واختاره أيضا الشاه ولي الله الدهلوي ، وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر. وقال أبوحنيفة أقل مسافة القصر مسيرة ثلاثة أيام ولياليها، ولا يشترط السفر كل يوم، بل إلى الزوال؛ لأنهم جعلوا النهار للسير والليل للاستراحة، ولا اعتبار بالفراسخ على أصل مذهبه، لكن المتأخرين قدروا ذلك بالفراسخ تسهيلا، ففي البحر عن النهاية الفتوى على ثمانية عشر فرسخا. وفي المجتبى فتوى أكثر أئمة خوارزم على خمسة عشر فرسخا، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل عند القدماء منهم ثلاثة آلاف ذراع، وعند المتأخرين أربعة آلاف ذراع، والذراع عند الأولين اثنان وثلاثون إصبعا، وعند الآخرين أربع وعشرون إصبعا، والإصبع عند الكل ست شعيرات مضمومة البطون إلى الظهور، وكل شعيرة مقدار ست شعور من ذنب الفرس التركي. والراجح عندي ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة أنه لا يقصر الصلاة في أقل من ثمانية وأربعين ميلا بالهاشمي. وذلك أربعة برد أي ستة عشر فرسخا، وهي مسيرة يوم وليلة بالسير الحثيث. وذهب أكثر علماء أهل الحديث في عصرنا إلى أن مسافة القصر ثلاثة فراسخ مستدلين لذلك بحديث أنس المتقدم في كلام الحافظ، ومال ابن قدامة إلى قول الظاهرية أنه يجوز القصر في كل سفر قصيرا كان أو طويلا، حيث قال بعد الرد على أقوال الأئمة الأربعة: والحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلى أن ينعقد الإجماع على خلافه. وأما السفر الذي يجوز فيه القصر فاختلفوا فيه على ثلاثة أقوال: الأول أنه تقصر في كل سفر من غير تفصيل طاعة أو معصية. مباح أو قربة، مكروه أو مندوب، قاله أبوحنيفة

(6/208)


وأصحابه اعتبار الإطلاق ظاهر لفظ السفر. والثاني لا يجوز إلا في سفر قربة اختاره أحمد في أحد قوليه. والثالث لا يجوز إلا في مباح، قاله مالك في المشهور من قوليه والشافعي قولا واحدا، وهو المنصوص عن أحمد، كما في المغني، وكره مالك القصر لمن خرج متصيدا للهو. وأما من كان معاشه فيقصر، والراجح عندي هو القول الثاني أنه لا يقصر المسافر إلا أن يكون سفره في طاعة وقربة أو فيما أباح الله له، قال ابن قدامة: لأن الترخص شرع للإعانة على تحصيل المقصد المباح توصلا إلى المصلحة، فلو شرع ههنا لشرع إعانة على المحرم تحصيلا للمفسدة، والشرع منزه عن هذا، والنصوص وردت في حق الصحابة، وكانت أسفارهم مباحة، فلا يثبت الحكم فيمن سفره مخالف لسفرهم، ويتعين حمله على ذلك جمعا بين النصين. وقياس المعصية على الطاعة بعيد لتضادهما. وأما الموضع الذي يبدأ منه المسافر بقصر الصلاة، فقال ابن قدامة:
?الفصل الأول?
1342-(1) عن أنس: ((أن رسول الله ? صلى الظهر بالمدينة أربعا، وصلى العصر بذي الحليفة
ركعتين)). متفق عليه.

(6/209)


ليس لمن نوى السفر القصر حتى يخرج من بيوت مصره أو قريته ويخلفها وراء ظهره، قال: وبه قال مالك والأوزاعي وأحمد والشافعي وأبوإسحاق وأبوثور. وعن عطاء أنه كان يبيح القصر في البلد لمن نوى السفر. وعن الحارث ابن أبي ربيعة أنه أراد سفرا، فصلى بالجماعة في منزله ركعتين وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب عبدالله، وعن عطاء أنه قال: إذا دخل وقت صلاة بعد خروجه من منزله قبل أن يفارق بيوت المصر يباح له القصر- انتهى مختصرا. وفي رواية عن مالك أنه قال: لا يقصر إذا كانت قرية جامعة حتى يكون منها بنحو ثلاثة أميال، وبقول الجمهور قال أبوحنيفة وأصحابه وهو الراجح؛ لأن النبي ? لم يقصر في سفره من أسفاره إلا بعد خروجه من المدينة، ولأن الرجل لا يكون ضاربا في الأرض حتى يخرج. وأما الزمان الذي يجوز للمسافر إذا أقام فيه في بلد أن يقصر فاختلفوا فيه جدا، إلا أن الأشهر منها أربعة أقوال: أحدها مذهب مالك والشافعي: أنه إذا أزمع المسافر على إقامته أربعة أيام أتم، والثاني مذهب أبي حنيفة والثوري أنه إذا أزمع على إقامته خمسة عشر يوما أتم. والثالث مذهب أحمد وداود: أنه إذا أزمع على أكثر من أربعة أيام أتم. والرابع مذهب إسحاق بن راهويه: إنه إذا أزمع على أكثر من تسعة عشر يوما أتم. فمدة القصر عند مالك والشافعي ثلاثة أيام غير يومي الدخول والخروج، وعند أبي حنيفة أربعة عشر يوما، وعند أحمد أربعة أيام وعند إسحاق تسعة عشر يوما. والراجح عندي: ما ذهب إليه أحمد والله تعالى أعلم.

(6/210)


1342- قوله: (صلى الظهر بالمدينة) أي في يوم الذي أراد فيه الخروج إلى مكة للحج أو العمرة. (أربعا) أي أربع ركعات. (وصلى العصر بذي الحليفة) بضم المهملة وفتح اللام، تصغير حلفة. و"ذو حليفة" موضع على ثلاثة أميال من المدينة على الأصح، وهو ميقات أهل المدينة المشهور الآن ببئر علي. (ركعتين) قصرا؛ لأنه كان في السفر. والحديث دليل على أن من أراد السفر لا يقصر حتى يبرز من البلد؛ لأن النبي ? لم يقصر حتى خرج من المدينة. واستدل به على استباحة قصر الصلاة في السفر القصير؛ لأن بين المدينة وذي الحليفة ثلاثة أميال. وقيل: ستة أميال. وقيل: سبعة. وتعقب بأن ذا الحليفة لم تكن منتهى السفر وغايته، وإنما خرج إليها حيث كان قاصدا مكة فاتفق نزوله بها، وكانت أول صلاة حضرت بها العصر فقصرها، واستمر يقصر إلى أن رجع. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والبيهقي (ج3 ص145، 146).
1343- (2) وعن حارثة بن وهب الخزاعي، قال: ((صلى بنا رسول الله ? ونحن أكثر ما كنا قط
وآمنه بمنى، ركعتين))

(6/211)


1343- قوله: (وعن حارثة) بالحاء المهملة والمثلثة. (بن وهب) بفتح الواو وسكون الهاء. (الخزاعي) بضم الخاء المعجمة، نسبة إلى خزاعة، وحارثة هذا أخو عبيدالله بن عمر الخطاب لأمه، صحابي نزل الكوفة، وكان عمر زوج أمه أم كلثوم بنت جرول بن المسيب الخزاعية. (صلى بنا رسول الله ?، ونحن أكثر من كنا) برفع "أكثر" على أنه خبر نحن، و"ما" مصدرية، ومعناه الجمع؛ لأن ما أضيف إليه أفعل التفضيل يكون جمعا. (قط) بفتح القاف وتشديد الطاء مضمومة في أفصح اللغات، ظرف بمعنى الدهر والزمان، متعلق بـ"كنا". ويختص بالماضي المنفي في الغالب الشائع، وربما استعمل بدون المنفي، كما في هذا الحديث وله نظائر. (وآمنه) بالرفع عطف على "أكثر" وقط مقدر ههنا، والضمير فيه راجع إلى "ما كنا". والواو في "ونحن" للحال المعترضة بين "صلى" ومعموله وهو. (بمنى) بكسر الميم والألف، منصرفا وفي بعض النسخ: بمنى بالياء غير منصرف، وهو يذكر ويؤنث، فإن قصد الموضع فمذكر، ويكتب بالألف وينصرف، وإن قصد البقعة فمؤنث، ولا ينصرف ويكتب بالياء، والمختار تذكيره، وسمي بذلك لكثرة ما يمنى فيه أي يراق من الدماء. (ركعتين) أي في حجة الوداع. والمعنى صلى بنا رسول الله ? بمنى ركعتين، والحال أنا في ذلك الوقت أكثر أكواننا في سائر الأوقات عددا، وأكثر أكواننا في سائر الأوقات أمنا. وإسناد الأمن إلى الأوقات مجاز، كذا قاله الطيبي. ويجوز أن تكون "ما" نافيه خبر المبتدأ الذي هو نحن و"أكثر" منصوبا على أنه خبر كان. ويجوز إعمال ما في ما قبلها إذا كانت بمعنى ليس، فكما يجوز تقديم خبر ليس عليه يجوز تقديم خبر ما في معناه عليه. والتقدير ونحن ما كنا قط أكثر منا في هذا الوقت ولا آمن منا فيه، وفي الحديث دليل على جواز القصر في السفر من غير خوف، ورد على من زعم أن القصر مختص بالخوف. وللحديث شاهد من حديث ابن عباس عند الترمذي وصححه، والنسائي بلفظ: خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا

(6/212)


الله يصلي ركعتين، والذي قال إن القصر مختص بالخوف تمسك بقوله تعالى: ?وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذي كفروا? [101:4]. ولم يأخذ الجمهور بهذا المفهوم. فقيل: لأن شرط مفهوم المخالفة أن لا يكون خرج مخرج الغالب، والشرط هنا خرج مخرج الغالب؛ لأن الغالب على المسلمين إذ ذاك الخوف في الأسفار. وقيل: هو من الأشياء التي شرع الحكم فيها بسبب، ثم زال السبب، وبقي الحكم كالرمل. وقيل: القصر مع الخوف ثابت بالكتاب، والقصر مع الأمن ثابت بالسنة، ومفهوم الشرط لا يقوى على معارضة ما تواتر عنه ? من القصر مع الأمن. قال

(6/213)


الخطابي في المعالم (ج2:ص211): ليس في قوله: صلى بنا، دليل على أن المكي يقصر الصلاة بمنى؛ لأن رسول الله ? كان مسافرا بمنى، فصلى صلاة المسافر، ولعله لو سأل رسول الله ? عن صلاته لأمره بالإتمام، وقد يترك رسول الله ? بيان بعض المأمور في بعض المواطن اقتصادا على ما تقدم من البيان السابق خصوصا في مثل هذا الأمر الذي هو من العلم الظاهر العام، وكان عمر بن الخطاب يصلي بهم فيقتصر، فإذا سلم التفت إليهم، وقال أتموا يا أهل مكة، فإنا قوم سفر-انتهى. قلت: اتفق الأئمة على أن الحاج القادم مكة يقصر الصلاة بها وبمنى وسائر المشاهد؛ لأنه عندهم في سفر؛ لأن مكة ليست دار إقامة إلا لأهلها أو لمن أراد الإقامة بها، وكذلك منى وعرفات والمزدلفة. واختلفوا في صلاة المكي بمنى وغيرها من المشاهد، فقال مالك: يتم بمكة ويقصر بمنى، وكذلك أهل منى يتمون بمنى ويقصرون بمكة وعرفات، قال: وهذه المواضع مخصوصة بذلك؛ لأن النبي ? لما قصر بعرفة لم يميز من وراءه، ولا قال لأهل مكة: أتموا، وهذا موضع بيان، وممن روى عنه أن المكي يقصر بمنى ابن عمر وسالم والقاسم وطاووس، وبه قال الأوزاعي وإسحاق، وقالوا: إن القصر سنة الموضع، وإنما يتم بمنى وعرفات من كان مقيما فيها. وقال أكثر أهل العلم: منهم عطاء والزهري والثوري والكوفيون وأبوحنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد وأبوثور: ولا يقصر الصلاة أهل مكة بمنى وعرفات؛ لانتفاء مسافة القصر.وحاصل مذهب مالك، كما يدل عليه كلامه في الموطأ، أن القصر عنده لأجل النسك بشرط السفر، لكن لا للسفر الشرعي، بل لمطلق السفر، ولذلك يتم عنده أهل مكة ومنى وعرفة والمزدلفة في أمكنتهم، ويقصرون في غيرها، وضابطه عنده أن أهل كل مكان يتمون به ويقصرون فيما سواه، خلافا للأئمة الثلاثة، فإن القصر عندهم للسفر الشرعي، فلا يقصر في هذه الأمكنة إلا من كان مسافرا شرعيا. قال ابن المنير المالكي: السر في القصر في هذه المواضع المتقاربة

(6/214)


إظهارا لله تعالى تفضله على عباده، حيث اعتد لهم بالحركة القريبة اعتداده في السفر البعيد، فجعل الوافدين من عرفة إلى مكة كأنهم سافروا إليها ثلاثة أسفار سفر إلى مزدلفة، ولهذا يقصر أهل مكة بمنى، فهي على قربها من عرفة معدودة بثلاث مسافات، كل مسافة منها سفر طويل. وسر ذلك-والله أعلم- أنهم كلهم وفد، وإن القرب كالبعيد في إسباغ الفضل، ذكره القسطلاني. وقال الباجي: إن أهل مكة إذا حجوا اقتضى ذلك بلوغا إلى عرفة، ورجوعا إلى مكة، ولو كان منتهى سفرهم عرفة لما قصروا الصلاة، واحتسب في هذا السفر بالذهاب والمجيء؛ لأن من خرج من مكة إلى عرفة محرما بالحج فلا بد له من الرجوع إلى مكة بحكم الإحرام الذي دخل فيه؛ لأنه لا يصح أن يتم عمله الذي دخل فيه إلا بالرجوع إلى مكة. وأما سائر الأسفار فإن نوى فيه المسير والمجيء فإنه لا يلزمه الرجوع، وله أن يقيم في منتهى سفره، أو يمضي منه إلى موضع سواه. فالواجب على أهل مكة إذا خرجوا للحج أن يصلوا ركعتين حتى ينصرفوا إلى مكة، وذلك يقتضي أن يصلوا
متفق عليه.
1344- (3) وعن يعلى بن أمية، قال. ((قلت لعمر بن الخطاب: إنما قال الله تعالى: ?أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا? فقد أمن الناس. قال عمر:

(6/215)


ركعتين في البداءة والعودة، ويصلون كذلك بعرفة والمزدلفة وغيرهما- انتهى بتغير يسير. وقال بعض المالكية: لو لم يجز لأهل مكة القصر بمنى لقال لهم النبي ?: أتموا، وليس بين مكة ومنى مسافة القصر، فدل على أنهم قصروا للنسك. وأجيب بأن الترمذي روى من حديث عمران بن حصين أنه ? كان يصلي بمكة ركعتين، ويقول: يا أهل مكة! أتموا، فإنا قوم سفر، وكأنه ترك إعلامهم بذلك بمنى استغناء بما تقدم بمكة. قال الحافظ: وهذا ضعيف؛ لأن الحديث من رواية علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، ولو صح فالقصة كانت في الفتح، وقصة منى في حجة الوداع، وكان لا بد من بيان ذلك لبعد العهد-انتهى. قلت: روى البيهقي (ج3:ص135، 136) من طريق علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة قال: سأل شاب عمران بن حصين عن صلاة رسول الله ? في السفر. فقال: إن هذا الفتى يسألني عن صلاة رسول الله ? في السفر، فاحفظوهن عني، ما سافرت مع رسول الله ? سفرا قط إلا صلى ركعتين حتى يرجع، وشهدت معه حنين والطائف فكان يصلي ركعتين، ثم حجت معه واعتمرت فصلى ركعتين، ثم قال: يا أهل مكة! أتموا الصلاة، فإنا قوم سفر-الحديث. وفيه نص على أنه ? قال ذلك في الحج أيضا، ورد على ما قيل: إن القصة لم تكن إلا في الفتح. (متفق عليه) وأخرجه أيضا الترمذي وأبودواد في الحج والنسائي في الصلاة والبيهقي (ج3:ص134، 135).

(6/216)


1344- قوله: (قلت لعمر بن الخطاب: إنما قال الله تعالى: أن تقصروا) وفي صحيح مسلم: قلت لعمر بن الخطاب: ?ليس عليكم جناح أن تقصروا? [101:4] أي وإذا ضربتم في الأرض أي سافرتم فليس عليكم جناح، أي وزر وحرج أن تقصروا بضم الصاد أي في أن تقصروا أي في القصر، وهو خلاف المد، يقال: قصرت الشيء أي جعلته قصيرا يحذف بعض أجزاءه فمتعلق القصر جملة الشيء لا بعضه، فإن البعض متعلق الحذف دون القصر. فحينئذ قوله: (من الصلاة ) ينبغي أن يكون مفعولا لتقصروا على زيادة من حسب ما رآه الأخفش. وأما على رأي غيره من عدم زيادتها في الإثبات. فتجعل تبعيضية، ويراد بالصلاة الجنس، ليكون المقصور بعضا منها، وهو الرباعيات، قاله أبوالسعود. (إن خفتم أن يفتنكم) أي ينالكم بمكروه. (الذين كفروا، فقد أمن الناس) أي وذهب الخوف، فما بالهم يقصرون الصلاة، أو فما وجه القصر؟. (قال عمر) وفي صحيح
عجبت ما عجبت منه، فسألت رسول الله ?، فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته))

(6/217)


مسلم: فقال بزيادة الفاء وحذف الفاعل. (عجبت مما عجبت) أنت. (فسألت رسول الله ?) أي عن ذلك كما في مسلم. (فقال: صدقة) أي قصر الصلاة في السفر صدقة. (تصدق الله) أي تفضل. (بها عليكم) أي توسعة ورحمة. قال السندي: أي شرع لكم ذلك رحمة عليكم، وإزالة للمشقة نظرا إلى ضعفكم وفقركم. وهذا المعنى يقتضي أن ما ذكر فيه من القيد فهو اتفاق، ذكره على مقتضى ذلك الوقت، وإلا فالحكم عام، والقيد لا مفهوم له. ولا يخفى ما في الحديث من الدلالة على اعتبار المفهوم في الأدلة الشرعية، وأنهم كانوا يفهمون ذلك، ويرون أنه الأصل، وأن النبي ? قررهم على ذلك، لكن بين أنه قد لا يكون معتبرا أيضا بسبب من الأسباب، فإن قلت: يمكن التعجب مع عدم اعتبار المفهوم أيضا بناء على أن الأصل هو الإتمام لا القصر، وإنما القصر رخصة جاءت مقيدة للضرورة، فعند انتفاء القيد مقتضى الأدلة هو الأخذ بالأصل، قلت: هذا الأصل إنما يعمل به عند انتفاء الأدلة. وأما مع وجود فعل النبي ? بخلافه فلا عبرة به، ولا يتعجب من خلافه، فليتأمل- انتهى كلام السندي. (فاقبلوا صدقته) أي سواء حصل الخوف أم لا، وإنما قال في الآية. ?إن خفتم?؛ لأنه قد خرج مخرج الأغلب لكون أغلب أسفار النبي ? وأصحابه لم تخل من خوف العدو لكثرة أهل الحرب إذ ذاك فحينئذ لا تدل الآية على عدم القصر إن لم يكن خوف؛ لأنه بيان للواقع إذ ذاك فلا مفهوم له. قال ابن القيم: قد أشكلت الآية على عمر وغيره، فسأل عنها رسول الله ?، فأجابه بالشفاء، وأن هذا صدقة من الله، وشرع شرعة للأمة، وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد، وأن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف. وغايته أنه نوع تخصيص للمفهوم أو رفع له- انتهى. وقد احتج بالحديث لمن قال بأن القصر رخصة، والإتمام أفضل. قال الخطابي في المعالم (ج1 ص261): في هذا حجة لمن ذهب إلى أن الإتمام هو الأصل، ألا ترى أنهما (أي يعلى بن أمية وعمر) قد تعجبا من القصر مع

(6/218)


عدم شرط الخوف، فلو كان أصل صلاة المسافر ركعتين لم يتعجبا من ذلك، فدل على أن القصر إنما هو عن أصل كامل قد تقدمه، فحذف بعضه، وأبقى بعضه. وفي قوله: "صدقة تصدق الله بها عليكم" دليل على أنه رخصة رخص لهم فيها، والرخصة إنما تكون إباحة لا عزيمة- انتهى. وأجيب عن ذلك بأن الأمر بقبولها يقتضي وجوب القبول، وأنه لا محيص عنها، فإن أصل الأمر للوجوب، فلا يبقى له خيار الرد شرعا، وجواز الإتمام رد لها لا قبول، على أن الصدقة من الله تعالى فيما لا يحتمل التمليك عبارة عن الإسقاط، فلا يحتمل اختيار القبول وعدمه. وأيضا العبد فقير فإعراضه عن صدقة ربه يكون قبيحا، ويكون من قبيل ?أن رآه استغنى?. وفي رد صدقة أحد عليه من التأذى عادة ما لا يخفى فهذه من أمارات الوجوب، ويوافقه حديث: أنها تمام غير قصر. واحتج لهم أيضا بقوله تعالى: ?ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة? [101:4]

(6/219)


فإن نفي الجناح لا يدل على العزيمة، بل على الرخصة، وعلى أن الأصل التمام، والقصر إنما يكون عن شيء أطول منه. وأجيب عنه بوجوه: منها أن الآية وردت في قصر صفة الصلاة بترك الركوع والسجود إلى الإيماء، وترك القيام إلى الركوب في الخوف. فالمراد بالقصر في الآية إدخال التخفيف في كيفية أداء الركعات في الخوف دون القصر في عدد الركعات في صلاة السفر. ومنها أن المراد بالقصر في الآية القصر في كمية الركعات وعددها، وبالصلاة صلاة الخوف لا صلاة المسافر. فالآية نزلت في قصر العدد في صلاة الخوف لا في صلاة السفر. ومنها أنه إنما أتى بهذه العبارة؛ لأن المسلمين لكمال ولعهم بالعبادة وتكثيرها وأدائها بالتمام كأنهم كانوا يتحرجون في القصر، وكانوا يعدونه جناحا فقال: ?ليس عليكم جناح أن تقصروا? ولا حرج، فإن الركعتين في حكم الأربعة كما قال الذين ذهبوا إلى وجوب السعي بين الصف والمروة في قوله تعالى: ?فلا جناح عليه أن يطوف بهما? [158:2] وقال ابن القيم في الهدي (ج1 ص131): وقد يقال: إن الآية اقتضت قصر يتناول قصر الأركان بالتخفيف، وقصر العدد بنقصان ركعتين. وقيد ذلك بأمرين: الضرب بالأرض، والخوف، فإذا وجد الأمران أبيح القصران، فيصلون صلاة الخوف، مقصورة عددها وأركانها، وإن انتفى الأمران فكانوا آمنين مقيمين انتفى القصران، فيصلون صلاة تامة كاملة، وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده، فإذا وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفى العدد، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق في الآية، فإن وجد السفر والأمن قصر العدد، واستوفى الأركان، وسميت صلاة أمن، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق، وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد، وقد تسمى تامة باعتبار تمام أركانها، وأنها لم تدخل في قصر الآية. والأول اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين، والثاني يدل عليه كلام الصحابة كعائشة وابن عباس وغيرهما. قالت عائشة: فرضت الصلاة ركعتين، فلما

(6/220)


هاجر رسول الله ? إلى المدينة زيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر. فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غير مقصورة من أربع، وإنما هي مفروضة كذلك، وأن فرض المسافر ركعتان. وقال ابن عباس: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. وقال عمر بن الخطاب: صلاة السفر ركعتان والجمعة ركعتان والعيد ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد ?. وقد خاب من افترى. وهذا ثابت عن عمر رضي الله عنه، وهو الذي سأل النبي ? ما بالنا نقصر؟ وقد أمنا؟ فقال له رسول الله ?: صدقة تصدق بها الله عليكم فاقبلوا صدقته. ولا تناقض بين حديثيه، فإن النبي ? لما أجابه بأن هذه صدقة الله عليكم، ودينه اليسر السمح، علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد، كما فهمه كثير من الناس، فقال: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر. وعلى هذا فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح منفي عنه الجناح، فإن شاء المصلي فعله وإن شاء أتم، وكان رسول الله ?
رواه مسلم.
1345- (4) وعن أنس، قال: ((خرجنا مع رسول الله ? من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين
ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة، قيل له: أقمتم بمكة شيئا؟ قال: أقمنا بها عشرا))
يواظب في أسفاره على ركعتين ركعتين، ولم يربع قط إلا شيئا فعله في بعض صلاة الخوف، كما سنذكره هناك ونبين ما فيه- انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الشافعي وأحمد والترمذي في تفسير وأبوداود والنسائي وابن ماجه في الصلاة والبيهقي (ج3 ص134-141) وغيرهم.

(6/221)


1345- قوله: (من المدينة) أي متوجهين (إلى مكة) أي للحج كما في رواية لمسلم. (فكان يصلي) أي الرباعية. (ركعتين ركعتين) أي كل رباعية ركعتين. (قيل له) أي لأنس. والقائل أي السائل هو يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي الراوي عن أنس كما صرح به في رواية للبخاري في الصلاة. (أقمتم) بحذف همزة الاستفهام وفي رواية أبي داود: هل أقمتم. (شيئا) أي من الأيام. (قال) أي أنس. (أقمنا بها) أي بمكة وبضواحيها. (عشرا) أي عشرة أيام، وإنما حذفت التاء من العشرة مع أن اليوم مذكر؛ لأن المميز إذا لم يذكر جاز في العدد التذكير والتأنيث. ولا يعارض هذا حديث ابن عباس المذكور بعده وحديث عمران الآتي في الفصل الثاني؛ لأنهما في فتح مكة، وهذا في حجة الوداع، قال الإمام أحمد: إنما وجه حديث أنس أنه حسب مقام النبي ? بمكة ومنى، وإلا فلا وجه له غير هذا. واحتج بحديث جابر: أن النبي ? قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة. (يوم الأحد) فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلى الصبح في اليوم الثامن. (يوم الخميس) ثم خرج إلى منى، وخرج من مكة متوجها إلى المدينة بعد أيام التشريق. ومثله حديث ابن عباس عند البخاري بلفظ: قدم النبي ? وأصحابه لصبح رابعة يلبون بالحج... الحديث. قال الحافظ: ولا شك أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر فتكون مدة الإقامة بمكة وضواحيها عشرة أيام بلياليها كما قال أنس، وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء؛ لأنه خرج منها في اليوم الثامن فصلى الظهر بمنى. وقال المحب الطبري: أطلق على ذلك إقامة بمكة؛ لأن هذه المواضع مواضع النسك، وهي في حكم التابع لمكة؛ لأنها المقصود بالإصالة، لا يتجه سوى ذلك، كما قال الإمام أحمد- انتهى. وقد أشكل الحديث على الشافعية؛ لأنه قد تقرر عندهم أنه لو نوى المسافر إقامة أربعة أيام بموضع عينه انقطع سفره بوصوله ذلك الموضع بخلاف ما لو نوى دونها وإن زاد عليه. ولا ريب أنه ? في حجة الوداع كان جازما بالإقامة

(6/222)


بمكة المدة المذكورة، وأجاب البيهقي في السنن الكبرى (ج3 ص149) بما نصه: وإنما أراد أنس بقوله "فأقمنا بها عشرا" أي بمكة ومنى وعرفات، وذلك لأن الأخبار الثابتة تدل على أن رسول الله ? قدم مكة في
حجته لأربع خلون من ذي الحجة فأقام بها ثلاثا يقصر، ولم يحسب اليوم الذي قدم فيه مكة؛ لأنه كان فيه سائرا، ولا يوم التروية؛ لأنه خارج فيه إلى منى، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، فلما طلعت الشمس سار منها إلى عرفات، ثم دفع منها حيت غربت الشمس حتى أتى المزدلفة، فبات بها ليلتئذ حتى أصبح، ثم دفع منها حتى أتى منى فقضى بها نسكه، ثم أفاض إلى مكة فقضى بها طوافه، ثم رجع إلى منى فأقام بها، ثم خرج إلى المدينة، فلم يقم ? في موضع واحد أربعا يقصر- انتهى كلام البيهقي. وتعقبه ابن التركماني، وتعقبه متجه عندي، قال: أقام بمكة أربعة أيام يقصر، فإنه ? قدم صبح رابعة من ذي الحجة، فأقام الرابع والخامس والسادس والسابع وبعض الثامن ناويا للإقامة بها بلا شك، ثم خرج إلى منى يوم التروية، وهو الثامن قبل الزوال. وهذا يبطل تقديرهم بأربعة أيام، ولهذا حكى ابن رشد عن أحمد وداود أنه إذا أزمع على أكثر من أربعة أيام أتم، قال واحتجوا بمقامه عليه السلام في حجته بمكة مقصرا أربعة أيام. وذكر صاحب التمهيد عن الأثرم قال أحمد: أقام عليه السلام اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الصبح بالأبطح في الثامن. فهذه إحدى وعشرون صلاة قصر فيها، وقد أجمع على إقامتها وظهر بهذا بطلان قول البيهقي: "فلن يقم عليه السلام في موضع واحد أربعا يقصر". وكيف يقول كان سائرا في اليوم الرابع مع أنه قدم في صبيحته فأقام بمكة؟! أو كيف لا يحسب يوم الدخول مع أن الأحكام المتعلقة بالسفر لينقطع حكمها يوم الدخول إذا نوى الإقامة، ويلحق بما بعده أصله رخصة المسح والإفطار؟! فلا معنى لإخراجه بعد نية الإقامة بغير دليل شرعي، وكذا يوم الخروج قبل خروجه.

(6/223)


وفي اختلاف العلماء للطحاوي روي عن ابن عباس وجابر أنه عليه السلام قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة، فكان مقامه إلى وقت خروجه أكثر من أربع، وقد كان يقصر الصلاة، فدل على سقوط الاعتبار بالأربع- انتهى كلام ابن التركماني. وأجاب بعضهم عن هذا التعقب بأنه إنما يخالفنا إذا أقام أربع ليال مع أيامها التامة. ويمكن أنه صلى الله عليه وسلم خرج في اليوم الثامن من قبل الوقت الذي دخل فيه في اليوم الرابع، فما تمت له أيام الأربع، كذا أجاب، ولا يخفى ما فيه، قلت: واستدل الشافعية والمالكية على مذهبهم بنهيه صلى الله عليه وسلم للمهاجر عن إقامة فوق ثلاث بمكة فتكون الزيادة عليها لإقامة لا قدر الثلاث. قال القسطلاني: الترخيص في الثلاث يدل على بقاء حكم السفر بخلاف الأربعة فالأربع حد الإقامة، وما دونه حد السفر يقصر فيه. ورد ذلك بأن الثلاث قدر قضاء الحوائج لا لكونها غير إقامة. قال ابن حزم في المحلى (ج5ص24): ليس في هذا الخبر نص ولا إشارة إلى المدة التي إذا أقامها المسافر يتم صلاته، وإنما هو في حكم المهاجر لا يقيم أكثر من ثلاثة أيام ليجاز شغله وقضى حاجته في الثلاث، ولا حاجة إلى أكثر منها، ولا يدل على أنه يصير مقيما في الأربعة، ولو احتمل لا يثبت حكم شرعي بالاحتمال، قال وأيضا
متفق عليه.

(6/224)


فإن المسافر مباح له أن يقيم ثلاثا وأكثر من ثلاث لا كراهية في شيء من ذلك. وأما المهاجر فمكروه له أن يقيم بمكة بعد انقضاء نسكه أكثر من ثلاث، فأي نسبة بين إقامة مكروهة وإقامة مباحة؟ وأيضا فإن ما زاد على الثلاثة الأيام للمهاجر داخل عندهم في حكم أن يكون مسافرا. لا مقيما وما زاد على الثلاثة فإقامة صحيحة. وهذا مانع من أن يقاس أحدهما على الآخر، وأيضا فإن إقامة قدر صلاة واحدة زيادة على الثلاثة مكروهة للمهاجر، فينبغي عندهم إذا قاسوا عليه المسافر أن يتم، وهو خلاف مذهبهم. وقد ظهر بهذا أنه ليس حديث مرفوع صريح في ما ذهب إليه المالكية والشافعية. وكذا فيما ذهب إليه الحنفية كما صرح به ابن رشد في البداية. وقال صاحب العرف الشذى: لا مرفوع لأحد ولكل واحد آثار. فاستدل الحنفية بما روى الطحاوي عن ابن عباس وابن عمر قالا: إذا قدمت بلدة وأنت مسافر، وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر يوما أكمل الصلاة بها، وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصرها، ذكره الزيلعي في نصب الراية، والحافظ في الدراية، والعيني في البناية وابن الهمام في فتح القدير. وروى نحوه محمد بن الحسن في كتاب الآثار عن ابن عمر وحده. قال الشوكاني: ورد بأنه من مسائل الاجتهاد، ولا حجة في أقوال في المسائل التي للاجتهاد فيها مسرح، قال: والحق أن من حط رحله ببلد ونوى الإقامة بها أيامها من دون تردد لا يقال له مسافر، فيتم الصلاة ولا يقصر إلا لدليل ولا دليل ههنا إلا في ما في حديث الباب من إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة أربعة أيام يقصر الصلاة، والاستدلال به متوقف على ثبوت أنه صلى الله عليه وسلم عزم على إقامة أربعة أيام إلا أن يقال: إن تمام أعمال الحج في مكة لا يكون في دون الأربع، فكان كل من يحج عازما على ذلك فيقتصر على هذا المقدار، ويكون الظاهر والأصل في حق من نوى إقامة أكثر من أربع أيام هو التمام، وإلا لزم أن يقصر الصلاة من نوى إقامة سنين متعددة، ولا قائل به.

(6/225)


ولا يرد على هذا قوله في إقامته بمكة في الفتح: إنا قوم سفر؛ لأنه كان إذ ذاك مترددا، ولم يعزم على إقامة مدة معينة- انتهى. قلت: لا شك أنه صلى الله عليه وسلم كان جازما بالإقامة أربعة أيام بمكة في حجته؛ لأنه دخل بها صبيحة رابعة، وخرج منها إلى منى في بعض الثامن أي بعد صلاة الصبح، فكان ناويا لإقامة تلك المدة بلا شك، وقد قصر بها الصلاة. فهذا يدل على مذهب الإمام أحمد. ولم يثبت من حديث مرفوع قولي أو فعلي أنه صلى الله عليه وسلم أزمع على أكثر من أربعة أيام وقصر الصلاة. فالقول الراجح عندي هو ما ذهب إليه أحمد، والله أعلم. وأما حديث ابن عباس فسيأتي الكلام فيه. (متفق عليه) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص136و145و148و153) وغيرهم.
1346- (5) وعن ابن عباس، قال: ((سافر النبي ? سفرا، فأقام تسعة عشر يوما يصلي ركعتين
ركعتين، قال ابن عباس: فنحن نصلي فيما بيننا وبين مكة، تسعة عشر، ركعتين ركعتين،

(6/226)


1346- قوله: (سافر النبي ? سفرا) أي في فتح مكة، ففي رواية للبخاري في المغازي: أقام النبي ? بمكة تسعة عشر يوما يصلي ركعتين. وذكره المجد بن تيمية في المنتقى بلفظ: لما فتح النبي ? مكة أقام فيها تسع عشرة يصلي ركعتين. (فأقام) أي فلبث. (تسعة عشر) بتقديم الفوقية على السين. (يوما) بليلته. (يصلي) أي حال كونه يصلي. (ركعتين ركعتين) أي يقصر الصلاة الرباعية؛ لأنه كان مترددا متى تهيأ له فراغ حاجته وهو انجلاء حرب هوازن ارتحل، وأعلم أنه اختلفت الروايات في إقامته ? بمكة عام الفتح، فروي تسعة عشر، كما ذكره المصنف. وروي عشرون، أخرجه عبد بن حميد في مسنده. وروي سبعة عشر بتقديم السين، أخرجه أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي. وروي خمسة عشر، أخرجه أبوداود والنسائي كلها عن ابن عباس. وروي ثمانية عشر، كما في حديث عمران الآتي. قال البيهقي في السنن الكبرى (ج3 ص151): وأصح هذه الروايات في ذلك عندي رواية من روى تسع عشرة أي بتقديم التاء، وهي الرواية التي أودعها للبخاري في الجامع الصحيح، وجمع أيضا البيهقي بين روايات تسع عشرة وثمان عشرة وسبع عشرة بأن من رواها تسع عشرة عد يوم الدخول ويوم الخروج، ومن روى ثمان عشرة لم يعد أحد اليومين، ومن قال سبع عشرة لم يعدهما، قال الحافظ في التلخيص (ص129): وهو جمع متين، وتبقى رواية خمسة عشر شاذة لمخالفتها، ورواية عشرين، وهي صحيحة الإسناد إلا أنها شاذة أيضا، اللهم إلا أن يحمل على جبر الكسر، ورواية ثمانية عشر ليست بصحيحة من حيث الإسناد، أي لما في سنده علي زيد بن جدعان، وهو ضعيف، وسيأتي الكلام فيه، وقال في الفتح بعد ذكر الجمع المذكور: وأما رواية خمسة عشر فضعفها النووي في الخلاصة، وليس بجيد؛ لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبيدالله كذلك. وإذا ثبت أنها صحيحة فليحمل على أن الراوي ظن أن الأصل رواية سبع

(6/227)


عشرة، فحذف منها يومي الدخول والخروج، فذكر أنها خمس عشرة. واقتضى ذلك أن رواية تسع عشرة أرجح الروايات. وبهذا أخذ إسحاق بن راهويه، ويرجحها أيضا إنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة، وأخذ الثوري وأهل الكوفة برواية خمس عشرة، لكونها أقل ما ورد، فيحمل ما زاد على أنه وقع اتفاقا- انتهى. (قال ابن عباس) استنباطا من هذا الحديث. (فنحن نصلي فيما بيننا وبين مكة تسعة عشر) أي يوما. ولفظ الترمذي: فنحن نصلي فيما بيننا وبين تسع عشرة. (ركعتين ركعتين) وفي رواية للبخاري: ونحن نقصر ما بيننا وبين تسع عشرة. وفي رواية للبيهقي (ج3 ص150): فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسعة عشر صلينا ركعتين ركعتين، ولأبي يعلى: إذا سافرنا فأقمنا في موضع تسعة عشر.
فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعا)) رواه البخاري.

(6/228)


(فإذا أقمنا) أي مكثنا (أكثر من ذلك صلينا أربعا) وقد أخذ به إسحاق بن راهويه أيضا، كما تقدم في كلام الحافظ، فمدة القصر عنده وعند ابن عباس تسعة عشر يوما، فإذا أجمع على أكثر من ذلك في موضع أتم. قال الترمذي: أما إسحاق فرأى أقوى المذاهب فيه حديث ابن عباس هذا، قال: لأن أبن عباس روى عن النبي ? ثم تأوله بعد النبي ?. (يعني أخذ به وعمل عليه بعد وفاته?)- انتهى. قلت: الاستدلال بهذا الحديث على أن من يقيم هذه المدة. (تسعة عشر أو خمسة عشر على اختلاف الروايتين والمذهبين) قصدا يقصر، لا يخلو عن إشكال؛ لأنه موقوف على ثبوت أنه ? أزمع في أول الأمر على إقامته بمكة هذه المدة، ولا دلالة في هذه القصة على ذلك أصلا، بلا الظاهر أن النبي ? أقام بمكة هذه المدة اتفاقا، ولا يدري أول الأمر أن إقامته تمتد إلى متى؛ لأنه كان مترددا متى تهيأ له فراغ حاجته يرحل. ومن كان كذلك يقر أبدا؛ لأنه لم ينو الإقامة، والأصل بقاء السفر، ولذا قال الترمذي: أجمع أهل العلم على أن المسافر يقصر ما لم يجمع إقامة، وإن أتى عليه سنون، وكذا قال ابن المنذر. وأما الاستدلال بحديث ابن عباس على أن من يزيد على هذه المدة يتم، كما قال ابن عباس وإسحاق ففي غاية الخفاء، هذا وقد أجاب عن الأشكال المذكور الإمام ابن تيمية في أحكام السفر (ص81) بأنه معلوم بالعادة أن ما كان يفعل بمكة وتبوك لم يكن ينقضي في ثلاثة أيام ولا أربعة حتى يقال إنه كان يقول اليوم أسافر، غدا أسافر، بل فتح مكة وأهلها وما حولها كفار محاربون له، وهي أعظم مدينة فتحها، وبفتحها ذلت الأعداء، وأسلمت العرب. ومثل هذه الأمور مما يعلم أنها لا ينقضي في أربعة أيام، فعلم أنه أقام لأمور يعلم أنها لا تنقضي في أربعة أيام، وكذلك تبوك إلى آخر ما قال. ولا يخفى ما فيه على المتأمل. (رواه) أي أصل الحديث. (البخاري) وإلا فالسياق المذكور ليس للبخاري، فإن الحديث رواه البخاري في الصلاة بلفظ: أقام

(6/229)


النبي ? بمكة تسعة عشر يوما يصلي ركعتين، ومطولا بلفظ: أقمنا مع النبي ? في سفر تسع عشرة نقصر الصلاة. وقال ابن عباس: ونحن نقصر ما بيننا وبين تسع عشرة، فإذا أزدنا أتممنا. والسياق الذي ذكره المصنف إنما هو للترمذي والبيهقي بفرق يسير. والبغوي إنما ذكر في المصابيح سياق البخاري المختصر. ولعل المصنف أعرض عنه لاختصاره، وأورد سياق الترمذي والبيهقي، لكونه واضحا مطولا، لكن كان ينبغي له أن ينبه على تصرفه هذا، فإن صنيعه يدل على أن السياق المذكور للبخاري، والأمر ليس كذلك، كما عرفت، والحديث أخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص149، 150، 151).
1347- (6) وعن حفص بن عاصم، قال: ((صحبت ابن عمر في طريق مكة، فصلى لنا الظهر ركعتين، ثم جاء رحله، وجلس، فرأى ناسا قياما، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون. قال: لو كنت مسبحا أتممت صلاتي. صحبت رسول الله ?، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر، وعمر، وعثمان كذلك))

(6/230)


1347- قوله: (وعن حفص بن عاصم) بن عمر بن الخطاب ثقة من الطبقة الوسطى من التابعين (صحبت ابن عمر) أي رافقت عمي عبدالله بن عمر بن الخطاب. (فصلى لنا الظهر ركعتين) قصرا ثم أقبل وأقبلنا معه. (ثم جاء) وفي مسلم: حتى جاء. (رحله) أي منزله ومسكنه. (وجلس) وجلسنا معه، فحانت منه إلتفاتة نحو حيث صلى. (فرأى ناسا قياما) بكسر القاف جمع قائم أي قائمين للصلاة في المكان الذي صلوا الفرض فيه. (فقال) إنكارا: (ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون) أي يصلون النافلة، فالسبحة هنا صلاة النفل، (لو كنت مسبحا) أي مصليا النافلة في السفر. (أتممت صلاتي) أي المكتوبة. قال السندي: لعل المعنى لو كنت صليت النافلة على خلاف ما جاءت به السنة لأتممت الفرض على خلافها، أي لو تركت العمل بالسنة لكان تركها لإتمام الفرض أحب وأولى من تركها لإتيان النفل، وليس المعنى لو كانت النافلة مشروعة لكان الإتمام مشروعا حتى يرد عليه ما قيل: إن شرع الفرض تاما يفضي إلى الحرج، إذ يلزم حينئذ الإتمام. وأما شرع النفل فلا يفضي إلى حرج، لكونها إلى خيرة المصلي- انتهى. وقال الحافظ في الفتح: مراد ابن عمر بقوله هذا يعني أنه لو كان مخيرا بين الإتمام وصلاة الراتبة لكان الإتمام أحب إليه، لكنه فهم من القصر التخفيف، فلذلك كان لا يصلي الراتبة ولا يتم. (فكان لا يزيد في السفر على ركعتين) أي في غير المغرب، إذ لا يصح ذلك في المغرب قطعا. والمعنى لا يزيد نفلا قبل الفريضة وبعدها. (وأبا بكر) أي وصحبت أبا بكر. (وعمر وعثمان كذلك) أي صحبتهم كما صحبته ?، وكانوا لا يزيدون في السفر على ركعتين. وفيه دليل على أنه ? واظب على القصر في السفر ولازمه، ولم يصل تماما. وذكر الموقوف بعد المرفوع مع أن الحجة قائمة بالمرفوع ليبين أن العمل استمر على ذلك، ولم يطرق إليه نسخ ولا معارض ولا راجح، لكن في ذكر عثمان إشكال؛ لأنه كان في آخر أمره يتم الصلاة. وأجيب بما سيأتي في الفصل الثالث

(6/231)


من حديث ابن عمر وعثمان صدرا من خلافته. قال في المصابيح: وهو الصواب، ذكره القسطلاني، أو المراد أنه إنما كان يتم إذا كان نازلا. وأما إذا كان سائرا فيقصر. فلذلك قيده في هذه الرواية بالسفر. وقال الزركشي: ولعل ابن عمر أراد في هذه الرواية أيام عثمان في سائر أسفاره في غير منى؛ لأن إتمامه كان بمنى، كما فسره عمران بن الحصين في روايته. والحديث فيه إشكال آخر، فإنه يدل على أنه ? كان لا يتنفل في السفر. وقد روى ابن عمر

(6/232)


نفسه، كما سيأتي في الفصل الثاني، أن النبي ? كان يصلي النافلة بعد الظهر والمغرب. وورد في حديث أبي قتادة عند مسلم في قصة النوم عن صلاة الصبح في السفر: ثم صلى ركعتين قبل الصبح ثم صلى الصبح. وقد روي عنه ? أنه صلى صلاة الضحى في السفر. كما تقدم، وصلاة الليل على الدابة، كما سيأتي من حديث ابن عمر، وصلاة الزوال أو الراتبة قبل الظهر، كما في حديث البراء عند الترمذي وأبي داود. وأيضا يشكل على إنكار ابن عمر على المتنفلين ما سيأتي في آخر الباب أن ابن عمر كان يرى ابنه عبيدالله يتنفل في السفر، فلا ينكر عليه، وما روي عن ابن عمر أنه كان يصلي على راحلته في السفر حيثما توجهت به. قال العراقي: الجواب: أن النفل المطلق وصلاة الليل لم يمنعهما ابن عمر ولا غيره. فأما السنن الرواتب فيحمل حديث الباب على الغالب من أحواله في أنه لا يصلى الرواتب، وحديثه في فعل أنه فعله في بعض الأوقات لبيان استحبابها وإن لم يتأكد فعلها فيه كتأكده في الحضر، أو أنه كان نازلا في وقت الصلاة ولا شغل له يشتغل به عن ذلك، أو سائرا، وهو على راحلته. ولفظ "كان" في حديث الباب لا يقتضي الدوام ولا التكرار على الصحيح، فلا تعارض بين حديثيه. وقيل: مذهب ابن عمر الفرق بين الرواتب والنوافل المطلقة كالتهجد والوتر والضحى وغير ذلك، فيحمل الإنكار على الأول، والإثبات على الثاني، ولا يخفى ما فيه. وقيل: نفي التطوع في السفر محمول على ما بعد الصلاة خاصة أي الرواتب البعدية، فلا يتناول ما قبلها ولا ما لا تعلق له بها من النوافل المطلقة، وإليه مال البخاري، كما يظهر من تبويبة. قال الحافظ: وهو فيما يظهر أظهر. قلت: بل هو غاية الخفاء فضلا عن أن يكون ظاهرا فضلا عن أن يكون أظهر لما سيأتي من حديث ابن عمر نفسه في إثبات الرواتب البعدية. وقيل: لعل النبي ? كان يصلي الرواتب في رحله فلا يراه ابن عمر. وقيل: النفي محمول على الصلاة على الأرض، والإثبات على الدابة.

(6/233)


قال الحافظ: وقد جمع ابن بطال بين ما اختلف عن ابن عمر في ذلك بأنه كان يمنع التنفل على الأرض، ويقول به على الدابة. وقيل: الأولى أن يحمل حديث الباب أي عدم الزيادة على ركعتي الفرض على حالة السير وحديث الثبوت على حالة النزول والقرار، وهو المختار من مذهب الحنفية، كما صرح به الدر المختار وفي الكبرى، هو أعدل الأقوال. قلت: قد اختلف العلماء في التنفل في السفر على ستة أقوال: أحدها المنع مطلقا. الثاني الجواز مطلقا. الثالث: الفرق بين الرواتب والمطلقة، وهو مذهب ابن عمر، كما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح. الرابع: الفرق بين الليل والنهار في المطلقة. الخامس: الفرق بين الرواتب البعدية وغيرها، فيحمل النفي على الأولى، فلا يتناول ما قبلها ولا النوافل المطلقة. السادس: ما اختاره ابن القيم حيث قال في الهدي (ج1 ص134): كان من هديه ? الاقتصار على الفرض، ولم يحفظ عنه ? أنه صلى سنة الصلاة
متفق عليه.
1348-(7) وعن ابن عباس، قال: ((كان رسول الله ? يجمع بين صلاة الظهر والعصر،

(6/234)


قبلها ولا بعدها إلا ما كان من الوتر وسنة الفجر، فإنه لم يكن ليدعهما حضرا ولا سفرا، قال: وأما ابن عمر فكان لا يتطوع قبل الفريضة ولا بعدها إلا من جوف الليل مع الوتر، وهذا هو الظاهر من هدي النبي ? ، كان لا يصلي قبل الفريضة المقصورة ولا بعدها شيئا، ولم يكن يمنع من التطوع قبلها ولا بعدها، فهو كالتطوع المطلق لا أنه سنة راتبة للصلاة كسنة صلاة الإقامة. ويؤيد هذا أن الرباعية قد خففت إلى ركعتين تخفيفا على المسافر، فكيف يجعل لها سنة راتبة يحافظ عليها، وقد خفف الفرض ركعتين، فلولا قصد التخفيف على المسافر وإلا كان الإتمام أولى به، وقال أيضا (ج1 ص83): وكان أي النبي ? في السفر يواظب على سنة الفجر، والوتر أشد من جميع النوافل دون سائر السنن، ولم ينقل في السفر أنه ? صلى سنة راتبة غيرهما، ولذلك كان ابن عمر لا يزيد على ركعتين، وسئل عن سنة الظهر في السفر، فقال: لو كنت مسبحا لأتممت. وهذا من فقهه رضي الله عنه، فإن الله سبحانه وتعالى خفف عن المسافر في الرباعية شطرها، فلو شرع له الركعتان قبلها أو بعدها لكان الإتمام أولى به. وتعقب قوله: لم يتنفل في السفر أنه ? صلى سنة راتبة غير سنة الفجر والوتر، بما سيأتي من حديث ابن عمر في إثبات الراتبة البعدية للظهر والمغرب. قال الترمذي: اختلف أهل العلم بعد النبي ?، فرأى بعض أصحاب النبي ? أن يتطوع الرجل في السفر، وبه يقول أحمد وإسحاق، ولم تر طائفة أن يصلي قبلها ولا بعدها، ومعنى من لم يتطوع في السفر قبول الرخصة، ومن تطوع فله في لك فضل كثير، وهو قول أكثر أهل العلم يختارون التطوع في السفر- انتهى. قلت: والراجح عندي أن لا يترك في السفر الوتر وسنة الفجر. وأما غيرهما من الرواتب القبلية والبعدية فهي إلى خيرته، إن شاء فعلها وحصل ثوابها، وإن شاء تركها ولا شيء عليه، أعني أنها لا تبقى في حقه متأكدة كسنة صلاة الإقامة، والله أعلم. (متفق عليه) فيه أن السياق المذكور ليس

(6/235)


لهما ولا لأحدهما، بل هو مجموع من مجموع ما فيهما، فأول الحديث إلى قوله "أتممت صلاتي" من إفراد مسلم، لم يروه البخاري أصلا. وقوله: صحبت رسول الله ? إلى آخر الحديث" وهو سياق البخاري. وعند مسلم: يا ابن أخي! إني صحبت رسول الله ? في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقد قال الله تعالى: ?لقد كان لكن في رسول الله أسوة حسنة? [21:33] وسياق المشكاة موافق لما في المصابيح. ولو نبه المصنف على تصرف البغوي في سياق الحديث لكان أحسن. والحديث أخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص158).
1348- قوله: (كان رسول الله ? يجمع بين صلاة الظهر والعصر) أي جمع تأخير، وهو أن يؤخر
إذا كان على ظهر يسير، ويجمع بين المغرب والعشاء))

(6/236)


الظهر إلى أن يدخل وقت العصر، فيصلي الظهر والعصر جميعا في وقت العصر. (إذا كان على ظهر يسير) قال القسطلاني: بإضافة ظهر يسير. وللأصيلي وابن عساكر وأبي الوقت وأبي ذر عن الكشمهيني: ظهر بالتنوين، يسير بلفظ المضارع بتحتانية مفتوحة في أوله أي حال كونه يسير، وعزا في الفتح الأولى للأصيلي، والثانية للكشمهيني. ولفظ ظهر في قوله: "ظهر يسير" مقحم للتأكيد كقوله: الصدقة عن ظهر غنى. وقد يزاد في مثل هذا اتساعا للكلام، كأن السير مستند إلى ظهر قوي من المطي مثلا. وقيل: جعل للسير ظهر؛ لأن الراكب ما دام سائرا فكأنه راكب ظهر، وفيه جناس التحريف بين الظهر والعصر. (ويجمع بين المغرب والعشاء) أي كذلك. واستدل به على جواز جمع التأخير في السفر. وأما جمع التقديم فسيأتي الكلام فيه في شرح حديث معاذ بن جبل الآتي. واحتج بحديث ابن عباس هذا من قال باختصاص الجمع بالسائر دون النازل. وفي مسألة الجمع بين الصلاتين في السفر سبعة أقوال: أحدها أنه يجوز الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في السفر في وقت أحدها جمعا حقيقيا تقديما وتأخيرا مطلقا، أي سواء كان سائرا أم لا، وسواء كان سيرا مجدا أم لا. قال به كثير من الصحابة والتابعين، ومن الفقهاء الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبوثور وابن المنذر وأشهب. وحكاه ابن قدامة عن مالك أيضا. وقال الزرقاني: وإليه ذهب مالك في رواية مشهورة. قلت: وهو مختار المالكية، كما في فروعهم، واختاره الشاه ولي الله الدهلوي، حيث قال في حجة الله (ج2 ص18): من رخص السفر الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، والأصل فيه ما أشرنا أن الأوقات الأصلية ثلاثة الفجر والظهر والمغرب، وإنما اشتق العصر من الظهر والمغرب من العشاء، ولئلا تكون المدة الطويلة فاصلة بين الذكرين، ولئلا يكون النوم على صفة الغفلة، فشرع لهم جمع التقديم والتأخير، لكنه لم يواظب عليه ولم يعزم عليه مثل ما فعل في القصر- انتهى. والثاني

(6/237)


أنه يختص الجمع بمن يجد في السير أي يسرع، قاله الليث، وهو قول مالك في المدونة. واستدل لهما بما روي في الصحيح عن ابن عمر قال: كان النبي ? يجمع بين المغرب والعشاء (جمع تأخير) إذا جد به السير، وسيأتي الجواب عنه. والثالث أنه يختص بما إذا كان سائرا لا نازلا، قاله ابن حبيب من المالكية. واستدل لذلك بقوله: إذا كان على ظهر سير في حديث الباب. وأجيب عن ذلك بما وقع من التصريح في حديث معاذ بن جبل في الموطأ بلفظ: أن النبي ? أخر الصلاة (في غزوة تبوك) خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل ثم خرج، فصلى المغرب والعشاء جميعا. قال الشافعي في الأم قوله: "ثم دخل ثم خرج" لا يكون إلا وهو نازل، فللمسافر أن يجمع نازلا ومسافرا. وقال ابن عبدالبر: هذا أوضح دليل في الرد على من قال لا يجمع إلا من جد به السير، وهو قاطع للالتباس. وقال الباجي: مقتضى قوله: "ثم دخل ثم خرج" أنه مقيم غير سائر؛ لأنه إنما يستعمل في الدخول في المنزل والخباء، والخروج منهما، وهو غالب الاستعمال إلا أن يريد

(6/238)


أنه خرج من الطريق إلى الصلاة، ثم دخله للسير، وفيه بعد. وكذا حكى عياض هذا التأويل عن بعضهم ثم استبعده ولا شك في بعده، وكأنه ? فعل ذلك لبيان الجواز، وكان أكثر عادته التفرقة في حال الجمع بين ما إذا كان سائرا أو نازلا، ومن ثم قال الشافعية ترك الجمع أفضل. والرابع أن الجمع مكروه، قال ابن العربي: إنها رواية المصريين عن مالك، والخامس أنه يختص بمن له عذر حكى عن الأوزاعي. والسادس أنه يجوز جمع التأخير دون التقديم وهو اختيار ابن حزم، وسيأتي الكلام فيه. والسابع أنه لا يجوز الجمع مطلقا إلا بعرفة والمزدلفة، وهو قول الحسن والنخعي وأبي حنفية وصاحبيه، ووقع عند النووي أن الصاحبين خالفا شيخهما، ورد عليه السروجي في شرح الهداية، وهو أعرف بمذهبه، وأجاب هؤلاء عما ورد من الأخبار في ذلك الذي وقع جمع صوري، وهو أنه أخر المغرب مثلا إلى آخر وقتها، وعجل العشاء في أول وقتها. وتعقبه الخطابي في المعالم (ج1 ص264) بما حاصله: أن الجمع من الرخص العامة لجميع الناس عامهم وخاصهم، فلو كان على ما ذكروه لكان أعظم ضيقا من الإتيان بكل صلاة في وقتها؛ لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلا عن العامة. وأما أمره ? للمستحاضة بالجمع الصوري، فهو وارد في شيء يندر وجوده، على أنه ? قيد ذلك بقوله: إن قويت كما تقدم، فإن قدرت المستحاضة على معرفة أوائل الأوقات وأواخرها، وعلى الاغتسال ثلاث مرات جمعت بين الصلاتين فعلا وصورة. ومن الدليل على أن الجمع رخصة، قول ابن عباس: أراد أن لا يحرج أمته، أخرجه مسلم. وهذا يقدح في حمله على الجمع الصوري؛ لأن النزول للصلاتين والخروج إليهما مرة واحدة وإن كان أسهل من النزول مرتين، لكن لا يخلو ذلك عن حرج ومشقة بسبب عدم معرفة أكثر الناس أوائل أوقات الصلاة وأواخرها بخلاف الجمع الوقتي فهو أيسر وأخف من الجمع الفعلي، وهذا ظاهر وأيضا فإن الأخبار جاءت صريحة بالجمع في وقت إحدى الصلاتين،

(6/239)


وهي نصوص صريحة لا تحتمل تأويلا، كما سيأتي. قال الشيخ عبدالحي اللكنوي في التعليق الممجد (ص129): حمل أصحابنا يعني الحنفية الأحاديث الواردة في الجمع على الجمع الصوري. وقد بسط الطحاوي الكلام فيه في شرح معاني الآثار، لكن لا أدري ماذا يفعل بالروايات التي وردت صريحا بأن الجمع كان بعد ذهاب الوقت، وهي مروية في صحيح البخاري وسنن أبي داود وصحيح مسلم وغيرها من الكتب المعتمدة على ما لا يخفى على من نظر فيها، فإن حمل على أن الرواة لم يحصل التمييز لهم، فظنوا قرب خروج الوقت، خروج الوقت، فهذا بعيد عن الصحابة الناصين على ذلك، وأن أختير ترك تلك الروايات بأبداء الخلل في الإسناد فهو أبعد وأبعد مع إخراج الأئمة لها وشهادتهم بتصحيحها، وإن عورض بالأحاديث التي صرحت بأن الجمع كان بالتأخير إلى آخر الوقت والتقديم في أول الوقت فهو أعجب، فإن الجمع بينهما بحملها على اختلاف الأحوال ممكن
رواه البخاري.
1349-(8) وعن ابن عمر قال: ((كان رسول الله ? يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به

(6/240)


بل هو الظاهر- انتهى كلام الشيخ اللكنوي. وأيضا المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع هو الجمع الوقتي لا الفعلي. قال الخطابي في المعالم (ج1 ص264): ظاهر اسم الجمع عرفا لا يقع على من أخر الظهر حتى صلاها في آخر وقتها، وعجل العصر فصلاها في أول وقتها؛ لأن هذا قد صلى كل صلاة منهما في وقتها الخاص بها، وإنما الجمع المعروف بينهما أن تكون الصلاتان معا في وقت إحداهما ألا ترى أن الجمع بينهما بعرفة والمزدلفة كذلك- انتهى. ولو سلم أن لفظ الجمع عام يشمل الوقتي والفعلي كليهما فالروايات الصريحة في جمع التقديم والتأخير معين للمراد من لفظ الجمع في الروايات المطلقة، وأن المقصود هو الجمع الوقتي أي الحقيقي لا الصوري أي الفعلي. ومما يرد الحمل على الجمع الصوري جمع التقديم الآتي ذكره في الفصل الثاني. قال الحافظ: وفي هذه الأحاديث أي أحاديث الجمع الحقيقي الصريحة المفسرة تخصيص لحديث الأوقات التي بينها جبريل للنبي ? وبينها النبي ? للأعرابي حيث قال في آخرها: الوقت ما بين هذين- انتهى. وبهذا يندفع ما قيل: إن هذه الصلوات عرفت مؤقتة بأوقاتها بالدلائل المقطوع بها من الكتاب والسنة والإجماع، فلا يجوز تغييرها عن أوقاتها بخبر الواحد؛ لأن خبر الواحد لا يقبل في معارضة الدليل المقطوع به؛ لأن أحاديث الأوقات عامة وأحاديث الجمع خاصة بالسفر، ولا تعارض بين العام والخاص، فتحمل أحاديث الأوقات على ما عدا حالة السفر. (رواه البخاري) من طريق عكرمة عن ابن عباس. قال ميرك: ورواه مسلم بمعناه. قلت: روى مسلم من طريق أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله ? جمع بين الصلاتين في سفرة سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء قال سعيد: فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: أرادا أن لا يحرج أمته. وأخرج البيهقي الرواية الأولى (ج3 ص164).

(6/241)


1349- قوله: (على راحلته) الراحلة من الإبل ما كان منها صالحا؛ لأن يرتحل أي يشد عليه الرحل والقوي منها على الأحمال والأسفار للذكر والأنثى، والتاء للمبالغة. (حيث توجهت به) أي ولو إلى غير القبلة. قيل الضمير عائد إلى حيث أو إلى النبي ? ، والباء للتعدية، والعائد إلى حيث محذوف أي إليه. وقوله: "حيث توجهت به" متعلق بقوله: "يصلي". ففي حديث عامر بن ربيعة عند البخاري: رأيت رسول الله ? ، وهو على الراحلة، يسبح يومئ برأسه قبل أي وجه توجه. قيل: وهو قيد احتراز, فصوب أي جهة سفره قبلته، فلو صلى إلى غير ما توجهت به دابته لا يجوز. قال الحافظ: واستدل به على أن جهة الطريق تكون بدلا عن القبلة، حتى يجوز الانحراف عنها عامدا قاصدا لغير حاجة المسير إلا إن كان سائرا في غير جهة القبلة فانحرف إلى جهة
يومئ إيماء صلاة الليل إلا الفرائض، ويوتر على راحلته))

(6/242)


القبلة فإن ذلك لا يضره على الصحيح. وقال ابن قدامة: وقبلة هذا المصلي حيث كانت وجهته، فإن عدل عنها نظرت فإن كان عدوله إلى جهة الكعبة جاز؛ لأنها الأصل، وإنما جاز تركها للعذر، فإذا عدل إليها أتى بالأصل، وإن عدل إلى غيرها عمدا فسدت صلاته؛ لأنه ترك قبلته عمدا. (يومئ) بياء مبدلة من همزة من أومأ. قال الطيبي: حال من فاعل يصلي، وكذا على راحلته. (إيماء) نصب على المصدرية أي يشير برأسه إلى الركوع والسجود من غير أن يضع جبهته على ظهر الراحلة، وكان يومئ للسجود أخفض من الركوع تمييزا بينهما، وليكون البدل على وفق الأصل، وقد وقع ذلك صريحا في حديث جابر الآتي في الفصل الثاني. (صلاة الليل) مفعول يصلي.وفيه أن المراد بقوله: ?وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره? [144:2] الفرائض. (إلا الفرائض) مستثنى من صلاة الليل أي لكن الفرائض. فلم يكن يصليها على الراحلة، فالاستثناء منقطع لا متصل؛ لأن المراد خروج الفرائض من الحكم ليلية أو نهارية. (ويوتر) بعد فراغه من صلاة الليل. (على راحلته) قال ابن الملك: يدل على عدم وجوب الوتر يعني؛ لأنه لو كان واجبا لما جازت صلاته على الدابة. قلت: الحديث نص في جواز الوتر على الدابة في السفر وهو من علامات عدم وجوب الوتر. واختلف فيه أهل العلم، فقال مالك والشافعي وأحمد بجوازه، وهو مروي عن على وابن عمر وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري. وقولهم هو الحق. وقال أبوحنيفة وصاحباه: لا يجوز الوتر إلا على الأرض، كما في الفرائض وهو خلاف السنة الثابتة. قال محمد بن نصر المروزي في كتاب الوتر بعد رواية الأحاديث والآثار الدالة على جواز الوتر على الدابة ما لفظه: وزعم النعمان يعني أبا حنيفة أن الوتر على الدابة لا يجوز خلافا لما روينا. واحتج له بعضهم بحديث رواه عن ابن عمر أنه نزل عن دابته فأوتر بالأرض. فيقال لمن احتج بذلك: هذا ضرب من الغفلة، هل قال أحد لا يحل للرجل أن يوتر بالأرض؟ إنما قال العلماء:

(6/243)


لا بأس أن يوتر على الدابة، وإن شاء أوتر بالأرض, وكذلك كان ابن عمر يفعل ربما أوتر على الدابة، وربما أوتر على الأرض. (أي طلبا للأفضل). وعن نافع أن ابن عمر كان ربما أوتر على راحلته، وربما نزل. وفي رواية: كان يوتر على راحلته، وكان ربما نزل- انتهى. وقال الشيخ عبدالحي اللكنوي في التعليق الممجد (ص131): أخذ أصحابنا يعني الحنفية بالآثار الواردة بنزول ابن عمر للوتر، وشيدوه بالأحاديث المرفوعة في نزوله ? للوتر. وقال المجوزون لأدائه على الدابة: إنه لا تعارض ههنا إذ يجوز أن يكون النبي ? فعل الأمرين، فأحيانا أدى الوتر على الدابة وأحيانا على الأرض واقتدى به ابن عمر. ويؤيده ما أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار عن مجاهد عن محمد ابن إسحاق عن نافع قال: كان ابن عمر يوتر على الراحلة، وربما نزل فأوتر على الأرض. وذكر الطحاوي بعد ما أخرج آثار الطرفين الوجه في ذلك عندنا أنه قد يجوز أن يكون رسول الله ? كان يوتر على الراحلة قبل أن
متفق عليه.

(6/244)


يحكم بالوتر، ويغلظ أمره، ثم أحكم بعد ولم يرخص في تركه، ثم أخرج حديث: إن الله أمدكم بصلاة هي خر لكم من حمر النعم الخ من حديث خارجة وأبي بصرة، ثم قال: فيجوز أن يكون ما روى ابن عمر عن رسول الله ? من وتره على الراحلة كان منه قبل تأكيده إياه، ثم نسخ ذلك- انتهى. وفيه نظر لا يخفى إذ لا سبيل إلى إثبات النسخ بالاحتمال ما لم يعلم ذلك بنص وارد في ذلك- انتهى كلام الشيخ اللكنوي. وفي الحديث جواز التنفل على الراحلة في السفر، وهو مما أجمع عليه المسلمون. قال الشوكاني: جواز التطوع على الراحلة للمسافر قبل جهة مقصده إجماع كما قال النووي والعراقي والحافظ وغيرهم، وإنا الخلاف في جواز ذلك في الحضر، فجوزه أبويوسف وأبوسعيد الأصطخري من أصحاب الشافعي وأهل الظاهر. وقال ابن حزم: وقد روينا عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يصلون على رحالهم ودوابهم حيثما توجهت، قال: وهذه حكاية عن الصحابة والتابعين عموما في الحضر والسفر. قال النووي: وهو محكي عن أنس بن مالك. قال العراقي: استدل من ذهب إلى ذلك بعموم الأحاديث التي لم يصرح بذكر السفر، وهو ماش على قاعدتهم أنه لا يحمل المطلق على المقيد، بل يعمل على كل منهما. فأما من يحمل المطلق على المقيد، وهم الجمهور فحملوا الروايات المطلقة على المقيدة. وظاهر الأحاديث عدم الفرق بين السفر الطويل والقصير. (لأن الروايات ليس فيها شيء من التحديد فوجب الامتثال بالعموم) وإليه ذهب الشافعي وجمهور العلماء. (أبوحنيفة وصاحباه وأحمد وداود وغيرهم) وذهب مالك إلى أنه لا يجوز إلا في سفر يقصر في مثله الصلاة. (لأن الروايات التي حكاها ابن عمر وغيره وردت فيما يقصر فيه الصلاة)، وهو محكي عن الشافعي لكنها حكاية غريبة- انتهى. وقال الحافظ: قد أخذ بمضمون هذه الأحاديث فقهاء الأمصار، إلا أن أحمد وأبا ثور كانا يستحبان أن يستقبل القبلة بالتكبير حال ابتداء الصلاة. والحجة لذلك حديث الجارود بن أبي سبرة عن أنس أن

(6/245)


النبي ? كان إذا أراد أن يتطوع في السفر استقبل بناقته القبلة، ثم صلى حيث وجهت ركابه، أخرجه أبوداود وأحمد والدارقطني- انتهى. وقال ابن قدامة في المغني (ج1 ص436): وإن كان يعجز عن استقبال القبلة في ابتداء الصلاة كراكب راحلته لا تطيعه أو كان في قطار أي جماعة الإبل التي تربط بعضها ببعض فليس عليه استقبال القبلة في شيء من الصلاة، وإن أمكنه افتتاحها إلى القبلة تخرج فيه روايتان: إحداهما يلزمه لرواية أنس عند أحمد وأبي داود أنه عليه السلام استقبل بناقته القبلة، فكبر، والثانية: لا يلزمه؛ لأنه جزء من أجزاء الصلاة أشبه سائر أجزائها والحديث يحمل على الفضيلة والندب- انتهى. وكان السر فيما ذكر من جواز التطوع على الدابة في السفر تحصيل النوافل على العباد وتكثيرها تعظيما لأجورهم رحمة من الله بهم. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب الوتر في السفر، وأخرجه أيضا مالك وأحمد وأبوداود والنسائي والطحاوي والبيهقي (ج2 ص5، 491).
?الفصل الثاني?
1350- (9) عن عائشة، قالت: ((كل ذلك قد فعل رسول الله ?: قصر الصلاة وأتم))

(6/246)


1350- قوله: (كل ذلك) إشارة إلى ما ذكر بعده من القصر والإتمام "وكل" مفعول قوله. (قد فعل) أو مبتدأ على حذف العائد أي كل ذلك فعله. قال الطيبي: ذلك إشارة إلى أمر مبهم له شأن لا يدري إلا بتفسيره. وتفسيره قولها رضي الله عنها: (قصر الصلاة وأتم) ونظيره قوله تعالى: ?وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين? [ 15: 66]، تعني كان رسول الله ? يقصر الرباعية في السفر ويتمها. والحديث قد احتج به القائلون بعدم وجوب القصر في السفر، لكنه ضعيف جدا؛ لأن في سنده طلحة بن عمرو بن عثمان الحضرمي المكي، وهو متروك ليس بشيء، واحتجوا أيضا بما روى الدارقطني (ص242) والبيهقي (ج3: ص141) من طريقه عن عائشة أن النبي الله? كان يقصر ويتم ويفطر ويصوم. قال الدارقطني: إسناده صحيح. وأجيب عنه بأنه حديث فيه كلام لا يصح للاحتجاج. قال الحافظ في التلخيص (ص128): قد استنكره أحمد، وصحته بعيدة، فإن عائشة كانت تتم ،وذكر عروة أنها تأولت ما تأول عثمان، كما في الصحيح، فلو كان عندها من النبي ? رواية لم يقل عروة: إنها تأولت، وقد ثبت في الصحيحين خلاف ذلك- انتهى. وقال ابن القيم في الهدي (ج1: ص121) بعد ذكر هذا الحديث: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هو كذب على رسول الله ? - انتهى. واحتجوا أيضا بما روى النسائي والدارقطني (ص242) والبيهقي (ج3 ص142) عن عائشة أيضا قالت: خرجت مع النبي ? في عمرة في رمضان، فأفطر وصمت، وقصر وأتممت، فقالت: - بأبي وأمي- أفطرت وصمت، وقصرت وأتممت! فقال أحسنت يا عائشة! قال الدارقطني: إسناده حسن. وأجيب عنه بأنه أيضا لا يصلح للاحتجاج. قال في البدر المنير: إن في متن هذا الحديث نكارة، وهو كون عائشة خرجت معه في عمرة في رمضان، والمشهور أنه ? لم يعتمر إلا أربع عمر ليس منهن شيء في رمضان، بل كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته، فكان إحرامها في ذي القعدة، وفعلها في ذي الحجة، قال: هذا هو المعروف في الصحيحين

(6/247)


وغيرهما. وقد تمحل بعض الحفاظ في الجواب عن هذا الإشكال، واعتراض عليه الحافظ أبوعبدالله بن محمد بن عبدالأحد المقدسي في كلام له على هذا الحديث، وقال: وهم في هذا غير موضع، وذكر أحاديث في الرد عليه. وقال ابن حزم: هذا حديث لا خير فيه، وطعن فيه. وقال ابن القيم في الهدي (ج1 ص133) بعد ذكر هذا الحديث: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذا الحديث كذب على عائشة، ولم تكن عائشة تصلي بخلاف صلاة رسول الله ? وسائر الصحابة، وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم هي وحدها بلا موجب. كيف وهي القائلة: فرضت الصلاة ركعتين، فزيد في الصلاة الحضر،
رواه في شرح السنة.
1351-(10) وعن عمران بن حصين، قال: ((غزوت مع النبي ? وشهدت معه الفتح، فقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، يقول: يا أهل البلد! صلوا أربعا، فإنا سفر)).
وأقرت صلاة السفر، فكيف يظن أنها تريد على ما فرض الله وتخالف رسول الله ? وأصحابه، وإذا كان النبي ? قد حسن فعلها وأقرها عليه فما للتأويل. (يعني ما تقدم ذكره في كلام الحافظ في التلخيص) حينئذ وجه، ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير، وقد أخبر ابن عمر أن رسول الله ? لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا أبوبكر ولا عمر، أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم وهم تراهم يقصرون؟ وأما بعد موته ? فإنها أتمت كما أتم عثمان، وكلاهما تأول تأويلا، والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم مع مخالفة غيره له- انتهى. وبالجملة فلم يثبت عنه ? أنه أتم الرباعية في سفره البتة، بل لازم القصر في جميع أسفاره، فعلى المسلم أن يلازم القصر في السفر، كما لازمه ?. (رواه) أي صاحب المصابيح. (في شرح السنة") وأخرجه أيضا الشافعي والدارقطني (ص242) والبيهقي (ج3 ص142)، وفي سنده طلحة بن عمرو، وهو مترك، فالحديث ضعيف جدا.

(6/248)


1351- قوله: (غزوت مع النبي ?) أي غزوات. (الفتح) أي فتح مكة. (فأقام) أي مكث. (ثماني عشرة ليله) أي مع أيامها، وما كان نوى الإقامة هذه المدة من أول الأمر بل كان مترددا متى تهيأ فراغ حاجته ارتحل كما تقدم، فامتد مكثه بمكة لذلك. (لا يصلي إلا ركعتين) في الرباعية. ( يقول) بعد تسليمة خطابا لمن اقتدى به من أهل مكة: (يا أهل البلد صلوا أربعا) أي لا تقصروا صلاتكم بل أتموها أربعا. (فإنا) قوم. (سفر) بفتح السين وسكون الفاء. جمع سافر، كركب وراكب وصحب وصاحب، أي إني وأصحابي مسافرون فنقصر الصلاة الرباعية من أجل السفر، وأنتم مقيمون فلا تقصروها بل أتموها. قال الطيبي: الفاء هي الفصيحة لدلالتها على محذوف هو سبب لما بعد الفاء، أي صلوا أربعا ولا تقتدوا بنا فإنا سفر، كقوله تعالى: ?فانفجرت? أي فضرب فانفجرت- انتهى. وفي الحديث دليل على أن المسافر إذا كان إماما للمقيمين وسلم على ركعتين في الرباعية يتم المقيمون صلاتهم كإتمام أهل مكة، وهذا إجماع، ويستحب له أن يقول بعد التسليم به أتموا صلاتكم إتباعا لفعله?. قال ابن عبدالبر: لا خلاف علمته فيما بينهم أن المسافر إذا صلى بمقيمين ركعتين وسلم فأتموا لأنفسهم. وقال الشوكاني: جواز ائتمام المقيمين بالمسافر مجمع عليه. واختلف في العكس، فذهب طاووس وداود والشعبي وغيرهم إلى عدم الصحة لقوله ?: لا تختلفوا على إمامكم، وقد خالف في العدد والنية، وذهب الحنفية والشافعية إلى الصحة إذ لم تفصل أدلة الجماعة، ويدل للجواز ما أخرجه أحمد في مسنده عن ابن عباس أنه سئل ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد وأربعا
رواه أبوداود.

(6/249)


1352-(11) وعن ابن عمر، قال: ((صليت مع النبي ? الظهر في السفر ركعتين، وبعدها ركعتين. وفي رواية قال: صليت مع النبي ? في الحضر والسفر، فصليت معه في الحضر الظهر أربعا، وبعدها ركعتين. وصليت معه في السفر الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين، والعصر ركعتين، ولم يصل بعدها شيئا، والمغرب في الحضر والسفر سواء ثلاث ركعات، ولا ينقص في حضر ولا سفر،
إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة. وفي لفظ قال له موسى بن سلمة: إنا إذا كنا معكم صلينا أربعا، وإذا رجعنا صلينا ركعتين! فقال: تلك سنة أبي القاسم ? . وقد أورد الحافظ هذا الحديث في التلخيص(ص130) ولم يتكلم عليه-انتهى. وقال ابن عبدالبر في الاستذكار: اختلفوا... في المسافر يصلي وراء مقيم، فقال مالك وأصحابه: إذا لم يدرك معه تامة صلى ركعتين، فإن أدرك معه ركعة بسجدتيها صلى أربعا. وذكر الطحاوي أن أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدا قالوا: يصلي صلاة المقيم وإن أدركه في التشهد وهو قول الثوري والشافعي-انتهى. قلت: وهو مذهب الإمام أحمد كما في المغني (ج1ص284) وغيره من كتب فروع الحنابلة. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا البيهقي (ج3ص157) من طريق أبي داود وأخرجه أيضا هو (ج3ص135، 136، 153) والترمذي بنحوه مطولا، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال الحافظ في التلخيص (ص129): إن الترمذي حسن هذا الحديث، ولكن نقل المنذري والزيلعي (ج2ص187) أنه قال: حسن صحيح. والحديث نسبه أيضا الزيلعي إلى الطبراني وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه وأبي داود الطيالسي. وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان، وقد تكلم فيه جماعة من الأئمة، وقال الحافظ: هو ضعيف، وإنما حسن الترمذي حديثه لشواهده، ولم يعتبر الاختلاف في المدة، كما عرف من عادة المحدثين من اعتبارهم الاتفاق على الأسانيد دون السياق-انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: علي بن زيد عند الترمذي صدوق، كما في الميزان وغيره، فلأجل ذلك حسنه وصححه، على أن لهذا الحديث شواهد،

(6/250)


وكم من حديث ضعيف قد حسنه الترمذي لشواهده-انتهى.
1352- قوله: (الظهر) أي صلاته. (في السفر ركعتين) أي فرضا. (وبعدها) أي بعد صلاة الظهر. (ركعتين) أي سنة الظهر. (وفي رواية) أي عن ابن عمر. (الظهر) أي فرضه. (أربعا) أي أربع ركعات. (ولم يصل بعدها) أي بعد صلاة العصر. (شيئا) لكراهة التطوع بعدها. (والمغرب في الحضر والسفر سواء) حال أي مستويا عددها فيهما وقوله. (ثلاث ركعات) بيان لها. (لا ينقص في حضر ولا سفر) على البناء للفاعل
وهي وتر النهار، وبعدها ركعتين))، رواه الترمذي.
1353-(12) وعن معاذ بن جبل، قال: ((كان النبي ? في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل، جمع بين الظهر والعصر، وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل للعصر، في المغرب مثل ذلك، إذا غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء، وإن ارتحل قبل أن تغيب الشمس أخر المغرب حتى ينزل للعشاء، ثم يجمع بينهما))

(6/251)


أي شيء منها، يعني لا ينقص رسول الله ? المغرب عن ثلاث ركعات في الحضر ولا في السفر؛ لأن القصر منحصر في الرباعية. (وهي وتر النهار) جملة حالية كالتعليل لعدم جواز النقصان، قاله الطيبي. (وبعدها) أي بعد صلاة المغرب. (ركعتين) أي سنة المغرب. والروايتان تدلان على جواز الإتيان بالرواتب في السفر، وقد تقدم الكلام فيه مفصلا. (رواه الترمذي) الرواية الأولى من طريق حجاج بن أرطاة عن عطية عن ابن عمر. والثانية المطولة من طريق محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن عطية ونافع عن ابن عمر، وقد حسن الترمذي الروايتين جميعا، وإنما حسن الرواية الأولى أي المختصرة مع أن في سندها حجاج بن أرطاة وعطية، وكلاهما مدلسان، وروياه بالعنعنة. وقال في الميزان: عطية تابعي شهير ضعيف؛ لأنه قد تابع حجاجا ابن أبي ليلى في طريق الرواية الثانية، وكذلك تابع عطية نافع فيها، ومحمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى صدوق فقيه تكلم فيه من قبل حفظه، وحديثه مما يحتج به إذا تابعه غيره.

(6/252)


1353- قوله: (كان النبي ? في غزوة تبوك) غير منصرف على المشهور، وهو موضع قريب من الشام. (إذا زاغت الشمس) أي مالت عن وسط السماء إلى جانب المغرب أراد به الزوال. (قبل أن يرتحل) ظرف لما قبله أو ما بعده. (جمع بين الظهر والعصر) أي في المنزل جمع تقديم، بأن قدم العصر فصلاها في وقت الظهر. (قبل أن تزيغ الشمس) أي تزول. (آخر الظهر) أي إلى وقت العصر. (حتى ينزل للعصر) أي لوقته فجمع بينهما جمع تأخير بأن صلى الظهر في وقت العصر ثم صلى العصر. (وفي المغرب مثل ذلك) أي مثل ما فعل في الظهر والعصر. (إذا غابت) وفي المصابيح: إن غابت، كما في أبي داود، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج6ص451) (جمع بين المغرب والعشاء) في المنزل جمع تقديم. (آخر المغرب حتى ينزل للعشاء) أي لوقته. (ثم يجمع) وفي المصابيح: ثم جمع موافقا، لما في أبي داود، ووقع في جامع الأصول، كما في المشكاة. (بينهما) أي جمع تأخير. وفي الحديث دليل لما ذهب إليه الشافعي وغيره من جواز الجمع الحقيقي تقديما وتأخيرا. قال ابن حجر
رواه أبوداود والترمذي

(6/253)


المكي: إنه حديث صحيح، وإنه جملة الأحاديث التي هي نص لا يحتمل تأويلا في جواز جمعي التقديم والتأخير-انتهى. قلت: وفي الباب أحاديث أخرى، وهي صريحة في الجمع الحقيقي، وسنذكرها. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا النسائي والدارقطني (ص150) والبيهقي (ج3ص162، 163) كلهم من طريق هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ. قال الحافظ في التلخيص (ص130): وهشام لين الحديث، وقد خالف أوثق الناس في أبي الزبير، وهو الليث بن سعد. وقال في الفتح (ج5ص588): وهشام مختلف فيه، وقد خالفه الحفاظ من أصحاب أبي الزبير، كمالك والثوري وقرة بن خالد وغيرهم-انتهى. قلت: هشام بن سعد المدني أبوعباد صاحب زيد بن أسلم، قد استشهد به مسلم في الصحيح، وعلق له البخاري في جامعه الصحيح، وضعفه ابن معين والنسائي وابن عدي. وقال الساجي: صدوق. وقال: أبوزرعة محله الصدق، وهو أحب إلي من ابن إسحاق. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين صالح، وليس بمتروك الحديث. وقال أبوداود: هشام بن سعد أثبت الناس في زيد بن أسلم. وقال الحاكم: أخرج له مسلم في الشواهد، كذا في التهذيب. وقال في البدر المنير: قال عبدالحق عن البزار: لم أر أحدا توقف عن حديثه- انتهى. فحديثه لا ينحط عن درجة الحسن، وعلى هذا فالحديث المذكور ليس بضعيف، كما تفوه النيموي، بل هو حسن بلا شك. وأما ما ذكر الحافظ من مخالفته لأصحاب أبي الزبير، وكأنه يشير إلى أن روايته بجمع التقديم شاذة، ففيه أنه ليس بين روايته وبين رواياتهم مخالفة ومعارضة أصلا، فإن رواياتهم مجملة ساكتة عن بيان كيفية الجمع، ورواية هشام هذه مفصلة مفسرة، والمفسرة قاض على المجمل، فيحمل هذا على ذاك، وللحديث طريق أخرى عن معاذ بن جبل أخرجها أحمد (ج5 ص241، 242) والترمذي وأبوداود وابن حبان والدارقطني (ص150) والبيهقي (ج3 ص163) والحاكم في علوم الحديث (ص119) بنحوه من رواية قتيبة عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن

(6/254)


معاذ بن جبل، وهذا الطريق قد اضطربت فيه أقوال العلماء، قال في البدر المنير: للحفاظ في هذا الحديث خمسة أقوال: أحدها أنه حسن غريب، قاله الترمذي. ثانيها: أنه محفوظ صحيح، قاله ابن حبان. ثالثها: أنه منكر، قاله أبوداود. (حكاه الحافظ في التلخيص ص130) والمنذري في مختصر السنن). رابعها: أنه منقطع، قاله ابن حزم. خامسها: أنه موضوع، قاله الحاكم. (في علوم الحديث ص120) وأصل حديث أبي الطفيل في صحيح مسلم، وأبوطفيل ثقة مأمون- انتهى. وقال الحافظ في الفتح (ج5 ص588): وقد أعله جماعة من أئمة الحديث بتفرد قتيبة عن الليث. وقال في التلخيص (ص130) بعد ذكر هذا الحديث: قال الترمذي حسن غريب، تفرد به قتيبة، والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ من حديث أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ،

(6/255)


وليس فيه جمع تقديم. يعني الذي أخرجه مسلم. وقال أبوداود: هذا حديث منكر، وليس في جمع التقديم حديث قائم. وقال أبوسعيد بن يونس: لم يحدث بهذا الحديث إلا قتيبة، ويقال: إنه غلط فيه فغير بعض الأسماء، وأن موضع يزيد بن أبي حبيب أبوالزبير. وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه: لا أعرفه من حديث يزيد، والذي عندي أنه دخل له حديث في حديث، وأطنب الحاكم في علوم الحديث في بيان علة هذا الخبر، فليراجع منه، وحاصله أن البخاري سأل مع من كتبته؟ فقال: مع خالد المدائني قال البخاري: كان خالد المدائني يدخل على الشيوخ، يعني يدخل في روايتهم ما ليس منها، وأعله ابن حزم بأنه معنعن ليزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل ولا يعرف له عنه رواية- انتهى كلام الحافظ. قلت: الكلام الذي عزاه الحافظ لأبي داود ليس في سننه، بل الذي فيها "لم يرو هذا الحديث إلا قتيبة وحده، ولم يقم دليل على ما قيل من أن قتيبة أو غيره من الرواة غلط في هذا الحديث فغير بعض الأسماء، وقد راجعنا علوم الحديث للحاكم فوجدنا أنه قد أفرط في الكلام على هذا الحديث فحكم بكونه موضوعا، ولم يأت بشيء يؤيد قوله، والحق أن الحديث على شرط صحيح. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: وما أحسن ما قال، وقد أسرف الحاكم أبوعبدالله في علوم الحديث فزعم أنه موضوع، مع أنه اعترف بأن رواته أئمة ثقات وعلل ذلك بأنه "شاذ الإسناد والمتن، لا نعرف له علة نعلله بها" وأطال القول في ذلك بما لا طائل تحته، والحديث حديث صحيح ليست له علة، وقد صححه أيضا ابن حبان. (كما تقدم) وليس الشاذ ما انفرد به الثقة، إنما الشاذ أن يخالف الراوي غيره ممن هو أحفظ منه وأقوى- انتهى. ويؤيد ذلك ما روى الحاكم (ص119) عن الشافعي أنه قال: ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يرويه غيره، هذا ليس بشاذ إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثا يخالف فيه الناس، هذا الشاذ من الحديث- انتهى. وقد رد أيضا على الحاكم ابن القيم

(6/256)


في الهدي (ج1 ص136) فقال: حكمه بالوضع على هذا الحديث غير مسلم، قال: وإسناده على شرط الصحيح وفي جمع التقديم أحاديث أخرى فمنها حديث ابن عباس، أخرجه أحمد (ج1 ص368، 369) والدارقطني (ص149) والبيهقي (ج3 ص163) من طريق حسين بن عبدالله عن عكرمة وكريب عن ابن عباس مرفوعا، وذكره أبوداود تعليقا، والترمذي في بعض الروايات عنه، وحسين بن عبدالله الهاشمي ضعفه جماعة. وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: ليس به بأس يكتب حديثه. وقال ابن عدي: أحاديثه يشبه بعضها بعضا، وهو ممن يكتب حديثه، فإني لم أجد في حديثه منكرا، قد جاوز المقدار. قال الحافظ في التلخيص (ص130): يقال إن الترمذي حسن هذا الحديث، وكأنه باعتبار المتابعة، وغفل ابن العربي فصحح إسناده‘ لكن له طريق أخرى أخرجها يحيى بن عبدالحميد الحماني في مسنده عن أبي خالد الأحمر عن الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس، وله طريق أخرى أيضا أخرجها إسماعيل القاضي في الأحكام

(6/257)


عن إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه عن سليمان بن بلال عن هشام بن عروة عن كريب عن ابن عباس بنحوه، وله طريق أخرى أيضا أخرجها أحمد (ج1 ص242) من رواية حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس قال: لا أعلمه إلا قد رفعه، قال: كان إذا نزل منزلا- الحديث. ونسبه الحافظ في الفتح للبيهقي وقال: رجاله ثقات، إلا أنه مشكوك في رفعه. (حيث قال: ولا أعلمه مرفوعا) والمحفوظ أنه موقوف. وقد أخرجه البيهقي من وجه آخر مجزوما بوقفه، ولا ابن عباس حديث آخر، ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص160، 159) وعزاه للطبراني في الأوسط وقال: فيه أبومعشر نجيح، وفيه كلام كثير، وقد وثقه بعضهم- انتهى. ومنها حديث علي أخرجه الدارقطني (ص150) وفي إسناده، كما قال الحافظ: من لا يعرف، وفيه أيضا المنذر بن محمد القابوسي، وهو ضعيف. وقال الدارقطني: مجهول، وأخرج عبدالله بن أحمد في زيادات المسند (ج1 ص136) بإسناد آخر أن عليا كان يسير حتى إذا غربت الشمس وأظلم نزل فصلى المغرب ثم صلى العشاء على أثرها ثم يقول: هكذا رأيت رسول الله ? يصنع. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند: إسناده صحيح. ومنها حديث أنس أخرجه جعفر الفريابي والبيهقي في كتاب المعرفة، وفي السنن الكبرى (ج3 ص162) والإسماعيلي وأبونعيم في مستخرجه على مسلم كلهم من طريق إسحاق بن راهويه عن شبابة عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس قال: كان رسول الله ? إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم ارتحل، وأعل بتفرد إسحاق ابن راهويه، وليس ذلك بقادح فإنه إمام حافظ قاله الحافظ في الفتح، وقال في التلخيص (ص130) بعد ذكر الحديث: وإسناده صحيح، قاله النووي، وفي ذهني أن أبا داود أنكره على إسحاق ولكن له متابع، رواه الحاكم في الأربعين له عن أبي العباس محمد بن يعقوب عن محمد بن إسحاق الصغاني عن حسان بن عبدالله عن المفضل بن فضالة عن عقيل عن ابن شهاب، وهو في الصحيحين من هذا الوجه، وليس

(6/258)


فيه: والعصر، وهي زيادة غريبة صحيحة الإسناد، وقد صححه المنذري من هذا الوجه والعلائي، وتعجب من الحاكم كونه لم يورده في المستدرك- انتهى. وقال في الفتح: قال الحافظ صلاح الدين العلائي: هكذا وجدته بعد التتبع في نسخ كثيرة من الأربعين بزيادة العصر، وسند هذه الزيادة جيد- انتهى. قلت. (قائله الحافظ): وهي متابعة قوية لرواية إسحاق بن راهويه أن كانت ثابتة لكن في ثبوتها نظر؛ لأن البيهقي أخرج في السنن الكبرى (ج3 ص161) هذا الحديث عن الحاكم بهذا الإسناد مقرونا برواية أبي داود عن قتيبة. وقال: إن لفظهما سواء إلا أن في رواية قتيبة كان رسول الله ?. وفي رواية حسان: أن رسول الله ? كان، وله طريق أخرى رواها الطبراني في الأوسط، ذكرها الحافظ في التلخيص (ص130، 131) بسندها ومتنها ثم نقل عن الطبراني أنه قال: تفرد به يعقوب بن محمد. وقال
1354- (13) وعن أنس، قال: ((كان رسول الله ? إذا سافر وأراد أن يتطوع، استقبل القبلة
بناقته، فكبر، ثم صلى حيث كان وجهه ركابه))

(6/259)


الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص160) بعد عزوه إلى الطبراني: ورجاله موثقون- انتهى. هذا وقد ظهر بما ذكرنا من أحاديث جمع التقديم ومتابعاتها، وهن ما حكي عن أبي داود أنه قال: ليس في جمع التقديم حديث قائم، وتحقق قوة وصحة ما قاله الشوكاني في النيل من أن بعضها صحيح وبعضها حسن، وذلك يرد قول أبي داود ليس في جمع التقديم حديث قائم- انتهى. وأما جمع التأخير فقد ورد فيه أحاديث كثيرة صحيحة صريحة مخرجة في الصحيحين وغيرهما. فمنها حديث أنس قال: كان النبي ? إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل يجمع بينهما، فإن زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب. متفق عليه. وفي رواية لمسلم: حتى يدخل أول وقت العصر ثم يجمع بينهما. ومنها حديث أنس أيضا عن النبي ? إذا عجل عليه السفر يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع بينهما ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق، رواه مسلم، ومنها ما روي عن نافع أن ابن عمر كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق، ويقول: أن رسول الله ? كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء. رواه مسلم. ومنها حديث جابر أن رسول الله ? غابت له الشمس بمكة، فجمع بينهما بسرف. رواه أبوداود والنسائي. وهذه الروايات صريحة في الجمع في وقت إحدى الصلاتين، وفيها إبطال تأويل الحنفية في قولهم: إن المراد بالجمع الجمع الصوري، أي الفعلي يعني تأخير الأولى إلى آخر وقتها وتقديم الثانية إلى أول وقتها، وأما ما يذكر من الروايات المخرجة في غير الصحيحين الدالة على الجمع الصوري، فهي لا توازي روايات الصحيحين.

(6/260)


1354- قوله: (إذا سافر) سفرا قصيرا أو طويلا، وقيل: المراد السفر الشرعي. (وأراد) وفي أبي داود فأراد. (أن يتطوع) أي يتنفل راكبا والدابة تسير. (استقبل القبلة بناقته) وفي أبي داود: استقبل بناقته القبلة أي ليحصل استقبال القبلة وقت افتتاح الصلاة. (فكبر) أي للتحريمة عقب الاستقبال. (ثم صلى) أي ثم استمر في صلاته، قاله ابن حجر. وقال الطيبي: ثم ههنا للتراخي في الرتبة، ولما كان الاهتمام بالتكبير أشد لكونه مقارنا بالنية خص بالتوجه إلى القبلة. (حيث وجهه ركابه) أي ذهب به مركوبه. مستقبل القبلة أو غير مستقبلها، وفي دليل على مشروعية استقبال القبلة بالتكبير حال ابتداء الصلاة، وقد تقدم الكلام فيه. قال ابن القيم بعد ذكر هذا الحديث: وفي هذا الحديث نظر، وسائر من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم على راحلته أطلقوا أنها كان يصلي عليها قبل أي جهة توجهت به، ولم يستثنوا من ذلك تكبيرة الإحرام ولا غيرها كعامر
رواه أبوداود.
1355- (14) وعن جابر، قال: ((بعثني رسول الله ? في حاجته، فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق، ويجعل السجود أخفض من الركوع)) رواه أبوداود.
ابن ربيعة وعبدالله بن عمر وجابر بن عبدالله، وأحاديثهم أصح من حديث أنس هذا- انتهى. قلت: حديث أنس هذا ليس فيه دليل على وجوب استقبال القبلة بالتكبير وقت افتتاح صلاة التطوع على الراحلة، فيحمل على الندب والفضيلة، كما قال ابن قدامة، وحينئذ فلا مخالفة بينه وبين أحاديث غيره ممن ذكرهم ابن القيم. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد والدارقطني (152) والبيهقي (ج2 ص5). والحديث قد سكت عنه أبوداود والمنذري. وقال في التعليق المغني: الحديث صحيح الإسناد. قلت: الأمر كما قال صاحب التعليق.

(6/261)


1355- قوله: (في حاجته) وفي المصابيح: في حاجة. وكذا في سنن أبي داود والترمذي، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج6 ص317) وللبيهقي: لحاجة. (فجئت) أي إليه بعد قضاء الحاجة. (وهو يصلي) حال. (نحو المشرق) ظرف، أي يصلي إلى جانب المشرق، أو حال أي متوجها نحو المشرق أو كانت متوجهة إلى جانب المشرق. قال الحافظ في الفتح: وبين في المغازي أن ذلك كان في غزوة أنمار، وكانت أراضهم قبل المشرق لمن يخرج من المدينة، فتكون القبلة على يسار القاصد إليهم. (ويجعل السجود) أي إيماء إليه، كذا وقع في المصابيح، ويجعل السجود. وفي سنن أبي داود وجامع الترمذي: والسجود أي بالرفع، وبدون لفظ يجعل، وكذا نقله الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص152) عنهما، وكذا حكاه المنذري في مختصر السنن، وكذا ذكره المجد بن تيمية في المنتقى، والجزري في جامع الأصول. (أخفض من الركوع) أي أسفل من إيماء إلى الركوع، وفيه مشروعية التطوع على الدابة في السفر، والإيماء للركوع والسجود على الدابة، وكون الإيماء للسجود أخفض من الركوع بحيث يفترق به السجود عن الركوع، وبهذا قال الجمهور. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارقطني وابن حبان والبيهقي (ج2 ص5) من طرق مختلفة بألفاظ بعضها مطول وبعضها مختصر. وقال المنذري: وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه بنحوه أتم منه. وفي حديث الترمذي وحده: والسجود أخفض من الركوع. وقال حسن صحيح. قلت: أصل الحديث عند البخاري، ولفظ ابن حبان: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي النوافل على راحلته في كل وجه يومئ إيماء، ولكنه يخفض السجدتين من الركعتين، وبنحوه أخرج أحمد في مسنده.
?الفصل الثالث?
1356- (15) عن ابن عمر، قال: ((صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وأبوبكر
بعده، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان صدرا من خلافته. ثم إن عثمان صلى بعد أربعا،

(6/262)


1356- قوله: (بمنى) أي في حجة الوداع. وزاد مسلم في رواية سالم عن أبيه بمنى وغيره. (ركعتين) أي في الفرائض الرباعية للسفر. (وأبو بكر بعده) أي كذلك. (وعمر بعد أبي بكر) كذلك. (وعثمان) كذلك (صدرا من خلافته) أي زمانا أولا منها نحو ست سنين. قال النووي: هذا هو المشهور أن عثمان أتم بعد ست سنين من خلافته. (ثم إن عثمان صلى بعد) أي بعد مضى الصدر الأول من خلافته. (أربعا) اعلم أنه اختلف في ذكر السبب لإتمام عثمان بمنى على أقوال: فقيل: لأنه تأهل بمكة على ما روى أحمد (ج1 ص62) من حديثه أنه صلى بمنى أربع ركعات، فأنكره الناس عليه، فقال: يا أيها الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت، وإني سمعت رسول الله ? يقول: من تأهل في بلد فليصل صلاة المقيم، لكن إسناد هذا الحديث ضعيف؛ لأن في سنده عكرمة بن إبراهيم الباهلي، وهو مجهول الحال. فقد نقل الحافظ في التعجيل (ص290) في ترجمته عن الحسيني أنه قال: "ليس بالمشهور". ونقل عن ابن شيخه أنه قال: "لا أعرف حاله". وقيل: رأى عثمان القصر والإتمام جائزين، فأخذ بأحد الجائزين، ورأى ترجيح طرف الإتمام لما فيه من المشقة. قال ابن بطال: الوجه الصحيح في ذلك أن عثمان وعائشة كانا يريان أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصر لأنه أخذ بالأيسر من ذلك على أمته، فأخذا لأنفسهما بالشدة- انتهى. وهذا رجحه جماعة من آخرهم القرطبي. وقيل: إن عثمان يرى القصر مختصا بمن كان شاخصا سائرا. وأما من كان قائما في مكان في أثناء السفر فله حكم المقيم. قال الحافظ: والمنقول أن سبب إتمام عثمان أنه كان يرى القصر مختصا بمن كان شاخصا سائرا. وأما من أقام بمكان في أثناء سفره فله حكم المقيم فيتم، والحجة فيه ما رواه أحمد بإسناد حسن عن عباد بن عبدالله بن الزبير قال: لما قدم علينا معاوية حاجا صلى بنا الظهر ركعتين بمكة ثن انصرف إلى دار الندوة، فدخل عليه مروان وعمرو بن عثمان فقالا: لقد عبت أمر ابن عمك؛ لأنه كان قد

(6/263)


أتم الصلاة، قال: وكان عثمان حيث أتم الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء أربعا أربعا، ثم إذا خرج إلى منى وعرفة قصر الصلاة، فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة، قال الحافظ: وهذا الوجه أولى. (أي من الوجه الثاني) لتصريح الراوي بالسبب وإن رجح الوجه الثاني جماعة. وقيل: إنما صلى عثمان بمنى أربعا؛ لأن الأعراب كانوا كثروا في ذلك العام، فأحب أن يعلمهم أن الصلاة أربع، ذكره الطحاوي عن أيوب عن الزهري. وروى البيهقي من طريق عبدالرحمن بن حميد بن
فكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعا، وإذا صلاها وحده صلى ركعتين)) متفق عليه.
1357- (16) وعن عائشة، قالت: ((فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر رسول الله ? ، ففرضت أربعا، وتركت صلاة السفر على الفريضة الأولى،

(6/264)


عوف عن أبيه عن عثمان أنه أتم بمنى، ثم خطب، فقال: إن القصر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ولكنه حدث طعام يعني بفتح الطاء والمعجمة، فخفت أن يستنوا. وعن ابن جريج: أن أعرابيا ناداه في منى يا أمير المؤمنين ما زلت أصليها منذ رأيتك عام أول ركعتين. قال الحافظ: وهذه طرق يقوي بعضها بعضا، ولا مانع أن يكون هذا أصل سبب الإتمام، وليس بمعارض للوجه الذي اخترنه، بل يقويه من حيث أن حالة الإقامة في أثناء السفر أقرب إلى قياس الإقامة المطلقة عليها بخلاف السائر، وهذا ما أدى إليه اجتهاد عثمان- انتهى. وههنا أقوال أخرى في بيان السبب في إتمام عثمان بمنى، لكنها لا دليل عليها، بل هي ظنون ممن قالها، فلا حاجة إلى ذكرها. (فكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام) الظاهر أنه عثمان، ويحتمل أنه أراد إماما يتم (صلى أربعا)؛ لأنه يجب على المسافر المقتدي أن يتبع إمامه قصر أو أتم، كما تقدم. (وإذا صلاها وحده صلى ركعتين) أي قصر الرباعية؛ لأنه مسافر، والقصر أفضل وأحوط بلا خلاف. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، بل ما ذكر من فعل ابن عمر أي قوله فكان ابن عمر إذا صلى الخ لم يروه البخاري أصلا، والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج2 ص55-58) والترمذي والنسائي كلهم من طريق عبيدالله بن عمر العمري عن نافع عن عبدالله بن عمر. وأخرجه مسلم أيضا من طريق سالم عن أبيه عبدالله بن عمر، وأخرجه البخاري والنسائي أيضا من طريق عبيدالله بن عبدالله بن عمر عن أبيه.

(6/265)


1357- قوله: (فرضت الصلاة) أي أولا بمكة ليلة الإسراء. (ركعتين) وفي رواية: ركعتين ركعتين بالتكرير لإرادة عموم التثنية لكل صلاة في الحضر والسفر. زاد أحمد في مسنده: إلا المغرب فإنها كانت ثلاثا. (ثم هاجر رسول الله ?) أي إلى المدينة. وفي البخاري: "النبي " يدل "رسول الله". (ففرضت أربعا) أربعا أي في الحضر إلا الصبح. (قال الدولابي: نزل إتمام صلاة المقيم في الظهر يوم الثلاثاء اثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر بعد مقدمه صلى الله عليه وسلم بشهر، وأقرت صلاة السفر، ذكره العيني. وقال السهيلي: بعد الهجرة بعام أو نحوه، زيد في صلاة الحضر. (وتركت صلاة السفر) ركعتين ركعتين. (على الفريضة الأولى) ليس في البخاري لفظ: الفريضة، وإنما وقع ذلك في رواية مسلم من طريق يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ،ثم أتمها في الحضر، فأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى.

(6/266)


قال القسطلاني: الأولى بضم الهمزة، لأبي ذر على الأول أي من عدم الزيادة بخلاف صلاة الحضر، فإنه زيد في ثلاث منها ركعتان. وفي رواية للبخاري: فرض الله الصلاة حين فرضها في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر، أي لما قدم رسول الله ? المدينة، وقد تمسك بظاهر الحديث الحنفية على أن القصر في السفر عزيمة لا رخصة، فلا يجوز الإتمام إذ ظاهر قولها: أقرت يقتضيه. وأجيب عنه بوجوه: منها المعارضة بقوله تعالى: ?فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة? [101:4]؛ لأنه يدل على أن الأصل الإتمام؛ لأن القصر إنما يكون عن تمام سابق، ونفي الجناح يدل على جوازه دون وجوبه. وأجاب الحنفية عن هذه الآية بوجوه، كما تقدم في شرح حديث يعلى بن أمية في الفصل الأول من هذا الباب. وقال بعضهم: إن إطلاق القصر عليه باعتبار ما زيد في الصلاة لا باعتبار أصل الصلاة، فإنها تدل على أن إطلاق القصر عليه باعتبار ما زيد فيها في الحضر لا باعتبار مطلق الصلاة، فإنه كان زيد فيه بإطلاق اللفظ لا بخصوصية الحضر، وكان في علم الله مخصوصة بالحضر فأطلق القصر عليه باعتبار إطلاق ظاهر اللفظ- انتهى. وزاد بعضهم موضحا ومبينا لهذا الجواب يعني فإطلاق القصر مجاز باعتبار الزيادة- انتهى. ولا يخفى ما في هذا الجواب من التكلف والتعسف. ومنها أن حديث عائشة من قولها غير مرفوع، وأنها لم تشهد زمان فرض الصلاة. وتعقب بأنه مما لا مجال للرأي فيه، فله حكم الرفع، وعلى تقدير تسليم أنها لم تشهد فرض الصلاة يكون مرسل صحابي، وهو حجة؛ لأنه يحتمل أن تكون أخذته عن النبي ? ، أو عن صحابي آخر أدرك ذلك. ومنها أن عائشة أتمت في السفر، والعبرة عند الحنفية برأي الصحابي لا بمرويه. قال الحافظ: الزموا الحنفية على قاعدتهم فيما إذا عارض رأي الصحابي روايته بأنهم يقولون العبرة بما رأى لا بما روى، وخالفوا ذلك هنا، فقد ثبت عن عائشة أنها كانت تتم في السفر، فدل ذلك على أن المروي عنها

(6/267)


غير ثابت. وأجيب بأن هذا الإلزام مدفوع بما في آخر هذا الحديث من قول عروة: تأولت أي عائشة، كما تأول عثمان، فإنه يدل على أن الأصل في السفر ركعتان عندها أيضا، ولكنها أتممت بالتأويل. كما أتم عثمان بالتأويل. قال الحافظ: والجواب عن الحنفية أن عروة الراوي عنها قد قال لما سئل عن إتمامها في السفر: أنها تأولت، كما تأول عثمان، فعلى هذا لا تعارض بين روايتها وبين رأيها، فروايتها صحيحة, ورأيها مبني على ما تأولت- انتهى. ومنها المعارضة بحديث ابن عباس الذي بعد هذا: فرض الله الصلاة في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وأجاب عنه الحافظ: بأنه يمكن الجمع بين حديث عائشة وابن عباس بأن يقال: إن الصلوات فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين إلا المغرب، ثم زيدت بعد الهجرة عقب الهجرة إلا الصبح، كما روى ابن خزيمة
قال الزهري: قلت لعروة: ما بال عائشة تتم؟ قال تأولت كما تأول عثمان)) متفق عليه.
1358- (17) وعن ابن عباس، قال: ((فرض الله الصلاة على لسان نبيكم ? في الحضر أربعا،

(6/268)


وابن حبان والبيهقي من طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتين ركعتين، فلما قدم رسول الله ? المدينة واطمأن زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة، وصلاة المغرب لأنها وتر النهار- انتهى. ثم بعد أن استقر فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول الآية السابقة، ويؤيده ذلك ما ذكره ابن الأثير في شرح المسند أن قصر الصلاة كان في السنة الرابعة من الهجرة، وهو مأخوذ مما ذكره غيره أن نزول آية الخوف كان فيها. وقيل: كان قصر الصلاة في السفر في الربيع الآخر من السنة الثانية. وقيل: بعد الهجرة بعام أو نحوه. وقيل: بعد الهجرة بأربعين يوما، فعلى هذا فالمراد بقول عائشة: فأقرت صلاة السفر أي باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف، لا أنها استمرت منذ فرضت فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة- انتهى. وقال السندي: قوله: فأقرت أي رجعت بعد نزول القصر في السفر إلى الحالة الأولى بحيث كأنها كانت مقررة على الحالة الأصلية، وما ظهرت الزيادة فيها أصلا- انتهى. (قال الزهري: قلت لعروة) بن الزبير. (تتم) بضم أوله الصلاة. (قال) عروة: (تأولت كما تأول عثمان) كذا في رواية مسلم، وفي رواية البخاري: تأولت ما تأول عثمان. قال الحافظ: يمكن أن يكون مراد عروة التشبيه بعثمان في الإتمام بتأويل لا اتحاد تأويلهما، ويقويه أن الأسباب اختلفت في تأويل عثمان، فتكاثرت بخلاف تأويل عائشة- انتهى. وقد سبق الكلام في تأويل عثمان. وأما عائشة فقد جاء عنها سبب الإتمام صريحا، وهو فيما أخرجه البيهقي (ج3 ص143) من طريق هشام بن عروة عن أبيه أنها كانت تصلي في السفر أربعا، فقلت لها: لو صليت ركعتين، فقالت: با ابن أختي أنه لا يشق على، إسناده صحيح، وهو دال على أنها تأولت أن القصر رخصة وان الإتمام لمن لا يشق عليه أفضل، ويدل على اختيار الجمهور ما رواه أبويعلى والطبراني بإسناد جيد عن أبي هريرة أنه سافر مع النبي ?

(6/269)


ومع أبي بكر وعمر، فكلهم كان يصلي ركعتين من حين يخرج من المدينة إلى مكة حتى يرجع إلى المدينة في السير، وفي المقام بمكة، كذا في الفتح. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب التأريخ من كتاب الهجرة إلا لفظ الفريضة، فإنه ليس للبخاري، بل هو لمسلم وحده، كما تقدم، وإلا قوله قال الزهري الخ. فإن هذه الزيادة عند البخاري إنما هي في آخر حديث عائشة في أبواب تقصير الصلاة. والحديث أخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص135، 143) بألفاظ متقاربة.
1358- قوله: (فرض الله الصلاة) أي الرباعية. (على لسان نبيكم ? ) قال الطيبي: هو مثل قوله تعالى: ?وما ينطق عن الهوى? [3:53]. (في الحضر أربعا) أي بعد ما كانت ركعتين، ثم قصرت في السفر، فكانت صلاة
وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة)) رواه مسلم.
1359- 1360- (18-19) وعنه، وعن ابن عمر، قالا: ((سن رسول الله ? صلاة السفر ركعتين، وهما تمام غير قصر، والوتر في السفر سنة))

(6/270)


السفر، كأنها ما زيد فيها، وهذا معنى قوله. (وفي السفر ركعتين) فلا يعارض هذا الحديث ما روى عن عائشة: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين في الحضر والسفر، وقد تقدم وجه الجمع مفصلا في كلام الحافظ. (وفي الخوف ركعة) فيه أن اللازم في الخوف ركعة ولو اقتصر عليها جاز. قال النووي: هذا الحديث قد عمل بظاهره طائفة من السلف، منهم الحسن البصري والضحاك وإسحاق بن راهويه. (وعطاء وطاووس ومجاهد والحكم بن عتيبة وقتادة والثوري من التابعين وابن عباس وأبوهريرة وأبوموسى الأشعري من الصحابة). وقال الشافعي ومالك والجمهور. (وفيهم أبوحنيفة وأحمد): إن صلاة الخوف كصلاة الأمن في عدد الركعات، فإن كانت في الحضر وجب أربع ركعات، وإن كانت في السفر وجب ركعتان. ولا يجوز الاقتصار على ركعة واحدة في حال من الأحوال، وتأولوا حديث ابن عباس هذا على أن المراد ركعة مع الإمام وركعة أخرى يأتي بها منفردا، كما جاءت الأحاديث الصحيحة في صلاة النبي ? وأصحابه في الخوف، وهذا التأويل لا بد منه للجمع بين الأدلة-انتهى. قال السندي: لا منافاة بين وجوب واحد والعمل باثنتين حتى يحتاج إلى التأويل للتوفيق، لجواز أنهم عملوا بالأحب والأولى- انتهى. وسيأتي مزيد الكلام في ذلك في صلاة الخوف. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج1 ص237، 355) وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج4 ص135) وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه أحمد.

(6/271)


1359- 1360- قوله: (سن) أي شرع رسول الله ? (صلاة السفر ركعتين) أي ثبت على لسانه، وإلا فالقصر ثابت بالكتاب، أو المراد أنه بين بالقول والفعل ما في الكتاب، قاله القاري. وقال ابن حجر: أي بين أنها كذلك لمن أراد القصر. (وهما تمام غير قصر) أي في الثواب، أو المراد أنهما المشروع في السفر، كما نطق به حديث عائشة وإن أطلق القصر في كتاب الله تعالى، قاله في اللمعات. وقال القاري: وهما تمام أي تمام المفروض غير قصر أي غير نقصان عن أصل الفرض، فإطلاق القصر في الآية مجاز أو إضافي- انتهى. وقال السندي: تمام غير قصر، أي لا ينبغي الزيادة فيها فصارت كالتمام، فلا يرد أن قوله تعالى: ?فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة? [101:4] ظاهر في القصر فكيف يصح القول بأنها تمام غير قصر. وقال ابن حجر: أي تمام بالنسبة للثواب، فثواب القصر يقارب ثواب الإتمام. (والوتر في السفر سنة) أي مشروع بالسنة أو المراد بالسنة الطريقة المسلوكة في الدين أعم من السنة المصطلح عليها عند الفقهاء، كما يدل عليه السوق أي الوتر في السفر طريقة مسلوكة
رواه ابن ماجه.
1361- (20) وعن مالك، بلغه ((أن ابن عباس كان يقصر الصلاة في مثل ما يكون بين مكة والطائف، وفي مثل ما بين مكة وعسفان، وفي مثل ما بين مكة وجدة، قال مالك: وذلك أربعة برد)).
مستمرة لا تترك في السفر، كما تترك النوافل والرواتب وإلا فالوتر إن كان واجبا فليس سنة، وإن كان سنة فهو سنة في الحضر والسفر كليهما، فما وجه التخصيص بالسفر. (رواه ابن ماجه) في باب الوتر في السفر. وأخرجه أيضا أحمد (ج1 ص241) وفي سنده عندهما جابر الجعفي، وهو ضعيف، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص155) وقال: "رواه البزار، وفيه جابر الجعفي، وثقه شعبة والثوري، وضعفه آخرون"، فنسي أن ينسبه إلى مسند الإمام أحمد، وأنه في سنن ابن ماجه.

(6/272)


1361- قوله: (وعن مالك) أنه. (بلغه أن ابن عباس) قال ابن عبدالبر: وما رواه مالك عن ابن عباس هذا معروف من نقل الثقات متصل الإسناد عنهم من وجوه، ثم رواها في الاستذكار عن عبدالرزاق وغيره. (كان يقصر الصلاة) الرباعية. (في مثل ما يكون بين مكة والطائف) وفي الموطأ في مثل ما بين مكة والطائف بالهمزة بعد الألف، وبينهما ثلاثة مراحل أو اثنان، قاله الزرقاني. وقال ياقوت في معجمه: هي مسيرة يوم للطالع من مكة ونصف يوم للهابط إلى مكة، وقال: أيضا الطائف هو وادي وج، وهو بلاد ثقيف بينها وبين مكة اثنا عشر فرسخا- انتهى. وقيل: بينهما من طريق السيل مائة وخمسة وثلاثون كيلو مترا، أي نحو خمسة وثمانين ميلا، ومن طريق عرفة تسعة وتسعون كيلو مترا، أي نحو اثنين وستين ميلا. (وفي مثل ما بين مكة وعسفان) بضم العين كعثمان، والنون زائدة. موضع على مرحلتين من مكة، قاله المجد. وقال الزرقاني: بين مكة وعسفان ثلاثة مراحل. وفي المعجم لياقوت الحموي: قال أبومنصور منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة ومكة. وقيل: قرية جامعة بها منبر ونخيل ومزارع على ستة وثلاثين ميلا من مكة، وهي حد تهامة. (وفي مثل ما بين مكة وجدة) بضم الجيم وتشديد الدال، بلد على الساحل بحر اليمن، وهي فرضة مكة، بينها وبين مكة ثلاث ليال. وقيل: بينهما يوم وليلة. وقيل: هي على مرحلتين شاقتين من مكة. وقيل: بينهما ثلاثة وسبعون كيلو مترا، أي نحو ستة وأربعين ميلا. (قال مالك وذلك) أي أقل ما بين ما ذكر من المواضع، أو كل واحد من هذه الأماكن. (أربعة برد) بضمتين جمع بريد، وكل بريد أربعة فراسخ، وكل فرسخ ثلاثة أميال، فهي ثمانية وأربعون ميلا. قال مالك: وذلك أحب ما يقصر فيه الصلاة إلي. وقد سبق بيان اختلاف العلماء في قدر المسافة التي يجوز فيها القصر وتعيين القول الراجح في ذلك. وقد روى مالك في الموطأ عن ابن عمر أنه ركب من المدينة إلى ريم فقصر الصلاة في مسيره ذلك، قال مالك:

(6/273)


وذلك نحو من أربعة برد، وروى عنه أيضا أنه ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة، قال مالك:
رواه في الموطأ.
1362- (21) وعن البراء، قال: ((صحبت رسول الله ? ثمانية عشر سفرا، فما رأيته ترك ركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر)) رواه أبوداود، والترمذي،
بين ذات النصب والمدينة أربعة برد، وروي عنه أيضا كان يقصر الصلاة في مسيرة اليوم التام. قال ابن عبدالبر في الاستذكار: مسيرة اليوم التام باليسير أربعة برد أو نحوها. قال الباجي: أكثر مالك من ذكر أفعال الصحابة لما لم يصح عنده في ذلك توقيف عن النبي ?-انتهى. قلت: وروى البيهقي (ج3ص137) عن عطاء بن أبي رباح أن عبدالله بن عمرو وعبدالله بن عباس كانا يصليان ركعتين ويفطران في أربعة برد فما فوق ذلك. قال ابن حجر: ومثل ذلك لا يكون إلا بتوقيف، وروى عبدالرزاق عن ابن جريح عن عطاء عن ابن عباس قال: لا تقصروا الصلاة إلا في اليوم ولا تقصر فيما دون اليوم، ولابن أبي شيبة من وجه آخر صحيح عنه، قال: تقصر الصلاة في مسيرة يوم وليلة. (رواه) أي مالك (في الموطأ) أي عن مالك أنه بلغه، وهذا كما ترى غير ملائم، فكان على المؤلف أن يقول: وعن ابن عباس أنه كان يقصر الصلاة الخ. ثم يقول: رواه مالك في الموطأ بلاغا، ثم يقول: وقال وذلك الخ. على طبق سائر الأحاديث، حيث يبدأ بالصحابي ويختم بالمخرج، كذا في المرقاة، وقد تقدم أن هذا البلاغ رواه ابن عبدالبر في الاستذكار موصولا، ووصله الشافعي أيضا، قال: أنا سفيان عن عمرو عن عطاء عن ابن عباس أنه سئل أنقصر الصلاة إلى عرفة؟ قال: لان ولكن إلى عسفان وإلى جدة وإلى الطائف. قال الحافظ في التلخيص (ص129) وإسناده صحيح، وذكره مالك في الموطأ عن ابن عباس بلاغا-انتهى. وأخرج ابن أبي شيبة بسنده عن عطاء بن أبي رباح، قلت لابن عباس: أقصر إلى عرفة؟ قال لا، قلت: أقصر إلى الطائف وإلى عسفان؟ قال: نعم، وذلك ثمانية وأربعون ميلا، وعقد بيده. وقد روي عن ابن عباس

(6/274)


مرفوعا، أخرجه الدارقطني (ص148) والبيهقي (ج3ص137- 138)، وابن أبي شيبة والطبراني في الكبير من طريق عبدالوهاب بن مجاهد عن أبيه وعطاء عن ابن عباس أن رسول الله ? قال: يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان. قال الحافظ: وإسناده ضعيف من أجل عبدالوهاب فإنه متروك رواه عنه إسماعيل بن عياش، وروايته عن الحجازيين ضعيفة، والصحيح عن ابن عباس من قوله، كما سبق ذكره.
1362- قوله: (وعن..... البراء) أي ابن عازب. (ثمانية عشر سفرا) بفتح السين المهملة والفاء. (فما رأيته ترك ركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر) ظرف لترك، الظاهر أن هاتين الركعتين هما سنة الظهر القبلية. فهذا الحديث دليل لمن قال بجواز الإتيان بالرواتب في السفر، وقد حمله من لم يقل بذلك على سنة الزوال لا على الراتبة قبل الظهر، وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلا. (رواه أبوداود، والترمذي) كلاهما عن قتيبة عن
وقال: هذا حديث غريب.
1363-(22) وعن نافع، قال: إن عبدالله بن عمر كان يرى ابنه عبيدالله ينتفل في السفر فلا ينكر عليه. رواه مالك.
(42) باب الجمعة
الليث بن سعد عن صفوان بن سليم عن أبي بسرة الغفاري عن البراء بن عازب. (وقال) أي الترمذي. (هذا حديث غريب) وقال أيضا: سألت محمدا عنه فلم يعرفه إلا من حديث الليث بن سعد، ولم يعرف اسم أبي بسرة الغفاري ورآه حسنا-انتهى. وسكت عنه أبوداود، ونقل المنذري كلام الترمذي وأقره. وأخرجه البيهقي (ج3ص158) من طريق ابن وهب عن الليث بن سعد وأبي يحيى بن سليمان عن صفوان بن سليم عن أبي بسرة عن البراء.

(6/275)


1363- قوله: (كان يرى ابنه عبيد الله) بضم العين المهملة ابن عبدالله بن عمر بن الخطاب. (ينتفل في السفر فلا ينكر عليه) هذا بظاهره مشكل، لما سبق في حديث حفص بن عاصم من إنكاره على المسبحين، أي المنتفلين، فقيل: مذهب ابن عمر الفرق بين الرواتب والمطلقة كالتهجد والوتر والضحى وغير ذلك، فيحمل إنكاره على الأول وسكوته على الثاني، فلعله رأى ابنه عبيدالله ينتفل بغير الرواتب فسكت ولم ينكر عليه، وقيل غير ذلك، كما تقدم. (رواه مالك) في الموطأ قال: بلغني عن نافع أن عبدالله بن عمر كان يرى ابنه الخ، كذا وقع في نسخ الموطأ المطبوعة بالهند، وكذا ذكره الجزري في جامع الأصول (ج6ص463). ووقع في النسخ المصرية، قال: بلغني أن عبدالله بن عمر كان يرى ابنه الخ أي بدون قوله: عن نافع. قال الزرقاني: زاد ابن وضاح: عن نافع-انتهى. وهذه الزيادة موجودة في جميع النسخ الهندية الموجودة عندنا، وقوله: بلغني عن نافع يدل على أن مالكا لم يأخذه عن نافع مباشرة، والله أعلم.
(باب الجمعة) بضم الميم على المشهور إتباعا لضمه الجيم، كعسر في عسر، اسم من الاجتماع، أضيف إليه اليوم والصلاة، ثم كثر الاستعمال حتى حذف منه الصلاة، وهي لغة الحجاز، وجوز إسكان الميم على الأصل لمفعول كهزأة، وهي لغة تميم أي اليوم المجموع فيه، وفتحها بمعنى فاعل أي اليوم الجامع، فهو كهزة، فتاءها للمبالغة كضحكة للمكثر من ذلك لا للتأنيث، وإلا لما وصف بها اليوم. والمراد هنا بيان فضل يوم الجمعة وشرفه. قال النووي: يقال بضم الجيم والميم وإسكانها وفتحها، حكاهن الفراء والواحدي وغيرهما، ووجهوا الفتح بأنها تجمع الناس ويكثرون فيها، كما يقال: همزة ولمزة لكثرة الهمز واللمز، ونحو ذلك، سميت بذلك
?الفصل الأول?
1364-(1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم

(6/276)


لاجتماع الناس فيها أي للصلاة، وكان يوم الجمعة في الجاهلية يسمى العروبة-انتهى. وبهذا جزم ابن حزم فقال: إنه اسم إسلامي لم يكن في الجاهلية، وإنما كان يسمى في الجاهلية العروبة، فسميت في الإسلام الجمعة للاجتماع إلى الصلاة، ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد بن حميد في تفسيره عن ابن سيرين بسند صحيح إليه في قصة تجميع الأنصار مع أسعد بن زرارة، وكانوا يسمون يوم الجمعة يوم العروبة فصلى بهم وذكرهم، فسموه الجمعة حين اجتمعوا إليه-انتهى. وقيل: سميت بذلك لأن كما الخلائق جمع فيها. وقيل: لأن خلق آدم جمع فبها، ورد ذلك من حديث سلمان. أخرجه أحمد وابن خزيمة وغيرهما في أثناء حديث، وله شاهد عن أبي هريرة، ذكره ابن أبي حاتم موقوفا بإسناد قوي، وأحمد مرفوعا بإسناد ضعيف. قال الحافظ: وهذا أصح الأقوال: وقيل: لأن كعب بن لؤي كان يجمع فيه قومه فيذكرهم ويأمرهم بتعظيم الحرم. وقيل: إن قصيا هو الذي كان يجمع في دار الندوة. وذكر ابن القيم في الهدي (ج1ص102- 118) ليوم الجمعة ثلاثا وثلاثين خصوصية ذكر بعضها الحافظ في الفتح ملخصا من أحب الوقوف عليها رجع إليهما.

(6/277)


1364- قوله: (نحن) أي أنا وأمتي. (الآخرون) أي زمانا في الدنيا. (السابقون) أي أهل الكتاب وغيرهم منزلة وكرامة. (يوم القيامة) في الحشر والحساب والقضاء لهم قبل الخلائق وفي دخول الجنة. قال الحافظ: أي الآخرون زمانا الأولون منزلة يوم القيامة، والمراد أن هذه الأمة وإن تأخر وجودها في الدنيا عن الأمم الماضية، فهي سابقة لهم في الآخرة، وبأنهم أول من يحشر، وأول من يحاسب، وأول من يقضى بينهم، وأول من يدخل الجنة. وقيل: المراد بالسبق هنا إحراز فضيلة اليوم السابق بالفضل، وهو يوم الجمعة. ويوم الجمعة وإن كان مسبوقا بسبت قبله أو أحد لكن لا يتصور اجتماع الأيام الثلاثة متوالية إلا ويكون يوم الجمعة سابقا. وقيل: المراد بالسبق أي القبول والطاعة التي حرمها أهل الكتاب فقالوا سمعنا وعصينا، والأول أقوى-انتهى. (بيد) بموحدة مفتوحة ثم تحتية ساكنة مثل غير وزنا ومعنى وإعرابا. وبه جزم الخليل والكسائي، ورجحه ابن سيدة. وروى عن الشافعي أن معنى بيد من أجل واستبعده عياض ولا بعد فيه، والمعنى إنا سبقنا بالفضل إذ هدينا للجمعة مع تأخرنا في الزمان بسبب أنهم ضلوا عنها مع تقدمهم، ويشهد له ما في فوائد ابن المقري بلفظ: نحن الآخرون في الدنيا ونحن السابقون أول من يدخل الجنة؛ لأنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وفي موطأ سعيد بن عفير عن مالك
أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناهم من بعدهم، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم- يعني يوم الجمعة-

(6/278)


عن أبي الزناد بلفظ: ذلك بأنهم أوتوا الكتاب. وقيل: في معناه على أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا. وقيل: مع أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا. قال القرطبي: إن كانت بمعنى "غير" فنصب على الاستثناء، وإن كانت بمعنى "مع" فنصب على الظرف. وقال الطيبي: هي للاستثناء، وهو من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم، فإنه يؤكد مدح السابقين بما عقب من قوله: وأوتيناه من بعدهم؛ لأنه أدمج فيه معنى النسخ لكتابهم، فالناسخ هو السابق في الفضل، وإن كان متأخرا في الوجود، وبهذا التقرير يظهر موقع قوله: نحن الآخرون مع كونه أمرا واضحا، والمعنى نحن السابقون في الفضل غير أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا الخ. فهو من باب: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب. وأرجع لمزيد التفصيل في تفسير لفظ: بيد، وضبطه إلى تعليق مسند الإمام أحمد (ج3ص34) للعلامة الشيخ أحمد شاكر. (أوتوا الكتاب) اللام للجنس، والمراد التوراة والإنجيل. والضمير في أوتيناه للقرآن، قاله الحافظ. وقال السندي: اللام للجنس، فيحمل بالنسبة إليهم على كتابهم، وبالنسبة إلينا على كتابنا، وهذا بيان زيادة شرف آخر لنا، أي فصار كتابنا ناسخا لكتابهم وشريعتنا ناسخة لشريعتهم، وللناسخ فضل على المنسوخ، أو المراد بيان أن هذا يرجع إلى مجرد تقدمهم علينا في الوجود، وتأخرنا عنهم فيه، ولا شرف لهم فيه، أو شرف لنا أيضا من حيث قلة انتظارنا أمواتا في البرزخ، ومن حيث حيازة المتأخر علوم المتقدم دون العكس، فقولهم الفضل للمتقدم ليس بكلي-انتهى. (ثم) أتى بها إشعارا بأن ما قبلها كالتوطئة والتأسيس لما بعدها. (هذا) أي هذا اليوم، وهو يوم الجمعة. (يومهم الذي فرض) بصيغة المجهول. قال الحافظ: كذا للأكثر، وللحموي: فرض الله. (عليهم) أي وعلينا تعظيمه بعينه أو الاجتماع فيه. قال الحافظ: المراد باليوم يوم الجمعة، والمراد بفرضه فرض تعظيمه. وأشير إليه بهذا لكونه ذكر في أول الكلام كما عند مسلم من طريق

(6/279)


آخر عن أبي هريرة، ومن حديث حذيفة قالا: قال رسول الله ? أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا-الحديث. (يعني يوم الجمعة) كذا في جميع النسخ من طبعات الهند. ووقع متن المرقاة يعني الجمعة أي بحذف بلفظ يوم. قال القاري: تفسير من الراوي لهذا يومهم. وفي نسخة صحيحة: يعني يوم الجمعة أي يريد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اليوم يوم الجمعة-انتهى. قلت: ليس هذا التفسير في الصحيحين ولا عند النسائي، فالله أعلم من أين أخذه البغوي أو هو الذي فسره بذلك. قال القسطلاني: روى ابن أبي حاتم عن السدي: أن الله فرض على اليهود الجمعة فأبوا وقالوا يا موسى! إن الله لم يخلق يوم السبت شيئا فاجعله لنا فجعل عليهم. وفي بعض الآثار مما نقله أبوعبدالله الآبي أن موسى عليه الصلاة والسلام عين لهم يوم الجمعة وأخبرهم بفضيلته، فناظروه
فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، والناس لنا فيه

(6/280)


بأن السبت أفضل، فأوحى الله تعالى إليهم: دعهم وما اختاروا، والظاهر أنه عينه لهم؛ لأن السياق دل على ذمهم في العدول عنه، فيجب أن يكون قد عينه لهم؛ لأنه لو لم يعينه لهم ووكل التعيين إلى اجتهادهم لكان الواجب عليهم تعظيم يوم لا بعينه، فإذا أدى الاجتهاد إلى أنه السبت أو الأحد لزم المجتهد ما أدى الاجتهاد إليه ولا يأثم، ويشهد له قوله هذا: يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فإنه ظاهر أو نص في التعيين، وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم، كما وقع لهم في قوله تعالى: ?ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة? [58:2] وغير ذلك، وكيف لا وهم القائلون سمعنا وعصينا- انتهى. (فاختلفوا فيه) هل يلزم تعيينه أم يسوغ لهم أبدا له بغيره من الأيام وأبدلوه وغلطوا في إبداله، قاله النووي. وقال القسطلاني: اختلفوا فيه بعد أن عين لهم وأمروا بتعظيمه فتركوه وغلبوا القياس، فعظمت اليهود السبت للفراغ فيه من الخلق، وظنت ذلك فضيلة توجب عظم اليوم وقالت: نحن نستريح فيه من العمل ونشتغل بالعبادة والشكر، وعظمت النصارى الأحد؛ لأنه أول يوم بدأ الله فيه بخلق الخلق فاستحق التعظيم. (فهدانا الله له) أي لهذا اليوم بالوحي الوارد في تعظيمه بأن نص لنا ولم يكلنا إلى اجتهادنا ثم ثبتنا على قوله والقيام بحقوقه أو هدانا الله له بالاجتهاد الموافق للمراد، يعني وفقنا للإصابة حتى عينا الجمعة، ويشهد للثاني ما رواه عبدالرزاق بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة فقالت الأنصار: إن لليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى كذلك، فهلم فلنجعل يوما نجتمع فيه فنذكر الله تعالى ونصلي ونشكره، فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ، وأنزل الله تعالى: بعد ذلك. ?إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة? [9:62] الآية، وهذا وإن كان مرسلا، فله شاهد بإسناد حسن. أخرجه أحمد وأبوداود

(6/281)


وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة وغير واحد من حديث كعب بن مالك قال: كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم رسول الله ? المدينة أسعد بن زرارة- الحديث. فمرسل ابن سيرين يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد. ولا يمنع ذلك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي، وهو بمكة فلم يتمكن من إقامتها ثم، فقد ورد فيه حديث عن ابن عباس عند الدارقطني. ولذلك جمع بهم أول ما قدم المدينة. كما حكاه ابن إسحاق وغيره، وعلى هذا فقد حصلت الهداية للجمعة بجهتي البيان والتوفيق. وقيل: في الحكمة في اختيارهم الجمعة وقوع خلق آدم فيه، والإنسان إنما خلق للعبادة فناسب أن يشتغل بالعبادة فيه، ولأن الله تعالى أكمل فيه الموجودات وأوجد فيه الإنسان الذي ينتفع بها فناسب أن يشكر على ذلك بالعبادة فيه، كذا في الفتح. (والناس) وفي الصحيحين فالناس أي أهل الكتابين. (لنا) متعلق بتبع. وقيل: متعلقة محذوف، واللام تعليلية مشيرة إلى النفع. (فيه) أي في
تبع، اليهود غدا، والنصارى بعد غد)) متفق عليه. وفي رواية لمسلم، قال: ((نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة، بيد أنهم))، وذكر نحوه إلى آخره.
1365- (2) وفي أخرى له عنه، وعن حذيفة، قالا: قال رسول الله ? في آخر الحديث:

(6/282)


اختيار هذا اليوم للعبادة. (تبع) فإنهم إنما اختاروا ما يعقبه؛ لأنه لما كان يوم الجمعة مبدأ خلق الإنسان وأول أيامه كان المتعبد فيه باعتبار العادة متبوعا، والمتعبد فيه في اليومين الذين بعده تابعا، ويحتمل أن يقال إن الأيام الثلاثة بتواليها، مع قطع النظر عن اعتبار الأسبوع لا شك في تقديم يوم الجمعة وجودا فضلا عن الرتبة، وتبع بفتح التاء المثناة والباء الموحدة جمع تابع. (اليهود غدا) أي يوم السبت. (والنصارى بعد غد) أي يوم الأحد. قيل: التقدير تعييد اليهود غدا، وتعييد النصارى بعد غد، كذا قدره ابن مالك ليسلم من الإخبار بظرف الزمان عن الجثة. وقال القرطبي: غدا هنا منصوب على الظرف، وهو متعلق بمحذوف، وتقديره اليهود يعظمون غدا، وكذا قوله بعد غد ولابد من هذا التقدير؛ لأن ظرف الزمان لا يكون خبرا عن الجثة. وفي الحديث دليل على فريضة الجمعة، كما قاله النووي لقوله: فرض عليهم فهدانا الله له، فإن التقدير فرض عليهم فضلوا وهدينا. وفي رواية لمسلم: كتب علينا، وفيه أن القياس مع وجود النص ساقط، وذلك أن كلا منهما قال بالقياس مع وجود النص على قول التعيين فضلا وأن الجمعة أول الأسبوع شرعا، ويدل على ذلك تسمية الأسبوع كله جمعة، وكانوا يسمون الأسبوع سبتا، كما وقع في حديث أنس عند البخاري في الاستسقاء، وذلك أنهم كانوا مجاورين لليهود فتبعوهم في ذلك، وفيه بيان واضح لمزيد فضل هذه الأمة على الأمم السالفة. (متفق عليه) واللفظ لبخاري وأخرجه أيضا أحمد (ج2 ص243، 249، 274) والنسائي والبيهقي (ج3 ص170-171). (وفي رواية لمسلم نحن الآخرون) أي وجودا وخلقة في الدنيا. (الأولون) أي بعثا ومرتبة. (يوم القيامة) والعبرة بذلك اليوم ومواقفه. (ونحن أول من يدخل الجنة) يعني نبينا قبل سائر الأنبياء وأمته قبل سائر الأمم. (بيد أنهم) قال العيني: هو مثل غير وزنا ومعنى وإعرابا، ويقال ميد بالميم، وهو اسم ملازم للإضافة إلى أن

(6/283)


وصلتها، وله معنيان أحدهما غير إلا أنه لا يقع مرفوعا ولا مجرورا بل منصوبا ولا يقع صفة ولا استثناء متصلا، وغنما يستثنى به في الانقطاع خاصة. (وذكر) أي مسلم. (نحوه) أي معنى ما تقدم من المتفق عليه. (إلى آخره) يعني أن الخلاف إنما هو في صدر الحديث بوضع الأولون موضع السابقون ويكون أحدهما نقلا بالمعنى وبزيادة: ونحن أول من يدخل الجنة في رواية مسلم هذه.
1365- قوله: (وفي أخرى له عنه) أي وفي رواية أخرى لمسلم عن أبي هريرة. (وعن حذيفة) عطف على
((نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق)).
1366- (3) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ? : ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها،
عنه أي عنهما جميعا. (نحن الآخرون) أي الذين تأخروا عنهم في حال كوننا وإياهم. (من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة) أي من أهل الآخرة في السبق لهم. قال الطيبي: اللام في "الآخرين" موصولة و"من أهل الدنيا" حال من الضمير في الصلة وقوله. (المقضي لهم قبل الخلائق) صفة "الآخرون"، أي الذين يقضى لهم قبل الناس ليدخلوا الجنة أولا كأنه قيل الآخرون السابقون- انتهى. وهذه الرواية أخرجها النسائي وابن ماجه أيضا.

(6/284)


1366- قوله: (خير يوم) قال صاحب المفهم: خير وشر يستعملان للمفاضلة ولغيرها، فإذا كانا للمفاضلة فأصلهما أخير وأشر على وزن أفعل، وأما إذا لم يكونا للمفاضلة، فهما من جملة الأسماء، كما قال تعالى: ?إن ترك خيرا?. (180:2)، ?ويجعل الله فيه خيرا كثيرا? [6:38] وهو في هذا الحديث للمفاضلة، ومعناه أن يوم الجمعة أفضل من كل يوم طلعت شمسه. (طلعت عليه) أي ما فيه. (الشمس) جملة "طلعت" صفة "يوم" للتنصيص على التعميم، كما قالوا في قوله تعالى: ?ولا طائر يطير بجناحيه? [6:38] فإن الشيء إذا وصف بصفة تعم جنسه يكون تنصيصا على اعتبار استغراقه إفراد الجنس. (يوم الجمعة) فيه أن أفضل الأيام يوم الجمعة، فيكون أفضل من يوم عرفة، وبه جزم ابن العربي، ويشكل على ذلك ما أخرجه ابن حبان في صحيحه عن جابر مرفوعا: ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة- الحديث. وقد جمع العراقي فقال: المراد بتفضيل الجمعة بالنسبة إلى أيام الجمعة أي أيام الأسبوع، وتفضيل يوم عرفة بالنسبة إلى أيام السنة، وصرح بأن حديث أفضلية الجمعة أصح، وفي حاشية الموطأ نقلا عن المحلى ظاهر الحديث أن الجمعة أفضل من عرفة، وبه قال أحمد، وهو وجه للشافعية، والأصح عندهم أن عرفة أفضل ويتأول الحديث بأنها أفضل أيام الأسبوع، ويظهر فائدة الاختلاف فيمن نذر الصيام أو علق عملا من الأعمال بأفضل الأيام مثلا قال لزوجته: أنت طالق في أفضل الأيام فتطلق يوم عرفة على أصح الوجهين عند الشافعية ويوم الجمعة على الوجه الثاني، وهذا إذا لم يكن له نية فأما إن أراد أفضل أيام السنة فتعيين يوم عرفة، وإن أراد أفضل أيام الأسبوع فتعيين الجمعة. (وفيه أدخل الجنة) فيه دليل على أن آدم لم يخلق في الجنة بل خلق خارجها ثم أدخل إليها. قيل: إن خلقه وإدخاله كانا في يوم واحد، ويحتمل أنه خلق يوم الجمعة ثم أمهل إلى يوم جمعة أخرى فأدخل فيه الجنة، وكذا الاحتمال في يوم الإخراج. (وفيه أخرج منها) قال ابن

(6/285)


كثير: إن كان يوم خلقه يوم إخراجه وقلنا الأيام الستة، كهذه الأيام فقد أقام في الجنة بعض يوم من أيام الدنيا، وفيه نظر وإن كان إخراجه في غير يوم الذي
ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة)) رواه مسلم.
1367- (4) وعنه، قال: قال رسول الله ? : ((إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه)) متفق عليه.
خلق فيه، وقلنا إن كل يوم بألف سنة، كما قال ابن عباس والضحاك واختاره ابن جرير فقد لبث هناك مدة طويلة- انتهى. وقيل: كان إخراجه في اليوم الذي خلق فيه، لكن المراد من اليوم الإطلاق الثاني أي ما مقداره كألف سنة فيكون مكثه فيها زمانا طويلا. (ولا تقوم الساعة) أي القيامة. (إلا في يوم الجمعة) قيل: هذه القضايا ليست لذكر فضيلته؛ لأن إخراج آدم وقيام الساعة لا يعد فضيلة، وإنما هو لبيان ما وقع فيه من الأمور العظام. وقيل: بل جميعها فضائل وخروج آدم سبب وجود الذرية من الرسل والأنبياء والأولياء، والساعة سبب تعجيل جزاء الصالحين، وموت آدم سبب لنيله إلى ما أعد له من الكرامات. قال ابن العربي في شرح الترمذي: أما إخراجه منها فلأفضل فيه ابتداء إلا أن يكون لما بعده من الخيرات والأنبياء والطاعات، وأن خروجه منها لم يكن طردا، كما كان خروج إبليس وإنما كان خروجه منها مسافرا لقضاء أوطار ويعود إلى تلك الدار، وقال أيضا: وذلك أي قيام أعظم لفضله لما يظهر الله رحمته وينجز من وعده. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الترمذي والنسائي والبيهقي (ج3 ص251).

(6/286)


1367- قوله: (إن في الجمعة لساعة) كذا فيه مبهمة، وقد عينت في أحاديث أخر، كما سيأتي. وأصل الساعة وحقيقتها جزء مخصوص من الزمان، وقد يطلق على جزء من أربعة وعشرين جزء هي مجموع اليوم والليلة، ويطلق على جزء ما غير مقدر من الزمان، ويطلق على الوقت الحاضر أيضا. (لا يوافقها) أي لا يصادفها، وهو أعم من أن يقصد لها، أو يتفق له وقوع الدعاء فيها. (عبد مسلم) فيه تخصيص لدعاء المسلمين بالإجابة في تلك الساعة. (يسأل الله عليها) بلسان الحال باستحضاره بقلبه أو بلسان القال. (خيرا) أي يليق السؤال فيه. (إلا أعطاه) أي ذلك المسلم. (إياه) أي ذلك الخير، يعني إما يعجله له، وإما أن يدخره له، كما ورد في الحديث. وفي حديث أبي لبابة الآتي: ما لم يسأل حراما. وفي حديث سعد بن عبادة عند أحمد: ما لم يسأل إثما أو قطيعة رحم. وقطيعة الرحم من جملة الإثم، فهو من عطف الخاص على العام للاهتمام به. وفي الحديث بيان فضل يوم الجمعة لاختصاصه بساعة الإجابة، وسيأتي ذكر الاختلاف في تعيين هذه الساعة، وبيان القول الراجح فيه. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجمعة والطلاق والدعوات، والسياق المذكور لمسلم إلا قوله: "عبد" فإنه ليس عنده في هذه الرواية. والحديث أخرجه أحمد ومالك والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص249، 250).
وزاد مسلم، قال: وهي ساعة خفيفة. وفي رواية لهما، قال: ((إن في الجمعة لساعة لا
يوافقها مسلم قائم يصلي يسأل الله خيرا إلا أعطاه إياه)).

(6/287)


(وزاد مسلم قال) أي رسول الله ?. (وهي ساعة خفيفة) أي لطيفة. وفي رواية لهما: وأشار أي رسول الله ? بيده ليقللها. فإن قلت قد روى أبوداود والحاكم عن جابر مرفوعا: يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة لا يوجد عبدمسلم يسأل الله شيئا إلا أعطاه الله عزوجل فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر- انتهى. ومقتضاه أنها غير خفيفة، أجيب بأنه ليس المراد أنها مستغرقة للوقت المذكور، بل المراد أنها لا تخرج عنه؛ لأنها لحظة خفيفة. (وفي رواية لهما) أي للبخاري ومسلم. (قال) النبي ?. (إن في الجمعة لساعة) قال الجزري: هي أرجح أوقات الإجابة. (لا يوافقها) أي لا يجدها. (مسلم قائم) أي ثابت في مكانه أو ملازم مواظب على حد قوله: ?ما دمت عليه قائما?. (يصلي) أي ينتظر الصلاة أو يدعوا. وإنما أولنا بذلك ليتوافق جميع الروايات. (يسأل الله) فيها. (خيرا إلا أعطاه إياه) قال الطيبي قوله: قائم يصلي الخ. كلها صفات لمسلم. ويجوز أن يكون يصلي حالا لاتصافه بقائم، ويسأل إما حال مترادفة أو متداخلة. زاد النووي: إذ معنى يصلي يدعو، كذا في المرقاة، واعلم أنه اختلفت الأحاديث في تعيين ساعة الإجابة، وبحسب ذلك اختلف أقوال الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم. قال الحافظ في الفتح: قد اختلف أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في هذه الساعة هل هي باقية أو رفعت؟ وعلى البقاء هل هي في كل جمعة أو في جمعة واحدة من كل سنة؟ وعلى الأول هل هي وقت من اليوم معين أو مبهم؟ وعلى التعيين هل تستوعب الوقت أو تبهم فيه؟ وعلى الإبهام ما ابتداءه وما انتهاءه؟ وعلى كل ذلك هل تستمر أو تتنقل؟ وعلى الانتقال هل تستغرق اليوم أو بعضه؟ ثم ذكر رحمه الله تلخيص ما اتصل إليه من الأقوال مع أدلتها وبيان حالها في الصحة والضعف والرفع والوقف والإشارة إلى مأخذ بعضها، وقد بلغت هذه الأقوال إلى أكثر من الأربعين قولا، وليست كلها متغايرة من كل جهة، بل كثير منها يمكن اتحاده مع غيره. ورجح الحافظ

(6/288)


منها قولين حيث قال بعد ذكرها: ولا شك أن أرجح الأقوال المذكورة حديث أبي موسى. (يعني الذي ذكره المصنف بعد هذا أنها ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تقضى الصلاة) وحديث عبدالله بن سلام. (يريد به ما يأتي في حديث أبي هريرة الطويل في الفصل الثاني من قوله: إنها في آخر ساعة بعد العصر في يوم الجمعة) قال المحب الطبري: اصح الأحاديث فيها حديث أبي موسى، وأشهر الأقوال فيها قول عبدالله بن سلام- انتهى. قال الحافظ وما عداها إما موافق لهما أو لأحدهما أو ضعيف الإسناد أو موقوف، استند قائله إلى اجتهاد دون توقيف. ولا يعارضهما حديث أبي سعيد في كونه ? أنسيهما بعد أن علمها، لاحتمال أن يكونا سمعا ذلك منه قبل أن أنسي، أشار إلى ذلك
1368- (5) وعن أبي بردة بن أبي موسى، قال: سمعت أبي يقول، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول،

(6/289)


البيهقي وغيره، وقد اختلف السلف في أيهما أرجح؟ فرجح مسلم فيما روى البيهقي حديث أبي موسى، وبه قال جماعة منهم البيهقي وابن العربي والقرطبي. قال القرطبي: هو نص في موضع الخلاف فلا يلتفت إلى غيره. وقال النووي: هو الصحيح بل الصواب، وجزم في الروضة بأنه الصواب، ورجحه أيضا بكونه مرفوعا صريحا، وبأنه في أحد الصحيحين. وذهب آخرون إلى ترجيح قول عبدالله بن سلام، فحكى الترمذي عن أحمد أنه قال: أكثر الأحاديث على ذلك. وقال ابن عبدالبر: أنه أثبت شيء في هذا الباب، وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح على أبي سلمة بن عبدالرحمن أن أناسا من الصحابة اجتمعوا فتذاكروا ساعة الجمعة ثم افترقوا فلم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة، ورجحه كثير من الأئمة أيضا كأحمد وإسحاق ومن المالكية الطرطوشي، واختاره ابن الزملكاني شيخ الشافعية في وقته، وحكاه عن نص الشافعي وهو الذي اختاره ابن القيم ورجحه في زاد المعاد (ج1 ص107) في بحث نفيس يرجع إليه ويستفاد، واحتج فيه بما سنذكره من حديث أبي سعيد وأبي هريرة عند أحمد، وقد استشكل هذا، فإنه ترجيح لغير ما في الصحيح على ما هو فيه، والمعروف من علوم الحديث وغيرها أن ما في الصحيحين أو ما في أحدهما مقدم على غيره. والجواب أن ذلك حيث لم يكن حديث الصحيحين أو أحدهما مما انتقده الحفاظ، كحديث أبي موسى هذا الذي في مسلم فإنه قد أعل بالانقطاع والاضطراب، وسيأتي ذكرهما في شرحه، وسلك بعضهم مسلكا آخر وهو الجمع بين الحديثين بأن ساعة الإجابة تنتقل فتكون في جمعة في ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تقضى الصلاة. وفي أخرى في آخر ساعة من اليوم. قال ابن عبدالبر: الذي ينبغي الاجتهاد في الدعاء في الوقتين المذكورين، وسبق على ذلك الإمام أحمد. قال الحافظ: وهو أولى في طريق الجمع. واستشكل حصول الإجابة لكل داع بالشرط المتقدم مع اختلاف الزمان باختلاف البلاد والمصلي، فيتقدم بعض على بعض وساعة الإجابة

(6/290)


متعلقة بالوقت فكيف تتفق مع الاختلاف وأجيب باحتمال أن تكون ساعة الإجابة متعلقة بفعل كل مصل، كما قيل نظيره في ساعة الكراهة، ولعل هذا فائدة جعل الوقت الممتد مظنة لها، وإن كانت هي خفيفة، ويحتمل أن يكون عبر عن الوقت بالفعل فيكون التقدير وقت جواز الخطبة أو الصلاة أو نحو ذلك.
1368- قوله: (وعن أبي بردة) بضم الموحدة وسكون الراء ودال مهملة، اسمه عامر. وقيل: الحارث، ثقة من أوساط التابعين المشهورين، مات سنة أربع ومائة. وقيل: غير ذلك. وقد جاوز الثمانين. (بن أبي موسى)
في شأن ساعة الجمعة: ((هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة)) رواه مسلم.

(6/291)


الأشعري، عبدالله بن قيس الصحابي. (في شأن ساعة الجمعة) أي في بيان وقتها. (هي) أي ساعة الجمعة، يعني ساعة الإجابة في يوم الجمعة. (ما بين أن يجلس الإمام) أي جلوس الإمام للخطبة. (إلى أن تقضى الصلاة) أي إلى تمام الصلاة وانقضائها. قال أبوداود: يعني على المنبر، أي المراد بجلوس الإمام في الحديث جلوسه عقب صعوده على المنبر للخطبة. والحديث نص في أن ساعة الإجابة في ما بين جلوس الإمام على المنبر للخطبة إلى تمام الصلاة، وليس المراد أنها تستوعب جميع الوقت الذي عين، بل المعنى أنها تكون في أثنائه لقوله فيما مضى: يقللها وقوله: وهي ساعة خفيفة. وفائدة ذكر الوقت أنها تنتقل فيه فيكون ابتداء مظنتها ابتداء الخطبة وانتهائها انتهاء الصلاة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أبوداود والبيهقي (ج3ص350). والحديث مع كونه في صحيح مسلم قد أعل بالانقطاع والاضطراب. أما الانقطاع فلأن مخرمة بن بكير رواه عن أبيه بكير بن عبدالله بن الأشج، وهو لم يسمع من أبيه، قاله أحمد عن حماد بن خالد عن مخرمة نفسه، وكذا قال سعيد بن أبي مريم عن موسى بن سلمة عن مخرمة، وزاد: إنما هي كتب كانت عندنا. وقال علي بن المديني: لم أسمع أحدا من أهل المدينة يقول عن مخرمة أنه قال في شيء من حديثه سمعت أبي. ولا يقال مسلم يكتفي في المعنعن بإمكان اللقاء مع المعاصرة، وهو كذلك؛ لأنا نقول وجود التصريح عن مخرمة بأنه لم يسمع من أبيه كاف في دعوى الانقطاع. وأجيب عن هذا بأنه اختلف في سماع مخرمة من أبيه: فقال أحمد وابن معين وابن حبان: لم يسمع من أبيه أي شيئا. وقال أبوداود: لم يسمع من أبيه إلا حديثا واحدا وهو حديث الوتر. وقال علي بن المديني: سمعت معن بن عيسى يقول: مخرمة سمع من أبيه، وعرض عليه ربيعة أشياء من رأي سليمان بن يسار، قال علي: ولا أظن مخرمة سمع من أبيه كتاب سليمان لعله سمع الشيء اليسير، ولم أجد أحدا بالمدينة يخبرني عن مخرمة أنه كان يقول في شيء من حديثه:

(6/292)


سمعت أبي. وقال ابن أبي أويس: وجدت في ظهر كتاب مالك سألت مخرمة عما يحدث به عن أبيه سمعها من أبيه فحلف لي، ورب هذه البنية سمعت من أبي، كذا في تهذيب التهذيب، فلعل مسلما ممن صح وثبت عندهم سماع مخرمة من أبيه، ويدل على ذلك ما رواه البيهقي من طريق أحمد بن سلمة أن مسلما قال: حديث أبي موسى أجود شيء في هذا الباب وأصحه. ولو سلمنا أن مخرمة لم يسمع من أبيه لا يضر؛ لأنه يروي من كتب أبيه، والعمل بالوجادة جائز. قال النووي: أما العمل بالوجادة، فعن المعظم أنه لا يجوز. وعن الشافعي ونظار أصحابه جوازه. وقطع البعض بوجوب العمل بها عند حصول الثقة به، قال: وهذا هو الصحيح الذي لا يتجه في هذه الأزمان غيره-انتهى. وأما الاضطراب، فقال العراقي: إن أكثر الرواة
?الفصل الثاني?
1369-(6) عن أبي هريرة، قال: خرجت إلى الطور، فلقيت كعب الأحبار، فجلست معه، فحدثني عن التوراة، وحدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان فيما حدثته أن قلت: قال رسول الله ?: ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أهبط،

(6/293)


جعلوه من قول أبي بردة مقطوعا به وأنه لم يرفعه غير مخرمة عن أبيه. وقال الحافظ: رواه أبوإسحاق وواصل الأحدب ومعاوية بن قرة وغيرهم عن أبي بردة من قوله، وهؤلاء من أهل الكوفة، وأبوبردة كوفي، فهم أعلم بحديثه من بكير المدني، وهم عدد وهو واحد أيضا، فلو كان عند أبي بردة مرفوعا لم يقفوه عليه، ولهذا جزم الدارقطني فيما استدركه على مسلم بأن الموقوف هو الصواب. وأجاب النووي عن ذلك بقوله: وهذا الذي استدركه بناه على القاعدة المعروفة له، ولأكثر المحدثين أنه إذا تعارض في رواية الحديث وقف ورفع أو إرسال واتصال حكموا بالوقف والإرسال، وهي قاعدة ضعيفة ممنوعة، والصحيح طريقة الأصوليين والفقهاء والبخاري ومسلم ومحققي المحدثين أنه يحكم بالرفع والاتصال؛ لأنها زيادة ثقة-انتهى. وأجاب بعضهم عن قول الدارقطني: والصواب أنه من قول أبي بردة، بأنه لا يكون إلا مرفوعا فإنه لا مسرح للاجتهاد في تعيين أوقات العبادة.

(6/294)


1369- قوله: (خرجت إلى الطور) أي حيث كلم الله موسى عليه السلام. قال القاري: الطور محل معروف المتبادر طور سيناء. وقال الباجي: الطور في كلام العرب واقع على كل جبل، إلا أنه في الشرع يطلق على جبل بعينه، وهو الذي كلم فيه موسى عليه السلام، وهو الذي عناه أبوهريرة-انتهى. وقال ياقوت في معجمه: وبالقرب من مصر عند موضع يسمى مدين، جبل يسمى الطور. وعليه كان الخطاب الثاني لموسى عليه السلام عند خروجه من مصر ببني إسرائيل-انتهى. (فلقيت كعب الأحبار) جمع حبر بالفتح والكسر والإضافة، كما في زيد الخيل، وهو كعب بن ماتع تقدم ترجمته. (فحدثني عن التوراة) يعني أخبرني بما في التوراة التي بأيديهم على وجه القصص والإخبار واعتبار ما يوافق منها ما عند أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قاله الباجي. (حدثته) أي كعبا الأحاديث. (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان فيما حدثته) خبر كان. (أن قلت) اسم كان ومقوله. (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهذا لفظ مالك، وسياق النسائي قال: أي أبوهريرة أتيت الطور فوجدت ثم كعبا فمكثت أنا وهو يوما أحدثه عن رسول الله ? ويحدثني عن التوراة فقلت له: قال رسول الله ?. (وفيه أهبط) قال القاري: الظاهر أن أهبط هنا بمعنى أخرج في الرواية السابقة. وقيل: كان
وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس، شفقا من الساعة، إلا الجن والإنس. وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي

(6/295)


الإخراج من الجنة إلى السماء، والإهباط أي إنزال منها إلى الأرض، فيفيد أن كلا منهما كان في يوم الجمعة: أما في يوم واحد: وإما في يومين، قيل: كان هبوط آدم على جبل بسرنديب في أرض الهند، يقال له نود. وقد أورد السيوطي في ذلك أحاديث في الدر المنثور. (وفيه تيب عليه) على بناء المفعول من التوبة أي وفق للتوبة وقبلت التوبة منه قال تعالى: ?ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى? [20: 122]. (وفيه) أي في نحوه من أيام الجمعة. (مات) وله ألف سنة، كما في حديث أبي هريرة وابن عباس مرفوعا. وقيل: إلا سبعين. وقيل: إلا ستين. وقيل: إلا الأربعين، قاله الزرقاني. واختلف أيضا في موضع موته ومحل دفنه على أقوال، وصحح ابن كثير أنه مات على جبل نود بسرنديب في الهند، ودفن فيه موضع الذي أهبط عليه، والله أعلم. (وما من دابة) زيادة "من" لإفادة الاستغراق في النفي. (إلا وهي مصيخة) بالصاد المهملة والخاء المعجمة، من أصاخ أي مصغية مستمعة تتوقع قيام الساعة. وروى بسين بدل الصاد، وهما لغتان بمعنى. قال الجزري: والأصل الصاد، قال القاري: وفي أكثر نسخ المصابيح بالسين. (يوم الجمعة) ظرف لمصيخة. (من حين تصبح) قال الطيبي: بني على الفتح لإضافته إلى الجملة، ويجوز إعرابه إلا أن الرواية بالفتح. (حتى تطلع الشمس)؛ لأن بطلوعها يتميز يوم الساعة عن غيره، فإنها تطلع في يوم الساعة من المغرب. (شفقا من الساعة) أي خوفا من قيامها فيه أن البهائم تعلم الأيام بعينها، وأنها تعلم أن القيام تقوم يوم الجمعة، ولا تعلم وقائع التي بين زمانها وبين القيامة، أو ما تعلم أن تلك الوقائع ما وجدت الآن. (إلا الجن والإنس) استثناء من الجنس؛ لأن اسم الدابة يقع على كل ما دب. قال الباجي: وجه عدم إشفاقهم أنهم علموا أن بين يدي الساعة شروطا ينتظرونها، وليس بالبين؛ لأنا نجد منهم من لا يصيخ وليس له علم بالشروط. وقال ابن عبدالبر: فيه أن الجن والإنس لا يعلمون من أمر الساعة ما

(6/296)


يعرفه غيرهم من الدواب، وهذا أمر يقصر عنه الفهم. وقال التوربشتي في شرح المصابيح: وجه إساخة كل دابة يوم الجمعة، وهي مما لا تعقل أن نقول: إن الله تعالى يجعلها ملهمة بذلك مستشعرة منه وغير مستنكر أمثال ذلك وما هو فوقه في العجب من قدرة الله سبحانه، والحكمة في إخفاء ذلك من الجن والإنس أنهم مكلفون، ولا سيما بالإيمان بالغيب، فإذا كوشفوا بشيء من ذلك أخلت قاعدة الابتلاء وحق القول عليهم بالاعتداء، ثم أنهم لا يستطيعون به سمعا إن أظهر لهم، ويجوز أن يكون وجه إساخة كل دابة يوم الجمعة أن الله تعالى يظهر يوم الجمعة في أرضه من عظائم الأمور وجلائل الشيءون ما تكاد الأرض تميد بها، فتبقى كل دابة ذاهلة دهشة كأنها مسيخة للرعب الذي تداخلها وللحالة التي تشاهدها، حتى كأنها تشفق شفقتها من قيام الساعة. (وفيه ساعة) خفيفة. (لا يصادفها) أي لا يوافقها. (وهو يصلي)
يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه. قال كعب: ذلك في كل سنة يوم؟ فقلت: بل في كل جمعة فقرأ كعب التوراة، فقال: صدق رسول الله ?. قال أبوهريرة: لقيت عبدالله بن سلام، فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته في يوم الجمعة، فقلت له: قال كعب: ذلك في سنة يوم؟ قال عبدالله بن سلام: كذب كعب، فقلت له: ثم قرأ كعب التوراة، فقال: بل هي في كل جمعة، فقال عبدالله بن سلام: صدق كعب، ثم قال عبدالله بن سلام: قد علمت أي ساعة هي؟

(6/297)


حقيقة أو حكما بالانتظار، كما تقدم يدعو. ولفظ النسائي وفيه: ساعة لا يوافقها مؤمن، وهو في الصلاة. (يسأل الله) حال أو بدل. (شيئا) من أمر الدنيا والآخرة بشروطه. (إلا أعطاه إياه) ما لم يسأل إثما أو قطيعة رحم، كما تقدم. (ذلك) أي اليوم. (في كل سنة يوم) واحد. قال الطيبي: الإشارة إلى اليوم المذكور المشتمل على تلك الساعة الشريفة ويوم خبره. قال الباجي: يحتمل أن يكون ذلك على سبيل السهو في الإخبار عن التوراة أو التأويل للفظها. (بل في كل جمعة) أي هي في كل جمعة أو في كل أسبوع يوم، يعني ذلك اليوم المشتمل على ما ذكر كائن في كل أسبوع، وهذا أظهر مطابقة للجواب. (فقرأ كعب التوراة) بالحفظ أو بالنظر. (فقال) كعب (صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم) زاد النسائي هو في كل جمعة، وفي هذا معجزة عظيمة دالة على كمال علمه عليه السلام، حيث أخبر بما خفي على أعلم أهل الكتاب مع كونه أميا. (لقيت عبدالله بن سلام) بتخفيف اللام ابن الحارث. من بني قينقاع الإسرائيلي أبويوسف، حليف بني عوف بن الخزرج، أسلم عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، شهد له النبي ? بالجنة، ونزل فيه: ?وشهد شاهد من بني إسرائيل? وقوله تعالى: ?ومن عنده علم الكتاب? [13: 43]، وشهد مع عمر فتح بيت المقدس والجابية، قيل: كان اسمه الحصين، فسماه النبي ? عبدالله، روى خمسة وعشرين حديثا، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بآخر، مات بالمدينة سنة. (43). (فحدثته بمجلسي) أي بجلوسي. (وما حدثته) أي وأخبرته بالحديث الذي حدثت به كعبا. (في يوم الجمعة) أي في شأنه أو فضله. (فقلت له) أي لعبد الله بن سلام. (كذب كعب) أي أخطأ وغلط: قال الباجي: والكذب إخبار بالشيء على غير ما هو به سواء تعمد ذلك أو لم يتعمد. (بل هي) أي ساعة الإجابة. (في كل جمعة) كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. (قد علمت) بصيغة المتكلم. (أية ساعة هي) بنصب "أية" على أنها مفعول علمت، أي عرفت تلك

(6/298)


الساعة. وفي بعض النسخ برفعها، كقوله تعالى: ?لنعلم أي الحزبين أحصى? [18: 12] قال ابن عبدالبر: وفيه إظهار العالم لعلمه بأن يقول أنا عالم
قال أبوهريرة: فقلت: أخبرني بها ولا تضن علي، فقال عبدالله بن سلام هي آخر ساعة في يوم الجمعة.
لكذا وكذا إذا لم يكن على وجه الفخر والرياء والسمعة. (قال أبوهريرة فقلت) أي لعبد الله بن سلام. (أخبرني بها) أي بتلك الساعة. (ولا تضن علي) بكسر الضاد وفتحها وبفتح النون المشددة من باب تعب وضرب، أي لا تبخل علي، قلت: وضبط في جامع الترمذي: لا تضنن بسكون الضاد وفتح النون الأولى، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج10ص172) عن الترمذي، ونقل عن الموطأ والنسائي لا تضنن. قال العراقي: يجوز في ضبطه ستة أوجه: أحدها فتح الضاد وتشديد النونين وفتحهما، والثاني بكسر الضاد والباقي مثل الأول، والثالث فتح الضاد وتشديد النون الأولى وفتحها وتخفيف الثانية، والرابع كسر الضاد والباقي مثل الذي قبله، والخامس إسكان الضاد وفتح النون الأولى وإسكان الثانية، والسادس كسر النون الأولى والباقي مثل الذي قبله-انتهى. قال أبوالطيب المدني: حاصل جميع الوجوه أنه من باب التأكيد بالنون الثقيلة أو الخفيفة، أو من باب الفك، وعلى التقديرين فالباب يحتمل فتح العين في المضارع وكسرها فتصير الوجوه ستة-انتهى. (هي آخر ساعة في يوم الجمعة) ولفظ الترمذي: هي بعد العصر إلى أن تغرب الشمس، وسياق الحديث صريح في أن ذلك من قول عبدالله بن سلام حيث لم يصرح بسماعه منه صلى الله عليه وسلم، لكن قول الصحابي فيما لا مسرح للاجتهاد فيه مرفوع حكما، ويدل على كونه مرفوعا صريحا ما رواه ابن ماجه من طريق أبي النضر عن أبي سلمة عن عبدالله بن سلام قال: قلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس: إنا لنجد في كتاب الله في يوم الجمعة ساعة-انتهى. وفيه قال عبدالله: فأشار إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعض ساعة، فقلت: صدقت أو بعض ساعة،

(6/299)


قلت: أية ساعة هي؟ قال: هي آخر ساعات النهار، قلت: انها ليست ساعة الصلاة، قال: بلى إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يحبسه إلا الصلاة فهو في الصلاة. قال الحافظ: وهذا يحتمل أن يكون قائل قلت: أية ساعة هي عبدالله بن سلام، فيكون مرفوعا، ويحتمل أن يكون أبا سلمة، فيكون موقوفا، وهو الأرجح لتصريحه في رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بأن عبدالله بن سلام لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الجواب. أخرجه ابن أبي خيثمة، نعم رواه ابن جرير من طريق العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا أنها آخر ساعة بعد العصر يوم الجمعة، ولم يذكر عبدالله بن سلام قوله ولا القصة. وروى أبوداود والنسائي والحاكم بإسناد حسن عن جابر مرفوعا: يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة لا يوجد مسلم يسأل الله شيئا إلا آتاه الله عزوجل فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر، وروى أحمد (ج2ص272) عن أبي سعيد وأبي هريرة مرفوعا: إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم-الحديث. وفيه وهي بعد العصر، وفي سنده محمد بن مسلمة الأنصاري روى عنه رجل اسمه عباس. قال الذهبي: لا يعرفان، وتعقبه الحافظ في اللسان (ج5ص318) فقال: عباس معروف، وهو عباس بن عبدالرحمن بن
قال أبوهريرة، فقلت: وكيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة وقد قال رسول الله ?: لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي فيها؟ فقال عبدالله بن سلام: ألم يقل رسول الله ?: من جلس مجلسا ينتظر الصلاة، فهو في صلاة حتى يصلي؟ قال أبوهريرة: فقلت بلى، قال: فهو كذلك)) رواه مالك، وأبوداود، والترمذي، والنسائي، وروى أحمد إلى قوله:صدق كعب

(6/300)


ميناء. وقال في التقريب في ترجمته: أنه مقبول. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص165): وثقه ابن حبان، ولم يضعفه أحد-انتهى. ومحمد بن مسلمة المذكور تابعي، ذكره ابن حبان في الثقات. والحديث صحح إسناده الشيخ أحمد شاكر، لكن قال: إن العباس راوي هذا الحديث ليس هو ابن ميناء، بل هو رجل آخر، وهو عباس ابن عبدالرحمن بن حميد القرشي من بني أسد بن عبدالعزى المكي، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل. قلت: ويؤيد حديث أبي هريرة هذا حديث أنس الآتي، والحديثان وإن كانا مطلقين غير مقيدين بآخر ساعة إلا أنهما يحملان على الأحاديث المقيدة بأنها آخر ساعة بعد العصر، فإن حمل المطلق على المقيد متعين، كما تقرر في الأصول. (قال أبوهريرة فقلت) لعبد الله بن سلام. (وكيف تكون) أي تلك الساعة. (وقد قال) الواو حالية. (رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي شأنها. (وهو يصلي فيها) قال القاري: وفي نسخة: وهو يصلي، وتلك الساعة لا يصلى فيها. قلت هكذا وقع في الموطأ وسنن أبي داود وجامع الترمذي، وكذا نقله الجزري (ج10ص172) ولفظ النسائي: وهو في الصلاة، وليست تلك الساعة صلاة. (فقال عبدالله بن سلام) في تأويل قوله صلى الله عليه وسلم. (من جلس مجلسا) أي جلوسا أو مكان الجلوس. (ينتظر الصلاة) أي في هذا المجلس. (فهو في صلاة) أي حكما. (حتى يصلي) أي حقيقة يعني يفرغ من الصلاة، ولفظ النسائي: من صلى وجلس ينتظر الصلاة، فهو في صلاة حتى تأتيه الصلاة التي تليها. (فقلت: بلى) أي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. (قال) أي عبدالله بن سلام. (فهو ذلك) أي هذا هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي. وقال القاري: فهو أي المراد بالصلاة ذلك أي الانتظار. ولفظ النسائي: فهو كذلك أي فالجالس في تلك الساعة منتظرا كذلك أي مصل. قال السيوطي في التنوير: هذا أي تأويل عبدالله بن سلام مجاز بعيد، ورد عليه الزرقاني بأنه بعد الثبوت وبعد قبول الصحابي إياه لا بعد

(6/301)


فيه ولا ريب أن الداعي آخر ساعة بعد العصر عازم على المغرب. (رواه مالك وأبوداود) وسكت عنه. (والترمذي) وقال: هذا حديث حسن صحيح، ونقل المنذري كلامه هذا وأقره. (والنسائي الخ) وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان والحاكم (ج1ص278) والبيهقي (ج3ص250، 251).
1370-(7) وعن أنس، قال: قال رسول الله ?: ((التمسوا الساعة التي ترجى في يوم الجمعة بعد العصر إلى غيبوبة الشمس)). رواه الترمذي.
1371-(8) وعن أوس بن أوس، قال: قال رسول الله ?: ((إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة،

(6/302)


1370- قوله: (التمسوا) أي أطلبوا، ورواه الطبراني بلفظ: ابتغوا. (الساعة التي ترجى) بصيغة المجهول أي تطمع إجابة الدعاء فيها. (بعد العصر إلى غيبوبة الشمس) هذا يؤيد قول عبدالله بن سلام، وهو محمول على أن المراد بها آخر ساعة بعد العصر، كما تقدم. وقد اقتصر المصنف على ذكر قولين في تعيين ساعة الجمعة، كالبغوي كأنهما رأيا هذين القولين أرجح وأقوى من غيرهما دليلا. (رواه الترمذي) أي من طريق محمد بن أبي حميد عن موسى بن وردان عن أنس، قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وقد روي عن النبي ? من غير هذا الوجه، ثم تكلم في محمد بن أبي حميد بأنه ضعف من قبل حفظه، وقال: هو منكر الحديث. قلت: ورواه الطبراني في الأوسط من طريق ابن لهيعة، كما في الترغيب (ج1ص216) ومجمع الزوائد (ج2ص166) وزاد في آخره: وهي قدر هذا يعني قبضة. قال المنذري: وإسناده أصلح من إسناد الترمذي-انتهى. ورواه ابن جرير من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفا، ومن طريق صفوان بن سليم عن أبي سلمة عن أبي سعيد مرفوعا بلفظ: فالتمسوها بعد العصر. وذكر ابن عبدالبر: إن قوله: "فالتمسوها" إلى آخره، مدرج في الخبر من قول أبي سلمة. ورواه ابن مندة من هذا الوجه وزاد: أغفل ما يكون الناس. ورواه أبونعيم في الحلية من طريق الشيباني عن عون بن عبدالله عن أخيه عبيدالله، كقول ابن عباس، كذا في الفتح.

(6/303)


1371- قوله: (وعن أوس بن أوس) الثقفي، صحابي، سكن دمشق، ومات بها، له حديثان أحدهما في الصيام والآخر في الجمعة. (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة) فيه إشارة إلى أن يوم عرفة أفضل أو مساو؛ لأن زيادة "من" تدل على أن يوم الجمعة من جملة الأفاضل من الأيام، وليس هو أفضل الأيام مطلقا. (فيه خلق آدم) أي طينته. (وفيه) أي في جنسه. (قبض) أي روحه. (وفيه النفخة) قال الطيبي: أي النفخة الأولى، فإنها مبدأ قيام الساعة، ومقدم النشأة الثانية. (وفيه الصعقة) أي الصيحة. والمراد بها الصوت الهائل الذي يموت الإنسان من هوله، وهي النفخة الأولى. قال تعالى: ?ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله? [39: 68] فالتكرار باعتبار تغاير الوصفين. وقال القاري: المراد بالنفخة الثانية، وبالصعقة النفخة الأولى، قال: وهذا أولى لما فيه من التغاير الحقيقي، وإنما سميت النفخة الأولى بالصعقة؛ لأنها تترتب عليها، وبهذا
فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي. قالوا: يا رسول الله ! وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟

(6/304)


الوصف تتميز عن الثانية. وقيل: إشارة إلى صعقة موسى عليه السلام. (فأكثروا علي من الصلاة فيه) أي في يوم الجمعة، وهو تفريع على كون الجمعة من أفضل الأيام. (فإن صلاتكم معروضة علي) يعني على وجه القبول فيه وإلا فهي دائما تعرض عليه بواسطة الملائكة، قاله القاري. وقال السندي: هذا تعليل للتفريع أي هي معروضة علي كعرض الهدايا على من أهديت إليه، فهي من الأعمال الفاضلة ومقربة لكم إلي، كما يقرب الهدية المهدي إليه، وإذا كانت بهذه المثابة، فينبغي إكثار باقي الأوقات الفاضلة، فإن العمل الصالح يزيد فضلا بواسطة فضل الوقت، وعلى هذا لا حاجة إلى تقييد العرض بيوم الجمعة، كما قيل. وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين بعد ذكر أحاديث إبلاغ السلام إليه ? وعرض الصلاة عليه ما لفظه: وظاهر الجميع أن كل صلاة وسلام تبلغه ?، وسواء كان ذلك في يوم الجمعة أو في غيره من الأيام والليالي، فلعل في العرض عليه زيادة على مجرد الإبلاغ إليه، ويكون ذلك من خصائص الصلاة عليه ? في يوم الجمعة. (وقد أرمت) جملة حالية بفتح الراء وسكون الميم وفتح التاء المخففة على وزن ضربت، ويروى بكسر الراء أي بليت. وقيل: أرمت على البناء للمفعول من الأرم، وهو الأكل أي صرت مأكولا للأرض. وقيل: أرمت بالميم المشددة والتاء الساكنة أي أرمت العظام وصارت رميما من رم الميت وأرم إذا بلى، ويروي أرممت بالميمين أي صرت رميما، فعلى هذا يجوز أن يكون أرمت بحذف إحدى الميمين، كظلت ثم كسرت الراء لالتقاء الساكنين أو فتحت بالأخفية أو بالنقلية، وفي ضبطه أقوال أخر. قال السندي: لا بد ههنا أولا من تحقيق لفظ أرمت، ثم النظر في السؤال والجواب وبيان انطباقها، فأما أرمت بفتح الراء كضربت أصله أرممت من أرم بتشديد الميم إذا صار رميما، فحذفوا إحدى الميمين، كما في ظلت، ولفظه: إما على الخطاب أو الغيبة على أنه مستند إلى العظام. وقيل: من أرم بتخفيف

(6/305)


الميم أي فني، وكثيرا ما يروى بتشديد الميم والخطاب، فقيل هي لغة ناس من العرب. وقيل: بل خطأ والصواب سكون التاء لتأنيث العظام، أو أرممت بفك الإدغام. وأما تحقيق السؤال فوجهه أنهم فهموا عموم الخطاب في قوله: فإن صلاتكم معروضة للحاضرين ولمن يأتي بعده ?، ورأوا أن الموت في الظاهر مانع عن السماع والعرض، فسألوا عن كيفية عرض صلاة من يصلي بعد الموت، وعلى هذا فقولهم: وقد أرمت كناية عن الموت، والجواب بقوله ?: إن الله حرم الخ. كناية عن كون الأنبياء أحياء في قبورهم، أو بيان لما هو خرق للعبادة المستمرة بطريق التمثيل أي ليجعلوه مقيسا عليه للعرض بعد الموت الذي هو خلاف العادة المستمرة، ويحتمل أن المانع من العرض عندهم فناء البدن لا مجرد الموت ومفارقة الروح، لجواز عود الروح إلى البدن ما دام سالما عن التغير الكثير، فأشار ? إلى
قال: يقولون: بليت، قال: إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء)). رواه أبوداود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي، والبيهقي في الدعوات الكبير.

(6/306)


بقاء بدون الأنبياء عليهم السلام، وهذا هو ظاهر السؤال والجواب، بقي أن السؤال منهم على هذا الوجه يشعر بأنهم ما علموا أن العرض على الروح المجرد ممكن، فينبغي أن يبين لهم النبي ? أنه يمكن العرض على الروح المجرد ليعلموا ذلك، ويمكن الجواب عن ذلك بأن سؤالهم يقتضي أمرين مساواة الأنبياء عليهم السلام وغيرهم بعد الموت، وأن العرض على الروح المجرد لا يمكن والاعتقاد الأول أسوء فأرشدهم ? بالجواب إلى ما يزيله وآخر ما يزيل الثاني إلى وقت يناسبه تدريجا في التعليم. والله أعلم. (قال) أي أوس. (يقولون) أي الصحابة أي يريدون بهذا القول. (بليت) بفتح الباء وكسر اللام أي صرت باليا. (قال) أي رسول الله ?. (إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء) أي منعها من أن تأكل أجسادهم، فإن الأنبياء أحياء في قبورهم، لكن بحياة برزخية ليست نظير الحياة المعهودة، وهي أقوى وأكمل من حياة الشهداء. والحديث يدل على مشروعية الإكثار من الصلاة على النبي ? يوم الجمعة، وأنها تعرض عليه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته. (رواه أبوداود والنسائي) في الجمعة. (وابن ماجه) في الجنائز، وروى هو في الجمعة عن شداد بن أوس بمثل حديث أوس بن أوس وهو خطأ، والصواب ما وقع في الجنائز أي عن أوس بن أوس. (والدارمي والبيهقي في الدعوات الكبير) وأخرجه أيضا أحمد (ج4ص8) وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم في مستدركه (ج1ص278) وقال: صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي. وقال النووي: إسناده صحيح، وأخرجه البيهقي (ج3ص248) في السنن من طريق الحاكم، وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: له علة دقيقة، أشار إليها البخاري وغيره، وقد جمعت طرقه في جزء-انتهى. وقال الشوكاني في النيل: ذكره ابن أبي حاتم في العلل وحكى عن أبيه أنه حديث منكر؛ لأن في إسناده عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، وهو منكر الحديث. وذكر البخاري في تأريخه: أنه عبدالرحمن بن يزيد بن تميم. وقال ابن العربي: إن الحديث لم

(6/307)


يثبت-انتهى. قلت: هذا الحديث من رواية عبدالرحمن بن يزيد بن جابر لا من رواية عبدالرحمن بن يزيد بن تميم، والأول ثقة، وثقه أحمد وابن معين والعجلي وابن سعد والنسائي ويعقوب بن سفيان وأبوداود وابنه أبوبكر بن أبي داود وابن حبان وأبوحاتم والذهبي والحافظ. والثاني أي ابن تميم ضعيف منكر الحديث، فالحق أن الحديث صحيح، ومن قال أنه ضعيف أو منكر، فكأنه اشتبه الأمر عليه لظنه أن الحديث من رواية ابن تميم. وقال ابن دحية: أنه صحيح بنقل العدل عن العدل، ومن قال: إنه منكر أو غريب لعله خفية به، فقد استروح؛ لأن الدارقطني ردها.
1372-(9) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ?: اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة، وما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل منه، فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعوا الله بخير إلا استجاب الله له، ولا يستعيذ من شيء إلا أعاذه منه)). رواه أحمد، والترمذي،

(6/308)


1372- قوله: (اليوم الموعود) أي الذي ذكره الله في سورة البروج. (يوم القيامة)؛ لأن الله وعد الناس بإتيانه، أو لأنه وعد المؤمنين بعد إتيانه بنعيم الجنة. (واليوم المشهود يوم عرفة)؛ لأن المؤمنين يشهدونه أي يحضرونه ويجتمعون فيه. (والشاهد يوم الجمعة)؛ لأنه يشهد لمن حضر صلاته، أو لأنه يشهد على كل عامل بما عمل فيه. قال في اللمعات: إنما سمي يوم عرفة مشهودا ويوم الجمعة شاهدا؛ لأن الخلائق يذهبون إلى عرفة ويشهدون فيها فكان مشهودا، وفي يوم الجمعة هم على مكانهم فكان اليوم جاءهم وحضر فكان شاهدا. واعلم أنه وقع الإجماع على أن المراد باليوم الموعود المذكور في سورة البروج، هو يوم القيامة، واختلفوا في تفسير الشاهد والمشهود على أقوال، والراجح ما ذهب إليه الجمهور من الصحابة والتابعين. ومن بعدهم أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة لحديث الباب، وهو وإن كان ضعيفا فله شاهد من حديث أبي مالك الأشعري عند ابن جرير والطبراني وابن مردويه، وفيه إسماعيل بن عياش روى عن ضمضم بن زرعة الحمصي، وإسماعيل صدوق في روايته عن أهل بلده، ومن حديث جبير بن مطعم عند ابن عساكر وابن مردويه، ومن مرسل سعيد بن المسيب عند سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه. (وما طلعت الشمس ولا غربت) في الثاني زيادة تأكيد للأول. (على يوم) أي في يوم أو على موجود يوم وساكنه. (أفضل منه) أي من يوم الجمعة. (عبد مؤمن) قال القاري: من باب التفنن في العبارة فبالحديثين علم أن المؤمن والمسلم واحد في الشريعة، كقوله تعالى: ?فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين? [51: 36]. (يدعو الله بخير) فيه تفسير لقوله: "يصلي" مع زيادة التقييد بالخير. (إلا استجاب الله له) أي بنوع من الإجابة. (ولا يستعيذ من شيء) أي من شر نفس أو شيطان أو إنسان أو معصية أو بلية أو عار أو نار. (إلا أعاذه منه) أي أجاره بنوع من الإعاذة. والحديث

(6/309)


من أدلة فضل يوم الجمعة. (رواه أحمد) (ج2ص298) مقتصرا على تفسير الآية موقوفا من طريق يونس بن عبيد عن عمار مولى بني هاشم عن أبي هريرة من قوله، ومرفوعا من طريق ابن جدعان عن عمار عن أبي هريرة، وكذا أخرجه البيهقي (ج3ص170). قال ابن كثير: والموقوف أشبه. (والترمذي) في التفسير من طريق موسى بن عبيدة الربذي عن أيوب بن خالد عن عبدالله بن رافع عن أبي هريرة، أخرجه أيضا من هذا الطريق ابن أبي حاتم
وقال: هذا حديث غريب لا يعرف إلا من حديث موسى بن عبيدة، وهو يضعف.
?الفصل الثالث?
1373-(10) عن أبي لبابة بن عبدالمنذر، قال: قال النبي ?: ((إن يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها عند الله، وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر، فيه خمس خلال: خلق الله فيه آدم، وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفى الله آدم، وفيه ساعة لا يسأل العبد فيها شيئا

(6/310)


وابن خزيمة. (وقال هذا حديث غريب لا يعرف) وفي نسخ الترمذي الحاضرة عندنا: هذا حديث لا نعرفه. (إلا من حديث موسى بن عبيدة) بضم العين المهملة وفتح الموحدة. (وهو يضعف) بصيغة المجهول أي في الحديث. قال الترمذي: ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره من قبل حفظه-انتهى. قلت: ضعفه أيضا أحمد وابن معين والنسائي وابن المديني وابن حبان وغيرهم. وقال الساجي وأبوحاتم: منكر الحديث. وقال أبوزرعة: ليس بقوي الأحاديث وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث وليس بحجة. وقال وكيع: كان ثقة وقد حدث عن عبدالله بن دينار أحاديث لم يتابع عليها. وقال أبوبكر البزار: موسى بن عبيدة رجل مفيد، وليس بالحافظ، إنما قصر به عن حفظ الحديث شغله بالعبادة. وقال الآجري عن أبي داود: أحاديثه مستوية إلا عن عبدالله بن دينار. وقال ابن معين: ليس بالكذوب، ولكنه روى عن ابن دينار أحاديث مناكير، كذا في تهذيب التهذيب. والظاهر أن موسى هذا ضعيف من قبل حفظه لا سيما في عبدالله بن دينار ومع ذلك فهو صدوق، وقد تأيد حديثه هذا بحديث أبي مالك الأشعري وجبير بن مطعم ومرسل ابن المسيب، وبالأحاديث التي رويت في فضل الجمعة وساعة الإجابة.

(6/311)


1373- قوله: (وعن أبي لبابة) بضم اللام وخفة موحدة أولى، الأوسي الأنصاري المدني، اسمه بشير، أو رفاعة بن عبدالمنذر، صحابي مشهور. قال أبوأحمد الحاكم: يقال شهد بدرا، ويقال رده النبي ? حين خرج إلى بدر من الروحاء، واستعمله على المدينة، وضرب له بسهمه وأجره، فكان كمن شهدها ثم شهد أحدا وما بعدها وكانت معه رواية بني عمرو بن عوف في الفتح، وكان أحد النقباء شهد العقبة، له خمسة عشر حديثا، اتفقا على حديث، مات في خلافة علي. وقيل: بعد الخمسين. (إن يوم الجمعة سيد الأيام) أي أفضل أيام الأسبوع، أو أريد بالسيد المتبوع، كما قال: والناس لنا تبع. (وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر) قيل: أي باعتبار كونه يوم عبادة صرف، وهما يوم فرح وسرور، وفيه إشارة إلى تساوي يومي الجمعة وعرفة أو أفضلية عرفة. (فيه) أي في نفس يوم الجمعة. (خمس خلال) بكسر الخاء المعجمة أي خصال مختصة به. (خلق الله فيه آدم) أي طينته. (وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض) أي أنزله من الجنة إلى الأرض. (لا يسأل العبد) اللام للعهد أي العبد المسلم. (فيها شيئا)
إلا أعطاه، ما لم يسأل حراما، وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا بحر إلا هو مشفق من يوم الجمعة). رواه ابن ماجه.
1374-(11) وروى أحمد عن سعد بن معاذ. ((أن رجلا من الأنصار أتى النبي ? فقال:

(6/312)


أي مما يليق أن يدعو به المسلم، ويسأل فيه ربه تعالى. (إلا أعطاه) أي الله إياه. (ما لم يسأل حراما) أي ما لم يكن مسؤله ممنوعا. (ما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا بحر) أي ولا من دابة، كما تقدم. (إلا هو مشفق) أي خائف من الإشفاق بمعنى الخوف، ولفظ ابن ماجه وأحمد: إلا وهن يشفقن. (من يوم الجمعة) أي خوفا من فجأة الساعة، وفيه أن سائر المخلوقات تعلم الأيام بعينها، وأنها تعلم أن القيامة تقوم يوم الجمعة، ولا تعلم الوقائع التي بينها وبين القيامة، أو ما تعلم أن تلك الوقائع ما وجدت إلى الآن، لكن هذا بالنظر إلى الملك المقرب لا يخلو عن خفاء. والأقرب أن غلبة الخوف والخشية تنسيهم ذلك. (رواه ابن ماجه) وكذا أحمد (ج3ص430) بلفظ واحد. قال في الزوائد: إسناده حسن، وكذا قال العراقي، كما في النيل. وقال المنذري في الترغيب: في إسنادهما (أي أحمد وابن ماجه) عبدالله بن محمد بن عقيل، وهو ممن احتج به أحمد وغيره.

(6/313)


1374- قوله: (وروى أحمد عن سعد بن معاذ) كذا وقع في متن المرقاة وغيره، ووقع في بعض النسخ: سعيد بن معاذ، وكلاهما خطأ من النساخ؛ لأنه ليس في الرواة أحد اسمه سعيد بن معاذ، ولأن هذا الحديث من مرويات سعد بن معاذ، بل هو من مسانيد سعد بن عبادة، فالصواب سعد بن عبادة، كما وقع في مسند الإمام أحمد (ج5ص284) ومجمع الزوائد (ج2ص163) والترغيب للمنذري (ج1ص214) والفتح (ج4ص503) قال المنذري بعد ذكر حديث أبي لبابة عن المسند وسنن ابن ماجه: ورواه أحمد أيضا والبزار من طريق عبدالله بن محمد بن عقيل أيضا من حديث سعد بن عبادة، وبقية رواته ثقات مشهورون-انتهى. وسعد بن عبادة بعين مضمومة وخفة موحدة، ابن دليم بن حارثة أبوثابت الأنصاري الساعدي الخزرجي، سيدهم، وصاحب رأية الأنصار في المشاهد كلها. اختلف في شهوده بدرا فوقع في صحيح مسلم أنه شهدها، وكذا قاله ابن عيينة والبخاري وأبوحاتم وأبوأحمد الحاكم وابن حبان، والمعروف عند أهل المغازي أنه تهيأ للخروج إلى بدر فنهش فأقام، وهو من نقباء العقبة الاثني عشر، وكان أحد الأجواد، يكتب بالعربية ويحسن العوم والرمي، وكان من أحسن ذلك يسمى الكامل، وكان كثير الصدقات جدا، حكايات جوده كثيرة مشهورة، تخلف عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه وخرج عن المدينة، ولم يرجع إليها حتى مات بحوران من أرض الشام لسنتين ونصف من خلافة عمر سنة (15) وقيل: (14) وقيل: (11) ولم يختلفوا أنه وجد ميتا في مغتسلة، وقد أخضر جسده ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلا يقول ولا يرونه:
أخبرنا عن يوم الجمعة ماذا فيه من الخير؟ قال: فيه خمس خلال)). وساق إلى آخر الحديث.
1375-(12) وعن أبي هريرة، قال: ((قيل للنبي ?: لأي شيء سمي يوم الجمعة؟ قال: لأن فيها طبعت طينة أبيك آدم، وفيها الصعقة والبعثة وفيها البطشة، وفي آخر ثلاث ساعات منها ساعة من دعا الله فيها استجيب له)).

(6/314)


نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة، ورمينا بسهمين فلم نخط فؤاده، فيقال: إن الجن قتلته. (أخبرنا عن يوم الجعة) أي عن خواصه. ( ماذا فيه من الخير قال: فيه خمس خلال) قال الطيبي: يدل على أن هذه الخلال خيرات توجب فضيلة اليوم. (وساق) أي ذكرها مرتبا. (إلى آخر الحديث) والظاهر أنه ليس المراد بخمس خلال الحصر لما تقدم أن ابن القيم ذكر في الهدي ثلاثا وثلاثين خصوصية للجمعة.
1375- قوله: (لأي شيء سمي) أي يوم الجمعة بالرفع. (يوم الجمعة) بالنصب على أنه مفعول ثان، وذكره المنذري في الترغيب، والهيثمي في الزوائد عن المسند بلفظ: أي شيء يوم الجمعة. (لأن فيها) أنثه نظرا للمضاف إليه. (طبعت) أي خمرت وجمعت. وقيل: جعلت صلصالا كالفخار. (طينة أبيك) الطين بالكسر معروف وبالهاء قطعة منه. (آدم) أي الذي هو مجموعة العالم، والخطاب للقائل السائل. (وفيها الصعقة) أي الصيحة الأولى التي يموت بها جميع أهل الدنيا. (والبعثة) بكسر الباء وتفتح أي النفخة الثانية التي بها تحيا جميع الأجساد الفانية. (وفيها البطشة) أي الأخذة الشديدة يوم القيامة الطامة التي للخلائق عامة، والمراد بها المؤاخذة بعد البعث والحشر. قال القاري: وما قيل إنها يوم القيامة، فهو ضعيف؛ لأن التأسيس أولى من التأكيد. قال الطيبي: سئل ? عن علة تسمية الجمعة، فأجاب بأنه إنما سمي بها لاجتماع الأمور العظام وجلائل الشؤون فيها-انتهى. ولا يخفى أن فيما قدمناه إشارة إلى أن معنى الجمعية موجودة في كل من الأمور المذكورة مع قطع النظر عن الهيئة المجموعية. (وفي آخر ثلاث ساعات منها) أي من يوم الجمعة. (ساعة) قال الطيبي: وفي هذه تجريدية، إذا الساعة هي نفس آخر ثلاث ساعات، كما في قولك: في البيضة عشرون منا من حديد والبيضة نفس الأرطال-انتهى. قال القاري: ولعل العدول عن أن يقول: وفي آخرها ساعة إشارة إلى المحافظة على الساعتين قبل تلك الساعة لقربها-انتهى. وعلى هذا حديث أبي هريرة هذا

(6/315)


يكون موافقا للأحاديث المصرحة بأنها آخر ساعة بعد العصر، وهو الظاهر عندي، ويظهر من كلام الحافظ أنه فهم أن المراد منه آخر الساعة الثالثة من أول النهار حيث قال: القول الحادي عشر أنها آخر الساعة الثالثة من النهار، حكاه صاحب المغني (ج2ص355)، وهو في مسند الإمام أحمد من طريق علي بن طلحة عن أبي هريرة مرفوعا، فذكر حديث الباب ثم نقل عن المحب الطبري أنه قال: قوله في آخر ثلاث ساعات
رواه أحمد.
1376-(13) وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله ?: ((أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة، فإنه مشهود يشهده الملائكة، وإن أحدا لم يصل علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ منها. قال قلت: وبعد الموت؟ قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، فنبي الله حي يرزق))
يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون المراد الساعة الأخيرة من الثلاثة الأول. ثانيهما أن يكون المراد أن في آخر كل من الثلاثة ساعة إجابة، فيكون فيه تجوز لإطلاق الساعة على بعض الساعة-انتهى. (رواه أحمد) من طريق علي بن أبي طلحة عن أبي هريرة، وفي إسناده فرج بن فضالة، وهو ضعيف، وعلي لم يسمع من أبي هريرة، قاله الحافظ، ووهم الهيثمي إذ قال: رجاله رجال الصحيح، ووهم المنذري أيضا حيث قال: رجاله محتج بهم في الصحيح.

(6/316)


1376- قوله: (فإنه) أي يوم الجمعة. (مشهود يشهده) قال القاري: بالياء والتاء. وفي ابن ماجه: تشهده بالتاء، وكذا نقله المجد بن تيمية والمنذري. (الملائكة) هذا لا ينافي ما تقدم من أن يوم الجمعة شاهد؛ لأن إطلاق المشهود عليه هنا باعتبار آخر، فهو شاهد ومشهود، كما قيل في حقه تعالى: هو الحامد، وهو المحمود، مع أنه يحتمل أن يكون ضمير فإنه في هذا الحديث راجعا إلى إكثار الصلاة المفهوم من "أكثروا"، ويؤيده السياق المكتنف بالسباق واللحاق. (إلا عرضت) بصيغة المجهول. (على صلاته) بواسطة الملائكة أي في كل وقت، فعرضها في يوم الجمعة الذي هو أفضل الأيام أولى، ويحتمل أن يكون ذلك العرض مخصوصا بيوم الجمعة أي وجوبا والبتة على وجه الكمال كذا في اللمعات. (حتى يفرغ منها) أي من الصلاة يعني الصلوات كلها معروضة على وإن طالت المدة من ابتداء شروعه فيها إلى الفراغ منها. (قلت وبعد الموت) أي أيضا، والاستفهام مقدر "أو" وبعد الموت ما الحكم فيه. (إن الله حرم على الأرض) أي منعها منعا كليا. (أن تأكل أجساد الأنبياء) فلا فرق لهم في الحالين. وفيه إشارة إلى أن العرض على مجموع الروح والجسد منهم بخلاف غيرهم. (فنبي الله) يحتمل الإضافة الاستغراق، ويحتمل أنها للعهد، والمراد نفسه، وهو الظاهر. وقال القاري: يحتمل الجنس والاختصاص بالفرد الأكمل، والظاهر هو الأول؛ لأنه رأى موسى قائما يصلي في قبره، وكذلك إبراهيم، كما في حديث مسلم. (حي يرزق) رزقا معنويا فإن الله تعالى قال في حق الشهداء من أمته: ?بل أحياء عند ربهم يرزقون? فكيف سيدهم بل رئيسهم؛ لأنه حصل له أيضا مرتبة الشهادة مع مزيد السعادة بأكل الشأة المسمومة وعود سمها، وإنما عصمة الله من الشهادة الحقيقية للبشاعة الصورية ولإظهار القدرة الكاملة بحفظ فرد من بين أعداءه من شر البرية، ولا ينافيه أن يكون هناك رزق حسي أيضا، وهو الظاهر المتبادر، قاله القاري. ثم هذه الجملة يحتمل أن

(6/317)


تكون من قول النبي ?
رواه ابن ماجه.
1377-(14) وعن عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله ?: ((ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر)). رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث غريب، وليس إسناده بمتصل.
نتيجة للكلام، ويحتمل أن تكون من قول أبي الدرداء استفادة من كلامه وتفريعا عليه ? ، وهذا هو الظاهر. وفي الحديث مشروعية الإكثار من الصلاة على النبي ?يوم الجمعة، وأنها تعرض عليه ?، وأنه حي في قبره. وقد ذهب جماعة من العلماء ومنهم البيهقي والسيوطي إلى أن رسول الله ? حي بعد وفاته، وأنه يسير بطاعات أمته، وعندنا حياته هذه هي نوع حياة برزخية وليست نظير الحياة الدنيوية المعهودة، فإن روحه ? في مستقرها في عليين مع الرفيق الأعلى، ولها تعلق ببدنه الطيب قوي فوق تعلق روح الشهيد بجسده، فلا يثبت لها أحكام الحياة الدنيوية إلا ما وقع ذكره في الأحاديث الصحيحة، وارجع للبسط والتحقيق إلى الصارم المنكى (ص196- 204) واقتضاء الصراط المستقيم، وصيانة الإنسان. (رواه ابن ماجه) في آخر الجنائز. قال العراقي في شرح الترمذي، والحافظ في تهذيب التهذيب (ج3ص398): رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعا؛ لأن في إسناده زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي عن أبي الدرداء. قال البخاري: زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي مرسل، ونقل السندي عن البوصيري أنه قال في الزوائد: هذا الحديث صحيح إلا أنه منقطع في موضعين؛ لأن عبادة روايته عن أبي الدرداء مرسلة، قاله العلاء وزيد بن أيمن عن عبادة مرسلة، قاله البخاري-انتهى.

(6/318)


1377- قوله: (ما من مسلم) قال القاري: زيادة "من" لإفادة العموم، فيشمل الفاسق إلا أن يقال إن التنوين للتعظيم. (يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة) الظاهر أن "أو" للتنويع لا للشك. (إلا وقاه الله) أي حفظه. (فتنة القبر) أي عذابه وسؤاله، وهو يحتمل الإطلاق والتقييد، والأول هو الأولى بالنسبة إلى فضل المولى، وهذا يدل على أن شرف الزمان له تأثير عظيم، كما أن فضل المكان له أثر جسيم. (رواه أحمد) (ج2ص169). (والترمذي) في الجنائز، كلاهما من طريق سعيد بن أبي هلال عن ربيعة بن سيف عن عبدالله بن عمرو. (وقال) أي الترمذي. (هذا حديث غريب وليس إسناده بمتصل)؛ لأن ربيعة بن سيف إنما يروي عن أبي عبدالرحمن الحبلى عن عبدالله بن عمرو. قال الترمذي: ولا نعرف لربيعة بن سيف سماعا من عبدالله بن عمرو-انتهى. وذكر الحافظ كلام الترمذي هذا في التهذيب وأقره، قال شيخنا في شرح الترمذي: فالحديث ضعيف؛ لانقطاعه، لكن له شواهد. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: في إسناده ضعف. وأخرجه أبويعلى من حديث أنس نحوه،
1378-(15) وعن ابن عباس، أنه قرأ: ?اليوم أكملت لكم دينكم? الآية،

(6/319)


وإسناده أضعف-انتهى. وقال الهيثمي: في سند حديث أنس يزيد الرقاشى، وفيه كلام-انتهى. وقال القاري: ذكره السيوطي في باب من لا يسأل في القبر، وقال: أخرجه أحمد والترمذي وحسنه، وابن أبي الدنيا عن ابن عمرو، ثم قال: وأخرجه ابن وهب في جامعه والبيهقي أيضا من طريق آخر عنه بلفظ: إلا برئ من فتنة القبر. وأخرجه البيهقي أيضا من طريق ثالثة عنه موقوفا بلفظ: وقي الفتان-انتهى. قلت: لم أجد عند الترمذي تحسينه فلعله وهم وقع في النسخة التي كانت بيد السيوطي، لكن الحديث رواه أحمد من طريق آخر صحيح (ج2ص176، 219) وجاء نحوه أيضا من حديث جابر رواه أبونعيم في الحلية (ج3ص155، 156) بإسناد فيه ضعف. قال ابن القيم: حديث جابر تفرد به عمرو بن موسى الوجيهي، وهو مدني ضعيف-انتهى. قال السيوطي: قال القرطبي هذه الأحاديث أي التي تدل على نفي سؤال القبر لا تعارض أحاديث السؤال السابقة أي لا تعارضها بل تخصها وتبين من لا يسئل في قبره ولا يفتن فيه ممن يجري عليه السؤال ويقاسي تلك الأهوال، وهذا كله ليس فيه مدخل للقياس ولا مجال للنظر فيه، وإنما فيه التسليم والإنقياد لقول الصادق المصدوق. قال الحكيم الترمذي: ومن مات يوم الجمعة فقد انكشف له الغطاء عما له عند الله؛ لأن يوم الجمعة لا تسجر فيه جهنم وتغلق أبوابها، ولا يعمل سلطان النار فيه ما يعمل في سائر الأيام، فإذا قبض الله عبدا من عبيده فوافق قبضه يوم الجمعة كان ذلك دليلا لسعادته وحسن مآبه، وأنه لا يقبض في ذلك اليوم إلا من كتب له السعادة عنده، فلذلك يقيه فتنة القبر؛ لأن سببها إنما هو تمييز المنافق من المؤمن. قلت: ومن تتمة ذلك أن من مات يوم الجمعة له أجر شهيد، فكان على قاعدة الشهداء في عدم السؤال، كما أخرجه أبونعيم في الحلية عن جابر قال: قال رسول الله ?: من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة أجير من عذاب القبر، وجاء يوم القيامة وعليه طابع الشهداء. وأخرج حميد في ترغيبه عن إياس بن بكير:

(6/320)


أن رسول الله ? قال: من مات يوم الجمعة كتب له أجر شهيد ووقي فتنة القبر. وأخرج من طريق ابن جريج عن عطاء قال: قال رسول الله ? ما من مسلم أو مسلمة يموت في يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقي عذاب القبر وفتنة القبر، ولقي الله ولا حساب عليه، وجاء يوم القيامة ومعه شهود يشهدون له أو طابع، وهذا الحديث لطيف صرح فيه بنفي الفتنة والعذاب معا-انتهى كلام السيوطي. قال ابن القيم في حديث جابر: تفرد بع عمر بن موسى الوجيهي، وهو مدني، ضعيف.
1378- قوله: (اليوم أكملت لكم دينكم) أي ما تحتاجون إليه في تكليفكم من تعليم الحلال والحرام وقواعد العقائد وقوانين القياس وأصول الاجتهاد. وقيل: أي أحكامه وفرائضه وشرائعه، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام. (الآية) وهي قوله. ?وأتممت عليكم نعمتي? أي بالهداية والتوفيق، أو بإكمال الدين، أو بفتح مكة
وعنده يهودي، فقال: لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذناها عيدا، فقال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيدين، في يوم جمعة، ويوم عرفة)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب.

(6/321)


ودخولها آمنين. وقيل: أي أمور دنياكم. ?ورضيت? أي اخترت. ?لكم الإسلام دينا? حال أي اخترته لكم من بين الأديان وآذنتكم بأنه هو الدين المرضى وحده. (وعنده) أي وعند ابن عباس. (يهودي) أي حاضر. وفي حديث عمر بن الخطاب عند البخاري في كتاب الإيمان: أن رجلا من اليهود قال له أي لعمر. قال الحافظ: هذا الرجل، هو كعب الأحبار، بين ذلك مسدد في مسنده، والطبري في تفسيره، والطبراني في الأوسط، وللبخاري في المغازى: أن ناسا من اليهود، وله في التفسير: قالت اليهود، فيحمل على أن أنهم كانوا حين سؤال كعب عن ذلك جماعة، وتكلم كعب على لسانهم وأطلق على كعب هذه الصفة إشارة إلى أن سؤاله عن ذلك وقع قبل إسلامه؛ لأن إسلامه كان في خلافة عمر على المشهور، وأطلق عليه ذلك باعتبار ما مضى. (فقال) أي اليهودي. (لاتخذناها) أي جعلنا يوم نزولها. (عيدا) نعظمه في كل سنة ونسر فيه لعظم ما حصل فيه من كمال الدين. (فإنها) أي الآية. (نزلت) أي علينا. (في يوم عيدين) أي وقت عيدين لنا. (في يوم جمعة ويوم عرفة) وفي بعض نسخ المشكاة وجامع الترمذي: في يوم الجمعة أي معرفا باللام، وهو بدل مما قبله بإعادة الجار، يعني أنزلها الله في يومي عيد لنا فضلا وإحسانا من غير أن نجعلهما عيدين بأنفسنا، أو قد تضاعف السرور لنا بإنزالها فإنا نعظم الوقت الذي نزلت فيه مرتين وإن كان نزولها في الوقت المشتمل على اليومين، فإنها نزلت على النبي ? بعرفة يوم الجمعة. وفي حديث عمر عند الطبري: نزلت يوم جمعة يوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد. والطبراني: وهما لنا عيدان. قال الطيبي: في جواب ابن عباس لليهودي إشارة إلى الزيادة في الجواب، يعني ما اتخذنا عيدا واحدا، بل عيدين، وتكرير اليوم تقرير لاستقلال كل يوم بما سمي به وإضافة يوم إلى عيدين كإضافة اليوم إلى الجمعة أي يوم الفرح المجموع، والمعنى يوم الفرح الذي يعودون مرة بعد أخرى فيه إلى السرور. قال الراغب: العيد ما

(6/322)


يعاود مرة بعد أخرى، وخص في الشريعة بيوم الفطر ويوم النحر، ولما كان ذلك اليوم مجعولا للسرور في الشريعة، كما نبه النبي ? بقوله: أيام منى أيام أكل وشرب وبعال صار يستعمل العيد في كل يوم فيه مسرة. والحديث من أدلة فضل الجمعة؛ لأن فيه أخبر الله نبيه ? والمؤمنين أنه قد أكمل لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا. فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة، وفي يوم وقع ذلك له فضل عظيم. (رواه الترمذي) في تفسير سورة المائدة وحسنه. وأخرجه أيضا ابن جرير في تفسيره، وأصل الحديث عند الشيخين وغيرهما عن عمر بن الخطاب أن رجلا من اليهود قال له الخ.
1379-(16) وعن أنس، قال: ((كان رسول الله ? إذا دخل رجب قال: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان. قال: وكان يقول: ليلة الجمعة ليلة أغر، ويوم الجمعة أزهر)). رواه البيهقي في الدعوات الكبير.
(43) باب وجوبها

(6/323)


1379- قوله: (إذا دخل رجب) أي الشهر الذي هو فرد من الأشهر الحرم منون. وقيل: غير منصرف. (اللهم بارك لنا) أي في طاعتنا وعبادتنا. (في رجب وشعبان) يعني وفقنا للإكثار من الأعمال الصالحة فيهما. (وبلغنا رمضان) أي إدراكه بتمامه والتوفيق لصيامه وقيامه. قيل: ولم يقل ورمضان لبعده عن أول رجب. (قال) أي أنس. (وكان يقول) ?. (ليلة الجمعة ليلة أغر) قال الطيبي: أي أنور من الغرة- انتهى. وكان الظاهر أن يقال غراء، وإنما قال: أغر بحذف الموصوف أي زمان أو وقت أغر. وقال القاري: نزل ليلته منزلة يومه فوصف بأغر على طريق المشاكلة، أو ذكره باعتبار أن ليلة بمعنى الليل، إذ التاء لوحدة الجنس لا للتأنيث. قلت: وذكره السيوطي في الجامع الصغير عن البيهقي وابن عساكر وابن السني في عمل اليوم والليلة والهيثمي في مجمع الزوائد عن البزار بلفظ: ليلة غراء. (ويوم الجمعة يوم أزهر) قال الطيبي: الأزهر الأبيض، ومنه أكثروا الصلاة علي في الليلة الغراء، واليوم الأزهر أي ليلة الجمعة ويومها- انتهى. والنورانية فيهما معنوية لذاتهما، فالنسبة حقيقية أو للعبادة الواقعة فيهما، فالنسبة مجازية، قاله القاري. (رواه البيهقي) وأخرجه أيضا ابن عساكر، وابن السني (ص165) قال العزيزي: وفيه ضعف، كما في الأذكار (ص143) ونسبه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص165) للبزار، وقال: فيه زائدة بن أبي الرقاد. قال البخاري: منكر الحديث، وجهله جماعة- انتهى. قلت: وقال البزار. لا بأس به، وإنما نكتب من حديثه ما لم نجد عند غيره، كذا في التهذيب، وفيه أيضا زيادة النميري، وهو ضعيف.

(6/324)


(باب وجوبها) أي الأحاديث الدالة على وجوبها وفرضيتها. قال في شرح السنة: الجمعة من فروض الأعيان عند أكثر أهل العلم، وذهب بعضهم إلى أنها من فروض الكفايات. وقال ابن الهمام: الجمعة فريضة محكمة بالكتاب والسنة والإجماع، وقد صرح أصحابنا بأنه فرض آكد من الظهر وبإكفار جاحدها- انتهى. وفي كتاب الرحمة في اختلاف الأمة: اتفق العلماء على أن الجمعة فرض على الأعيان، وغلطوا من قال هي فرض كفاية. وقال العراقي: مذاهب الأئمة الأربعة متفقة، على أنها فرض عين، لكن بشروط يشترطها أهل كل مذهب. وحكى ابن
?الفصل الأول?
1380-1381. (1-2) عن أبي عمر، وأبي هريرة، أنهما قالا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره: ((لينتهين أقوام

(6/325)


المنذر الإجماع على أنها فرض عين. وقال الإمام البخاري في صحيحه: باب فرض الجمعة لقوله تعالى: ?إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون? [9:62] ثم ذكر حديث أبي هريرة السابق في الفصل الأول من باب الجمعة بلفظ: هذا يومهم الذي فرض عليهم. قال الحافظ: استدلال البخاري بهذه الآية على فرضية الجمعة سبقه إليه الشافعي في الأم وكذا حديث أبي هريرة ثم قال: فالتزيل والسنة يدلان على إيجابها قال: وعلم بالإجماع أن يوم الجمعة، هو الذي بين الخميس والسبت. وقال الشيخ الموفق في المغني (ج2 ص295): الأمر بالسعي يدل على الوجوب إذ لا يجب السعي إلا إلى واجب. وقال الزين بن المنير وجه الدلالة من الآية مشروعية النداء لها إذ الأذان من خواص الفرائض، وكذا النهي عن البيع؛ لأنه لا ينهى عن المباح، يعني نهى التحريم إلا إذا أفضى إلى ترك واجب، ويضاف إلى ذلك التوبيخ على قطعها قال: وأما وجه الدلالة من الحديث، فهو من التعبير بالفرض لأنه للإلزام، وإن أطلق على غير الإلزام كالتقدير، لكنه متعين له لاشتماله على ذكر الصرف لأهل الكتاب عن اختياره وتعيينه لهذه الأمة، سواء كان ذلك وقع لهم بالتنصيص أم بالاجتهاد. وفي سياق القصة إشعار بأن فرضيتها على الأعيان لا على الكفاية، وهو من جهة إطلاق الفرضية ومن التعميم في قوله: فهدانا الله له والناس لنا فيه تبع. واختلف في وقت فرضيتها، فالأكثر أنها فرضت بالمدينة، وهو مقتضى ما تقدم أن فرضيتها بالآية المذكورة، وهي مدنية، ويدل عليه أيضا ما روى ابن ماجه بسند ضعيف من حديث جابر قال: خطبنا رسول الله ? فقال: يا أيها الناس توبوا إلى ربكم- الحديث، وفيه: واعلموا أن الله كتب عليكم الجمعة في يومي هذا في مقامي هذا في شهري هذا إلى يوم القيامة. وقال الشيخ أبوحامد: فرضت بمكة، وهو غريب، واستدل بعضهم لذلك بما أخرجه الدارقطني عن ابن عباس قال: أذن النبي ? في

(6/326)


الجمعة قبل أن يهاجر، ولم يستطع أن يجمع بمكة، فكتب إلى مصعب بن عمير الخ. ذكره الحافظ في التلخيص: ولم يبين أن هذه الرواية أي كتاب للدار قطني، وكيف حالها من حيث الصحة والضعف.
1380-1381- قوله: (على أعواد منبره) أي على درجاته، وذكره للدلالة على كمال التذكير وللإشارة إلى اشتهار هذا الحديث. وقال الأمير اليماني: أي منبره الذي من عود لا على الذي كان من الطين ولا على الجذع الذي كان يستند إليه. (لينتهين أقوام) قيل: أيهم خوف كسر قلب من يعينه؛ لأن النصيحة في الملأ فضيحة.
عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين)) رواه مسلم
?الفصل الثاني?
1382- (3) عن أبي الجعد الضمري،

(6/327)


(عن ودعهم) بفتح الواو وسكون الدال. (الجمعات) أي عن تركهم إياها والتخلف عنها تهاونا من غير عذر، من ودع الشيء يدعه إذا تركه. وقول النحاة: أن العرب أماتوا ماضي يدع ومصدره أعني، ودع ودعا استغناء يترك تركا معناه أن الغالب عدم استعمالها، أي يحمل على قلة استعمالها استغناء بما هو أخف منهما، لا أم معناه عدم استعمالهما أصلا، وإلا نافاه استعمال الودع في هذا الحديث الفصيح. فالحق ثبوت استعمالهما في فصيح الكلام، وحمل كلام النحاة على ما مر. وقيل: قولهم مردود، والحديث حجة عليهم قال التوربشتي: لا عبرة بما قال النحاة، فإن قول النبي ? هو الحجة القاضية على كل ذي فصاحة. وقال السيوطي: والظاهر أن استعماله ههنا من الرواة المولدين الذين لا يحسنون العربية، ورده السندي بأنه لا يخفى على من تتبع كتب العربية أن قواعد العربية مبنية على الاستقراء الناقص دون التام عادة، وهي مع ذلك أكثريات لا كليات فلا يناسب تغليط الرواة. (أو ليختمن الله على قلوبهم) أي يطبع عليها ويغطيها بالرين كناية عن إعدام اللطف وأسباب الخير، يعني لينعنهم لطفه وفضله. وقال القرطبي: الختم عبارة عما يخلقه الله تعالى في قلوبهم من الجهل والجفاء والقسوة. وقال العراقي: المراد بالطبع على قلبه أنه يصير قلبه قلب منافق، كما روى الطبراني من حديث عبدالله ابن أبي أوفى مرفوعا بإسناد جيد: من سمع النداء يوم الجمعة ولم يأتها ثم سمع النداء ولم يأتها ثلاثا طبع على قلبه، فجعله قلب منافق. قال الهيثمي: وفيه من لم يعرف. قيل: ومن ختم على قلبه بالرين قد يتيقظ للخير في بعض الأوقات بخلاف الغافل عن مولاه، فلا يتفطن للخير أصلا، فلهذا ترقى فقال (ثم ليكونن) بضم النون الأولى. (من الغافلين) أي ثم يترقى بهم في الشر إلى هذه المرتبة. قال الطيبي: ثم لتراخى الرتبة، فإن كونهم من جملة الغافلين المشهود عليهم بالغفلة ادعى لشقائهم وأنطق لخسرانهم من مطلق كونهم مختوما عليهم.

(6/328)


وقيل: المراد الدائمين في الغفلة. قال القاضي: والمعنى أن أحد الأمرين كائن لا محالة، أما الانتهاء عن ترك الجمعات أو ختم الله على قلوبهم فإن اعتياد ترك الجمعة يغلب الرين على القلب ويزهد النفوس في الطاعة، وذلك يؤدي بهم إلى أن يكونوا من الغافلين، أي عن اكتساب ما ينفعهم من الأعمال وعن ترك ما يضرهم منها. والحديث من أعظم الزواجر عن ترك الجمعة والتساهل فيها ومن أدلة أنها من فروض الأعيان. (رواه مسلم) وكذا البيهقي (ج3 ص171) وأخرجه أحمد والنسائي والبيهقي أيضا (ج3 ص171-172) من حديث ابن عمر، وابن عباس.
1382- قوله: (عن أبي الجعد) بفتح الجيم وسكون العين المهملة. (الضمرى) بفتح الضاد المعجمة وسكون
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ترك ثلاث جمع تهاونا بها، طبع الله على قلبه)) رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي.
1383- (4) ورواه مالك عن صفوان بن سليم.

(6/329)


الميم، نسبة إلى ضمرة بن بكر بن عبد مناة، قاله في جامع الأصول، وكذا في المغني لمحمد طاهر الفتني، ووقع في بعض نسخ المشكاة: الضميري، بضم الضاد وفتح الميم، وهو خطأ، وأبوالجعد الضمري، لا يعرف اسمه. قال الترمذي: سألت محمدا عن اسم أبي الجعد، فلم يعرف اسمه. وقيل: اسمه كنيته. وقيل: اسمه أدرع. وقيل: عمرو بن بكر. وقيل: جنادة، صحابي، قال الخزرجي: له أربعة أحاديث، وعند الأربعة حديث، قال ابن سعد: بعثه النبي ? بجيش قومه لغزوة الفتح، ولغزوة تبوك. ويقال: إن عثمان استقضاه، قتل مع عائشة يوم الجمل. (من ترك) أي ممن تجب عليه. (ثلاث جمع) بضم الجيم وفتح الميم. قال الباجي: وأما اعتبار العدد في الحديث فانتظار للفيئة وإمهال منه تعالى عبده للتوبة. قال الشوكاني: يحتمل أن يراد حصول الترك مطلقا سواء توالت الجمعات أو تفرقت، حتى لو ترك في كل سنة جمعة لطبع الله على قلبه بعد الثالثة، وهو ظاهر الحديث. ويحتمل أن يراد ثلاث جمع متوالية، كما في حديث أنس عند الديلمي في مسند الفردوس؛ لأن موالاة الذنب ومتابعته مشعرة بقلة المبالاة به-انتهى. قلت: الاحتمال الثاني هو المتعين لما تقرر في الأصول من حمل الروايات المطلقة على المقيدة، ويؤيد حديث أنس ما رواه أبويعلى برجال الصحيح عن ابن عباس: من ترك الجمعة ثلاث جمع متواليات فقد نبذ الإسلام وراء ظهره. قال الشوكاني: هكذا ذكره موقوفا، وله حكم الرفع؛ لأن مثله لا يقال من قبل الرأي، كما قال العراقي. (تهاونا بها) قيل: المراد بالتهاون الترك من غير عذر، فيكون مفعولا مطلقا للنوع، وقيل: هو مفعول له. وقيل: هو مصدر في موضع الحال أي متهاونا. قال في اللمعات: الظاهر أن المراد بالتهاون التكاسل وعدم الجد في أدائه وقلة الاهتمام به، لا الإهانة والاستخفاف، فإن الاستخفاف بفرائض الله كفر، وفيه أن الطبع المذكور إنما يكون على قلب من ترك ذلك تهاونا، فينبغي أن تحمل الأحاديث المطلقة على هذا

(6/330)


الحديث المقيد بالتهاون، وكذلك تحمل الأحاديث المطلقة على المقيدة بعدم العذر. (طبع الله على قلبه) أي ختم عليه وغشاه ومنعه الألطاف أو صير قلبه قلب منافق. (رواه أبوداود الخ) وأخرجه أيضا الشافعي وأحمد (ج3ص424) وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والبغوي والدولابي في الكنى (ج1ص21- 22) والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. والبيهقي (ج3ص172، 247) وفي رواية لابن خزيمة وابن حبان: من ترك الجمعة ثلاثا من غير عذر فهو منافق. والحديث قد حسنه الترمذي، وصححه وابن السكن، وسكت عنه أبوداود.
1383- قوله: (ورواه مالك) في الموطأ. (عن صفوان بن سليم) قال مالك: لا أدري أعن النبي ? أم
1384-(5) وأحمد عن أبي قتادة.
1385-(6) وعن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله ?: ((من ترك الجمعة من غير عذر فليصدق بدينار، فإن لم يجد فبنصف دينار)). رواه أحمد، وأبوداود، وابن ماجه.
لا أنه قال: من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير عذر ولا علة طبع الله على قلبه. وصفوان بن سليم بضم السين وفتح اللام، المدني أبوعبدالله القرشي الزهري، مولاهم ثقة، فقيه، تابعي، عابد، زاهد، مات سنة. (132) وهو ابن (72) سنة، فالحديث مرسل ومع ذلك قد تردد الإمام مالك في رفعه. قال ابن عبدالبر: هذا يسند من وجوه أحسنها حديث أبي الجعد الضمري. أخرجه الشافعي وأصحاب السنن الأربعة-انتهى. ذكره السيوطي.
1384- (وأحمد) (ج5ص300). (وعن أبي قتادة) مرفوعا: من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير ضرورة طبع على قلبه، وإسناده حسن، كما قال المنذري في الترغيب، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص192) والدارقطني في العلل. وأخرجه أيضا الحاكم وقال: صحيح الإسناد. وفي الباب عن جماعة من الصحابة، ذكرهم الشوكاني في النيل والهيثمي في مجمع الزوائد.

(6/331)


1385- قوله: (من ترك الجمعة) أي صلاتها ممن تلزمه. (فليتصدق بدينار) قال في المفاتيح: الأمر للندب لدفع إثم الترك. (بدينار) أي كفارة. (فإن لم يجد) أي الدينار. (فبنصف دينار) أي فليتصدق بنصفه. قال ابن حجر: وهذا التصدق لا يرفع إثم الترك أي بالكلية حتى ينافي خبر من ترك الجمعة من غير عذر لم يكن لها كفارة دون يوم القيامة، وإنما يرجى بهذا التصدق تخفيف الإثم. وذكر الدينار ونصفه لبيان الأكمل، فلا ينافي ذكر الدرهم أو نصفه، وصاع حنطة أو نصفه في رواية لأبي داود؛ لأن هذا البيان أدنى ما يحصل به الندب، ذكره القاري. يعني أن الأمر بالتصدق بدينار للواجد وبنصفه لغير الواجد بيان للأكمل، وإلا فيحصل أصل السنة بالتصدق بالدرهم ونصفه الخ. وقيل: الأولى أن يقال إن التصدق بالدرهم أو نصفه لمن لم يجد الدينار ونصفه. قال السندي: والظاهر أن الأمر للاستحباب، ولا بد من التوبة بعد ذلك، فإنها الماحية للذنب. (رواه أحمد) (ج5ص8، 14). (وأبوداود وابن ماجه) والنسائي والبيهقي (ج3ص248) أيضا. أما أحمد وأبوداود فأخرجاه من طريق همام عن قتادة عن قدامة بن وبرة عن سمرة. وأما ابن ماجه فأخرجه من طريق نوح بن قيس عن أخيه عن قتادة عن الحسن عن سمرة. وأخرجه النسائي من الطريقين، وكذا البيهقي. وقدامة بن وبرة قال الحافظ: مجهول. وقال الذهبي: لا يعرف. وقال أبوحاتم عن أحمد: لا يعرف. وقال مسلم: قيل لأحمد: يصح حديث سمرة من ترك الجمعة؟ فقال قدامة يرويه لا نعرفه. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال
1386-(7) وعن عبدالله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((الجمعة على من سمع النداء)) رواه أبوداود.

(6/332)


البخاري: لم يصح سماعه من سمرة. وقال ابن خزيمة في صحيحه: لا أقف على سماع قدامة من سمرة، ولست أعرف قدامة بن وبرة بعدالة ولا جرح، كذا في التهذيب. فطريق قدامة ضعيف لجهالته ولعدم سماعه من قتادة وأما طريق الحسن عن سمرة فقد تقدم ما فيه من الكلام.
1386- قوله: (الجمعة على من سمع النداء) وفي أبي داود: الجمعة على كل من سمع النداء. ورواه الدارقطني، ومن طريقه البيهقي بلفظ: إنما الجمعة على من سمع النداء أي حقيقة أو حكما. قال الشوكاني: ظاهر الحديث عدم وجوب الجمعة على من لم يسمع النداء، سواء كان في البلد الذي تقام فيه الجمعة أو في خارجه، وقد ادعى في البحر الإجماع على عدم اعتبار سماع النداء في موضعها، واستدل لذلك بقوله: إذا لم تعتبره الآية، وأنت تعلم أن الآية قد قيد الأمر بالسعي فيها بالنداء لما تقرر عند أئمة البيان من أن الشرط قيد لحكم الجزاء والنداء المذكور فيها يستوي فيه من في المصر الذي تقام فيه الجمعة ومن خارجه، نعم إن صح الإجماع كان هو الدليل على عدم اعتبار سماع النداء لمن في موضع إقامة الجمعة عند من قال بحجية الإجماع. وقد حكى العراقي في شرح الترمذي عن الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل أنهم يوجبون الجمعة على أهل المصر وإن لم يسمعوا النداء. وقد اختلف أهل العلم فيمن كان خارجا عن البلد الذي تقام فيه الجمعة، ثم بسط الأقوال فيه مع العزو إلى قائليها، قال: والمراد بالنداء المذكور في الحديث هو النداء الواقع بين يدي الإمام في المسجد؛ لأنه الذي كان في زمن النبوة لا الواقع على المنارات، فانه محدث، كما سيأتي، وقال ابن الملك: المراد به الأذان أول الوقت كما هو الآن في زماننا ليعلم الناس وقت الجمعة ليحضروا ويسعوا إلى ذكر الله، وإنما زاده عثمان لينتهي الصوت إلى نواحي المدينة. والظاهر عندي ما قاله الشوكاني. (رواه أبوداود) والدارقطني والبيهقي أيضا من طريق قبيصة بن عقبة السوائي عن سفيان الثوري عن محمد بن

(6/333)


سعيد الطائفي عن أبي سلمة بن نبيه عن عبدالله بن هارون عن عبدالله بن عمرو. قال أبوداود: روى هذا الحديث جماعة عن سفيان مقصورا. (أي موقوفا) على عبدالله بن عمرو، وإنما أسنده قبيصة –انتهى. وقد تفرد به محمد بن سعيد عن أبي سلمة، وتفرد به أبوسلمة عن عبدالله بن هارون. وأبوسلمة وعبدالله بن هارون كلاهما مجهولان، كما في التقريب. وقد ورد من وجه آخر أخرجه الدارقطني من رواية الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا. وزهير بن محمد روى عن أهل الشام مناكير. والوليد مدلس، وقد رواه بالعنعنة. وأخرجه الدارقطني من وجه آخر من رواية محمد بن الفضل عن حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا. ومحمد بن الفضل
187- (8) وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((الجمعة على من آواه الليل إلى أهله)) رواه الترمذي: وقال: هذا حديث إسناده ضعيف.
ضعيف جدا نسبوه إلى الكذب. والحجاج مدلس مختلف في الاحتجاج به. وقد ظهر بذلك أن جميع طرق هذا الحديث متكلم فيه، ففي الاستدلال به على اعتبار سماع النداء حقيقة أو حكما لمن في وضع إقامة الجمعة نظر لا يخفى على المتأمل. فالحق عدم اعتبار ذلك، والقول بوجوب شهود الجمعة على كل من في موضع إقامة الجمعة لإطلاق الآية وعمومها.والله أعلم.

(6/334)


1387- قوله: (الجمعة من آواه الليل إلى أهله) قال الجزري: يقال أويت إلى المنزل وآويت غيري، وأويئته. وفي الحديث من المتعدي. قال المظهر: أي للجمعة واجبة على من كان بين وطنه وبين الموضع الذي يصلي فيه الجمعة مسافة يمكنه الرجوع بعد أداء الجمعة إلى وطنه قبل الليل، ذكره القاري. وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث ما نصه: والمعنى أنها تجب على من يمكنه الرجوع إلى أهله قبل دخول الليل. واستشكل بأنه يلزم منه أنه يجب السعي من أول النهار، وهو بخلاف الآية-انتهى. وقيل: معناه أن الجمعة على من كان آويا إلى أهله أي مقيما في وطنه غير مسافر. وحاصله أن الجمعة واجبة على المقيم لا على المسافر. قلت: الحديث قد استدل به من قال من السلف: أنها تجب على من يؤويه الليل إلى أهله، لكنه حديث ضعيف غير صالح للاحتجاج، كما ستعرف. (رواه الترمذي) من طريق الحجاج بن نصير عن معارك بن عباد عن عبدالله بن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة. وروى البيهقي (ج3:ص176) نحوه من طريق مسلم عن معارك. (وقال هذا حديث إسناده ضعيف) ونقل عن أحمد أنه لم يعده شيئا، وضعفه لحال إسناده، وقال لمن ذكره له: استغفر ربك. وهذا لأن في سنده ثلاثة ضعفاء، الأول الحجاج بن نصير قال الحافظ: ضعيف كان يقبل التلقين. ضعفه ابن معين والنسائي وابن سعد والدارقطني والأزدي وغيرهم. وقال أبوداود: تركوا حديثه. والثاني معارك بن عباد ضعفه الدارقطني. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبوزرعة: واهي الحديث. والثالث عبدالله بن سعيد المقبري، وهو متروك الحديث. واعلم أنهم اتفقوا على أنه يشترط للجمعة الجماعة والوقت والخطبة والعقل البلوغ والذكورة والحرية والسلامة من المرض والإقامة والاستيطان. واختلفوا في أنه هل يشترط العدد المخصوص المعين أم لا، وفيه أقوال كثيرة ذكرها الحافظ في الفتح (ج4ص507) وابن حزم في المحلى (ج5ص46- 49) والشوكاني في النيل (ج3ص108- 109) منها أنه اثنان

(6/335)


كالجماعة، وهو قول النخعي وأهل الظاهر. ومنها اثنان مع الإمام، وهو قول أبي يوسف ومحمد. ومنها أنه ثلاثة معه، وهو مذهب أبي حنيفة.
ومنها أنه اثنا عشر، ومنها أربعون بالإمام، وهو قول الشافعي، وإليه ذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه. ومنها خمسون في رواية عن أحمد. والراجح عندي ما ذهب إليه أهل الظاهر أنه تصح الجمعة باثنين؛ لأنه لم يقم دليل على اشتراط عدد مخصوص، وقد صحت الجماعة في سائر الصلوات باثنين، ولا فرق بينها وبين الجمعة في ذلك، ولم يأت نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الجمعة لا تنعقد إلا بكذا. قال الشوكاني: الجمعة يعتبر فيها الاجتماع، وهو لا يحصل بواحد. وأما الاثنان فبإنضمام أحدهما إلى الآخر يحصل الاجتماع. وقد أطلق الشارع اسم الجماعة عليهما، فقال: الاثنان فما فوقهما جماعة كما تقدم، وقد انعقدت سائر الصلوات بهما بالإجماع. والجمعة صلاة فلا تختص بحكم يخالف غيرها إلا بدليل، ولا دليل على اعتبار عدد فيها زائد على المعتبر في غيرها. وقد قال عبدالحق: إنه لا يثبت في عدد الجمعة حديث، وكذلك قال السيوطي: لم يثبت في شيء من الأحاديث تعيين عدد مخصوص-انتهى. واختلفوا أيضا في محل إقامة الجمعة، فقال أبوحنيفة وأصحابه: لا تصح إلا في مصر جامع، وذهب الأئمة الثلاثة إلى جوازها وصحتها في المدن والقرى جميعا. واستدل لأبي حنيفة بما روي عن علي مرفوعا: لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع. وقد ضعف أحمد، وغيره رفعه، وصحح ابن حزم، وغيره وقفه، وللاجتهاد فيه مسرح، فلا ينتهض للاحتجاج به فضلا عن أن يخصص به عموم الآية أو يقيد به إطلاقها، مع أن الحنفية قد تخبطوا في تحديد المصر الجامع وضبطه على أقوال كثيرة متباينة متناقضة متخالفة جدا، كما لا يخفى على من طالع كتب فروعهم. وهذا يدل على أنه لم يتعين عندهم معنى الحديث. والراجح عندنا ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة من عدم اشتراط المصر، وجوازها في القرى لعموم الآية وإطلاقها،

(6/336)


وعدم وجود ما يدل على تخصيصها، ولا بد لمن يقيد ذلك بالمصر الجامع أن يأتي بدليل قاطع من كتاب أو سنة متواترة أو خبر مشهور بالمعنى المصطلح عند المحدثين، وعلى التنزل بخبر واحد مرفوع صريح صحيح يدل على التخصيص بالمصر الجامع. ويدل أيضا على شرعيتها في القرى ما روى البخاري وغيره عن ابن عباس: أن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبدالقيس بجواثي قرية من قرى البحرين. كذا في رواية وكيع عند أبي داود، وكذا للإسماعيلي. وهذا أولى من قول البكري وغيره: إنها مدينة؛ لأن ما ثبت في نفس الحديث أصح مع احتمال أن تكون في أول قرية ثم صارت مدينة. وأما ما حكى الجوهري والزمخشري والجزري أن جواثي اسم حصن بالبحرين فلا ينافي كونها قرية. والظاهر أن عبدالقيس لم يجمعوا إلا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لما عرف من عادة الصحابة من عدم الاستبداد بالأمور الشرعية في زمن نزول الوحي، ولأنه لو كان ذلك لا يجوز لنزل فيه القرآن، كما استدل جابر وأبوسعيد على جواز العزل، فإنهم

(6/337)


فعلوه، والقرآن ينزل، فلم ينبهوا عنه، ولم يثبت برواية قوية أو ضعيفة أنه أسلم أهل قرية قبل عبدالقيس. ومن ادعى ذلك فعلية البيان. قال الحافظ في شرح حديث ابن عباس المذكور: فيه إشعار بتقدم إسلام عبدالقيس على غيرهم من أهل القرى وهو كذلك، كما قررته في أواخر كتاب الإيمان، وقال في شرح حديث عبدالقيس، ما لفظه: فيه دليل على تقدم إسلام عبدالقيس على قبائل مضر الذين كانوا بينهم وبين المدينة، وكانت مساكن عبدالقيس بالبحرين وما والاها من أطراف العراق. ويدل على سبقهم إلى الإسلام أيضا ما رواه المصنف (يعني البخاري) في الجمعة عن ابن عباس قال: إن أول جمعة جمعت الخ، قال: وإنما جمعوا بعد رجوع وفدهم إليهم، فدل على أنهم سبقوا جميع القرى إلى الإسلام-انتهى مختصرا. ويدل عليه أيضا ما روى البيهقي في المعرفة أن النبي صلى الله عليه وسلم حين ركب من بني عمرو بن عوف في هجرته إلى المدينة مر على بني سالم، وهي قرية بين قباء والمدينة، فأدركته الجمعة فصلى فيهم الجمعة، وكانت أول جمعة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم، وما روى ابن أبي شيبة وابن حزم عن عمر أنه كتب إلى أهل البحرين أن جمعوا حيثما كنتم. قال الحافظ: وهذا يشمل المدن والقرى، وما روى عبدالرزاق عن ابن عمر أنه كان يرى أهل المياه بين مكة والمدينة يجمعون فلا يعيب عليهم. وذكره ابن حزم بلفظ: فلا ينهاهم عن ذلك. وروى البيهقي (ج3ص178) من طريق الوليد بن مسلم سألت الليث بن سعد فقال: كل مدينة أو قرية فيها جماعة أمروا بالجمعة، فإن أهل مصر وسواحلها كانوا يجمعون الجمعة على عهد عمر وعثمان بأمرهما، وفيهما رجال من الصحابة. واختلفوا أيضا أنه إذا وجبت الجمعة في موضع بشرائطها فعلى من يجب شهودها من أهل ذلك الموضع، وممن كان في حواليه، فقالت طائفة: تجب الجمعة على من آواه الليل إلى أهله، واستدلوا لذلك بحديث أبي هريرة، الذي فرغنا من شرحه، وقد عرفت أنه ضعيف جدا. وقالت

(6/338)


طائفة: إنها تجب على من سمع النداء حقيقة أو حكما. واستدلوا لذلك بحديث عبدالله بن عمرو بن العاص المتقدم، وقد تقدم أنه أيضا ضعيف. وقالت طائفة: تجب على من بينه وبين المنار ثلاثة أميال. أما من هو في البلد فتجب عليه ولو كان من المنار على ستة أميال. وقالت طائفة: تجب على أهل المصر، ولا تجب على من كان خارج المصر، سمع النداء أو لم يسمع. وقال أبوحنيفة: لا تجب إلا في مصر جامع أو فيما هو في حكمه كمصلى العيد. قال ابن الهمام: ومن كان من توابع المصر فحكمه حكم أهل المصر في وجوب الجمعة عليه. واختلفوا فيه، فعن أبي يوسف إن كان الموضع يسمع فيه النداء من المصر فهو من توابع المصر، وإلا فلا. وعنه أنها تجب في ثلاثة فراسخ. وقال بعضهم: قدر ميل. وقيل: قدر ميلين. وقيل: ستة أميال. وقيل: إن أمكنه أن يحضر الجمعة ويبيت بأهله من غير تكلف تجب عليه الجمعة، وإلا فلا. قال في البدائع: وهذا أحسن-انتهى. والراجح عندي: أنه لا يشترط سماع الأذان في المصر، وكذا في القرية
1388-(9) وعن طارق بن شهاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة، إلا على أربعة: عبد مملوك
الكبيرة. وأما من كان خارج المصر والقرية الكبيرة من أهالي القرى الصغيرة القريبة أو البعيدة فلا يجب عليهم الشهود في المصر أو القرية الكبيرة للجمعة، بل لهم أن يقيموا الجمعة في مساكنهم لوجوب الجمعة عليهم لعموم قوله تعالى: ?إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله? [62: 9]، ولعدم ما يدل على وجوب الإتيان إلى المصر للجمعة على من كان في حواليه. وارجع لمزيد التفصيل إلى عون المعبود (ج1ص413- 416) وقد ألف علماؤنا رسائل عديدة في مسئلة إقامة الجمعة في القرى، وبسطوا الكلام فيها على الرد على الحنفية، فعليك أن تراجع هذه الرسائل.

(6/339)


1388-قوله: (وعن طارق بن شهاب) بن عبد شمس البجلي الأحمسى أبوعبدالله الكوفي أدرك الجاهلية، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه شيئا. قال أبوحاتم: ليست له صحبة، والحديث الذي رواه مرسل. قال الحافظ في الإصابة: إذا ثبت أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي على الراجح، وإذا ثبت أنه لم يسمع منه فروايته عنه مرسل صحابي، وهو مقبول على الراجح. وقد أخرج له النسائي عدة أحاديث. وذلك مصير منه إلى إثبات صحبته. وأخرج له أبوداود حديثا واحدا، وقال: طارق رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه شيئا-انتهى. وقال ابن الأثير في جامع الأصول: رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وليس له سماع منه إلا شاذا، ذكره ابن التركماني في الجوهر النقي، والمصنف في رجال المشكاة. غزا طارق في خلافة أبي بكر وعمر ثلاثا وثلاثين أو أربعا وثلاثين غزوة، ومات سنة (82 أو83أو 84). (الجمعة) أي صلاتها. (حق واجب) أي فرض مؤكد. (على كل مسلم) فيه دليل على أن صلاة الجمعة من فروض الأعيان، ورد على من قال بأنها فرض كفاية. (في جماعة)؛ لأنها لا تصح إلا بجماعة بالإجماع، وإنما اختلفوا في العدد المخصوص الذي تحصل به، كما تقدم. (إلا على أربعة عبد مملوك) بالجر على أنه عطف بيان للأربعة، قال القاري: وفي بعض النسخ برفع عبد، وما بعده على أنه خبر مبتدأ محذوف، وهو هم. و"أو" بمعنى الواو. قال الطيبي: "إلا" بمعنى غير، وما بعده مجرور صفة لمسلم أي على كل مسلم غير عبد مملوك الخ وقال ابن حجر: الأحسن جعله استثناء من واجب على كل مسلم. والتقدير إلا أنها لا تجب على أربعة. ولفظ أبي داود: إلا أربعة عبد مملوك أي بإسقاط لفظ "على". قال السيوطي: وقد يستشكل. (أي قوله عبد مملوك بصورة المرفوع) بأن المذكورات عطف بيان لأربعة، وهو منصوب؛ لأنه استثناء من موجب. والجواب أنها منصوبة لا مرفوعة، وكانت عادة المتقدمين أن يكتبوا المنصوب

(6/340)


أو امرأة، أو صبي، أو مريض)). رواه أبوداود.
بغير (ألف) ويكتبوا عليه تنوين النصب، ذكره النووي في شرح مسلم. قال السيوطي ورأيته أنا في كثير من كتب المتقدمين المعتمدة، ورأيته في خط الذهبي في مختصر المستدرك. وعلى تقدير أن تكون مرفوعة تعرب خبر مبتدأ-انتهى. وقوله: "عبد مملوك" فيه دليل على أن الحرية شرط لوجوب الجمعة، وأن الجمعة غير واجبة على العبد، وهو متفق عليه إلا عند داود، فقال بوجوبها عليه لدخوله تحت عموم الخطاب في قوله: ?يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة? [62: 9] الخ، وأجيب عنه بأنه خصصته الأحاديث وإن كان فيها مقال، فإنه يقوي بعضها بعضا. (أو امرأة) فيه أن الذكورة من شرائط وجوب الجمعة، وأن الجمعة لا تجب على المرأة، وهو مجمع عليه. وقال الشافعي: يستحب للعجائز حضورها بإذن الزوج. (أو صبي) فيه أن البلوغ شرط لوجوب الجمعة، وهو متفق على أن لا جمعة على الصبي، وفي معناه المجنون. (أو مريض) أي مرضا يشق معه الحضور عادة فيه أن المريض لا تجب عليه الجمعة إذا كان الحضور يجلب عليه مشقة، وهو يدل على أن صحة البدن من شرائط وجوب الجمعة. قال البيهقي في المعرفة: وعند الشافعي لا جمعة على المريض الذي لا يقدر على شهود الجمعة إلا بأن يزيد في مرضه...... أو يبلغ به مشقة غير محتملة، وكذلك من كان في معناه من أهل الأعذار-انتهى. وقال ابن الهمام: الشيخ الكبير الذي ضعف يلحق بالمريض، فلا يجب عليه-انتهى. وقد ألحق أبوحنيفة الأعمى بالمريض وإن وجد قائدا لما في ذلك من المشقة، ولأن القادر بقدرة الغير غير قادر عنده، وقال الشافعي وأبويوسف ومحمد: إنه غير معذور إن وجد قائدا، فيجب عليه عندهم عند تيسر القائد. (رواه أبوداود) وقال طارق: قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئا، قال ابن الهمام: وليس هذا قدحا في صحبته ولا في الحديث، بل بيان للواقع-انتهى. والحديث أخرجه أيضا البيهقي في السنن (ج3ص172، 183)

(6/341)


والدارقطني (ص164) وأخرجه الحاكم (ج1ص288) والبيهقي في المعرفة من حديث طارق المذكور عن أبي موسى. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في التلخيص: وصححه غير واحد. وقال الخطابي في المعالم (ج1ص244): ليس إسناد هذا الحديث بذلك، وطارق بن شهاب لا يصح له سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه قد لقي النبي صلى الله عليه وسلم-انتهى. قال العراقي: فإذا قد ثبتت صحبته فالحديث صحيح. وغايته أن يكون مرسل صحابي، وهو حجة عند الجمهور، إنما خالف فيه أبوإسحاق الاسفرايني، بل ادعى بعض الحنفية الإجماع على أن مرسل الصحابي حجة-انتهى. وبنحو هذا قال النووي في شرح المهذب (ج4ص483)، وفي الخلاصة، قلت: وقد اندفع الإعلال بالإرسال بما في رواية الحاكم من ذكر أبي موسى، على أن للحديث شواهد ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص170) والشوكاني في النيل (ج3ص103) والزيلعي في نصب الراية (ج2ص199)، فمنها حديث جابر عند الدارقطني (ص164)، والبيهقي (ج3ص184)
1389-(10) وفي شرح السنة بلفظ المصابيح عن رجل من بني وائل.
?الفصل الثالث?
1390-(11) عن ابن مسعود. أن النبي ? قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: ((لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم)).

(6/342)


وهو آخر حديث الباب، وسيأتي الكلام فيه. ومنها حديث تميم الداري عند العقيلي والحاكم أبي أحمد والبيهقي (ج3ص183) والطبراني وابن أبي حاتم في العلل (ج1ص212). قال ابن القطان: فيه أربعة ضعفاء على الولاء. قلت فيه الحكم بن عمرو، وقد ضعفه النسائي وغيره، وضرار بن عمرو المطلي، وهو متروك، وأبوعبدالله الشامي ضعفه الأزدي. ومنها حديث ابن عمر عند الطبراني في الأوسط والبيهقي (ج3ص184) وفيه أبوالبلاد، قال أبوحاتم: لا يحتج به. ومنها حديث أبي هريرة، أخرجه الطبراني في الأوسط بلفظ: خمسة لا جمعة عليهم: المرأة والمسافر والعبد والصبي وأهل البادية. وفيه إبراهيم بن حماد ضعفه الدارقطني. قال في النهاية: إن البادية تختص بأهل العمد والخيام دون أهل القرى والمدن. ومنها حديث مولى لآل الزبير، أخرجه البيهقي (ج3ص184). ومنها حديث أم عطية، أخرجه البيهقي وابن خزيمة بلفظ: نهينا عن إتباع الجنائز، ولا جمعة علينا.
1389- (وفي شرح السنة) أي للبغوي. (بلفظ المصابيح عن رجل) متعلق بلفظ المصابيح، قاله الطيبي. (من بني وائل) لفظ المصابيح هكذا: "تجب الجمعة على كل مسلم إلا امرأة أو صبيا أو مملوكا أو مريضا". ولفظ شرح السنة على ما ذكره القاري: "عن محمد بن كعب أنه سمع رجلا من بني وائل يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم: تجب الجمعة على كل مسلم إلا امرأة أو صبي أو مملوك" ورواه طارق بن شهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد: أو مريض-انتهى. والحديث أخرجه البيهقي في السنن (ج3ص173) قال: أخبرنا أبوبكر بن الحسن القاضي وأبوزكريا بن أبي إسحاق قالا: ثنا أبوالعباس الأصم أنبأ الربيع بن سليمان أنبأ الشافعي أنبأ إبراهيم بن محمد حدثني سلمة بنت عبدالله الخطمى عن محمد بن كعب أنه سمع رجلا من بني وائل يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم:.. فذكر بلفظ شرح السنة سواء. وفيه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي، وقد تقدم الكلام فيه.

(6/343)


1390- قوله: (قال لقوم) أي في شأنهم. (ثم أحرق) بالنصب من الإحراق أو من التحريق. (على رجال يتخلفون) أي من غير عذر. (عن الجمعة) أي عن إتيان صلاة الجمعة. (بيوتهم) مفعول "لأحرق". والمعنى لقد قصدت أن استخلف رجلا ليؤم الناس، ثم أذهب أنا إلى المتخلفين من غير علة، فأحرق بيوتهم أي ما في
رواه مسلم.
1391-(12) وعن ابن عباس، أن النبي ? قال: ((من ترك الجمعة من غير ضرورة، كتب منافقا في كتاب لا يمحى ولا يبدل)) -وفي بعض الروايات-ثلاثا. رواه الشافعي.
1392-(13) وعن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فعليه الجمعة، إلا مريض، أو مسافر، أو امرأة، أو صبي، أو مملوك. فمن استغنى بلهو أو تجارة استغنى الله عنه،
بيوتهم من أنفسهم ومتاعهم عليهم. وفي هذا من الوعيد ما لا يوصف. فإن قلت: كيف يترك الفرض ويشتغل بهم؟ قلت: لا يلزم من الاستخلاف ترك فرض الجمعة مطلقا، فإنه يتصور تكرارها. قال ابن الهمام: قال السرخسي: الصحيح من مهذب أبي حنيفة جواز إقامتها في مصر واحد في مسجدين وأكثر. وبه نأخذ لإطلاق لا جمعة إلا في مصر، فإذا تحقق تحقق في كل واحد منها. قال ابن الهمام: وهو الأصح فارتفع الأشكال من أصله، كذا في المرقاة. والحديث دليل على أن الجمعة من فروض الأعيان. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والبيهقي (ج3ص172) والحاكم (ج1ص292) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه هكذا إنما خرجا بذكر العتمة وسائر الصلوات-انتهى. وهذا وهم من الحاكم، فإن الحديث أخرجه مسلم بذكر الجمعة صريحا.

(6/344)


1391- قوله(من ترك الجمعة) أي صلاتها. (من غير ضرورة) بفتح الضاد أي من غير علة وعذر كالمطر والمرض والوحل ونحوها. (كتب منافقا) وعيد شديد. (في كتاب لا يمحى) أي ما فيه. (ولا يبدل) بالتشديد ويخفف، أي لا يغير بغيره ما لم يتب. وقيل: أو ما لم يتصدق. (وفي بعض الروايات ثلاثا) أي قال من ترك الجمعة ثلاثا. (رواه الشافعي) في كتاب الأم (ج184).
1392- قوله: (فعليه الجمعة) أي يجب عليه صلاة الجمعة. (يوم الجمعة) ظرف للجمعة. (أو مسافر) فلا يجب عليه حضورها، وهو يحتمل أن يراد به مباشر السفر أي السائر. وأما النازل فيجب عليه ولو نزل بمقدار الصلاة. وإليه ذهب جماعة، منهم الزهري والنخعي، وقيل: لا تجب عليه؛ لأنه داخل في لفظ المسافر. وإليه ذهب الجمهور، وهو الأقرب والأشبه؛ لأن أحكام السفر باقية له من القصر ونحوه. (أو امرأة أو صبي مملوك) قال الطيبي: رفع على الاستثناء من الكلام الموجب على التأويل، أي من كان يؤمن فلا يترك الجمعة إلا مريض، فهو بدل من الضمير المستكن في يترك الراجع إلى من. (فمن استغنى بلهو أو تجارة) أي عن طاعة الله. (استغنى الله عنه)
والله غني حميد)). رواه الدارقطني.
(44) باب التنظيف والتبكير
?الفصل الأول?
1393-(1) عن سلمان، قال: قال رسول الله ?: ((لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته،

(6/345)


أي فليعلم أن الله مستغن عنه وعن عبادته وعن جميع عباده، وإنما أمرهم بالعبادة ليتشرفوا بالطاعة. (والله غني) بذاته. (حميد) محمود في جميع صفاته، سواء حمد أو لم يحمد، أو غني عن العباد وطاعتهم. لا يعود نفعها إليه، حميد أي حامد لمن أطاعه يثنى عليه ويشكره بإعطاء الجزيل على العمل القليل. وفي الحديث إشارة إلى قوله تعالى: ?وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما, قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين? [62: 11). (رواه الدارقطني) (ص164) وأخرجه أيضا البيهقي (ج3ص184) وفيه ابن لهيعة، وهو متكلم فيه، ومعاذ بن محمد الأنصاري شيخ لابن لهيعة لا يعرف. كذا ذكر الذهبي، قاله في الجوهر النقي. وقال الحافظ في اللسان: ذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن عدي: منكر الحديث، ثم أخرج له من رواية ابن لهيعة عنه عن أبي الزبير عن جابر رفعه في الجمعة، وقال معاذ: غير معروف. وروى الطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد الخدري بمعناه. وفيه علي بن يزيد الألهاني.
(باب التنظيف) أي تطهير الثوب والبدن من الوسخ والدرن، ومن كماله التدهين والتطيب. (والتبكير) في النهاية: بكر بالتشديد، أتى الصلاة في أول وقتها، وكل من أسرع إلى شيء فقد بكر إليه.

(6/346)


1393- قوله: (لا يغتسل) بالرفع. (ويتطهر ما استطاع من طهر) بالتنكير للمبالغة في التنظيف، أو المراد به التنظيف بأخذ الشارب والظفر والعانة والإبط، أو المراد بالغسل غسل الجسد، وبالتطهير غسل الرأس وتنظيف الثياب. (ويدهن من دهنه) بتشديد الدال بعد المثناة التحتية من باب الافتعال أي يطلى بالدهن ليزيل شعث رأسه ولحيته به. وفيه إشارة إلى التزين يوم الجمعة. (أو يمس) بفتح الياء والميم. (من طيب بيته) أي إن لم يجد دهنا. أو "أو" بمعنى الواو، فلا ينافي الجمع بينهما. وأضاف الطيب إلى البيت إشارة إلى أن السنة أن يتخذ المرء لنفسه طيبا، ويجعل استعماله له عادة، فيدخره في البيت. كذا قال الطيبي بناء على أن المراد بالبيت حقيقته، لكن في
ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى))

(6/347)


حديث عبدالله بن عمرو عند أبي داود: أو يمس من طيب امرأته، فعلى هذا فالمعنى إن لم يتخذ لنفسه طيبا فليستعمل من طيب امرأته، وهو موافق لحديث أبي سعيد عند مسلم: ولو من طيب المرأة. وفيه أن بيت الرجل يطلق، ويراد به امرأته، ذكره الحافظ في الفتح. وقال القاري: المراد بقوله من طيب بيته حقيقة بيت الرجل، وهو أعم من أن يكون متزوجا أو عزبا، ولا ينافيه من طيب امرأته؛ لأن طيبها غالبا من عنده. ويطلق عليه..... أنه من طيب بيته، فإن الإضافة تصح لأدنى ملابسة. ولما كان طيبها غالبا متميزا عن طيب الرجل متعينا متبينا لها أشار عليه السلام أنه ينبغي أن يكون للرجل طيب مختص لاستعماله، وأكد في التطيب يوم الجمعة وبالغ حتى قال: ولو من طيب المرأة. (ثم يخرج) أي إلى المسجد، كما في حديث أبي أيوب عند ابن خزيمة. ولأحمد من حديث أبي الدرداء: ثم يمشي وعليه السكينة. (فلا يفرق) بتشديد الراء المكسورة. (بين اثنين) بالتخطي أو بالجلوس بينهما، ففي حديث عبدالله بن عمرو المذكور: ثم لم يتخط رقاب الناس. وفي حديث أبي الدرداء: ولم يتخط أحدا ولم يؤذه، وهو كناية عن التبكير أي عليه أن يبكر، فلا يتخطى رقاب الناس ولا يزاحم رجلين فيدخل بينهما؛ لأنه ربما ضيق عليهما خصوصا في شدة الحر واجتماع الأنفاس. قال الزين بن المنير: التفرقة بين اثنين تتناول القعود بينهما، وإخراج أحدهما والقعود مكانه. وقد يطلق على مجرد التخطي، وفي التخطي زيادة رفع رجليه على رؤسهما أو أكتافهما، وربما تعلق بثيابهما شيء مما برجليه. وفي الحديث كراهة التفرقة بين الاثنين. والأكثر على أنها كراهة تنزيه، واختار ابن المنذر التحريم، وبه جزم النووي في زوائد الروضة. (ثم يصلي ما كتب له) أي قدر وقضي له من سنة الجمعة. فيه أن الصلاة قبل الجمعة لا حد لها، وأقله ركعتان تحية المسجد. (ثم ينصت) بضم أوله من أنصت إذا سكت سكوت مستمع. (إذا تكلم الإمام) أي شرع في الخطبة. فيه أن من

(6/348)


تكلم حال تكلم الإمام لم يحصل له من الأجر ما في الحديث. وفيه دليل على جواز الكلام قبل تكلم الإمام. (إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى) وفي رواية: ما بين الجمعة إلى الجمعة الأخرى. وفي رواية: حط عنه ذنوب ما بينه وبين الجمعة الأخرى. تأنيث الآخر بفتح الخاء لا بكسرها. والمراد بها الجمعة التي مضت لما في حديث أبي ذر عند ابن خزيمة: غفر له ما بينه وبين الجمعة التي قبلها، ولابن حبان من حديث أبي هريرة: غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام من التي بعدها، ولأبي داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة: كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها. والمراد غفران الصغائر لما زاده في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه: ما لم تغش الكبائر. وذلك أن معنى هذه الزيادة أي فإنها إذا غشيت لا تكفر، وليس المراد أن تكفير الصغائر شرطه اجتناب الكبائر، إذ اجتناب الكبائر بمجرده يكفر الصغائر كما
رواه البخاري.
1394-(2) وعن أبي هريرة: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من اغتسل، ثم أتى الجمعة فصلى ما قدر له،

(6/349)


نطق به القرآن في قوله: ?إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم? [4: 31]، أي نمح عنكم صغائركم. ولا يلزم من ذلك أن لا يكفر الصغائر إلا اجتناب الكبائر، وإذا لم يكن للمرء صغائر تكفر رجي له أن يكفر عنه بمقدار ذلك من الكبائر، وإلا أعطي من الثواب بمقدار ذلك، وقد تبين بمجموع ما ذكر من الغسل والتنظيف إلى آخره أن تكفير الذنوب من الجمعة إلى الجمعة مشروط بوجود جميع ما تقدم من غسل وتنظف وتطيب أو دهن ولبس أحسن الثياب والمشي بالسكينة وترك التخطي والتفرقة بين الاثنين وترك الأذى والتنفل والإنصات وترك اللغو. وفي حديث عبدالله بن عمرو: فمن تخطى أو لغا كانت له ظهرا. وفي الحديث مشروعية النافلة قبل صلاة الجمعة لقوله: يصلي ما كتب له، ثم قال: ثم ينصت إذا تكلم الإمام. فدل على تقدم ذلك على الخطبة، وقد بينه أحمد من حديث نبيشة الهذلي بلفظ: فإن لم يجد الإمام خرج صلى ما بدا له. واستدل به على أن التبكير ليس من ابتداء الزوال؛ لأن خروج الإمام يعقب الزوال، فلا يسع وقتا يتنفل فيه. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا أحمد والنسائي والدارمي والبيهقي (ج3ص242، 243) ولفظ النسائي: ما من رجل يتطهر يوم الجمعة كما أمر، ثم يخرج من بيته حتى يأتي الجمعة، وينصت حتى يقضي صلاته إلا كان كفارة لما قبله من الجمعة. ورواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن نحو رواية النسائي. وقال في آخره: إلا كان كفارة لما بينه وبين الجمعة الأخرى ما اجتنبت المقتلة، وذلك الدهر كله.

(6/350)


1394- قوله: (من اغتسل) أي للجمعة لحديث: إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل، أو مطلقا. وفيه دلالة على أنه لا بد في إحرازه لما ذكر من الأجر من الاغتسال، إلا أن في الرواية الآتية بيان أن غسل الجمعة سنة وليس بواجب. وقيل: ليس فيها نفي الغسل، وقد ذكر الغسل في الرواية الأولى، فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء في الرواية الثانية لمن تقدم غسله على الذهاب فاحتاج إلى إعادة الوضوء. (ثم أتى الجمعة) أي الموضع الذي تقام فيه الجمعة، كما يدل عليه قوله: (فصلى) أي من سنة الجمعة أو النوافل. (ما قدر له) بتشديد الدال. فيه دليل على مشروعية الصلاة قبل الجمعة، وأنه لا حد لها. وقد ورد في سنة الجمعة التي قبلها أحاديث أخرى ضعيفة. ذكرها الحافظ في الفتح (ج4ص509)، والزيلعي في نصب الراية (ج2ص206، 207). قال الحافظ: وأقوى ما يتمسك به في مشروعية ركعتين قبل الجمعة عموم ما صححه ابن حبان من حديث عبدالله بن الزبير مرفوعا:
ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته، ثم يصلي معه، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيام)). رواه مسلم.
1395-(3) وعنه، قال: قال رسول الله ?: ((من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام.

(6/351)


ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان. ومثله حديث عبدالله بن مغفل: بين كل أذانين صلاة. (ثم أنصت حتى يفرغ) أي الإمام. (من خطبته) قال النووي: قوله: "حتى يفرغ من خطبته" هكذا هو في الأصول من غير ذكر الإمام، وعاد الضمير إليه للعلم به وإن لم يكن مذكورا. (ثم يصلي معه) بالرفع عطفا على "ثم أنصت". وفيه دليل على أن النهي عن الكلام إنما هو حال الخطبة لا بعد الفراغ منها ولو قبل الصلاة، فإنه لا نهي عنه، كما دلت عليه "حتى". (غفر له ما بينه) أي ذنوب ما بينه. (وبين الجمعة الأخرى) أي الماضية لا المستقبلة. (وفضل ثلاثة أيام) أي من التي تلي بعدها، و"فضل" مرفوع عطفا بالواو بمعنى مع على ما في ما بينه، أي بين يوم الجمعة الذي فعل فيه ما ذكر مع زيادة ثلاثة أيام على السبعة، أي وغفرت له ذنوب ثلاثة أيام مع السبع لتكون الحسنة بعشر أمثالها. وجوز الجر في "فضل" للعطف على الجمعة، والنصب على المفعول معه. قال النووي: معنى المغفرة له ما بين الجمعتين وثلاثة أيام أن الحسنة بعشر أمثالها، وصار يوم الجمعة الذي فعل فيه هذه الأفعال الجميلة في معنى الحسنة التي تجعل بعشر أمثالها. والمراد بما بين الجمعتين من صلاة الجمعة وخطبتها إلى مثل ذلك الوقت من الجمعة الثانية حتى تكون سبعة أيام بلا زيادة ولا نقصان، ويضم إليها ثلاثة، فتصير عشرة. قال ابن حجر: لا ينافي ما قبله؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان أخبر بأن المغفور ذنوب سبعة أيام ثم زيد له ثلاثة أيام، فأخبر به إعلاما بأن الحسنة بعشر أمثالها. (رواه مسلم) وأخرج البيهقي (ج3ص243) نحوه.

(6/352)


1395- قوله: (من توضأ) قد استدل به على أن غسل الجمعة سنة. قال القرطبي: ذكر الوضوء وما معه مرتبا عليه الثواب المقتضى للصحة، فدل على أن الوضوء كاف، وقد تقدم الجواب عنه آنفا. (فأحسن الوضوء) أي أتى بمكملاته من سننه ومستحباته. قال النووي: معنى إحسان الوضوء الإتيان به ثلاثا ثلاثا. وذلك الأعضاء وإطالة الغرة، والتحجيل، وتقديم الميامن، والإتيان بسننه المشهورة. (ثم أتى الجمعة) أي أتى المسجد لصلاة الجمعة. وقال القاري: أي حضر خطبتها وصلاتها. (فاستمع وأنصت) أي سكت للاستماع، قاله السندي. وقال الرازي في تفسيره: الإنصات سكوت مع استماع. ومتى انفك أحدهما عن الآخر لا يقال له إنصات. وقال العيني في شرح البخاري: الإنصات هو السكوت مع الإصغاء-انتهى. (غفر له ما بينه وبين الجمعة) السابقة وهي سبعة أيام
ومن مس الحصا فقد لغا)). رواه مسلم.
1396-(4) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان يوم الجمعة، وقفت الملائكة على باب المسجد، يكتبون الأول، فالأول، ومثل المهجر
بناء على أن الحساب من وقت الصلاة إلى مثله من الثانية فبزيادة ثلاثة أيام تتم عشرة. (ومن مس الحصى) أي لتسويتها سواء مسها في الصلاة أو قبلها بطريق اللعب في حال الخطبة. (فقد لغا) أي ومن لغا فلا جمعة له، كما جاء والمراد أنه يصير محروما من الأجر الزائد. قال النووي: فيه النهي عن مس الحصى وغيره من العبث في حال الخطبة. وفيه إشارة إلى إقبال القلب والجوارح على الخطبة. والمراد باللغو ههنا الباطل المذموم المردود-انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود وابن ماجه والبيهقي (ج3ص223).

(6/353)


1396- قوله: (إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة) هم غير الحفظة، كما يدل عليه الأحاديث الواردة في فضل التبكير. والمعنى أنهم يستمرون من طلوع الفجر وهو أول اليوم شرعا أو من طلوع الشمس، وهو أول النهار العرفي، أو من ارتفاع النهار، أو من حين الزوال. قال القاري: وهو أقرب، ورجحه أيضا الشاه ولي الله الدهلوي في المسوى شرح الموطأ (ج1ص150) وإليه مال الشوكاني، وبه قالت المالكية، وهو وجه للشافعية والأول هو ظاهر كلام الشافعي، وصححه النووي والرافعي وغيرهما. والثاني أيضا وجه للشافعية. والراجح عندي هو الثالث، وقد اختاره ابن رشد في البداية، وسيأتي بسط الكلام في ذلك. (على باب المسجد) وعند ابن خزيمة على كل باب من أبواب المسجد ملكان يكتبان الأول فالأول. قال الحافظ: فكان المراد بقوله "على باب المسجد" ههنا جنس الباب، ويكون من مقابلة المجموع بالمجموع. قلت: وفي رواية للشيخين، إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة. وفي أخرى لمسلم: على كل باب من أبواب المسجد ملك يكتب. وفي رواية للنسائي: تقعد الملائكة على أبواب المسجد. وكذا في حديث أبي أمامة عند أحمد والطبراني، وحديث علي وأبي سعيد عند أحمد. (يكتبون الأول فالأول) قال الطيبي: أي الداخل الأول. والفاء فيه، و"ثم" في قوله: "ثم كالذي يهدي بقرة" كلتاهما لترتيب النزول من الأعلى إلى الأدنى، لكن في الثانية تراخ ليس في الأولى-انتهى. قال القسطلاني قال في المصابيح نصب. (أي الأول) على الحال، وجاءت معرفة، وهو قليل. (ومثل المهجر) بضم الميم وتشديد الجيم المكسورة، اسم فاعل من التهجير أي صفة المبكر إلى الجمعة. فالمراد بالتهجير التبكير أي المبادرة إلى الجمعة بعد الصبح. وقيل: المراد الذي يأتي في المهاجرة أي عند شدة الحر قرب نصف النهار، فيكون دليلا للمالكية في قولهم: إن الساعات من حين الزوال، وإن الذهاب إلى الجمعة بعد الزوال لا قبله؛ لأن التهجير هو

(6/354)


كمثل الذي يهدي بدنه، ثم كالذي يهدي بقرة، ثم كبشا، ثم دجاجة، ثم بيضة،
السير في الهاجرة أي نصف النهار. قال الحافظ: وأجيب بأن المراد بالتهجير هنا التبكير كما تقدم نقله عن الخليل في المواقيت. وقال القرطبي: الحق أن التهجير هنا من الهاجرة، وهو السير في وقت الحر، وهو صالح لما قبل الزوال وبعده، فلا حجة فيه لمالك. وقال التوربشتي: من ذهب في معناه إلى التبكير فإنه أصاب وسلك طريقا حسنا من طريق الاتساع، وذلك أنه جعل الوقت الذي يرتفع فيه النهار ويأخذ الحر في الازدياد من الهاجرة تغليبا، بخلاف ما بعد الزوال، فإن الحر يأخذ في الانحطاط، وهذا كما يسمى النصف الأول من النهار غدوة، والآخر عشية. ومما يدل على استعمالهم التهجير في أول النهار ما أنشد ابن الأعرابي في نوادره لبعض العرب: يهجرون تهجير الفجر. (كمثل الذي يهدي) بضم أوله وكسر ثالثه أي يقرب. (بدنة) بفتحتين أي بعيرا ذكرا كان أو أنثى. والتاء للوحدة لا للتأنيث، وهو خبر عن قوله: "مثل المهجر"، والكاف لتشبيه صفة بصفة. والمعنى صفة المبكر إلى الجمعة مثل صفة الذي يتصدق بإبل متقربا إلى الله تعالى. وقيل: المراد كالذي يهديها إلى مكة، ولا يناسبه الدجاجة والبيضة. قال الطيبي: سميت بدنة لعظم بدنها، وهي الإبل خاصة، وفي اختصاص ذكر الهدي، وهو مختص بما يهدى إلى الكعبة، إدماج لمعنى التعظيم في إنشاء الجمعات، وأن المبادر إليها كمن ساق الهدى، وأنه بمثابة الحضور في عرفات. (ثم) الثاني (كالذي يهدي بقرة) ذكرا أو أنثى. والتاء للوحدة لا للتأنيث. وفيه دليل على أن البدنة لا تشمل البقرة لتقابلها بها وإليه ذهب الشافعي، وقال أبوحنيفة: البدنة تطلق على البقر أيضا، وإنما أريد هنا البعير خاصة لقرينة المقابلة، وهذا لا ينفي عموم الإطلاق. (ثم) الثالث كالذي يهدي. (كبشا) بفتح الكاف وسكون الموحدة، وهو الفحل الذي يناطح، قاله في المجمع. وقال في القاموس: الكبش الحمل إذا أثنى أو

(6/355)


إذا خرجت رباعيته. وفي ذكر الكبش، وهو الذكر، إشارة إلى أنه أفضل من الأنثى. وفي رواية: كبشا أقرن. قال النووي: وصفه به؛ لأنه أكمل وأحسن صورة. ولأن قرنه ينتفع به. وفي رواية النسائي: ثم كالمهدي شاة، واستدل بالترتيب المذكور على أن التقرب بالإبل أفضل من التقرب بالبقر، والتقرب بالبقر أفضل من التقرب بالشاة، وهو متفق عليه في الهدي، مختلف فيه في الأضحية، والجمهور على أنها كذلك. وقال مالك: الأفضل في الضحايا الغنم ثم البقر ثم الإبل. ثم إنه وقع في رواية النسائي زيادة البطة بين الشاة والدجاجة، وهي زيادة شاذة، كما صرح به النووي في الخلاصة. (ثم) الرابع كالذي يهدي. (دجاجة) بفتح الدال في الأفصح ويجوز الكسر والضم، ودخلت الهاء فيها لأنه واحد من جنس مثل حمامة وبطة ونحوهما، ووقع في رواية أخرى للنسائي: زيادة مرتبة بين الدجاجة والبيضة، وهي العصفور وهي أيضا زيادة شاذة. (ثم) الخامس كالذي يهدي. (بيضة) هي واحدة من البيض، والجمع بيوض، وجاء في الشعر بيضات، وإنما
فإذا خرج الإمام طووا صحفهم ويستمعون الذكر.

(6/356)


قدرنا الثاني، لأنه-كما قال في المصابيح-لا يصح العطف على الخبر لئلا يقعا معا خبرا عن واحد، وهو مستحيل، وحينئذ فهو خبر مبتدأ محذوف مقدر بما مر. وكذا قوله: "ثم كبشا" لا يكون معطوفا على بقرة؛ لأن المعنى يأباه، بل هو معمول فعل محذوف دل عليه المتقدم. والتقدير-كما مر-، ثم الثالث كالذي يهدي كبشا وكذا ما بعده، واستشكل ذكر الدجاجة والبيضة؛ لأن الهدي لا يكون منهما. وأجيب بأنه من باب المشاكلة أي من تسمية الشيء باسم قرينه. والمراد بالإهداء هنا التصدق، كما دل عليه لفظ: قرب في رواية أخرى وهو يجوز بهما. (فإذا خرج الإمام) أي من الصف إلى المنبر يعني ظهر بطلوعه على المنبر. (طووا) أي الملائكة (صحفهم) التي كتبوا فيها درجات السابقين على من يليهم في الفضيلة، قال الحافظ: وقع في حديث عمر صفة الصحف المذكورة، أخرجه أبونعيم في الحلية مرفوعا بلفظ: إذا كان يوم الجمعة بعث الله ملائكة بصحف من نور، وأقلام من نور-الحديث. وهو دال على أن الملائكة المذكورين غير الحفظة، وظيفتهم كتابة حاضري الجمعة خاصة. والمراد بطي الصحف طي صحف الفضائل المتعلقة بالمبادرة إلى الجمعة دون غيرها من سماع الخطبة. وإدراك الصلاة والذكر والدعاء والخشوع ونحو ذلك، فإنه يكتبه الحافظان قطعا. ووقع في آخر الحديث عند ابن ماجه فمن جاء بعد ذلك فإنما يجيء لحق الصلاة يعني فله أجر الصلاة، وليس له شيء من الزيادة في الأجر. فإن قلت: وقع في رواية للشيخين: فإذا جلس الإمام طووا الصحف فما الفرق بين الروايتين؟ قلت: بخروج الإمام يحضرون إلى المنبر من غير طي، فإذا جلس الإمام على المنبر طووها. ويقال: ابتداء طيهم الصحف عند ابتداء خروج الإمام، وانتهاؤه بجلوسه على المنبر، وهو أول سماعهم للذكر. (ويستمعون) أي الملائكة. (الذكر) أي الخطبة. قال العيني والحافظ: المراد بالذكر ما في الخطبة من المواعظ وغيرها-انتهى. وأتى بصيغة المضارع لاستحضار صورة الحال اعتناء

(6/357)


بهذه المرتبة، وحملا على الإقتداء بالملائكة. قال التيمي في استماع الملائكة حض على استماعها والإنصات إليها. وفي الحديث فوائد كثيرة لا تخفي على المتأمل. وقد رواه أيضا الشيخان بلفظ: من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا أخرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر. قال الحافظ: في هذا الحديث الحض على الإغتسال يوم الجمعة وفضله وفضل التبكير إليها، وأن الفضل المذكور إنما يحصل لمن جمعهما، وعليه ما أطلق في باقي الروايات من ترتب الفضل على التبكير من غير تقييد بالغسل. وفيه أن مراتب الناس في الفضل بحسب أعمالهم. وأن القليل من الصدقة غير محتقر في الشرع. واعلم أنه اختلف العلماء في الساعات المذكورة في هذه الرواية ما المراد منها؟ واختلفوا أيضا في أن ابتداء هذه الساعات من حين الزوال أو من قبله، فقال مالك والقاضي حسين وإمام الحرمين من الشافعية،

(6/358)


المراد بالساعات الخمس لحظات خفيفة لطيفة أولها زوال الشمس، وآخرها قعود الخطيب على المنبر، فالساعات الخمس المذكورة كلها في ساعة واحدة أي هي أجزاء من الساعة السادسة الزمانية بعد الزوال، ولم ير هؤلاء التبكير إلى الجمعة قبل الزوال لا من طلوع الفجر، ولا من طلوع الشمس، ولا من ارتفاع النهار. واختار هذا القول الشاه ولي الله في المسوي. ومال إليه الشوكاني في النيل. واستدل لهم بوجوه: منها لفظ: الرواح في الرواية المتقدمة، فإنه يدل على أن أول الذهاب إلى الجمعة من الزوال؛ لأن حقيقة الرواح من الزوال إلى آخر النهار، والغدو من أوله إلى الزوال. قال المازرى: تمسك مالك بحقيقة الرواح، وتجوز في الساعة، وعكس غيره. وأجيب بأن الرواح-كما قال الأزهري -: يطلق لغة على الذهاب سواء كان أول النهار أو آخره أو في الليل. قال الأزهري: وهي لغة أهل الحجاز. ونقل أبوعبيد في الغريبين نحوه. ثم إنه لم يقع التعبير بالرواح-كما قال الحافظ-إلا في رواية مالك عن سمي، ورواه ابن جريج عن سمي بلفظ: غدا. ورواه أبوسلمة عن أبي هريرة بلفظ: المتعجل إلى الجمعة. صححه ابن خزيمة، وفي حديث سمرة عند ابن ماجه: ضرب رسول الله ? مثل الجمعة في التبكير كناحر البدنة الخ. وفي حديث علي عند أبي داود: إذا كانت الجمعة غدت الشياطين براياتها إلى الأسواق، وتغدو الملائكة فتجلس على باب المسجد، فتكتب الرجل من ساعة... الحديث، فدل مجموع هذه الأحاديث على أن المراد بالرواح الذهاب. وقيل: النكتة في التعبير بالرواح الإشارة إلى أن الفعل المقصود إنما يكون بعد الزوال، فيسمى الذاهب إلى الجمعة رائحا وإن لم يجيء وقت الرواح، كما سمى القاصد إلى مكة حاجا. ومنها لفظ المهجر فإنه مشتق من التهجير، وهو السير في وقت الهاجرة، وهي نصف النهار عند اشتداد الحر، تقول منه هجر النهار، وقد ذكر المراتب الباقية بلفظ: "ثم" من غير ذكر الساعات. وقد تقدم الجواب عن هذا. ومنها أن الساعة في

(6/359)


اللغة الجزء من الزمان، وحملها-كما ذهب إليه الجمهور- على الزمانية التي يقسم النهار فيها إلى اثنا عشر جزء يبعد إحالة الشرع عليه لاحتياجه إلى حساب ومراجعة آلات تدل عليه. وأجيب بأن الساعة قد يطلق على جزء من أربعة وعشرين جزءا هي مجموع اليوم والليلة. ويدل على اعتبارها في عرف الشرع ما روى أبوداود والنسائي، وصححه الحاكم من حديث جابر مرفوعا: يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة. وهذا وإن لم يرد في حديث التبكير فيستأنس به في المراد بالساعات. ومنها أن الساعة لو طلعت للزم تساوى الآتين فيها، والأدلة تقتضى رجحان السابق بخلاف ما إذا قيل: إنها لحظة خفيفة لطيفة. وأجيب بأن التساوي وقع مسمى البدنة، والتفاوت

(6/360)


صفاتها يعني أن بدنة الأول مثلا أكمل من بدنة الأخير، وبدنة المتوسط متوسطة، فمراتبهم متفاوتة، وإن اشتركوا في البدنة مثلا. ومنها عمل أهل المدينة، فإنهم لم يكونوا يأتون من أول النهار، وأيضا لم يعرف أن أحدا من الصحابة كان يأتي المسجد لصلاة الجمعة عند طلوع الشمس وصفائها، ولا يمكن حمل حالهم على ترك هذه الفضيلة العظيمة. وهذا يدل على أن المراد من الساعات لحظات خفيفة بعد الزوال، لا الساعات الزمانية المعروفة عند أهل الفلك وعلم الميقات. وأجيب بأن عمل أهل المدينة ليس بحجة، كما تقرر في موضعه، وأيضا ليس في عمل أهل المدينة هذا إلا ترك الرواح إلى الجمعة من أول النهار، وهذا جائز بالضرورة. وقد يكون اشتغال الرجل بمصالحه ومصالح أهله ومعاشه وغير ذلك من أمور دينه ودنياه أفضل من رواحه إلى الجمعة من أول النهار. وترك أهل المدينة وغيرهم ذلك لا يدل على أنه مكروه. وقال القاري: وقد كان السلف يمشون على السرج يوم الجمعة إلى الجامع. وفي الإحياء وأول بدعة حدثت في الإسلام ترك التبكير إلى المساجد-انتهى. وقد أنكر عمر على عثمان ترك التبكير بمحضر من الصحابة، وكبار التابعين من أهل المدينة. وهذا يرد على من ادعى إجماع أهل المدينة على ترك التبكير. ومنها أن حملها على الساعات الفلكية يستلزم صحة صلاة الجمعة قبل الزوال؛ لأن تقسيم الساعات إلى خمس، ثم تعقيبها بخروج الإمام وخروجه عند أول الزوال يقتضي أنه يخرج في أول الساعة السادسة، وهي قبل الزوال. وقد أجاب عنه الحافظ بأنه ليس في شيء من طرق هذا الحديث ذكر الإتيان من أول النهار، فلعل الساعة الأولى منه جعلت للتأهب بالاغتسال وغيره، ويكون مبدأ المجيء من أول الثانية، فهي أولى بالنسبة إلى المجيء ثانية بالنسبة للنهار. وعلى هذا فآخر الخامسة أول الزوال. وإلى هذا أشار الصيدلاني شارح المختصر حيث قال: إن أول التبكير يكون من ارتفاع النهار، وهو أول الضحى، وهو أول الهاجرة. ويؤيده

(6/361)


الحث على التهجير إلى الجمعة. وحمل الجمهور الساعات المذكورة في الحديث على الساعات الزمانية. كما في سائر الأيام. وقد تقدم حديث جابر مرفوعا: يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة. والمراد بها الساعات الآفاقية التي لا يختلف عددها بطول النهار وقصره، فالنهار اثنتا عشرة ساعة، لكن يزيد كل منها وينقص، والليل كذلك. ثم اختلفوا فقالت طائفة منهم: ابتداء هذه الساعات من طلوع الشمس، والأفضل عندهم التبكير في ذلك الوقت إلى الجمعة، وهو قول الثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد. قال الماوردي: إنه الأصح ليكون قبل ذلك من طلوع الفجر زمان غسل وتأهب. وقال الروياني: إن ظاهر كلام الشافعي أن التبكير يكون من طلوع الفجر، وصححه الروياني، وكذلك صاحب المهذب قبله، ثم الرافعي والنووي. وحكى الصيدلاني أن أول التبكير من ارتفاع
متفق عليه.
1397-(5) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت، والإمام يخطب،

(6/362)


النهار، وهو أول الضحى، وهو أول الهاجرة.قلت: وهذا القول هو الراجح عندي، وبه تجتمع الأحاديث، وبه يرتفع الإشكال الذي يرد على مذهب مالك. وسيأتي ذكره في كلام النووي. ويؤيد هذا القول الحث على التهجير إلى الجمعة، فقد تقدم في كلام القرطبي أن التهجير هنا من الهاجرة، وهو السير في وقت الحر، وهو صالح لما قبل الزوال وبعده-انتهى. ومن المعلوم أن اشتداد الحر يكون من ربع النهار غالبا، فمن راح إلى الجمعة في هذا الوقت أي عند ارتفاع النهار يعني في أول الضحى وأول الهاجرة صدق عليه الألفاظ الواردة في الأحاديث التي أشرنا إليها، وهي المتعجل والتبكير والغدو والرواح والتهجير. قال النووي: إن النبي ? أخبر أن الملائكة تكتب من جاء في الساعة الأولى، وهو كالمهدي بدنة، ثم من جاء في الساعة الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، فإذا خرج الإمام طووا الصحف، ولم يكتبوا بعد ذلك أحدا. ومعلوم أن النبي ? كان يخرج إلى الجمعة متصلا بعد الزوال، فدل على أنه لا شيء من الهدي والفضيلة لمن جاء بعد الزوال، وكذا ذكر الساعات إنما كان للحث على التبكير إليها، والترغيب في فضيلة السبق، وتحصيل الصف الأول، وانتظارها بالاشتغال بالتنفل والذكر ونحوه. وهذا كله لا يحصل بالذهاب بعد الزوال، ولا فضيلة لمن أتى بعد الزوال؛ لأن النداء يكون حينئذ، ويحرم التخلف بعد النداء-انتهى. هذا. وقد بسط ابن القيم الكلام على ذلك في الهدي (ج1ص110- 112) ورجح قول من قال: إن ابتداء الساعات من أول النهار. من شاء البسط رجع إليه. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب الاستماع إلى الخطبة من كتاب الجمعة. وأخرجه أيضا أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي وغيرهم.

(6/363)


1397- قوله: (إذا قلت) بلفظ الخطاب. (لصاحبك) الذي تخاطبه إذ ذاك أو جليسك. وإنما ذكر الصاحب لكونه الغالب. (يوم الجمعة) فيه دلالة على أن الخطبة غير الجمعة ليست مثلها ينهى عن الكلام حالها. قال الحافظ: قوله. (يوم الجمعة) مفهومة أن غير يوم الجمعة بخلاف ذلك، وفيه بحث-انتهى. (أنصت) أي أسكت عن الكلام مطلقا واستمع للخطبة. وقال ابن خزيمة: المراد بالإنصات السكوت عن مكالمة الناس دون ذكر الله. قال الحافظ: وتعقب بأنه منه جواز القراءة والذكر حال الخطبة، فالظاهر أن المراد السكوت مطلقا، ومن فرق احتاج إلى دليل. ولا يلزم من تجويز التحية لدليلها الخاص جواز الذكر مطلقا. (والإمام يخطب) جملة
فقد لغوت)).

(6/364)


حالية مشعرة بأن ابتداء الإنصات من الشروع في الخطبة. ففيه دليل على أنه يختص النهي بحال الخطبة، ورد على من جعل وجوب الإنصات، والنهي عن الكلام من حال خروج الإمام. نعم الأولى والأحسن الإنصات. (فقد لغوت) أي ومن لغا فلا أجر له، فإذا كان هذا القدر مبطلا للأجر مع أنه أمر بالمعروف، فكيف ما فوقه، واختلفوا في معنى قوله: "لغوت" فقال الأخفش: اللغو الكلام الذي لا أصل له من الباطل وشبهه. وقال ابن عرفة: اللغو السقط من القول. وقيل: الميل عن الصواب. وقيل: اللغو الإثم، كقوله تعالى: ?وإذا مروا باللغو مروا كراما? [72:25]. وقال الباجي: اللغو رديء الكلام وما لا خير فيه. وقال المجد: اللغو واللغى، كالفتي، السقط وما لا يعتد به من كلام وغيره. وقال الزين بن المنير: اتفقت أقوال المفسرين على أن اللغو ما لا يحسن من الكلام. وقال النضر بن شميل: معنى لغوت خبت من الأجر. وقيل: بطلت فضيلة جمعتك. وقيل: صارت جمعتك ظهرا. قال الحافظ: أقوال أهل اللغة متقاربة المعنى. ويشهد للقول الأخير ما رواه أبوداود وابن خزيمة والبيهقي (ج3:ص231) من حديث عبدالله بن عمرو مرفوعا: ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرا. قال ابن وهب أحد رواته: أجزأت عنه الصلاة، وحرم فضيلة الجمعة. ولأحمد من حديث علي مرفوعا: من قال صه فقد تكلم، ومن تكلم فلا جمعة له. ولأبي داود ونحوه. ولأحمد والبزار من حديث ابن عباس مرفوعا: من تكلم يوم الجمعة، والإمام يخطب، فهو كالحمار يحمل أسفارا. والذي يقول له أنصت ليست له جمعة. وله شاهد قوي في جامع حماد بن سلمة عن ابن عمر موقوفا. قال العلماء: معناه لا جمعة له كاملة للإجماع على إسقاط فرض الوقت عنه-انتهى. واستدل بالحديث على منع جميع أنواع الكلام حال الخطبة؛ لأنه إذا جعل قوله: "أنصت" مع كونه أمرا بمعروف لغوا فغيره من الكلام أولى أن يسمى لغوا، ويؤيده حديثا علي وابن عباس المتقدمان في كلام الحافظ لإطلاق الكلام

(6/365)


فيهما، وعدم الفرق بين ما لا فائدة فيه وغيره. والمسألة مختلف فيها عند الأئمة، فقال الشافعية: يكره الكلام حال الخطبة من إبتدائها لقوله تعالى: ?وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا? [204:7]. وقد ذكر كثير من المفسرين أنه نزل في الخطبة، وسميت قرآنا لاشتمالها عليه، ولحديث أبي هريرة الذي نحن بصدد شرحه. ولا يحرم للأحاديث الدالة على ذلك كحديث أنس المروي في الصحيحين في قصة السائل في الاستسقاء، وكحديث أنس أيضا المروي بسند صحيح عند البيهقي في قصة السائل عن وقت الساعة. وجه الدلالة أنه لم ينكر عليهما الكلام، ولم يبين لهما وجه السكوت، والأمر في الآية للندب، ومعنى "لغوت" تركت الأدب جمعا بين الأدلة. قال العيني: وفي التوضيح والجديد الصحيح من مذهب الشافعي أنه لا يحرم الكلام، ويسن الإنصات، وبه قال الثوري وداود. والقديم أنه يحرم، وبه قال مالك والأوزاعي

(6/366)


وأبوحنيفة وأحمد-انتهى. وقال الحافظ: للشافعي في المسألة قولان مشهوران، وبناهما بعض الأصحاب على الخلاف في أن الخطبتين بدل عن الركعتين أم لا؟ فعلى الأول يحرم لا على الثاني، والثاني هو الأصح. فمن ثم أطلق من أطلق إباحة الكلام. وعن أحمد أيضا روايتان. واختلفوا فيمن كان به صمم أو بعد عن الإمام بحيث لا يسمع، فقال المالكية: يحرم الكلام عليه أيضا لعموم وجوب الإنصات، وعن أحمد والشافعي التفرقة بين من يسمع الخطبة ومن لا يسمعها، قال العيني: نقل ابن بطال: أن أكثر العلماء أن الإنصات واجب على من سمعها ومن لم يسمعها وأنه قول مالك، وكان عروة لا يرى بأسا بالكلام إذا لم يسمع الخطبة. وقال أحمد: لا بأس أن يذكر الله ويقرأ من لم يسمع الخطبة. قال العيني: واختلف المتأخرون. (أي من الحنفية) فيمن كان بعيد لا يسمع الخطبة، فقال محمد بن سلمة: المختار السكوت، وهو الأفضل. وقال نصر بن يحيى: يسبح ويقرأ القرآن، وهو قول الشافعي. وأجمعوا أنه لا يتكلم. وقيل: الاشتغال بالذكر وقراءة القرآن أفضل من السكوت-انتهى. قال الحافظ: ويدل على الوجوب في السامع أن في حديث علي المشار إليه: ومن دنا فلم ينصت كان عليه كفلان من الوزر، ولأن الوزر لا يترتب على من فعل مباحا ولو كان مكروها كراهة تنزيه. وأما ما استبدل به من أجاز مطلق من قصة السائل في الاستسقاء ونحو ففيه نظر؛ لأنه استدل بالأخص على الأعم، فيمكن أن يخص عموم الأمر بالإنصات بمثل ذلك كأمر عارض في مصلحة عامة كما خص بعضهم منه رد السلام بوجوبه. ونقل صاحب المغني الإتفاق على أن الكلام الذي يجوز في الصلاة يجوز في الخطبة كتحذير الضرير من البئر. وعبارة الشافعي: وإذا خاف على أحد لم أر بأسا إذا لم يفهم عنه بالإشارة أن يتكلم-انتهى. وأجيب أيضا عن حديث أنس في قصة الاستسقاء وما في معناه بأنه غير محل النزاع؛ لأن محل النزاع الإنصات والإمام يخطب. وأما سؤال الإمام وجوابه فهو قاطع لكلامه،

(6/367)


فيخرج عن ذلك. واختلف في رد السلام وتشميت العاطس، وتحميد العاطس، فرخص فيه أحمد والشافعي وإسحاق. قال الشافعي في الأم: ولو سلم رجل على رجل يوم الجمعة كرهت ذلك له، ورأيت أن يرد عليه بعضهم؛ لأن رد السلام فرض، وقال أيضا ولو عطس رجل يوم الجمعة فشمته رجل رجوت أن يسعه؛ لأن التشميت سنة-انتهى. وقال ابن الهمام: يكره تشميت العاطس ورد السلام، وهل يحمد إذا عطس؟ الصحيح نعم في نفسه، وذكر العيني عن أبي حنيفة إذا سلم عليه يرده بقلبه، وعن أبي يوسف: يرد السلام، ويشمت العاطس فيها، وعن محمد: يرد ويشمت بعد الخطبة ويصلي على النبي ? في قلبه-انتهى. وفي المدونة قال مالك فيمن عطس والإمام يخطب. فقال: يحمد الله في نفسه سرا ولا يشمت أحد العاطس-انتهى. واختلفوا في وقت الإنصات، فقال أبوحنيفة: خروج الإمام يقطع الصلاة والكلام جميعا لما روى الطبراني
متفق عليه.
1398- (6) وعن جابر، قال: قال رسول الله ?: ((لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة، ثم يخالف

(6/368)


في الكبير من حديث ابن عمر رفعه. إذا دخل أحدكم المسجد، والإمام على المنبر، فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام، وهو حديث ضعيف فيه أيوب بن نهيك، وهو منكر الحديث، قاله أبوزرعة وأبوحاتم، ذكره الحافظ. وقال الهيثمي: هو متروك ضعفه جماعة. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ. وقال طائفةك لا يجب الإنصات إلا عند إبتداء الخطبة، ولا بأس بالكلام قبلها، وهو قول مالك والثوري وأبي يوسف ومحمد والشافعي. قلت: والراجح عندي في المسائل المذكورة أن السكوت في حال الخطبة واجب والكلام حرام، هذا فيمن يدنو من الإمام ويسمع الخطبة. وأما من كان بعيدا عنه، ولا يسمع الخطبة، أو كان به صمم، فالسكوت في حقه أحوط، ويجوز تشميت العاطس ورد السلام سرا في النفس، وكذا الحمد عن العطسة، والصلاة على النبي ? ولا يكره الإشارة بالرأس أو باليد أو بالعين لإزالة منكر أو جواب سائل. ووقت الإنصات هو ابتداء الخطبة والشروع فيها لا خروج الإمام. هذا ما عندي. والله تعالى أعلم. (متفق عليه) وأخرجه أيضا مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص218، 219) وغيرهم في الباب عن جماعة من الصحابة ذكرهم العيني (ج6:ص240).

(6/369)


1398- قوله: (لا يقيمن أحدكم أخاه) قال الحافظ: هذا لا مفهوم له، بل ذكر لمزيد التنفير عن ذلك لقبحه؛ لأنه إن فعله من جهة الكبر كان قبيحا، فإن فعله من جهة الأشرة كان أقبح. (يوم الجمعة) فيه أن النهي المذكور مقيد بيوم الجمعة، وقد ورد ذلك بلفظ العموم، كما في حديث ابن عمر الآتي في الفصل الثالث من هذا الباب. قال الشوكاني: ذكر يوم الجمعة في حديث جابر من باب التنصيص على بعض أفراد العام، لا من باب التقييد للأحاديث المطلقة، ولا من باب التخصيص للمعلومات، فمن سبق إلى موضع مباح، سواء كان مسجدا أو غيره في يوم جمعة، أو غيرها، لصلاة أو لغيرها من الطاعات، فهو أحق به، ويحرم على غيره إقامته منه، والقعود فيه، إلا أنه يستثنى من ذلك الموضع الذي قد سبق لغيره فيه حق كان يقعد رجل في موضع، ثم يقوم منه لقضاء حاجة من الحاجات، ثم يعود إليه، فإنه أحق به ممن قعد فيه بعد قيامه؛ لحديث أبي هريرة عند أحمد ومسلم مرفوعا بلفظ: إذا قام أحدكم من مجلسه، ثم رجع إليه، فهو أحق به، ولحديث وهب بن حذيفة عند أحمد والترمذي رفعه: الرجل أحق بمجلسه وإن خرج لحاجته ثم عاد فهو أحق بمجلسه. قال الشوكاني: وظاهرهما عدم الفرق بين المسجد وغيره. ويجوز له إقامة من قعد فيه، وقد ذهب إلى ذلك الشافعية (ثم يخالف) قال القاري بالرفع.
إلى مقعده، فيقعد فيه، ولكن يقول: افسحوا)) رواه مسلم.
?الفصل الثاني?
1399، 1400-(7، 8) عن أبي سعيد، وأبي هريرة، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ((من اغتسل يوم الجمعة، لبس من أحسن ثيابه،

(6/370)


وقيل بالجزم أي يقصد ويذهب. (إلى مقعده) أي إلى موضع قعوده. (فيقعد فيه) قال الزمخشري: خالفني فلان إلى كذا إذا قصده، وأنت مول عنه، وخالفني عنه إذا ولى عنه، وأنت قاصده، ويلقاك الرجل صادرا عن الماء، فتسأله عن صاحبه، فيقول لك: خالفني إلى الماء، يريد أنه ذاهب إليه واردا، وأنا ذاهب عنه صادرا. ومنه قوله تعالى: ?وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه? [11: 88]، يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم-انتهى. وقال الطيبي: المخالفة أن يقيم صاحبه من مقامه فيخالف، فينتهي إلى مقعده فيقعد فيه. قال تعالى: ?ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه?. وفيه إدماج وزجر للمتكبرين، أي كيف تقيم أخاك المسلم، وهو مثلك في الدين لا مزية لك عليه. زاد ابن حجر: فيحرم ذلك بغير رضا الجالس رضا حقيقيا لا عن خوف أو أحياء، ذكره القاري. قال الشوكاني: وظاهر حديث جابر وحديث ابن عمر أنه يجوز للرجل أن يقعد في مكان غيره إذا أقعده برضاه، قال: ويكره الإيثار بمحل الفضيلة كالقيام من الصف الأول إلى الثاني؛ لأن الإيثار وسلوك طرائق الآداب لا يليق أن يكون في العبادات والفضائل، بل المعهود أنه في حظوظ النفس وأمور الدنيا، فمن آثر بحظه في أمر من أمور الآخرة فهو من الزاهدين في الثواب-انتهى. وقال ابن حجر: الإيثار بالقرب بلا عذر مكروه، وأما قوله تعالى: ?ويؤثرون على أنفسهم? [59: 9] فالمراد به الإيثار في حظوظ النفس، كما بينه قوله: ?ولو كان بهم خصاصة? [59: 9]-انتهى. (ولكن يقول) أي أحدكم للقاعدين. (افسحوا) أي وسعوا في المجلس. وفي حديث ابن عمر: تفسحوا وتوسعوا، يقال فسح له في المجلس أي وسع له وتفسحوا في المجلس وتفاسحوا أي توسعوا. فإن زاد ?يفسح الله لكم? كما أشارت إليه آيته فلا بأس. وفيه إشارة إلى قوله تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم? [58: 11] لكن هذا إن

(6/371)


كان المحل قابلا للتوسع، وإلا فلا يصيق على أحد، بل يصلي ولو على باب المسجد. (رواه مسلم) في كتاب الأدب والاستيذان. وأخرجه أحمد والبيهقي (ج3ص333) قال القاري: وجه مناسبته للترجمة أنه متضمن للحث على التبكير لئلا يقع فيما يجب عنه التحذير من قيام أخيه المسلم.
1399، 1400- قوله: (ولبس من أحسن ثيابه) قال الطيبي: يريد الثياب البيض-انتهى. يعني أفضلها
ومس من طيب إن كان عنده، ثم أتى الجمعة، فلم يتخط أعناق الناس، ثم صلى ما كتب الله له، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يفرغ من صلاته،

(6/372)


من حيث اللون البيض للخبر الصحيح: البسوا من ثيابكم البياض، فإنها خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم. وفي رواية صحيحة: فإنها أطهر وأطيب. وفيه مشروعية اللبس من أحسن الثياب، واستحباب التجمل والزينة يوم الجمعة الذي هو عيد للمسلمين، ولا خلاف في ذلك. (ومس الطيب إن كان) أي الطيب. (عنده) أي إن تيسر له تحصيله بأن يكون في بيته أو عند امرأته. وفيه مشروعية التطيب يوم الجمعة، ولا خلاف في استحباب ذلك. وروي عن أبي هريرة بإسناد صحيح، كما قال الحافظ في الفتح: إنه كان يوجب الطيب يوم الجمعة، وبه قال بعض أهل الظاهر. (فلم يتخط أعناق الناس) أي لم يتجاوز رقاب الناس ولم يؤذهم، وهو كناية عن التبكير، أي عليه أن يبكر فلا يتخطى رقاب الناس. وفيه كراهية تخطي الرقاب. قال الشافعي: أكره التخطي إلا لمن لا يجد السبيل إلى المصلى إلا بذلك-انتهى. قال الحافظ: وهذا يدخل فيه الإمام، ومن يريد وصل الصف المنقطع إن أبى السابق من ذلك، ومن يريد الرجوع إلى موضعه الذي قام منه لضرورة. وكان مالك يقول: لا يكره التخطي إلا إذا كان الإمام على المنبر. قال الشوكاني: ولا دليل على ذلك. ويأتي بقية الكلام على ذلك في شرح حديث معاذ بن أنس الآتي. (ثم صلى ما كتب الله له) فيه أنه ليس قبل الجمعة سنة مخصوصة مؤكدة كالسنة بعد الجمعة، فالمصلي إذا دخل المسجد يوم الجمعة فله أن يصلي ما شاء متنفلا. وأما ما رواه ابن ماجه عن ابن عباس قال: كان النبي ? يركع قبل الجمعة أربعا لا يفصل في شيء منهن، ففي إسناده بقية ومبشر بن عبيد والحجاج بن أرطاة وعطية العوفي، وكلهم متكلم فيه. كذا في عون المعبود. (ثم أنصت إذا خرج إمامه) أي ظهر بطلوعه على المنبر استدل به الحنفية على أن وقت الإنصات خروج الإمام، وأجيب عنه بأنه محمول على الأولوية لحديث أبي هريرة المتقدم، وهو خامس أحاديث الفصل الأول، ولحديث ابن عباس الآتي في الفصل الثالث، ولحديث أبي الدرداء مرفوعا: إذا سمعت أمامك

(6/373)


يتكلم فأنصت حتى يفرغ. أخرجه أحمد والطبراني في الكبير، ورجال أحمد موثقون. قاله الهيثمي. (حتى يفرغ من صلاته) قال ابن حجر: كان حكمة ذكره طلب الإنصات بين الخطبة والصلاة وإن كانت كراهة الكلام عندنا وحرمته عند غيرنا تنتهي بفراغ الخطبة-انتهى. قلت: اختلفوا في الكلام بعد فراغ الخطيب من الخطبة، وقيل الشروع في الصلاة، فذهب أبوحنيفة إلى الكراهة، ومالك والشافعي وأحمد وأبويوسف ومحمد إلى أنه لا بأس بذلك، ورجح ابن العربي السكوت حيث قال: وأما التكلم يوم الجمعة بين النزول من المنبر والصلاة فقد جاءت فيه الروايتان، والأصح عندي أن لا يتكلم بعد الخطبة. قال الشوكاني: ومما يرجح ترك الكلام بين الخطبة والصلاة الأحاديث الواردة في الإنصات حتى تنقضي الصلاة كما عند النسائي من حديث سلمان بإسناد جيد
كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها)). رواه أبوداود.
1401-(9) وعن أوس بن أوس، قال: قال رسول الله ?: ((من غسل يوم الجمعة واغتسل،
بلفظ: فينصت حتى يقضي صلاته، وأحمد بإسناد صحيح من حديث نبيشة بلفظ: فاستمع وأنصت حتى يقضي الإمام جمعته وكلامه. ويجمع بين الأحاديث بأن الكلام الجائز بعد الخطبة، هو كلام الإمام لحاجة، أو كلام الرجل للرجل لحاجة-انتهى. (كانت) أي هذه الأفعال بجملتها. (كفارة لما بينها) أي لما وقع له من الذنوب بين ساعة صلاته هذه. (وبين جمعته) أي صلاة جمعته. (رواه أبوداود) في أواخر الطهارة، وزاد قال. (أي محمد بن سلمة أحد رواة الحديث أو أبوسلمة بن عبدالرحمن راوي الحديث عن أبي سعيد وأبي هريرة)، ويقول أبوهريرة: وزيادة ثلاثة أيام، ويقول. (أي أبوهريرة) إن الحسنة بعشر أمثالها. قال المنذري: وأخرجه مسلم مختصرا من حديث أبي صالح عن أبي هريرة، وأدرج زيادة ثلاثة أيام في الحديث-انتهى.وأخرجه أيضا الحاكم (ص283) والبيهقي (ج3ص243) قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.

(6/374)


1401- قوله: (من غسل يوم الجمعة واغتسل) روى قوله: "غسل" مشددا ومخففا، فالمشدد معناه جامع امرأته أو أمته قبل خروجه إلى الصلاة ليكون أملك لنفسه وأحفظ في طريقه لبصره، من غسل امرأته إذا جامعها. ومن هذا قول العرب: فحل غسله إذا كان كثير الضراب، وقد فسر بذلك وكيع وعبدالرحمن بن الأسود وهلال بن يساف. ويؤيده حديث: أيعجز أحدكم أن يجامع أهله في كل يوم جمعة؟ فإن له أجرين اثنين: أجر غسله، وأجر امرأته. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة، ذكره السيوطي. وقيل: أراد غسل غيره أي حمله على الاغتسال، وأوجب الغسل عليه. وإذا وطىء امرأته فقد حملها على الاغتسال وأحوجها إليه. وقيل: معناه اغتسل بعد الجماع للجنابة، ثم اغتسل للجمعة، فكرر لهذا المعنى. وقيل: معناه بالغ في غسل الأعضاء إسباغا وتثليثا. وقيل: معناه بالغ في غسل الرأس، فالتشديد للمبالغة، كما في قطع وكسر؛ لأن العرب لهم لمم وشعور، وفي غسلها كلفة، فأفرد ذكر غسل الرأس لذلك. وقيل: هما بمعنى واحد، والتكرار التأكيد. وأما المخفف، وقد قال النووي: الأرجح عند المحققين التخفيف، فقيل في معناه كالمشدد أي وطىء صاحبته، وأصابها من غسل امرأته بالتخفيف والتشديد إذا جامعها، قاله الزمخشري، وحكاه صاحب النهاية وغيره أيضا. وقيل: معناه غسل الرأس واغتسل أي فضل سائر الجسد، وأفراد الرأس بالذكر لما فيه من المؤنة لأجل الشعر، أو لأنهم كانوا يجعلون فيه الخطمي ونحوه، وكانوا يغسلونه أولا ثم يغتسلون. ويؤيده ما في رواية لأحمد وأبي داود من هذا الحديث: من غسل رأسه يوم الجمعة واغتسل. ويؤيده أيضا ما روى البخاري
وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة: أجر صيامها وقيامها)).

(6/375)


وأحمد وابن خزيمة بإسناد صحيح إلى طاووس قال: قلت لابن عباس: زعموا أن رسول الله ? قال: اغتسلوا يوم الجمعة واغسلوا رؤسكم وإن لم تكونوا جنبا-الحديث. ويؤيده أيضا ما روى ابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعا: إذا كان يوم الجمعة فاغتسل الرجل وغسل رأسه-الحديث. قال المنذري: في هذا الحديث دليل لمن فسر قوله غسل بغسل الرأس. وقيل: المراد غسل أعضائه للوضوء ثم اغتسل للجمعة. وقيل: المراد غسل ثيابه واغتسل في جسده. وقيل: هما بمعنى، والتكرار للتوكيد، والمختار أن المشدد بمعنى جامع امرأته، أو بمعنى غسل أي أحوجها إلى الغسل، وأوجبه عليها بالجماع، والمخفف بمعنى غسل رأسه. (وبكر) بالتشديد على المشهور، وجوز التخفيف أي راح في أول الوقت. (وابتكر) قيل: معناهما واحد كرره للتأكيد والمبالغة، وليس المخالفة بين اللفظين لاختلاف المعنيين، وبه جزم ابن العربي. وقيل: "بكر" بمعنى أتى الصلاة في أول وقتها، وكل من أسرع إلى شيء فقد بكر إليه. و"ابتكر" أي أدرك أول الخطبة وأول كل شيء باكورته، وابتكر الرجل إذا أكل بأكورة الفاكهة. وقيل: "بكر" بمعنى تصدق قبل خروجه، قاله ابن الأنباري، وتأول في ذلك ما روى في الحديث باكروا بالصدقة، فإن البلاء لا يتخطاها. والراجح ـ كما صرح به العراقي ـ أن "بكر" بمعنى راح في أول الوقت، "وابتكر" بمعنى أدرك أول الخطبة. (ومشى) أي إلى الجمعة على قدميه. (ولم يركب) قيل: هما بمعنى جمع بينهما تأكيدا ودفعا لما يتوهم من حمل المشي على مجرد الذهاب ولو راكبا، أو حمله على تحقق المشي ولو في بعض الطريق. (ودنا من الإمام) أي قرب منه. (واستمع) أي أصغى. وفيه أنه لا بد من الأمرين جميعا، فلو استمع وهو بعيد، أو قرب ولم يستمع، لم يحصل له هذا الأجر. (ولم يلغ) أي لم يتكلم، فإن الكلام حال الخطبة لغو، قاله النووي. أو استمع الخطبة ولم يشتغل بغيرها، قاله الأزهري. (كان له بكل خطوة) بضم المعجمة وتفتح، وبعد ما بين القدمين.

(6/376)


قال السندي: أي ذهابا وإيابا أو ذهابا فقط أو بكل خطوة من خطوات ذلك اليوم. (عمل سنة) أي ثواب أعمالها. (أجر صيامها وقيامها) بدل من "عمل سنة". وقد ورد في المشي إلى مطلق الصلاة رفع درجة في كل خطوة، وكتابة حسنة، ومحو سيئة. أما ثبوت أجر عمل سنة، كما في هذا الحديث، فهو من خصائص الجمعة. قال السندي: والظاهر أن المراد أنه يحصل له أجر من استوعب السنة بالصيام والقيام لو كان، ولا يتوقف ذلك على أن يتحقق الاستيعاب من أحد. ثم الظاهر أن المراد في هذا وأمثاله ثبوت أصل أجر الأعمال لا مع المضاعفات المعلومة بالنصوص. ويحتمل أن يكون مع المضاعفات، وفي الحديث مشروعية الغسل يوم الجمعة،
رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه.
1402-(10) وعن عبدالله بن سلام، قال: قال رسول الله ?: ((ما على أحدكم إن وجد أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته)).

(6/377)


ومشروعية التبكير والمشي على الأقدام، والدنو من الإمام والاستماع وترك اللغو، وأن الجمع بين هذه الأمور سبب لاستحقاق ذلك الثواب الجزيل. (رواه الترمذي) وحسنه. وقال النووي: إسناده جيد. ولم يذكر الترمذي "ومشى ولم يركب". (أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. (والنسائي وابن ماجه) وأخرجه أيضا أحمد (ج4ص8، 9، 10، 104) والطيالسي والدارمي وابن سعد في الطبقات (ج5ص375)، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم (ج1ص282) وصححه والبيهقي (ج3ص227- 229)، ورواه الطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس، قاله المنذري في الترغيب. وقال الشوكاني: وقد رواه الطبراني بإسناد، قال العراقي: حسن، عن أوس المذكور، ورواه أحمد في مسنده (ج2ص209)، والحاكم (ج1ص282) والبيهقي (ج3ص227) عنه عن عبدالله بن عمرو عن النبي ?-انتهى. قلت: في سنده عثمان بن خالد الشامي. قال الحاكم: مجهول، ووافقه الذهبي. وأعل أيضا البيهقي رواية عثمان هذه بزيادة عبدالله بن عمرو في الإسناد، وبالاختلاف في المتن، وقد رد تعليل من أعله بذلك العلامة الشيخ أحمد شاكر في شرحه للمسند (ج11ص176)، والحافظ في لسان الميزان (ج4ص159)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص171)، والمنذري في الترغيب، وقالا: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح.

(6/378)


1402- قوله: (ما على أحدكم) ما نافية أي ليس على أحدكم حرج من حيث الدنيا، يريد الترغيب فيه بأنه شيء ليس فيه حرج وتكليف على فاعله، وهو خير إذ لا يفوته الإنسان. وقال الزرقاني: استفهام يتضمن التنبيه والتوبيخ يقال لمن قصر في شيء، أو غفل عنه ما عليه لو فعل كذا، أي يلحقه من ضرر أو عار أو نحو ذلك-انتهى. وقال القاري: قيل "ما" موصولة. وقال الطيبي: ما، بمعنى ليس، واسمه محذوف، و"على أحدكم" خبره، وقوله: (إن وجد) أي سعة يقدر بها على تحصيل زائد على ملبوس مهنته وهذه شرطية معترضة وقوله: (أن يتخذ) متعلق بالاسم المحذوف، معمول له ويجوز أن يتعلق "على" بالمحذوف، والخبر "أن يتخذ" كقوله تعالى: ?ليس على الأعمى حرج? إلى قوله: ?أن تأكلوا من بيوتكم? [24: 61] والمعنى ليس على أحد حرج أي نقص يخل بزهده في أن يتخذ. (ثوبين) قميصا ورداء أو جبة أو إزارا ورداء. (ليوم الجمعة) أي يلبسهما فيه وفي أمثاله. من العيد وغيره. وفيه أن ذلك ليس من شيم المتقين لو لا تعظيم الجمعة، ومراعاة شعائر الإسلام. (سوى ثوبي مهنته) بفتح الميم أي بذلته وخدمته أي غير الثوبين الذين يلبسهما في أشغاله، وكسر الميم جائز
رواه ابن ماجه.

(6/379)


قياسا، كالجلسة والخدمة. فجوزه بعضهم نظرا على ذلك، ومنعه الآخرون وعدوه خطأ نظرا إلى السماع. قال الزمخشري في الفائق: روي بكسر الميم وفتحها، والكسر عند الإثبات خطأ. وقال الأصمعي: بالفتح الخدمة، ولا يقال بالكسر، وكان القياس، لو جيء بالكسر، أن يكون كالجلسة والخدمة إلا أنه جاء على فعلة. وقال ابن عبدالبر: المهنة بفتح الميم الخدمة. وأجاز غير الأصمعي كسر الميم، ذكره الزرقاني. وقال المجد في القاموس: المهنة بالكسر والفتح والتحريك وككلمة الحذق بالخدمة والعمل، مهنة كنصره ومنعه مهنا ومهنة ويكسر-انتهى. ويقال: هو في مهنة أهله أي في خدمتهم، وخرج في ثياب مهنته، أي في ثياب خدمته التي يلبسها في أشغاله. والحديث يدل على استحباب لبس الثياب الحسنة يوم الجمعة، وتخصيصه بملبوس غير ملبوس سائر الأيام، قال ابن عبدالبر: وفيه الندب لمن وجد سعة أن يتخذ الثياب الحسان للجمع والأعياد ويتجمل بها، وكان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، ويعتم ويتطيب ويلبس أحسن ما يجد في الجمعة والعيد. وفيه الأسوة الحسنة، وكان يأمر بالطيب والسواك والدهن-انتهى. (رواه ابن ماجه) وكذا البيهقي (ج3ص242) كلاهما من طريق عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب عن موسى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن عبدالله بن سلام أنه سمع رسول الله ? يقول على المنبر في يوم الجمعة: ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته. قال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات-انتهى. قلت: هو منقطع؛ لأن محمد بن يحيى بن حبان لم يدرك عبدالله بن سلام، فإن ابن حبان مات سنة إحدى وعشرين ومائة، وهو ابن أربع وسبعين سنة. وعلى هذا فكانت ولادته سنة سبع وأربعين. ومات عبدالله بن سلام قبل ولادته سنة ثلاث وأربعين. ثم أخرجه ابن ماجه من طريق آخر قال: حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة ثنا شيخ لنا عن عبدالحميد بن جعفر عن محمد بن يحيى بن حبان عن يوسف بن عبدالله بن سلام عن أبيه

(6/380)


قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك، وفيه رجل مجهول. قال المزي: هذا الشيخ هو محمد بن عمر الواقدي-انتهى. والواقدي متروك. وأخرجه أبوداود من ثلاثة وجوه: الأول طريق يحيى ابن سعيد الأنصاري عن محمد بن يحيى بن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما على أحدكم الخ، وهذا مرسل، لأن ابن حبان تابعي. والثاني طريق عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب عن موسى بن سعد عن ابن حبان عن ابن سلام أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الخ. وهذا يحتمل أن يكون المراد بابن سلام عبدالله بن سلام، وبه جزم الحافظ في التلخيص، وفي التهذيب في باب من نسب إلى أبيه أو جده أو أمه أو عمه أو نحو ذلك. ويحتمل أن يكون المراد به يوسف بن عبدالله بن سلام، كما يدل عليه الطريق الآتي، فيكون الحديث من مسند يوسف بن عبدالله بن سلام لا من مسند عبدالله بن سلام، والوجه الثالث طريق يحيى بن أيوب
1403-(11) رواه مالك عن يحيى بن سعيد.
1404-(12) وعن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احضروا الذكر وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها)).
عن ابن أبي حبيب عن موسى بن سعد عن يوسف بن عبدالله بن سلام عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا صريح في أن الحديث من مسند يوسف بن عبدالله بن سلام. وذكر البخاري أن يوسف له صحبة. فالحديث بهذا الطريق موصول، لكن قال المزي في الأطراف: هو أي كونه من مسند عبدالله بن سلام أشبه بالصواب.

(6/381)


1403- (ورواه مالك) في الموطأ، وكذا أبوداود والبيهقي وغيرهم. (عن يحيى بن سعيد) أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما على أحدكم الخ، قال الحافظ في الفتح (ج4ص483): وصله ابن عبدالبر في التمهيد من طريق يحيى بن سعيد الأموي عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة عن عائشة. وفي إسناده نظر، فقد رواه أبوداود من طريق عمرو بن الحارث وسعيد بن منصور عن ابن عيينة، وعبدالرزاق عن النوري ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن جبان مرسلا. ووصله أبوداود وابن ماجه من وجه آخر عن محمد بن يحيى عن عبدالله بن سلام. ولحديث عائشة طريق عند ابن خزيمة وابن ماجه-انتهى. قال الزرقاني: ويقال لا نظر. (أي في إسناد ابن عبدالبر)؛ لأن الأموي الراوي عن الأنصاري ثقة، فأي مانع من كون الأنصاري له فيه شيخان: عمرة عن عائشة موصولا، ومحمد بن يحيى بن حبان مرسلا-انتهى. ويحيى بن سعيد الأنصاري المذكور هو يحيى بن قيس الأنصاري المدني ثقة ثبت من صغار التابعين. وسيأتي البسط في ترجمته في أوائل الجنائز.

(6/382)


1404- قوله: (احضروا الذكر) أي الخطبة المشتملة على ذكر الله وتذكير الأنام. (وادنوا) أي اقربوا قدر ما أمكن. (من الإمام) يعني إذا لم يكن هناك مانع من القرب منه. وهذا إشارة إلى التبكير إلى الجمعة أي التعجيل في الرواح إليها. (فإن الرجل لا يزال يتباعد) أي يتأخر في الحضور إلى الجمعة فيتباعد من الإمام. وقيل: أي عن مواطن الخيرات بلا عذر. (حتى يؤخر) على صيغة المجهول. (في الجنة) أي في دخولها أو في درجاتها. (وإن دخلها) قال الطيبي: أي لا يزال الرجل يتباعد عن استماع الخطبة، وعن الصف الأول الذي هو مقام المقربين حتى يؤخر إلى آخر صف المتسفلين، وفيه توهين أمر المتأخرين وتسفيه رأيهم حيث وضعوا أنفسهم من أعالي الأمور إلى سفافها. وفي قوله: "وإن دخلها، تعريض بأن الداخل قنع من الجنة ومن المقامات العالية والدرجات الرفيعة بمجرد الدخول-انتهى. وقال الشوكاني: وفيه أن التأخر عن الإمام يوم الجمعة من أسباب
رواه أبوداود.
1405-(13) وعن معاذ بن أنس الجهني، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تخطى رقاب الناس

(6/383)


التأخر عن دخول الجنة - جعلنا الله تعالى من المتقدمين في دخولها-. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد كلاهما عن علي بن عبدالله المديني نا معاذ بن هشام الدستوائي قال: وجدت في كتاب أبي بخط يده ولم أسمعه منه، ثنا قتادة عن يحيى بن مالك عن سمرة بن جندب. قال الشوكاني: قال المنذري: في إسناده انقطاع-انتهى. وسببه أن معاذا لم يسمع هذا الحديث من أبيه، بل أخذه منه على سبيل الوجادة، وهي من أنواع التحمل، وقد تقدم بيان حكمها، وأخرجه الحاكم (ج1ص289) من هذا الطريق. وصرح بسماع معاذ عن أبيه، وأخرجه البيهقي (ج3ص238) من رواية أبي داود، ثم ذكر رواية الحاكم واعترض عليها، فقال: لا أحسبه إلا واهما في ذكر سماع معاذ عن أبيه هو أو شيخه-انتهى. والحديث ذكره المنذري في الترغيب (ج1ص221)، قال: وروي عن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احضروا الجمعة، وادنوا من الإمام فإن الرجل ليكون من أهل الجنة فيتأخر عن الجمعة فيؤخر عن الجنة، وأنه لمن أهلها. رواه الطبراني والأصبهاني وغيرهما، وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص177) إلى الطبراني في الصغير، وقال: وفيه الحكم بن عبدالملك، وهو ضعيف. قلت: وأخرجه من طريقه البيهقي أيضا.

(6/384)


1405- قوله: (وعن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه) كذا في جميع النسخ، وهو سهو؛ لأن أنسا والد معاذ ليس له صحبة ولا رواية، وإن ذكره ابن مندة في الصحابة كما يظهر من تجريد الذهبي (ج1ص33) وذكره خليفة فيمن نزل الشام من الصحابة. وما وقع في بعض الروايات مما يدل على كونه صحابيا له رواية فهو خطأ. وارجع إلى الإصابة (ج1ص74، 75). فالصواب حذف قوله: عن أبيه أو أن يقول عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه، كما في الترمذي وابن ماجه، وسهل بن معاذ بن أنس الجهني تابعي شامي نزل مصر. قال الحافظ: لا بأس به إلا في روايات زبان بن فائد عنه، وهذا الحديث من رواية زبان عنه. وقال ابن معين. ضعيف. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: لا يعتبر بحديثه ما كان من رواية زبان بن فائد عنه، وذكره في الضعفاء، وقال: منكر الحديث جدا، فلست أدري أوقع التخليط في حديثه منه أو من زبان؟ فإن كان من أحدهما فالأخبار التي رواها ساقطة، وإنما اشتبه هذا لأن راويها عن سهل زبان إلا الشيء بعد الشيء، وزبان ليس بشيء. وقال العجلي: مصري تابعي ثقة. كذا ي التهذيب (ج4ص258، 259)، وأما والده معاذ بن أنس فقد تقدم ترجمته. (من تخطى) أي تجاوز. (رقاب الناس) قال القاضي: أي بالخطو عليها. وقال في القاموس: تخطى الناس واختطاهم ركبهم
يوم الجمعة، اتخذ جسرا إلى جهنم )).

(6/385)


وجاوزهم. (يوم الجمعة) ظاهر التقييد بيوم الجمعة أن الكراهة مختصة به. ويحتمل أن يكون التقييد خرج مخرج الغالب لاختصاص الجمعة بكثرة الناس بخلاف سائر الصلوات فلا يختص ذلك بالجمعة، بل يكون حكم سائر الصلوات حكمها. ويؤيد ذلك التعليل بالأذية، كما في بعض الروايات. وظاهر هذا التعليل أن ذلك يجري في مجالس العلم وغيرها. ويؤيده أيضا ما أخرجه الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي أمامة مرفوعا: من تخطى حلق قوم بغير إذنهم فهو عاص، لكن في إسناده جعفر بن الزبير، وقد كذبه شعبة وتركه الناس، وقال العيني: تقييد التخطي بيوم الجمعة هو المذكور في الأحاديث، وكذلك قيده الترمذي في حكايته عن أهل العلم، وكذلك قيده الشافعية في كتب فقههم في أبواب الجمعة، وكذلك هو عبارة الشافعي في الأم، إذ قال: وأكره تخطى رقاب الناس يوم الجمعة لما فيه من الأذى وسوء الأدب-انتهى. لكن هذا التعليل يشمل الجمعة وغيرها سائر الصلوات في المساجد وغيرها، وسائر المجامع من حلق العلم وسماع الحديث ومجالس الوعظ، فيحمل التقييد بالجمعة على أنه خرج مخرج الغالب لاختصاص الجمعة بمكان الخطبة وكثرة الناس بخلاف غيره. ويؤيد ذلك ما رواه أبومنصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس فذكره. (اتخذ) على بناء المفعول أي يجعل يوم القيامة (جسرا) بفتح الجيم وسكون المهملة أي معبرا يمر عليه من يساق. (إلى جهنم) مجازاة له بمثل عمله. ويجوز بناءه للفاعل أي اتخذ لنفسه بصنيعه ذلك طريقا يؤديه إلى جهنم لما فيه من إيذاء الناس واحتقارهم. فكأنه جسرا اتخذه إلى جهنم، أو المعنى اتخذ نفسه جسرا الأهل جهنم، إلى جهنم بذلك العمل، والثالث أبعد الوجوه. وقال الطيبي: والشيخ التوربشتي ضعف المبني للمفعول رواية ودراية-انتهى. والحديث يدل على كراهة التخطي يوم الجمعة. واختلف في حكمه أنه للتحريم أو لا، فقال الترمذي حاكيا عن أهل العلم أنهم كرهوا ذلك وشددوا فيه. قال العيني: المتقدمون

(6/386)


يطلقون الكراهة. ويريدون التحريم. وحكى الشيخ أبوحامد في تعليقه عن نص الشافعي التصريح بتحريمه، وصرح النووي في شرح المهذب أنه مكروه بكراهة تنزيه. وقال في زوائد الروضة: إن المختار تحريمه للأحاديث الصحيحة، واقتصر أصحاب أحمد على الكراهة فقط-انتهى كلام العيني. ويكره عند المالكية لغير فرجة قبل جلوس الإمام على المنبر، ويحرم بعده ولو لفرجة، ثم اختلفوا في أنه هل يستثنى أحد من كراهة التخطي أو لا، فقال الحنفية: يجوز التخطي بشرطين: عدم الإيذاء وعدم خروج الإمام؛ لأن الإيذاء حرام والتخطي عمل، والعمل بعد خروج الإمام حرام، فلا يرتكبه لفضيلة الدنو من الإمام، بل يستقر في موضعه من المسجد، ذكره الطحطاوي على المراقى. وقد تقدم مذهب المالكية. وقال الشافعية إنه مكروه إلا أن يكون قدامه فرجة لا يصلها إلا بالتخطي، فلا يكره حينئذ. وقال ابن المنذر: بكراهته مطلقا، ونقل ذلك عن سلمان الفارسي وأبي هريرة وكعب وابن المسيب وعطاء وأحمد بن حنبل. وفي فقه الحنابلة أنه يستثنى الإمام والمؤذن
رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غريب.
1406-(14) وعن معاذ بن أنس، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحبوة

(6/387)


والتخطي إلى الفرجة. وقال العراقي: وقد استثنى من التحريم أو الكراهة الإمام أو من كان بين يديه فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي. وهكذا أطلق النووي في الروضة، وقيد ذلك في شرح المهذب، فقال: إذا لم يجد طريقا إلى المنبر والمحراب لا بالتخطي لم يكره؛ لأنه ضرورة. وروى نحو ذلك عن الشافعي، وحديث عقبة بن الحارث عند البخاري والنسائي قال: صليت وراء رسول الله ? بالمدينة العصر، ثم قام مسرعا فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه-الحديث، يدل على جواز التخطي للحاجة في غير الجمعة. فمن خصص الكراهة بالجمعة فلا معارضة بينه وبين أحاديث الباب عنده. ومن عمم الكراهة لوجود العلة المذكورة سابقا في الجمعة وغيرها فهو محتاج إلى الإعتذار عنه. وقد خص الكراهة بعضهم بغير من يتبرك الناس بمروره، ويسرهم ذلك، ولا يتأذون لزوال علة الكراهة التي هي التأذي، كذا في النيل. قلت: والراجح عندي أنه يحرم التخطي مطلقا لإطلاق الأحاديث المقتضية للكراهة إلا لمن يتبرك الناس بمروره، ويسرهم ذلك، ولا يتأذون لحديث عقبة بن الحارث المذكور. (رواه الترمذي) وابن ماجه أيضا كلاهما من طريق رشدين بن سعد، وهو صالح عابد سيء الحفظ، عن زبان بن فائد، وهو ضعيف الحديث مع صلاحه وعبادته، ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما. وقال ابن حبان: منكر الحديث جدا يتفرد عن سهل بن معاذ بنسخة كأنها موضوعة، لا يحتج به عن سهل بن معاذ. وقد تقدم أنه لا يعتبر بحديثه إذا كان من رواية زبان عنه. ورواه أحمد في مسنده (ج3ص437) وابن عبدالحكم في فتوح مصر. (298) كلاهما من طريق ابن لهيعة عن زبان. وفي الباب عن جماعة من الصحابة ذكر أحاديثهم الشوكاني في النيل (ج3ص128) والهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص178- 179) مع الكلام عليها وفي أكثرها ضعف. وأقوى ما ورد في ذلك حديث عبدالله بن بسر قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، والنبي ? يخطب فقال له رسول الله ? : اجلس فقد آذيت. أخرجه أحمد

(6/388)


وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3ص231) وسكت عنه أبوداود والمنذري، وصححه ابن خزيمة وغيرهم.
1406- قوله: (نهى عن الحبوة) مثلثة الحاء، اسم من الاحتباء. قال القاضي عياض في المشارق (ج1ص176- 177): الاحتباء هو أن ينصب الرجل ساقيه ويدير عليهما ثوبه، أو يعقد يديه على ركبتيه متعمدا على ذلك-انتهى. وقال التوربشتي في شرح المصابيح: الحبوة بضم الحاء وكسرها الاسم من الاحتباء، وهو أن يجمع الرجل ظهره وساقيه بثوب وقد يحتبى بيديه. ووجدت الرواية بكسر الحاء، والحبوة بالفتح المرة من الاحتباء، ولا معنى لها ههنا ووجه النهي-والله اعلم- هو أنها مجلبة للنوم فيلهى عن الخطبة، ثم أنها هيئة
يوم الجمعة والإمام يخطب)).

(6/389)


لا يكون معها تمكن، فربما تفضي إلى انتفاض الطهارة فيمنعه الاشتغال بالطهارة عن استماع الخطبة وحضور الذكر إن لم تفته الصلاة، مع ما يتوقع منه من الافتتان في الصلاة لغلبة الحياء ممن يخلو عن علم يسوسه وورع يحجزه-انتهى. (يوم الجمعة، والإمام يخطب) قال القاري: هو قيد احترازي، والأول واقعي اتفاقي أو تأكيدي-انتهى. وقال الشوكاني: وقد ورد النهي عن الاحتباء مطلقا غير مقيد بحال الخطبة ولا بيوم الجمعة؛ لأنه مظنة؛ لأنكشاف عورة من كان عليه ثوب واحد. وقد اختلف أهل العلم في كراهة الاحتباء يوم الجمعة، فقال بالكراهة قوم من أهل العلم، كما قال الترمذي، منهم عبادة بن نسي التابعي. قال العراقي:وورد عن مكحول وعطاء والحسن أنهم كانوا يكرهون أن يحتبوا، والإمام يخطب يوم الجمعة. رواه ابن أبي شيبة في المصنف، قال: ولكنه قد اختلف عن الثلاثة، فنقل عنهم القول بالكراهة، ونقل عنهم عدمها. واستدل من قال بالكراهة بحديث معاذ بن أنس، وبحديث عبدالله بن عمرو بن العاص عند ابن ماجه، وفي سنده بقية بن الوليد، وهو مدلس، وقد رواه بالعنعنة عن شيخه عبدالله بن واقد. قال العراقي: لعله من شيوخه المجهولين. وقال الحافظ في التقريب: عبدالله بن واقد شيخ لبقية مجهول، يحتمل أن يكون الهروي يعني عبدالله بن واقد بن الحارث الحنفي الهروي، وهو ثقة موصوف بخصال من الخير، وبحديث جابر عند ابن عدي في الكامل، وفي إسناده عبدالله بن ميمون القداح، وهو ذاهب الحديث كما قال البخاري. وقال الشوكاني: وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا. وذهب أكثر أهل العلم- كما قال العراقي-إلى عدم الكراهة، فروى أبوداود والطحاوي والبيهقي (ج3ص235) عن يعلى بن شداد قال: شهدت مع معاوية فتح بيت المقدس فجمع بنا، فإذا جل من في المسجد أصحاب النبي ?، فرأيتهم محتبين والإمام يخطب. روى الطحاوي وابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه كان يحتبى يوم الجمعة والإمام يخطب. وذكر أبوداود عن أنس بن مالك وشريح

(6/390)


القاضي وصعصعة بن صوحان التابعي المخضرم وابن المسيب والنخعي ومكحول وإسماعيل بن محمد بن سعد ونعيم بن سلامة أنهم كانوا يحتبون والإمام يخطب، قال أبوداود ولم يبلغني أن أحدا كرهها إلا عبادة ابن نسي. وقال ابن عبدالبر: ولم يرو عن أحد من الصحابة خلافه، ولا روي عن أحد من التابعين كراهة الاحتباء إلا وقد روى عنه جوازه-انتهى. قلت: وإلى عدم الكراهة ذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، واعتذر هؤلاء عن أحاديث الباب بوجوه: منها أنها كلها ضعيفة. وفيه أن حديث معاذ قد حسنه الترمذي وسكت عليه أبوداود، وصححه الحاكم، وله شاهدان ضعيفان من حديث عبدالله بن عمرو وحديث جابر، كما تقدم. ومنها أنها منسوخة لعمل جل الصحابة بخلافها، وإليه يشير صنيع أبي داود حيث روى حديث يعلى المتقدم بعد حديث معاذ بن أنس، وذكر عن ابن عمر وغيره أنهم كانوا يحتبون يوم الجمعة، والإمام يخطب إلى آخر ما قال. وذكر
رواه الترمذي، وأبوداود.
1407-(15) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا نعس أحدكم يوم الجمعة، فليتحول

(6/391)


الطحاوي في مشكل الآثار: أن النهي محمول على إحداث الحبوة واستينافها في حالة الخطبة؛ لأنه عمل في الخطبة واشتغال بغير الخطبة وإقبال على ما سواها. وأما الحبوة التي كان الصحابة يفعلونها فكانت قبل الخطبة، أي ما كانوا يستأنفونها وإمامهم يخطب، بل كانوا يستعملونها قبل الخطبة. وقيل: النهي مختص بمن يجلب الاحتباء النوم له. وقال شيخنا في شرح الترمذي بعد ذكر الجواب الأول: أحاديث الباب، وإن كان ضعيفة، لكن يقوي بعضها بعضا ولا شك في أن الحبوة جالبة لنوم، فالأولى أن يحترز عنها يوم الجمعة في حال الخطبة. هذا ما عندي والله أعلم بالصواب. (رواه الترمذي وأبوداود) وأخرجه أيضا أحمد والحاكم (ج1ص289) والبيهقي (ج3ص235) وابن عبدالحكم في فتوح مصر (ص297) كلهم من طريق أبي مرحوم عبدالرحيم بن ميمون عن سهل بن معاذ بن أنس عن معاذ. والحديث قد حسنه الترمذي وسكت عليه أبوداود وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وقال المنذري بعد نقل تحسين الترمذي: وسهل بن معاذ ضعفه يحيى بن معين وتكلم فيه غيره، وأبومرحوم ضعفه ابن معين. وقال أبوحاتم الرازي: لا يحتج به-انتهى. قلت: قد تقدم أن سهل بن معاذ لا بأس به إلا في روايات زبان عنه، وهذا ليس من رواية زبان عنه، وأبومرحوم قد ذكره ابن حبان في الثقات. وقال النسائي: أرجو أنه لا بأس به. وقال ابن يونس: زاهد يعرف بالإجابة والفضل، فالظاهر أن الحديث لا ينحط عن درجة الحسن، لا سيما وقد تأيد بالشاهدين المذكورين.

(6/392)


1407- قوله: (إذا نعس) بفتح العين من باب نصر ومنع، والنعاس الوسن وأول النوم، وهي ريح لطيفة تأتي من قبل الدماغ تغطي على العين ولا تصل إلى القلب، فإذا وصله كان نوما. (أحدكم) في مجلسه. (يوم الجمعة) أي وهو في المسجد، كما في رواية أبي داود وأحمد (ج2ص32). قال الشوكاني: لم يرد بيوم الجمعة جميع اليوم، بل المراد به إذا كان في المسجد ينتظر صلاة الجمعة، كما في رواية أحمد في مسنده (ج2ص32) بلفظ: إذا نعس أحدكم في المسجد يوم الجمعة، وسواء فيه حال الخطبة أو قبلها، لكن حال الخطبة أكثر-انتهى. وقد استثنى الحنفية حال الخطبة، فقالوا: التحول في حالة الخطبة ممنوع؛ لأن العمل في الخطبة منهي عنه. فلا يدخل وقت الخطبة في عموم الحديث. قلت: ظاهر الحديث الإطلاق، ولذلك بوب عليه أبوداود باب الرجل ينعس والإمام يخطب. (فليتحول) أي فليتنقل؛ لأنه إذا تحول حصل له من الحركة ما ينفي الفتور المقتضي للنوم. قيل: فإن لم يجد
من مجلسه ذلك)). رواه الترمذي.
?الفصل الثالث?
1408-(16) عن نافع، قال: سمعت ابن عمر يقول: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم الرجل الرجل من مقعده ويجلس فيه.

(6/393)


في الصفوف مكانا يتحول إليه فليقم ثم يجلس. وقيل: يتحول إلى مكان صاحبه ويتحول صاحبه إلى مكانه. (من مجلسه ذلك) أي إلى غيره، كما في رواية أحمد وأبي داود. قال الشوكاني: والحكمة في الأمر بالتحول أن الحركة تذهب النعاس. ويحتمل أن الحكمة فيه انتقاله من المكان الذي أصابته فيه الغفلة بنومه وإن كان النائم لا حرج عليه، فقد أمر النبي ? في قصة نومهم عن صلاة الصبح في الوادي بالانتقال منه، وأيضا من جلس ينتظر الصلاة فهو في صلاة، والنعاس في الصلاة من الشيطان، فربما كان الأمر بالتحول لإذهاب ما هو منسوب إلى الشيطان من حيث غفلة الجالس في المسجد عن الذكر أو سماع الخطبة أو ما فيه منفعة. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا أحمد (ج2ص22، 32، 135) وأبوداود وابن حبان في صحيحه، والبيهقي (ج3ص237). وقد صححه الترمذي وسكت عليه أبوداود، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. وفي إسناده محمد بن إسحاق، وهو مدلس، لكن قدر صرح بالتحدث في رواية أحمد (ج2ص135) وفي الباب عن سمرة عند البزار والطبراني في الكبير والبيهقي (ج3ص238) مرفوعا بلفظ: إذا نعس أحدكم يوم الجمعة فليتحول إلى مكان صاحبه، ويتحول صاحبه إلى مكانه. قيل لإسماعيل. (راوي الحديث عن الحسن عن سمرة) والإمام يخطب، قال: نعم-انتهى. قال الهيثمي: وفيه إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف. وقال البزار: إسماعيل لا يتابع على حديثه-انتهى. وفي سماع الحسن عن سمرة خلاف قد تقدم.

(6/394)


1408- قوله: (نهى رسول الله ? أن يقيم الرجل الرجل) أي نهى عن إقامة الرجل الرجل، فإن مصدرية. (من مقعده) بفتح الميم أي من موضع قعود الرجل الثاني. (ويجلس فيه) أي في مقعده النصب عطفا على يقيم، أي وأن يجلس. والمعنى أن كل واحد منهما منهي عنه. ولو صحت الرواية بالرفع لكان الكل المجموعي منهيا عنه. وظاهر النهي التحريم فلا يصرف عنه إلا بدليل، فلا يجوز أن يقيم أحدا من مكانه ويجلس فيه؛ لأن من سبق إلى مباح فهو أحق به. قال ابن حجر: قوله "يجلس" بالنصب عطف على يقيم، فكل منهي عنه على حدته، وروي بالرفع فالجملة حالية، والنهي عن الجمع حتى لو أقامه ولم يقعد هو في مكانه لم يرتكب النهي. والوجه هو الرواية الأولى وما أفادته، لأن العلة الإيذاء، وهو حاصل بكل على الإنفراد فحرم؛ لأن ما سبق إلى المباح فهو
قيل لنافع: في الجمعة؟ قال: في الجمعة وغيرها)). متفق عليه.
1409-(17) وعن عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يحضر الجمعة ثلاثة نفر: فرجل حضرها بلغو، فذلك حظه

(6/395)


أحق به بنص الحديث الصحيح-انتهى. قلت: محط الإيذاء إنما هو الإقامة منه، وذكر الجلوس للسبب العادي، ولو قام الجالس باختياره وأجلس غيره فلا كراهة في جلوس غيره. وأما ما روى أحمد ومسلم من امتناع ابن عمر عن الجلوس في مجلس من قام له برضاه فهو محمول على أنه كان تورعا منه؛ لأنه ربما استحيا منه إنسان فقام له بدون طيبة من نفسه لكن الظاهر أن من فعل ذلك فقد أسقط حق نفسه، وتجويز عدم طيبة نفسه بذلك خلاف الظاهر. ولو بعث من يقعد له في مكان ليقوم عنه إذا جاء هو جاز أيضا من غير كراهة. ولو فرش له نحو سجادة فلغيره تنحيتها، والصلاة مكانها؛ لأنه لا حرمة لها، ولأن السبق بالأجسام لا بما يفرش. وقيل: لا يجوز لأنه سبق إليه فصار كحجر الموات. (قيل لنافع) هو مولى ابن عمر راوي الحديث عن ابن عمر، والقائل لنافع هو ابن جريج. (في الجمعة) أي هذا النهي في الجمعة خاصة أو مطلقا. (قال) أي نافع. (في الجمعة وغيرها) يعني النهي عام في حق سائر الأيام في مواضع الصلوات، وقد ورد التقييد بيوم الجمعة في حديث جابر آخر أحاديث الفصل الأول، وتقدم الكلام عليه هناك، وقد بوب البخاري على حديث ابن عمر المطلق "باب لا يقيم الرجل أخاه يوم الجمعة ويقعد في مكانه". قال الحافظ: وكأن البخاري اغتنى عنه. (أي عن حديث جابر المقيد بيوم الجمعة) بعموم حديث ابن عمر المذكور في الباب. وبالعموم المذكور احتج نافع حين نافع حين سأله ابن جريج عن الجمعة-انتهى. وبالنظر إلى عمومه أورده المصنف في الجمعة، واستدل به على التبكير، كما تقدم بيان وجه المناسبة في شرح حديث جابر. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجمعة والاستيذان، ومسلم في الاستيذان، وأخرجه أيضا أحمد في مواضع من مسنده، والبيهقي (ج3ص232).

(6/396)


1409- قوله: (ثلاثة نفر) يعني ثلاثة أصناف من الرجال. (فرجل) الفاء تفصيلية؛ لأن التقسيم حاصر، فإن حاضري الجمعة ثلاثة: فمن رجل لاغ مؤز يتخطى رقاب الناس، فحظه من الحضور اللغو والأذى، ومن ثان طالب حظه غير مؤذ، فليس عليه ولا له إلا أن يتفضل الله بكرمه، فيسعف مطلوبة، ومن ثالث طالب رضا الله عنه. متحر احترام الخلق فهو هو، ذكره الطيبي. (حضرها بلغو) بباء الجر في أوله، أي حضورا متلبسا بكلام عبث أو فعل باطل حال الخطبة. وفي بعض النسخ: يلغو على المضارع، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج10ص265) وهكذا وقع في رواية أحمد، وفي بعض النسخ من السنن الكبرى للبيهقي. وعلى هذا فيكون حالا من الفاعل، أي يعبث ويتكلم بما لا يعينه. (فذلك) أي للغو. وفي أبي داود: وهو. (حظه) أي
منها.ورجل حضرها بدعاء، فهو رجل دعا الله، إن شاء أعطاه وإن شاء منعه. ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم، ولم يؤذ أحدا، فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام، وذلك بأن الله يقول: ?من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها? رواه أبوداود.
1410-(18) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب، فهو كمثل الحمار

(6/397)


حظ ذلك الرجل. (منها) أي من الجمعة، أي ليس له نصيب من صلاة الجمعة وخطبتها وإن سقطت الفريضة عنه. وقال ابن حجر: أي لا حظ له كامل؛ لأن اللغو يمنع كمال ثواب الجمعة. ويجوز أن يراد باللغو ما يشمل التخطي والإيذاء بدليل نفيه عن الثالث أي فذلك الأذى حظه. (ورجل حضرها بدعاء) أي مشتغلا به حال الخطبة حتى منعه ذلك من أصل سماعه أو كماله أخذا من قوله: "في الثالث" بإنصات وسكوت. وفي أبي داود: يدعو بلفظ المضارع. (إن شاء أعطاه) أي مدعاة لسعة حلمه وكرمه. (وإن شاء منعه) عقابا على ما أساء به من اشتغاله بالدعاء عن سماع الخطبة، فإنه مكروه عندنا حرام عند غيرنا، قاله ابن حجر. (ورجل حضرها بإنصات) أي مقترنا باستماع للخطبة. (وسكوت) عن اللغو. وقيل: هما بمعنى، وجمع بينهما للتأكيد ومحله إذا سمع الخطبة. (ولم يؤذ أحدا) أي بنوع آخر من الأذى كالإقامة من مكانه أو القعود على سجادته بغير رضاه. (فهي) أي جمعته الشاملة للخطبة والصلاة والأوصاف المذكورة. (كفارة) أي له، قاله الطيبي. يعني لذنوبه من حين انصرافه. (إلى الجمعة التي) أي إلى مثل تلك الساعة من الجمعة التي (تليها) أي تقربها. وهي التي قبلها على ما ورد منصوصا. (وزيادة ثلاثة أيام) بالجر عطف على الجمعة. (وذلك) أي ما ذكر من كفارة ما بين الجمعتين من السبعة وزيادة ثلاثة أيام. (رواه أبوداود) وسكت عليه. وقال العراقي: إسناده جيد. وأخرجه أيضا أحمد (ج2ص181، 214) وابن خزيمة في صحيحه، والبيهقي (ج3ص219) وابن أبي حاتم وابن مردويه.

(6/398)


1410- قوله: (من تكلم) ظاهره المنع من جميع أنواع الكلام من غير فرق بين ما لا فائدة فيه وغيره لإطلاق الكلام فيه. ويؤيده أنه إذا جعل قوله: أنصت مع كونه أمرا بمعروف لغوا، كما تقدم، ومحبطا لفضيلة الصلاة فغيره من الكلام أولى بأن يسمى لغوا. وقد ذهب إلى تحريم كل كلام الجمهور، ولكن قيد ذلك بعضهم بالسامع للخطبة، والأكثر لم يقيدوا. قالوا: وإذا أراد الأمر بالمعروف فليجعله بالإشارة. (والإمام يخطب) أي والمتكلم يعلم كراهة الكلام أو حرمته، وهذا لأجل قوله. (فهو كمثل الحمار) أي صفته كصفة أو مثله
يحمل أسفارا، والذي يقول له: أنصت، ليس له جمعة)). رواه أحمد.
1411-(19) وعن عبيد بن السباق مرسلا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمعة من الجمع: ((يا معشر المسلمين!

(6/399)


الغريب الشأن كمثل الحمار. (يحمل) صفة أو حال. (أسفارا) جمع سفر بالكسر أي كتبا كبارا من كتب العلم، كناية عن العلم بلا عمل، وعن عدم نفع علمه مع تحمل التعب والمشقة في تحصيله. وقيل: إنما شبه من لم يمسك عن الكلام في حال الخطبة بالحمار الحامل للأسفار؛ لأنه فاته الانتفاع بأبلغ نافع، وقد تكلف المشقة وأتعب نفسه في حضور الجمعة، والمشبه به كذلك فاته الانتفاع فأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه، والحاصل أنه شبهه بالحمار يجامع عدم الانتفاع. وقال الطيبي: شبه المتكلم العارف بأن التكلم حرام؛ لأن الخطبتين قائمة مقام الركعتين بالحمار الذي حمل أسفارا من الحكمة، وهو يمشي ولا يدري ما عليه. (والذي يقول) أي بالعبارة لا بالإشارة. (له) أي لهذا المشبه بالحمار. (أنصت) أي استمع. (ليس له جمعة) فيه دليل على أنه لا صلاة له، فإن المراد بالجمعة الصلاة، إلا أنها تجزئة إجماعا، فلا بد من تأويل هذا بأنه نفي للفضيلة التي يحوزها من أنصت، وهو كما في حديث عبدلله بن عمرو: من لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرا. قال ابن وهب أحد رواته: معناه أجزأته الصلاة وحرم فضيلة الجمعة. قال النووي: لا تبطل الجمعة بالكلام بلا خلاف وإن قلنا بحرمته. وخبر "فلا جمعة له" أي كاملة، يعني ن المراد بنفيها نفي كمال ثوابها لا نفي أصله. وقد احتج بالحديث على حرمة الكلام حال الخطبة، فإن تشبيهه بالمشبه به المستنكر، وملاحظة وجه الشبه يدل على قبح ذلك، وكذلك نسبته إلى فوات الفضيلة الحاصلة بالجمعة، ما ذاك إلا لما يلحق المتكلم من الوزر الذي يقاوم الفضيلة فيصير محبطا لها. (رواه أحمد) (ج1ص230) وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة في المصنف، والبزار في مسنده، والطبراني في الكبير، وفي إسناده مجالد بن سعيد، وقد ضعفه الناس، ووثقه النسائي في رواية، كذا في مجمع الزوائد (ج2ص184). قلت: وقال محمد بن المثنى: يحتمل حديثه لصدقه. وقال العجلي: جائز الحديث. وقال البخاري:

(6/400)


صدوق. وقال يعقوب بن سفيان: تكلم الناس فيه، وهو صدوق، ولذلك قال الحافظ في بلوغ المرام: لا بأس بإسناده، وله شاهد قوي في جامع حماد. وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده حسن.
1411- قوله: (وعن عبيد) بضم العين بلا إضافة. (بن السباق) بفتح السين المهملة وتشديد الباء الموحدة الثقفي المدني، يكنى أبا سعيد، من ثقات الطبقة الوسطى من التابعين، روى له الستة، وذكره مسلم في الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة. (مرسلا) أي بحذف الصحابي ورواه ابن ماجه موصولا، كما سيأتي. (من الجمع) بضم الجيم وفتح الميم، جمع جمعة، وقد تجمع على جمعات. (يا معشر المسلمين) وفي بعض نسخ الموطأ: يا معاشر المسلمين
إن هذا يوم جعله الله عيدا فاغتسلوا، ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه، وعليكم بالسواك)). رواه مالك.
1412-(20) ورواه ابن ماجه عنه، وهو عن ابن عباس متصلا.

(6/401)


وهكذا وقع في رواية البيهقي. قال النووي: المعشر الطائفة التي يشملهم وصف، فالشباب معشر، والشيوخ معشر، والنساء معشر، والأنبياء معشر، وما أشبهها. (إن هذا يوم جعله الله عيدا) أي للمسلمين خاصة، ففي رواية ابن ماجه: إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين. (فاغتسلوا) فإن التنظيف والتجمل في الأعياد مطلوب ومندوب. وظاهر لفظ الموطأ أن الاغتسال لا يختص بمن يشهد الجمعة. ولفظ ابن ماجه: فمن جاء إلى الجمعة فليغتسل، يشير إلى أنه يختص بمن يحضرها. واختلف في أن الغسل لصلاة الجمعة أو ليومها، فذهب محمد وداود، وهي رواية عن أبي يوسف، أنه لليوم، فيشمل الصبيان والنساء والرجال والعبيد، ولا يختص بمن يشهد الصلاة. وذهب الجمهور إلى أنه للصلاة لا لليوم، فيختص بمن يحضر صلاة الجمعة. والظاهر أن ههنا اغتسالان: أحدهما لليوم، والثاني للصلاة. وقد ورد في كليهما الأحاديث، والأول مندوب، والثاني مؤكد بل واجب، فمن اغتسل قبل الجمعة حصل له فضل الغسلين، ومن اغتسل بعد الجمعة حصل له فضل غسل اليوم، ولم يحصل فضل غسل الصلاة الذي اختلف العلماء في أنه سنة مؤكدة أو واجب. (ومن كان عنده طيب) ولو من طيب امرأته. وقيل: أي من طيب الرجال، وهو ما ليس له لون وله رائحة. (فلا يضره أن يمس منه) قال الطيبي: فإن قيل: هذا إنما يقال فيما فيه مظنة ضرر وحرج، ومس الطيب، ولا سيما يوم الجمعة، سنة مؤكدة فما معناه؟ قلت: لعل رجالا من المسلمين توهموا أن مس الطيب من عادة النساء، فنفي الحرج عنهم، كما هو الوجه في قوله: ?فلا جناح عليه أن يطوف بهما? [2: 158) مع أن السعي واجب أو ركن-انتهى. قال الزرقاني: عبره على شأن معنى الندب والترغيب، فهو بمنزله التصريح بأنه غير واجب، وأوجبه أبوهريرة، فإن لم يحمل على إيجاب سنة وندب فالجمهور على خلافه-انتهى. ولفظ ابن ماجه: وإن كان طيب فليمس منه. (وعليكم بالسواك) أي الزموه لتأكد استحبابه يوم الجمعة، خصوصا عند الوضوء والغسل

(6/402)


تكميلا للطهارة والنظافة. (رواه مالك) عن ابن شهاب الزهري عن عبيد بن السباق أن رسول الله ? الخ.
1412- قوله: (ورواه ابن ماجه) بسنده. (عنه) أي عن ابن السباق. (وهو) أي عبيد. (عن ابن عباس متصلا) رواية ابن ماجه هذه تخالف لما روى البخاري في صحيحه من طريق شعيب عن الزهري، قال طاووس: قلت لابن عباس: ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اغتسلوا يوم الجمعة واغسلوا رؤسكم وإن لم تكونوا جنبا، وأصيبوا من الطيب. قال ابن عباس: أما الغسل فنعم. وأما الطيب فلا أدري. وفي رواية: قال: لا أعلمه.
1413-(21) وعن البراء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حقا على المسلمين أن يغتسلوا يوم الجمعة، وليس أحدهم من طيب أهله، فإن لم يجد فالماء له طيب)). رواه أحمد، والترمذي وقال: هذا حديث حسن.
(45) باب الخطبة والصلاة
وأجيب بأن في سنده عند ابن ماجه صالح بن أبي الأخضر الذي روى عن الزهري عن عبيد، وصالح ضعيف، وقد خالفه مالك فرواه عن الزهري عن عبيد مرسلا. قال الحافظ: فإن كان صالح حفظ فيه ابن عباس احتمل أن يكون ذكره بعد ما نسيه أو عكس ذلك-انتهى. ورواه البيهقي (ج3ص243) من طريق الشافعي عن مالك عن ابن شهاب عن ابن السباق مرسلا، ثم قال: هذا هو الصحيح مرسل، وقد روي موصولا ولا يصح وصله-انتهى. وروى نحوه الطبراني في الأوسط والصغير من حديث أبي هريرة مرفوعا، لكن ليس فيه ذكر الطيب. قال الهيثمي (ج2ص172- 173) رجاله ثقات.

(6/403)


1413- قوله: (حقا) بالنصب قال الطيبي: "حقا" مصدر مؤكد أي حق ذلك حقا، فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه اختصارا. (أن يغتسلوا) فاعل حق المقدر. (يوم الجمعة) ظرف للاغتسال. (وليمس) بكسر اللام، ويسكن. قال الطيبي: عطف على ما سبق بحسب المعنى، إذ فيه سمة الأمر، أي ليغتسلوا أو ليمس. (من طيب أهله) أي بشرط أهله لقوله صلى الله عليه وسلم: لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس أو من طيب له عند أهله. (فإن لم يجد) أي طيبا. (فالماء له طيب) قال العراقي: المشهور في الرواية بكسر الطاء وسكون المثناة من تحت، أي أنه يقوم مقام الطيب، قال الطيبي: أي عليه أن يجمع بين الماء والطيب، فإن تعذر الطيب فالماء كاف؛ لأن المقصود التنظيف وإزالة الرائحة الكريهة. وفيه تطيب لخاطر المساكين-انتهى. (رواه أحمد) (ج4ص282، 283). (والترمذي، وقال: هذا حديث حسن) قال شيخنا في شرح الترمذي في كونه حسنا كلام فإن مداره على يزيد بن أبي زياد الهاشمي الكوفي، وقد ضعفه جماعة. قال الذهبي في الميزان: قال يحيى: ليس بالقوي، وقال أيضا لا يحتج به. وقال ابن المبارك. ارم به. وقال شعبة: كان يزيد بن أبي زياد رفاعا. وقال أحمد: حديثه ليس بذلك، وخرج له مسلم مقرونا بآخر. وقال الحافظ في التقريب: إنه كبر فتغير، وصار يتلقن-انتهى.
(باب الخطبة والصلاة) أي خطبة الجمعة وصلاتها وما يتعلق بصفاتهما وكمالاتهما وبيان أوقاتهما. والخطبة بالضم مصدر خطب يخطب خطابه وخطبة أي وعظ. ويطلق على الكلام الذي يخطب به، وهو الكلام
?الفصل الأول?
1414-(1) عن أنس، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس)).

(6/404)


المنثور المسجع ونحوه، كذا في القاموس. وفي عرف الشرع عبارة عن كلام يشتمل على الذكر والتشهد والصلاة والوعظ. واختلف هل هي شرط صحة صلاة الجمعة، وركن من أركانها أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنها شرط وركن. وقال أقوام: إنها ليست بفرض، وجمهور أصحاب مالك على أنها فرض إلا ابن الماجشون، ذكره ابن رشد. قلت: ذهب داود الظاهري وابن حزم والحسن البصري والجويني إلى أن خطبة الجمعة ليست فرضا، بل هي مندوبة، وهو الظاهر؛ لأنه لم ينتهض دليل على إيجابها لا من كتاب ولا من سنة. وأما قوله تعالى: ?فاسعوا إلى ذكر الله? [62: 9] فليس فيه حجة على ذلك؛ لأن المراد بالذكر المأمور بالسعي إليه هو الصلاة. غاية الأمر أنه متردد بينها وبين الخطبة، وقد وقع الاتفاق على وجوب الصلاة، والنزاع في وجوب الخطبة، فلا ينتهض هذا الدليل للوجوب. قال ابن حزم: قد أقدم بعضهم فقال إن قول الله تعالى: ?فاسعوا إلى ذكر الله? إنما مراده إلى الخطبة، وجعل هذا حجة في إيجاب فرضها. قال ابن حزم: من لهذا المقدم؟ إن الله تعالى أراد بالذكر المذكور فيها الخطبة، بل أول الآية وآخرها يكذبان ظنه الفاسد؛ لأن الله تعالى إنما قال: ?إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله?، ثم قال عزوجل: ?فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض، وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا? فصح أن الله تعالى إنما افترض السعي إلى الصلاة إذا نودي لها، وأمر إذا قضيت بالانتشار، وذكره كثيرا، فصح يقينا أن الذكر المأمور بالسعي له هو الصلاة، وذكر الله تعالى فيها بالتكبير والتسميع والتمجيد والقراءة والتشهد لا غير ذلك، فإن قالوا: لم يصلها عليه السلام قط إلا بخطبة. قلنا: ولا صلاها عليه السلام قط إلا بخطبتين قائما يجلس بينهما، فاجعلوا كل ذلك فرضا لا تصح الجمعة إلا به، ولا صلى عليه السلام قط إلا رفع يديه في التكبيرة الأولى، فأبطلوا الصلاة بترك ذلك-انتهى.

(6/405)


1414- قوله: (حين تميل الشمس) أي تزول عن كبد السماء وعن استوائها، يعني بعد تحقق الزوال. قال الحافظ: في التعبير بـ"كان" إشعار بمواظبته ? على صلاة الجمعة إذا زالت الشمس-انتهى. وفيه دليل لما ذهب إليه الجمهور من أن أول وقت الجمعة إذا زالت الشمس كوقت الظهر، وأنها لا تصلى إلا بعد الزوال. ويدل له أيضا ما رواه مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: كنا نجمع مع رسول الله ? إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع الفيء. قال النووي: قال مالك وأبوحنيفة والشافعي وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم: لا تجوز الجمعة إلا بعد زوال الشمس، ولم يخالف في هذا إلا أحمد بن حنبل وإسحاق، فجوزاها قبل الزوال.
رواه البخاري.
1415-(2) وعن سهل بن سعد، قال: ((ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة)).
وروي في هذا أشياء عن الصحابة لا يصح منها شيء إلا ما عليه الجمهور-انتهى. واستدل لأحمد ومن وافقه بحديث سهل بن سعد الآتي، وسنذكر وجه الاستدلال مع الجواب عنه، ثم إنه اختلف أصحاب أحمد، فقال بعضهم: وقتها وقت صلاة العيد، فتجوز في أول النهار. وقال الخرقي: وإن صلوا الجمعة قبل الزوال في الساعة السادسة أجزأتهم. وظاهره أنه لا يجوز صلاتها فيما قبل الساعة السادسة، وهو الذي صححه ورجحه ابن قدامة في المغني (ج2ص357). والأولى والأفضل عندهم أن لا تصلى إلا بعد الزوال ليخرج من الخلاف، ويفعلها في الوقت الذي كان النبي ? يفعلها فيه في أكثر أوقاته. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والبيهقي (ج3ص190).

(6/406)


1415- قوله: (ما كنا نقيل) بفتح النون، من قال يقيل قيلولة فهو قائل. قال في النهاية: المقيل والقيلولة الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن معها نوم. (ولا نتغدى) بالغين المعجمة والدال المهملة من الغداء، وهو الطعام الذي يوكل أول النهار. زاد في رواية أحمد ومسلم والترمذي: في عهد النبي ?. (إلا بعد الجمعة) أي بعد فراغ صلاتها. وفي رواية للبخاري: كنا نصلي مع النبي ? الجمعة، ثم تكون القائلة. واستدل به لأحمد على جواز صلاة الجمعة قبل الزوال؛ لأن الغداء والقيلولة محلهما قبل الزوال، وحكي عن ابن قتيبة أنه قال لا يسمى غداء ولا قائلة بعد الزوال. وأجيب عنه بأنه لا دلالة فيه على أنهم كانوا يصلون الجمعة قبل الزوال، بل فيه أنهم كانوا يتشاغلون عن الغداء والقائلة بالتهيؤ للجمعة ثم بالصلاة، ثم ينصرفون فيقيلون ويتغدون، فيكون قائلتهم وغداءهم بعد الجمعة عوضا عما فاتهم في وقته من أجل بكورهم. والحاصل أن قائلتهم وغداءهم بعد الجمعة لما كانا قائمين مقام القيلولة والغداء، أطلق عليهما ذلك مجازا، وهذا كما أطلق رسول الله ? على السحور اسم الغداء فقال لعرباض ابن سارية: هلم إلى الغداء المبارك. أخرجه أبوداود والنسائي، فكما أنه لا يصح الاستدلال بقوله ? هذا على جواز السحور وقت الغداء أي بعد طلوع الفجر إلى الزوال، كذلك لا يصح الاستدلال بلفظ القيلولة والتغدي على جواز صلاة الجمعة قبل الزوال. وبالجملة حمل الجمهور حديث سهل على التبكير، وأنهم كانوا يشتغلون أول النهار بآلة الجمعة، فيؤخرون الغداء والقيلولة عن وقتهما. والحاصل أن ما كان غداء في غير يوم الجمعة يكون بعد صلاة الجمعة، فلا يبقى فيه غداء، وكذا القيلولة. وقال الأمير اليماني: ليس في حديث سهل دليل على الصلاة قبل الزوال؛ لأنهم في المدينة ومكة لا يقيلون ولا يتغدون إلا بعد صلاة الظهر، كما قال تعالى: ?وحين تضعون ثيابكم

(6/407)


من الظهيرة? [24: 58] نعم كان النبي ? يسارع بصلاة الجمعة في أول وقت الزوال بخلاف الظهر، فقد كان يؤخره بعده حتى يجتمع الناس-انتهى. واستدل لأحمد أيضا بحديث سلمة: كنا نصلي مع رسول الله ? الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به. وفي رواية: وما نجد فيئا نستظل به. وجه الاستدلال أنه قد ثبت أنه ? كان يخطب خطبتين، ويجلس بينهما، ويقرأ القرآن في الخطبة مثل سورة ?ق? و?تبارك?، ويذكر الناس، ويقرأ في صلاتها بسورة ?الجمعة? و?المنافقين?، ولو كانت خطبته وصلاته بعد الزوال لما انصرف منها إلا وقد صار للحيطان ظل يستظل به. وأجيب عنه بأن خطبته ? وصلاته كانتا قصدا، فلا يزيد شغله في الخطبة والصلاة على الساعة الواحدة العرفية، ومع مضى الساعة الواحدة لا يمكن أن يكون لجدران المدينة فيء يستظل به لقصر جدرانها، إذ ذاك قال الشوكاني: المراد نفي الظل الذي يستظل به لا نفي أصل الظل، كما هو الأكثر الأغلب من توجه النفي إلى القيود الزائدة. ويدل على ذلك قوله: "ثم نرجع نتبع الفيء" وإنما كان كذلك؛ لأن الجدران كانت في ذلك العصر قصيرة لا يستظل بظلها إلا بعد توسط الوقت، فلا دلالة في ذلك على أنهم كانوا يصلون قبل الزوال-انتهى. واستدل له أيضا بحديث أنس قال: كنا نبكر بالجمعة، ونقيل بعد الجمعة، أخرجه البخاري. قال الحافظ: ظاهره أنهم كانوا يصلون الجمعة باكر النهار، لكن طريق الجمع أولى من دعوى التعارض، وقد تقرر فيما تقدم أن التبكير يطلق على فعل الشيء في أول وقته أو تقديمه على غيره، وهو المراد هنا. والمعنى أنهم كانوا يبدؤون بالصلاة قبل القيلولة، بخلاف ما جرت به عادتهم في صلاة الظهر في الحر، فإنهم كانوا يقيلون ثم يصلون لمشروعية الإبراد، واستدل له أيضا بحديث جابر أن النبي ? كان يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس، أخرجه أحمد ومسلم والنسائي. قيل: المتبادر منه أن صلاتهم كانت قبل الزوال؛ لأنه قد صرح بأن

(6/408)


إراحتهم لنواضحهم بعد الجمعة كانت عند الزوال. وتعقب بأن قوله: "حين تزول الشمس" يحتمل أن يكون متعلقا بقوله: "يصلي" فلا يتم الاستدلال به. واستدل له أيضا بما روى عبدالله بن أحمد في زيادات المسند، والدارقطني وأبونعيم في كتاب لصلاة، وابن أبي شيبة من رواية عبدالله بن سيدان قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت صلاته وخطبته قبل نصف النهار، وشهدتها مع عمر فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول زال النهار، فما رأيت أحدا عاب ولا أنكره. وأجيب عنه بأن عبدالله بن سيدان بسين مهملة مكسورة بعدها تحتية ساكنة. قيل: سندان بالنون بعد السين المطرودي السلمي غير معروف العدالة. قال ابن عدي: شبه المجهول، وقال
متفق عليه.
1416- (3) وعن أنس، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا
اشتد الحر أبرد بالصلاة، يعني الجمعة))
البخاري: لا يتابع على حديثه. وقال اللالكائي: مجهول لا خير فيه. وقال النووي في الخلاصة: اتفقوا على ضعف ابن سندان- انتهى. بل قد عارضه ما هو أقوى منه، فروى ابن أبي شيبة من طريق سويد بن غفلة أنه صلى مع أبي بكر وعمر حين زالت الشمس. قال الحافظ: إسناده قوي. وقد ظهر بما ذكرنا أنه ليس في صلاة الجمعة قبل الزوال حديث صحيح صريح. فالقول الراجح هو ما قال به الجمهور. قال شيخنا في شرح الترمذي: والظاهر المعول عليه هو ما ذهب إليه الجمهور من أنه لا تجوز الجمعة إلا بعد زوال الشمس. وأما ما ذهب إليه بعضهم من أنها تجوز قبل الزوال فليس فيه حديث صريح- انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والترمذي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص241).

(6/409)


1416- قوله: (إذا اشتد البرد) فيه نوع من المشاكلة. والمراد عدم اشتداد الحر. (بكر) أي تعجل وأسرع. (بالصلاة) أي صلاها في أول وقتها. (أبرد بالصلاة) أي صلاها بعد أن وقع ظل الجدار في الطريق كيلا يتأذى الناس بالشمس. كذا قال بعض الشراح من الحنفية. (يعني الجمعة) يعني أنه ليس الحديث في صلاة الجمعة، وإنما هو في صلاة الظهر إلا أن أنسا لما استدل به على صلاة الجمعة قياسا على الظهر حمله بعض الرواة عليها فقال يعني الجمعة، فليس دليل الإبراد بصلاة الجمعة في شدة الحر إلا القياس لا الحديث. قال الشوكاني: يحتمل أن يكون قوله: "يعني الجمعة" من كلام التابعي أو من دون أخذه قائله مما فهمه من التسوية بين الظهر والجمعة عند أنس حيث استدل لما سئل عن الجمعة بقوله:"كان يصلي الظهر" ويؤيده ما عند الإسماعيلي عن أنس من طريق أخرى، وليس فيه قوله:"يعني الجمعة"- انتهى. والحاصل أن الروايات تدل على أن الإبراد بالجمعة عند أنس إنما هو بالقياس على الظهر لا النص، لكن أكثر الأحاديث تدل على التفرقة في الظهر، وعلى التبكير في الجمعة مطلقا من غير تفصيل. قال الكرماني. قال الفقهاء: ندب الإبراد إلا في الجمعة لشدة الخطر في فواتها، ولأن الناس يبكون إليها، فلا يأذون بالحر. وقال ابن قدامة في المغني (ج2 ص296): ولا فرق في استحباب إقامة الجمعة عقيب الزوال بين الشدة والحر وغيره، فإن الجمعة يجتمع لها الناس، فلو انتظروا الإبراد شق عليهم، ولذلك كان النبي ? يفعلها إذا زالت الشمس في الشتاء والصيف على ميقات واحد، وقال في (ج1 ص390): فأما الجمعة فيسن تعجيلها في كل وقت بعد الزوال من غير إبراد؛ لأن سلمة بن الأكوع قال: كنا نجمع مع رسول الله ?
رواه البخاري.
1417- (4) وعن السائب بن يزيد، قال: ((كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر، على عهد رسول الله ? ، وأبي بكر، وعمر، فلما كان عثمان وكثر الناس، زاد النداء الثالث

(6/410)


إذا زالت الشمس، متفق عليه. ولم يبلغنا أنه أخرها، بل كان يعجلها، حتى قال سهل بن سعد: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة، أخرجه البخاري، ولأن السنة التبكير بالسعي إليها ويجتمع الناس لها، فلو أخرها لتأذى الناس بتأخير الجمعة- انتهى. قلت: وقد نحا البخاري إلى مشروعية الإبراد بالجمعة، وإليه ميل الحنفية. والراجح عندنا التعجيل من غير فرق بين الحر والبرد لعدم النص في الإبراد بالجمعة. والله تعالى أعلم. (رواه البخاري) وللحديث قصة وحاصلها أن الحكم بن أبي عقيل الثقفي كان نائبا على البصرة عن ابن عمه الحجاج بن يوسف، وكان الحكم على طريقة ابن عمه في تطويل الخطبة يوم الجمعة حتى يكاد الوقت أن يخرج، فأنكر ذلك على الحكم بعضهم، وسأل الحكم من أنس كيف كان النبي ? يصلي الظهر؟ فأجاب أنس بما ذكر من الحديث. والحديث أخرجه البخاري في الأدب المفرد أيضا، وأخرجه أبويعلى في مسنده مع القصة، والبيهقي (ج3 ص291، 192) معها وبدونها.

(6/411)


1417- قوله: (كان النداء) الذي ذكره الله في القرآن. (أوله) بالرفع بدل من اسم، كان وخبرها "إذا جلس الإمام". وفي رواية لابن خزيمة: كان ابتداء النداء الذي ذكره الله في القرآن يوم الجمعة. (إذا جلس الإمام على المنبر) أي قبل الخطبة، وثانيه وهو الإقامة، إذا فرغ من الخطبة ونزل. (على عهد رسول الله ? ) أي في زمانه. (وأبي بكر وعمر) يعني في خلافتهما. وفي رواية لابن خزيمة: كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر أذانين يوم الجمعة. قال ابن خزيمة: قوله: "أذانين" يريد الأذان والإقامة يعني تغليبا أو لاشتراكهما في الإعلام. (فلما كان عثمان) أي زمن خلافته. قال الطيبي: "كان" تامة أي حصل عهده. وقيل: يصح كونها ناقصة، والخبر محذوف أي خليفة. (وكثر الناس) أي المؤمنون بالمدينة عن أن يسمعوا الأذان عند باب المسجد. (زاد) أي عثمان بعد مضي مدة من خلافته. (النداء الثالث) أول الوقت عند الزوال قبل خروجه وصعوده على المنبر ليعلم الناس أن الجمعة قد حضرت، وإنما سماه ثالثا بالنسبة إلى إحدائه؛ لأنه زيد على النداءين الذين كانا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمن الشيخين، وهما الأذان بعد صعود الإمام على المنبر قبل قراءة الخطبة، وهو المراد بالنداء الأول والإقامة بعد فراغه من الخطبة عند نزوله، وهو المراد بالنداء الثاني. وفي بعض روايات الحديث: فأمر عثمان بالأذان الأول، وهو الموافق للواقع فعلا؛ لأنه
على الزوراء)).

(6/412)


يبدأ به قبل خروج الإمام. وفي بعض رواياته أيضا تسميته الثاني باعتبار أنه زيد على الأذان الذي كان قبل، وعدم اعتبار الإقامة في العدد؛ لأنها ليست أذانا وإن كانت من النداء للصلاة، والحاصل أنه باعتبار كونه مزيدا يسمى ثالثا، وباعتبار كونه جعل مقدما على الأذان والإقامة يسمى أولا، وبالنظر إلى الأذان الحقيقي دون الإقامة يسمى ثانيا، قال الطيبي: إنما زاد عثمان ذلك لكثرة الناس فرأى هو أن يؤذن المؤذن قبل الوقت. (يعني المعتاد، وهو صعوده على المنبر بعد الزوال) لينتهي الصوت إلى نواحي المدينة، ويجتمع الناس قبل خروج الإمام لئلا يفوت عنهم أوائل الخطبة. (على الزوراء) بفتح الزاي وسكون الواو بعدها راء ممددة موضع بالسوق بالمدينة، قاله البخاري في جامعه الصحيح. وفي رواية ابن خزيمة وابن ماجه: زاد النداء الثالث على دار في السوق يقال لها الزوراء، وزاد في رواية للبخاري وغيره: فثبت الأمر على ذلك. قال الحافظ: والذي يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد إذ ذاك لكونه خليفة مطاع الأمر، لكن ذكر الفاكهاني: أن أول من أحدث الأذان الأول بمكة الحجاج، وبالبصرة زياد، وبلغني أن أهل المغرب الأدنى الآن لا تأذين عندهم سوى مرة. وروى ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر قال: الأذان الأول يوم الجمعة بدعة، فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار. ويحتمل أنه يريد لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما لم يمكن في زمنه يسمى بدعة لكن منها ما يكون حسنا، ومنها ما يكون بخلاف ذلك، وتبين بما مضى أن عثمان أحدثه لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة قياسا على بقية الصلوات، فألحق الجمعة بها وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب- انتهى كلام الحافظ. وقد ذكر الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج2 ص393) هنا كلاما حسنا أحببنا إيراده لعل الله ينفع بها الطالبين، قال: "فائدة" في رواية عند أبي داود في هذا الحديث: كان يؤذن

(6/413)


بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس على المنبر يوم الجمعة على باب المسجد، فظن العوام بل كثير من أهل العلم أن هذا الأذان يكون أمام الخطيب مواجهة، فجعلوا مقام المؤذن في مواجهة الخطيب. (قريبا من المنبر) على كرسي أو غيره، وصار هذا الأذان تقليدا صرفا لا فائدة له في دعوة الناس إلى الصلاة وإعلامهم حضورها، كما هو الأصل في الأذان والشأن فيه، وحرصوا على ذلك، حتى لينكرون على من يفعل غيره، وإتباع السنة أن يكون على المنارة عند باب المسجد ليكون إعلاما لمن لم يحضر، وحرصوا على إبقاء الأذان قبل خروج الإمام، وقد زالت الحاجة إليه؛ لأن المدينة لم يكن بها (مسجد جامع) إلا المسجد النبوي وكان الناس كلهم يجمعون فيه، وكثروا عن أن يسمعوا الأذان عند باب المسجد، فزاد عثمان الأذان الأول ليعلم من بالسوق ومن حوله حضور الصلاة، أما الآن وقد كثرت المساجد، وبنيت فيها المنارات، وصار الناس يعرفون وقت الصلاة بأذان المؤذن على المنارة فإنا نرى أن يكتفي بهذا الأذان، وأن يكون عند خروج الإمام إتباعا للسنة أو يؤمر المؤذنون
رواه البخاري.
1418- (5) وعن جابر بن سمرة، قال: ((كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان، يجلس بينهما

(6/414)


عند خروج الإمام أن يؤذنوا على أبواب المساجد- انتهى. قلت: إذا وقعت اليوم الحاجة إلى النداء العثماني في بلد كما وقعت بالمدينة في عهد عثمان رضي الله عنه فلا بأس بأن يؤذن على موضع مرتفع كالمنار أو سطح البيت خارج المسجد قبل خروج الإمام كما كان في زمن عثمان رضي الله عنه. وأما بغير الحاجة وعند عدم الضرورة فالاكتفاء بالأذان عند خروج الإمام هو المتعين عندي. وأما كون هذا الأذان أمام الخطيب مواجهة قريبا من المنبر فليس في شيء من السنة، فإن السنة أن يؤذن عند باب المسجد ليحصل فائدة الأذان لا داخل المسجد عند المنبر، والله تعالى أعلم. (رواه البخاري) بألفاظ وأسانيد. وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3ص192، 205).

(6/415)


1418- قوله: (كانت للنبي ? خطبتان) فيه أن المشروع خطبتان، وقد ذهب إلى وجوبهما الشافعي وأحمد. قال ابن قدامة: يشترط للجمعة خطبتان، وهذا مذهب الشافعي. وقال مالك والأوزاعي وإسحاق وأبوثور وابن المنذر وأصحاب الرأي: يجزيه خطبة واحدة، وقد روى عن أحمد ما يدل عليه، فإنه قال لا تكون الخطبة إلا كما خطب النبي صلى الله عليه وسلم أو خطبة تامة-انتهى. وقال الشوكاني: قد ذهب إلى وجوبهما العترة الشافعي. وحكى العراقي في شرح الترمذي عن مالك وأبي حنيفة والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وابن المنذر وأحمد بن حنبل في رواية أن الواجب خطبة واحدة، قال: وإليه ذهب جمهور العلماء، ولم يستدل من قال بالوجوب إلا بمجرد الفعل مع قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي"-الحديث. وقد عرفت ألا ذلك ينتهض لإثبات الوجوب، يعني لأن مجرد الفعل لا يفيد الوجوب. وأما قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" فهو مع كونه غير صالح للاستدلال به على الوجوب ليس فيه إلا الأمر بإيقاع الصلاة على الصفة التي كان يوقعها عليها، والخطبة ليست بصلاة. (يجلس بينهما) أي بين الخطبتين. وفيه إشارة إلى أن خطبته كانت حالة القيام، وقد ورد ذلك مصرحا عن جابر نفسه، وعن ابن عمر وكعب بن عجرة، كما سيأتي، قال الشوكاني في شرح حديث ابن عمر وجابر: فيه أن القيام حال الخطبة المشروع. قال ابن المنذر: وهو الذي عليه عمل أهل العلم من علماء الأمصار. واختلف في وجوبه، فذهب مالك والشافعي إلى الوجوب، غير أن مالكا قال: إنه واجب لو تركه أساء، وصحت الجمعة. وقال الشافعي: إنه شرط في صحة الخطبة، وإنه متى خطب قاعدا لغير عذر لم تصح. قال ابن قدامة ويحتمله كلام أحمد. وذهب أبوحنيفة إلى أن القيام سنة وليس بواجب، قال ابن قدامة: قال القاضي: يجزيه الخطبة قاعدا، وقد نص عليه أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة. واستدل الأولون بحديث جابر وابن عمر وبغيرهما من الأحاديث الصحيحة: قال الشوكاني:

(6/416)


يقرأ القرآن، ويذكر الناس،
لاشك أن الثابت عنه صلى الله عليه وسلم وعن الخلفاء الراشدين هو القيام حال الخطبة، ولكن الفعل بمجرده لا يفيد الوجوب. وفي الحديث مشروعية الجلوس بين الخطبتين. واختلف في وجوبه، فذهب الشافعي إلى أنه فرض، وشرط لصحة الخطبة. وذهب الجمهور مالك وأحمد وأبوحنيفة إلى أنه غير واجب. استدل من أوجب ذلك بفعله صلى الله عليه وسلم، وقوله: "صلوا كما رأيتموني"، وقد تقدم الجواب عن مثل هذا الاستدلال. قال ابن المنذر: لم أجد للشافعي دليلا، والفعل، وإن اقتضى الوجوب عند الشافعي، لا يدل على بطلان الجمعة بتركه، وأي فرق بين الجلوس قبلهما وبينهما، مع أن كلا منهما ثابت عنه عليه الصلاة والسلام. قال جمع من الشافعية وهو كما قال، والعجب إيجاب هذا دون الاستقبال، قاله القاري. (يقرأ القرآن) تفسير الخطبة. وقال القاضي: هو صفة ثانية للخطبتين. والراجح محذوف، والتقدير يقرأ فيهما. وقوله: (ويذكر الناس) عطف عليه داخل في حكمه-انتهى. والتذكير هو الوعظ والنصيحة، وذكر ما يوجب الخوف والرجاء من الترهيب والترغيب. واستدل به على مشروعية القراءة والوعظ في الخطبة، ولا خلاف فيه وإنما الخلاف في الوجوب، فذهب الشافعي إلى أنه يشترط في الخطبة الوعظ والقراءة، قال النووي: قال الشافعي: لا تصح الخطبتان إلا بحمد الله تعالى والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما والوعظ، وهذه الثلاثة واجبات في الخطبتين، وتجب قراءة آية من القرآن في إحداهما على الأصح، ويجب الدعاء للمؤمنين في الثانية على الأصح. وقال مالك وأبوحنيفة والجمهور: يكفي من الخطبة ما يقع عليه الاسم. وقال أبوحنيفة وأبويوسف ومالك في رواية عنه: يكفي تحميدة أو تسبيحة أو تهليلة، وهذا ضعيف؛ لأنه لا يسمى خطبة. ولا يحصل به مقصودها مع مخالفته ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم-انتهى. قلت: الراجح عندي أنه يجب في خطبة الجمعة شيء سوى حمد الله والموعظة؛ لأن ذلك يسمى خطبة

(6/417)


ويحصل به المقصود فأجزأ، وما عداه من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقراءة القرآن والدعاء لإنسان ليس على اشتراطه ووجوبه في الخطبة دليل، ولا يجب أن يخطب على صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بالاتفاق؛ لأنه قد روى أنه كان يقرأ آيات، ولا يجب قراءة آيات، ولكن يستحب أن يقرأ آيات كذلك، ولما روت أم هشام قالت: ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخطب بها في كل جمعة. وفي حديث الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سورة. وقوله: "يذكر الناس" دليل صريح على أن الخطبة وعظ وتذكير للناس، وأنه ? كان يعلم أصحابه في خطبة الجمعة قواعد الإسلام وشرائعه ويأمرهم وينهاهم في خطبته إذا عرض له أمر أو نهي، وكان يأمرهم بمقتضى الحال، فلا بد للخطيب من أن يعظ الناس، ويذكرهم ويبين لهم ما يحتاجون إليه. فإن كان السامعون من غير العرب وعظهم بلغتهم، فإن التذكير
فكانت صلاته قصدا، وخطبته قصدا)). رواه مسلم.
1419-(6) وعن عمار، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته، مئنة من فقهه،

(6/418)


والوعظ في بلاد العجم لا يفيد، ولا يحصل أثره إلا إذا كان بلغتهم. وحديث جابر هذا هو أول دليل على هذا. (فكانت صلاته قصدا) أي متوسطة بين الإفراط والتفريط من التقصير والتطويل بفتح القاف وسكون الصاد، وآخره دال، وهو الوسط بين الطرفين، وهو المعتدل الذي لا يميل إلى أحد طرفي التفريط والإفراط. (وخطبته قصدا) قال الطيبي: أصل القصد الاستقامة في الطريق، استعير للتوسط في الأمور والتباعد عن الإفراط، ثم للتوسط بين الطرفين كالوسط، أي كانت صلاته ? متوسطة، لم تكن غاية الطول، ولا في غاية القصر، وكذلك الخطبة. وذلك لا يقتضى مساواة الخطبة للصلاة، إذ توسط كل يعتبر في بابه، فلا يخالف حديث عمار الآتي. (رواه مسلم) هما حديثان عند مسلم رواهما عن جابر بن سمرة، تم الأول على قوله "ويذكر الناس" وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3ص210) ولفظ الثاني: قال جابر: كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت صلاته قصدا وخطبته قصدا. ونسب المجد هذا في المنتقى للجماعة إلا البخاري وأبا داود. قلت: وأخرجه البيهقي (ج3ص207) أيضا.

(6/419)


1419- قوله: (إن طول صلاة الرجل) أي إطالتها. (وقصر خطبته) بكسر القاف وفتح الصاد أي تقصيرها. (مئنة) بفتح الميم ثم همزة مكسورة ثم نون مشددة. (من فقهه) أي علامة يتحقق بها فقهه، مفعلة بنيت من، إن المكسورة المشددة وحقيقتها مظنة ومكان لقول القائل: إنه فقيه؛ لأن الصلاة مقصودة بالذات، والخطبة توطئة لها، فتصرف العناية إلى الأهم، كذا قيل، أو لأن حال الخطبة توجهه إلى الخلق وحال الصلاة مقصده الخالق. فمن فقاهة قلبه إطالة معراج ربه، أو لأن الصلاة هي الأصل، والخطبة هي الفرع، ومن القضايا الفقهية أن يؤثر الأصل على الفرع بزيادة. وقال الطيبي: قوله "من فقهه" صفة "مئنة" أي مئنة ناشئة من فقهه، في النهاية: أي ذلك مما يعرف به فقه الرجل، فكل شيء دل على شيء فهو مئنة له. وحقيقتها أنها مفعلة من معنى أن التي للتحقيق غير مشتقة من لفظها؛ لأن الحروف لا يشتق منها، وإنما ضمن حروفها دلالة على أن معناها فيها. قال النووي: قال الأزهري والأكثرون: الميم فيها زائدة، وهي مفعلة، قال الأزهري: غلط أبوعبيد في جعله الميم أصلية. وقال القاضي عياض: قال شيخنا ابن سراج: هي أصلية-انتهى. قال الشوكاني: وإنما كان اقتصار الخطبة علامة من فقه الرجل؛ لأن الفقيه هو المطلع على جوامع الألفاظ، فيتمكن بذلك من التعبير باللفظ المختصر عن
فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة، وإن من البيان سحرا)). رواه مسلم.
1420-(7) وعن جابر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه،

(6/420)


المعاني الكثيرة. (فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة) قال النووي: الهمزة في "أقصروا" همزة وصل، وليس هذا الحديث مخالفا للأحاديث المشهورة في الأمر بتخفيف الصلاة، ولقوله في الرواية المتقدمة: "كانت صلاته قصدا وخطبته قصدا"؛ لأن المراد بحديث عمار أن الصلاة تكون طويلة بالنسبة إلى الخطبة لا تطويلا يشق على المأمومين، وهي حينئذ قصد أي معتدلة، والخطبة قصد بالنسبة إلى وضعها. وقال العراقي: أو حيث احتيج إلى التطويل لإدراك بعض من تخلف، قال: وعلى تقدير تعذر الجمع بين الحديثين يكون الأخذ في حقنا بقوله؛ لأنه أدل بفعله لاحتمال التخصيص. وقال القاري: لا تنافي بينهما، فإن الأول أي حديث جابر دل على الاقتصار فيهما، والثاني أي حديث عمار على اختيار المزية في الثانية منهما، ثم لا ينافي هذا ما ورد في مسلم من حديث أبي زيد، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان، وبما هو كائن-انتهى. لوردوه نادرا اقتضاه الوقت، ولكونه بيانا للجواز، وكأنه كان واعظا، والكلام في الخطب المتعارفة-انتهى. (وإن من البيان سحرا) أي من البيان ما يصرف قلوب المستمعين إلى قبول ما يستمعون فشبه الكلام العامل في القلوب الجاذب للعقول بالسحر لأجل ما اشتمل عليه من الجزالة وتناسق الدلالة وإفادة المعاني الكثيرة. والظاهر أنه من عطف الجمل، ذكره استطرادا. وقال الطيبي: الجملة حال من "اقصروا" أي اقصروا الخطبة وأنتم تأتون بها معاني جمة في ألفاظ يسيرة، وهي من أعلى طبقات البيان، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: أوتيت جوامع الكلم. قال النووي: قال القاضي: فيه تأويلان أحدهما أنه ذم؛ لأنه إمالة للقلوب، وصرفها بمقاطع الكلام إليه، حتى يكسب من الإثم به، كما يكتسب بالسحر، وأدخله مالك في الموطأ في

(6/421)


"باب ما يكره من الكلام" وهو مذهبه في تأويل الحديث. والثاني أنه مدح؛ لأن الله تعالى امتن على عباده بتعليمهم البيان. وشبه بالسحر لميل القلوب إليه. وأصل السحر الصرف، فالبيان يصرف القلب ويميله إلى ما يدعو إليه. قال النووي: وهذا التأويل الثاني هو الصحيح. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج4ص263) والبيهقي (ج3ص208).
1420- قوله: (وعن جابر) أي ابن عبدالله. (إذا خطب) أي للجمعة كما في رواية لمسلم. (احمرت عيناه وعلا صوته) بالرفع أي ارتفع صوته. (واشتد غضبه) يفعل ذلك لإزالة الغفلة من قلوب الناس ليتمكن فيها
حتى كأنه منذر جيش، ويقول: صبحكم ومساكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين إصبعيه: السبابة والوسطى)) . رواه مسلم.
1421-(8) وعن يعلى بن أمية، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر. ?ونادوا يا مالك

(6/422)


كلامه صلى الله عليه وسلم فضل تمكن، أو لأنه يتوجه فكره إلى الموعظة، فيظهر عليه آثار الهيبة الإلهية. واستدل به على أنه يستحب للخطيب أن يفخم أمر الخطبة، ويرفع صوته وكلامه، ليكون مطابقا للفصل الذي يتكلم فيه من ترغيب أو ترهيب. ولعل اشتداد غضبه صلى الله عليه وسلم كان عند إنذاره أمرا عظيما. (كأنه منذر جيش) هو الذي يجيء مخبرا للقوم بما قد دهمهم من عدو أو غيره، أي كمن ينذر قوما من قرب جيش عظيم قصدوا الإغارة عليهم. (يقول) ضميره عائد لمنذر، والجملة صفته (صبحكم) بتشديد الباء، وفاعله ضمير يعود إلى العدو المنذر منه، ومفعوله يعود إلى المنذرين، أي نزل بكم العدو صباحا. والمراد سينزل، وصيغة الماضي للتحقق مثل حال الرسول ? في خطبته وإنذاره بمجيء القيامة، وقرب وقوعها، وتهالك الناس فيما يرديهم بحال من ينذر قومه عند غفلتهم بجيش قريب منهم، يقصد الإحاطة بهم بغتة من كل جانب. فكما أن المنذر يرفع صوته، وتحمر عيناه، ويشتد غضبه على تغافلهم، كذلك حال رسول الله ?. وإلى قرب المجيء أشار بإصبعيه. ونظيره ما روى أنه لما نزل: ?وأنذر عشيرتك الأقربين? صعد الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر يا بني عدي-الحديث. (مساكم) بتشديد السين مثل "صبحكم" ويحتمل أن ضمير يقول للنبي ?، والجملة حال. وضمير "صبحكم" للعذاب والمراد به قرب منكم إن لم تطيعوني. (ويقول) أي النبي صلى الله عليه وسلم عطف على احمرت. (بعثت أنا والساعة) روى برفعها ونصبها، والمشهور نصبها على المفعول معه، والرفع عطفا على الضمير، وأكد بالضمير المنفصل ليصح العطف، أي بعثني قريبا من القيامة. (ويقرن) بضم الراء على المشهور الفصيح، وحكر كسرها. (السبابة) بالجر على البدلية وجوز الرفع أي المسبحة. (رواه مسلم) في الجمعة، وكذا البيهقي (ج3ص206، 213) وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه في السنة، وهذا طرف من حديث طويل عندهم.

(6/423)


1421- قوله: (وعن يعلى بن أمية) بضم الهمزة وفتح الميم وتشديد التحتية. (ونادوا) أي أهل النار الداخلون فيها، وهم الكفار. (يا مالك) بإثبات الكاف، وهي قراءة الجمهور. وقرأ الأعمش "ونادوا يا مال" بالترخيم، ورويت عن علي، وهي قراءة ابن مسعود، وفيه إشعار بأنهم لضعفهم لا يستطيعون تأدية اللفظ بالتمام، فإن قلت: كيف قال ونادوا يا مالك بعد ما وصفهم بالابلاس؟ أجيب بأنها أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة، فتختلف
ليقض علينا ربك? متفق عليه.
1422-(9) وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان، قالت: ما أخذت ?ق والقرآن المجيد? إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرأها في كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس)).
بهم الأحوال، فيسكتون أوقاتا لغلبة اليأس عليهم، ويستغيثون أوقاتا لشدة ما بهم. (ليقض علينا ربك) أي بالموت قال الطيبي: من قضي عليه أماته. ومنه قوله: ?فوكزه موسى فقضى عليه? [28: 15] أي أماته. ومعنى الآية يقول الكفار لمالك خازن النار سل ربك أن يقضي علينا، يقولون هذا لشدة ما بهم، فيجابون بقوله: ?إنكم ماكثون? أي خالدون. وفيه نوع استهزاء بهم دل هذا الحديث وما قبله. وقوله تعالى: ?إن أنت إلا نذير? [35: 23]، وقوله تعالى: ?وإن من أمة إلا خلا فيها نذير? [35: 24]، وقوله تعالى: ?ليكون للعالمين نذيرا? [25: 1]، على أن الناس إلى الإنذار والتخويف أحوج منهم إلى التبشير لتماديهم في الغفلة وانهماكهم في الشهوات. (متفق عليه) أخرجه البخاري في ذكر الملائكة وصفة النار من بدء الخلق، وفي تفسير سورة الزخرف، ومسلم في الصلاة وأخرجه أيضا أحمد (ج4ص223) والترمذي في الصلاة وأبوداود في القراءات والنسائي في السنن الكبرى والبيهقي (ج3ص211).

(6/424)


1422- قوله: (وعن أم هشام بنت حارثة النعمان) هي أخت عمرة بنت عبدالرحمن لأمها، الأنصارية النجارية. قال أحمد بن زهير: سمعت أبي يقول: أم هشام بنت حارثة بايعت بيعة الرضوان، ذكره ابن عبدالبر في الاستيعاب، ولم يذكر اسمها. وذكرها الحافظ في الإصابة والتهذيب والتقريب "ولم يسمها" أيضا، وقال في التقريب صحابية مشهورة. (قالت: ما أخذت) أي ما حفظت (ق والقرآن المجيد) أي هذه السورة. (يقرأها) قال الطيبي: نقلا عن المظهر، وتبعه ابن الملك: إن المراد أول السورة لا جميعها؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقرأها جميعها في الخطبة. وقال ابن حجر: أي كلها وحملها على أول السورة صرف للنص عن ظاهره-انتهى. وقال القاري: الظاهر أنه كان يقرأ في كل جمعة بعضها، فحفظت الكل في الكل. قلت: الظاهر عندي ما قاله ابن حجر. والله تعالى أعلم. (كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس) فيه دليل على مشروعية قراءة سورة ق في الخطبة كل جمعة. قال العلماء: وسبب اختياره صلى الله عليه وسلم هذه السورة لما اشتملت عليه من ذكر البعث والموت والمواعظ الشديدة والزواجر الأكيدة. وفيه دلالة لقراءة شيء من القرآن في الخطبة كما سبق، وقد قام الإجماع على عدم وجوب قراءة السورة المذكورة ولا بعضها في الخطبة، وكانت محافظته على هذه السورة اختيارا منه لما هو الأحسن في الوعظ والتذكير. وفيه دلالة على ترديد الوعظ، كذا في السبل. قال الشوكاني بعد ذكر أحاديث ورد فيها ذكر قراءة القرآن في الخطبة. وقد استدل بحديث الباب وما ذكرناه من الأحاديث على مشروعية قراءة شيء من القرآن
رواه مسلم.
1423-(10) وعن عمرو بن حريث، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفيها بين كتفيه يوم الجمعة)). رواه مسلم.
1424-(11) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب: ((إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب، فليركع ركعتين،

(6/425)


في الخطبة، ولا خلاف في الاستحباب، وإنما الخلاف في الوجوب، كما تقدم، قال: والظاهر من أحاديث الباب أن النبي ? كان لا يلازم قراءة سورة أو آية مخصوصة في الخطبة، بل كان يقرأ مرة هذه السورة ومرة هذه، ومرة هذه الآية ومرة هذه-انتهى. وعلى هذا فالمراد بكل جمعة في حديث الباب جمعات حضرت أم هشام فيها. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج6ص435- 436، 463) وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3ص211) والحاكم (ج1ص284).
1423- قوله: (وعن عمرو بن حريث) بالتصغير القرشي المخزومي، صحابي صغير مات سنة (85) وقيل: قبض النبي صلى الله عليه وسلم، وله (12) سنة. (خطب) وفي رواية: خطاب الناس. (وعليه عمامة) بكسر العين. (سوداء) فيه لباس الثوب الأسود في الخطبة وإن كان الأبيض أفضل منه، كما ثبت في الحديث الصحيح: خير ثيابكم البياض. وأما لباس الخطباء السوداء في حال الخطبة فجائز، ولكن الأفضل البياض كما ذكرنا، وإنما لبس العمامة السوداء في هذا الحديث بيانا للجواز. (قد أرخى) أي سدل وأرسل. (طرفيها) بالتثنية أي طرفي عمامته. قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ بلادنا وغيرها طرفيها بالتثنية، وكذا هو في الجمع بين الصحيحين للحميدي. وذكر القاضي عياض أن الصواب المعروف طرفها بالإفراد. وإن بعضهم رواه طرفيها بالتثنية، والله أعلم-انتهى. (بين كتفيه يوم الجمعة) فيه أن إرسال طرفي العمامة بين الكتفين ولبس الزينة يوم الجمعة سنة. قال الأمير اليماني. من آداب العمامة إرسال العذبة بين الكتفين، ويجوز تركها بالأصالة. قلت: سيأتي بسط الكلام فيه في كتاب اللباس. ومن أحب التفصيل رجع إلى تحفة الأحوذى (ج3ص48- 50) وشرح الشمائل (ص66- 67) للبيجوري، والمرقاة (ج2ص232). (رواه مسلم) في الحج، وأخرجه أبوداود والنسائي في الزينة، والترمذي في الشمائل، وابن ماجه في الصلاة، والبيهقي (ج3ص246).

(6/426)


1424- قوله: (وهو يخطب) جملة حالية أي يوم الجمعة. (إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب فليركع ركعتين) أي ندبا. وفيه دليل مشروعية تحية المسجد واستحبابها حال الخطبة للداخل بتلك الحالة.
وليتجوز فيهما))
وإلى ذلك ذهب الحسن وابن عيينة والشافعي وأحمد وإسحاق ومكحول وأبوثور وابن المنذر. وحكاه النووي عن فقهاء المحدثين. وحكى ابن العربي أن محمد بن الحسن حكاه عن مالك. (وليتجوز) بكسر اللام ويسكن أي ليخفف. فيه مشروعية التخفيف لتلك الصلاة ليتفرغ لسماع الخطبة، ولا خلاف في ذلك بين القائلين بأنها تشرع صلاة التحية حال الخطبة. والحديث حجة على مالك وأبي حنيفة في منع الداخل عن صلاة التحية في أثناء الخطبة، وقد أجاب من تبعهما عن هذا الحديث بأجوبة: منها المعارضة بقوله تعالى: ?وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا? [7: 204] وبقوله صلى الله عليه وسلم: إذا قلت لصاحبك أنصت، والإمام يخطب يوم الجمعة، فقد لغوت، قالوا فإذا امتنع الأمر بالمعروف، وهو أمر اللاغي بالإنصات مع قصر زمنه، فمنع التشاغل بالتحية مع طول زمنها أولى، وبقوله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب للذي دخل يتخطى رقاب الناس: اجلس، فقد آذيت. أخرجه أبوداود والنسائي، وصححه ابن خزيمة وغيره من حديث عبدالله بن بسر، قالوا: فأمره بالجلوس، ولم يأمره بالتحية. وروى الطبراني من حديث ابن عمر رفعه إذا دخل أحدكم، والإمام على المنبر، فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام. والجواب عن ذلك كله أن المعارضة التي تؤول إلى إسقاط أحد الدليلين إنما يعمل بها عند تعذر الجمع، والجمع ههنا ممكن. أما الآية فليست الخطبة كلها قرآنا. وأما ما فيها من القرآن فالجواب عنه كالجواب عن الحديث، وهو تخصيص عمومه بالداخل. وأيضا فمصلي التحية يجوز أن يطلق عليه أنه منصت لحديث أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول فيه؟ فأطلق على القول سرا السكوت. وأما حديث ابن بسر فهو

(6/427)


أيضا واقعة عين لا عموم فيها، فيحتمل أن يكون ترك أمره بالتحية قبل مشروعيتها. ويحتمل أن يجمع بينهما بأن يكون قوله: "اجلس" أي بشرطه، وقد عرف قوله للداخل. فلا تجلس حتى تصلي ركعتين. فمعنى قوله: "اجلس" أي لا تتخط، أو ترك أمره بالتحية لبيان الجواز فإنها ليست واجبة، أو لكون دخوله وقع في أواخر الخطبة بحيث ضاق الوقت عن التحية، وقد اتفقوا على استثناء هذه الصورة. ويحتمل أن يكون صلى التحية في مؤخر المسجد، ثم تقدم ليقرب من سماع الخطبة فوقع منه التخطي فأنكر عليه. والجواب عن حديث ابن عمر بأنه ضعيف فيه أيوب بن نهيك، وهو منكر الحديث، قاله أبوزرعة وأبوحاتم. والأحاديث الصحيحة لا تعارض بمثله كذا في الفتح. قال بعض الحنفية. حديث جابر مبيح للصلاة، وحديث الإنصات محرم لها، فاجتمع المبيح والمحرم فترجح-انتهى. وفيه أن الترجيح للمحرم إنما يكون إذا لم يمكن الجمع، والجمع ههنا ممكن، كما تقدم. وقال الأمير اليماني: هذا أمر الشارع، وهذا أمر الشارع، فلا تعارض بين أمريه، بل القاعد ينصت، والداخل يركع التحية. وقال الشوكاني: حديث الإنصات وارد في

(6/428)


المنع من المكالمة للغير، ولا مكالمة في الصلاة، ولو سلم أنه يتناول كل كلام حتى الكلام في الصلاة لكان عموما مخصصا بأحاديث الباب. وقال السندي: لا دليل على المنع من الركعتين عند الحنفية إلا حديث: إذا قلت لصاحبك أنصت. الخ. وذلك؛ لأن الأمر بالمعروف أعلى من تحية المسجد، فإذا منع منه منها بالأولى. وفيه بحث أما أولا فلأنه استدلال بالدلالة أو القياس في مقابلة النص، فلا يسمع. وأما ثانيا فلأن المضي في الصلاة لمن شرع فيها قبل الخطبة جائز، بخلاف المضي في الأمر بالمعروف لمن شرع فيه قبل. فكما لا يصح قياس الصلاة على الأمر بالمعروف بقاء لا يصح ابتداء-انتهى. ومنها أن حديث جابر هذا أصله قصة سليك الغطفاني جعله الراوي قولا كليا وتشريعا عاما وضابطة من جانب نفسه، فهو إدراج من الراوي. وتوضيح ذلك أنه روي عن جابر في هذه المسألة حديثان: فعلي وقولي. أما الفعلي، وهي قصة سليك، فهو أنه قال: دخل رجل (وهو سليك الغطفاني) يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال صليت؟ قال لا، قال فصل ركعتين، رواه الجماعة. وأما الثاني أي القولي فهو قوله صلى الله عليه وسلم: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة الخ. وكلاهما يدل على جواز صلاة التحية حال الخطبة للداخل بتلك الحالة خلافا لمالك وأبي حنيفة. وقد حمل المانعون قصة سليك على أعذار، وأجابوا عنها بأجوبة تزيد على عشرة كلها مردودة، سردها الحافظ في الفتح مع الرد عليها. وقد تعقب العيني على كلام الحافظ ههنا كعادته بما لا يلتفت إليه. ومن أحب الوقوف على ذلك رجع إلى الفتح والعمدة. وأما الحديث القولي فتصدوا للجواب عنه أيضا مع اعترافهم بأن التفصي عنه مشكل لكونه تشريعا عاما، فقال بعضهم قد تكلم الدارقطني في هذا المتن وأعله، فقال إن أصله واقعة جعله الراوي ضابطة، فالصواب أنه مدرج من الراوي. قلت: لم يقل الدارقطني بكون الحديث القولي مدرجا، بل أشار إلى شذوذه، ولو سلم فلا يثبت

(6/429)


الإدراج بالادعاء والوجدان، بل لا بد لذلك من وجود ما يدل على ذلك واضحة، كما ذكره أهل الأصول وليس ههنا شيء يدل على كونه مدرجا. وأما قول بعضهم: أن القرينة عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان قاله في تلك القصة، يعني أنه لو كان الفعل والقول منه عليه السلام مسلسلا، فلم أمسك عن الخطبة إذن. ولم أمهلها؟ فإن سنة التحية حينئذ أن تؤدى خلال الخطبة أيضا، فلا حاجة إلى الإمساك مع ثبوته قطعا. ففيه أنه لم يثبت الإمساك عن الخطبة أصلا، فإن ما روي في ذلك مرسل أو معضل، والمرسل ليس بحجة على القول الصحيح. ويرده أيضا حديث أبي سعيد عند الترمذي بلفظ: فأمره فصلى ركعتين، والنبي ? يخطب. وقد أجاب الحافظ في مقدمة الفتح عن إعلال الدارقطني لهذا الحديث حيث قال: قال الدارقطني وأخرجا جميعا حديث شعبة عن عمرو عن جابر: إذا جاء أحدكم، والإمام يخطب، فليصل ركعتين، وقد رواه ابن جريج وابن عيينة وحماد بن زيد وأيوب وورقاء وحبيب بن يحيى كلهم عن عمرو: أن رجلا دخل المسجد، فقال له: صليت؟ قال الحافظ:

(6/430)


أراد الدارقطني أن شعبة خالف هؤلاء الجماعة في سياق المتن واختصروه، وهم إنما أوردوه على حكاية قصة الداخل، وأمر النبي ? له بالصلاة ركعتين، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وهي قصة محتملة للخصوص. وسياق شعبة يقتضي العموم في حق كل داخل. قال الحافظ: فهي مع اختصارها أزيد من روايتهم، وليست بشاذة، فقد تابعه على ذلك روح بن القاسم عن عمرو بن دينار، أخرجه الدارقطني في السنن، فهذا يدل على أن عمرو بن دينار حدث به على الوجهين-انتهى. قلت: وقد تابعه على ذلك أيضا ابن عيينة عن عمرو عند الدارقطني، وطلحة عن جابر عند أحمد وأبي داود، وأبوسفيان عن جابر عند أحمد ومسلم والدارقطني. فدعوى التفرد والشذوذ أو الإدراج باطلة مردودة. ومنها أن هذا الحديث مضطرب حيث ورد عند مسلم والنسائي في رواية شعبة عن عمرو بلفظ: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، وقد خرج الإمام فليصل ركعتين، وهذا يدل على أن الأمر بالصلاة ركعتين عند خروج الإمام، وقبل الشروع في الخطبة. وورد في بعض الروايات: إذا جاء أحدكم والإمام يخطب. وهذا يدل على أن الأمر بالتحية للداخل حال الخطبة. وورد عند البخاري والدارقطني في رواية شعبة عن عمرو: إذا جاء أحدكم والإمام يخطب أو قد خرج أي بالشك. فما دام لم ينفصل لفظ النبي صلى الله عليه وسلم لا تبني عليه المسألة. قلت: أكثر الروايات الصحيحة وأشهرها بلفظ: إذا جاء أحدكم والإمام يخطب، فيقدم على غيره على أنه لا اختلاف بين هذه الروايات، فإن حاصلها أنه يستحب صلاة التحية للداخل بعد خروج الإمام مطلقا سواء شرع في الخطبة أو لم يشرع. و"أو" في رواية البخاري والدارقطني للتنويع لا للشك من الراوي. ومنها أن معنى قوله "والإمام يخطب" أي يريد ويقرب أن يخطب، يدل عليه قوله في رواية مسلم: وقد خرج الإمام، ففيه أن الأمر فيما لم يخطب بعد، وهو بصدد أن يخطب. قلت: فيه ارتكاب المجاز من غير حاجة وضرورة، فإنه لا منافاة بين اللفظين حتى يأول أحدهما

(6/431)


إلى الآخر، فيشرع التحية لمن دخل حال كون الإمام قد خرج للخطبة شرع فيها أم لا. وفيه أيضا أنه يقتضي جواز التحية للداخل في ابتداء قعود الإمام على المنبر، وهو خلاف مذهبهم، فإنهم صرحوا بأن خروج الإمام يقطع الصلاة والكلام، فلا يمهل الإمام اليوم أحدا أن يصلي شيئا، ولا ينتظر له، ولا يمسك له عن الشروع في الخطبة. ومنها أن عمل أهل المدينة خلفا عن سلف من لدن الصحابة إلى عهد مالك أن التنفل في حال الخطبة ممنوع مطلقا، وهذا الجواب للمالكية، وهو أقوى ما اعتمدوه في هذه المسألة، كما صرح به القرطبي وغيره. قال الحافظ: وتعقب بمنع اتفاق أهل المدينة على ذلك. فقد ثبت فعل التحية عن أبي سعيد الخدري، روى ذلك عنه الترمذي وابن خزيمة وصححاه، وهو من فقهاء الصحابة من أهل المدينة، وحمله عنه أصحابه من أهل المدينة أيضا، ولم يثبت عن أحد من الصحابة صريحا ما يخالف ذلك. وأما ما نقله ابن بطال
رواه مسلم.
1425-(12) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة)).

(6/432)


عن عمر وعثمان واحد من الصحابة من المنع مطلقا، فاعتماده في ذلك على روايات عنهم فيها احتمال كقول ثعلبية بن أبي مالك: أدركت عمر وعثمان، وكان الإمام إذا خرج تركنا الصلاة. وجه الاحتمال أن يكون ثعلبة عنى بذلك من كان داخل المسجد خاصة. قال شيخنا الحافظ العراقي في شرح الترمذي: كل من نقل عنه يعني من الصحابة منع الصلاة، والإمام يخطب محمول على من كان داخل المسجد؛ لأنه لم يقع عن أحد منهم التصريح بمنع التحية، وقد ورد فيها حديث يخصها فلا تترك بالاحتمال-انتهى. وللمانعين أجوبة أخرى مستبشعة مستكرهة لا ينبغي الاشتغال بذكرها. والصحيح عندنا ما ذهب إليه الشافعي وأحمد من أنه يشرع صلاة التحية حال الخطبة للداخل بتلك الحالة لحديث الباب، والله تعالى أعلم. (رواه مسلم) من طريق أبي سفيان عن جابر قال: جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس، فقال له: يا سليك! قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما، ثم قال: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب الخ. وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والدارقطني والبيهقي (ج3ص194) وأخرج مسلم أيضا من طريق شعبة عن عمرو بن دينار عن جابر مختصرا بغير قصة سليك أن النبي ? خطب فقال: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام فليصل ركعتين، وأخرجه البخاري والدارقطني أيضا وقد ذكرنا لفظهما.

(6/433)


1425- قوله: (من أدرك ركعة من الصلاة) قال ابن الملك: يعني صلاة الجمعة. وقال الطيبي: هذا مختص بالجمعة، بينه حديث أبي هريرة في الفصل الثالث-انتهى. وإليه يشير صنيع البغوي حيث أورد هذا الحديث في باب صلاة الجمعة. والظاهر حمله على العموم. قال البيهقي بعد روايته (ج3ص203): قال الزهري. (راوي الحديث) والجمعة من الصلاة هذا هو الصحيح، وهو رواية الجماعة عن الزهري. وفي رواية معمر. (عن الزهري) دلالة على أن لفظ الحديث في الصلاة مطلق وأنها بعمومها تتناول الجمعة، كما تتناول غيرها من الصلوات-انتهى. قلت: ورواه الحاكم من حديث الأوزاعي وأسامة بن زيد الليثي ومالك بن أنس وصالح بن أبي الأخضر كلهم عن الزهري في الجمعة نصا، وهذا لا ينافي الروايات المطلقة؛ لأن ذكر فرد من أفراد العام لا يقتضى نفي ما عداه، على أن ما روى في خصوص الجمعة مخدوش كله. (مع الإمام) تفرد بهذا اللفظ مسلم. (فقد أدرك الصلاة) ليس على ظاهره بالإجماع؛ لأنه لا يكون بالركعة الواحدة مدركا لجميع الصلاة، بحيث تحصل براءة ذمته من الصلاة، فإذا فيه إضمار، تقديره

(6/434)


"فقد أدرك وقت الصلاة أو حكم الصلاة" ويلزمه إتمام بقيتها. وقيل: التقدير "فقد أدرك وجوب الصلاة" يعني من لم يكن أهلا للصلاة ثم صار أهلا، وقد بقي من وقت الصلاة قدر ركعة أو أقل وجبت عليه الصلاة ولزمته، فهو محمول على أن معنى إدراك الصبي البلوغ والحائض الطهارة والكافر الإسلام. وقيل: التقدير "فقد أدرك فضل الصلاة" أي يحصل له أجر صلاة الجماعة وثوابها. والراجح عندنا تقدير الوقت أو الحكم، يعني مدرك الركعة مدرك لحكم الصلاة كله من سهو الإمام ولزوم الإتمام وغير ذلك، ويؤيده قوله مع الإمام. والحديث عام لكنهم حملوه على صلاة الجمعة بقرينة الحديث الآتي في آخر الباب. قال الشافعي: فقد أدرك الصلاة أي لم تفته ومن لم تفته الجمعة صلاها ركعتين. قال ابن الملك: فيقوم بعد تسليم الإمام ويصلي ركعة أخرى-انتهى. والظاهر حمله على العموم، كما تقدم، وقد ظهر من إطلاق لفظ الصلاة حكم الجمعة أن مدرك ركعة من صلاة الجمعة مع الإمام مدرك الجمعة، فيلزمه إتمامها وهو قول أكثر أهل العلم، منهم ابن مسعود وابن عمر وأنس وابن المسيب والحسن والزهري والنخعي ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأبي حنيفة وصاحبيه، وقال عطاء وطاووس ومجاهد ومكحول: من لم يدرك الخطبة صلى أربعا؛ لأن الخطبة شرط للجمعة، فلا تكون جمعة في حق من لم يوجد في حقه شرطها وهذا ليس بشيء؛ لأنه لم يقم دليل على اشتراط الخطبة، ولأن الحديث يرده، ولأن الأول قول من ذكرنا من الصحابة ولا مخالف لهم في عصرهم. بقي حكم من أدرك أقل من ركعة من صلاة الجمعة بأن دخل في السجدة أو التشهد قبل سلام الإمام. واختلف فيه أيضا فذهب الحكم وحماد وأبوحنيفة وأبويوسف وداود إلى أنه يكون مدركا للجمعة فيصلي ركعتين لا أربعا؛ لإطلاق حديث: ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا. قال ابن حزم في المحلى (ج5ص74): فأمره رسول الله ? بأن يصلي مع الإمام ما أدرك وعم عليه السلام ولم يخص، وسماه مدركا

(6/435)


لما أدرك من الصلاة، فمن وجد الإمام جالسا أو ساجدا فإن عليه أن يصير معه في تلك الحال ويلتزم إمامته ويكون بذلك بلا شك داخلا في صلاة الجماعة، فإنما يقضى ما فاته ويتم تلك الصلاة ولم تفته إلا ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان فلا يصلي إلا ركعتين-انتهى. وقال الشافعي وأحمد ومالك ومحمد: من لم يدرك ركعة مع الإمام بل أدركه في السجدة أو التشهد لا يكون مدركا للجمعة ويصلي ظهرا أربعا، ثم اختلفوا: فقال الشافعي، كما في كتب فروعه: يتم بعد سلامه ظهرا، وينوي وجوبا في إقتداءه جمعة موافقة مع الإمام. وقال مالك: إذا قام يكبر تكبيرة أخرى. وقال الثوري: إذا أدرك الإمام جالسا لم يسلم صلى أربعا، ينوي الظهر وأحب إلي أن يستفتح الصلاة. وقال عبدالعزيز بن أبي سلمة: قعد بغير تكبيرة فإذا سلم الإمام قام فكبر ودخل في صلاة نفسه، وإن قعد مع الإمام بتكبيرة سلم إذا فرغ الإمام ثم قام فكبر للظهر. وقال أحمد، كما في كتب فروعه: نوي ظهرا عند إحرامه إن كان دخل وقت الظهر، وإلا بأن لم يكن دخل وقت الظهر عند إحرامه، ونوي الجمعة فإنه يتم صلاته نفلا، واستدل هؤلاء بحديث الباب
متفق عليه.
?الفصل الثاني?
1426-(13) عن ابن عمر، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ أراه المؤذن،

(6/436)


فإنه بإطلاقه يشمل الجمعة، فيلزم أن مدرك ركعة من الجمعة مدرك لها، وبمفهومه يدل على أن من لم يدرك ركعة بل دونها، فهو غير مدرك، ومن لم يدرك الجمعة يصلي أربعا. وأجاب الحنفية بأن الحديث مطلق، فيفيد أن حكم جميع الصلوات واحد، وحكم سائر الصلوات أنه إذا أدرك شيئا منها مع الإمام، ولو في التشهد يصلي ما أدرك معه ويتم الباقي ولا يزيد على ذلك، فكيف يزيد في الجمعة بإطلاق الحديث، والمفهوم عندهم لا عبرة به ولو كان معتبرا لا يقدم على الصريح، واستدل الشافعي ومن وافقه أيضا بحديث أبي هريرة الآتي في آخر الباب، وأجيب عنه بأنه حديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج، كما ستعرف. والراجح عندي ما ذهب إليه أبوحنيفة: من أن من أدرك مع الإمام شيئا من صلاة الجمعة ولو في التشهد يصلي ما أدرك معه ويتم الباقي بعد سلامة ولا يصلي ظهرا أربعا لإطلاق ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا. وأما ما ذهب إليه الشافعي وغيره فلم أجد حديثا صحيحا صريحا يدل عليه. ويقوي قول أبي حنيفة: إن المسافر إذا أدرك المقيم في التشهد لزمه الإتمام وكان بمنزلة مدرك المقيم في التحريمة فوجب مثله في الجمعة إذ الدخول في كل واحدة منهما بغير الفرض. قيل: ويرد على مذهب الشافعي ومن وافقه مخالفة الأصول في إقتداء مصلى الظهر بمن يصلي الجمعة إن دخل بنية الظهر، فإنه يلزم الاختلاف على الإمام في النية. وقد قال عليه السلام: لا تختلفوا على الإمام، ولذا لا يجوز صلاة الظهر خلف من يصلي العصر أو بناء الظهر على الجمعة إن دخل بنية الجمعة وهما صلاتان مستقلتان، فكيف يبني الظهر على الجمعة، ولذا ترى القائلين ببناء الظهر اختلفوا فيما بينهم جدا، كما تقدم فتأمل. (متفق عليه) قد تقدم أن قوله مع الإمام مما تفرد به مسلم دون البخاري. والحديث أخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم.

(6/437)


1426- قوله: (يخطب خطبتين) أي يوم الجمعة، كما في رواية مسلم وغيره وهذا إجمال وتفصيله: (كان يجلس) أي على المنبر استئناف مبين. (إذا صعد المنبر) قال العلماء: يستحب الخطبة على المنبر. (حتى يفرغ أراه) بضم الهمزة. (المؤذن) بالنصب على المفعولية لأراه، وبالرفع على الفاعلية ليفرغ. وزاد لفظ: "أراه" لأنه لم يقل شيخه لفظ المؤذن، فيقول الراوي أظن أنه أراد بفاعل يفرغ المؤذن. وقال الطيبي: أي قال الراوي أظن
ثم يقوم فيخطب، ثم يجلس ولا يتكلم، ثم يقوم فيخطب)). رواه أبوداود.
1427-(14) وعن عبدالله بن مسعود، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا.

(6/438)


أن ابن عمر أراد بإطلاق قوله: حتى يفرغ تقييده بالمؤذن. والمعنى كان رسول الله ? يجلس على المنبر مقدار ما يفرغ المؤذن من أذانه-انتهى. وفيه مشروعية الجلوس على المنبر قبل الخطبة الأولى، واتفقوا على أنه سنة. (ثم) أي بعد ما يفرغ المؤذن من الأذان. (يقوم) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم. (فيخطب) أي الخطبة الأولى. (ثم يجلس) أي جلسة خفيفة. قال شيخنا في شرح الترمذي: لم يرد تصريح مقدار الجلوس بين الخطبتين في حديث الباب، وما رأيته في حديث غيره، وذكر ابن التين أن مقداره كالجلسة بين السجدتين، وعزاه لابن القاسم، وجزم الرافعي وغيره أن يكون بقدر سورة (الإخلاص)-انتهى. (ولا يتكلم) وفي سنن أبي داود: فلا يتكلم، وكذا نقله الجزري أي في تلك الجلسة بغير الذكر أو الدعاء أو القراءة سرا، والأولى القراءة لرواية ابن حبان كان رسول الله ? يقرأ في جلوسه كتاب الله، والأولى قراءة (الإخلاص)، كذا في شرح الطيبي، ذكره القاري. وقال الحافظ في الفتح: واستفيد من قوله: فلا يتكلم أن حال الجلوس بين الخطبتين لا كلام فيه، لكن ليس فيه نفي أن يذكر الله أو يدعوه سرا-انتهى. قلت: لكن لم يثبت في ذلك دعاء مأثور أو ذكر مخصوص أو قراءة آية أو سورة معينة أو غير معينة. وأما رواية ابن حبان التي أشار إليها القاري نقلا عن شرح الطيبي، فلم أجدها. (ثم يقوم فيخطب) أي الخطبة الثانية. (رواه أبوداود) ومن طريق البيهقي (ج3ص205) وفي سنده العمري، وهو عبدالله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وفيه مقال. قلت: وأخرجه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي من طريق عبيدالله بن عمر. (المصغر وهو ثقة) عن نافع عن عبدالله بن عمر بلفظ: كان يخطب قائما ثم يقعد ثم يقوم، كما تفعلون اليوم.

(6/439)


1427- قوله: (استقبلناه بوجوهنا) قال ابن الملك: أي توجهناه، فالسنة أن يتوجه القوم الخطيب والخطيب القوم-انتهى. قال أبوطيب المدني في شرح الترمذي: أي لا بالتحلق حول المنبر، لما ورد من المنع عنه يوم الجمعة، بل بالتوجه إليه في الصفوف، ويؤيده ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري في خطبة العيد ولفظه: فأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم. وأما حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس يوما على المنبر وجلسنا حوله، رواه البخاري، فيمكن حمله على غير الجمعة والعيد. والحديث يدل على مشروعية استقبال الناس الخطيب. ويدل عليه أيضا ما رواه ابن ماجه عن
رواه الترمذي، وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث محمد بن الفضل، وهو ضعيف، ذاهب الحديث.

(6/440)


عدي بن ثابت عن أبيه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم. قال في الزوائد: رجال إسناده ثقات إلا أنه مرسل. وقال الحافظ في التلخيص: قال ابن ماجه أرجو أن يكون متصلا، كذا قال، ووالد عدي لا صحبة له إلا أن يراد بأبيه جده أبوأبيه فله صحبة على رأي بعض الحفاظ من المتأخرين-انتهى. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمة ثابت والد عدي بعد ذكر الاختلاف في اسم جد عدي بن ثابت ما لفظه: ولم يترجح لي في اسم جده إلى الآن شيء من هذه الأقوال كلها، إلا أن أقربها إلى الصواب أن جده هو جده لأمه عبدالله بن يزيد الخطمي، والله أعلم. بقي المصنف (صاحب تهذيب الكمال) أن ينبه على ما وقع عند ابن ماجه من رواية عدي بن ثابت عن أبيه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم. قال ابن ماجه أرجو أن يكون متصلا. قلت. (قائلة الحافظ): لا شك ولا ارتياب في كونه مرسلا أو يكون سقط منه عن جده-انتهى. وفي الباب أيضا عن مطيع أبي يحيى المدني عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام على المنبر استقبلناه بوجوهنا. أخرجه الأثرم. ومطيع هذا قال ابن حبان في الثقات بعد ذكر الحديث من طريقة: لست أعرفه ولا أباه. وفي الباب أيضا عن البراء أخرجه ابن خزيمة ومن طريقة البيهقي (ج3ص198) وممن كان يستقبل الإمام ابن عمر. أخرجه البيهقي (ج3ص199) وأنس أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبونعيم والبيهقي. قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي ? وغيرهم، يستحبون استقبال الإمام إذا خطب، وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق. قال العراقي وغيرهم عطاء وشريح ومالك والأوزاعي وأصحاب الرأي. قال ابن المنذر: هذا كالإجماع. وقال في المحلى شرح الموطأ: قال الشمس الأئمة الحلواني من كان أمام الإمام يواجهه، ومن كان يمينا ويسارا انحرف إلى الإمام، قال: والرسم في

(6/441)


زماننا استقبال القبلة وترك استقبال الخطيب لما يلحقهم من الحرج بتسوية الصفوف بعد الخطبة لكثرة الزحام-انتهى. قال صاحب الأوجز: بل لشيوع الجهل، فإن كثرة الزحام كان في الزمن الأول أيضا-انتهى. قال القسطلاني: ومن لازم استقبال الإمام استدباره، هو القبلة واغتفر لئلا يصير مستدبر القوم الذين يعظهم، وهو قبيح خارج عن عرف المخاطبات، ومن حكمة استقبالهم للإمام التهيؤ لسماع كلامه وسلوك الأدب معه في استماع كلامه فإذا استقبله بوجهه وأقبل عليه بجسده وبقلبه وحضور ذهنه كان ادعى لتفهيم موعظته وموافقته فيما شرع له القيام لأجله. (هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث محمد بن فضل) أي ابن عطية الكوفي نزيل بخاري. (وهو ضعيف ذاهب الحديث) كناية عن سوء حفظه. قال الطيبي: أي ذاهب حديثه غير حافظ
?الفصل الثالث?
1428-(15) عن جابر بن سمرة، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائما، فمن نبأك أنه كان يخطب جالسا فقد كذب، فقد والله صليت معه، أكثر من ألفي صلاة)). رواه مسلم.
1429-(16) وعن كعب بن عجرة، أنه دخل المسجد وعبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعدا،
للحديث، وهو عطف بيان لقوله ضعيف-انتهى. قلت: محمد بن الفضل هذا رماه الأئمة بالكذب منهم أحمد وابن معين والنسائي وغيرهم. مات سنة (180). قال الحافظ في التلخيص (ص136) قد تفرد بهذا الحديث، وضعفه به الدارقطني وابن عدي وغيرهما. قال الترمذي: لا يصح في هذا الباب عن النبي ? شيء يعني صريحا. قلت: أحاديث الباب وإن كانت ضعيفة فقد شد عضدها عمل السلف والخلف على ذلك، كما تقدم.

(6/442)


1428- قوله: (كان النبي ? يخطب) يوم الجمعة. (قائما) على المنبر. (ثم يجلس) بعد الخطبة الأولى على المنبر جلسة خفيفة. قال في اللمعات: ثم ههنا للتراخي باعتبار المبدأ، والثاني للمشاكلة. (فمن نبأك) بتشديد الموحدة أي أخبرك. وفي رواية أبي داود: فمن حدثك. (فقد والله صليت) قال الطيبي: "والله" قسم اعترض بين "قد ومتعلقه" وهو دال على جواب القسم، والفاء في "فمن" جواب شرط محذوف، وفي "فقد كذب" جواب من وفي "فقد والله" سببية، والمعنى أنه كاذب ظاهر الكذب بسبب أني صليت. (معه أكثر من ألفي صلاة) أي من الجمعة وغيرها، أو أراد التكثير لا التحديد؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقم بالمدينة إلا عشر سنين، وأول جمعة صلاها هي الجمعة التي تلي قدومه المدينة، فلم يصل ألفي جمعة بل نحو خمسمائة، قاله القاري. وقال السندي في فتح الودود: ظاهر المقام يفيد أنه أراد صلاة الجمعة، فالعدد مشكل إلا أن يراد به الكثرة والمبالغة، فإن حمل على المطلق الصلاة فالأمر سهل-انتهى. والحديث يدل على مواظبته ? على القيام حال الخطبتين، واستدل به للشافعي ومالك ومن وافقهما على وجوب القيام في خطبة الجمعة، وفيه أن النبي ? كان يواظب على الشيء الفاضل مع جواز غيره ونحن نقول به. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والنسائي والبيهقي (ج3ص197).
1429- قوله: (عن كعب بن عجرة) بضم العين وسكون الجيم. (أنه دخل المسجد) في الكوفة. (وعبد الرحمن بن أم الحكم) بفتحتين، هو عبدالرحمن بن عبدالله بن أم الحكم بنت أبي سفيان بن حرب من
فقال: أنظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدا، وقد قال الله تعالى: ?وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما? رواه مسلم.
1430-(17) وعن عمارة بن رويبة:

(6/443)


بني أمية، استعمله معاوية أميرا على الكوفة. (فقال) أي كعب من غاية الغضب. (انظروا إلى هذا الخبيث) قال ابن حجر: فيه جواز التغليظ على من ارتكب حراما عند من قال به أو مكروها عند غيره؛ لأن إظهار خلاف ما داوم عليه الصلاة والسلام على رؤس الأشهاد ينبىء عن خبث أي خبث. (وقد قال الله تعالى) وفي بعض النسخ: وقال بغير لفظ "قد" كما في صحيح مسلم، وكذا نقله الجزري (ج6ص433). (إذا رأوا) أي أبصروا أو عرفوا. (تجارة) أي بيعا وشراء. (أو لهوا) أي طبلا. (انفضوا) أي تفرقوا. (إليها) أي إلى التجارة وما ذكر معها فيكون من باب الاكتفاء ومراعاة أقرب المذكورين، أو اختصت بالذكر لأنها المقصود الأعظم من الأمرين، فإن الطبل كان لإعلام مجيء أسباب التجارة. قال الطيبي: قوله: قد قال الله حال مقررة لجهة الإنكار أي كيف يخطب قاعدا ورسول الله ? كان يخطب قائما بدليل قوله تعالى: ?وتركوك قائما? [62: 11] وذلك أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء، فقدم تجارة من زيت الشام والنبي ? يخطب يوم الجمعة قائما فتركوه قائما وما بقي معه إلا يسير-انتهى. وهم اثنا عشر منهم أبوبكر وعمر، كما في صحيح مسلم. قال النووي: كلام ابن عجرة يتضمن إنكار المنكر والإنكار على ولاة الأمور إذا خالفوا السنة. ووجه استدلاله بالآية إن الله تعالى أخبر أن النبي ? كان يخطب قائما. وقد قال تعالى: ?لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة? [ 33: 21] مع قوله تعالى: ?فاتبعوه? وقوله تعالى: ?وما آتاكم الرسول فخذوه? [59: 60] مع قوله ?: صلوا كما رأيتموني أصلي-انتهى. قلت: استدل الشافعية بهذا الحديث على اشتراط القيام في الخطبة وفيه أن إنكار كعب على عبدالرحمن إنما هو لتركه السنة، ولو كان شرطا لما صلوا معه مع تركه له. قال ابن الهمام: لم يحكم هو أي كعب ولا غيره بفساد تلك الصلاة، فعلم أنه ليس بشرط عندهم، فيكون كالإجماع وأجيب بأنه إنما صلى خلفه مع تركه القيام الذي هو شرط خوف

(6/444)


الفتنة، أو أن الذي قعد إن لم يكن معذورا فقد يكون قعوده نشأ عن اجتهاد منه، كما قالوه في إتمام عثمان الصلاة في السفر، وقد أنكر ذلك ابن مسعود، ثم أنه صلى خلفه فأتم معه واعتذر بأن الخلاف شر ولا يخفى ما في هذا الجواب. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا النسائي وابن خزيمة والبيهقي (ج3ص196- 197)، وفي رواية ابن خزيمة: ما رأيت كاليوم قط إماما يؤم المسلمين يخطب، وهو جالس، يقول ذلك مرتين.
1430- قوله: (وعن عمارة) بضم العين وتخفيف الميم. (بن رويبة) بضم الراء وفتح الواو وسكون التحتية
أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعا يديه، فقال: قبح الله هاتين اليدين،

(6/445)


وفتح الباء الموحدة. (أنه رأى بشر) بكسر الباء وسكون الشين المعجمة. (بن مروان) بن الحكم الأموي القرشي، أخو عبدالملك بن مروان، كان واليا على الكوفة من قبل أخيه. (رافعا يديه) زاد أحمد (ج4ص261) يشير بإصبعيه يدعو. وفي رواية له (4ص136) قال حصين: كنت إلى جنب عمارة وبشر يخطبنا فلما دعا رفع يديه، ولفظ الترمذي: فرفع يديه في الدعاء، وكذا رواه البيهقي. ولفظ أبي داود: رأى عمارة بن رويبة بشر بن مروان، وهو يدعو في يوم جمعة. واعلم أنه اختلف في المراد عن رفع اليدين المذكور، ففهم البيهقي والنووي والشوكاني أن المراد به الرفع الذي يكون عند الدعاء. قال النووي في شرحه: فيه أن السنة أن لا يرفع اليد في الخطبة، وهو قول مالك وأصحابنا وغيرهم. وحكى القاضي عن بعض السلف، وبعض المالكية إباحته؛ لأن النبي ? رفع يديه في خطبة الجمعة حين استسقى، وأجاب الأولون بأن هذا الرفع كان لعارض-انتهى. وترجم البيهقي (ج3ص210) على حديث عمارة هذا، وحديث سهل بن سعد. (قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهرا يديه قط يدعو على منبره ولا على غيره، ولكن رأيته يقول هكذا، وأشار بالسبابة، وعقد الوسطى بالإبهام) باب ما يستدل به على أنه يدعو في خطبته، وقال بعد روايتهما: والقصد من الحديثين إثبات الدعاء في الخطبة، ثم فيه من السنة أن لا يرفع يديه في حال الدعاء في الخطبة ويقتصر على أن يشير بإصبعه، وثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مد يديه ودعا، وذلك حين استسقى في خطبة الجمعة، روينا عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه، وروينا عن الزهري أنه قال: كان رسول الله ? إذا خطب يوم الجمعة دعا فأشار بإصبعه وأمن الناس-انتهى. وفهم النسائي وابن أبي شيبة والطيبي: أن المراد به الرفع الذي يكون عند التكلم وخطاب الناس، كما هو عادة الخطباء والوعاظ أنهم يرفعون أيديهم

(6/446)


يمينا وشمالا ينبهون الناس على الاستماع، وبوب الترمذي وأبوداود بما يحتمل المعنيين. والراجح عندي: هو المعنى الأول لرواية أحمد والترمذي والبيهقي، فإن فيها زيادة على رواية مسلم والنسائي، فيكره رفع اليدين والإشارة بالإصبعين عند الدعاء في خطبة الجمعة في غير الاستسقاء. والله تعالى أعلم. (فقال) عمارة. (قبح الله) قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: قبح ثلاثي من باب منع أي أبعده الله ونحاه عن الخير. قال أبوعمرو: قبحت له وجهه مخففة، والمعنى قلت قبحه الله، وهو من قوله تعالى: ?ويوم القيامة هم من المقبوحين? [28: 42] أي من المبعدين الملعونين، وهو من القبح وهو الإبعاد، هذا هو المعروف في كتب اللغة، والمشهور على ألسنة الناس تشديد الباء، وقد وجهه في المصابيح والمعيار بأنه للمبالغة-انتهى. (هاتين اليدين) زاد الترمذي القصيرتين. والظاهر أنه دعاء عليه بالقبح؛ لأن هذا
لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بإصبعه المسبحة)). رواه مسلم.
1431-(18) وعن جابر، قال: ((لما استوى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر، قال: اجلسوا، فسمع ذلك ابن مسعود، فجلس على باب المسجد، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تعال يا عبدالله بن مسعود)). رواه أبوداود.

(6/447)


الرفع كان على خلاف السنة وما كان مخالفا للسنة فهو مردود مقبوح. وقيل إخبار عن قبح صنعه. (ما يزيد على أن يقول) أي يشير. (بيده هكذا وأشار) أي الراوي أو عمارة لأراءة الإشارة المذكورة. (بإصبعه المسبحة) بالجر، قال الطيبي: قوله يقول أي يشير عند التكلم في الخطبة بإصبعه يخاطب الناس وينبههم على الاستماع. والحديث يدل على كراهة رفع اليدين على المنبر في خطبة الجمعة للدعاء أو لتنبيه السامعين على الاستماع، كما هو دأب الخطباء والوعاظ على ما فهمه الطيبي. ويدل على جواز الإشارة بالإصبع أي السبابة للدعاء أو لتنبيه الناس. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3ص210).

(6/448)


1431- قوله: (لما استوى) أي استقر. (رسول الله ? يوم الجمعة على المنبر) أي ورأى بعض الحاضرين أنهم قاموا ليصلوا. (قال: اجلسوا) فيه دليل على جواز التكلم للخطيب على المنبر عند الحاجة، وقد بوب عليه أبوداود: الإمام يكلم الرجل في خطبته، وكذا البيهقي في سننه (ج3ص217)، ويؤيد ذلك قصة الرجل الداخل وأمر النبي ? له بصلاة التحية. قال ابن حجر: الظاهر أنه رأى أحدا من الحاضرين قام ليصلي فأمره بالجلوس لحرمة الصلاة على الجالس بجلوس الإمام على المنبر إجماعا. (فسمع ذلك) أي أمره ? بالجلوس. (ابن مسعود) وكان على باب المسجد. (فجلس على باب المسجد) مبادرة إلى امتثال أمره ?. (فرآه) أي ابن مسعود. (فقال) رسول الله ?. (تعال) أي تقدم. وقال القاري: أي ارتفع عن صف النعال إلى مقام الرجال وهلم إلى المسجد. وقال الراغب: أصله أن يدعى الإنسان على مكان مرتفع ثم جعل للدعاء إلى كل مكان، وتعالى ذهب صاعدا يقال عليته فتعالى. (يا عبدالله بن مسعود) ولعله دعاه النبي ? ؛ لأنه كان من فقهاء الصحابة، وقد قال: ليليني منكم أولو الأرحام والنهى، ولا يلزم منه التخطي المنهي عنه فإنه لم يذكر أن الصفوف وصلت إلى باب المسجد حتى يلزم التخطي. وقد كان ابن مسعود على الباب يريد أن يتقدم فلما سمع أمره ? بالجلوس جلس من فوره امتثالا لأمره الشريف. (رواه أبوداود) من طريق مخلد بن يزيد، وهو من رجال الصحيحين عن ابن جريج
1432-(19) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أدرك من الجمعة
ركعة فليصل إليها أخرى، ومن فاتته الركعتان، فليصل أربعا، أو قال: الظهر))

(6/449)


عن عطاء عن جابر بن عبدالله. وأخرجه البيهقي (ج3ص218) من طريق معاذ بن معاذ عن ابن جريج. قال أبوداود: هذا يعرف مرسلا، إنما رواه الناس عن عطاء عن النبي ? أي مرسلا. وقال البيهقي: ورواه عمرو بن دينار عن عطاء فأرسله، ثم ذكره. وأخرج المرسل ابن أبي شيبة أيضا، ولم يتفرد مخلد بروايته موصولا، بل تابعه على ذلك معاذ بن معاذ عند البيهقي، فلا يضر ذلك إرسال من أرسله.
1432- قوله: (فليصل إليها) أي إلى تلك الركعة. (أخرى) أي ركعة أخرى بعد سلام الإمام. قال السندي: الظاهر أنه بتخفيف اللام من الوصل، لكن قال السيوطي بتشديد اللام أي فليصل أخرى ويضمها إليها. وقال القاري: ضبطه ابن حجر بضم ففتح فتشديد، وهو غير صحيح لوجود إليها، فالصواب بفتح فكسر وسكون لام مخففة؛ لأن الوصول يتعدى بإلى. (ومن فاتته الركعتان) أي صلاتها. وقيل: أي الركوعان. قال ابن حجر: بأن يدرك الإمام بعد ركوع الركعة الثانية. والفرق بينهما وبين سائر الصلوات أن الجمعة صلاة الكاملين، والجماعة شرط في صحتها، فأحتيط لها ما لم يحتط لغيرها فلم تدرك إلا بإدراك ركعة كاملة، كما صرح به في هذا الحديث. والحديث السابق-انتهى. قال القاري: وفيه أن هذا ليس من باب التصريح، بل من باب مفهوم المخالف المعتبر عندهم الممنوع عندنا على الصحيح-انتهى. (فليصل) بضم ففتح فتشديد. (أربعا) أي الظهر. (أو قال) أي بدل أربعا. قد استدل الشافعية ومن وافقهم بهذا الحديث على أن من فاته الركوع من الركعة الثانية من صلاة الجمعة ودخل في السجدة أو التشهد فهو يصلي الظهر وليس له أن يقتصر على ركعتي الجمعة، لكن الاستدلال به موقوف على أن المراد بالركعتين في الحديث الركوعان. وفيه نظر؛ لأن الركعة حقيقة لجميعها من القيام والركوع والسجود وغير ذلك وإطلاقها على الركوع، وما بعده مجاز لا يصار إليه إلا لقرينة، وههنا ليست قرينة تصرف عن حقيقة الركعة، بل قوله: ركعة في الجملة السابقة يعين المعنى

(6/450)


الحقيقي ويأبى إرادة المجاز، ومفهوم قوله: "من فاتته الركعتان" أن من أدركهم جلوسا. (في التشهد قبل فوت الركعتين بالسلام) صلى ثنتين. واستدل له أيضا بما رواه الدارقطني والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى فإن أدركهم جلوسا صلى أربعا، وفيه أن مداره على صالح بن أبي الأخضر البصري. وقد ضعفه ابن معين وأحمد والبخاري والنسائي ويحي القطان وأبوزرعة وأبوحاتم وابن عدي والعجلي. وفيه أيضا أن المراد بالجلوس فيه الجلوس الذي يكون بعد الفراغ من الصلاة، يدل عليه قوله: "ومن فاتته الركعتان" واستدل لهم أيضا بما رواه الدارقطني عن أبي هريرة أيضا مرفوعا، إذا أدرك أحدكم الركعتين من يوم الجمعة فقد أدرك الجمعة، وإذا أدرك ركعة فليركع إليها أخرى،
رواه الدارقطني.
وإن لم يدرك ركعة فليصل أربعا. وفيه أن مداره على ياسين بن معاذ الزيات، وهو متروك، قاله النسائي. وقال البخاري: منكر الحديث، وضعفه غير واحد، وبما رواه الدارقطني عن أبي هريرة أيضا مرفوعا: من أدرك الركوع من الركعة الآخرة يوم الجمعة فليضف إليها أخرى ومن لم يدرك الركوع من الركعة الأخرى فليصل الظهر أربعا. وفيه أن هذه الرواية أيضا ضعيفة، فإن فيها سليمان بن أبي داود الحراني، ضعفه أبوحاتم. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال ابن حبان: لا يحتج به. (رواه الدارقطني) من طريق ياسين بن معاذ عن ابن شهاب عن سعيد، أو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وياسين ضعيف متروك، ولهذا الحديث طرق كلها معلولة. قال الحافظ في التلخيص (ص127): بعد ذكرها. وقد قال ابن حبان في صحيحه: إنها كلها معلولة. وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه لا أصل لهذا الحديث إنما المتن من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه في علله، وقال: الصحيح من أدرك من الصلاة ركعة، وكذا قال العقيلي. والله أعلم.

(6/451)


بعون الله وحسن توفيقه تم الجزء الرابع من مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح، ويليه الجزء الخامس إن شاء الله تعالى، وأوله "باب صلاة الخوف".

(6/452)


بسم الله الرحمن الرحيم
(24) باب تسوية الصف
(باب تسوية الصف) أي في الصلاة. وفي بعض النسخ الصفوف، والمراد بالأول الجنس قال تعالى: ?إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص? [4:61]، وقال تعالى: ?إنا لنحن الصافون? [165:37] وأمرنا أن نصف في الصلاة كما تصف الملائكة عند ربها. ومعنى تسوية الصف هو اعتدال القائمين به على سمت واحد وخط مستقيم، وسد الخلل الذي في الصف بإلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم. قال ابن عبدالبر في الاستذكار: الآثار في تسوية الصف متواترة من طرق شتى في أمره - صلى الله عليه وسلم - بتسوية الصفوف وعمل الخلفاء الراشدين بعده، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء - انتهى. واختلفوا في حكمها من الوجوب والندب. قال العيني: هي من سنة الصلاة عند أبي حنيفة والشافعي ومالك، وزعم ابن حزم أنه فرض. وقيل: إنه مندوب. وذهب البخاري إلى الوجوب، حيث ترجم في صحيحه بقوله: باب إثم من لم يتم الصفوف. قال العيني: ظاهر ترجمة البخاري يدل على أنه يرى وجوب التسوية، والصواب هذا الورود الوعيد الشديد في ذلك، وقال في موضع آخر: الصواب أن تسوية الصفوف واجبة بمقتضى الأمر، ولكنها ليست من واجبات الصلاة، بحيث أنه إذا تركها فسدت صلاته أو نقصتها، غاية ما في الباب إذا تركها يأثم. قلت: الحق عندي أن إقامة الصف وتعديله وتسويته من واجبات صلاة الجماعة، بحيث إذا تركها نقصتها، ويأثم تاركها لورود الأمر بالتسوية، والأصل
?الفصل الأول?
1091- (1) عن النعمان بن بشير قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح، حتى رأى أنا قد عقلنا عنه، ثم خرج يوما، فقام حتى كاد أن يكبر، فرأى رجلا باديا

(7/1)


في الأمر الوجوب، ولورود الوعيد الشديد في تركه، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة"، وفي رواية: "من تمام الصلاة"، ولقوله: "إن إقامة الصف من حسن الصلاة"، والمراد بحسنها تمامها، ولشدة اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه بعده بذلك، ولإنكار أنس على تركه حيث قال: ما أنكرت شيئا إلا أنكم لا تقيمون الصفوف، أخرجه البخاري. والإنكار يستلزم المنكر، والمباح لا يسمى منكرا، ولأن عمر وبلالا كانا يضربان أقدامهم لإقامة الصف، وضربهما أقدامهم يدل على أنهم تركوا واجبا من واجبات الصلاة. وأما إنه هل تفسد صلاة من ترك التسوية أم لا؟ فالظاهر أنه تصح ولا تفسد لعدم ورود نص صريح في ذلك. قال الحافظ في الفتح: ومع القول بأن التسوية واجبة، فصلاة من خالف ولم يسو صحيحة لاختلاف الجهتين. ويؤيد ذلك أن أنسا مع إنكاره عليهم يأمرهم بإعادة الصلاة. وأفرط ابن حزم فجزم بالبطلان - انتهى.

(7/2)


1091- قوله: (يسوي صفوفنا) أي بيده أو بأمره. (كأنما يسوي بها) أي بالصفوف. (القداح) بكسر القاف جمع قدح بكسر قاف فسكون دال، وهو خشب السهم حين ينحت ويبرى. قال الخطابي في المعالم (ج1:ص184): القدح خشب السهم إذا برئ وأصلح قبل أن يركب فيه النصل والريش - انتهى. وقيل: هو السهم مطلقا، يعني يبالغ في تسوية الصفوف حتى تصير كأنما يقوم بها السهام لشدة استوائها واعتدالها، قاله النووي. وقال الطيبي: ضرب المثل به للمتساويين أبلغ الاستواء في المعنى المراد منه؛ لأن القدح لا يصلح لما يراد منه إلا بعد الانتهاء في الاستواء، وإنما جمع مع الغنية عنه بالمفرد لمكان الصفوف أي يسوي كل صف على حدة، كما يسوي الصانع كل قدح على حدته. وروعي في قوله: يسوي بها القداح نكتة؛ لأن الظاهر كأنما يسويها بالقداح، والباء للآلة كما في كتبت بالقلم، فعكس، وجعل الصفوف هي التي يسوي بها القداح مبالغة في الاستواء - انتهى. وفي رواية لأحمد (ج4:ص272) كان يسوي بنا في الصفوف حتى كأنما يحاذى بنا القداح، وفي أخرى له (ج4 ص271): يقيم الصفوف كما تقام الرماح أو القداح. وفي أخرى له (ج4:ص277) ولابن ماجه: يسوي الصف حتى يجعله مثل الرمح أو القدح. (حتى رأى) أي علم. (إنا قد عقلنا) أي فهمنا التسوية. (عنه) قال الطيبي: أي لم يبرح يسوي صفوفنا حتى استوينا استواء أراده منا وتعقلنا عن فعله. (ثم خرج يوما) أي إلى المسجد. (فقام) أي في مقام الإمامة. (حتى كاد أن يكبر) تكبيرة الإحرام. (باديا) أي ظاهرا خارجا.
صدره من الصف، فقال: عبادالله! لتسون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم)) رواه مسلم.

(7/3)


(صدره من الصف) أي من صدور أهل الصف. وفي رواية أبي داود: حتى إذا ظن أن قد أخذنا ذلك عنه وفقهنا أقبل ذات يوم بوجهه إذا رجل منتبد بصدره، وفي رواية لأحمد: فلما أراد أن يكبر رأى رجلا شاخصا صدره. وفي أخرى له، ولابن ماجه: فرأى صدر رجل ناتئا يعني مرتفعا بالتقدم على صدور أصحابه. (عباد الله) بالنصب على حذف حرف النداء، قال ابن حجر: لم ينهه بخصوصه جريا على عادته الكريمة مبالغة في الستر. (لتسون) بضم التاء المثناة وفتح السين وضم الواو المشددة وتشديد النون المؤكدة. قال القسطلاني: ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: "لتسوون" بواوين والنون للجمع. قال القاضي: هذه اللام هي التي يتلقى بها القسم، والقسم ههنا مقدر، ولهذا أكده بالنون المشددة. (أو ليخالفن الله) بالرفع على الفاعلية، وفتح اللام الأولى المؤكدة وكسر الثانية وفتح الفاء، أي ليوقعن الله المخالفة. (بين وجوهكم) إن لم تسووا صفوفكم أي بتحويلها عن مواضعها إلى أدبارها وجعلها مواضع الأققية، أو بتغيير صورها ومسخها على صورة بعض الحيوانات كالحمار مثلا، فهو محمول على الحقيقة. ويؤيد حمله على ظاهره حديث أبي أمامة: لتسون الصفوف أو لتطمسن الوجوه، أخرجه أحمد، وفي إسناده ضعف. وفيه وقوع الوعيد من جنس الجناية، وهي المخالفة. قال الحافظ: وعلى هذا فهو أي التسوية واجب، والتفريط فيه حرام. وقيل: هو مجاز ومعناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب، كما تقول تغير وجه فلان علي، أي ظهر لي من وجهه كراهة لي؛ لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن. ويؤيده ما في رواية لأبي داود: أو ليخالفن الله بين قلوبكم، وحديث أبي مسعود الآتي: لا تختلفوا فتختلف قلوبكم، أي هواها وإرادتها. وقيل: المراد بالوجوه الذوات. قال ابن العربي في العارضة (ج2:ص25): بين وجوهكم، يعني مقاصدكم، فإن استواء القلوب يستدعي استواء الجوارح واعتدالها، فإذا اختلفت

(7/4)


الصفوف دل على اختلاف القلوب، فلا تزال الصفوف تضطرب وتهمل، حتى ييتلي الله باختلاف المقاصد، وقد فعل، ونسأل الله حسن الخاتمة. وقال القرطبي: معناه تفترقون فيأخذ كل واحد وجها غير الذي يأخذه صاحبه؛ لأن تقدم الشخص على غيره مظنة الكبر المفسد للقلب الداعي إلى القطعية. والحاصل أن المراد بالوجه إما ذات الشخص، فالمخالفة بحسب المقاصد، وإما العضو المخصوص، فالمخالفة إما بحسب الصورة الإنسانية، وإما بحسب الصفة، وإما يجعل القدام وراء. والحديث فيه غاية التهديد والتوبيخ. قال الطيبي: إن مثل هذا التركيب متضمن للأمر توبيخا، أي والله ليكونن أحد الأمرين إما تسويتكم صفوفكم أو أن يخالف الله بين وجوهكم. وفيه دليل على وجوب تسوية الصف وتعديله. وقيل: إن هذا الوعيد من باب التغليظ والتشديد تأكيدا وتحريضا على فعلها، أي فلا يدل على الوجوب. قال العيني بعد ذكره: كذا قاله الكرماني، وليس بسديد؛ لأن الأمر المقرون بالوعيد يدل على الوجوب. (رواه مسلم) وأخرجه
1092- (2) وعن أنس، قال: ((أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوجهه، فقال: أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري)) رواه البخاري. وفي المتفق عليه قال: ((أتموا الصفوف، فإني أراكم من وراء ظهري)).
أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص100) و (ج2: 21) كلهم من طريق سماك عن النعمان بن بشير. وأخرج البخاري ومسلم والبيهقي من طريق سالم بن أبي الجعد عن النعمان بن بشير الفصل الأخير منه، ولأحمد وأبي داود في رواية. والبيهقي قال: فرأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه، وركبته بركتبه، ومنكبه بمنكبه.

(7/5)


1092- قوله: (أقيمت الصلاة) أىأقام المؤذن للصلاة. (فأقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوجهه) أي التفت إلينا بعد إقامة المؤذن. (أقيموا صفوفكم) أي عدلوها وسووها، يقال: أقام العود إذا عدله وسواه. (وتراصوا) بضم الصاد المهملة المشددة. وأصله تراصصوا، أي تضاموا وتلاصقوا حتى تتصل مناكبكم وأقدامكم في الصف، ولا يكون بينكم خلل وفرج، من رص البناء ألصق بعضه ببعض. ومنه قوله تعالى ?كأنهم بنيان مرصوص? [4:61]. وفيه جواز الكلام بين الاقامة والدخول في الصلاة، وفيه أن تسوية الصف واجبة. (فإني أراكم من وراء ظهري) أي من خلف ظهري. والفاء فيه للسببية، أشار به إلى سبب الأمر بذلك، أي إنما أمرت بذلك؛ لأني تحققت منكم خلافه. وقد تقدم القول في المراد بهذه الرؤية في باب الركوع، وأن المختار حملها على الحقيقة خلافا لمن زعم أن المراد بها خلق علم ضروري له بذلك، ونحو ذلك قال الزين بن المنير: لا حاجة إلى تأويلها؛ لأنه في معنى تعطيل لفظ الشارع من غير ضرورة. وقال القرطبي: حملها علىظاهرها أولى؛ لأن فيه زيادة في كرامة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه مراعاة الإمام لرعيته والشفقة عليهم وتحذيرهم من المخالفة. (رواه البخاري) أي بهذا اللفظ في باب إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف. وأخرج مسلم بنحوه، وأخرجه البيهقي (ج2:ص21) بلفظ البخاري. (وفي المتفق عليه) ظاهر هذا أن الشيخين اتفقا على إخراج الحديث بهذا اللفظ. وفيه نظر؛ لأن قوله: "أتموا الصفوف" من إفراد مسلم، وقوله: "فإني أراكم من وراء ظهري" من إفراد البخاري، وسياق الحديث عند مسلم: "أتموا الصفوف فإني أراكم خلف ظهري". والظاهر أن المصنف أخذ قوله أتموا الصفوف من رواية مسلم، وقوله: فإني أراكم من وراء ظهري، من رواية البخاري، فجعل مجموعهما حديثا متفقا عليه. ولا يخفى ما فيه. ولعله تبع في ذلك الجزري، حيث نسب هذه الرواية الثانية في جامع الأصول (ج6:ص393) إلى

(7/6)


البخاري ومسلم. (أتموا) أي أيها الحاضرون لأداء الصلاة معي. (الصفوف) أي الأول فالأول. (فإني أراكم) رؤية حقيقية. (من وراء ظهري) أي من خلفه كما أراكم من بين يدي. قيل: الفرق بين قوله: إني أراكم من
وراء ظهري بذكر "من" وبين قوله: إني أراكم خلف ظهري أي بدون "من" أنه إذا وجد من يكون فيه إشعار بأن مبدأ الرؤية ومنشأها من خلف بأن يخلق الله حاسة باصرة فيه، وإذا عدم يحتمل أن يكون منشأها هذه العين المعهودة، وأن تكون غيرها مخلوقة في الخلف والوراء، ولا يلزم رؤيتنا تلك الحاسة، إذ الرؤية إنما هي بخلق الله تعالى وإرادته. والحديث أخرجه أيضا النسائي. وزاد البخاري في رواية: وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه. قال الحافظ: صرح سعيد بن منصور في روايته أن هذه الزيادة في آخر الحديث من قول أنس، وأخرحه الإسماعيلي من رواية معمر عن حميد بلفظ: قال أنس: فلقد رأيت أحدنا إلى آخره. وأفاد هذا التصريح أن الفعل المذكور كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وبهذا يتم الاحتجاج به على بيان المراد بإقامة الصف وتسويته، وزاد معمر في روايته ولو فعلت ذلك بأحدهم اليوم لنفر كأنه بغل شموس - انتهى كلام الحافظ. قلت: قوله - صلى الله عليه وسلم -: تراصوا، وقوله: رصوا صفوفكم، وقوله: سدوا الخلل، ولا تذروا فرجات للشيطان، وقول النعمان بن بشير: فرأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه الخ، وقول أنس: وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه الخ، كل ذلك يدل دلالة واضحة على أن المراد باقامة الصف وتسويته أنما هو اعتدال القائمين على سمت واحد وسد الخلل والفرج في الصف بإلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم، وعلى أن الصحابة في زمنه - صلى الله عليه وسلم - كانوا يفعلون ذلك، وأن العمل برص الصف والزاق القدم بالقدم وسد الخلل كان في الصدر الأول من الصحابة وتبعهم، ثم تهاون الناس به. قال شيخنا في إبكار المنن بعد ذكر قولي النعمان وأنس: فظهر أن إلزاق

(7/7)


المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف سنة، قد عمل بها الصحابة خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو المراد بإقامة الصف وتسوية على ما قال الحافظ - انتهى. وجزى الله أهل الحديث أحسن ما يجزى به الصالحون، فانهم أحيوا هذه السنة التي تهاون الناس بها لاسيما المقلدون لأبي حنيفة، فإنهم لا يلزقون المنكب بالمنكب في الصلاة فضلا عن إلزاق القدم بالقدم والكعب بالكعب، بل يتركون في البين فرجة قد شبر أو أزيد، بل ربما يتركون فصلا يسع ثالثا وإذا قام أحد من أصحاب الحديث في الصلاة مع حنفي وحاول لإلصاق قدمه بقدمه اتباعا للسنة نحى الحنفي قدمه حتى يضم قدميه ولا يبقى فرجة بينهما وأشمأز ونظر إلى صاحبه المحمدي شزرا، بل ربما نفر كالحمار الوحشي، ويعد صنيع أهل الحديث الذي هو اتباع للسنة وإحياءها من الجهل والجفاء والفظاظة والغلظة، فإنالله وإنا إليه راجعون، وعالمهم وعاميهم في ترك هذه السنة والاستنفار عنها سواء. قال صاحب فيض الباري (ج2:ص236) : المراد بالزاق المنكب بالمنكب عند الفقهاء الأربعة أن لا يترك في البين فرجة تسع فيها ثالثا، قال ولم أجد عند السلف فرقا بين حال الجماعة والانفراد في حق الفصل بين قدمي الرجل بأنهم كانوا يفصلون بين قدميهم في حال الجماعة أزيد من حال الانفراد. وهذه المسألة أوجدها غير المقلدين فقط، وليس عندهم إلا لفظ الإلزاق، وليت شعرى ما ذا يفهمون من قولهم الباء- للالتصاق، ثم يمثلونه مررت بزيد، فهل كان مروره به متصلا بعضه ببعض أم كيف معناه، ثم إن الأمر

(7/8)


لا ينفصل قط إلا بالتعامل، وفي مسائل التعامل لايؤخذ بالألفاظ، قال: لما لم نجد الصحابة والتابعين يفرقون في قيامهم بين الجماعة والانفراد علمنا أنه لم يرد بقوله: إلزاق المنكب إلا التراص وترك الفرجة، ثم فكر في نفسك ولا تعجب أنه هل يمكن إلزاق المنكب مع إلزاق القدم إلا بعد ممارسة شاقة، ولا يمكن بعده أيضا فهو إذن من مخترعاتهم لا أثر له في السلف - انتهى. قلت: حمل الإلزاق هنا على المجاز يحتاج إلى قرينة، وتفسيره بأن لا يترك في البين فرجة تسع فيها ثالثا لا أثارة عليه من دليل لا من منقول ولا من معقول، ولا يوجد ههنا أدنى قرينة وأضعف أثر يدل على هذا المعنى البتة، فهو إذا من مخترعات هذا المقلد الذي جعل السنة بدعة، والبدعة أي ترك الإلزاق بإبقاع الفرجة وعدم التضام سنة، ثم لم يكتف بذلك بل تجاسر فنسب ما اخترعه إلى الفقهاء الأربعة. ثم أقول ما الدليل من السنة أو عمل الصحابي على تحديد الفصل بين قدمي المصلي بأن يكون قدر أربع أصابع أو قدر شبر في حال الانفراد والجماعة كلتيهما. والحق أن الشارع لم يعين قدر التفريج بين قدمي المصلي راحة له وشفقة عليه؛ لأنه يختلف ذلك باختلاف حال المصلى في الهزال والسمن والقوة والضعف. فالظاهر أنه يفصل بين قدميه في الجماعة قدر ما يسهل له سد الفرج والخلل، وإلزاق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه من غير تكلف ومشقة. ثم إنه ليس عندنا لفظ الإلزاق فقط بل هنا لفظ التراص وسد الخلل والنهى عن ترك الفرجة للشيطان، وكل واحد من ذلك يؤكد حمل الإلزاق على معناه الحقيقي، وماذا كان لوكان هنا لفظ الإلزاق فقط. وقد اعترف هو في آخر كلامه أن المراد به التراص وترك الفرجة، وهذا هو الذي نقوله. ولا يحصل التراص والتوقي عن الفرجة إلا بأن يلصق الرجل منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه حقيقة، وليت شعري ماذا يقول هو في مثال الإلصاق الحقيقي وهو قولهم به داء، ثم ماذا يقول في قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا ألزق

(7/9)


الختان بالختان فقد وجب الغسل. والسنة الصحيحة المحكمة حجة وقاضية على التعامل، لا أن التعامل قاض على السنة، لا فرق عندنا في ذلك بين عمل أهل المدينة وبين علمهم وعمل غيرهم من البلاد الإسلامية، مع أن عمل المسلمين في الزمن النبوي وعمل الخلفاء وسائر الصحابة والتابعين بعده - صلى الله عليه وسلم - كان على التراص والتضام وعدم إبقاء الفرجة مطلقا، ولا يعتد بعمل الناس بعد الصدر الأول، ولا يكون أدنى مشقة في إلزاق المنكب بالمنكب مع إلزاق القدم بالقدم، فنحن نفعل ذلك في الجماعة عملا بالحديث واتباعا للسنة من غير ممارسة وكلفة، ومن غير أن نفرج بين القدمين أزيد مما نفرج في حال الانفراد، لكن لا يسهل ذلك إلا على من يجب السنة وصاحبها، ويترك التحيل لترك العمل بها وأما المقلد الذي.... عمت بصيرته، فيشق عليه كل سنة إلا ما كان موافقا لهواءه، هدى الله تعالى هؤلاء المقلدين ووفقهم للعمل بالسنن النبوية الصحيحة الثابتة، وترك التأويل والتحريف.
1093- (3) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( سووا صفوفكم، فإن تسوية الصفوف من إقامة
الصلاة)) متفق عليه. إلا أن عند مسلم: (( من تمام الصلاة )).
1094- (4) وعن أبي مسعود الأنصاري، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح مناكبنا

(7/10)


1093- قوله: (سووا صفوفكم) فيه دليل على وجوب تسوية الصف. (فان تسوية الصفوف) وفي رواية الصف بالإفراد، والمراد به الجنس. (من إقامة الصلاة) أي المأمور بها الممدوح فاعلها في الآيات الكثيرة. وقال القاري: أي من جملة إقامة الصلاة في قوله تعالى ?الذين يقيمون الصلاة? وهي تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها. وقال العيني: التقدير من كمال إقامة الصلاة، فإن تسوية الصفوف ليست من إقامة الصلاة؛ لأن الصلاة تقام بغيرها، ولا يخفى ما فيه. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد وأبودواد وابن ماجه. (إلا أن عند مسلم من تمام الصلاة) وكذا أخرج بهذا اللفظ أبوداود وابن ماجه والإسماعيلي والبيهقي وغيرهم. وروي عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من تمام الصلاة إقامة الصف" أخرجه أحمد وأبويعلى والطبراني في الكبير والأوسط. قال العيني: أي من كمال تمام الصلاة أو من حسن تمام الصلاة. قلت: هذا خلاف الظاهر. والحديث معناه مستقيم من غير تقدير لفظ الكمال أو الحسن. وقد استدل ابن حزم بقوله من إقامة الصلاة على أن تعديل الصفوف والتراص فيها فرض. قال في المحلي (ج4:ص55): تسوية الصف إذا كان من إقامة الصلاة فهو فرض؛ لأن إقامة الصلاة فرض، وما كان من الفرض فهو فرض. قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه، ولا سيما قد بينا أن الرواة لم يتفقوا على هذه العبارة، يعني أنه رواها بعضهم بلفظ "من تمام الصلاة". واستدل ابن حزم بالعبارتين. قال العيني والحافظ: واستدل ابن بطال بما في البخاري من حديث أبي هريرة بلفظ "فإن اقامة الصف من حسن الصلاة" على أن التسوية سنة، قال: لأن حسن الشئ زيادة على تمامه، واورد عليه رواية من تمام الصلاة. وأجاب ابن دقيق العيد فقال: قد يؤخذ من قوله: تمام الصلاة الاستحباب؛ لأن تمام الشيء في العرف أمرخارج عن حقيقة التي لا يتحقق إلا بها، وإن كان يطلق بحسب الوضع على ما لا تتم الحقيقة إلا به. قال

(7/11)


الحافظ: ورد بأن لفظ الشارع لا يحمل إلا على ما دل عليه الوضع في اللسان العربي، وإنما يحمل على العرف إذا ثبت أنه عرف الشارع لا العرف الحادث. وقال العيني: وفيه أي في جواب ابن دقيق العيد نظر؛ لأن ألفاظ الشرع لا تستعمل بحسب العرف.
1094- قوله: (يمسح منا كبنا) وفي رواية للنسائي: يمسح عواتقنا. والمناكب جمع منكب، وهو ما بين الكتف والعنق. وقيل: مجتمع الرأس الكتف والعضد، والعواتق جمع عاتق، وهو ما بين المنكب والعنق،
في الصلاة، ويقول: ((استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليلني منكم

(7/12)


أي يمسحها ليعلم به تسوية الصف. وقال القاري: أي يضع يده على أعطافنا حتى لا نتقدم ولا نتأخر. وقال النووي: أي يسوي مناكبنا في الصفوف ويعدلنا فيها (في الصلاة) أي في حال إرادة الصلاة بالجماعة (ويقول) أي حال تسوية المناكب على ما هو الظاهر (ولا تختلفوا) أي بالتقدم والتأخر في الصفوف، كما يدل عليه روايات الحديث (فتختلف) بالنصب على أنه جواب للنهي. (قلوبكم) أي أهويتها وإرادتها أي اختلاف الصفوف سبب لاختلاف القلوب يجعل الله كذلك. وقيل: لأن اختلاف الصفوف اختلاف الظواهر، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن. وفيه أن القلب تابع للأعضاء، فإذا اختلفت اختلف، وإذا اختلف فسد ففسدت الأعضاء؛ لأنه رئيسها المتبوع وملكها المطاع والأعضاء كلها تبع له، فإذا صلح المتبوع صلح التبع، وإذا استقام الملك استقامت الرعية. ويبين ذلك الحديث المشهور: ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد، وإذا فسدت فسد الجسد، ألا وهي القلب. قيل: إن بين القلب والأعضاء تعلقا عجيبا وتأثيرا غريبا بحيث أنه يسري مخالفة كل إلى آخر وإن كان القلب مدار الأمر إليه. (ليلني منكم) بكسر لامين وخفة نون بلا ياء قبلها. وفي المصابيح ليليني. قال شارح: الرواية باثبات الياء، وهو شاذ لأنه من الولي بمعنى القرب، واللام للأمر، فيجب حذف الياء للجزم، قيل: لعله سهو من الكاتب، أو كتب بالياء؛ لأنه الأصل ثم قرئ كذا. أقول الأولى أن يقال إنه من إشباع الكسرة كما قيل في لم تهجو ولم تدعى، أو تنبيه على الأصل كقراءة ابن كثير ?إنه من يتقي ويصبر?، أو أنه لغة في أن سكونه نقديري، كذا في المرقاة. وقال النووي في شرح مسلم: ليلني هو بكسر اللامين وتخفيف النون من غير ياء قبل النون. ويجوز إثبات الياء مع تشديد النون على التوكيد. قال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج1 ص440) بعد ذكر كلام النووي: وهكذا طبع في صحيح مسلم في طبعة بولاق (ج1 ص128)، وفي طبعة الآستانة (ج2

(7/13)


ص30) في حديثي أبي مسعود وابن مسعود (الآتي)، وكتب بها مشها في حديث أبي مسعود أن في نسخة ليليني، وضبط بتشديد النون وفتح الياء قبلها، ولكن في نسخة مخطوطة عندي من صحيح مسلم يغلب عليها الصحة بإثبات الياء فيهما من غير ضبط، وكتب بهامشها في الموضعين أن في نسخة ليلني بحذف الياء، قال: وأظن أن حذفها من تصرف الناسخين، وكذلك ضبط الكلمة على إثبات الياء بفتحها وتشديد النون ذهابا منهم إلى الجادة في قواعد النحو بجزم الفعل المعتل بحذف حرف العلة. وقد رأيت كثيرا من الناسخين والعلماء يجيزون لأنفسهم تغيير ما خالف القواعد المعروفة ظنا منهم أنه خطأ، والدليل على ظن التصرف منهم أنه قال الطيبي على ما نقل عنه الشارح المبار كفوري في شرح الترمذي: أن من حق هذا اللفظان يحذف منه الياء؛ لأنه على صيغة الأمر، وقد وجدنا بإثبات الياء وسكونها في سائر
أولوا الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) قال أبومسعود: فأنتم اليوم أشد اختلافا. رواه مسلم.

(7/14)


كتب الحديث، والظاهر أنه غلط - انتهى. وليس هذا غلطا كما زعم الطيبي، بل إثبات حرف العلة في مثل هذا ورد في الحديث كثيرا، وله شواهد من الشعر، وقد بحث فيه العلامة ابن مالك في كتاب شواهد التوضيح (ص11-15) بحثا طويلا، وذكر من شواهد في البخاري قول عائشة: إن أبا بكر رجل أسيف، وأنه متى يقوم مقامك لا يسمع الناس، وحديث: من أكل من هذه الشجرة فلا يغشانا، وحديث: مروا أبا بكر فلصلى بالناس. ووجه ذلك بأوجه متعددة أحسنها عندي الوجه الثالث أن يكون أجزى المعتل مجرى الصحيح فأثبت الألف، يعني أو الواو أو الياء واكتفى بتقدير حذف الضمة التي كان ثبوتها منويا في الرفع - انتهى (أولو الأحلام) أي ذو العقول الراجحة، واحدها حلم بالكسر، وهو الأناة والتثبيت في الأمور والسكون والوقار وضبط النفس عند هيجان الغضب، ويفسر بالعقل؛ لأن هذه الأمور من مقتضيات العقل. والعقل الراجح يتسبب لها. وقيل: أولو الأحلام البالغون، والحلم بضم الحاء البلوغ، وأصله ما يراه النائم (والنهى) بضم نون وفتح هاء وألف، جمع نهية بالضم بمعنى العقل؛ لأنه ينهى صاحبه عن القبائح. وقال أبوعلي الفارسي: يجوز أن يكون النهى مصدرا كالهدى، وأن يكون جمعا كالظلم. قال ابن سيد الناس الأحلام والنهى بمعنى واحد، وهي العقول. وقيل: المراد بأولو الأحلام البالغون، وبأولى النهى العقلاء، فعلى الأول يكون العطف فيه من باب قوله: وألفى قوله كذبا ومينا. وهو أن تغاير اللفظ قائم مقام تغاير المعنى، وهوكثير في كلام، وعلى الثاني يكون لكل لفظ معنى مستقل - انتهى. قال الخطابي في المعالم (ج1 ص184-185) : وإنما أمر - صلى الله عليه وسلم - أن يليه ذو والأحلام والنهى ليعقلوا عنه صلاته، ولكي يخلفوه في الإمامة إن حدث به حدث في صلاته، وليرجع إلى قولهم إن أصابه سهو أو عرض في صلاته عارض في نحو ذلك من الأمور. (ثم الذين يلونهم) أي الذين يقربونهم في هذا الوصف، وقال القاري: كالمراهقين

(7/15)


أو الذين يقربون الأولين في النهى والحلم (ثم الذين يلونهم) كالصبيان المميزين أو الذين أنزل مرتبة من المتقدمين حلما وعقلا. والمعنى هلم جرا- فالتقدير ثم الذين يلونهم كالنساء فإن نوع الذكر أشرف على الإطلاق. والمقصود بيان ترتيب الصفوف في القيام. قال النووي: في هذا الحديث تقديم الأفضل فالأفضل إلى الإمام؛ لأنه أولى بالاكرام، ولأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف فيكون هو أولى، ولأنه يتفطن لننبيه الإمام على السهو لما يتفطن له غيره، وليضبطوا صفة الصلاة ويحفظوها وينقلوها ويعلموها الناس، وليقتدي بأفعالهم من ورائهم - انتهى. (قال أبومسعود) أي المذكور (فأنتم اليوم أشد اخنلافا) أي في كلمة حتى فشت فيكم الفتن وذلك لعدم تسويتكم الصفوف كذا فسره الطيبي (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص97).
1095- (5) وعن عبدالله بن مسعود، قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثلاثا، وإياكم وهيشات الأسواق)). رواه مسلم.
1096- (6) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه تأخرا، فقال لهم: تقدموا وأتموا بي وليأتم بكم من بعدكم،

(7/16)


1095- قوله: (ليلني منكم وأولو الأحلام والنهى) أي ليدن مني ذوو العقول الراجحة لشرفهم ومزيد تفطينهم وتيقظهم وضبطهم لصلاته. قال الطيبي أخذا عن التوربشتى: أمر بتقديم العقلاء ذوي الأخطار والعرفان ليحفظوا صلاته ويضبطوا الأحكام والسنن، فيبلغوا من بعدهم. وفي ذلك مع الإنصاح عن جلالة شأنهم حث لهم على تلك الفضيلة وإرشاد لمن قصر حالهم عن المساهمة معهم في المنزلة إلى تحري ما يزاحمهم فيها. وقد روى ابن ماجه والبيهقي عن أنس بإسناد رجاله ثقات قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليأخذوا عنه (ثم الذين يلونهم ثلاثا) أي كرر"ثم" وما بعدها ثلاثا (وإياكم وهيشات الأسواق) بفتح الهاء وإسكان الياء وبالشين المعجمة، جمع هيشة بالفتح، أي اختلاطها والمنازعة والخصومات وارتفاع الأصوات واللغط والفتن التي فيها، قاله النووي. وقال الخطابي في المعالم: أصله من الهوش، وهو الاختلاط يقال: تهاوش القوم إذا اختلطوا ودخل بعضهم في بعض وبينهم تهاوش، أي اختلاط واختلاف - انتهى. وقال الطيبي: هي ما يكون من الجلبة وارتفاع الأصوات، نهاهم عنها؛ لأن الصلاة حضور بين يدي الحضرة الإلهية، فينبغي أن يكونوا على السكوت وآداب العبودية. وقيل: هي الاختلاط، أي لا تختلطوا اختلاط أهل الأسواق، فلا يتميز أصحاب الأحلام والعقول عن غيرهم، ولا يتميز الصبيان من البالغين ولا الذكور من الإناث. ويجوز أن يكون المعنى: قوا أنفسكم من الاشتغال بأمور الأسواق فإنه يمنعكم أن تلونى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والبيهقي (ج3 ص97).

(7/17)


1096- قوله: (رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه تأخرا) أي في صفوف الصلاة كأنهم تأخروا عن القرب والدنو منه- صلى الله عليه وسلم -. وقيل: المراد التأخر في أخذ العلم (وأتموا بي) أي اصنعوا كما أصنع (وليأتم) بسكون اللام، وتكسر (بكم من بعدكم) أي من خلفكم من الصفوف. والخطاب لأهل الصف الأول، أي اقتدوا بأفعالي، وليقتد بكم من بعدكم مستدلين بأفعالكم على أفعالي، أو المراد من بعدكم من أتباع الصحابة، والخطاب للصحابة مطلقا، أي تعلموا مني أحكام الشريعة، وليتعلم منكم التابعون بعدكم وكذلك أتباعهم إلى انقراض الدنيا. "وبعد" على الأول مستعار للمكان، وعلى الثاني للزمان، كما هو الأصل. قال الطيبي: أراد التأخر في صفوف الصلاة أو التأخر
لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله)) رواه مسلم.
1097- (7) وعن جابر بن سمرة قال: (( خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرآنا حلقا،

(7/18)


عن أخذ العلم، فعلى الأول معناه ليقف الألباء والعلماء في الصف الأول، وليقف من دونهم في الصف الثاني، فإن الصف الثاني مقتدون بالصف الأول ظاهرا لا حكما. ففيه جواز اعتماد المأموم في متابعة الامام الذي يراه ولا يسمعه على مبلغ عنه أوصف قدامه يراه متابعا للإمام، وعلى الثاني المعنى وليتعلم كلكم مني أحكام الشريعة، وليتعلم التابعون منكم، وكذلك من يلونهم قرنا بعد قرن - انتهى. واستدل الشعبي بقوله: وليأتم بكم من بعدكم، لما ذهب إليه أن كل صف منهم إمام لمن وراءهم مع كونهم مأمومين، وأن الجماعة يتحملون عن بعضهم بعض ما يتحمله الإمام خلافا للجمهور. قال الشعبي: فيمن أحرم قبل أن يرفع الصف الذي يليه رؤوسهم من الركعة إنه أدركها ولو كان الإمام رفع قبل ذلك؛ لأن بعضهم لبعض أئمة، أخرجه ابن شيبة. قيل: وإليه مال البخاري حيث قال: باب الرجل يأتم بالإمام. ويأتم الناس بالمأموم. قال ابن بطال: هذا موافق لقول مسروق والشعبي إن الصفوف يؤم بعضها بعضا خلافا للجمهور. وقال العيني: ظاهر هذه الترجمة أن البخاري يميل إلى مذهب الشعبي في ذلك، قال: ومما يؤكد أن ميله إلى قول الشعبي أنه صدر هذا الباب بالحديث المعلق يعني حديث أبي سعيد هذا حيث قال: ويذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ائتموبي وليأتم بكم من بعدكم، قال العيني: فإنه صريح في أن القوم يأتمون بالإمام في الصف الأول، ومن بعدهم يأتمون بهم. وقال الحافظ: ظاهره يدل لمذهب الشعبي، وأجاب النووي: أن معناه يقتدي بكم من خلفكم مستدلين على أفعالي بأفعالكم - انتهى. قلت: لم يفصح البخاري باختياره في هذه المسألة. والظاهر أنه اتبع في وضع الترجمة لفظ الحديث، ولم يرد التنبيه على مسئلة تسلسل الاقتداء. والحديث ليس بعض فيما قاله الشعبي ون وافقه، كما هو ظاهر من تفسير الجمهور للحديث. والراجح عندي هو قول الجمهور والله أعلم. (ولا يزال قوم يتأخرون) أي عن الصفوف المتقدمة. وقيل: عن

(7/19)


الخيرات أو عن العلم (حتى يؤخرهم الله) أي في دخول الجنة. وقال النووي: أي عن رحمته أو عظيم فضله ورفيع المنزلة وعن العلم ونحو ذلك. وفيه الحث على الكون في الصف الأول والتنفير عن التأخر والبعد عنه. وقد ورد في فضيلة الصلاة في الصف الأول أحاديث متعددة عن جماعة من الصحابة. وسيأتي ذكر بعضها (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص103).
1097 وغيره - قوله: (فرآنا حلقا) بكسر الحاء وفتحها لغتان، جمع حلقة بإسكان اللام. وحكى الجوهري فتحها في لغة ضعيفة. قال الجرزي: الحلقة بسكون اللام حلقة الباب وحلقة القوم وجمعها حلق بفتح الحاء واللام على غير قياس، قاله الجوهري، قال: وقال الأصمعي: الجمع حلق، مثل بدرة وبدر وقصعة وقصع، قال:
فقال: ما لي أراكم عزين؟ ثم خرج علينا فقال: ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ فقلنا: يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأولى، ويتراصون في الصف)) رواه مسلم.
1098 (8)- وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خير صفوفالرجال أولها، وشرها

(7/20)


وحكى يونس عن أبي عمرو حلقة في الواحد بالتحريك، والجمع حلق، وقال ثعلب: كلهم يجيزه على ضعفه. وقال الشيباني: ليس في الكلام حلقة بالتحريك إلا في جمع حالق، وهو الذي يحلق الشعر. والذي رويناه في كتاب مسلم حلقا مضبوطا بكسر الحاء، والله أعلم - انتهى. قال الطيبي: أي جلوسا حلقة حلقة كل صف منا قد تحلق - انتهى. (ما لي أراكم عزين) بكسر العين المهملة وتخفيف الزاي جمع عزة أي جماعات متفرقين حلقة حلقة نصب على الحال، قال الجزري: عزين جمع عزة وهي الحلقة من الناس، والأصل عزوة وهذا من الجموع النادرة الخارجة عن بابها. قال الطيبي: قوله: ما لي أراكم؟ إنكار على رؤيته إياهم على تلك الصفة، ولم يقل: ما لكم؛ لأن ما لي أراكم أبلغ كقوله: ?ما لي أرى الهدهد? [27: 20]. والمقصود الانكار عليهم كائنين على تلك الحالة، يعني لا ينبغي لكم أن تفرقوا ولا تكونوا مجتمعين مع توصيتي إياكم بذلك. (ثم خرج علينا) أي مرة أخرى بعد هذا (ألا تصفون) بفتح التاء المثناة من فوق وضم الصاد أي في الصلاة (كما تصف الملائكة عند ربها) أي عند قيامها لطاعة ربها. قال القاري. وقيل: أي في محل قربه ومكان قبوله (يتمون الصفوف الأولى) كذا في جميع النسخ بضم الهمزة وسكون الواو تأنيث الأول، وكذا في المصابيح. ووقع في مسلم: الأول بضم الهمزة وفتح الواو جمع الأولى، وكذا في النسائي وابن ماجه. وعند أبي داود: الصفوف المقدمة، يعني يتمون الصف الأول، ولا يشرعون في الثاني حتى يتم الأول، ولا في الثالث حتى يتم الثاني، ولا في الرابع حتى يتم الثالث، وهكذا إلى آخرها. (ويترابصون في الصف) أي يتلاصقون ويتضامون حتى لا يكون بينهم شيء من الخلل والفرجة. وفي الحديث النهي عن التقرق والأمر بالاجتماع. وفيه: الاقتداء بأفعال الملائكة في صلاتهم وتعبداتهم. وفيه: الأمر باتمام الصفوف الأول والتراص في الصفوف. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3

(7/21)


ص101).
1098- قوله: (خيرصفوف الرجال) أي أكثرها أجرا وثوابا وفضلا. (أولها) فيه التصريح بأفضلية الصف الأول للرجال، وإنه خيرها لما فيه من إحراز فضيلة التقدم المأمور به ولقربهم من الإمام ومشاهدتهم لأحواله واستماعهم لقراءته وبعدهم من النساء (وشرها) أي أقلها ثوابا وفضلا وأبعدها من مطلوب الشرع
آخرها وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها)) رواه مسلم.
(آخرها) لما فيه من ترك الفضيلة الحاصلة بالتقدم إلى الصف الأول ولقربهم من النساء وبعدهم من الإمام (وخير صفوف النساء آخرها) لبعدهن من مخالطة الرجال، ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك بخلاف الوقوف في الصف الأول من صفوفهن، فإنه مظنة المخالطة وتعلق القلب بهم المتسبب عن رؤيتهم وسماع كلامهم، ولهذا كان شرها. ثم هذا التفصيل في صفوف الرجال على إطلاقه، وفي صفوف النساء عند الاختلاط بالرجال. قال النووي: أما صفوف الرجال فهي على عمومها فخيرها أولها أبدا وشرها آخرها أبدا. أما صفوف النساء فالمراد بالحديث صفوف النساء اللواتي يصلين مع الرجال. وأما إذا صلين متميزات لا مع الرجال فهن كالرجال خير صفوفهن أولها وشرها آخرها- انتهى. وقيل: يمكن حمله على إطلاقه لمراعاة الستر فتأمل. وفي الحديث: إن صلاة النساء صفوفا جائزة من غير فرق بين كونهن مع الرجال أو منفردات وحدهن واعلم أنه اختلف في أن الصف الأول في المسجد هل هو ما يلي الإمام مطلقا أي الذي هو أقرب إلى القبلة، أو هو أول صف تام يلي الامام لا ما تخلله شيء كمقصورة، أو المراد به من سبق إلى الصلاة ولو صلى آخر الصفوف. قال النووي: الصف الأول الممدوح الذي وردت الأحاديث بفضله هو الصف الذي يلي الإمام، سواء جاء صاحبه متقدما أو متأخرا، وسواء تخلله مقصورة ونحوها أم لا، هذا هو الصحيح الذي يقتضيه ظواهر الأحاديث، وصرح به المحققون. وقال طائفة من العلماء: الصف الأول هو المتصل من طرف المسجد

(7/22)


إلى طرفه لا يتخلله مقصورة ونحوها، فإن تخلل الذي يلي الإمام شيء فليس بأول، بل الأول مالا يتخلله شيء وإن تأخر. وقيل الصف الأول عبارة عن مجيىء الإنسان إلى المسجد ولا وإن صلى في صف متأخر. وهذان القولان غلط صريح- انتهى. قال الحافظ: وكان صاحب الفول الثاني لحظ أن المطلق ينصرف إلى الفرد الكامل وما فيه خلل فهو ناقص. وصاحب القول الثالث لحظ المعنى في تفضيل الصف الأول دون مراعاة لفظه- انتهى. قال العلماء في الحض على الصف الأول المسارعة إلى خلاص الذمة، والسبق لدخول المسجد، والقرب من الإمام، واستماع قراءته، والتعلم منه، والفتح عليه، والتبليغ عنه، والسلامة من اختراق المارة بين يديه، وسلامة البال من رؤية من يكون قدامه، وسلامة موضع سجوده من أذيال المصلين- انتهى. (رواه مسلم) قال القاري: كان يمكن للمصنف أن يجمل ويقول روى الأحاديث الخمسة مسلم كما هو دأبه، ولعل عادته فيما إذا كان للأحاديث سند واحد باتفاق رجاله وخلافها في خلافة- انتهى. والحديث أخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص98) وروي عن جماعة من الصحابة، منهم أبوسعيد وابن عباس وأنس وعمر بن الخطاب وأبوأمامة، وذكرهم الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص93).
?الفصل الثاني?
1099- (9) عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( رصوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذروا بالأعناق، فوالذي نفسي بيده، إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنها الحذف)). رواه أبوداود.==

8. مرعاة المفاتيح

1099- قوله (رصوا) بضم الراء والصاد المهملتين (صفوفكم) أي في صلاة الجماعة بانضمام بعضكم إلى بعض على السواء من الرص. وهو ضم البعض إلى البعض مثل لبنات الجدار، أي كونوا في الصف كأنه بنيان مرصوص، قال القاري: أي سووا صفوفكم وضموا بعضكم إلى بعض حتى لا يكون بينكم فرجة. (وقاربوا بينها) أي بين الصفوف بحيث لا يسع بين صفين صف آخر فيصير تقارب أشباحكم سيما لتعاضد أرواحكم، قاله القاري. (وحاذوا بالأعناق) قيل: الظاهر أن الباء زائدة، والمعنى اجعلوا بعض الأعناق في محاذاة بعض أي مقابلته. وقيل: المراد بمحاذاة الأعناق المحاذاة بالمناكب. ففي حديث أبي أمامة الآتي: حاذوا بين مناكبكم. وفي حديث ابن عمر: حاذوا بين المناكب. والمعنى اجعلوا الأعناق والمناكب بعضها حذاء بعض، أي موازيا ومسامتا ومقابلا له. وقال القاضي: أي بأن لا يترفع بعضكم على بعض بأن يقف في مكان أرفع من مكان الآخر. قال الطيبي: ولا عبرة بالأعناق أنفسها، إذ ليس على الطويل أن يجعل عنقه محاذيا لعنق القصير ( يدخل من خلل الصف) بفتح الخاء واللام أي فرجته. قال المنذري في الترغيب: الخلل بفتح الخاء المعجمة واللام أيضا ما يكون بين الاثنين من الاتساع عند عدم التراص –انتهى. وعن ابن مسعود قال: سووا صفوفكم فإن الشيطان يتخللها كالحذف. رواه الطبراني في الكبير موقوفا. (كأنها الحذف) بحاء مهملة وذال معجمة مفتوحتين واحدتها حذفة مثل قصب وقصبة، وهي الغنم السود الصغار الحجازية. وقيل: صغار جرد ليس لها آذان ولا أذناب، يجاء بها من اليمن، أي كأنها الشيطان، وأنث باعتبار الخبر. وقيل: إنما أنث؛ لأن اللام في الخبر للجنس فيكون في المعنى جمعا. وفي شرح الطيبي: قال المظهر الضمير في"كأنها" راجع إلى مقدر أي جعل نفسه شاة أو ماعز كأنها الحذف. وقيل: يجوز التذكير باعتبار الشيطان، ويجوز تأنيثه باعتبار الحذف لوقوعه بينهما فلا حاجة إلى مقدر، كذا في المرقاة. قلت: ورواية

(7/24)


النسائي بلفظ: إني لأرى الشياطين تدخل من خلل الصف كأنها الحذف. ولا إشكال فيها (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. وقال النووي: إسناده على شرط مسلم، نقله ميرك، والحديث أخرجه أيضا النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والبيهقي (ج3 ص100).
1100- (10) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( أتموا الصف المقدم، ثم الذي يليه، فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر)) رواه أبوداود.
1101- (11) وعن البراء بن عازب، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يقول: إن الله وملائكته يصلون على الذين يلون الصفوف الأولى، وما من خطوة أحب إلى الله من خطوة يمشيها يصل بها صفا)) رواه أبوداود.
1100- قوله: ( أتموا الصف المقدم) ولفظ النسائي: الصف الأول (ثم الذي يليه) أي ثم أتموا الصف الذي يلي الصف الأول، وهكذا. (فما كان) أي وجد. (فليكن) أي النقص (في الصف المؤخر) دل الحديث على جعل النقص في الصف الأخير، لكن لم يظهر منه موقف الصف الناقص، فظاهر حديث أبي هريرة: وسطوا الامام، أن يقف أهل الصف الناقص خلف الإمام عن يمينه وشماله. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضا أحمد والنسائي والبيهقي (ج3 ص102).

(7/25)


1101- قوله: (يصلون على الذين يلون) أي يقومون. قال ابن مالك: أو يباشرون ويتولون يعني يصلون في الصفوف الأول. والمراد من الصلاة من الله إنزال الرحمة ومن الملائكة الدعاء بالتوفيق وغيره. (الصفوف الأولى) كذا في جميع النسخ بضم الهمزة وسكون الواو تأنيث أول، وكذا في المصابيح، ووقع في أبي داود: الأول أي بضم الهمزة وفتح الواو جمع أولى، وهكذا في جامع الأصول (ج6 ص397) أي فالأفضل الأول فالأول. وذكر المنذري: هذا الحديث في ترغيبه بلفظ: إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف الأول. وعند أبي داود في حديث آخر عن البراء: إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأول. وفي رواية النسائي: الصفوف المتقدمة. قال السندي: أي على الصف المقدم في كل مسجد، أو في كل جماعة، فالجمع باعتبار تعدد المساجد أو تعدد الجماعات، أو المراد الصفوف المتقدمة على الصف الأخير، فالصلاة من الله تعالى تشمل كل صف على حسب تقدمه إلا الأخير فلاحظ له منها لفوات التقدم. (وما من خطوة) قال العيني: بفتح الخاء وهي المرة الواحدة. وقال القرطبي: بضم الخاء وهي واحدة الخطا وهي ما بين القدمين من البعد، والتي بالفتح مصدر- انتهى. "ومن" زائدة و"خطوة" اسم"ما"وقوله: (أحب إلى الله) بالنصب خبره. قال القاري: والأصح رفعه وهو اسمه ومن خطوة خبره (من خطوة) متعلق بأحب (يمشيها) بالغيبة صفة خطوة أي يمشيها الرجل، وكذا (يصل بها صفا) وفي حديث ابن عمر عند الطبراني: مامن خطوة أعظم أجرا من خطوة مشاها رجل إلى فرجة في الصف فسدها. قال الهيثمي: في إسناده ليث بن حماد، ضعفه الدارقطني (رواه أبوداود) في حديث ذكره في باب
1102- (12) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف)) رواه أبوداود.

(7/26)


الصلاة تقام ولم يأت الإمام ينتظرونه قعودا. وفي سنده رجل مجهول، فإنه رواه من طريق كهمس عن شيخ من أهل الكوفة عن عبدالرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب. وأخرج أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة والبيهقي عن البراء حديثا، فيه نحو هذه الرواية لكن بدون ذكر الخطوة، وهو حديث صحيح رجاله ثقات. وفي الباب عن أبي أمامة وسيأتي. وعن النعمان بن بشير عند أحمد والبزار. قال الهيثمي: رجاله ثقات. وعن جابر عند البزار، وفيه عبدالله بن محمد بن عقبل، وفيه كلام، وقد وثقه جماعة. وعن العرباض بن سارية عند أحمد والنسائي وابن ماجه والبيهقي، وعن عبدالرحمن بن عوف عند ابن ماجه، وعن أبي هريرة عند البزار، وفيه أيوب بن عتبة، ضعف من قبل حفظه.

(7/27)


1102- قوله: (على ميامن الصفوف) جمع ميمنة، وفيه دليل على شرف يمين الصفوف واستحباب الكون في يمين الصف الأول وما بعده من الصفوف، وأما ما رواه ابن ماجه عن ابن عمر قال: قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن ميسرة المسجد تعطلت، فقال: من عمر ميسرة المسجد كتب له كفلان من الأجر. وما رواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عمر جانب المسجد الأيسر لقلة أهله فله أجران. ففي اسناده بهما مقال، فإن في سند حديث ابن عمر ليث بن سليم، وهو ضعيف. وفي سند حديث ابن عباس بقية بن وليد، وهو مدلس، وقد عنعنه، وإن ثبتا فلا يعارضان حديث عائشة وما وافقه؛ لأن ما ورد لمعنى عارض يزول بزواله. قال السندي في حاشية ابن ماجه تحت حديث ابن عمر فيه أن اليمين وإن كان هو الأصل، لكن اليسار إذا خلا فتعميره أولى من اليمين، وعلى هذا فلا بد من النظر إلى الطرفين، فإن كانت زيادة فلتكن في اليمين (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا ابن ماجه والبيهقي (ج3 ص103) كلهم من رواية معاوية بن هشام عن سفيان عن أسامة بن زيد عن عثمان بن عروة عن عروة عن عائشة، وقد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري في الترغيب، والحافظ في الفتح: إسناده حسن. وقال الشوكاني: رجاله رجال الصحيح على ما في معاوية بن هشام من المقال - انتهى. وقال البيهقي: تفرد به معاوية بن هشام ولا أراه محفوظا، والمحفوظ بهذا الإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف، وكذلك رواه الجماعة. قلت: معاوية بن هشام هذا وثقه أبوداود، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الساجي: صدوق يهم، وقال أبوحاتم، وابن سعد: صدوق. وقال في التقريب، صدوق له أو هام، ويؤيده حديث البراء عند مسلم وغيره قال: كنا إذا صلينا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - أحببنا أن نكون عن يمينه، يقبل علينا بوجهه، وعن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله - صلى

(7/28)


الله عليه وسلم -: إن استطعت أن تكون خلف الإمام وإلا فعن يمينه. أخرجه البيهقي (ج3 ص104) ونسبه الهيثمي إلى الطبراني في
1103- (13) وعن النعمان بن بشير، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوي صفوفنا إذا قمنا إلى الصلاة، فإذا استوينا كبر)) رواه أبوداود.
1104- (14) وعن أنس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عن يمينه: اعتدلوا، سووا صفوفكم. وعن يساره اعتدلوا، سووا صفوفكم)) رواه أبوداود.
1105- (15) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خياركم ألينكم مناكب في الصلاة))
الأوسط وقال فيه من لم أجد له ذكرا. وعن ابن عباس قال: عليكم بالصف الأول وعليكم بالميمنة منه، وإياكم والصف بين السوارى. رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه إسماعيل بن مسلم المكي وهوضعيف.
1103- قوله: (يسوي صفوفنا) ولفظ أبي داود: يسوي يعني صفوفنا أي باليد أو بالأشارة أو بالقول (إذا قمنا إلى الصلاة) وفي أبي داود: للصلاة. وكذا في جامع الأصول (ج6 ص392). ووقع عند البيهقي إلى الصلاة (فإذا استوينا كبر) أي للإحرام. وفيه دليل على أن السنة للإمام أن يسوي الصفوف ثم يكبر، وأخذ بعضهم من قوله: إذا قمنا أن التسوية كانت بعد الإقامة، وأصرح منه في الدلالة على هذا قوله فقام حتى كاد أن يكبر الخ في حديث النعمان، وقوله أقيمت الصلاة فأقبل علينا بوجهه الخ، في حديث أنس وقد تقدما في الفصل الأول (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا البيهقي (ج2 ص21) وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: هو طرف من الحديث المتقدم يعني حديث النعمان أول أحاديث هذا الباب.

(7/29)


1104- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عن يمينه) أي منصرفا بوجهه عن جهة يمينه متوجها إلى يمين الصف. ولفظ أبي داود: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام إلى الصلاة أخذه. (أى العود المذكور في رواية المتقدمة) بيمينه ثم التفت فقال، وكذا ذكره الجزري في جامع الأصول (ج6 ص394) وهكذا وقع عند البيهقي. (اعتدلوا) أي في القيام يعني استووا (سووا صفوفكم) بعدم تخلية الفرجة، أو الثاني تفسير للأول أو تأكيد له (رواه أبوداود) ومن طريقه البيهقي (ج2 ص22) وسكت عنه أبوداود والمنذري.
1105- قوله: (ألينكم مناكب) نصب على التمييز، أي أسرعكم انقيادا لمن يأخذ بمناكبكم الخارجة عن الصف يقدمها أو يؤخرها حتى يستوي الصف. قال المظهر: معناه إذا كان في الصف وأمره آخر بالاستواء أو يضع يده على منكبه ينقاد ولا يتكبر. وقال الخطابي في المعالم (ج1 ص184): معنى لين المنكب لزوم السكينة في الصلاة والطمأنينة فيها، لا يلتفت ولا يحاك بمنكبه منكب صاحبه، فالمعنى أكثركم سكينة وطمأنينة، قال: وقد يكون فيه وجه
رواه أبوداود.
?الفصل الثالث?
1106- (16) عن أنس، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: استووا، استووا، استووا، فوالذي نفسي بيده، إني لأراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي)) رواه أبوداود.

(7/30)


آخر، وهو أن لا يمتنع على من يريد الدخول بين الصفوف ليسد الخلل أو لضيق المكان بل يمكنه من ذلك ولا يدفعه بمنكبه لتتراص الصفوف وتتكاثف الجموع- انتهى. قال ميرك: والوجه الأول أليق بالباب، ويؤيده حديث أبي أمامة في الفصل الثالث: ولينوا في أيدي إخوانكم. قلت: والوجه الثالث أيضا أنسب بالباب. (رواه أبوداود) ومن طريقه البيهقي (ج3 ص101) وسكت عنه أبوداود والمنذري. وفي سنده جعفر بن يحيى بن ثوبان عن عمه عمارة بن ثوبان. وجعفر هذا قال ابن المديني مجهول. وقال ابن القطان الفاسي: مجهول الحال، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ في التقريب: مقبول. وعمه عمارة بن ثوبان. قال الذهبي في ترجمته: ما روى عنه الا ابن أخيه جعفر بن يحيى لكنه قد وثق وقال في ترجمته جعفر أن عمه يعني عمارة لين. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمته عمارة: ذكره ابن حبان في الثقات. وقال عبدالحق: ليس بالقوى فرد ذلك عليه ابن القطان وقال: إنما هو مجهول الحال. وقال في التقريب: عمارة بن ثوبان حجازي مستور، قلت: قول الذهبي لكنه قد وثق، وقوله لين، وقول عبدالحق ليس بالقوى، وذكر ابن حبان اياه في الثقاته يدل على أنه ليس بمجهول الحال عندهم، ومن عرف حجة على من لم يعرف. قال ميرك: وكان الأخصر أن يقول المصنف: روى جميع الأحاديث المذكورة في هذا الفصل أبوداود.

(7/31)


1106- قوله (استووا) أي في صفوف الصلاة بأن تقوموا على سمت واحد، وتتراصوا حتى لا يكون بينك فرجات. (استووا استووا) كرر ثلاث مرات للتأكيد، ويمكن أن يكون الأمر الأول وقع إجمالا، والثاني لأهل اليمين، والثالث لأهل اليسار. (إني لأراكم من خلفي) رؤية حقيقة (رواه أبوداود) هذا وهم من المصنف، فإن هذا الحديث ليس عند أبي داود بل هو عند النسائي بوب عليه: كم مرة يقول: استووا. رواه من طريق بهز بن أسد عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس، وقد عزاه العيني في شرح البخاري (ج5 ص254) للنسائي فقط وكذا الجزري في جامع الأصول (ج6 ص394).
1107- (17) وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول. قالوا يا رسول الله ! وعلى الثاني؟ قال: إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول. قالوا: يا رسول الله ! وعلى الثاني؟ قال: وعلى الثاني. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سووا صفوفكم، وحاذوا بين مناكبكم، ولينوا في أيدي إخوانكم، وسدوا الخلل، فإن الشيطان بدخل فيما بينكم بمنزلة الحذف، يعنى أولاد الضان الصغار)). رواه أحمد.

(7/32)


1107- قوله: (إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول) أي يرحم الله على أهل الصف الأول ويدعو الملائكة لهم بالتوفيق وغيره. (وعلى الثاني) المراد به غير الأول أو الثاني حقيقة لكونه يماثل الصف الأول فافهم. والظاهر هو الثاني، فإن قلت قوله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول خبر فما معنى قولهم: وعلى الثاني؟ قلنا: هو في معنى طلب كون الثاني كذلك، وسؤاله - صلى الله عليه وسلم - من الله عزوجل أن يصلي عليهم أيضا؛ لأنهم قد سبقوا من غير تقصير منهم، قاله في اللمعات. وقال القاري: قوله: يصلون على الصف الأول يحتمل أن يكون اخبارا ودعاء، ويؤيد الثاني قولهم يا رسول الله وعلى الثاني أي قل: وعلى الثاني ويسمى هذا العطف عطف تلقين والتماس كما حقق في قوله عليه السلام: اللهم ارحم الملحقين-الحديث. (قالوا يا رسول الله وعلى الثاني قال وعلى الثاني) التكرار يفيد التأكيد وحصول الكمال للأول وتثليث الرحمة على الصف الأول، ويؤيد ما روى أحمد والنسائي وابن ماجه والبيهقي عن العرباض بن سارية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يستغفر للصف المقدم ثلاثا وللثاني مرة. (وحاذوا بين مناكبكم) أي اجعلوا بعضها حذاء بعض بحيث يكون منكب كل واحد من المصلين موازيا لمنكب الآخر ومسامتا له، فتكون المناكب والأقدام على سمت واحد (ولينوا) بكسر اللام أمر من لان يلين (في أيدي إخوانكم) أي إذا أمر أحدكم من يسوي الصفوف بالإشارة بيده أن يستوي في الصف أو وضع يده على منكبه فليستوا، وكذا إذا أراد أن يدخل في الصف فليوسع. (وسدوا) بضم السين المهملة (الخلل) أي الفرجة من الصفوف، ولا يكون ذلك إلا بإلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم حقيقة. (فإن الشيطان يدخل فيما بينكم) ليشوش عليكم في صلاتكم بالإغواء والاشتغال (بمنزلة الحذف) بفتحتين أي في صورتها. قال الجزري: الحذف الغنم الصغار الحجازية واحدها حذفة، وقيل: هي غنم صغار ليس

(7/33)


لها أذناب، يجاء بها من جرش، سميت حذفا لأنها محذوفة من مقدار الكبار (يعني أولاد الضان الصغار) تفسير من الراوي (رواه أحمد) (ج5 ص262) قال
1108- (18) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا
المنذري في الترغيب باسناده لا بأس به. وقال الهيثمي: رجاله موثقون. وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير.
1108 – قوله: (أقيموا الصفوف) أى اعتدلوها وسووها (ولينوا بأيدي إخوانكم) أى كونوا لينين هينين منقادين إذا أخذوا بها ليقدموكم أو يؤخروكم حتى يستوي الصف؛ لتنالوا فضل المعاونة على البر والتقوى، ويصح أن يكون المراد لينوا بيد من يجركم من الصف أي وافقوه وتأخروا معه لتزيلوا عنه وعمة الانفراد التى تبطل الصلاة بها، فقد ذهب أكثر أصحاب الشافعي إلى أن من لم يجد فرجة ولا سعة في الصف يجذب إلى نفسه واحدا ويستحب للمجذوب أن يساعده، ولا فرق بين الداخل في أثناء الصلاة والحاضر في ابتدائها في ذلك، وكرهه الأوزاعي ومالك وأحمد وإسحاق؛ لأنه لو جذب إلى نفسه واحدا لفوات عليه فضيلة الصف الأول، ولوقع الخلل في الصف، واستدل الأولون بما رواه أبويعلى والطبراني في الأوسط والبيهقي (ج3 ص105) من حديث وابصة بن معبد: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: لرجل صلى خلف الصف أيها المصلي وحده هلا دخلت في الصف أو جررت رجلا من الصف، أعد صلاتك. وفيه السرى بن إسماعيل، وهو ضعيف، قاله الهيثمي. وقال الحافظ: إنه متروك، وله طريق أخرى في تاريخ أصبهان، وفيها قيس بن ربيع، وفيه ضعف. وأخرج الطبراني عن ابن عباس. قال الحافظ: بإسناد واه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا انتهى أحدكم إلى الصف وقد تم فليجذب إليه رجلا يقيمه إلى جنبه. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وقال: لا يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -إلا بهذا الإسناد. وفيه بشر بن

(7/34)


إبراهيم، وهو ضعيف جدا، ولأبي داود في المراسيل من رواية مقاتل بن حيان مرفوعا: أن جاء رجل فلم يجد خللا أو أحدا فليختلج إليه رجلا من الصف فليقم معه فما أعظم أجرا المختلج. قال الشوكاني في السيل الجرار: أما مشروعية انجذاب من في الصف المفسد لمن لحق ولم يجد من ينضم إليه فلم يثبت ما يدل على ذلك بخصوصه، ولا يصح الاستدلال بما أخرجه أبوداود في المراسيل بلفظ: إذا انتهى أحدكم إلى الصف وقد تم فليجذب إليه رجلا يقيمه إلى جنبه؛ لأنه مع كونه مرسلا، في اسناده مقاتل بن حيان، وفيه مقاتل ولم يثبت له لقاء أحد من الصحابة، فثم انقطاع بينه وبين الصحابي فهو مرسل معضل، ولا يصح الاستدلال أيضا بما أخرجه الطبراني عن ابن عباس، وبما أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي عن وابصة بن معبد، فذكرهما مع الكلام فيهما بنحو ما تقدم، ثم قال ولكن في انجذاب معاونة على البر والتقوى فيكون مندوبا من هذه الحيثية- انتهى. (ولاتذروا) أي لا تتركوا، ولا يستعمل من هذه المادة بمعنى الترك سوى المضارع والأمر والنهي، فتقول: ذره ولا تذره ويذره أي دعه واتركه ولا تدعه ولا تتركه ويدعه ويتركه، فإذا أريد الماضي، قيل: ترك. أو المصدر
فرجات الشيطان، ومن وصل صفا وصله الله، ومن قطعه قطعه الله)) رواه أبوداود، وروى النسائي منه قوله: (( ومن وصل صفا إلى أخره )).
1109- (19) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( توسطوا الإمام وسدوا الخلل)) رواه
أبوداود.

(7/35)


قيل: الترك، أو اسم الفاعل قيل: التارك. (فرجات الشيطان) بالإضافة في جميع النسخ، وكذا في جامع الأصول (ج6 ص395) ولفظ أبي داود: فرجات للشيطان، أي بتنوين فرجات ودخول لام الجر على الشيطان، وكذا وقع عند البيهقي من رواية أبي داود والفرجات بضم الفاء والراء جمع فرجة، وهي المكان الخالي بين الاثنين، والمعنى لا تبقوا خللا في الصف لدخول الشيطان فيه، فإنه إذا بقية فرجة في الصف يدخلها الشيطان كأنها الحذف كما تقدم. (ومن وصل صفا) بأن كان فرجة فسدها أو نقصان فأتمه. (وصله الله) أي برحمة. (ومن قطعه) بأن قعد بين الصف بلا صلاة أو منع الداخل من الدخول في الفرجات مثلا. وقال القاري: أي بالغيبة أو بعدم سد الخلل أو بوضع شيء مانع. (قطعه الله) أي من رحمته، وفيه تهديد شديد ووعيد بليغ. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري وأخرجه أيضا أحمد (ج2 ص98) والبيهقي (ج3 ص101). (وروى النسائي) وابن خزيمة كذلك كما في الترغيب للمنذري وكذلك الحاكم (ج1 ص213) وصححه هو وابن خزيمة. (منه) أي من حديث. (قوله) - صلى الله عليه وسلم - مفعول روى. (من وصل صفا إلى آخره) بيان المقول، أي لاصدر الحديث، وروي في صلة الصفوف وسد الفرج أحاديث عن جماعة من الصحابة منهم عائشة وأبوجحيفة وعبدالله بن زيد وابن عباس وأبوهريرة، ذكرهم الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص91، 90).

(7/36)


1109- قوله: (توسطوا الإمام) كذا في جميع النسخ توسطوا أي من التوسط. وكذا وقع في جامع الأصول (ج6 ص395) والبيهقي (ج3 ص104) ولفظ أبي داود: وسطوا أي بفتح الواو وتشديد السين المكسورة من التوسيط، وكذا نقله المجد بن تيمية في المنتقى، أي اجعلوه مقابلا لوسط الصف الذي تصفون خلفه يعني قفوا خلفه بحيث يكون الامام حذاء وسط الصف ويكون عن يمينه من المصلين ومن يساره سواء. قال الطيبي: أي اجعلوا أمامكم متوسطا بأن تقفوا في الصفوف خلفه وعن يمينه وشماله- انتهى. وفي القاموس: وسطهم جلس وسطهم كتوسطهم وسطه توسيطا جعله في الوسط، فالظاهر أن يكون التقدير توسطوا بالإمام فيكون من باب الحذف والايصال. (رواه أبودواد) وكذا البيهقي (ج3 ص104) وسكت عنه أبوداود والمنذري وفي سنده يحيى بن بشير بن خلاد عن أمه واسمها أمة الواحد بنت يامين بن عبد الرحمن بن
1110- (20) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول، حتى يؤخرهم الله في النار)) رواه أبوداود.
1111- (21) وعن وابصة بن معبد، قال: (( رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد الصلاة)).
يامين، سماها بقي بن مخلد في مسنده ولم يسمها. أبوداود في روايته: ويحيى مستور، وأمه مجهولة.

(7/37)


1110- قوله: (يتأخرون عن الصف الأول) أي لا يهتمون لإدراك فضل الصف الأول، ولا يبالون به. (حتى يؤخرهم الله) أي يجعلهم الله آخر الأمر. (في النار) أو لا يخرجهم من النار في الأولين، أو يؤخرهم عن الداخلين في الجنة أولا بإدخالهم النار أولا وحبسهم فيها، ويمكن أن يكون المعنى يوقعهم في أسفل النار. وقال الطيبي: أي حتى يؤخرهم عن الخيرات ويدخلهم في النار. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. وأخرجه أيضا ابن خزيمة في صحيحه وابن حبان إلا أنهما قالا: حتى يخلفهم الله في النار، وأخرجه البيهقي (ج3 ص103) من طريق أبي داود بلفظه.

(7/38)


1111- قوله: (عن وابصة) بكسر الموحدة فصاد مهملة. (بن معبد) بفتح الميم واسكان العين المهملة ابن عتبة بن الحارث بن مالك الأسدي أسد خزيمة، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع ثم رجع إلى بلاد قومه ثم نزل إلى الجزيرة، صحابي. قال البرقى: جاء عنه خمسة أحاديث، وعمر إلى قرب سنة تسعين، وتوفي بالرقة، وقبره عند منارة مسجد جامع الرقة. (يصلي خلف الصف وحده) أي منفردا عن الصف. (فأمره أن يعيد الصلاة) فيه دليل على أن الصلاة خلف الصف وحده لا تصح. وأن من صلى خلف الصف وحده فعليه أن يعيد الصلاة. وإليه ذهب إبراهيم النخعي والحسن بن صالح وأحمد وإسحاق وأكثر أهل الظاهر وابن المنذر والحكم، وبه قال قوم من أهل الكوفة، منهم حماد بن أبي سليمان وعبد الرحمن بن أبي ليلي ووكيع. قال ابن حزم: وبه يقول الأوازاعي والحسن بن حي، وأحد قولي سفيان الثوري. ونقل عبد الله بن أحمد في المسند (ج4 ص228) بعد حديث وابصة قال: وكان أبي يقول بهذا الحديث- انتهى. وإليه ذهب الدارمي أيضا فقال في سننه بعد حديث وابصة قال أبومحمد: أقول بهذا. وقال الجواز فلأنه يتعلق بالأركان وقد وجدت، وأما الإساءة فلوجود النهي عن ذلك، والقول الأول هو الحق يدل عليه حديث وابصة وهوحديث صحيح كما ستعرف، ويدل عليه أيضا حديث علي بن شيبان قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا يصلي خلف الصف، فوقف حتى انصرف الرجل فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(7/39)


استقبل صلاتك، فإنه لا صلاة لرجل فرد خلف الصف. أخرجه أحمد (ج4 ص23) وابن ماجه وابن حزم في المحلى (ج4 ص53) والبيهقي (ج3 ص105). ونسبه الزيلعي في نصب الراية (ج1 ص244) لابن حبان في صحيحه، والبزار في مسنده، وهو حديث صحيح. قال البوصيري في زوائد ابن ماجه: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. وروى الأثرم عن أحمد أنه قال: حديث حسن. وقال ابن سيد الناس: رواته ثقات معروفون، وهو من رواية ملازم بن عمرو عن عبدالله بن بدر عن عبدالرحمن بن علي بن شيبان عن أبيه. قال ابن حزم في المحلى: ملازم ثقة. وثقه أبوبكر بن أبي شيبة وابن نمير وغيرهما، وعبدالله بن بدر ثقة مشهور، وعبدالرحمن ما نعلم أحدا عابه بأكثر من أنه لم يرو عنه إلا عبدالله بن بدر. وهذا ليس جرحة- انتهى. وقد روى عنه أيضا ابنه يزيد ووعلة ابن عبدالرحمن، وذكره ابن حبان في الثقات وأخرج له في صحيحه. وقال العجلي: تابعي ثقة، ووثقة أيضا أبوالعرب التميمي، كذا في تهذيب التهذيب (ج6 ص234). ويؤيد حديث علي بن شيبان ما أخرجه ابن حبان عن طلق بن علي مرفوعا: لا صلاة لمنفرد خلف الصف، ذكره الحافظ في بلوغ المرام. ويؤيده أيضا حديث ابن عباس قال: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة. أخرجه البزار والطبراني في الكبير والأوسط. قال الهيثمي: (ج2 ص96): وفيه النضر أبوعمر أجمعوا على ضعفه. ويؤيده أيضا ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة بمعنى حديث ابن عباس، وهو أيضا حديث ضعيف. قال الهيثمي: فيه عبدالله بن محمد بن القاسم، وهو ضعيف وأجاب القائلون بالجواز بأن حديث وابصة معلول للاضطبراب في سنده كما نقل الزيلعي في نصب الراية (ج1 ص244) عن البيهقي في المعرفة والبزار في مسنده. قال البيهقي: وإنما لم يخرجاه صاحبا الصحيح لما وقع في إسناده من اختلاف. وقال ابن عبدالبر: أنه مضطرب الإسناد، ولا يثبته جماعة من أهل الحديث، وروي عن الشافعي أنه كان

(7/40)


يضعف حديث وابصة، ويقول: لو ثبت لقلت به وأجيب عنه بأن البيهقي وهو من أصحابه قد أجاب عنه فقال: الخبر المذكور ثابت، وبأن ابن سيد الناس قال في شرح الترمذي: ليس الاضطراب الذي الذي وقع فيه مما يضره، وبين ذلك وأطال وأطاب، ذكره الشوكاني وأجابوا أيضا بأن الأمر بالإعادة في حديث وابصة وما وافقه للاستحباب، والنفي في حديث علي وما وافقه محمول على نفي الكمال. قال الطيبي: إنما أمره باعادة الصلاة تغليظا وتشديدا، يؤيده حديث أبي بكرة في آخر الفصل الأول من باب الموقف. وقال ابن الهمام: حمل أئمتنا الأول أي حديث وابصة على الندب، والثاني أي حديث علي بن شيبان على نفي الكمال ليوافقا خبر البخاري عن أبي بكرة، إذ ظاهره عدم لزوم الإعادة لعدم أمره بها، وأيضا فهو عليه السلام تركه حتى فرغ ولو كانت باطلة لما أقره على المضي فيها، وأجيب عنه بأن حمل
رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن.

(7/41)


الأمر بالإعادة على الاستحباب، وحمل النفي على نفي الكمال خلاف الظاهر، والأصل فإن الأصل في الأمر الوجوب، وفي نفي الجنس نفي الحقيقة والذات إن أمكن وإلا فيحمل على أقرب المجازين إلى الحقيقة، وهو نفي الصحة كما تحقق في موضعه. وأما الاستدلال على ذلك بحديث أبي بكرة ففيه أن عدم أمره - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة في هذه الصورة الجزئية لا يدل على أن أمره بالإعادة في حديث وابصة ليس للإيجاب، وأن النفى في حديث علي بن شيبان ليس لنفي الحقيقة أو الصحة، فإنه لا يقال لمن فعل مثل ما فعل أبوبكرة أنه صلى خلف الصف. قال ابن سيد الناس: ولا يعد حكم الشروع في الركوع خلف الصف حكم الصلاة كلها خلفه، فهذا أحمد ابن حنبل يرى أن صلاة المنفرد خلف الصف باطلة، ويرى أن الركوع دون الصف جائزة- انتهى. وقال الحافظ في الفتح: جمع أحمد وغيره بين الحديثين، بأن حديث أبي بكرة مخصص لعموم حديث وابصة، فمن ابتدأ الصلاة منفردا خلف الصف ثم دخل في الصف قبل القيام من الركوع لم تجب عليه الإعادة، كما في حديث أبي بكرة، وإلا فيجب على عموم حديث وابصة وعلي بن شيبان- انتهى. وفي مسائل الامام أحمد لأبي داود (ص35) قال: سمعت أحمد سئل عن رجل ركع دون الصف ثم مشى حتى دخل الصف وقد رفع الإمام قبل أن ينتهي إلى الصف قال: تجزئه ركعة وإن صلى خلف الصف وحده أعاد الصلاة. وقيل يحمل عدم الأمر بالإعادة على من فعل ذلك لعذر وهو خشية الفوات لو انضم إلى الصف وأحاديث الإعادة على من فعل ذلك لغير عذر. وقيل من لم يعلم ما ابتداء الركوع على تلك الحال من النهي فلا إعادة عليه كما في حديث أبي بكرة؛ لأن النهي عن ذلك لم يكن تقدم فكان أبوبكرة معذورا لجهله، ومن علم النهي وفعل بعض الصلاة أو كلها خلف الصلاة لزمته الإعادة، يعني أنه يحمل أمره بالإعادة لمن صلى خلف الصف بأنه كان عالما بالنهي. قال ابن حزم في المحلى (ج4 ص58): فإن قيل: فهلا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم

(7/42)


- أبا بكر بالإعادة كما أمر الذي أساء الصلاة والذي صلى خلف الصف وحده؟ قلنا: نحن على يقين نقطع به أن الركوع دون الصف إنما حرم حين نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذ ذلك كذلك فلا إعادة على من فعل ذلك قبل النهي، ولو كان ذلك محرما قبل النهي لما أغفل عليه السلام أمره بالإعادة كما فعل مع غيره- انتهى. (رواه أحمد) (ج4 ص227و 228). (والترمذي وأبوداود) وأخرجه أيضا ابن ماجه وأبوداود الطيالسي والدارمي وابن الجارود والبيهقي (ج3 ص104- 105) وابن حبان والدارقطني والحاكم والطحاوي وابن حزم في المحلى. (وقال الترمذي: هذا حديث حسن) وسكت عنه أبوداود. ونقل المنذري كلام الترمذي هذا وأقره. وقال الحافظ في الفتح: صححه أحمد وابن خزيمة وغيرهما. وقال ابن حجر المكي: صححه ابن حبان والحاكم. قلت: وأعله بعضهم بما وقع من اختلاف في
(25) باب الموقف
?الفصل الأول?
1112- (1) عن عبدالله بن عباس، قال: (( بت في بيت خالتي ميمونة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي،
فقمت عن يساره، فأخذ بيدي من وراء ظهره فعدلني كذلك من وراء ظهره إلى الشق الأيمن))
سنده كما تقدم عن ابن عبدالبر أنه قال: حديث مضطرب الإسناد، وقد تقدم قول ابن سيد الناس: أن الاختلاف الذي وقع في سنده ليس مما يضره، وقد بين ذلك في شرح الترمذي له كما قال الشوكاني، وقد بينه أيضا الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج2 ص451) وأطال الكلام فيه وحققه بما لا مزيد عليه، فعليك أن تراجعه، ولو لا خوف الإطناب لذكرنا كلامه.
(باب الموقف) أي موقف الإمام والمأموم.

(7/43)


1112- قوله (بت) أي رقدت أو كنت ليلا. (في بيت خالتي ميمونة) بنت الحارث أم المؤمنين. (يصلي) أي من الليل، والمراد به التهجد. (فقمت) أي وقفت. (عن يساره) بفتح الياء وكسرها. ولفظ مسلم: ثم قمت إلى شقه الأيسر. (فأخذ بيدي) بسكون الياء بالإفراد. (من وراء ظهره) أي وهو في الصلاة. (فعدلني) بالتخفيف. وقيل: بالتشديد أي أمالني وصرفنى. ولفظ مسلم: يعدلني أي بصيغة مضارع. (كذلك) أي آخذا بيدي. (من وراء ظهره) بيان لذلك. (إلى الشق الأيمن) متعلق بعدلني. قال الطيبي: الكاف صفة مصدر محذوف أي عدلني عدولا مثل ذلك، والمشار إليه هي الحالة المشبهة بها التي صورها ابن عباس بيده عند التحدث– انتهى. وقد اختلف في كيفية التحويل روايات الصحيح، ففي بعضها: أخذ برأسه فجعله عن يمينه، وفي بعضها: فوضع يده اليمنى على رأسي فأخذ بأذني اليمنى ففتلها، وفي بعضها: فأخذ برأسي من ورائي، وفي بعضها: بيدي أو عضدي. قال العيني: والرواية الثانية جامعة لهذه الروايات وقال أيضا: ووجه الجمع بين قوله: فأخذ بيدي، وبين قوله: فأخذ برأسي. كون القضية متعددة، وإلا فوجهه أخذ أولا برأسه ثم بيده أو العكس - انتهى. قلت: الغالب على الظن عدم تعدد قصة مبيت ابن عباس. فالجمع بين مختلف الروايات فيها أولى. وقيل: رواية أخذ الرأس أرجح لاتفاق الأكثر عليها، وفي الحديث دليل على أن موقف المأموم الواحد عن يمين الإمام، إذ لو كان اليسار موقفا له لما عدله وحوله في الصلاة، وإلى هذا ذهب الجماهير، وخالف النخعي فقال: إذا كان الإمام وواحد قام الواحد خلف الامام، فإن ركع الإمام قبل أن يجيء أحد قام عن يمينه، أخرجه سعيد بن منصور. قال الحافظ: ووجهه بعضهم بأن الإمامة

(7/44)


مظنة الاجتماع فاعتبرت في موقف الإمام حتى يظهر خلاف ذلك، وهو حسن، لكنه مخالف للنص، وهوقياس فاسد- انتهى. وروي عن سعيد بن المسيب أن موقف الواحد مع الإمام عن يساره، ولم يتابع على ذلك لمخالفته للأدلة، وقد اختلف في صلاة من وقف عن اليسار، فقيل: تصح لكنه مسيء، وهو قول الجمهور. وتمسكوا بعدم بطلان صلاة ابن عباس لوقوفه عن اليسار لتقريره - صلى الله عليه وسلم - على أول صلاته وعدم أمره بالإعادة. وقيل: تبطل، وإليه ذهب أحمد قال: وتقريره - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس لا يدل على صحة صلاة من وقف من أول الصلاة إلى آخرها عن اليسار عالما، وغاية ما فيه تقرير من جهل الموقف والجهل عذر، وقد بوب البخاري على حديث ابن عباس: باب إذا قام الرجل عن يسار الإمام وحوله الإمام خلفه إلى يمينه تمت صلاته. قال الحافظ: أي صلاة المأموم ولا يضر وقوفه عن يسار الإمام أولا مع كونه في غير موقفه؛ لأنه معذور بعدم العلم بذلك الحكم - انتهى. وأيضا يجوز أن يكون ابن عباس ما كان قد أحرم بالصلاة. ثم قوله: فعدلني إلى الشق الأيمن يحتمل المساواة، ويحتمل التقدم والتأخر قليلا، وفي رواية: فقمت عن يساره فجعلني عن يمينه، وقد بوب عليها البخاري: باب يقوم عن يمين الإمام بحذاءه سواء إذا كانا اثنين. قال الحافظ: قوله بحذاءه أخرج به من كان خلفه أو مائلا عنه أو بجنبه لكن على بعد منه، وقوله سواء أي لا يتقدم ولا يتأخر، وفي انتزاع هذا من هذه الرواية بعد، وكأن المصنف أشار بذلك إلى ما تقدم في بعض طرقه وهو في الطهارة: فقمت إلى جنبه، وظاهره المساواة. وفي رواية للبخاري أيضا: فأقامني عن يمينه. قال العيني: يستفاد منها أن موقف المأموم إذا كان بحذاء الإمام على يمينه مساويا له، وهو قول عمر وابنه وأنس وابن عباس والثوري وإبراهيم ومكحول والشعبي وعروة وأبي حنيفة ومالك والأوزاعي وإسحاق، وعن محمد بن الحسن: يضع أصابع رجليه عند عقب الإمام. وقال الشافعي:

(7/45)


يستحب أن يتأخر عن مساواة الإمام قليلا. قال الشوكاني: وليس عليه فيما أعلم دليل، وروى عبدالرزاق عن ابن جريج قال: قلت لعطاء الرجل يصلي مع الرجل أين يكون منه؟ قال إلى الشق الأيمن قلت: أيحاذي به حتى يصف معه لا يفوت أحدهما الآخر. قال: نعم، قلت: أتحب أن يساويه حتى لا يكون بينهما فرجة؟ قال: نعم. وفي الموطأ عن عبدالله بن عتبة بن مسعود قال: دخلت على عمر بن الخطاب بالهاجرة فوجدته يسبح فقمت وراءه فقربني حتى جعلني حذاءه عن يمينه، والحديث له فوائد كثيرة: منها: أن الاثنين جماعة، وقد بوب عليه ابن ماجه: باب الاثنان جماعة. ومنها: انعقاد الجماعة باثنين: أحدهما صبي، ففي لفظ: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا يومئذ ابن عشر سنين، وقمت إلى جنبه عن يساره فأقامني عن يمينه، قال: وأنا يومئذ ابن عشر سنين. أخرجه أحمد، وقد بوب عليه ابن تيمية في المنتقى: باب انعقاد الجماعة باثنين أحدهما صبي. وقال العيني: في الحديث جواز ائتمام صبي ببالغ، وعليه ترجم البيهقي في سننه. قال الشوكاني: ليس على قول من منع من انعقاد من معه صبي فقط دليل، ولم
متفق عليه.
1113- (2) وعن جابر، قال: (( قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي، فجئت حتى قمت عن يساره، فأخذ
بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر،

(7/46)


يستدل لهم إلا بحديث رفع القلم، ورفع القلم لا يدل على عدم صحة صلاته، وانعقاد الجماعة به، ولو سلم لكان مخصصا بحديث ابن عباس ونحوه، وقد ذهب أبوحنيفة وأصحابه إلى أن الجماعة لا تنعقد بصبي، وذهب الشافعي إلى الصحة من غير فرق بين الفرض والنفل، وذهب مالك وأبوحنيفة في رواية عنه إلى الصحة في النافلة. ومنها: جواز الائتمام بمن لم ينو الإمامة، وقد بوب البخاري لذلك. وفي المسألة خلاف، ومذهب الحنفية أن نية الإمامة في حق الرجال ليست بشرط؛ لأنه لا يلزمه باقتداء المأموم حكم، وفي حق النساء شرط لاحتمال فساد صلاته بمحاذاتها إياه. والأصح عند الشافعية أنه لا يشترط مطلقا، واستدل لذلك ابن المنذر بحديث أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم في رمضان قال: فجئت فقمت إلى جنبه وجاء آخر فقام إلى جنبي حتى كنا رهطا فلما أحس النبي - صلى الله عليه وسلم - بنا تجوز في صلاته- الحديث. وهو ظاهر في أنه لم ينو الإمامة ابتداء وائتموهم به ابتداء وأقرهم، وهو حديث صحيح. أخرجه مسلم، وعلقه البخاري في كتاب الصيام: وذهب أحمد إلى الفرق بين النافلة والفريضة، فشرط أن ينوى في الفريضة دون النافلة، وفيه نظر لحديث أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يصلي وحده فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه. أخرجه أبوداود. وقد حسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، والراجح عندنا هو عدم الفرق بين الفريضة والنافلة، وعدم الاشتراط في حق الرجال والنساء جميعا؛ لانتفاء ما يدل على الفرق والتفصيل، والله أعلم. ومنها: جواز الإمامة في النافلة وصحة الجماعة فيها، ومنها التعليم في الصلاة إذا كان من أمرها. ومنها أن النافلة كالفريضة في تحريم الكلام؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يتكلم. ومنها: ما قيل إن تقدم المأموم على إمامه مبطل. قال الحافظ: ذكر البيهقي أنه يستفاد من الحديث امتناع تقديم المأموم على الإمام لما في رواية

(7/47)


مسلم: فقمت عن يساره فأدارني من خلفه حتى جعلني عن يمينه، وفيه نظر، قال العيني: لأنه يجوز أن تكون ادارته من خلفه لئلا يمر بين يديه فإنه مكروه. ومنها أن العمل اليسير في الصلاة لا يفسدها، وقد بوب لذلك البخاري حيث قال: باب إذا قام الرجل عن يسار الإمام فحوله الإمام إلى يمينه لم تفسد صلاتهما أي بالعمل الواقع منها، لكونه خفيفا يسيرا وهو من مصلحة الصلاة أيضا. (متفق عليه) واللفظ لمسلم. وقد تقدم التنبيه على ما وقع من الاختلاف بين لفظ مسلم وبين اللفظ الذي ذكره المصنف تبعا للبغوي، والحديث أخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
1113- قوله: (وعن جابر) أي ابن عبدالله. (فأخذ بيدي) قال ابن الملك: أي أخذني بيده اليمنى من وراء ظهره حتى أقامني. (عن يمينه) فيه أن موقف المأموم الواحد عن يمين الإمام. (ثم جاء جبار بن صخر) بن
فقام عن يسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ بيدينا جميعا، فدفعنا حتى أقامنا خلفه)) رواه مسلم.

(7/48)


أمية بن خنساء بن سنان السلمى الأنصاري شهد بدرا، وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة، ثم شهد أحدا، وما بعدها من المشاهد وكان أحد السبعين ليلة العقبة، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين المقداد بن الأسود، يكنى أبا عبدالله توفي بالمدينة سنة ثلاثين. قال ابن إسحاق: كان خارصا بعد عبدالله بن رواحة. (فأخذ بيدينا) بالتثنية. وفي مسلم: بأيدينا أي بلفظ الجمع. (فدفعنا) أي أخرنا. قال الطيبي: لعله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيمينه شمال أحدهما، وبشماله يمين الآخر فدفعهما. (حتى أقامنا خلفه) فيه أن الإمام إذا كان معه عن يمينه مأموم، ثم جاء مأموم آخر، ووقف عن يساره، فله أن يدفعهما خلفه إذا كان لوقوفهما خلفه مكان، أو يتقدمهما. يدل عليه حديث سمرة الآتي في الفصل الثاني. وفيه أن موقف الرجلين مع الإمام في الصلاة خلفه. قال النووي: في الحديث فوائد: منها: جواز العمل اليسير في الصلاة، وأنه يكره إن كان لحاجة، فإن لم يكن لحاجة كره. ومنها: أن المأموم الواحد يقف على يمين الإمام، وإن وقف على يساره حوله الامام. ومنها: أن المأمومين يكونان صفا وراء الإمام كما لو كانوا ثلاثة أو أكثر. وهذا مذهب العلماء كافة إلا ابن مسعود وصاحبيه يعني الأسود وعلقمة، فإنهم قالوا: يقف الاثنان عن جانبيه قال: وأجمعوا إذا كانوا ثلاثة أنهم يقفون وراءه- انتهى. قلت: روى مسلم في صحيحه عن علقمة والأسود أنهما دخلا على عبدالله فقال أصلي من خلفكم؟ قالا: نعم فقام بينهما وجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله ثم ركعنا فوضعنا أيدينا على ركبنا، فضرب أيدينا ثم طبق بين يديه ثم جعلهما بين فخذيه، فلما صلى قال هكذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى أحمد عن الأسود قال: دخلت أنا وعمي علقمة على ابن مسعود بالهاجرة قال: قأقام الظهر ليصلي فقمنا خلفه فأخذ بيدي ويد عمي ثم جعل أحدها عن يمينه والآخر عن يسار، فصففنا صفا واحدا ثم قال: هكذا كان

(7/49)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع إذا كانوا ثلاثة، وأجاب عنه ابن سيرين بأن ذلك كان لضيق المكان أو لعذر آخر لا على أنه من السنة. رواه الطحاوي وقال الحازمي: أنه منسوخ؛ لأنه إنما تعلم ابن مسعود هذه الصلاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة إذ فيها التطبيق وأحكام أخرى، هي الآن متروكة وهذه من جملتها، ولما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة تركه بدليل حديث جابر، فإنه شهد المشاهد التى بعد بدر- انتهى. قال ابن الهمام: وغاية ما فيه خفاء الناسخ على عبدالله وليس ذلك ببعيد، إذا لم يكن دأبه عليه السلام إلا إمامة الجمع الكثير دون الاثنين إلا في الندرة كهذه القصة وحديث اليتيم وهو داخل في بيت امرأة. (يعنى حديث أنس الآتي) فلم يطلع عبدالله على خلاف ما علمه- انتهى. وقال ابن سيد الناس: وليس ذلك أي وقوف الاثنين خلف الإمام شرطا عند أحد منهم، ولكن الخلاف في الأولى والأحسن. (رواه مسلم) في آخر صحيحه في أثناء الحديث الطويل. وأخرجه البيهقي (ج3 ص95) مختصرا وأبوداود مطولا، وهذا الذي ذكر المصنف بعضا منه، وروى أحمد عن جابر قال: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي المغرب فجئت فقمت
1114- (3) وعن أنس، قال: ((صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأم سليم خلفنا)).
عن يساره فنهاني فجعلني عن يمينه، ثم جاء صاحب لي فصفنا خلفه- الحديث.

(7/50)


1114- قوله: (صليت أنا ويتيم) بالرفع عطفا على الضمير المرفوع. قال صاحب العمدة: اليتيم هو ضميرة جد حسين بن عبدالله بن ضميرة. قال ابن الحذاء: كذا سماه عبدالملك بن أبي حبيب، ولم يذكره غيره، وأظنه سمعه من حسين بن عبدالله أو من غيره من أهل المدينة. قال ضميرة: هو ابن أبي ضميرة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. واختلف في اسم أبي ضميرة، فقيل: روح، وقيل غير ذلك- انتهى. وقال النووي: اسم اليتيم ضميرة بن سعد الحميري. وقال المنذري: اليتيم وهو ابن أبي ضميرة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، له ولأبيه صحبة، وعدادهما في أهل المدينة (في بيتنا) متعلق بصليت. (وأم سليم خلفنا) وفي البخاري: وأمي أم سليم خلفنا. قال العيني: وأمي عطف على اليتيم، وأم سليم عطف بيان، وكانت مشتهرة بهذه الكنية، واسمها سهلة. وقيل: رميلة أو رميثة أو الرميصاء أو الغميصاء، زوجة أبي طلحة، وكانت فاضلة دينة- انتهى. قلت: أم سليم هي بنت ملحان بكسر الميم وإسكان اللام، واسمه مالك بن خالد بن زيد بن حرام من بنى النجار، وكانت أم سليم تحت مالك بن النضر، فولدت له أنسا في الجاهلية، وأسلمت مع السابقين من الأنصار، فغضب مالك وخرج إلى الشام، ومات بها فتزوجها بعده أبوطلحة زيد بن سهل الأنصاري، فولدت له عبدالله وأبا عمير، واسم والدة أم سليم مليكة بالتصغير بنت مالك بن عدي بن زيد مناة بن عدي، فهي جدة أنس لأمه. وفي الحديث دليل على صحة الجماعة في النفل في البيوت، وعلى صحة الصلاة للتعليم والتبرك كما تدل عليه القصة، وعلى أن مقام الاثنين خلف الإمام، وعلى أن أمامة المرأة للرجال غير جائزة؛ لأنها لما زحمت عن مساواتهم في مقام الصف كانت من أن تتقدمهم أبعد، وعلى وجوب ترتيب مواقف المأمومين، وأن الأفضل يتقدم على من دونه في الفضل، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ليلينى منكم أولوا الأحلام والنهى، وعلى صحة صلاة الصبي المميز، وإن الصبي يعتد

(7/51)


بوقوفه ويسد الجناح، وهو الظاهر من لفظ اليتيم إذ لا يتم بعد الاحتلام، ويؤيده جذبه - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس من جهة اليسار إلى جهة اليمين، وصلاته معه وهو صبي، وعلى أن الصبي الواحد يقوم مع الرجل صفا، فإن اليتيم لم يقف منفردا بل صف مع أنس، وعلى أن المرأة لا تصف مع الرجال، وعلى أنها تقوم صفا وحدها إذا لم يكن معها امرأة غيرها، فعدم امرأة تنضم إليها عذر في ذلك، فإن انضمت المرأة مع الرجل أجزأت صلاتها؛ لأنه ليس في الحديث إلا تقريرها على التأخر، وأنه موقفها، وليس فيه دلالة على فساد صلاتها لو صلت في غيره، وذهب أبوحنيفة إلى أنه تفسد صلاة الرجل دون المرأة، ولا دليل على ذلك. قال الحافظ: في الحديث أن المرأة لا تصف مع الرجال، وأصله ما يخشى من الافتتان بها، فلو خالفت أجزأت صلاتها عند الجمهور، وعند الحنفية: تفسد صلاة الرجل دون المرأة، وهو عجيب، وفي توجيهه تعسف، حيث قال قائلهم: دليله قول ابن مسعود أخروهن من حيث
رواه مسلم.
_______________________________________________

(7/52)


أخرهن الله، والأمر للوجوب وحيث ظرف مكان، ولا مكان يجب تأخيرهن فيه إلا مكان الصلاة، فإذا حاذت الرجل فسدت صلاة الرجل؛ لأنه ترك ما أمر به من تأخيرها، وحكاية هذا تغني عن تكلف جوابه، والله المستعان. فقد ثبت النهى عن الصلاة في الثوب المغصوب، وأمر لابسه أن ينزعه، فلو خالف فصلى فيه ولم ينزعه أثم وأجزأته صلاته، فلم يقال في الرجل الذي حاذته المرأة ذلك وأوضح منه لو كان لباب المسجد صفة مملوكة فصلى فيها شخص بغير إذنه مع اقتداره على أن ينتقل عنها إلى أرض المسجد بخطوة واحدة صحت صلاته وأثم، وكذلك الرجل مع المرأة التي حاذته، ولا سيما إن جاءت بعد أن دخل في الصلاة فصلت بجنبه- انتهى كلام الحافظ. وقال الشوكاني في السيل الجرار: إذا لم تقف المرأة في موقفها الذي عينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها، وهو وقوفها في صف النساء أو وقوفها وحدها بعد الرجال فقد صارت بذلك عاصية، وأما فساد صلاتها بذلك، فلا دليل يدل عليه، وهكذا لا دليل يدل على فساد صلاة الرجال؛ لأن غاية الأمر دخول الأجنبية معهم ونظرهم إليها، وذلك لا يوجب فساد الصلاة، بل يكون من وقف بجنبها مختارا لذلك، أو نظر إليها عاصيا، وصلاته صحيحة، وأما من لم يقف بجنبها ولا نظر إليها فليس بعاص فضلا عن كون صلاته تفسد بمجرد دخولها معهم في الصلاة ومشاركتها لهم في الائتمام بإمامهم. والحاصل أن التسرع إلى إثبات مثل هذه الأحكام الشرعية بمجرد الرأي الخالي عن الدليل ليس من دأب أهل الأنصاف ولا من صنيع المتورعين - انتهى. واستدل الزيلعي والخطابي وابن بطال بالحديث على صحة صلاة المنفرد خلف الصف، قال الزيلعي: أحكام الرجال والنساء في ذلك سواء. وقال ابن بطال: لما ثبت ذلك للمرأة كان للرجال أولى، ورد هذا الاستدلال بأنه إنما ساغ ذلك للمرأة لامتناع أن تصف مع الرجال بخلاف الرجل، فان له أن يصف معهم وأن يزاحمهم وأن يجذب رجلا من حاشية الصف فيقوم معه فافترقا. قال ابن

(7/53)


خزيمة: لا يصح الاستدلال به؛ لأن المرأة خلف الصف وحده منهي عنها باتفاق ممن يقول تجزئه أو لا تجزئه، وصلاة المرأة وحدها إذا لم يكن هناك امرأة أخرى مأمور بها، فكيف يقاس مأمور على منهي - انتهى. (رواه مسلم). الصواب أن يقول متفق عليه، واللفظ للبخاري كما قال الحافظ في بلوغ المرام، أو يقول رواه البخاري كما قال المجد بن تيمية في المنتقى، فإن هذه الرواية أخرجها البخاري في كتاب الصلاة في باب المرأة وحدها تكون صفا من طريق سفيان بن عيينة عن إسحاق عن أنس، فالعجب من المصنف أنه عزا الحديث إلى مسلم فقط مع أن مسلما لم يروه بهذا اللفظ. والظاهر أن المصنف تبع في ذلك الجزري حيث عزاه في جامع الأصول (ج6:ص391) لمسلم والنسائي فقط. قال الحافظ في الفتح: هذا الحديث طرف من حديث اختصره سفيان، وطوله مالك كما تقدم في باب الصلاة على الحصير - انتهى. قلت: الحديث المطول أخرجه أحمد ومالك والبخاري ومسلم والترمذي وأبوداود والنسائي
1115- (4) وعنه، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى به وبأمه أو خالته، قال: فأقامني عن يمينه، وأقام المرأة
خلفنا))
والظاهر أنه قضية؛ لأن المراد بالعجوز في قوله: والعجوز من وراءنا في الحديث المطول هي مليكة جدة أنس التي دعته لطعام صنعته لا أم سليم.

(7/54)


1115- قوله: (صلى به) أي بأنس. (وبأمه) أي أم سليم. (أو خالته) شك من الراوي، واسم خالته أم حرام بنت ملحان. (قال) أي أنس. (فأقامني) أي أمرني بالقيام. (عن يمينه، وأقام المرأة خلفنا) في الحديث دليل على أنه إذا حضر مع إمام الجماعة رجل وامرأة كان موقع الرجل عن يمينه وموقف المرأة خلفهما. وإنها لا تصف مع الرجال. واعلم أنه اختلفت الروايات في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت أنس، ففي بعضها أن مليكة جدة أنس دعته لطعام صنعته، فأكل منه ثم قال: قوموا فلأصلي بكم. قال أنس: فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حصير، وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من وراءنا، أخرجه أحمد (ج3:ص 131، 149) ومالك وأصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه. وفي بعضها أنه دخل على أم سليم فأتته بتمر وسمن، وكان صائما، فقال أعيدوا تمركم في وعائه، وسمنكم في سقائه، ثم قام إلى ناحية البيت فصلى ركعتين، وصلينا معه-الحديث. أخرجه أحمد من طريق حميد عن أنس في (ج3:ص108، و188) وعند أبي داود من طريق ثابت عن أنس أنه دخل على أم حرام فأتوه بسمن وتمر، فقال: ردوا هذا في وعائه، وهذا في سقائه، فاني صائم، ثم قام فصلى بنا ركعتين تطوعا، فقامت أم سليم وأم حرام خلفنا، قال ثابت: ولا أعلمه إلا قال: أقامني عن يمينه، وفي بعضها: أنه صلى في بيت أم حرام، فأقام أنسا عن يمينه، وأم حرام خلفهما، وهو عند أحمد (ج3:ص204) من طريق ثابت عن أنس. وفي بعضها أنه صلى، ومعه أنس وأم سليم فجعل أنسا عن يمينه وأم سليم خلفهما، وهو عند أحمد أيضا (ج3:ص217) من طريق ثابت. وروى أحمد (ج3:ص194-195) والنسائي من طريق شعبة عن عبدالله بن المختار عن موسى بن أنس عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل أنسا عن يمينه، وأمه وخالته خلفهما. وروى أحمد (ج3:ص160و193-194 و217 و239 و242) ومسلم وأبوداود والنسائي هذا المعنى أيضا من حديث ثابت عن أنس، وفي بعضها أنه صلى بأنس وبإمراة

(7/55)


من أهله فجعله عن يمينه، والمرأة خلفهما وهو عند أحمد (ج3:ص258 و261) وأبي داود والنسائي وابن ماجه، وفي بعضها ما يدل على أنه كان يزورهم، فربما تحضره الصلاة، وهو عند أحمد (ج3:ص212) ومسلم، وهو يدل على أنه كان في بعض أحيانه يصلي الفريضة عندهم. وفي بعضها ورد التصريح بأنه صلى بهم تطوعا، كما في رواية لأحمد (ج3:ص160) وأبي داود. وقد ظن بعضهم هذا الاختلاف موجبا للاضطراب. والحق أنه لا اضطراب ههنا؛ لأن صلاته - صلى الله عليه وسلم - في بيت أنس وأمه وخالته وجدته، ليست حادثة واحدة، بل هي حوادث متعددة مختلفة، كما يدل عليه
رواه مسلم.
1116- (5) وعن أبي بكرة، ((أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، ثم مشى إلى الصف فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: زادك الله حرصا، ولا تعد))
اختلاف سياق هذه الروايات، فلا تعارض بينها. كذا حققه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي. (رواه مسلم) من طريق شعبة عن عبدالله بن المختار عن موسى بن أنس. وأخرجه أيضا أحمد (ج3:ص258 وص261) وأبوداود والنسائي وابن ماجه من هذا الطريق، لكنهم أبهموا المرأة. فلفظ أحمد وأبي داود: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم أنسا وامرأة منهم. ولفظ النسائي: صلى بي وبمرأة من أهلي. ولفظ ابن ماجه: صلى بامرأة من أهله وبي.

(7/56)


1116- قوله: (أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع) أي والحال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - راكع. وفي رواية النسائي: أنه دخل المسجد والنبي - صلى الله عليه وسلم - راكع. وعند الطبراني. أنه دخل المسجد، وقد أقيمت الصلاة، فانطلق يسعى، وللطحاوي: جئت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - راكع وقد حفزني النفس، فركعت دون الصف. (فركع) أي كبر قائما وركع. (قبل أن يصل إلى الصف) ليدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - في الركوع. (ثم مشى إلى الصف) ليس هذا عند البخاري، وإنما هو عند أحمد (ج5 ص45) وأبي داود، ولفظهما: فركع دون الصف ثم مشى إلى الصف. (فذكر) على البناء للمفعول، وقيل: معلوم. (ذلك) أي الذي فعله أبوبكرة من السعي والركوع دون الصف، والمشي إلى الصف راكعا. وفي رواية للطبراني: فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أيكم دخل الصف وهو راكع؟ ولأبي داود: فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال: أيكم الذي ركع دون الصف ثم مشى إلى الصف؟ فقال أبوبكرة أنا. وفي رواية أخرى للطبراني فقال: من الساعي؟ وله أيضا فقال: أيكم صاحب هذا النفس، قال: خشيت أن تفوتني الركعة معك، وله أيضا في رواية في آخر الحديث: صل ما أدركت واقض ما سبقك. (زادك الله حرصا) أي على طلب الخير. (ولا تعد) أي أن منشأ هذا الفعل، هو الحرص على العبادة وإدراك فضل الإمام، والحرص على الخير مطلوب محبوب، لكن لا تعد إلى مثل هذا الفعل لأجله؛ لأن الحرص لا يستعمل على وجه يخالف الشرع، وإنما المحمود أن يأتي به على وفق الشرع. وقوله: لا تعد بفتح أوله وضم العين من العود. قال الحافظ في التلخيص (ص110): اختلف في معنى قوله: ولا تعد: فقيل: نهاه عن العود إلى الإحرام وخارج الصف، وأنكر هذا ابن حبان، وقال: أراد لا تعد في إبطاء المجيء إلى الصلاة، يعني أنه نهاه عن التأخر عن الصلاة حتى تفوته الركعة مع الامام. وقال ابن القطان الفاسي

(7/57)


تبعا للمهلب بن أبي صفرة معناه: لا تعد إلى
دخولك في الصف، وأنت راكع فإنها كمشية البهائم. ويؤيده رواية حماد بن سلمة في مصنفه عن الأعلم عن الحسن عن ابي بكرة: أنه دخل المسجد، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وقد ركع، فركع ثم دخل الصف وهو راكع فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أيكم دخل في الصف وهو راكعن فقال له أبوبكرة: أنا، فقال: زادك الله حرصا ولا تعد، وقال غيره: بل معناه لا تعد إلى إتيان الصلاة مسرعا، واحتج بما رواه ابن السكن في صحيحه بلفظ: أقيمت الصلاة فانطلقت أسعى حتى دخلت في الصف، فلما قضى الصلاة قال: من الساعي آنفا، قال أبوبكرة أنا، فقال زادك الله حرصا ولا تعد- انتهى. وقال في الفتح قوله: "لا تعد" ضبطناه في جميع الروايات بفتح أوله وضم العين من العود، أي لا تعد إلى ما صنعت من السعي الشديد، ثم من الركوع دون الصف، ثم من المشي إلى الصف. وقد ورد ما يقتضي ذلك صريحا في طرق حديثه، كما تقدمت، وحكى بعض شراح المصابيح أنه روي بضم أوله وكسر العين من الإعادة، ويؤيد الروايات المشهورة ما ورد من الزيادة في آخر الحديث عند الطبراني: صل ما أدركت واقض ما سبقك. وروى الطحاوي: بإسناد حسن عن أبي هريرة مرفوعا: إذا أتى احدكم الصلاة فلا يركع دون الصف حتى يأخذ مكانه من الصف- انتهى. وقال: الجزري لا تعد بفتح التاء وضم العين وإسكان الدال من العود، أي لا تعد ثانيا إلى مثل ذلك الفعل، وهو المشي إلى الصف في الصلاة. ويحتمل أن يكون نهاه عن اقتدائه منفردا. ويحتمل أن يكون عن ركوعه قبل الوصول إلى الصف، والظاهر أنه نهى عن ذلك كله. وقد أبعد من قال: ولا تعد بضم التاء وكسر العين من الإعادة أي لا تعد الصلاة التي صليتها، وأبعد منه من قال إنه بإسكان العين وضم الدال من العدو أي لا تسرع، وكلاهما لم يأت به رواية، وإنما يحملهم على ذلك في أمثاله من تحريفهم ألفاظ النبوة وتغييرها كونهم لم يحفظوها أو

(7/58)


ما وصلت إليهم بالرواية، فيذكرون ما يحتمله الخط لعدم معرفتهم باللفظ المروي- انتهى. واخنلف في الركوع دون الصف، فذهب مالك والليث إلى أن الداخل إذا خاف فوت الركعة بأن يرفع الإمام رأسه من الركوع إن تمادى حتى يصل إلى الصف أن له أن يركع دون الصف، ثم يدب راكعا إذا كان قريبا، وحد القرب أن يصل إلى الصف قبل سجود الامام. وقيل: يدب قدر ما بين الفرجتين. وقيل: ثلاثة صفوف. وكره ذلك الشافعي. وفرق أبوحنيفة بين الجماعة والواحد، فكرهه للواحد، وأجازه للجماعة. وما ذهب إليه مالك روي عن زيد بن ثابت وابن مسعود وعبدالله بن الزبير وأبي أمامة وعطاء. وروى الطبراني في الأوسط من حديث ابن وهب عن ابن جريج عن عطاء سمع ابن الزبير على المنبر يقول: إذا دخل أحدكم المسجد، والناس ركوع فليركع حين يدخل، ثم يدب راكعا حتى يدخل في الصف، فإن ذلك السنة، قال: قد رأيته يصنع ذلك. قال ابن جريج: وقد رأيت عطاء يصنع ذلك، قال الطبراني: تفرد به ابن وهب، ولم يروه عنه غير حرملة، ولا يروى عن ابن الزبير إلا بهذا الإسناد- انتهى. قلت: قد رواه البيهقي (ج3 ص16) من

(7/59)


طريق سعيد بن الحكم بن أبي مريم عن ابن وهب. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص96) بعد غزوة للطبراني: رجاله رجال الصحيح. قلت: القول الراجح المعتمد المعول عليه هو المنع لحديث أبي بكرة، ولما روى الطحاوي من حديث أبي هريرة مرفوعا بإسناد حسن: إذا جاء أحدكم الصلاة فلا يركع دون الصف حتى يأخذ مكانه من الصف، وإليه ذهب أبوهريرة، كما أخرج عنه ابن عبدالبر وابن أبي شيبة، وبه قال الحسن وإبراهيم. واستدل بحديث أبي بكرة على أن من أدرك الإمام راكعا دخل معه، واعتد بتلك الركعة وإن لم يدرك شيئا من القيام والقراءة؛ لأن أبابكرة ركع خلف الصف مخافة أن تفوته الركعة، فدعا له بزيادة الحرص، ولم يأمره بإعادة تلك الركعة، وهذا مذهب الجمهور. وذهب أبوهريرة وأهل الظاهر وابن خزيمة وأبوبكر الضبعي والبخاري إلى أنه لا تجزئه تلك الركعة إذا فاته القيام وقراءة فاتحة الكتاب وإن أدرك الركوع مع الإمام. وقد حكى هذا المذهب الحافظ في الفتح عن جماعة من الشافعية، وقواه الشيخ تقي الدين السبكي وغيره من محدثي الشافعية، ورجحه المقبلي، قال: وقد بحثت هذه المسألة وأحطتها في جميع بحثي فقها وحديثا، فلم أحصل منها غير ما ذكرت، يعني من عدم الاعتداد بادراك الركوع فقط، وهو القول الراجح عندي، فلا يكون مدرك الركوع مدركا للركعة لما فاته من القيام وقراءة فاتحة الكتاب، وهما من فروض الصلاة وأركانها، ولحديث: ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا. قال الحافظ: قد استدل به على أن من أدرك الإمام راكعا لم يحتسب له تلك الركعة للأمر بإتمامه ما فاته؛ لأنه فاته القيام والقراءة فيه- انتهى. وأما حديث أبي بكرة فليس فيه ما يدل على ما ذهب الجمهور إليه؛ لأنه كما لم يأمر بالإعادة فلم ينقل إلينا أنه اعتد بها، والدعاء بالحرص لا يستلزم الاعتداد بها؛ لأن الكون مع الإمام مأمور به سواء كان الشيء الذي يدركه المؤتم معتمدا به أم لا، كما في حديث: إذا جئتم إلى الصلاة

(7/60)


ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئا. رواه أبوداود وغيره، على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى أبا بكرة عن العود إلى مثل ذلك، والاستدلال بشيء قد نهي عنه لا يصح، كذا ذكره الشوكاني في النيل. قلت: زيادة الطبراني في آخر حديث أبي بكرة بلفظ: صل ما أدركت واقض ما سبقك تدل على عدم اعتداد تلك الركعة، ويدل عليه أيضا ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن معاذ بن جبل، قال: لا أجده على حال إلا كنت عليها، وقضيت ما سبقني، فوجده قد سبقه، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -، ببعض الصلاة أو قال: ببعض ركعة، فوافقه فيما هو فيه، وأتى بركعة بعد السلام، فقال- صلى الله عليه وسلم -: إن معاذا قد سن لكم، فهكذا فاصنعوا. وقال شيخنا في شرح الترمذي بعد ترجيح قول أهل الظاهر ومن وافقهم: أما حديث أبي بكرة فواقعه عين، يعني أنه يجري فيه من الاحتمالات ما لا يجري في الأدلة القولية التي هي نص في فرضية القيام، وقراءة فاتحة الكتاب، والأمر بإتمامه ما فاته. ورجح الشوكاني في فتاواه التي سماه ولده أحمد بن محمد بن علي الشوكاني
رواه البخاري.
?الفصل الثاني?
1117- (6) عن سمرة بن جندب، قال: ((أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كنا ثلاثة أن يتقدمنا أحدنا) رواه الترمذي.

(7/61)


بالفتح الرباني، القول باعتداد تلك الركعة خلاف ما حققه في شرح المنتقى، حيث جعل تلك الحالة التي وقعت للمؤتم وهي إدراك إمامه راكعا مخصصة من عموم أدلة إيجاب قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة على كل مصل. واستدل لذلك بما روى ابن خزيمة والدارقطني (132) والبيهقي (ج2 ص89) عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها قبل أن يقيم الإمام صلبه. وإليه ذهب بعض أهل الحديث في عصرنا. والجواب عنه أولا أن في سنده يحيى بن حميد، وهو مجهول الحال غير معتمد في الحديث كما قال البخاري في جزء القراءة، وضعفه الدارقطني، وذكره العقيلي في الضعفاء وقد تفرد بقوله: قبل أن يقيم الإمام صلبه. قال العقيلي: وقد رواه مالك وغيره من الحفاظ أصحاب الزهري، ولم يذكروا الزيادة الأخيرة، ولعلها كلام الزهري. وقال ابن أبي عدي بعد أن أورد الحديث: تفرد بهذه الزيادة، ولا أعرف له غيره. كذا في اللسان (ج6 ص250)، وفيه أيضا قرة بن عبدالرحمن، وهو متكلم فيه، وثانيا بعد تسليم صحة الزيادة المذكورة أنه قد عرف في موضعه أن مسمى الركعة جميع أركانها وأذكارها حقيقة شرعية وعرفية، وهما مقدمتان على اللغوية، كما تقرر في الأصول. وأما التقييد بقوله: قبل أن يقيم الإمام صلبه فلدفع توهم أن من دخل مع الإمام، ثم قرأ فاتحة الكتاب، وركع الإمام قبل فراغه منها غير مدرك. وارجع لمزيد التفصيل إلى دليل الطالب على أرجح المطالب (ص339- 345) للعلامة القنوجي، فإنه قد بسط الكلام في ذلك أشد البسط. (رواه البخاري) فيه نظر؛ لأن قوله: ثم مشى إلى الصف ليس في البخاري. والحديث أخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن حبان والبيهقي (ج3 ص106).

(7/62)


1117- قوله: (أن يتقدمنا أحدنا) اختلفت نسخ الترمذي في هذا الحرف: ففي بعضها كما وقع ههنا، وكذلك نقله الجزري في جامع الأصول (ج6 ص392) وفي بعضها أن يتقدم أحدنا، وهذه توافق ما نقله المجد ابن تيمية في المنتقى، وفي بعضها أن يتقدمنا إمامنا، وفي بعضها أن يتقدم منا أحدنا. قال الطيبي: قوله: أن يتقدمنا معمول لقوله: أمرنا على حذف الباء، أي بأن يتقدمنا أحدنا. وإذا كنا ظرف يتقدمنا، وجاز تقديمه على أن المصدرية للاتساع في الظروف- انتهى. والمعنى أمرنا بأن يكون أحدنا إماما. وفيه دليل على أن موقف الاثنين مع الإمام في الصلاة خلفه. (رواه الترمذي) من حديث إسماعيل بن مسلم المكي عن الحسن عن سمرة.
1118- (7) وعن عمار، أنه أم الناس بالمدائن، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه، فتقدم
حذيفة فأخذ على يديه،

(7/63)


قال الترمذي: حديث غريب، وقد تكلم بعض الناس في إسماعيل بن مسلم من قبل حفظه- انتهى. قلت: ونقل الشوكاني في النيل عن الأطراف لابن عساكر أنه نقل عن الترمذي أنه قال فيه: حسن غريب، قال وذكر ابن العربي أنه ضعفه، وليس فيما وقفنا عليه من نسخ الترمذي إلا أنه قال: إنه حديث غريب. ولعل المراد بقول ابن العربي أنه ضعفه، أي أشار إلى تضعيفه بقوله: وقد تكلم الناس في إسماعيل بن مسلم من قبل حفظه بعد أن ساق الحديث من طريقه، وإسماعيل هذا تابعي روى عن أبي طفيل عامر بن واثلة كان فقيها مفتيا ضعيفا في الحديث من قبل حفظه، يهم في الحديث، ويخطىء ويكثر الغلط، ضعفه الجوزجانى وأبوزرعة وأبوحاتم وابن حبان وأبوعلى الحافظ. وقال يحيى بن سعيد القطان: لم يزل مخلطا، كان يحدثنا بالحديث الواحد على ثلاثة ضروب. وقال ابن عيينة: كان يخطئ، أسأله عن الحديث، فما كان يدري شيئا. وقال أبوحاتم: ضعيف الحديث مختلط. وقال أبوطالب عن أحمد: منكر الحديث. وقال عبدالله بن أحمد عن أبيه: يسند عن الحسن عن سمرة أحاديث مناكير، وقال الفلاس: كان ضعيفا في الحديث يهم فيه، وكان صدوقا يكثر الغلط. وذكره العقيلي والدولابي والساجي وابن الجارود وغيرهم في الضعفاء. وقال ابن سعد في الطبقات (ج7 ص34) : أخبرنا محمد بن عبدالله الأنصاري، قال: كان له رأي وفتوى وبصر وحفظ للحديث وغيره، وكان الناس عليه، وعلى عثمان البتي، وكان مجلس إسماعيل ويونس بن عبيد واحدا، فكنت أجىء فأجلس إليهما، فأكتب على إسماعيل، وأدع يونس لنباهة إسماعيل عند الناس لما كان شهر به من الفتوى- انتهى. وقال الحافظ في التقريب: كان فقيها ضعيف الحديث- انتهى. وحديث سمرة هذا لم أجده في غير سنن الترمذي، ولم أجد أحدا نسبه إلى غيره، وقد تكلم الناس في سماع الحسن عن سمرة، لكنه مؤيد بما تقدم من حديثي جابر وأنس في الفصل الأول.

(7/64)


1118- قوله: (عن عمار أنه أم الناس) أي صلى بالناس إماما. (بالمدائن) بالهمز مدينة قديمة على دجلة وكانت دار مملكة الأكاسرة على سبعة فراسخ من بغداد. ولفظ أبي داود عن عدي بن ثابت: حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن، فأقيمت الصلاة، فتقدم عمار. (وقام على دكان) أي مكان مرتفع وحده بضم الدال المهملة وتشديد الكاف واحد دكاكين، وهي الحوانيت فارسي معرب، والنون مختلف فيها: فمنهم من يجعلها أصيلة، ومنهم من يجعلها زائدة. فالدكان هي الدكة بفتح الدال، وهو المكان المرتفع المبني للجلوس عليه. (يصلي) بالناس. (والناس) أي المقتدون به. (أسفل منه) أي في مكان أسفل منه. (فتقدم حذيفة) أي من الصف. (فأخذ على يديه) أي أخذ حذيفة على يدي عمار وأمسكهما، فجذب عمارا من خلفه لينزل إلى أسفل ويستوي
فأتبعه عمار حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ عمار من صلاته، قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا أم الرجل القوم فلا يقيم في مقام ارفع من مقامهم، أو نحو ذلك؟ فقال عمار: لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي.

(7/65)


مع المقتدين. (فأتبعه) بالتشديد. (عمار) أي طاوع عمار حذيفة. (حتى أنزله) أي عمارا من الدكان. (إذا أم الرجل القوم) أي صار إماما لهم يصلي بهم. (أو نحو ذلك) عطف على مفعول يقول. وأو للشك من الراوي، أي قال هذا اللفظ أو نحوه. (فقال عمار) أي في جواب حذيفة. وفي أبي داود قال عمار، أي بدون الفاء. (لذلك) أي لأجل هذا الحديث. قال القاري: أي لأجل سماعي هذا المنهي منه أولا، وتذكرى بفعلك ثانيا. (اتبعتك) أي في النزول. (حين أخذت على يدى) بالتثنية. والحديث دليل على كراهة أن يرتفع الإمام في المكان على المأموم الذي يقتدي به، سواء كان المكان قدر قامة الرجل أو دونها أو فوقها، لكن في سنده رجل مهمول، كما يتقدم. ويؤيد منع ارتفاع الإمام مطلقا ما روى أبوداود والحاكم والبيهقي عن همام أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبومسعود بقيمصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى قد ذكرت حين مددتني. وقد سكت عنه أبوداود والمنذري. وقال النووي رواه أبوداود باسناده صحيح. وقال الحافظ في التلخيص (ص128): وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. وفي رواية للحاكم التصريح برفعه. وفيه أن حذيفة هو الإمام، وأبومسعود هو الذي أخذ بقيمصه فجذبه. ولا تخالف لأنهما قضيتان، ولا بعد أن حذيفة وقع له ذلك مع أبي مسعود قبل واقعته مع عمار. ويؤيد المنع أيضا ما روى الدارقطني والحاكم عن أبي مسعود، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم الإمام فوق شيء، والناس خلفه، يعني أسفل منه. ذكره الحافظ في التلخيص وسكت عنه. وسكت عنه الحاكم والذهبي أيضا، وسيأتي هذا الحديث في آخر باب المشي مع الجنازة والصلاة عليها، قال الشوكاني في النيل: ظاهر النهي في حديث أبي مسعود أن ذلك محرم لو لا ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من الارتفاع على المنبر، قال: والحاصل من الأدلة منع ارتفاع الإمام على المؤتمين من غير

(7/66)


فرق بين المسجد وغيره، وبين القامة ودونها وفوقها؛ لقول أبي مسعود كانوا ينهون عن ذلك، وقول أبي مسعود أيضا: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم --الحديث. وأما صلاته - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فقيل: إنما فعل ذلك لغرض التعليم كما يدل عليه قوله الآتي: ولتعلموا صلاتى، وغاية ما فيه جواز وقوف الإمام على محل أرفع من المأمومين إذا أراد تعليمهم. قال ابن دقيق العيد: فيه أي في حديث سهل بن سعد الآتي دليل على جواز صلاة الإمام على أرفع مما عليه المأموم لقصد التعليم. فأما من غير هذا القصد فقد قيل: بكراهته، قال ومن أراد أن يجيز هذا الارتفاع من غير قصد التعليم فاللفظ لا يتناوله. والقياس لا يستقيم؛ لانفراد الأصل بوصف معتبر يقتضي المناسبة اعتباره- انتهى. على
رواه أبوداود.
1119- (8) وعن سهل بن سعد الساعدي، أنه سئل: من أي شيء المنبر؟ فقال: هو من أثل الغابة، عمله

(7/67)


أنه قد تقرر في الأصول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نهى عن شيء نهيا يشمله بطريق الظهور، ثم فعل ما يخالفه كان الفعل مخصصا له من العموم دون غيره، حيث لم يقم دليل على التأسي به في ذلك الفعل، فلا تكون صلاته - صلى الله عليه وسلم - معارضة للنهي عن الارتفاع باعتبار الأمة، وهذا على فرض تأخر صلاته على المنبر عن النهي من الارتفاع، وعلى فرض تقدمها أو التباس المتقدم من المتأخر فيه الخلاف المعروف في الأصول في التخصيص بالمتقدم والملتبس- انتهى. كلام الشوكاني في النيل. وقال في السيل الجرار: في هذين الحديثين دليل على منع الإمام من الارتفاع عن المؤتم، ولكن هذا النهي يحمل على التنزيه لحديث صلاته - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، ومن قال: إنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك للتعليم كما وقع في آخر الحديث فلا يفيده ذلك؛ لأنه لا يجوز له في حال التعليم إلا ما هو جائز في غيره، ولا يصح القول باختصاص ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد جمعنا في هذا البحث رسالة مستقلة جوابا عن سؤال بعض الأعلام، فمن أحب تحقيق المقام فليرجع إليها- انتهى. قلت: وذهب إلى الجواز مطلقا من غير كراهة ابن حزم، كما صرح به في المحلى (ج4 ص84) مستدلا بحديث سهل قال: وهو قول الشافعي وأبي سليمان، وبمثل قولنا يقول أحمد بن حنبل والليث بن سعد والبخاري وغيرهما- انتهى. والراجح عندي هو المنع. وأما حديث سهل فإنما فعل ذلك للتعليم، أي لغرض أن لا يخفي على أحد صلاته، وهذا لا يثبت منه الجواز مطلقا، والله أعلم. واختلفوا في قدر الارتفاع الممنوع. فقيل: قدر القامة. وقيل: قدر الذراع. وقيل: ما يقع به الامتياز، وهو الأوجه. ذكره الكمال وغيره. وكذا في الدر المختار. (رواه أبوداود) ومن طريقه أخرج البيهقي (ج3 ص109) وسكت عنه أبوداود، وقد تقدم أن في سنده رجلا مجهولا، لكنه مؤيد بحديثي أبي مسعود.

(7/68)


1119- قوله: (عن سهل) بسكون الهاء. (بن سعد) بسكون العين الساعدي. (أنه سئل) رواه البخاري من طريق أبي حازم سلمة بن دينار، قال: سألوا سهل بن سعد. (من أي شيء المنبر) النبوي المدني. فاللام فيه للعهد، إذ السؤال عن منبره - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية: أن رجالا أتوا سهل بن سعد الساعدي، وقد امتروا في المنبر ثم عوده فسألوه عن ذلك. (هو من أثل الغابة) وفي رواية، من طرفاء الغابة. والأثل بفتح الهمزة وسكون المثلة هو الطرفاء. وقيل: شجر يشبه الطرفاء بسكون الراء والمد إلا إنه أعظم منه. قال القسطلاني: الأثل شجر كالطرفاء لا شوك له، وخشبة جيد، يعمل منه القصاع والأواني، وورقه أشنان يغسل به القصارون؛ والغابة بالمعجمة والموحدة موضع معروف قرب المدينة من العوالي من جهة الشام، وأصلها كل شجر ملتف. (عمله) أي المنبر.
فلان مولى فلانة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقام عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين عمل ووضع، فاستقبل القبلة وكبر وقام الناس خلفه، فقرأ وركع، وركع الناس خلفه، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقري، فسجد على الأرض، ثم عاد إلى المنبر، ثم قرأ، ثم ركع، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقري، حتى سجد بالأرض)).

(7/69)


(فلان) بضم الفاء بالتنوين. واختلف في اسمه: فقيل: ميمون، وقيل: باقوم الرومي، وقيل: باقول، وقيل: صباح، وقيل: قبيصة المخزومي، وقيل: كلاب، وقيل: ميناء، وقيل: تميم الداري. قال الحافظ:وأشبه الأقوال بالصواب وأقربها قول من قال: هو ميمون لكون الإسناد من طريق سهل بن سعد أيضا. وأما الأقوال الأخر فلا اعتداد بها لوهائها. ويبعد جدا أن يجمع بينهما بأن النجار كانت له أسماء متعددة، وأما احتمال كون الجميع اشتركوا في عمله فيمنع منه قوله في كثير من الروايات لم يكن بالمدينة إلا نجار واحد، إلا أن كل يحمل على أن المراد بالواحد الماهر في صناعته، والبقية أعوانه فيمكن. (مولى فلانة) بعدم الصرف للثأنيث والعلمية. قال الحافظ: لا يعرف اسمها لكنها أنصارية، وقيل: اسمها عائشة، قاله البرماوى كالكرمانى. ورواه الطبراني في الأوسط من حديث جابر بلفظ: وأمرت عائشة فصنعت له منبره، لكن إسناده ضعيف. ولو صح لما دل على أن عائشة هى المرادة في حديث سهل هذا إلا بتعسف. وكان منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث درجات، واستمر على ذلك مدة الخلفاء الراشدين، ثم زاده مروان في خلافة معاوية ست درجات من أسفله، فهي من جملة ما أحدث في المساجد من البدع المكروهة. (لرسول الله ) أي لأجله. (وقام عليه) أي على المنبر. قال الحافظ: كانت صلاته على الدرجة العليا من المنبر. (حين عمل ووضع) بالبناء للمفعول فيهما أي حين صنع ووضع في مكانه المعروف بالمسجد. (وكبر) أي للتحريمة. (وقام الناس خلفه) اقتداء به. (ثم رجع القهقري) بالقصر منصوب على أنه مفعول مطلق بمعنى الرجوع إلى خلف، أي رجع الرجوع الذي يعرف بذلك، وإنما فعل بذلك لئلا يولى ظهره القبلة. (فسجد على الأرض) إلى جنب الدرجة السفلى من المنبر. (حتى سجد بالأرض) قال القسطلاني: لاحظ في قوله: على الأرض معنى الاستعلاء، وفي قوله: بالأرض معنى الإلصاق- انتهى. قيل: قوله عمله الخ زيادة في الجواب، كأنه قيل:

(7/70)


المهم أن يعرف هذه المسألة الغريبة، وإنما ذكر حكاية صنع الصانع تنبيها على أنه عارف بتلك المسألة وما يتصل بها من الأحوال والفوائد. والحديث قد استدل به البخاري على جواز الصلاة على المنبر والخشب. قال الحافظ: وفيه جواز اختلاف موقف الإمام والمأموم في العلو والسفل، وقد صرح بذلك البخاري في حكايته عن شيخه علي بن المديني عن أحمد بن حنبل، ولابن دقيق العيد في ذلك بحث كما تقدم، وفيه دليل على جواز العمل اليسير في الصلاة، لكن
هذا لفظ البخاري، وفي المتفق عليه نحوه، وقال في آخره: فلما فرغ أقبل على الناس، فقال: (( أيها الناس! إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتى)).
1120- (9) وعن عائشة، قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرته،

(7/71)


فيه إشكال على من حدد الكثير من العمل بثلاث خطوات، فإن منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ثلاث درجات، والصلاة كانت على العليا، ومن ضرورة ذلك أن يقع ما أوقعه من الفعل على الأرض بعد ثلاث خطوات فأكثر وأقله ثلاث. والذي يعتذر به عن هذا أن يدعى عدم التوالى بين الخطوات، فإن التوالى شرط في الإبطال، أو ينازع في كون قيام هذه الصلاة فوق الدرجة العليا، ذكره ابن دقيق العيد. (هذا لفظ البخاري) في باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب. وأشار المصنف بهذا إلى أن هذا الحديث من الفصل الأول، وإنما أورده هنا تأسيا بالمصابيح، حيث ذكره في الحسان ليبين أنه مقيد لما قبله، يعني أن ارتفاع الإمام عن المأموم مكروه إلا لغرض التعليم. (وفي المتفق عليه نحوه) أخرجه البخاري في باب الخطبة على المنبر من كتاب الجمعة، وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي. (وقال) أي الراوى (في آخره) أي في آخر الحديث: المتفق عليه. (فلما فرغ) أي من الصلاة. (أقبل على الناس) بوجهه الشريف. (فقال) مبينا لأصحابه حكمة ذلك. (إنما صنعت هذا) أي ما ذكر من الصلاة على المكان المرتفع. (لتأتموا بي) أي لتقتدوا بي في الصلاة أولا. (ولتعلموا) بكسر اللام وفتح المثناة الفوقية والعين وتشديد اللام، أي لتتعلموا، فخذفت إحدى التائين تخفيفا (صلاتى) أي كيفيتها ثانيا. وقد عرف منه أن الحكمة في صلاته في أعلى المنبر ليراه من قد يخفى عليه رؤيته إذا صلى على الأرض. وفيه جواز قصد تعليم المأمومين أفعال الصلاة بالفعل.

(7/72)


1120- قوله: (صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي التراويح، قاله القاري. (في حجرته ) اختلف في تفسيره الحجرة، فالأكثر على أن المراد بها المكان الذي اتخذه حجرة في المسجد من الحصير للاعتكاف في رمضان. وقيل: المراد حجرته بيته، فقد روى البخاري من حديث عبدة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل في حجرته. وجدار الحجرة قصير، فرأى الناس شخص النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقام أناس يصلون بصلاته-الحديث. قال الحافظ: قوله: في حجرته ظاهره أن المراد حجرة بيته. ويدل عليه ذكر جدار الحجرة. وأوضح منه رواية حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عند أبي نعيم بلفظ: كان يصلي في حجرة من حجر أزواجه. ويحتمل أن المراد الحجرة التي كان احتجرها في المسجد بالحصير، كما في الرواية التي بعد هذه، يعني ما رواه البخاري وغيره من حديث أبي سلمة عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له حصير يبسطه بالنهار ويحتجره بالليل،
والناس يأتمون به من وراء الحجرة))

(7/73)


فثاب إليه أناس فصفوا، قال الحافظ: غرض البخاري من إيراده بيان أن الحجرة المذكورة في الرواية التي قبل هذه كانت حصيرا. وقال العيني: لعل مراده منه بيان أن الحجرة المذكورة في الحديث المذكور قبل هذا كانت حصيرا، والأحاديث يفسر بعضها بعضا، وكل موضع حجر عليه فهو حجرة- انتهى. وفي حديث زيد بن ثابت الذي رواه البخاري بعد رواية عائشة السابقة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتخذ حجرة من حصير في رمضان فصلى فيها ليالي، فصلى بصلاته ناس من أصحابه، فلما علم بهم جعل يقعد- الحديث. ولأحمد وأبي داود ومحمد بن نصر عن أبي سلمة عن عائشة أنها هي التي نصبت له الحصير على باب بيتها. قال الحافظ: فأما أن يحمل على التعدد أو على المجاز في الجدار وفي نسبته الحجرة إليها. وقال العيني بعد ذكر حديث زيد بن ثابت: وجاء في رواية: احتجر بخصفة أو حصير في المسجد. وفي رواية: صلى في حجرتي، روته عمرة عن عائشة، وفي رواية: فأمرني فضربت له حصيرا يصلي عليه. ولعل هذه كانت في أحوال- انتهى. قلت: الراجح عندي هو الحمل على التعدد. (والناس يأتمون به) أي يقتدون به. (من وراء الحجرة) أي خلفها وفيه دليل على أن الحائل بين الإمام والمؤتمين غير مانع من صحة الصلاة؛ لأن مقتضاه أنهم كانوا يقتدون به، وهو داخل الحجرة، وهم خارجها، وقد بوب له أبوداود: باب الرجل يأتم بالامام، وبينهما جدار، وبوب البخاري على روايتي عمرة وأبي سلمة عن عائشة، وحديث زيد بن ثابت: باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة، وذكر فيه قول الحسن: لا بأس أن تصلي وبينك وبينه نهر، وقول أبي مجلز (لاحق بن حميد التابعي المشهور): يأتم بالإمام وإن كان بينهما طريق أو جدار إذا سمع تكبير الامام. قال العيني: جواب إذا محذوف تقديره لا يضره ذلك، والمسألة فيها خلاف، لكن ما في الباب يدل على أن ذلك جائز، وهو مذهب المالكية أيضا، وهو المنقول عن أنس وأبي هريرة وابن سيرين وسالم. وكان

(7/74)


عروة يصلي بصلاة الإمام، وهو في دار بينها وبين المسجد طريق وقال مالك: لا بأس أن يصلي وبينه وبين الإمام نهر صغير أو طريق، وكذلك السفن المتقاربة، يكون الإمام في إحداها تجزيهم الصلاة معه. وكره ذلك طائفة، وروي عن عمر بن الخطاب إذا كان بينه وبين الإمام طريق أو حائط أو نهر فليس هو معه. وكره الشعبي وإبراهيم أن يكون بينهما طريق. وقال أبوحنيفة لا يجزيه إلا أن تكون الصفوف متصلة قي الطريق، وبه قال الليث والأوزاعي والأشهب- انتهى. قلت: مذهب الحنيفة أنه إنما يجوز ذلك بثلاثة شروط: الأول: أن لا يلتبس على المأموم حال الإمام، والثاني: أن لا يختلف المكان بينهما، والمسجد في حكم مكان واحد، والثالث: وهو تتمة الثاني أن لا يمنع التبعية في المكان. وأجابوا عن الأحاديث المذكورة بأنه لم يوجد فيها ما يخالف هذه الشروط؛ لأن المسجد كله مكان واحد. وفي المكان الواحد عند حيلولة الجدار يكفي علم انتقالات الإمام فقط ولو بمجرد صوته، وهو المفتى به، ولا يحتاج إلى المنافذ أو غيرها، واعتبروا في الصحراء تباعد قدر ثلاث صفوف إذ لم تتصل الصفوف، فإن كان بينهما طريق
رواه أبوداود.
?الفصل الثالث ?
1121- (10) عن أبي مالك الأشعري، قال: (( ألا أحدثكم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أقام الصلاة، وصف الرجال، وصف خلفهم الغلمان، ثم صلى بهم، فذكر صلاته، ثم قال: هكذا صلاة ـ قال عبدالأعلى:

(7/75)


أو نهر تجرى فيه السفينة منعوا مطلقا، وعدوه كأنه مكان مختلف، واستدلوا لذلك بأثر عمر الذي ذكره العيني بلا سند. وقال ابن حجر: ليس في الحديث دليل لما قاله عطاء وغيره أن الشرط في صحة القدوة بشخص علمه بانتقالاته لا غير، أما أولا فلأنه لو اكتفى بذلك لبطل السعي المأمور به والدعاء إلى الجماعة، وكان كل أحد يصلي في بيته وسوقه بصلاة الإمام في المسجد وهو خلاف الكتاب والسنة، فاشترط اتحاد موقف الإمام والمأموم على ما فصل في الفروع؛ لأنه من مقاصد الاقتداء اجتماع جمع في مكان واحد عرفا، كما عهد عليه الجماعات في العصور الخالية، ومبنى العبادات على رعاية الاتباع. وأما ثانيا فلأن المراد بالحجرة كما قالوه المحل الذي اتخذه عليه السلام في المسجد من حصير حين أراد الاعتكاف. ويؤيده الخبر الصحيح أنه عليه السلام اتخذ حجرة من حصير صلى ليالي فيها- انتهى. (رواه أبوداود) في أواخر أبواب الجمعة من طريق يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة، وهو حديث صحيح سكت عنه أبوداود والمنذري، وقد أخرجه البخاري أيضا بنحوه، كما تقدم.

(7/76)


1121- قوله: (ألا أحدثكم) يحتمل أن تكون ألا للتنبيه، وهو الظاهر. ويحتمل أن تكون الهمزة للاستفهام ولا للنفي. (قال) أي أبومالك. (أقام) وفي أبي داود: فأقام، وكذا في جامع الأصول (ج6 ص391) أي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإقامة الصلاة أو أقامها بنفسه. (وصف الرجال) وفي أبوداود: فصف الرجال، وكذلك نقله الجزري في جامع الأصول، أي صفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفا مقدما، يقال صففت القوم فاصطفوا. (وصف خلفهم) أي خلف الرجال. (الغلمان) الصبيان والولدان، زاد أحمد في روايته: وصف النساء خلف الولدان. (ثم صلى بهم) أي بالرجال والغلمان. (فذكر) أى وصف الراوي أي أبومالك (صلاته) أي كيفية صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا قول أبوداود. اختصر الحديث. وأخرجه أحمد في مسنده مطولا (ج5 ص341، 342، 343، 344). (ثم قال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عطف على محذوف، أي قال أبومالك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيت وكيت، ثم قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هكذا صلاة أمتي. (هكذا) أي مثل ما صليت لكم (صلاة قال عبدالأعلى) أي الراوي
لا أحسبه إلا قال - أمتي)). رواه أبوداود.
1122- (11) وعن قيس بن عباد، قال: (( بينا أنا في المسجد، في الصف المقدم، فجبذني رجل من خلفي جبذة، فنحانى، وقام مقامي، فوالله ما عقلت صلاتي.

(7/77)


عن قرة عن خالد عن بديل بن مسيرة عن شهر بن حوشب عن عبدالرحمن بن غنم عن أبي مالك. وعبدالأعلى هذا هو عبدالأعلى بن عبدالأعلى البصري السامي بالمهملة من بني سامة بن لوي، أبومحمد، وكان يغضب إذا قيل له أبوهمام، ثقة. (لا أحبسه) أي شيخي قرة. (إلا قال أمتي) أي هكذا صلاة أمتي. والمعنى أنه ينبغي لهم أن يصلوا هكذا. وفي رواية البيهقي: ثم قال: هكذا صلاة، قال عبدالأعلى: لا أحبسه إلا قال: صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولأحمد من طريق عبدالحميد بن بهرام الفزاري عن شهر بن حوشب: فلما قضى. (أى أبومالك) صلاته أقبل إلى قومه بوجهه فقال: احفظوا تكبيري، وتعلموا ركوعي وسجودي، فإنها صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي كان يصلي لنا. والحديث يدل على ترتيب صفوف الرجال والصبيان والنساء، بأن تكون صفوف الرجال مقدمة، ثم صفوف الصبيان، ثم صفوف النساء. قال السبكى: هذا إذا كان الغلمان اثنين فصاعدا، فإن كان صبي واحد دخل مع الرجال ولا ينفرد خلف الصف. ويدل على ذلك حديث أنس المتقدم في الفصل الأول، فإن اليتيم لم يقف منفردا بل صف مع أنس. وقال أحمد بن حنبل: يكره أن يقوم الصبي مع الناس في المسجد خلف الإمام إلا من قد احتلم وأنبت وبلغ خمس عشرة سنة. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا رأى صبيا في الصف أخرجه، وكذلك عن أبي وائل وزر بن حبيش. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري وأخرجه أحمد والبيهقي (ج3 ص97) وفي سنده عندهم جميعا شهر بن حوشب، وفيه مقال.

(7/78)


1122- قوله: (عن قيس بن عباد) بضم العين المهملة وتخفيف الباء الموحدة الضبعي أبي عبدالله البصري، ثقة من كبار التابعين، مخضرم، مات بعد الثمانين، ووهم من عده في الصحابة، كذا في التقريب، قدم المدينة في خلافة عمر، وروى عنه وعن علي وأبي ابن كعب وغيرهم، كان من كبار الصالحين، وثقة ابن سعد والعجلي والنسائي وابن خراش، وذكره ابن مخنف عن شيوخه فيمن قتله الحجاج ممن خرج مع ابن الأشعث، وذكره ابن حبان في الثقات من التابعين. (بينا أنا في المسجد) النبوي. (في الصف المقدم، فجبذني) قال الطيبي: مقلوب جذبني، أي جرني. (فنحاني) بتشديد الحاء المهملة، أي بعدني وأخرني عن الصف المقدم. (وقام مقامي) أي مكاني. (فو الله ما عقلت صلاتي) أي ما دريت كيف أصلي وكم صليت لما فعل بي ما فعل، ولما حصل عندي بسبب تأخري عن المكان الفاضل مع سبقي إليه واستحقاقي له، فانتفاع العقل مسبب عما قبله، والقسم معترض.
فلما انصرف. إذا هو أبي بن كعب.فقال: يا فتى! لا يسوءك الله، إن هذا عهد من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلينا أن نلبه، ثم استقبل القبلة فقال: هلك أهل العقد ورب الكعبة، ثلاثا، ثم قال: والله ما عليهم آسى، ولكن آسى على من أضلوا. قلت: يا أبا يعقوب! ما تعني بأهل العقد؟ قال: الأمراء)). رواه النسائي.

(7/79)


(فلما انصرف) أي ذلك الرجل الذي جبذني. (إذا هو أبي بن كعب) من أكابر الصحابة (فقال) أي لي إذ فهم مني التغير بسبب ما فعله معي تطيبا لخاطري. (لا يسؤك الله) قال الطيبي: كان ظاهر لا يسؤك ما فعلت بك. ولما كان ذلك من أمر الله وأمر رسوله أسنده إلى الله مزيدا للتسلية- انتهى. والظاهر: أن معناه لا يحزنك الله بي وبسبب فعلي، من ساء الأمر فلانا، أي أحزنه. ثم ذكر جملة مستأنفة مبينة لعلة ما فعل اعتذار إليه. (إن هذا) أي ما فعلت. (عهد من النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي وصية أو أمر منه يريد قوله: ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى. وفيه أن قيسا لم يكن منهم، ولذلك نحاه. (إلينا أن نلبه) أي ومن يقوم مقامه من الأئمة. (ثم اسقبل) أي أبي. (هلك أهل العقد) بضم العين وفتح القاف يعني الأمراء، أي لأن عليهم رعاية أمور المسلمين دنياهم وأخراهم حتى رعاية صفوفهم في الصلاة، ورعاية الموقف فيها. قال الجزري في النهاية يعني أصحاب الولايات على الأمصار من عقد الألوية للأمراء، وروى العقدة يريد البيعة المعقودة للولاة. (ثلاثا) أي قال مقوله ثلاثا. ( ما عليهم آسى) بمد الهمزة آخره ألف، أي ما أحزن من الأسى مفتوحا ومقصورا، وهو الحزن. (ولكن آسى على من أضلوا) قال الطيبي: أي لا أحزن على هؤلاء الجورة، بل أحزن على أتباعهم الذين أضلوهم. لعله قال ذلك تعريضا بأمراء عهده. (قلت) هذا مقولة محمد بن عمر بن علي المقدمي شيخ النسائي. (يا با يعقوب) وفي بعض النسخ: يا أبا يعقوب بكتابة الهمزة موافقا لما في النسائي. وهو كنية يوسف بن يعقوب السدوسي مولاهم السلعي البصري الضبعي، وثقه أحمد. وقال أبوحاتم: صدوق صالح الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات، مات سنة إحدى ومائتين. (قال الأمراء) بالنصب على تقدير أعنى، وبالرفع بتقدير "هم". قال ابن حجر: أي الأمراء على الناس لا سيما أهل الأمصار، سموا بذلك لجريان العادة بعقد الألوية لهم عند التولية، وفعل

(7/80)


أبي هذا مؤيد بما روي عن أنس، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليأخذوا عنه، أخرجه أحمد وابن ماجه، وبما روي عن سمرة مرفوعا: ليقم الأعراب خلف المهاجرين والأنصار ليقتدوا بهم في الصلاة، أخرجه الطبراني في الكبير من حديث الحسن عن سمرة. قال البيهقي: وفيه سعيد بن بشير، وقد اختلف في الاحتجاج به، وبما روي عن ابن عباس مرفوعا: لا يتقدم في الصف الأول أعرابي ولا عجمي ولا غلام لم يحتلم، وفي إسناده ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف. وفي هذه الأحاديث مشروعية تقدم أهل العلم والفضل ليأخذوا عن الإمام ويأخذ عنهم غيرهم؛ لأنهم أمس بضبط صفة الصلاة وحفظها ونقلها وتبليغها وتنبيه الإمام إذا احتيج إليه، والاستخلاف إذا احتيج إليه. (رواه النسائي).
(26) باب الإمامة
?الفصل الأول?
1123- (1) عن أبي مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله تعالى، فإن
كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء،
وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص140) وابن خزيمة في صحيحه. ولفظ أحمد: قال قيس بن عباد: أتيت المدينة للقى أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن فيهم رجل ألقاه أحب إلى من أبي، فأقيمت الصلاة فخرج عمر بن الخطاب مع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقمت في الصف الأول، فجاء رجل فنظر في وجوه القوم فعرفهم غيري، فنحاني وقام في مكاني، فما عقلت صلاتي، فلما صلى قال: يا بني لا يسؤك الله، فإني لم آتك الذي أتيتك بجهالة، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنا: كونوا في الصف الذي يليني، وإني نظرت في وجوه القوم فعرفتهم غيرك، ثم حدث فما رأيت الرجال متحت أعناقها إلى شيء متوجها إليه، قال فسمعته يقول: هلك أهل العقدة ورب الكعبة، إلا لا عليهم آسى، ولكن آسى على من يهلكون من المسلمين، وإذا هو أبي.

(7/81)


(باب الإمامة) أي أحكام الإمامة في الصلاة وصفة الأئمة، وهي مصدر أم القوم في صلاتهم.
1123- قوله: (يؤم القوم) صيغة خبر بمعنى الأمر، أي ليؤمهم. (أقرأهم لكتاب الله) اختلف في المراد منه: فقيل: أفقههم في القرآن وأعلمهم بمعانيه وأحكامه. وقيل: المراد أحسنهم وأجودهم قراءة للقرآن وإن كان أقلهم حفظا. وقيل: هو على ظاهره، فالمراد به أكثرهم حفظا للقرآن، ويدل على ذلك ما رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح عن عمرو بن سلمة: انطلقت مع أبي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسلام قومه، فكان فيما أوصانا: ليؤمكم أكثركم قرآنا، فكنت أكثرهم قرآنا، فقدموني. وأخرجه أيضا البخاري، وسيأتي في الفصل الثالث. قال القاري: بعد ذكر قول ابن الملك، أي أحسنهم قراءة لكتاب الله، والأظهر أن معناه أكثرهم قراءة بمعنى أحفظهم للقرآن، كما ورد أكثرهم قرآنا- انتهى. قلت: هذا هو الراجح عندي لحديث عمرو بن سلمة، والروايات يفسر بعضها بعضا. (فإن كانوا) أي القوم. (في القراءة) أي في العلم بها أو في حسنها أو مقدارها على اختلاف الأقوال (سواء) أي مستوين. قال الشوكاني: أي استووا في القدر المعتبر من القراءة إما في حسنها أو في كثرتها وقلتها. وفي رواية: لمسلم فإن كانت قراءتهم سواء. (فأعلمهم بالسنة) قال الطيبي: أراد بها الأحاديث. وقال السندي: حملوها على أحكام الصلاة. (فإن كانوا) أي بعد استوائهم في القراءة. (في السنة) أي بالعلم بها.
قأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سنا،

(7/82)


(سواء فأقدمهم هجرة) أي انتقالا من مكة إلى المدينة قبل الفتح، فمن هاجر أولا فشرفه أكثر ممن هاجر بعده، قال تعالى: ?لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح? الآية [57: 10]، قاله القاري. وقيل: هذا شامل لمن تقدم هجرة سواء ما كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم - أو بعده كمن يهاجر من دار الكفار... إلى دار الإسلام. وأما حديث لا هجرة بعد الفتح فالمراد من مكة إلى المدينة؛ لأنهما جميعا صارا دار اسلام. قال الشوكاني: الهجرة المقدم بها في الإمامة لا تختص بالهجرة في عصره - صلى الله عليه وسلم - بل هي لا تنقطع إلى يوم القيامة، كما وردت بذلك الأحاديث، وقال به الجمهور. وأما حديث: لا هجرة بعد الفتح فالمراد بعد الهجرة من مكة إلى المدينة أو لا هجرة بعد الفتح. فضلها كفضل الهجرة قبل الفتح. وهذا لا بد منه للجمع بين الأحاديث. (فإن كانوا) أي بعد استوائهم فيما سبق من القراءة والسنة. (في الهجرة سواء فأقدمهم سنا) وفي رواية أكبرهم سنا، أي يقدم في الإمامة من كبر سنه في الإسلام؛ لأن ذلك فضيلة يرجح بها. قلت: ويؤيده ما في رواية لمسلم: فأقدمهم سلما، أي إسلاما، يعني أن من تقدم اسلامه يقدم على من تأخر إسلامه. والحديث دليل لمن قال يقدم الأقرأ في الإمامة على الأعلم. وإليه ذهب أحمد وأبويوسف وإسحاق. وقال مالك والشافعي وأبوحنبفة: الأعلم مقدم على الأقرأ، قال العيني: اختلف العلماء فيمن هو أولى بالإمامة: فقالت طائفة: الأفقه، وبه قال أبوحنيفة ومالك والجمهور، وقال أبويوسف وأحمد واسحاق: الأقرأ، وهو قول ابن سيرين وبعض الشافعية، قال العيني: وقال أصحابنا: أولى الناس بالإمامة أعلمهم بالسنة أي بالفقه والأحكام الشرعية إذا كان يحسن من القراءة ما تجوز به الصلاة، وهو قول الجمهور، وإليه ذهب عطاء والأوزاعي ومالك والشافعي. وقال السيد محمد مرتضى الزبيدي الحنفي في شرح الأحياء: قال أصحابنا يقدم الأعلم ثم الأقرأ، وهوقول أبي حنيفة ومحمد،

(7/83)


واختاره صاحب الهداية وغيره من أصحاب المتون وعليه أكثر المشائخ. وقال أبويوسف: يقدم الأقرأ ثم الأعلم واختاره جمع من المشائخ، ومن الشافعية ابن المنذر، كما نقله النووى في المجموع- انتهى. واستدل الشافعي ومن وافقه بأن الذي يحتاج إليه من القراءة مضبوط، والذي يحتاج إليه من الفقه غير مضبوط، وقد تعرض في الصلاة أمور لا يقدر على مراعاتها إلا كامل الفقه، فيقدم الأفقه على الأقرأ. قال البغوي: لأن الفقيه يعلم ما يجب من القراءة في الصلاة؛ لأنه محصور، وما يقع فيها من الحوادث غير محصور، وقد يعرض للمصلي ما يفسد صلاته، وهو لا يعلم إذا لم يكن فقيها. وقال صاحب الهداية: القراءة يفتقر إليها لركن واحد، والعلم لسائر الأركان، أي فلأعلم أولى بالإمامة من الأقرأ. قلت: هذا كله تعليل في مقابلة النص، فلا يلتفت إليه، بل يرد على قائله كائنا من كان. واستدل لهم أيضا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: مروا أبا بكر أن يصلي بالناس، وسيأتي في باب المأموم من المتابعة

(7/84)


فإن تقديمه - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته أبا بكر في الصلاة على غيره مع قوله: أقرؤكم أبي يدل على أنه يقدم الأعلم على الأقرأ لكون أبا بكر أعلمهم. قال ابن الهمام: أحسن ما يستدل به لمختار الجمهور حديث: مروا أبا بكر فليصل، وكان ثم من هو أقرأ منه لا أعلم. دليل الأول قوله عليه السلام: أقرؤكم أبي، ودليل الثاني قول أبي سعيد: كان أبوبكر أعلمنا، وهذا آخر الأمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيكون المعول عليه. وقال العيني: حديث أبي مسعود كان في أول الأمر، وحديث أبي بكر في آخر الأمر، وقد تفقهوا في القرآن، وكان أبوبكر أعلمهم وأفقههم في كل أمر- انتهى. قلت: قصة إمامة أبي بكر في مرض موته - صلى الله عليه وسلم - واقعة عين غير قابلة للعموم بخلاف حديث أبي مسعود، فإنه تقرير قاعدة كلية تفيد التعميم، فلا يصح الاستدلال بقصة أبي بكر على تقديم الأعلم على الأقرأ يجعلها ناسخة لحديث أبي مسعود، قال صاحب البذل: قصة الإشارة إلى الاستخلاف ربما تكون مخصصة على أنها واقعة حال لا عموم لها، ومن ثم اختار جمع من المشائخ قول أبي يوسف- انتهى. وأجاب صاحب الهداية وغيره عن حديث أبي مسعود بأنه خرج على ما كان عليه حال الصحابة من أن أقرأهم كان أعلمهم"؛ لأنهم كانوا في ذلك الوقت يتلقونه بأحكامه، فقدم في الحديث، ولا كذلك في زماننا، فقدمنا الأعلم. قال الشافعي: المخاطب بذلك الذين كانوا في عصره، كان أقرأهم أفقههم، فإنهم كانوا يسلمون كبارا، ويتفقهون قبل أن يقرأوا، فلا يوجد قارىء منهم إلا وهو فقيه، وقد يوجد الفقيه، وليس بقارىء. ورد هذا الجواب بأنه لو كان المراد بالأقرأ في قوله: يؤم القوم أقرأهم هو الأعلم لكان يلزم تكرار الأعلم في الحديث، ويكون التقدير يؤم القوم أعلمهم، فإن تساووا فأعلمهم. وقال الأمير اليماني: ولا يخفى أنه يبعد هذا الجواب قوله: فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإنه دليل على تقديم الأقرأ

(7/85)


مطلقا. والأقرأ على ما فسروه به هو الأعلم بالسنة، فلو أريد به ذلك لكان القسمان قسما واحدا. وقال الزبيدي: وأما تأويل المخالف للنص أي لحديث أبي مسعود بأن الأقرأ في ذلك الزمان كان الأفقه، فقد رد هذا التأويل قوله عليه السلام: فأعلمهم بالسنة، ولكن قد يجاب عنه بأن المراد بالأقرأ في الخبر الأفقه في القرآن فقد استووا في فقهه، فإذا زاد أحدهم بفقه السنة فهو أحق، فلا دلالة في الخبر على تقديم الأقرأ مطلقا، بل على تقديم تقديم الأقرأ الأفقه في القرآن على من دونه، ولا نزاع فيه. قال العيني: المراد من قوله: يؤم القوم أقرأهم أي أعلمهم، يعني أعلمهم بكتاب الله دون السنة، ومن قوله: أعلمهم بالسنة أعلمهم بأحكام الكتاب والسنة جميعا، فكان الأعلم الثاني غير الأعلم الأول- انتهى. قلت: قد سلف منا أن الراجح في المراد من قوله: أقرأهم هو الأكثر حفظا للقرآن وإن حمله على الأفقه في القرآن والأعلم بأحكامه ومعانيه خلاف الظاهر فلا يلتفت إليه. وأما حمل الحديث على الصحابة خاصة فهو ادعاء محض على أنه يلزم من هذا الجواب أن من نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنه أقرأ من أبي بكر كان أفقه من أبي بكر، فيفسد الاحتجاج بأن تقديم أبي بكر كان لأنه الأفقه.
ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه

(7/86)


قال السندي: الحديث يفيد تقدم الأقرأ وغالب الفقهاء على تقديم الأعلم، ولهم عن هذا الحديث جوابان: النسخ بإمامة أبي بكر مع أن أقرأهم أبى، وكان أبوبكر أعلمهم، كما قال أبوسعيد، ودعوى أن الحكم مخصوص بالصحابة، وكان أقرأهم أعلمهم لكونهم يأخذون القآن بالمعاني، وبين الجوابين تناقض لا يخفى، ولفظ الحديث يفيد عموم الحكم- انتهى. وقد ظهر بهذا التفصيل أن القول الراجح المعول عليه هو تقديم الأقرأ على الأعلم وهذا، إنما هو حيث يكون الأقرأ عارفا بما يتعين معرفته من أحوال الصلاة، فأما إذا كان جاهلا بذلك فلا يقدم اتفاقا. قال الزبيدي: والذي ذهب إليه أبويوسف من تقديم الأقرأ على الأعلم رواية عن أبي حنيفة، ودليله قوي من حيث النص، فإنه فرق بين الفقيه والقاري، وأعطى الإمامة للقاري ما لم يتساويا في القراءة فإن تساويا لم يكن أحدهما بأولى من الآخر فوجب تقديم الأعلم بالسنة وهو الأفقه- انتهى. (ولا يؤمن الرجل الرجل) برفع الأول ونصب الثاني. (في سلطانه) أي في محل سلطانه، وهو موضع يملكه الرجل أو له فيه تسلط بالتصرف كصاحب المجلس وإمام المسجد، فإنه أحق من غيره، وإن كان أفقه، لئلا يؤدي ذلك إلى التباغض والخلاف الذي شرع الاجتماع لرفعه. قال الطيبي: أي لا يؤم الرجل الرجل في مظهره سلطنته ومحل ولايته أو فيما يملكه أو في محل يكون في حكمه. ويعضد هذا التأويل الرواية الأخرى في أهله. وتحريره أن الجماعة شرعت لاجتماع المؤمنين على الطاعة وتألفهم وتوادهم، فإذا أم الرجل الرجل في سلطانه أفضى ذلك إلى توهين أمر السلطنة وخلع ربقة الطاعة، وكذلك إذا أمه في أهله أدى ذلك إلى التباغض والتقاطع وظهور الخلاف الذي شرع لرفعه الاجتماع، فلا يتقدم الرجل على ذي السلطنة لاسيما في الأعياد والجمعات، وعلى إمام الحي ورب البيت إلا بالإذن- انتهى. وقال النووي: معناه أن صاحب البيت والمجلس وإمام المسجد أحق من غيره. قال ابن رسلان: لأنه موضع سلطنته-

(7/87)


انتهى. قال الشوكاني: والظاهر أن المراد به السلطان الذي إليه ولاية أمور الناس، لا صاحب البيت ونحوه. ويدل على ذلك ما في رواية أبي داود بلفظ: ولا يؤم الرجل في بيته ولا في سلطانه. وظاهره أن السلطان مقدم على غيره وإن كان أكثر منه قرآنا وفقها وورعا وفضلا، فيكون كالمخصص لما قبله، يعني أن أول الحديث محمول على من عدا الإمام الأعظم ومن يجري مجراه، وقد ورد في صاحب البيت حديث بخصوصه بأنه الأحق، فقد أخرج الطبراني من حديث أبي مسعود قال من السنة أن يتقدم صاحب البيت. قال الحافظ: رجاله ثقات. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وأخرج البزار والطبراني في الأوسط والكبير من حديث عبدالله بن حنطلة مرفوعا: الرجل أحق أن يؤم في بيته. قال الهيثمي: فيه إسحاق بن يحيى بن طلحة، ضعفه أحمد وابن معين والبخاري، ووثقه يعقوب بن شيبة وابن حبان. قال أصحاب الشافعي: ويتقدم السلطان أو نائبه على صاحب البيت وإمام المسجد وغيرهما؛ لأن ولايته وسلطنته عامة، قالوا: ويستحب لصاحب البيت أن يأذن لمن هو أفضل
ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه)). رواه مسلم. وفي رواية له: (( ولا يؤمن الرجل الرجل في أهله)).
1124- (2) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم،

(7/88)


منه. (ولا يقعد) بالجزم. وقيل: بالرفع أي الرجل. (في بيته) أي بيت الرجل الآخر. (على تكرمته) بفتح التاء وكسر الراء، مصدر كرم تكريما، أطلق مجازا على ما يعد للرجل إكراما له في منزله من فراش وسجادة ونحوهما. قال في النهاية: هو الموضع الخاص لجلوس الرجل من فراش أو سرير مما يعد لإكرامه، وهي تفعله من الكرامة. (إلا بإذنه) قال ابن الملك: متعلق بجميع ما تقدم: قلت: ورد ذلك في بعض روايات الحديث نصا، فقد قال المجد بن تيمية في المنتقى: ورواه سعيد بن منصور، لكن قال فيه: لا يؤم الرجل الرجل في سلطانه إلا بإذنه، ولا يقعد على تكرمته في بيته إلا بإذنه- انتهى. فالإذن في الكل، وبه قال أحمد والجمهور، وهو الحق. وقيل: يتعلق قوله: إلا بإذنه بقوله: لا يقعد فقط، وبه قال إسحاق. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا، أحمد (ج4 ص118، 121و ج5 ص272) والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وأبوداود الطيالسي وابن الجارود والبيهقي (ج3 ص90، 119، 125). (وفي رواية له: ولا يؤمن الرجل الرجل في أهله) وفي بعض النسخ من صحيح مسلم: ولا تؤمن الرجل في أهله، أي بصيغة الخطاب. ويؤيده ما بعده ولا في سلطانه ولا تجلس على تكرمته في بيته إلا بإذن لك أو بإذنه. فائدة: قال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة: سبب تقديم الأقرأ أنه - صلى الله عليه وسلم - حد للعلم حدا معلوما، كما بينا، وكان أول ما هناك كتاب الله؛ لأنه أصل العلم، وأيضا فإنه من شعائر الله، فوجب أن يقدم صاحبه. وينوه بشأنه ليكون ذلك داعيا إلى التنافس فيه، وليس كما يظن أن السبب احتياج المصلى إلى القراءة فقط، ولكن الأصل حملهم على المنافسة فيها، وإنما تدرك الفضائل بالنافسة، وسبب خصوص الصلاة باعتبار المنافسة احتياجها إلى القراءة، فليتدبر، ثم من بعدها معرفة السنة؛ لأنها تلو الكتاب، وبها قيام الملة، وهي ميراث النبي - صلى الله عليه وسلم - في قومه، ثم بعده اعتبرت الهجرة إلى النبي -

(7/89)


صلى الله عليه وسلم -؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام عظم أمر الهجرة ورغب فيها ونوه بشأنها، وهذا من تمام الترغيب والتنوية، ثم زيادة السن إذ السنة الفاشية في الملل جميعها توقير الكبير، ولأنه أكثر تجربة وأعظم حلما، وإنما نهى عن التقدم على ذي سلطان في سلطانه؛ لأنه يشق عليه ويقدح في سلطانه فشرع ذلك إبقاء عليه- انتهى.
1124- قوله: (إذا كانوا) أي القوم. (ثلاثة) أي واثنين، كما أفاده الخبر السابق أن الجماعة تحصل بهما، قاله القاري. وقال الشوكاني: مفهوم العدد هنا غير معتبر لما في حديث مالك بن الحويرث: إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما. أخرجه أحمد وغيره من أصحاب الكتب الستة، وقد تقدم. (فليؤم أحدهم) إشارة
وأحقهم بالإمامة أقرأهم)). رواه مسلم. وذكر حديث مالك ابن الحويرث في باب بعد باب فضل الأذان.

(7/90)


إلى جواز إمامة المفضول. (وأحقهم بالإمامة أقرأهم) أي أكثرهم. حفظا للقرآن، فإن إمامته أفضل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والنسائي والبيهقي (ج3 ص89، 119). وفي الباب عن أنس عند أحمد (ج3 ص163) بلفظ: يؤم القوم أقرؤهم للقرآن. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح ، وعن أبي هريرة عند البزار بنحوه. قال الهيثمي: في سنده الحسن بن علي النوفلي الهاشمي، وهوضعيف، وقد حسنه البزار، وعن ابن عمر عند الطبراني بلفظ: من أم قوما وفيهم من هو أقرأ لكتاب الله منه، لم يزل في سفال إلى يوم القيامة. قال الهيثمي: فيه الهيثم بن عقاب. قال الأزدى: لا يعرف. وذكره ابن حبان في الثقات. (وذكر) بصيغة المجهول. (حديث مالك بن الحويرث) أي في المشكاة، وكذا في المصابيح. والحديث هو قوله قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلوا كما رأيتموني أصلي. وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، ثم ليؤمكم أكبركم يعني سنا، وذلك لاستوائهم في وجوه التقديم من القراءة والعلم، ففي رواية لآبي داود: وكنا يومئذ متقاربين في العلم. (في باب بعد باب فضل الأذان) أي فراجعه هناك. والمقصود أن حديث مالك بن الحويرث هذا ذكره البغوي أولا في باب بعد باب فضل الأذان، وذكره صاحب المشكاة أيضا هناك تبعا للبغوي لكون صدره في الآذان، ثم ذكره هاهنا في آخر الفصل الأول؛ لكون عجز الحديث متعلقا بباب الإمامة، ولما كان في ذكره هنا تكرار حذفه صاحب المشكاة، وأحال على الباب المذكور. وقال القاري: حديث مالك بن الحويرث فيه تفضيل الإمامة، فهو بباب الإمامة أولى، فلا معنى لتغيير التصنيف مع وجود الوجه الأدنى فضلا عن الأعلى، ثم يحتاج إلى الاعتذار المشير إلى الاعتراض، لا يقال صدر الحديث في الأذان؛ لأن تقديمه لتقدمه في الوجود ومنه تقدم بلال على النبي - صلى الله عليه وسلم - في دخول الجنة تقدم الخادم على المخدوم. ففيه إيماء إلى فضيلة الإمامة، وكذلك الحديث الآتي قريبا فالحاصل أن

(7/91)


حديث مالك ابن الحويرث كان في المصابيح هنا في آخر الفصل الأول، ونقله صاحب المشكاة فذكره في باب بعد باب فضل الآذان- انتهى. قلت: وقد وهم القاري في فهم غرض صاحب المشكاة كما لا يخفى، ولو راجع المصابيح لم يقع في هذا الوهم، وقد وهم أيضا في تعيين الحديث حيث قال: والحديث هو: قال أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا وابن عم لي، فقال إذا سافرتما فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما مع أنه غير مذكور في المصابيح في باب الإمامة. واعلم أن هذا كله مبني على أن الحديث المذكور هنا في المصابيح بغير تسمية الصحابي لمالك بن الحويرث كما قال المصنف. وعندي فيه كلام؛ لأن الحديث الذي أورده البغوي هنا هو بلفظ: إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنا. وحديث مالك بن الحويرث الذي ذكرناه إنما هو بلفظ: وليؤمكم أكبركم. وهذا هو الذي ذكره البغوي في
?الفصل الثاني?
1125- (3) عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( ليؤذن لكم خياركم وليؤمكم قراؤكم)). رواه أبوداود.
المصابيح والمصنف في المشكاة في باب هو بعد باب فضل الآذان. ولا يخفى ما بين اللفظين من الفرق البين. والظاهر أن الحديث المذكور في المصابيح هنا، أي في باب الإمامة بلفظ: ليؤمكم أكثركم قرآنا، إنما هو لعمرو بن سلمة الجرمي، رواه البخاري في حديث طويل في غزوة الفتح في باب بعد باب مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة. وذكره البغوي ههنا لإثبات جواز إمامة الصبي المميز. وقد ذكره المصنف في الفصل الثالث مطولا، كما سيأتي.

(7/92)


1125- قوله: (ليؤذن لكم) أمر استحباب. (خياركم) أي الذين يحتاطون في أمر الأوقات، وفي أمر الحرم والعورات، فإنهم يشرفون علىالمنارات العالية، قاله السندي. وقال القاري: أي من هو أكثر صلاحا ليحفظ نظره عن العورات، ويبالغ في محافظة الأوقات. قال الجوهري: الخيار خلاف الأشرار، والخيار الاسم من الاختيار، وإنما كانوا خيارا لما ورد أنهم أمناء؛ لأن أمر الصائم من الإفطار والأكل والشرب والمباشرة منوط إليهم، وكذا أمر المصلي لحفظ أوقات الصلاة يتعلق بهم، فهم بهذا الاعتبار مختارون، ذكره الطيبي. (وليؤمكم) بسكون اللام وتكسر. (قراؤكم) بضم القاف وتشديد الراء، جمع قاري. كذا وقع في جميع النسخ، وهكذا في المصابيح وسنن أبي داود وابن ماجه. ونقله الجزري في جامع الأصول (ج6 ص377) عن أبي داود بلفظ: وليؤمكم أقرؤكم، وكذلك رواه البيهقي (ج1 ص426). وفيه دليل على تقديم الأقرأ في الإمامة على الأفقه. قال السندي: ظاهر الحديث أن الأقرأ أحق بالإمامة من الأعلم. وقال القاري: وكلما يكون أقرأ فهو أفضل إذا كان عالما بمسائل الصلاة، فإن أفضل الأذكار وأطولها وأصعبها في الصلاة إنما هو القراءة. وفيه تعظيم لكلام الله، وتقديم قارئه، وإشارة إلى علو مرتبته في الدارين كما كان - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتقديم الأقرأ.. في الدفن- انتهى. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا ابن ماجه والبيهقي، وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: في سنده الحسين بن عيسى الحنفي الكوفي، وقد تكلم فيه أبوحاتم وأبوزرعة الرازيان، وقد ذكر الدارقطني أن حسين بن عيسى تفرد بهذا الحديث عن الحكم بن أبان- انتهى. قلت: الحسين بن عيسى قال البخاري: مجهول، وحديثه منكر. وقال أبوزرعة: منكر الحديث. وقال أبوحاتم: ليس بالقوي، روى عن الحكم بن أبان أحاديث منكرة. وقال الآجري عن أبي داود: بلغني أنه ضعيف. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف.

(7/93)


1126 – (4) وعن أبي عطية العقيلي، قال: كان مالك بن الحويرث يأتينا إلى مصلانا يتحدث، فحضرت الصلاة يوما، قال أبي عطية: فقلنا له: تقدم فصله. قال لنا: قدموا رجلا منكم يصلي بكم، وسأحدثكم لم لا أصلي بكم؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من زار قوما فلا يؤمهم، وليؤمهم رجل منهم)).
1126- قوله: (عن أبي عطية) بفتح العين وكسر الطاء وتشديد التحتية. (العقيلي) بضم العين المهملة، أي مولاهم، فهي نسبة الولاء كما يدل عليه بعض روايات هذا الحديث. ففي رواية لأحمد (ج3 ص437و ج5 ص53) عن بديل بن ميسرة العقيلي قال: حدثني أبوعطية مولى منا، وكذا عند أبي داود. وللنسائي وأحمد في رواية (ج5 ص53) مولى لنا. قال الذهبي في الميزان: أبوعطية عن مالك بن الحويرث، لا يدرى من هو؟، وقال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج12.ص170): أبوعطية مولى بني عقيل، روى عن مالك بن الحويرث حديث: من زار قوما الخ، وعنه بديل بن ميسرة، قال أبوحاتم: لا يعرف ولا يسمى. وقال ابن المديني: لا يعرفونه. وقال أبوالحسن القطان: مجهول. وصحح ابن خزيمة حديثه. وقال في التقريب: مقبول. (يأتينا إلى مصلانا) أي مسجدنا في البصرة. (يتحدث) وفي بعض النسخ: نتحدث، أي بالنون في أوله بصيغة المتكلم. (تقدم) أي للإمامة. (فصله) الهاء للسكتة. (يصلي بكم) أي يؤمكم في الصلاة. (وسأحدثكم لم لا أصلي بكم) أي مع أني أحق بالإمامة منكم، وذلك لكونه صحابيا عالما. (من زار قوما فلا يؤمهم، وليؤمهم رجل منهم) فإنه أحق من الزائر. وامتنع مالك من الإمامة مع وجود الإذن منهم عملا بظاهر الحديث، ثم أن حدثهم بعد الصلاة. فالسين للاستقبال، وإلا فلمجرد التأكيد. والحديث دليل على أن المزور أحق بالإمامة من الزوائر وإن كان أقرأ أو أعلم من المزور. قال الترمذي بعد رواية الحديث: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، وقالوا: صاحب المنزل أحق بالإمامة من

(7/94)


الزائر. وقال بعض أهل العلم: إذا أذن له فلا بأس أن يصلي به. وقال إسحاق بحديث مالك بن الحويرث: وشدد في أن لا يصلي أحد لصاحب المنزل وإن أذن له صاحب المنزل، قال وكذلك في المسجد لا يصلي بهم في المسجد إذا زارهم، يقول: ليصل بهم رجل منهم –انتهى. كلام الترمذي. وقد حكى المجد بن تيمية في المنتقى بعد ذكر الحديث عن أكثر أهل العلم أنه لا بأس بإمامة الزائر بإذن رب المكان، واستدل بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي مسعود. (يعني المتقدم) إلا بإذنه، قال ويعضده عموم ما روي ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة عبد أدى حق الله وحق مواليه، ورجل أم قوما، وهم به راضون) - الحديث. رواه الترمذي، وعن أبي هريرة عن
رواه أبوداود والترمذي، والنسائي إلا أنه اقتصر على لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -.
1127 – (5) وعن أنس، قال: (( استخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن أم مكتوم يؤم الناس،

(7/95)


النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤم قوما إلا بإذنهم) –الحديث. رواه أبوداود- انتهى. قلت: الراجح عندنا هو قول من قال أن المزور إذا أذن للزائر فلا بأس أن يصلي به. ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث مالك بن الحويرث: من زار قوما فلا يؤمهم، أي إلا أن يأذنوا له. يدل عليه حديث أبي مسعود عند سعيد بن منصور، وقد تقدم. ويعضد ما ذكرنا من التقييد بالإذن عموم قوله في حديث ابن عمر: وهم به راضون، وقوله في حديث أبي هريرة: إلا بإذنهم، كما قال ابن تيمية، فإنه يقتضي جواز إمامة الزائر عند رضى المأزور وإذنه، وقيل: حديث مالك بن الحويرث محمول على من عدا الإمام الأعظم فإذا حضر الإمام الأعظم أو من يجري مجراه بمكان مملوك لا يتقدم عليه مالك الدار، ولكن ينبغي للمالك أن يأذن له لجمع بين الحقين حق الإمام في التقدم وحق المالك في منع التصرف بغير إذنه، (رواه أبوداود) وسكت عنه. ( والترمذي) وقال: حديث حسن. وفي بعض نسخ الترمذي: حديث حسن صحيح. ويؤيد الأول ما نقله المنذري والشوكاني عن الترمذي من التحسين فقط، ويفهم ذلك من قول الحافظ في التهذيب في ترجمة أبي عطية أن ابن خزيمة صحح حديثه، فلو كان التصحيح عنده في نسخة الترمذي لأشار إليه، وإنما حسن الترمذي هذا الحديث، مع أن في سنده أبا عطية، وهو مجهول، كما قال الذهبي وأبوحاتم وابن المديني وأبوالحسن القطان؛ لأن له شواهد، والترمذي قد يحسن الحديث الضعيف لشواهده. وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي بعد قول أبي حاتم وغيره: ولكن تصحيح ابن خزيمة حديثه، وتحسين الترمذي أو تصحيحه إياه يجعله من المستورين المقبولي الرواية، ولحديثه شواهد. يشير إلى ما تقدم من حديث أبي مسعود عند أبي داود بلفظ: ولا يؤم الرجل في بيته، ومن حديث أبي مسعود عند الطبراني، وحديث عبدالله بن حنطلة عند البزار والطبراني، وقد ذكرنا لفظهما في شرح حديث أبي

(7/96)


مسعود. (والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد (ج3 ص436- 437و ج5 ص53) والبيهقي (ج3 ص126). (إلا أنه) أي النسائي. (اقتصر على لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي قوله، وهو: إذا زار أحدكم قوما فلا يصلين بهم، ولم يذكر صدر الحديث. واللفظ المذكور في الكتاب لأبي داود إلا قوله: يتحدث فحضرت الصلاة يوما، فإنه للترمذي، ولفظ أبي داود: إلى مصلانا هذا فأقيمت الصلاة.
1127 – قوله: (استخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن أم مكتوم) أي أقامه مقام نفسه في مسجد المدينة حين خرج إلى الغزو. (يؤم الناس) قال القاري: هو بيان للاستخلاف. وقال ابن حجر: أي استخلافا عاما على المدينة مرتين ما روي، وخاصا بكونه يؤم الناس. وقال الأمير اليماني: المراد استخلافه في الصلاة وغيرها، وقد
وهو أعمى)). رواه أبوداود.

(7/97)


أخرجه الطبراني بلفظ: في الصلاة وغيرها، وإسناده حسن. وقد عدت مرات الاستخلاف له، فبلغت ثلاث عشرة مرات، ذكره في الخلاصة. (وهو أعمى) قال الشيخ عبدالحق الدهلوي في أشعة اللمعات: فيه دليل على جواز إمامة الأعمى من غير كراهة في ذلك. وقال ابن حجر: فيه جواز إمامة الأعمى. ولا نزاع فيه، وإنما النزاع في أنه أولى من البصير أو عكسه. قال الشوكاني: قد صرح أبوإسحاق المروزي والغزالى بأن إمامة الأعمى أفضل من إمامة البصير؛ لأنه أكثر خشوع من البصير لما في البصير من شغل القلب بالمبصرات. ورجح البعض أن إمامة البصير أولى؛ لأنه أشد توقيا للنجاسة. والذي فهمه الماوردي من نص الشافعي أن إمامة الأعمى والبصير سواء في عدم الكراهية؛ لأن في كل منهما فضيلة غير أن إمامة البصير أفضل؛ لأن أكثر من جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - إماما البصراء. وأما استنابته - صلى الله عليه وسلم - لابن أم مكتوم في غزواته فلأنه كان لا يتخلف عن الغزو من المؤمنين إلا معذور. فلعله لم يكن في البصراء المتخلفين من يقوم مقامه، أو لم يتفرغ لذلك أو استخلفه لبيان الجواز. وأما إمامة عتبان بن مالك لقومه، أي مع كونه ضرير البصر فلعله أيضا لم يكن في قومه من هو في مثل حاله من البصراء – انتهى كلام الشوكاني. وقال في البدائع بعد التصريح بجواز إمامة الأعمى ما لفظه: والأعمى يوجهه غيره إلى القبلة، فيصير في أمر القبلة مقتديا بغيره، وربما يميل في خلال الصلاة عن القبلة، ولأنه لا يمكنه التوقي عن النجاسة، فكان البصير أولى إلا إذا كان في الفضل لا يوازيه في مسجده غيره، فحينئذ يكون أولى، ولذا استخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن أم مكتوم- انتهى. وقال ابن الملك: كراهة إمامة الأعمى إنما هي إذا كان القوم سليم أعلم منه أو مساو له علما- انتهى: قال التوربشتي : استخلف ابن أم مكتوم على الإمامة حين خرج إلى تبوك مع أن عليا رضي الله عنه فيها لئلا يشغله شاغل عن

(7/98)


القيام بحفظ من يستخلفه من الأهل حذرا أن ينالهم عدو بمكروه. وقال ابن حجر. يمكن أن يوجه بأنه لو استخلفه في ذلك أيضا لوجد الطاعن في خلافة الصديق سبيلا وإن ضعف. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد والبيهقي (ج3 ص88) وسكت عنه أبوداود والمنذري، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وأبويعلى والطبراني في الأوسط عن عائشة. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص65) بعد عزوه إلى أبي يعلى والطبراني: ورجال أبي يعلى رجال الصحيح. وأخرجه أيضا البزار والطبراني في الأوسط عن ابن عباس. قال الهيثمي: وفيه عفير بن معدان، وهو ضعيف، وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير من حديث عبدالله بن بحينة. قال الهيثمي: وفيه الواقدي، وهو ضعيف. وفي الباب عن عبدالله بن عمير إمام بن خطمة أنه كان إماما لبني ختمة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أعمى. قال الشوكاني: أخرجه الحسن بن سفيان في مسنده وابن أبي خثيمة. وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح.
1128- (6) وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( ثلاثة لا تجاوز صلاتهم أذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون)).

(7/99)


1128- قوله: (ثلاثة) أي أشخاص. (لا تجاوز صلاتهم آذانهم) جمع الأذن الجارحة، أي لا ترتفع إلى السماء، كما في حديث ابن عباس الآتي، وهو كناية عن عدم القبول، كما هو مصرح به في الحديث الذي بعده، وفي حديث ابن عباس عند ابن حبان. قال التوربشتي: أي لا ترفع إلى الله تعالى رفع العمل الصالح، بل أدنى شيء من الرفع. وخص الآذان بالذكر لما يقع فيها من التلاوة والدعاء، ولا تصل إلى الله تعالى قبولا وإجابة. وهذا مثل قوله عليه السلام في المارقة: يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، عبر عن عدم القبول بعدم مجاوزة الآذان- انتهى. وقال في اللمعات: خص الآذان بالذكر لقربها؛ لأنها يقع فيها صوت التلاوة، وإن غاية حظهم منها سماع ذكرها. (العبد الآبق) أي أولهم أو منهم أو أحدهم. (حتى يرجع) أي من إباقة إلى سيده. وفي معناه الجارية الآبقة. وفي صحيح مسلم، وسنن أبي داود والنسائي من حديث جرير بن عبدالله البجلي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة. وهذا يؤيد ما تقدم من أن المراد بعدم المجاوزة عدم قبول الصلاة و (إمرأة باتت وزوجها عليها ساخط) من السخط وهو بالضم وكعنق وجبل ومقعد ضد الرضا، وقد سخط كفرح، وتسخط وأسخطه أغضبه، قال القاري: هذا إذا كان السخط لسوء خلقها أو سوء أدبها أو قلة طاعتها. أما إن كان سخط زوجها من غير جرم فلا إثم عليها. قال الشوكاني في الحديث: إن اغضاب المرأة لزوجها حتى يبيت ساخطا عليها من الكبائر. وهذا إذا كان غضبها عليها بحق. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا دعا الرجل إمرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضبانا عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح. وسيأتي في عشرة النساء. (وإمام قوم وهم له كارهون) أي لأمر مذموم في الشرع، وإن كرهوا لخلاف ذلك فلا كراهة. قال ابن الملك: أي كارهون لبدعته أو فسقه أو جهله. أما إذا كان بينه وبينهم كراهة أو عداوة بسبب أمر

(7/100)


دنيوى فلا يكون له هذا الحكم، والحديث يدل على كراهة أن يكون الرجل إماما لقوم يكرهونه. قال الشوكاني: وقد ذهب قوم إلى التحريم، وإلى الكراهة آخرون. ويدل على التحريم نفى قبول الصلاة، وإنها لا تجاوز أذنه، ولعن الفاعل لذلك، كما في حديث أنس عند الترمذي: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة: رجل أم قوما وهم له كارهون- الحديث، قال: وقد قيد ذلك جماعة عن أهل العلم بالكراهة الدينية لسبب شرعي. وأما الكراهة لغير الدين فلا عبرة بها، وقيدوه أيضا بأن يكون الكارهون أكثر المأمومين، ولا اعتبار بكراهة الواحد والاثنين وثلاثة إذا كان المؤتمون جمعا كثيرا إلا إذا كانوا اثنين أو ثلاثة، فإن كراهتهم أو كراهة أكثرهم معتبرة، قال: والاعتبار بكراهة أهل الدين دون كراهته غيرهم، حتى قال الغزالي في الإحياء: لو كان الأقل من أهل الدين يكرهونه فالنظر إليهم،
رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب.
1129- (7) وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( ثلاثة لا تقبل منهم صلاتهم: من تقدم

(7/101)


قال: وحمل الشافعي الحديث على إمام غير الوالي؛ لأن الغالب كراهة ولاة الأمر، قال: وظاهر الحديث عدم الفرق- انتهى. (رواه الترمذي) هذا الحديث مما انفرد به الترمذي، كما قال الشوكاني. (وقال: هذا حديث غريب) كذا في جميع النسخ. والذي في الترمذي حديث حسن غريب. وهو الذي ذكره المنذري في الترغيب والشوكاني في النيل. والحديث قد ضعفه البيهقي (ج3 ص128). قال النووي في الخلاصة: والأرجح هنا قول الترمذي- انتهى. وفي سنده أبوغالب الراسبي البصري، ضعفه النسائي وابن سعد. وقال أبوحاتم: ليس بالقوي. ووثقه موسى بن هارون الحمال والدارقطني. وقال ابن معين: صالح الحديث. وقال ابن عدي: لم أر في أحاديثه منكرا، وأرجوا أنه لا بأس به. وحسن الترمذي بعض أحاديثه، وصحح بعضها. كذا في تهذيب التهذيب- وقال في التقريب: صدوق يخطئ- انتهى. فالظاهر أن حديثه لا ينحط عن درجة الحسن، والله أعلم. وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة. ذكرها الشوكاني في النيل مع الكلام عليها.

(7/102)


1129- قوله: (وعن ابن عمر) كذا في جميع النسخ الحاضرة الموجودة عندنا. والمراد به عبدالله بن عمر بن الخطاب. والذي في سنن أبي داود، وابن ماجه عبدالله بن عمرو، أي ابن العاص. وكذا ذكره المجد بن تيمية في المنتقى نقلا عن أبي داود وابن ماجه. وكذا وقع في معالم السنن (ج1 ص169) شرح سنن أبي داود للخطابي، والسنن الكبرى للبيهقي (ج3 ص128) وهذا هو الصواب، فإن الحديث من رواية عمران بن عبد المعافري التابعي، وهو يرويه عن عبدالله بن عمرو بن العاص لا ابن عمر. قال الذهبي في الميزان (ج2 ص288) في ترجمة عمران المذكور: ضعفه يحيى بن معين، يحدث عنه الافريقي عن عبدالله بن عمرو: ثلاثة لا يقبل منهم صلاة- الحديث. وقال الحافظ في التهذيب (ج8 ص134) : روى عن عبدالله بن عمرو وعنه عبدالرحمن بن زياد بن أنعم الافريقي. وكذا قال الخزرجي في الخلاصة (ص296). والحديث ذكره النابلسي في ذخائر المواريث في مسند عبدالله بن عمرو بن العاص، وكذا نسبه إليه السيوطي في الجامع الصغير، والعزيزي في السراج المنير. ووقع في تيسير الوصول (ج2 ص268) وجامع الأصول (ج6 ص379) وعن ابن عمرو بن العاص. فالظاهر أن ما وقع في نسخ المشكاة من تصرف النساخ والله أعلم. (لا تقبل منهم صلاتهم) وفي أبي داود: لا يقبل الله منهم صلاة، ولفظ ابن ماجه: لا تقبل منهم صلاة، قالوا القبول أخص من الإجزاء، أي فلا يلزم من عدمه عدم الإجزاء، وهو كونه سببا لسقوط التكليف، والقبول كونه سببا للثواب. والحاصل أن المراد بنفي القبول نفى الثواب لا نفى الصحة والإجزاء. (من تقدم) خبر
قوما وهم له كارهون، ورجل أتى الصلاة دبارا- والدبار: أن يأتيها بعد أن تفوته-
ورجل اعتبد محررة)) رواه أبوداود، وابن ماجه.

(7/103)


مبتدأ محذوف أي أحدهم. (قوما) للإمامة. (وهم له كارهون) في شرح السنة. قيل: المراد به إمام ظالم. وأما من أقام السنة فاللوم على من كرهه. وقال الخطابي في المعالم (ج1 ص170) : يشبه أن يكون هذا الوعيد في الرجل ليس من أهل الإمامة، فيقتحم فيها ويتغلب عليها حتى يكره الناس إمامته. فأما إن كان مستحقا للإمامة فاللوم على من كرهه دونه- انتهى. (ورجل) أي وثانيهم رجل. (أتى الصلاة) أي حضرها. (دبارا) بكسر الدال. وانتصابه على المصدر، أي إتيان دبار، يعني صلاها حين أدبار وقتها بحيث لا يسع الوقت جميعها، وكان ذلك عادة له قال في الفائق: قبال الشيء ودباره أوله وآخره، يقال: فلان لا يدري قبال الأمر من دباره، أي ما أوله من آخره، وفي الغربيين عن ابن الأعرابي: الدبار جمع دبر ودبر وهو آخر أوقات الشيء، أي يأتي الصلاة بعد ما يفوت الوقت. قال ابن حجر: بأن لا يدركها كاملا فيه. وقال الجزري: دبار جمع دبر أو دبر، وهو آخر أوقات الشيء. وقيل: أراد بعد ما يفوت الوقت، وقد ذكر في الحديث. (والدبار أن يأتيها) أي الصلاة من غير عذر. (بعد أن تفوته) أي الصلاة جماعة أو أداء، قال الخطابي: هو أن يكون قد اتخذه عادة حتى يكون حضوره الصلاة بعد فراغ الناس وانصرافهم عنها- انتهى. وهذا التفسير ظاهر أنه من الراوي. (ورجل اعتبد) أي ثالثهم رجل اتخذ عبدا. (محررة) أي نسمة أو رقبة أو نفسا محررة. قال الطيبي: يقال أعبدته واعتبدته إذا اتخذته عبدا وهو حر، وذلك بأن يأخذ حرا، فيدعيه عبدا ويتملكه أو يعتق عبده ثم يستخدمه كرها أو يكتم عتقه استدامة لخدمته ومنافعه. قال ابن الملك: تأنيث محررة بالحمل على النسمة لتناول العبيد والإماء. وقيل: خص المحررة لضعفها وعجزها بخلاف المحرر لقوته بدفعه. وقال في المفاتيح شرح المصابيح: في بعض النسخ أي للمصابيح محررة بالضمير المجرور. قلت: وكذا وقع في بعض نسخ أبي داود، كما صرح به في عون المعبود، وكذا ذكره

(7/104)


المجد بن تيمية في المنتقى. وفي الترغيب للمنذري وسنن ابن ماجه: اعتبد محررا. قال الشوكاني: أي اتخذ معتقه عبدا بعد إعتاقه. قال الخطابي: اعتباد المحرر يكون من وجهين: أحدهما أن يعتقه ثم يكتم عتقه أو ينكره، وهو شر الأمرين. والوجه الآخر أن يستخدمه كرها بعد العتق، أي بالقهر والغلبة. (رواه أبوداود وابن ماجه) وكذا البيهقي كلهم من رواية الإفريقي عن عمران بن عبد بغير إضافة المعافري، والافريقي قد تقدم الكلام فيه. وأما عمران فقال ابن معين: ضعيف. وقال ابن القطان: لا يعرف حاله. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال العجلي: مصري تابعي ثقة. وذكره يعقوب بن سفيان في ثقات المصريين كذا في التهذيب (ج8 ص34). وقال في التقريب: ضعيف.
1130- (8) وعن سلامة بنت الحر، قالت: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن من أشراط الساعة أن يتدافع
أهل المسجد لا يجدون إماما يصلي بهم)) رواه أحمد، وأبوداود، وابن ماجه.
1131- (9) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( الجهاد واجب عليكم مع كل أمير، برا
كان أو فاجرا، وإن عمل الكبائر.

(7/105)


1130- قوله: (وعن سلامة) بفتح سين مهملة وخفة لام وهاء. (بنت الحر) بضم الحاء المهملة بعدها راء مهملة مشددة، أخت خرشة بن الحر الفزاري، صحابية، لها هذا الحديث فقط. (إن من أشراط الساعة)، أي من علاماتها الصغرى الدالة على قربها. واحدها شرط بالتحريك. (أن يتدافع أهل المسجد) أي في الإمامة فيدرأ كل من أهل المسجد الإمامة عن نفسه إلى غيره، ويقول لست أهلا لها لما ترك تعلم ما تصح به الإمامة، ولجهلهم بما يجوز ولا يجوز. (لا يجدون إماما) أي قابلا الإمامة. (يصلي بهم) على وجه الصحة بأداء أركانها. وواجباتها وسننها ومندوباتها. وقيلك المعنى يدفع كل من أهل المسجد الإمامة عن غيره إلى نفسه، فيحصل بذلك النزاع، فيؤدي ذلك إلى عدم الامام. (رواه أحمد) (ج6 ص381). (وأبوداود) ومن طريقه رواه البيهقي (ج3 ص29). (وابن ماجه) واللفظ لأحمد وأبي داود. ولفظ ابن ماجه وأحمد في رواية: يأتي على الناس زمان يقومون ساعة لا يجدون إماما يصلي بهم. والحديث سكت عنه أبوداود والمنذري. وفي سنده عندهم جميعا طلحة أم غراب. قال في التقريب: لا يعرف حالها. وذكرها ابن حبان في الثقات، روت عن عقيلة الفزارية عن سلامة بنت الحر. قال الحافظ في التقريب، والذهبي في الميزان: عقيلة الفزارية جدة علي بن غراب، لا يعرف حالها.

(7/106)


1131- قوله: (الجهاد واجب عليكم) أي فرض عين في حال وفرض كفاية في أخرى. (مع كل أمير) أي مسلم سلطان أو ولي أمره. (برا) بفتح الباء. (كان أو فاجرا) فإن الله قد يؤيد الدين بالرجل الفاجر، وإثمه على نفسه. ويؤيده ما روي عن أنس مرفوعا: الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل، أخرجه أبوداود في حديث، وسكت عنه هو والمنذري. قال ابن حجر في حديث أبي هريرة: جواز كون الأمير فاسقا جائرا، وإنه لا ينعزل بالفسق والجور، وأنه تجب طاعته ما لم يأمر بمعصيته. وخروج جماعة من السلف على الجورة كان قبل استقرار الإجماع على حرمة الخروج على الجائر- انتهى. (وإن عمل الكبائر) كذا في جميع النسخ الموجودة، وكذا وقع في المصابيح، وليست هذه الزيادة في سنن أبي داود، ولم يذكرها أيضا المجد بن تيمية في المنتقى، والزيلعي في نصب الراية (ج2 ص27) ولم تقع أيضا في
والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم، برا كان أو فاجرا، وإن عمل الكبائر.

(7/107)


رواه البيهقي. (والصلاة) أي بالجماعة. (واجبة عليكم) قال القاري: أي بالجماعة، كما تقدم من القول المختار، وهو فرض عملي لا اعتقادي لثبوته بالسنة، وهي آحاد. وقال ابن حجر: أي على الكفاية لا الأعيان - انتهى. وهي غاية من البعد عن شعار الإسلام، وطريق السلف العظام؛ لأنه يؤدي إلى أنه لو صلى شخص واحد مع الإمام في مصر لسقط عن الباقين. وقال الطيبي: القرينة الأولى تدل على وجوب الجهاد على المسلمين، وعلى جواز كون الفاسق أميرا، والثانية على وجوب الصلاة بالجماعة عليهم. وجواز أن يكون الفاجر إماما، هذا ظاهر الحديث. ومن قال الجماعة ليست بواجبة على الأعيان تأوله بأنه فرض على الكفاية كالجهاد، وعليه دليل إثبات ما ادعاه. (خلف كل مسلم) إذا كان إماما. (برا كان أو فاجرا وإن عمل الكبائر) قال ابن الملك: أي جاز اقتداءكم خلفه لورود الجواب بمعنى الجواز لاشتراكهما في جانب الإتيان بهما. وهذا يدل على جواز الصلاة خلف الفاسق، وكذا المبتدع إذا لم يكن ما يقوله كفرا. قال القاري في أمره بالصلاة خلف الفاجر مع أن الصلاة خلف الفاسق والمبتدع مكروهة عندنا دليل على وجوب الجماعة - انتهى. قلت: اختلف في امامة الفاسق والمبتدع: فذهب مالك إلى اشتراط عدالة من يصلى خلفه، وقال لا تصح إمامة الفاسق. وذهبت الشافعية والحنفية إلى صحة إمامته. قال العيني: أما الصلاة خلف الخوارج وأهل البدع فاختلف العلماء فيه: فأجازت طائفة منهم ابن عمر إذ صلى خلف الحجاج، وكذلك ابن أبي ليلى وسعيد بن جبير. وقال النخعي كانوا يصلون وراء الأمراء ما كانوا. وروى أشهب عن مالك: لا أحب الصلاة خلف الإباضية والواصلية، ولا السكنى معهم في البلد. وقال ابن القاسم: أرى الإعادة في الوقت على من صلى خلف أهل البدع. وقال أصبغ يعيد أبدا. وقال الثوري في القدري لا تقدموه. وقال أحمد بن حنبل: لا يصلي خلف أحد من أهل الأهواء إذا كان داعيا إلى هواه، ومن صلى خلف الجهمية

(7/108)


والرافضية والقدرية يعيد. وقال أصحابنا: تكره الصلاة خلف صاحب هوى وبدعة، ولا تجوز خلف الرافضي والجهمي والقدري؛ لأنهم يعتقدون أن الله لا يعلم الشيء قبل حدوثه وهو كفر، والمشبهة، ومن يقول يخلق القرآن. وكان أبوحنيفة لا يرى الصلاة خلف المبتدع، ومثله عن أبي يوسف. وأما الفاسق بجوارحه كالزاني وشارب الخمر فزعم ابن الحبيب أن من صلى خلف من شرب الخمر يعيد أيدا إلا أن يكون واليا. وفي رواية: يصح. وفي المحيط: لو صلى خلف فاسق أو مبتدع يكون محرز الثواب صلاة الجماعة، ولا ينال ثواب من صلى خلف المتقي. وفي المبسوط: يكره الإقتداء بصاحب البدعة - انتهى. والحق عندي أنه لا يشترط عدالة إمام الصلاة لصحة الجماعة وصحة صلاة المقتدين، ولكن لا يجوز تقديم الفاسق، وكذا المبتدع ببدعة غير مكفرة للإمامة؛ لأن في تقديمه تعظيمه، وقد وجب إهانته شرعا، ولأن الفاسق لا يهتم بأمر دينه، ولأن

(7/109)


الإمامة من باب الامانة، والفاسق خائن، ولأن مبنى الإمامة على الفضيلة، ولأن الناس لا يرغبون في الصلاة خلف الفاسق والمبتدع، فتؤدي إمامتهما إلى تنفير الجماعة وتقليلها، وذلك مكروه، ولقوله عليه السلام: اجعلوا أئمتكم خياركم، فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم. أخرجه الدارقطني (ص197) والبيهقي (ج3:ص90) من حديث ابن عمر، قال البيهقي: إسناده ضعيف - انتهى. قلت: في سنده حسين بن نصر المؤدب. قال ابن القطان: لا يعرف. وفيه أيضا سلام بن سليمان المدائني. قال الشوكاني: ضعيف، ولقوله عليه السلام: إن سركم أن تقبل صلاتكم فليؤمكم خياركم-الحديث، أخرجه الحاكم من حديث مرثد الغنوي في كتاب الفضائل (ج4:ص222) وسكت عنه، وأخرجه أيضا الطبراني والدارقطني (ص197)، الا أن الطبراني قال: فليؤمكم علماؤكم. وفيه عبدالله بن موسى. قال الدارقطني: ضعيف. وفيه أيضا القاسم بن أبي شيبة، وقد ضعفه ابن معين، ولما روى أبوداود وسكت عنه هو والمنذري عن السائب بن خلاد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجل أم قوما فبصق في القبلة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إليه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين فرغ: لا يصلي لكم فأراد بعد ذلك أن يصلي بهم فمنعوه وأخبروه بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: نعم. قال الراوي: حسبت أنه قال له: إنك آذيت الله ورسوله، ولما روي عن علي رضي الله عنه مرفوعا: لا يؤمنكم ذو جرأة في دينه. ذكره الشوكاني في النيل بلا سند. وقال العلامة القنوجي في دليل الطالب (ص339) هو مرسل، ولقوله عليه السلام: لا يؤم فاجر مؤمنا إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه أو سوطه. أخرجه ابن ماجه من حديث جابر في صلاة الجمعة. وفي سنده عبدالله بن محمد العدوي التميمي، وهو تألف. قال البخاري وأبوحاتم والدارقطني: منكر الحديث. وقال الدارقطني أيضا: متروك. وقال وكيع: يضع الحديث.

(7/110)


وقال ابن حبان لا يجوز الاحتجاج بخبره. وقال ابن عبدالبر: جماعة أهل العلم بالحديث يقولون: إن هذا الحديث من وضع عبدالله بن محمد العدوي، وهو عندهم موسوم بالكذب. كذا في تهذيب التهذيب (ج6:ص21) هذا ولا يجوز للفاسق المبتدع التقدم للإمامة لما سبق من حديثي أبي أمامة وعبدالله بن عمرو بن العاص وما وافقهما من الأحاديث الدالة على تحريم إمامة الرجل وهو له كارهون. ولو تقدم الفاسق والمبتدع للإمامة وجب على القوم أن يمنعوهما عن الإمامة، وإن عجزوا عن المنع والعزل جازت الصلاة خلفهما مع الكراهة، أىجاز الاقتداء بهما للضرورة، وهي خوف الفتنة في منعهما وعزلهما عن الإمامة، وفي ترك الصلاة بالجماعة، وتصح الجماعة، ويكون المصلي محرزا الثواب الجماعة. لكن لاينال مثل ما ينال خلف تقي، وبالجملة لا تفسد صلاة من صلى خلف الفاسق والمبتدع لعدم ما يدل على اشتراط عدالة الإمام في حق صحة صلاة المقتدي، وجواز الاقتداء، ولأن جواز الصلاة متعلق بأداء الأركان، وهما قادران عليهما، ولأن عدم قبول صلاتهما لا يستلزم عدم جواز الاقتداء بهما، ولا عدم

(7/111)


قبول صلاة المؤتمين بهما فضلا عن فساد صلاتهم، لأن الذم والوعيد أنما هو متوجه إلى من كره القوم وإمامته لا إلى المؤتمين، كما لايخفى، ولأن من صحت صلاته لنفسه صحت لغيره، أي صحت إمامته وجاز الائتمام به، ولقوله عليه السلام: لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولحديث أبي هريرة هذا أو غيره مما سيأتي الإشارة إليها، وهي أحاديث كثيرة دالة على صحة الصلاة خلف كل بر وفاجر أي فاسق إلا أنها ضعيفة، كما ستعرف، ولما روى البخاري في تاريخه والبيهقي (ج3:ص122) عن عبدالكريم البكاء قال: أدركت عشرة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يصلي خلف أئمة الجور. قال الشوكاني: عبدالكريم هذا لايحتج بروايته، وقد استوفى الكلام عليه في الميزان، ولكنه قد ثبت إجماع أهل العصر الأول من بقية الصحابة ومن معهم من التابعين إجماعا فعليا، ولا يبعد أن يكون قوليا على الصلاة خلف الجائزين؛ لأن الأمراء في تلك الأعصار كانوا أئمة الصلوات الخمس، فكان الناس لا يؤمهم إلا أمراؤهم في كل بلدة فيها أمير، وكانت الدولة إذ ذاك لبني أمية وحالهم وحال أمراءهم لا يخفى، وقد أخرج البخاري عن ابن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج، وأخرج مسلم وأهل السنن أن أبا سعيد الخدري صلى خلف مروان صلاة العيد في قصة تقديمه الخطبة على الصلاة، ولأنه قد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأنه يكون على الأمة أمراء يميتون الصلاة ويصلونها لغير وقتها، فقالوا: يارسول الله فما تأمرنا؟ فقال: صلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم مع القوم نافلة. ولا شك أن من أمات الصلاة وفعلها في غير وقتها غير عدل. وقد أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة خلفه نافلة، ولا فرق بينها وبين الفريضة في ذلك. قال الأمير اليماني بعد ذكر هذا الحديث: فقد أذن بالصلاة خلفهم، وجعلها نافلة؛ لأنهم أخرجوها عن وقتها. وظاهره أنهم لو صلوها في وقتها لكان مأمورا بصلاتها خلفهم فريضة، ولما روي عن علي أنه

(7/112)


أتاه قوم برجل فقالوا: إن هذا يؤمنا ونحن له كارهون. فقال له علي رضي الله عنه: إنك لخروط أي مقهور في الأمور أو متعسف في فعلك، أتؤم قوما وهم لك كارهون. ففيه أنه وإن زجره عن الإمامة لكن لم ينه القوم عن الاقتداء به، ولا أمرهم باعادة الصلاة. والحاصل: أنه يحرم على الفاسق، وفي حكمة المبتدع، التقدم للامامة، ولا يجوز للقوم أن يقدموه ولو قدموه مع قدرتهم على المنع والعزل أثموا، وصحت الجماعة خلفه مع الكراهة التحريمية، ولا تفسد الصلاة لعدم ما يدل على بطلان صلاة المؤتمين به. ولو عجزوا عن المنع والعزل، وأمكنهم الصلاة خلف غيره بالتحول إلى مسجد آخر فهو أفضل، وإلا فالاقتداء به أولى من الانفراد، وصحت صلاتهم خلفه، لكن لا تخلو عن الكراهة، يعني يكونون محزرين لثواب صلاة الجماعة، لكن لا ينالون مثل ما ينال من صلى خلف تقي. وبما قلنا يحصل الجمع بين الأدلة المتعارضة الواردة في هذه المسألة. وإن شئت مزيد التفصيل فارجع إلى
والصلاة واجبة على كل مسلم برا أو فاجرا، وإن عمل الكبائر)). رواه أبوداود.

(7/113)


دليل الطالب (ص 335- 339). (والصلاة) أي صلاة الجنازة. (واجبة) أي فرض كفاية عليكم أن تصلوا. (على كل مسلم) أي ميت ظاهر الإسلام. (برا كان أو فاجرا) فيه دليل على أنه يصلي على كل من مات مسلما ولو كان فاسقا. وإليه ذهب مالك والشافعي وأبوحنيفة وجمهور العلماء. قال النووي: قال القاضي: مذهب العلماء كافة الصلاة على كل مسلم ومحدود ومرجوم وقاتل نفسه وولد الزنا- انتهى. وتعقب بأن الزهري يقول: لا يصلى على المرجوم، وقتادة يقول: لا يصلى على ولد الزنا، وقال عمر بن عبدالعزيز والأوزاعي: لا يصلى على الفاسق، ووافقهما أبوحنيفة في الباغي والمحارب، ووافقهما الشافعي في قول له في قاطع الطريق. والحق أن من قال كلمة الشهادة فله ما للمسلمين، ومنه صلاة الجنازة، ولأن عموم شرعية صلاة الجنازة لا يخص منه أحد من أهل كلمة الشهادة إلا بدليل، نعم يستحب للامام، وكذا لأهل العلم والصلحاء والأتقياء خاصة أن يتركوا الصلاة على الفاسق، سيما تارك الصلاة والمديون والغال وقاتل نفسه زجرا للناس. يدل على ذلك امتناعه - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة على الغال والمديون، وأمرهم بالصلاة عليهما بقوله: صلوا على صاحبكم. ويدل عليه أيضا حديث الذي قتل نفسه بمشاقص، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أما أنا فلا أصلي عليه، ولم ينههم عن الصلاة عليه. (وإن عمل الكبائر) قال ابن مالك: هذا يدل على أن من أتى الكبائر لا يخرج عن الإسلام، وأنها لا تحبط الأعمال الصالحة، يعني خلافا للمبتدعة فيهما. (رواه أبوداود) أي من طريق مكحول عن أبي هريرة في باب الغزو، مع أئمة الجور من كتاب الجهاد، وأخرجه أيضا في باب إمامة البر والفاجر من كتاب الصلاة مختصرا بإسناده في الجهاد على ما في بعض النسخ. ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي في المعرفة والسنن الكبرى (ج3 ص121)، وأخرجه أيضا الدارقطني (ص158) قال الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص27): ضعفه أبوداود بأن مكحولا لم يسمع من

(7/114)


أبي هريرة. وقال الدارقطني: مكحول لم يسمع من أبي هريرة، ومن دونه ثقات. وقال البيهقي: إسناده صحيح إلا أن فيه انقطاعا بين مكحول وأبي هريرة. قال ابن الهمام بعد ذكر كلام الدارقطني: وحاصله أنه من مسمى الإرسال عند الفقهاء، وهو مقبول عندنا، وقد روي هذا المعنى من عدة طرق للدارقطني وأبي نعيم والعقيلي، كلها مضعفة من قبل بعض الرواة. وبذلك يرتقي إلى درجة الحسن عند المحققين، وهو الصواب- انتهى. وقال ابن حجر: الحديث وإن كان مرسلا لكنه اعتضد بفعل السلف. قلت: في كلام ابن الهمام نظر لا يخفى على من له وقوف على طريق الحديث، وكلام الأئمة فيه. والحديث أخرجه الدارقطني أيضا من حديث الحارث عن علي، ومن حديث علقمة والأسود عن عبدالله، ومن حديث مكحول أيضا عن واثلة، ومن حديث أبي الدرداء من طرق كلها، كما قال الحافظ واهية جدا. قال العقيلي: ليس في هذا المتن إسناده يثبت. ونقل
?الفصل الثالث?
1132- (10) عن عمرو بن سلمة قال: (( كنا بماء ممر الناس، يمر بنا الركبان نسألهم: ما للناس، ما للناس؟
ابن الجوزي عن أحمد أنه سئل عنه، فقال ما سمعنا به. وقال الدارقطني: ليس فيها شيء يثبت. قال الحافظ: وللبيهقي في هذا الباب أحاديث كلها ضعيفة غاية الضعف. وأصح ما قيل حديث مكحول عن أبي هريرة على إرساله، يعني انقطاعه. وقال أبوأحمد الحاكم: هذا حديث منكر. وقد أطال الزيلعي الكلام في هذا الحديث في نصب الراية (ج2 ص26- 28).

(7/115)


1132- قوله: (عن عمرو بن سلمة) بكسر اللام. قال الفتني في المغني: سلمة كله بفتح اللام إلا عمرو بن سلمة الجرمي إمام قومه، وبني سلمة القبيلة من الأنصار فبكسرها- انتهى. قال الحافظ في الفتح: عمرو بن سلمة مختلف في صحبته، ففي هذا الحديث أن أباه وفد. وفيه إشعار بأنه لم يفد معه. وأخرج ابن مندة من طريق حماد بن سلمة عن أيوب ما يدل على أنه وفد أيضا، وكذلك أخرجه الطبراني، وقال في تهذيب التهذيب: وفد أبوه على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان عمرو يصلي بقومه في عهده وهو صغير لم يصح له سماع، ولا رواية. وروي من وجه غريب أنه أيضا وفد مع أبيه روى عن أبيه، وعنه أبوقلابة الجرمي وغيره. قلت: روى ابن مندة في كتاب الصحابة حديثه من طريق صحيحة، وهي رواية الحجاج بن المنهال عن حماد بن سلمة عن أيوب عن عمرو بن سلمة قال: كنت في الوفد الذين وفدوا على الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا تصريح بوفادته. وقد روى أبونعيم في الصحابة أيضا من طرق ما يقتضي ذلك. وقال ابن حبان: له صحبة. وقال في التقريب: صحابي صغير نزل البصرة. وقال ابن عبدالبر في الاستيعاب (ج2 ص446) أدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان يؤم قومه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان أقرؤهم للقرآن. وقد قيل: إنه قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أبيه، ولم يختلف في قدوم أبيه. وقال ابن حزم في المحلى (ج2 ص218) : قد وجدنا لعمرو بن سلمة هذا صحبة ووفادة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أبيه -انتهى. وأبوه سلمة بفتح السين وكسر اللام ابن قيس. وقيل: نفيع الجرمي بفتح الجيم وسكون الراء صحابي، ما له في البخاري سوى هذا الحديث، وكذا ابنه. (كنا بماء) أي ساكنين بمحل ماء. قال الطيبي: بماء خبر كان وقوله: (ممر الناس) أي عليه، صفة لماء أو بدل منه، أي نازلين بمكان فيه ماء يمر الناس عليه. قال الحافظ: يجوز في ممر الحركات الثلاث – انتهى.

(7/116)


(يمر بنا) استئناف أو حال من ضمير الاستقرار في الخبر. (الركبان) بضم الراء جمع الراكب للبعير خاصة، ثم اتسع فيه فأطلق على من ركب دابة. (نسألهم) أي نقول لهم. (ما للناس ما للناس) بالتكرار مرتين أي أي شيء حدث للناس كناية عن ظهور دين الإسلام، والتكرار لغاية التعجب. وقال الطيبي: سؤاله هذا يدل على
ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله أوحي إليه، أوحي إليه كذا. فكنت أحفظ ذلك الكلام، فكأنما يغري في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح فيقولون: أتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم،

(7/117)


حدوث أمر غريب، ولذا كرروه وقالوا: (ما هذا الرجل) كناية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يدل على سماعهم منه نبأ عجيبا، فيكون سؤالهم عن وصفه بالنبوة، ولذلك وصفوه بالنبوة، كذا قاله الطيبي، أي هذا الرجل الذي نسمع منه نبأ عجيبا أي ما وصفه. وقال الحافظ: أي يسألون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن حال العرب معه. (فيقولون) أي الركبان. (يزعم) أي الرجل يعني يقول. ( أوحي إليه كذا) هكذا في جميع النسخ الموجودة عندنا، وكذا في جامع الأصول (ج6 ص376). والذي في البخاري أوحى الله. (بلفظ الجلالة بدل إليه) ، كذا أي آية كذا أو سورة كذا. قال الطيبي: كناية عن القرآن. ووقع لغير أبي ذر أو أوحى الله كذا، أي بزيادة لفظ "أو" وهو للشك من الراوي، يريد به حكاية ما كانوا يخبرونهم به ما سمعوه من القرآن. وفي المستخرج لأبي نعيم فيقولون: نبي يزعم أن الله أرسله وأن الله أوحى إليه كذا وكذا. (فكنت أحفظ ذلك الكلام) أي الذي ينقلونه عنه، ولأبي داود: وكنت غلاما حافظا، فحفظت من ذلك قرآنا كثيرا. ( فكأنما يغري في صدري) بضم التحتية وفتح الغين المعجمة وتشديد الراء المهملة على بناء المجهول من التغرية، وهو الإلصاق بالغراء وهو الصمغ، أي كأنما يلصق في صدري، ونسبها الحافظ في الفتح للإسماعيلي، قال: ورجحها عياض. قال القاري: ما وقع في أصل نسخ المشكاة الحاضرة فهي رواية الإسماعيلي، وكذا حققه المحقق الشيخ ابن حجر في شرح صحيح البخاري. وقيل: بسكون الغين وفتح الراء من الإغراء. وقيل: بفتح التحتية وسكون الغين وفتح الراء على بناء المعلوم من غيري بالكسر يغري بالفتح، أي يلصق بالغراء، والغراء بالمد والقصر ما يلصق به الأشياء، ويتخذ من أطراف الجلود والسمك، وفي الصحاح: إذا فتحت الغين قصرت، وإذا كسرت مددت. وفي رواية الكشمهيني: يقر بضم الياء وفتح القاف وتشديد الراء من القرار. وفي رواية عنه يقرى بزيادة ألف مقصورة، أي يجمع من قريت

(7/118)


الماء في الحوض، أي جمعته، والبعير يقرى العلف في شدقه، أي يجمعه. وفي رواية الأكثرين: يقرأ مجهولا بسكون القاف آخره همزة مضمومة من القراءة، أي يجمع من قرأ بمعنى جمع، يقال للمرأة ما قرأت بسلى قط، أي لم تجمع في بطنها ولدا. وقال الشاعر: هجان اللون لم يقرأ جنينا. (وكانت العرب) أي ما عدا قومه عليه السلام. والمراد أكثرهم. (تلوم) بفتح التاء واللام والواو المشددة. وأصله بتائين فحذفت إحداهما تخفيفا، أي تنتظر وتتربص. (الفتح) أي فتح مكة يعنى النصرة والظفر على قومه. (فيقولون) تفسير لقوله "تلوم". أنث الضمير أولا باعتبار الجماعة، وجمع ثانيا باعتبار المعنى. (وقومه) أي قريشا، وهو منصوب على المعية. (ظهر عليهم) أي
فهو نبي صادق. فلما كانت وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم، قال: جئتكم والله من عند النبي حقا، فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا. فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنا. فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا مني، لما كنت أتلقى من الركبان. فقدموني بين أيديهم، وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت علي بردة كنت إذا سجدت تقلصت عني، فقالت امرأة من الحي:

(7/119)


غلب على قومه. (فهو نبي صادق) إذ لا يتصور غلبته عليهم كذلك إلا بمحض المعجزة الخارقة للعادة القاضية بأنه لا يظهر عليهم لضعفه وقوتهم. (فلما كانت وقعة الفتح) في رمضان سنة ثمان من الهجرة. (بادر) أي سارع وسابق. (بدر أبي قومي) أي غلبهم وسبقهم. قال الطيبي: قوله "بدر" من باب المبالغة، أي بادر أبي القوم فبدرهم أي غلبهم في البدار بالكسر أي المبادرة. وقال العيني: قوله: بادر أي أسرع، وكذا قوله: بدر، يقال بدرت إلى شيء وبادرت، أي أسرعت. (فلما قدم) أي أبي من عند النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ في الفتح، والعيني في العمدة: هذا يشعر بأنه ما وفد مع أبيه، ولكن لا يمنع أن يكون وفد بعد ذلك. (قال) أي لهم (جئتكم والله من عند النبي حقا) قال الطيبي: هذا حال من الضمير العائد إلى الموصول، أعنى الألف واللام في النبي - صلى الله عليه وسلم - على تأويل الذي نبي حقا- انتهى. أو حال كونه محقا، قاله ابن حجر، أو حق هذا القول حقا، قاله القاري. (فقال).. أي النبي - صلى الله عليه وسلم - قولا من جملته. (فإذا حضرت الصلاة) أي وقتها. (فليؤذن أحدكم) أي خياركم خير لكم. فلا ينافي ما تقدم من حديث ابن عباس: ليؤذن لكم خياركم؛ لأن هذا لبيان لأفضل، وذلك لبيان الأجزاء، قاله القاري. (فليؤمكم) كذا في جميع النسخ الحاضرة أي بالفاء. والذي في البخاري وليؤمكم أي بالواو، وكذا أي بالواو نقله المجد بن تيمية في المنتقى، والزيلعي في نصب الراية، والجزري في جامع الأصول (ج6 ص387). فالظاهر أن ما وقع في المشكاة خطأ من النساخ. (أكثركم قرآنا) ولأبي داود: قالوا يا رسول الله! من يؤمنا؟ قال أكثركم جمعا للقرآن. (فنظروا) أي في الحي. (فلم يكن أحد أكثر) بنصبه قال القاري: وفي نسخه بالرفع، أي فلم يوجد أحد أكثر. (لما كنت أتلقى) أي القرآن من التلقي، وهو التلقن والأخذ. (فقدموني بين أيديهم) أي للإمامة. (وأنا ابن ست أو سبع سنين) وللنسائي: وأنا

(7/120)


ابن ثمان سنين. ولأبي داود: وأنا ابن سبع سنين أو ثمان سنين. (وكانت علي بردة) شمله مخططة. وقيل: كساء أسود مربع فيه صفر تابسه الأعراب. وفي رواية لأبي داود: وعلي بردة لى صغير صفراء. وفي أخرى: كنت أؤمهم في بردة موصلة فيها فتق. (تقلصت عني) بقاف ولام مشددة وصاد مهملة، أي انجمعت
ألا تغطون عنا أست قارئكم؟ فاشتروا، فقطعوا لي قميصا، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص)).
وانضمت وارتفعت عني لقصرها وصغرها وضيقها وفتقها حتى يظهر شيء من عورتي. وفي رواية أبي داود: تكشفت عني. وفي أخرى: خرجت أستى. (ألا) بتخفيف اللام فالهمزة للإنكار. (عنا) أي عن قبلنا أو عن جهتا. (أست قارئكم) بهمزة وصل أي دبره وعجزه، ولأبي داود: فقالت امرأة من النساء واروا عنا عورة قارئكم. قال في لسان العرب: الستة والأست معروفة، وهومن المحذوف المجتبلة له ألف الواصل الجوهري والأست العجز، وقد يراد به حلقة الدبر، وأصله سته على فعل بالتحريك يدل على ذلك أن جمعه أستاه مثل جمل وأجمال. (فاشتروا) مفعوله محذوف أي ثوبا. ولأبي داود: فاشتروا لي قميصا عمانيا بضم العين مخففا نسبه إلى عمان من البحرين. (فرحي) أي مثل فرحي. (بذلك القميص) إما لأجل حصول التستر وعدم تكلف الضبط وخوف الكشف، وإما فرح به كما هو عادة الصغار بالثواب الجديد. وزاد أبوداود في رواية له: قال عمرو بن سلمة فما شهدت مجمعا من جرم إلا كنت إمامهم. والحديث فيه دليل على أن الأحق بالإمامة الأقرأ. وأن المراد بالأقرأ في حديث أبي مسعود وأبي مسعود وأبي سعيد السابقين الأكثر جمعا للقرآن لا الأحسن قراءة والأكثر علما وفقها. وفي تقديم عمرو بن سلمة وهو ابن سبع سنين، أو ثمان سنين، دليل على جواز إمامة الصبي المميز للمكلفين في النافلة والفريضة. وقد اختلف الناس فيه: فممن أجاز ذلك الحسن البصري وإسحاق بن راهوية والبخاري، والشافعي وله في الجمعة قولان: قال في الأم: لا تجوز. وقال في الإملاء:

(7/121)


تجوز، وكرهه عطاء والشعبي ومالك والأوزاعي والثوري وأحمد، وإليه ذهب أصحاب الرأي. قال في المرقاة: في الحديث دليل على جواز إمامة الصبي. وبه قال الشافعي، وعنه في الجمعة قولان: وقال مالك وأحمد لا يجوز إمامة الصبي، وكذا قال أبوحنيفة: واختلف أصحابه في النفل، فجوزه مشائخ بلخ، وعليه العمل عندهم وبمصر والشام، ومنعه غيرهم وعليه العمل بما وراء النهر- انتهى. وقال الحافظ في الفتح: وعن أبي حنيفة وأحمد روايتان، والمشهور عنهما الاجزاء في النوافل دون الفرائض، واستدل من منع إمامة الصبي بأنه متنفل لعدم وجوب الصلاة عليه، ولا يجوز اقتداء المفترض به، أي بالمتنفل؛ لأن صلاة الإمام متضمنة لصلاة المقتدي صحة وفسادا، لقوله عليه السلام: الإمام ضامن. ولا شك أن الشيء يتضمن ما هو دونه لا ما هو فوقه، فلم يجز اقتداء البالغ بالصبي، وأجيب بأن انتفاع وجوب الصلاة على الصبي لا يستلزم عدم صحة إمامته، لما تقدم من صحة صلاة المفترض خلف المتنفل في باب القراءة. وسيأتي أيضا. وأما قوله عليه السلام: "الإمام ضامن" فقد سبق بيان معناه ووجه عدم صحة الاستدلال به على مدعاهم في باب فضل الأذان، واستدلوا أيضا بما روى عن ابن مسعود قال: لا يؤم الغلام حتى تجب عليه الحدود، وعن ابن عباس قال: لا يؤم الغلام حتى يحتلم. أخرجهما الأثرم في سننه، وأثر ابن عباس أخرجه عبدالرزاق عنه

(7/122)


مرفوعا. قال الحافظ في الفتح: اسناده ضعيف وأجيب عنه بأنه من قول الصحابي وللاجتهاد فيه مسرح، فلا يكون حجة سيما وقد ورد ما يدل على خلافه، وهو حديث عمرو بن سلمة الجرمي الذي نحن بصدد شرحه، واحتج ابن حزم على عدم الصحة بأنه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يؤمهم أقرأهم. قال: فعلى هذا إنما يؤم من يتوجه إليه الأمر، والصبي ليس بمأمور؛ لأن القلم رفع عنه، فلا يؤم كذا قال، ولا يخفى فساده؛ لأنا نقول: المأمور من يتوجه إليه الأمر من البالغين بأنهم يقدمون من اتصف بكونه أكثر قرآنا فبطل ما احتج به، كذا في الفتح قال الحنيفة: ومن وافقهم حديث عمرو هذا لاحجة فيه على صحة إمامة الصبي؛ لأنه لم يرد أن ذلك كان عن أمره - صلى الله عليه وسلم - ولا عن علمه وتقريره وإنما قدموه باجتهادهم، ورد بأن دليل الجواز وقوع ذلك في زمن الوحي ولا يقرر فيه على فعل ما لا يجوز، سيما في الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام، وقد نبه - صلى الله عليه وسلم - بالوحي على القذى الذي كان في نعله، فلو كان إمامة الصبي لا تصح لنزل الوحي بذلك. وقد استدل أبوسعيد وجابر بأنهم كانوا يعزلون والقرآن ينزل، والوفد الذين قدموا عمرا كانوا جماعة من الصحابة. قال ابن حزم في المحلى (ج4 ص218) بعد رواية الحديث: فهذا فعل عمرو بن سلمة، وطائفة من الصحابة معه لا يعرف لهم من الصحابة مخالف فأين الحنفيون والمالكيون المشنعون بخلاف الصحابة، إذا وافق تقليدهم وهم أترك الناس له لا سيما من قال منهم أن ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع. وقد وجدنا لعمرو هذا صحبة ووفادة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أبيه- انتهى. وقال الحافظ في الفتح: لم ينصف من قال: إنهم فعلوا ذلك باجتهادهم ولم يطلع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك؛ لأنها شهادة نفي، ولأن زمن الوحي لا يقع التقرير فيه على ما لا يجوز، كما استدل أبوسعيد وجابر لجواز العزل، لكونهم فعلوه عهد النبي - صلى الله عليه وسلم

(7/123)


-، ولو كان منهيا عنه لنهي عنه في القرآن - انتهى. وأجابوا أيضا بما ذكر الخطابي في المعالم (ج1 ص169) : عن أحمد بن حنبل أنه كان يضعف أمر عمرو بن سلمة، وأنه قال: مرة دعه ليس بشيء بين، وبأنه لم يخرج البخاري حديث عمرو هذا في باب إمامة العبد والمولى وولد البغي والأعرابي والغلام الذي لم يحتلم، ولم يستدل به على إمامة غير البالغ، بل احتج لذلك بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: يؤمهم أقرأهم لكتاب الله. والظاهر أنه فعل ذلك؛ لأنه رأى حديث عمرو غير بين في الدلالة على ذلك فتوقف فيه كما توقف أحمد، فقد نقل أيضا عنه أنه قال: "لا أدري ما هذا" فلعله لم يتحقق بلوغ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورد بأن عمرو بن سلمة، هذا صحابي. وقد روى ما يدل على أنه وفد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم، وحديثه هذا صحيح، وظاهر في الدلالة على إمامة الصبي، كما تقدم وجه الاستدلال به، فلا معنى لتضعيف أمره والتوقف في الاستدلال به على جواز إمامة غير البالغ للمكلف. وأجابوا أيضا بأن عمرو بن سلمة كان عند إمامته لقومه بالغا، ثم اختلفوا فقال قائل وهو
رواه البخاري.
1133- (11) وعن ابن عمر، قال: (( لما قدم المهاجرون الألون المدينة، كان يؤمهم

(7/124)


ابن القيم، كما صرح في البدائع (ج4 ص91): أن رواية: "أنه كان له سبع سنين" فيه رجل مجهول، فهو غير صحيح. وقال بعضهم: إن العمر المذكور في الحديث هو لتلقينه القرآن من الركبان لا لإمامته. وقد وقع التقصير من الراوي في التعبير حيث جعله عمر إمامته. قال في فيض الباري (ج2 ص 218) : والجواب عندي إن في القصة تقديما وتأخيرا، فما ذكره من عمره، هو عمر تعلمه القرآن دون عمر إمامته، كما يعلم من مراجعة كتب الرجال. وقال في (ج4 ص113) قوله: "فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين" فيه تصور إذ عمره المذكور عند تحقيق كان لأخذ القرآن لا لإمامته. وهكذا بيعته أيضا كان بعد ما بلغ الحلم. وقد قصر الراوي في التعبير- انتهى بلفظه. ورد بأنه لا دليل على أن عمرو بن سلمة كان قد بلغ الحلم عند إمامته لقومه، بل تبطله الروايات المصرحة بكونه غير بالغ عند تقديم قومه له لإمامة الصلاة، فلا يلتفت إلى قولهم، لكونه دعوى مجردة عن البرهان. وأما قول ابن القيم بأن الرواية المذكورة غير صحيحة، فهو صادر عن الغفلة؛ لأنها مخرجة في صحيح البخاري. وأما ما قال صاحب الفيض: إن القصة وقع فيها تقديم وتأخير وأن العمر المذكور في الحديث كان لأخذه القرآن لا لإمامته. ففيه أنه ادعاء محض. ونسبه الوهم والقصور إلى الراوي من غير حجة وبينة، وقد راجعنا كتب الرجال فلم نجد فيها شيئا يدل على ما ادعاه، ولا يمكن لمن يدعي ذلك أن يأتي عليه بنقل قوي أو ضعيف أبدا. وأما القدح في الحديث بأن فيه كشف العورة في الصلاة، وهو لا يجوز. ففيه أنه يحتمل أن يكون ذلك قبل علمهم بالحكم، فلا يعترض بذلك على من استدل بقصة عمرو هذه على جواز إمامة غير البالغ فتأمل. (رواه البخاري) في غزوة الفتح. وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي.

(7/125)


1133- قوله: (لما قدم) أي من مكة. (المهاجرون الأولون) أي الذين سبقوا بالهجرة إلى المدينة، وقدموا أولا قبل قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - (المدينة) بالنصب على الظرفية، لقوله "قدم" كذا في جميع النسخ للمشكاة. وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج6 ص 378) ونسبه إلى البخاري وأبي داود. والذي في البخاري في إمامة العبد من كتاب الصلاة العصبة موضعا بقباء. وفي رواية أبي داود: لما قدم المهاجرون الأولون نزلوا العصبة. قال الحافظ: أي المكان المسمى بذلك، وهو بإسكان الصاد المهملة بعدها موحدة. واختلف في أوله فقيل: بالفتح. وقيل: بالضم. ثم رأيت في النهاية: ضبطه بعضهم بفتح العين والصاد المهملتين. قال أبوعبيد البكرى: لم يضبطه الأصيلي في روايته، والمعروف المعصب بوزن محمد بالتشديد وهوموضع بقباء. (كان يؤمهم) أي المهاجرين،
سالم مولى أبي حذيفة، وفيهم عمر، وأبوسلمة بن عبدالأسد.

(7/126)


ومن أسلموا من أهل المدينة. (سالم) بالرفع اسم كان. (مولى أبي حذيفة) هو ابن عتبة بن ربيعة بن عبدشمس ابن عبد مناف القرشي، كان من فضلاء الصحابة من المهاجرين الأولين، صلى القبلتين وهاجر الهجرتين جميعا، وكان إسلامه قبل دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم للدعاء فيها إلى الإسلام، هاجر مع امرأته سهلة بنت سهل بن عمرو إلى أرض الحبشة، ثم قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة، فأقام بها حتى هاجراإلى المدينة. وشهد بدرا وأحدا والخندق والحديبية والمشاهد كلها، وقتل يوم اليمامة شهيدا، وهو ابن ثلاث أو أربع وخمس سنة. يقال: اسمه مهشم. وقيل: هشيم. وقيل: هاشم. وكان سالم المذكور مولى زوج أبي حذيفة الأنصارية، فأعتقه وكانت إمامته بهم قبل أن يعتق، وإنما قيل له مولى أبي حذيفة؛ لأنه لما أعتقته مولاته زوج أبي حذيفة تولى أبا حذيفة ولازمه وتبناه أبوحذيفة، فلما نهوا عن ذلك قيل له مولاه، واستشهد سالم باليمامة في خلافة أبي بكر. قال الذهبي: سالم مولى أبي حذيفة من كبار البدريين، مشهور كبير القدر. يقال له سالم بن معقل، وكان من أهل فارس من اصطخر. وقيل: إنه من العجم من سبي كرمان، وكان يعد في قريش لتبني أبي حذيفة له، ويعد في العجم لأصله، ويعد في المهاجرين لهجرته، ويعد في الأنصار لأن معتقته أنصارية، ويعد من القراء؛ لأنه كان أقرأهم أي أكثرهم قرآنا. وقال ابن عبدالبر: كان من فضلاء الموالى ومن خيار الصحابة وكبارهم. وههنا في البخاري زيادة لم يذكرها المصنف وهو قوله: "وكان أكثرهم قرآنا"، وفيه إشارة إلى سبب تقديمهم له مع كونهم أشرف منه. وفي رواية للطبراني، كما في مجمع الزوائد (ج2 ص64)؛ لأنه كان أكثرهم قرآنا. (وفيهم) أي وفي الذين كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة. (عمر) بن الخطاب. (وأبوسلمة بن عبد الأسد) هو عبدالله بن عبد الأسد بن هلال بن عبدالله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي زوج أم سلمة قبل

(7/127)


النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أخا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخا حمزة من الرضاعة أرضعته ثويبة مولاة أبي لهب أرضعت حمزة، ثم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أبا سلمة. وأمه برة بنت عبدالمطلب بن هاشم عمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان ممن هاجر بإمرأته أم سلمة إلى أرض الحبشة، ثم شهد بدرا بعد أن هاجر الهجرتين، وجرح يوم أحد جرحا اندمل، ثم انتقض، فمات منه، وذلك لثلاث مضين من جمادي الآخرة سنة ثلاث من الهجرة، واستخلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المدينة حين خرج إلى غزوة ذي العشيرة، وكانت في السنة الثانية من الهجرة وهو ممن غلبت عليه كنيته، وتزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعده زوجته أم سلمة. وهذه الجملة أىقوله: " وفيهم عمرو أبوسلمة" ليست للبخاري، بل هي لأبي داود. والحديث رواه البخاري في باب استقضاء الموالى واستعمالهم من كتاب الأحكام بلفظ: قال ابن عمر كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجد قباء، فيهم أبوبكر وعمر وأبوسلمة وزيد. (أي ابن حارثة) وعامر بن ربيعة. (أي العنزي مولى عمر). وقد استشكل ذكر أبي بكر الصديق فيهم إذ في الحديث أن ذلك كان قبل مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم -
رواه البخاري.
1134- (12) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة لا ترفع لهم صلاتهم فوق رؤسهم شبرا: رجل أم قوما وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأخوان

(7/128)


وأبوبكر كان رفيقه وصاحبه في الهجرة. ووجهه البيهقي بأنه يحتمل أن يكون سالم استمر يؤمهم بعد أن تحول النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، ونزل بدار أبي أيوب قبل بناء مسجده بها، فيحتمل أن يقال فكان أبوبكر يصلي خلفه إذا جاء إلى قباء، واستدل بإمامة سالم بهؤلاء الجماعة على جواز إمامة العبد، ولذلك أورده المصنف في باب الإمامة تبعا للبخاري والمجد بن تيمية. ووجه الدلالة منه إجماع كبار الصحابة القرشيين على تقدم سالم عليهم. ويدل عليه أيضا ما روى الشافعي في مسنده وعبد الرزاق عن ابن أبي ملكية أنه كان يأتي عائشة هو وأبوه وعبيد بن عمير والمسور بن مخرمة وناس كثير فيؤمهم أبوعمر ومولى عائشة، وهو يومئذ غلام لم يعتق. وروى البيهقي عن هشام بن عروة عن أبيه أن أبا عمر وذكوان كان عبدا لعائشة فأعتقه وكان يقوم بها شهر رمضان يؤمها وهو عبد. قال الحافظ: وإلى صحة إمامة العبد ذهب الجمهور، وخالف مالك فقال: لا يؤم الأحرار إلا إن كان قارئا وهم لا يقرؤن فيؤمهم إلا في الجمعة؛ لأنها لا تجب عليه، وخالفه أشهب واحتج بأنها تجزئه إذا حضرها. وقال العيني: قال أصحابنا تكره إمامة العبد لإشتغاله بخدمة مولاه، وأجازها أبوذر وحذيفة وابن مسعود، ومن التابعين ابن سيرين والحسن وشريح والنخعي والشعبي والحكم، ومن الفقهاء الثوري وأبوحنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال مالك: تصح إمامته في غير الجمعة. وفي رواية : لا يؤم إلا إذا كان قارئا، ومن خلفه من الأحرار لا يقرؤن ولا يؤم في جمعة ولا عيد. وفي المبسوط: إن إمامته جائزة وغيره أحب ولو اجتمع عبد فقيه وحر غير فقيه، فثلاثة أوجه: أصحها أنهما سواء، ويترجح قول من قال: العبد الفقيه أولى، لما أن سالما كان يؤم المهاجرين الأولين في مسجد قباء فيهم عمر وغيره؛ لأنه كان أكثرهم قرآنا- انتهى كلام العيني باختصار يسير. وقال القاري في إمامة سالم مع وجود عمر دلالة قوية على مذهب من يقدم الأقرأ

(7/129)


على الأفقه. (رواه البخاري) فيه نظر؛ لأن اللفظ المذكور ليس للبخاري، وقد ذكرنا سياقه الذي في كتاب الأحكام ولفظه: في أبواب الإمامة لما قدم المهاجرون الأولون العصبة موضعا بقباء قبل مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة وكان أكثرهم قرآنا. والحديث أخرجه أبوداود والبيهقي أيضا.
1134- قوله: (لا ترفع لهم صلاتهم فوق رؤسهم شبرا) أي قدر شبر، وهوكناية عن عدم القبول كما تقدم. (وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط) لعدم إطاعتها إياه فيما أراد منها، ولهذا قال "باتت"؛ لأن ذلك في العادة يكون في الليل إلا فلا يختص الحكم بالليل، قاله السندي. (وأخوان) بفتحتين أي نسبا أو دينا بأن يكونا
متصارمان)). رواه ابن ماجه.
(27) باب ما على الإمام
?الفصل الأول?
1135- (1) عن أنس، قال: (( ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من النبي - صلى الله عليه وسلم -،
مسلمين. (متصارمين) أي متقاطعان أي فوق ثلاث أو في الباطل. والحاصل أن المراد هو التقاطع الغير الجائز دينا وعد الأخوين ثالثا باعتبار أن المراد بالثلاثة الأنواع الثلاثة لا النفر الثلاثة، فليتأمل، قال الطيبي: متصارمان من الصرم، وهو القطع. وإخوان أعم من أن يكونا من جهة النسب أو الدين، لما ورد: لا يحل لمسلم أن يصارم مسلما فوق ثلاث أي يهجره ويقطع مكالمته- انتهى. (رواه ابن ماجه) قال العراقي: وإسناده حسن. وقال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. وقال ميرك: إسناده حسن. قال النووي. ورواه ابن حبان في صحيحه- انتهىكلام ميرك.

(7/130)


(باب ما على الإمام) أي هذا باب في بيان الحقوق التي للمؤتمين على الإمام، وأهمها التخفيف في الصلاة رعاية لحالهم من المرض والسقم والحاجة وعدم التطويل الذي ينفرهم عن حضور الجماعة. وقال القاري: ما على الإمام أي من مراعاة المأمومين بالتخفيف في الصلاة، قال في اللمعات: ينبغي أن يعلم أنه ليس المراد بالتخفيف وترك التطويل أن يترك سنة القراءة والتسبيحات ويتهاون في أدائها، بل أن يقتصر على قدر الكفاية في ذلك، مثل أن يقتصر على قراءة المفصل بأقسامها على ما عين منها في الصلاة، ويكتفي على ثلاث مرات من التسبيح بأدائها، كما ينبغي مع رعاية القومة والجلسة، وأكثر ما يراد بتخفيف الصلاة الوارد في الأحاديث تخفيف القراءة- انتهى. وسيأتي مزيد بيان لذلك في شرح أحاديث الباب، وما هو الراجح في معنى التخفيف المأمور المطلوب في حق الإمام.
1135- قوله: (ما صليت وراء إمام قط) أي مع طول عمره، فإنه آخر من مات بالبصرة من الصحابة سنة إحدى وتسعين، وله من العمر مائة وثلاث سنين. (أخف) صفة لإمام (صلاة) بالنصب على التمييز. (ولا أتم) عطف على سابقه، يعني صلاته - صلى الله عليه وسلم - كانت خفيفة غير طويلة، ومع خفتها كانت تكون تامة كاملة. فقد روى مسلم من حديث أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان من أخف الناس صلاة في تمام، ولهما عن أنس أيضا: كان يوجز في الصلاة ويتم: وقيل. يمكن أن يكون المعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يطيل الصلاة حين يرى رغبة الصحابة في التطويل ونشاطهم لذلك ويخفف أخرى عند وجود عذر أو داع يدعوا إلى التخفيف وترك الطويل والظاهر هو

(7/131)


المعنى الأول. قيل: خفة الصلاة عبارة عن عدم تطويل قراءتها فوق ما ورد، وعين في الأحاديث وعن تخفيف القعود وتمامها عبارة عن الإتيان بجميع الأركان والواجبات والسنن وعن إتمام الركوع والسجود، فقد روى النسائي من حديث زيد بن أسلم عن أنس قال: ما صليت وراء إمام أشبه صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إمامكم هذا. (يعني عمر بن عبدالعزيز) قال زيد: وكان عمر بن عبدالعزيز يتم الركوع والسجود ويخفف القيام والقعود. وروى أبوداود والنسائي من حديث أنس أيضا قال: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشبه صلاة برسول الله من هذا الفتى، يعني عمر بن عبدالعزيز، فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحات. فقد علم من هذين الحديثين أن المراد بخفة الصلاة تخفيف القيام والقعود، وبتمامها اتمام الركوع والسجود، وعلم أيضا أن من سبح في الركوع والسجود عشر تسبيحات لا يكون فعله مخالفا لما وصف به أنس صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خفتها مع التمام. وقيل: التخفيف أمر نسبي، فرب طويل يكون قصيرا بالنسبة إلى أطول منه، والقصير يكون طويلا بالنسبة إلى أقصر منه، فكانت صلاته - صلى الله عليه وسلم - خفيفة، ومع خفتها تكون تامة ولا اشكال فيه. وقيل: المراد أن تطويله - صلى الله عليه وسلم - يرى بالنسبة إلى صلاة الآخرين في غاية الخفة، يعني لو كان غيره - صلى الله عليه وسلم - يقرأ مثل هذه القراءة يرى طويلا ويورث الملالة بخلافها عنه - صلى الله عليه وسلم -، فإنه كان يورث ذوقا ونشاطا ولذة وحضور بالاستماع عنه - صلى الله عليه وسلم - من جهة حسن الصوت وجودة الأداء وبروز الأنوار وظهور الأسرار. وأيضا كان في قراءته - صلى الله عليه وسلم - سرعة وطي لسان وزمان يتم في أدنى ساعة كثيرا منها مع كونها مجودة مرتلة مبينة. وقال ابن القيم في كتاب الصلاة بعد ذكر حديث الباب وحديث أنس عند البخاري بلفظ: "كان

(7/132)


يوجز الصلاة ويكملها" ما لفظه: فوصف أي أنس صلاته - صلى الله عليه وسلم - بالإيجاز والتمام، والإيجاز هو الذي كان يفعله لا الايجاز الذي يظنه من لم يقف على مقدار صلاته، فان الإيجاز أمر نسبي اضافي راجع إلى السنة لا إلى شهوة الإمام ومن خلفه، فلما كان يقرأ في الفجر بالستين إلى المائة. (أي آية) كان هذا الايجاز بالنسبة إلى ست مائة إلى ألف ولما قرأ في المغرب بالأعراف كان هذا الايجاز بالنسبة إلى البقرة، ويدل على هذا أن أنسا نفسه قال في الحديث الذي رواه أبوداود والنسائي: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشبه صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا الفتى، يعني عمر بن عبدالعزيز، فحرزنا في ركوعه عشر تسبيحات الخ. وأنس أيضا هو القائل في الحديث المتفق عليه: إني لا آلو أن أصلي بكم كما كان رسول الله يصلي بنا. قال ثابت كان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى يقول القائل: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى يقول القائل: قد نسي، وأنس هو القائل هذا، وهو القائل: "ما صليت وراء إمام أخف صلاة ولا أتم من صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -"، وحديثه لا يكذب
وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أمه)).

(7/133)


بعضه بعضا- انتهى. (وإن كان) إن هذه هي المخففة من المثقلة، واسمها ضمير الشأن، وكان خبرها أي أنه كان (ليسمع بكاء الصبي) فيه جواز ادخال الصبيان المساجد وإن كان الأولى تنزيه المساجد عمن لا يؤمن حدثه فيها؛ لحديث "جنبوا مساجدنا صبيانكم" الخ. أخرجه ابن ماجه بسند ضعيف جدا. وقال الحافظ: فيه أي في الاستدلال بحديث الباب على جواز إدخال الصبيان المساجد نظر، لاحتمال أن يكون الصبي كان مخلفا في بيت بقرب من المسجد بحيث يسمع بكاءه. (فيخفف) بين مسلم في رواية ثابت عن أنس محل التخفيف ولفظه: "فيقرأ بالسورة القصيرة". وبين أبي شيبة من طريق عبدالرحمن بن سابط مقدارها ولفظه: أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ في الركعة الأولى بسورة طويلة فسمع بكاء صبي فقرأ بالثانية بثلاث آيات، وهذا مرسل، كذا في الفتح. وذكر العيني حديث ابن سابط بلفظ "قرأ في الركعة الأولى بسورة نحو ستين آية فسمع بكاء الصبي" الخ. (مخافة أن تفتن أمه) بضم المثناة الفوقية مبنيا للمفعول من الثلاثي ومن الأفعال والتفعيل أي تلتهى عن صلاتها لاشغال قلبها ببكائه، زاد عبدالرزاق من مرسل عطاء أو تتركه فضيع. وقوله: "مخافة بفتح الميم منصوب على التعليل مضاف إلى أن المصدرية، أي خوفا من افتتان أمه. وفي نسخة أبي ذر من البخاري "أن يفتن" بفتح المثناة التحتية وكسر ثالثه مبنيا للفاعل، وأمه بالنصب على المفعولية. وذكره الجزري في جامع الأصول (ج6 ص374) بلفظ "مخافة أن تفتن أمه" أي من الافتنان، وفي الحديث دلالة على كمال شفقة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه ومراعاة أحوال الكبير مهم والصغير، وعلى مشروعية إيثار تخفيف الصلاة للأمر يحدث. قال السندي: وربما يؤخذ منه أن الإمام يجوز له مراعاة من دخل المسجد بالتطويل ليدرك الركعة كما له أن يخفف لأجلهم ولا يسمى مثله رياء بل هو إعانة على الخير وتخليص عن الشر- انتهى. وقال الخطابي في المعالم (ج1 ص102) : فيه دليل على أن

(7/134)


الإمام وهو راكع إذا أحس برجل يريد الصلاة معه كان له أن ينتظره راكعا ليدرك فضيلة الركعة في الجماعة؛ لأنه إذا كان له أن يحذف من طول الصلاة لحاجة الإنسان في بعض أمور الدنيا كان له أن يريد فيها لعبادة الله، بل هو أحق بذلك وأولى. وتعقبه القرطبي بأن في التطويل ههنا زيادة عمل في الصلاة غير مطلوب بخلاف التخفيف والحذف فإنه مطلوب- انتهى. قال ابن بطال: وممن أجاز ذلك الشعبي والحسن وعبدالرحمن بن أبي ليلى. وقال آخرون: ينظر ما لم يشق على أصحابه، وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثور. وقال مالك: لا ينتظر؛ لأنه يضر من خلفه، وهو قول الأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي، ذكره العيني. وقال الحافظ في هذه المسألة خلاف عند الشافعية وتفصيل. وأطلق النووي عن المذهب استحباب ذلك. وفي التجريد للمحاملى: نقل كراهيته عن الجديد، وبه قال الأوزاعي ومالك وأبوحنيفة وأبويوسف. وقال محمد بن الحسن: أخشى أن يكون شركا- انتهى. قلت: القول بكراهة ذلك لحمله على الرياء وتوهم الشرك فيه غفلة عظيمة من قائله، وتنطع في الدين، وتعمق في الشريعة لا يصح لأهل الورع
متفق عليه.
1136- (2) وعن أبي قتادة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها،
فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه)). رواه البخاري.

(7/135)


والتقوى. فالدين يسر، والله تعالى ما كلفنا فوق وسعنا، ونية الإحسان إلى المسلم نية جميلة حسنة يثاب عليها صاحبها لكونها لله تعالى ولا شك أن في مراعاة الإمام من دخل المسجد بالتطويل ليدرك الركعة من غير أن يشق على أصحابه إعانة له على طاعة مع نية التقرب إلى الله تعالى بتطويل الركن، وليس فيه شائبة الرياء والشرك، كيف وقد روى أحمد وأبوداود عن عبدالله بن أبي أوفي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم. وقد سكت عنه أبوداود والمنذري، وفيه رجل مجهول، وروى هو أيضا وابن خزيمة وابن حبان عن أبي قتادة أنه قال: (أى في بيان حكمة تويل الركعة الأولى) فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى، فأعدل الأقوال عندنا هو ما ذهب إليه أحمد وإسحاق وأبوثور. والله تعالى أعلم. (متفق عليه) فيه نظر؛ لأن مسلما أخرج القطعة الأولى فقط أي إلى قوله: "ولا أتم الصلاة من النبي - صلى الله عليه وسلم -" وأما القطعة الثانية فهي من أفراد البخاري. أخرجه الإسماعيلي مطولا بتمامه. وروى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه والبيهقي من طريق آخر عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد اطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتى مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه"، لفظ البخاري.

(7/136)


1136- قوله: (وأنا أريد إطالتها) جملة حالية. (فأسمع بكاء الصبي) قال العيني: البكاء إذا مددت أردت به الصوت الذي يكون معه، وإذا قصرت أردت خروج الدمع. وههنا ممدود لا محالة لقرينة فأسمع، إذ السماع لا يكون إلا في الصوت. (فأتجوز) أي فأخفف. (في صلاتي) قال الطيبي: أي أخفف كأنه تجاوز ما قصده أي ما قصد فعله لو لا بكاء الصبي، قال: ومعنى التجوز أنه قطع قراءة السورة، وأسرع في أفعاله- انتهى. والأظهر أنه شرع في سورة قصيرة بعد ما أراد أن يقرأ سورة طويلة، كما تقدم من حديث أنس عند مسلم. (مما أعلم) "ما" مصدرية أو موصولة، والعائد محذوف. ومن تعليليه للاختصار، أي من أجل ما أعلم. (من شدة وجد أمه) بفتح الواو وسون الجيم، أي حزنها من وجد له يجد ويجد وجدا أي حزن. وقال ابن سيدة في المحكم: وجد يجد وجدا بالسكون والتحريك حزن- انتهى. ومن بيانية لما. (من بكاءه) تعليلية للوجد. قال الحافظ: وكان ذكر الإمام هنا خرج مخرج الغالب، وإلا فمن كان في معناه يلتحق بها. وفي الحديث دلالة على حضور النساء إلى المساجد مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. (رواه البخاري) أي عن أبي قتادة، وفيه
1137- (3) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلى أحدكم للناس فليخفف، فإن
فيهم السقيم والضعيف والكبير.

(7/137)


نظر؛ لأن السياق الذي ذكره المصنف إنما هو لحديث أنس كما أسلفنا لا لأبي قتادة، وحديث أبي قتادة أخرجه البخاري في موضعين، رواه أولا في باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي بلفظ: إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتى كراهية أن أشق على أمه، ثم رواه في باب خروج النساء إلى المساجد قبيل كتاب الجمعة بلفظ: إني لأقوم إلى الصلاة وأنا أريد أن أطول فيها، والباقي مثله. وقد ظهر بهذا أن المصنف أخطأ في بيان مخرج الحديث، أي في ذكر الصحابي الذي روى الحديث بسياق الكتاب، فكان عليه أن يقول وعنه. (أى عن أنس) مكان وعن أبي قتادة وحديث أبي قتادة، أخرجه أيضا أبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي.

(7/138)


1137- قوله: (إذا صلى أحدكم للناس) أي إماما لهم فرضا أو نفلا أو اللام بمعنى الباء. وفي رواية لمسلم: إذا أمأحدكم الناس. (فليخفف) التخفيف من الأمور الإضافية، فقد يكون الشيء خفيا بالنسبة إلى عادة قوم طويلا بالنسبة لعادة آخرين، فينبغي أن يقتدي بأضعف قومه بشرط أن لا يبلغ الإخلال في الفرئض والواجبات والسنن، فلا بد من التخفيف مع الكمال. قال الحافظ: أولى ما أخذ حد التخفيف من الحديث الذي أخرجه أبوداود والنسائي عن عثمان بن أبي العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: أنت إمام قومك، واقتد أضعفهم، إسناده حسن، وأصله في مسلم- انتهى. وقد تقدم هذا الحديث في باب فضل الآذان. (فإن فيهم السقيم) أي المريض. (والضعيف) أي ضعيف الخلقة. (والكبير) أي في السن. زاد مسلم في رواية: والصغير. وزاد الطبراني من حديث عثمان بن أبي العاص: والحامل والمرضع، وله من حديث عدي بن حاتم: والعابر السبيل. وقوله في حديثي أبي مسعود وعثمان بن أبي العاص الآيتين: ذا الحاجة يشمل الأوصاف المذكورة، وقد وقع أيضا هذا في رواية لمسلم من حديث أبي هريرة وقوله: فإن فيهم الخ تعليل للأمر المذكور. فمقتضاه أنه متى لم يكن فيهم من يتصف بصفة من المذكورات أو كانوا محصورين راضين بالتطويل في مكان لا يدخله غيرهم لم يضر التطويل؛ لانتفاء العلة. لكن قال ابن عبدالبر: إن العلة الموجبة للتخفيف عندي مأمونة؛ لأن الإمام وإن علم قوة من خلفه فإنه لا يدري ما يحدث بهم من حادث شغل، وعارض من حاجة، وآفة من حدث بول أو غيره. وقال اليعمري: الأحكام إنما تناط بالغالب لا بالصورة النادرة، فينبغي للأئمة التخفيف مطلقا، قال وهذا كما شرع القصر في صلاة المسافر، وعلل بالمشقة، وهو مع ذلك يشرع، ولو لم يشق عملا بالغالب؛ لأنه
وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ماشاء )). متفق عليه.
1138- (4) وعمن قيس بن أبي حازم، قال: أخبرني أبومسعود أن رجلا قال: ((والله يا رسول الله!

(7/139)


لا يدري ما يطرأ عليه وهنا كذلك. (فليطول ما شاء) أى في القراءة والركوع والسجود والاعتدال والجلوس بين السجدتين والتشهد. وفي رواية لمسلم: فليصل كيف شاء أي مخففا أومطولا، يعني أنه لا حجر عليه إن شاء طول وإن شاء طول وإن شاء خفف، ولكن لا ينبغي التطويل إلى أن يخرج الوقت أو يدخل في حد الكراهة. وفي مسند السراج: وإذا صلى وحده فليطول إن شاء. والحديث يدل على مشروعية التخفيف للأئمة، وترك التطويل للعلل المذكورة من الضعف والسقم والكبر والحاجة، ويلحق بها ما كان في معناها. واختلفوا في أن الأمر المذكور للوجوب أو الندب. قال القسطلاني: وقد ذهب جماعة كابن حزم وابن عبدالبر وابن بطال إلى الوجوب تمسكا بظاهر الأمر في قوله: فليخفف، وعبارة ابن عبدالبر في هذا الحديث أوضح الدلائل على أن أئمة الجماعة يلزمهم التخفيف لأمره عليه الصلاة والسلام إياهم بذلك، ولا يجوز لهم التطويل؛ لأن في الأمر بالتخفيف نهيا عن التطويل. والمراد بالتخفيف أن يكون بحيث لا يخل بسننها ومقاصدها- انتهى. وقال الشوكاني في النيل: قال ابن عبدالبر: التخفيف لكل إمام أمر مجمع عليه مندوب عند العلماء إليه إلا أن ذلك إنما هو أقل الكمال، وأما الحذف والنقصان فلا لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن نقر الغراب، ورأى رجلا يصلي فلم يتم ركوعه، فقال له : إرجع فصل فإنك لم تصل، وقال: لا ينظر الله إلى من لا يقيم صلبه في ركوعه وسجوده، ثم قال: لا أعلم خلافا بين أهل العلم في استحباب التخفيف لكل من أم قوما على ما شرطنا من الإتمام، وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: لا تبغضوا الله إلى عبادة يطول أحدكم في صلاته حتى يشق على من خلفه- انتهى. (متفق عليه) واللفظ البخاري، وأخرجه أيضا أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص115- 117).

(7/140)


1138- قوله: (وعن قيس بن أبي حازم) بالمهملة والزاى. قال في التقريب: قيس بن أبي حازم البجلي أبوعبدالله الكوفي، ثقة من كبار التابعين مخضرم، ويقال له رؤية. وهو الذي يقال: إنه اجتمع له أن يروي عن العشرة، مات بعد التسعين أو قبلها، وقد جاوز المائة وتغير. وقال في التهذيب: أدرك الجاهلية، ورحل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليباعه فقبض، وهو في الطريق، وأبوه له صحبة، ويقال: إن لقيس رؤية ولم يثبت. وقد أوضح القول في ذلك في الإصابة (ج3 ص271- 272) فارجع إليه. (أخبرني أبومسعود) عقبة بن عمرو الأنصاري البدري. (أن رجلا) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، ووهم من زعم أنه حزم بن أبي بن كعب؛
إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطبل بنا. فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في موعظة أشد غضبا منه يومئذ، ثم قال: إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز،

(7/141)


لأن قصته كانت مع معاذ. (كما روى أبوداود في باب تخفيف الصلاة) لا مع أبي بن كعب. (إني لأتاخر عن الصلاة العداة) أي لا أحضر صلاة الصبح مع الجماعة. وفي رواية للبخاري: عن صلاة الفجر. وإنما خصها بالذكر؛ لأنها تطول فيها القراءة غالبا، ولأن الانصراف منها وقت التوجه لمن له حرفة إليها. (من أجل فلان) يعني إمام مسجد حية أو قبيلته. (مما يطيل بنا) أي من أجل إطالته بنا فما مصدرية، ومن الأولى تعليلية للتأخر والثانية بدل منها. وقال الطيبي: ابتدائية متعلقة بأتأخر، والثانية مع في حيزها بدل منها. والمراد من الإطالة أي في القراءة. وهذه قصة أخرى غير قصة معاذ المتقدمة في باب القراءة في الصلاة. قال الحافظ: أما قصة معاذ فمغايرة لحديث الباب، يعني حديث أبي مسعود هذا؛ لأن قصة معاذ كانت في العشاء وكان الإمام فيها معاذا، وكانت في مسجد بنى سلمة وهذه كانت في الصبح وكانت في مسجد قبا، ووهم من قرأ الإمام المبهم هنا بمعاذ، بل المراد به أبي بن كعب، كما أخرجه أبويعلى بإسناده حسن من رواية عيسى بن جارية عن جابر قال: كان أبي بن كعب يصلي بأهل قبا، فاستفتح سورة طويلة فدخل معه غلام من الأنصار في الصلاة، فلما سمعه استفتحها انفتل من صلاته، فغضب أبي، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشكو الغلام، وأتى الغلام يشكو أبيا، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعرف الغضب في وجهه، ثم قال إن منكم منفرين، فإذا صليتم فأوجزوا، فإن خلفكم الضعيف والكبير والمريض وذا الحاجة. (أشد) بالنصب على الحال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (غضبا) منصوب على التمييز. (منه) أي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو في صلة أشد. (يومئذ) أي يوم أخبر بذلك أي كان اليوم أشد غضبا منه في الأيام الأخر، والمفضل والمفضل عليه وإن كانا واحدا، وهو الرسول؛ لأن الضمير راجع إليه لكن باعتبارين، فهو مفضل باعتبار يومئذ، ومفضل عليه باعتبار سائر

(7/142)


الأيام. وسبب شدة غضبه - صلى الله عليه وسلم -، إما لمخالفة الموعظة لإحتمال تقدم الإعلام بذلك بقصة معاذ، أو للتقصير في تعلم ما ينبغي تعلمه أو لإرادة الاهتمام بما يليقه على أصحابه ليكونوا من سماعه على بال لئلا يعود من فعل ذلك إلى مثله. (إن منكم) أي بعضكم. (منفرين) بصيغة الجمع من التنفير، أي للناس من الصلاة بالجماعة لتطويلكم المورث للملالة والتضجر. ولم يخاطب المطول على التعيين، بل عمم خوف الخجل عليه لطفا به وشفقة على جمل عادته الكريمة. (فأيكم) أي أى واحد منكم. (ما صلى بالناس) أي متلبسا بهم إماما لهم. وكلمة "ما" زائدة، و"صلى" فعل شرط، وزيادة "ما" مع أي الشرطية كثيرة، وفائدتها التوكيد لمعنى الإبهام، وزيادة التعميم، وقيل: "ما" موصوفة منصوبة المحل على المفعول المطلق، أي أيكم أي صلاة صلى. (فليتجوز) جواب الشرط، أي فليخفف في صلاته بهم، يقال: تجوز في صلاته
فإن فيهم الضعيف، والكبير، وذا الحاجة )). متفق عليه.
1139- (5) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( يصلون لكم فإن أصابوا

(7/143)


أي خفف. وفي رواية: فمن صلى بالناس فليخفف. وفي أخرى: فمن أم الناس فليتجوز. (فإن فيهم الضعيف والكبير) أي في السن. وفي رواية للبخاري: فإن فيهم المريض والضعيف. وكأن المراد بالضعيف هنا المريض، وفي رواية المذكورة من يكون ضعيفا في خلقته كالنحيف والمسن، وكل في مريض ضعيف من غير عكس. والحديث يدل على جواز التأخر عن صلاة الجماعة إذا علم من عادة الإمام التطويل الكثير، وعلى جواز الغضب لما ينكر من أمور الدين، وعلى تخفيف الصلاة مراعاة لحال المأمومين. وفيه وعيد على من يسعى في تخلف الغير عن الجماعة. (متفق عليه) أخرجه البخاري في العلم والصلاة والأدب والأحكام، ومسلم في الصلاة، واللفظ المذكور للبخاري في باب تخفيف الإمام في القيام، وإتمام الركوع والسجود. والحديث أخرجه أيضا النسائي في العلم من سننه الكبرى وابن ماجه في الصلاة والبيهقي (ج3 ص115).

(7/144)


1139- قوله: (يصلون) أي الأئمة. (لكم) أي لأجلكم. فللام فيه للتعليل. (فإن أصابوا) في الأركان والشرائط والسنن، قاله الكرمانى. وقال العيني: يعني فإن أتموا، يدل عليه حديث عقبة بن عامر الذي أخرجه الحاكم على شرط البخاري عنه مرفوعا بلفظ: من أم الناس فأتم. وفي نسخة: فأصاب فالصلاة له ولهم، ومن انتقص من ذلك شيئا فعليه ولا عليهم. وأعله الطحاوي بانقطاع ما بين عبدالرحمن بن حرملة وأبي علي الهمداني الراوى عن عقبة- انتهى كلام العينى. قلت: حديث عقبة هذا قال الحاكم في المستدرك (ج1 ص210) بعد روايته: حديث صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، وقد أخرجه أيضا أحمد وأبوداود وغيرهما، قال المنذري في الترغيب: عن أبي على المصري. (الهمداني) قال: سافرنا مع عقبة بن عامر فحضرتنا الصلاة فأردنا أن يتقدمنا، فقال إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من أم قوما فإن أتم فله التمام، ولهم التمام، وإن لم يتم فلهم التمام، وعليه الإثم. رواه أحمد واللفظ له وأبوداود وابن ماجه والحاكم وصححه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، ولفظهما: من أم الناس فأصاب الوقت وأتم الصلاة فله ولهم، ومن انتقص من ذلك شيئا فعليه ولا عليهم. قال المنذري: هو عندهم من رواية عبدالرحمن بن حرملة الأسلمي عن أبي علي المصري. وعبدالرحمن قال أبوحاتم: لا يحتج به، وضعفه يحيى القطان. ولينه البخاري. ووثقة ابن معين، وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي: لم أر له حديثا منكرا، انتهى كلام المنذري، قلت: ووثقه أيضا محمد بن عمرو وابن نمير، وقال الساجي: صدوق يهم في الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات. وروى له مسلم حديثا واحدا في متابعة القنوت. وذكر الحافظ في الفتح حديث عقبة هذا نقلا عن أحمد وأبي داود، وسكت عنه وهذا كله
فلكم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم )).

(7/145)


يدل على أن هذا الحديث عند الذهبي والمنذري والحافظ صحيح أو حسن قابل للاحتجاج، وأنهم لم يروا قول الطحاوي: لا يعرف لعبدالرحمن بن حرملة سماع من أبي علي الهمداني قابلا للالتفات، وكيف يلتفت إلى قوله، وقد رواه عبدالرحمن بن حرملة بلفظ الإخبار عند البيهقي (ج3 ص127) حيث قال: أخبرني أبوعلي الهمداني. (فلكم) أي ثواب صلاتكم. قال الحافظ: زاد أحمد. (وكذا البيهقي) ولهم أي ثواب صلاتهم، وهو يغني عن تكلف توجيه حذفها، يشير إلى ما قال المظهر إنما اقتصر على لكم، إذ يفهم من تجاوز ثواب الإصابة إلى غيرهم ثبوته لهم، وقال القاري: أي لكم ولهم على التغليب؛ لأنه مفهوم بالأولى. وقيل: إن الحديث سيق في خطأ الإمام في إصابته وقت الصلاة. والمعنى فإن أصابوا أي الوقت، قاله ابن بطال والطحاوي واستدلا لذلك بما روى النسائي وغيره عن ابن مسعود بسند حسن مرفوعا: ستدركون أقواما يصلون الصلاة لغير وقتها فإن أدركتموهم فصلوا في بيوتكم للوقت الذي تعرفون، ثم صلوا معهم، واجعلوها سبحة. والظاهر أن المراد به ما هو أعم من ترك إصابة الوقت، ففي رواية لأحمد (ج4 ص145) من حديث عقبة بن عامر المذكور: من أم الناس فأصاب الوقت وأتم الصلاة فله ولهم، ومن انتقص من ذلك شيئا فعليه ولا عليهم، وفي رواية له أيضا (ج4 ص147): فإن صلوا الصلاة لوقتها فأتموا الركوع والسجود فهي لكم ولهم، وإن لم يصلوا الصلاة لوقتها ولم يتموا ركوعها ولا سجودها فهي لكم وعليهم. والرواية الأولى أخرجها البيهقي أيضا. (وإن اخطأوا) أي ارتكبوا الخطيئة في صلاتهم ككونهم محدثين مثلا. قال الحافظ: ولم يرد به الخطأ المقابل للعمد؛ لأنه لا إثم فيه. (فلكم) أي ثوابها. (وعليهم) أي عقابها فخطأ الإمام في بعض غير مؤثر في صحة صلاة المأموم إذا أصاب، فلو ظهر بعد الصلاة أن الإمام جنب أو محدث أو في بدنه نجاسة فلا تجب إعادة الصلاة على المؤتم به. قال البغوي في شرح السنة: فيه دليل على أنه إذا صلى

(7/146)


بقوم محدثا إنه تصح صلاة المأمومين خلفه، وعليه الإعادة. ويدل عليه أيضا ما ذكر المجد بن تيمية في المنتقى أنه صح عن عمر أنه صلى بالناس وهو جنب ولم يعلم فأعاد ولم يعيدوا، وكذلك عثمان وروي عن علي من قوله- انتهى. وإليه وذهب الشافعي، فإن المؤتم عنده تبع للإمام في مجرد الموافقة لا في الصحة والفساد، وبه قال مالك وأحمد. وظاهر قوله "أخطأوا" يدل على ما هو أعم مما ذكر البغوي، كالخطأ في الأركان كما قال القاري فإن أصابوا أي أتوا بجميع ما عليهم من الأركان والشرائط، وإن اخطأوا بأن أخلوا ببعض ذلك عمدا أو سهوا- انتهى. فيكون فيه دليل على صحة الائتمام بمن يخل بشيء من الصلاة ركنا كان أوغيره إذا أتم المأموم، وهو وجه للشافعية بشرط أن يكون الإمام هو الخليفة أو نائبه. وحمله الطحاوى وغيره من الحنفية على الخطأ في إصابة الوقت، كما تقدم؛ لأن المؤتم عندهم تبع للإمام مطلقا، يعني في الصحة والفساد فيجب عندهم الإعادة على الإمام والمؤتمين جميعا لو ظهر أنه صلى محدثا أو جنبا، واستدلوا لذلك بقوله
رواه البخاري. وهذا الباب خال عن الفصل الثاني.
?الفصل الثالث?
1140- (6) عن عثمان بن أبي العاص، قال: (( آخر ما عهد إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أممت قوما فأخف بهم الصلاة )). رواه مسلم. وفي رواية له: أن سول الله- صلى الله عليه وسلم -، قال له: ((أم قومك، قال: قلت: يا رسول الله ! إني لأجد في نفسي شيئا، قال: ادنه، فأجلسني بين يديه، ثم وضع كفه في صدري

(7/147)


عليه السلام الإمام ضامن، وقد تقدم الكلام على معناه في باب فضل الأذان. والراجح عندي هو ما ذهب إليه الشافعي ومن وافقه من الأئمة قال المهلب: في الحديث جواز الصلاة خلف البر والفاجر إذا خيف منه، يعني إذا كان صاحب شوكة. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا أحمد والبيهقي (ج3 ص127) وابن حبان في صحيحه، ولفظه: سيأتي أو سيكون أقوام يصلون الصلاة، فإن أتموا فلكم وإن انتقصوا فعليهم ولكم. (وهذا الباب خال) أي في المصابيح. (عن الفصل الثاني) أي عن الحسان وهو دفع لوهم الإسقاط ورفع لورود الاعتراض على قوله الفصل الثالث من غير الثاني.

(7/148)


1140- قوله: (آخر ما عهد) بكسر الهاء أي أوصى. (إلي) وأمرني به. (إذا أممت) بالتخفيف. (فأخف) بفتح الفاء المشددة، ويجوز كسرها أمر من الإخفاف. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج4 ص218) وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص116). (وفي رواية له) أي لمسلم. (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بفتح أن. (قال له) أي لعثمان. (أم قومك) أمر على وزن مد. (إني أجد في نفسي شيئا) قال الطيبي: أي أرى في نفسي ما لا أستطيع على شرائط الإمامة وإيفاء حقها لما في صدري من الوساوس، وقلة تحملى القرآن والفقه، فيكون وضع اليد على ظهره وصدره لإزالة ما يمنعه منها، وإثبات ما يقويه على احتمال ما يصلح لها من القرآن والفقه. وقال النووي: قيل: يحتمل أنه أراد الخوف من حصول شيء من الكبر والإعجاب له يتقدمه على الناس، فأذهبه الله تعالى ببركة كف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعائه، يحتمل أنه أراد الوسوسة في الصلاة، فإنه كان موسوسا، ولا يصلح للإمامة الموسوس. فقد ذكر مسلم في الصحيح عن عثمان هذا قال: قلت: يا رسول الله! إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتى يلبسها علي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذاك شيطان. يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله، واتفل عن يسارك ثلاثا، ففعلت ذلك فأذهبه الله تعالى- انتهى. وقد تقدم هذا الحديث في باب الوسوسة. (أدنه) الدنو، وهو بهاء السكت لبيان ضم النون. (فأجلسني) من الإجلاس. وفي بعض النسخ من صحيح مسلم: فجلسني أي
بين ثدي، ثم قال: تحول، فوضعها في ظهري بين كتفي، ثم قال: أم قومك فمن أم قوما فليخفف، فإن فيهم الكبير، وإن فيهم المريض، وإن فيهم ذا الحاجة. فإذا صلى أحدكم وحده فليصل كيف شاء)).
1141- (7) وعن ابن عمر، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بالتخفيف ، ويؤمنا بالصافات)). رواه النسائي.
(28) باب ما على المأموم من المتابعة وحكم المسبوق
?الفصل الأول?

(7/149)


1142- (1) عن البراء بن عازب، قال: (( كنا نصلي خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا قال: سمع الله لمن حمده، لم يحن
بتشديد اللام. (بين ثديي) بتشديد الياء على التثنية، وكذا قوله: كتفي. (تحول) أي انقلب. (فوضعها) أي كتفه. (فإن فيهم الكبير) في السن. (وإن فيهم الضعيف) كالصبيان والنسوان أو ضعيفي الأبدان وإن لم يكن مريضا أو كبيرا. (وإن فيهم ذا الحاجة) أي المستعجلة. وفي تكرير "إن" إشارة إلى صلاحية كل للعلة. وهذه الرواية أخرجها أحمد (ج4 ص216، 218) وابن ماجه بنحوها من غير ذكر قصة وضع اليد على الصدر والظهر، وأخرجها البيهقي (ج3 ص118) مع القصة، وأخرجها أبوداود والنسائي وأحمد أيضا (ج4 ص217) بلفظ قال: قلت يا رسول الله ! اجعلني إمام قومي، فقال أنت إمامهم. واقتد بأضعفهم.
1141- قوله: (يأمرنا بالتخفيف) أي بتخفيف الصلاة إذا كنا إماما. والمراد التخفيف في القراءة على ما ذكر وعين منها في الأحاديث. (ويؤمنا بالصافات) لرغبة المقتدين به سماع قراءته، وقوتهم على التطويل بحيث يكون هذا بالنظر إليهم تخفيفا، فرجع الأمر إلى أنه ينبغي له أن يراعي حالهم، قاله السندي. وقال الطيبي: قبل بينهما أي بين أمره بالتخفيف وبين إمامته لهم بالصافات تناف، وأجيب: بأنه إنما يلزم إذا لم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضيلة يختص بها، وهو أن يقرأ الآيات الكثيرة في الأزمنة اليسيرة- انتهى. وقيل: يحمل على أنه فعل ذلك أحيانا لبيان الجواز، وإليه إأشار النسائي حيث بوب على هذا الحديث: باب الرخصة للإمام في التطويل بعد: باب ما على الإمام من التخفيف. (رواه النسائي) وكذا البيهقي (ج3 ص118).
(باب ما على المأموم من المتابعة) للإمام. (وحكم المسبوق) بالجر عطف على ما.
1142- قوله: (لم يحن) بفتح التحتانية وسكون المهملة وضم النون وكسرها، يقال حنا يحنو وحنى

(7/150)


أحد منا ظهره حتى يضع النبي - صلى الله عليه وسلم - جبهته على الأرض)). متفق عليه.
1143- (2) وعن أنس، قال: (( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فلما قضى صلاته أقبل علينا بوجهه، فقال: أيها الناس! إني أمامكم فلا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، ولا بالقيام، ولا بالإنصراف،
يحني معا من بابي دعا ورمى، أي لم يقوس من حنيت العود وحنوته، أي عطفته وثنيته. (أحد منا ظهره) أي لم يثنه من القومة قاصدا للسجود. (حتى يضع النبي - صلى الله عليه وسلم - جبهته على الأرض) وفي رواية للبخاري: حتى يقع النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجدا ثم نقع سجودا بعده، أي بحيث يتأخر ابتداء فعلهم عن ابتداء فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويتقدم ابتداء فعلهم قبل فراغه من السجود، إذ أنه لا يجوز التقدم على الإمام، ولا التخلف عنه. ولا دلالة فيه على أن المأموم لا يشرع في الركن حتى يتمه الإمام خلافا لابن الجوزي. ووقع في حديث عمرو بن حريث عند مسلم: وكان لا يحني رجل منا ظهره حتى يستتم ساجدا، ولأبي يعلى من حديث أنس: حتى يتمكن النبي - صلى الله عليه وسلم - من السجود. قال العيني: معنى هذا كله ظاهر في أن المأموم يشرع في الركن بعد شروع الإمام فيه وقبل الفراغه منه. وقال الحافظ بعد ذكر هذين الحديثين: وهذا أوضح في انتفاء المقارنة- انتهى. قال ابن دقيق العيد: حديث البراء يدل على تأخر الصحابة في الإقتداء عن فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يتلبس بالركن الذي ينتقل إليه لا حين يشرع في الهوي إليه. ولفظ الحديث الآخر يدل على ذلك أعني قوله: فإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا فإنه يقتضي تقدم ما يسمى ركوعا وسجودا- انتهى. قلت: أحاديث البراء وعمرو بن حريث وأنس وما في معناها كلها دليل على أنه يجب على المأموم متابعة الإمام في أفعاله، وأن السنة أن يتخلف المأموم في الانتقالات عن الإمام، أي لا يقارن الإمام في الهوي إلى الركن،

(7/151)


بل يتأخر عن الشروع في الهوي حتى يشرع الإمام في الركن الذي انتقل إليه، وإليه ذهب الشافعي، وهو الحق. وحمل الحنفية هذه الأحاديث على أنه أمرهم بذلك حين بدن، فخشي أن يتقدموا عليه. وفيه أن هذا الحمل محتاج إلى دليل. والحديث فيه دليل على جواز النظر إلى الإمام لأجل اتباعه في انتقالاته في الأركان. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب السجود على سبعة أعظم. والحديث أخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج2 ص92).
1143- قوله: (فلما قضى صلاته) أي أداها وفرغ منها. (إني إمامكم) يعني وسمي الإمام إماما ليؤتم به ويقتدي به على وجه المتابعة. (فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالإنصراف) أي لتسليم. وحاصله أن المتابعة واجبة في الأحوال المذكورة. واستدل به بعضهم على جواز المقارنة. ورد بأنه دل منطوقه على منع المسابقة وبمفهومه على طلب المتابعة. وأما المقارنة فمسكوت. قال النووي: المراد بالإنصراف السلام- انتهى.
فإني أراكم أمامي ومن خلفي)). رواه مسلم.
1144- (3) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( لا تبادروا الإمام: إذا كبر فكبروا، وإذا
قال: ولا الضآلين، فقولوا: آمين، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا:
اللهم لك الحمد)). متفق عليه،

(7/152)


ويحتمل أن يكون المراد النهي عن الانصراف من مكان الصلاة قبل الإمام لفائدة أن يدرك المؤتم الدعاء أو لاحتمال أن يكون الإمام قد حصل له في صلاته سهو، فيذكر وهو في المسجد ويعود له، كما في قصة ذي اليدين، أو لكي تنصرف النساء إلى بيوتهن قبل الرجال، كما قيل في بيان علة النهي في حديث أنس المتقدم في باب الدعاء في التشهد بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حضهم على الصلاة، ونهاهم أن ينصرفوا قبل انصرافه من الصلاة. قال الطيبي في شرح حديث الباب: يحتمل أن يراد بالانصراف الفراغ من الصلاة، وأن يراد الخروج من المسجد. قال القاري: الاحتمال الثاني في غاية السقوط لعدم المناسبة بالسابق واللاحق، وأيضا لم يعرف النهي عن الخروج من المسجد قبل خروجه عليه السلام- انتهى. قلت: الاحتمال الثاني يؤيده حديث أنس الذي ذكرناه آنفا، ويؤيده أيضا حديث أم سلمة السابق في باب الدعاء في التشهد بلفظ: أن النساء في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كن إذا سلمن من المكتوبة قمن، وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن صلى من الرجال ما شاء الله. فإذا قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام الرجال. (أمامي) بفتح الهمزة أي قدامي أي خارج الصلاة. (ومن خلفي) أي داخلها بالمشاهدة على طريق خرق العادة. والمعنى كما أراكم من أمامي أراكم من خلفي. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والبيهقي (ج2 ص91- 92).

(7/153)


1144- قوله: (لا تبادروا الإمام) أي لا تسبقوه بالتكبير والركوع والسجود والرفع منهما والقيام والسلام. (إذا كبر فكبروا) أي للإحرام أو مطلقا فيشمل تكبير النقل. زاد أبوداود: ولا تكبروا حتى يكبر. (وإذا قال: ولا الضآلين) أي فقال آمين. (فقولوا آمين) أي مقارنا لتأمين الإمام لما تقدم أنه ليسن مقارنة تأمينه لتأمين إمامه. (وإذا ركع) أي أخذ في الركوع. (فاركعوا) زاد أبوداود: ولا تركعوا حتى يركع. (أى حتى يأخذ في الركوع لا حتى يفرغ منه، كما يتبادر من اللفظ) وإذا سجد. (أى أخذ في السجود) فاسجدوا ولا تسجدوا حتى يسجد. قال الحافظ: هي زيادة حسنة تنفى احتمال إرادة المقارنة من قوله: إذا كبر فكبروا. وقال العيني والحافظ أيضا: رواية أبي داود هذه صريحة في انتفاء التقدم والمقارنة. (وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد) استدل به من قال: إن وظيفة الإمام التسميع، ووظيفة المأموم التحميد؛ لأن ظاهره التوزيع والتقسيم وهو ينافي الشركة، وقد تقدم الكلام عليه في باب الركوع. (متفق عليه) أي على أصل الحديث. وإلا فاللفظ المذكور لمسلم
إلا أن البخاري لم يذكر: وإذا قال: ولا الضآلين.
1145- (4) وعن أنس: (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركب فرسا، فصرع عنه، فجحش شقة الأيمن، فصلى صلاة من الصلوات

(7/154)


دون البخاري. وللحديث طرق وألفاظ عند البخاري ومسلم: منها ما أخرجه البخاري في باب إقامة الصف من تمام الصلاة بلفظ: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون. وأقيموا الصف في الصلاة، فإن إقامة الصف من حسن الصلاة، وهو عند مسلم أيضا إلا أنه لم يذكر قوله: وأقيموا الصف الخ، وزاد: فإذا كبر فكبروا. واستدل بقوله: ولا تختلفوا عليه، لأبي حنيفة وموافقيه على منع صلاة المفترض خلف المتنفل؛ لأن اختلاف النيات داخل تحت هذا القول لعمومه إطلاقه. وأجيب عنه بأنه محمول على الاختلاف في الأفعال الظاهرة فقط دون الباطنة، وهى ما لا يطلع المأموم عليه كالنية؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد بين وجوه الاختلاف وفصلها بقوله: فإذا كبر فكبروا الخ. ويلحق ما لم يذكر قياسا عليه، ومنها ما أخرجه البخاري أيضا في باب إيجاب التكبير بلفظ: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون. والحديث أخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص92). (إلا أن البخاري لم يذكر: وإذا قال ولا الضآلين) يعني مع قوله: فقولوا آمين. وفيه أنه ليس في طريق من طرقه عند البخاري قوله: لا تبادروا الإمام كما عرفت فهذا اللفظ أيضا من إفراد مسلم.

(7/155)


1145- قوله: (ركب فرسا) أي بالمدينة، كما في حديث جابر عند أبي داود. (فصرع عنه) بضم الصاد وكسر الراء المهملة أي أسقط عن الفرس. قال في القاموس: الصرع ويكسر الطرح على الأرض كالمصرع، وقد صرعه كمنعه. (فجحش) بجيم مضمومة ثم حاء مهملة مكسورة أي خدش، وهو قشر جلد العضو. وقيل: الجحش فوق الخدش. (شقة) بكسر الشين المعجمة أي جانبه (الأيمن) وفي رواية عبدالرزاق: ساقه الأيمن، وليست مصحفة كما زعم بعضهم لما يوافقها رواية البخاري في باب الصلاة في السطوح، والخشب بلفظ: فجحشت ساقه أو كتفه، فيقال: رواية الساق مفسرة لمحل الخدش من الشق الأيمن؛ لأن الخدش لم يستوعبه، ولا ينافي ذلك ما وقع في حديث جابر عند أبي داود: فصرعه على جزم النخلة، فانفكت قدمه، لاحتمال وقوع الأمرين، قال الحافظ: وأفاد ابن حبان أن هذه القصة كانت في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة. (فصلى) أي في مشربة لعائشة كما في حديث جابر (صلاة من الصلوات) أي المكتوبات. قال القاري: وهو ظاهر العبارة. وقيل: من
وهو قاعد، فصلينا وراءه قعودا، فلما انصرف قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به،

(7/156)


النوافل. وفي رواية: فحضرت الصلاة. قال القرطبي: اللام للعهد ظاهرا، والمراد الفرض؛ لأنها التي عرف من عادتهم أنهم يجتمعون لها بخلاف النافلة. وحكى عياض عن ابن القاسم أنها كانت نفلا. وتعقب بأن في رواية جابر عند أبي داود الجزم بأنها فرض. قال الحافظ: لكن لم أقف على تعيينها إلا أن في حديث أنس: فصلى بنا يومئذ فكأنها نهارية الظهر أو العصر. (وهو قاعد) جملة حالية. قال عياض: يحتمل أن يكون أصابه من السقطة رض في الأعضاء منعه من القيام. ورد هذا بأنه ليس كذلك، وإنما كانت قدمه - صلى الله عليه وسلم - انفكت، كما ذكرنا من حديث جابر، وكذا وقع في رواية أنس عند أحمد والإسماعيلي. (فصلينا وراءه قعودا) كذا في هذه الرواية: إنهم صلوا خلفه قاعدين، وهي رواية مالك عن الزهري عن أنس. وظاهرها يخالف ما روى البخاري وغيره من حديث عائشة بلفظ: فصلى جالسا وصلى وراءه قوم قياما، فأشار إليهم أن أجلسوا. والجمع بينهما أن في رواية أنس هذه اختصارا، وكأنه اقتصر على ما آل إليه الحال بعد أمره لهم بالجلوس. ووقع في رواية حميد عن أنس عند البخاري في باب الصلاة في السطوح بلفظ: فصلى بهم جالسا وهم قيام: فلما سلم قال: إنما جعل الإمام الخ. وفيهم أيضا اختصار؛ لأنه لم يذكر قوله: لهم اجلسوا. والجمع بينهما أنهم ابتدؤا الصلاة قياما، فأوما إليهم بأن يقعدوا فقعدوا، فنقل كل من الزهري وحميد أحد الأمرين وجمعتهما عائشة، وكذا جمعهما جابرعند مسلم. وجمع القرطبي بين الحديثين باحتمال أن يكون بعضهم قعد من أول الحال، وهو الذي حكاه أنس، وبعضهم قام حتى أشار إليه بالجلوس، وهذا الذي حكته عائشة. وتعقب باستبعاد قعود بعضهم بغير إذنه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه يستلزم النسخ بالاجتهاد؛ لأن فرض القادر في الأصل القيام. وجمع آخرون بينهما باحتمال تعدد الواقعة. وفيه بعد؛ لأن حديث أنس إن كانت القصة فيه سابقه لزم منه ما ذكرنا من النسخ بالاجتهاد، وإن كانت

(7/157)


متأخرة لم يحتج إلى إعادة قول: إنما جعل الإمام ليؤتم به الخ؛ لأنهم قد امتثلوا أمره السابق وصلوا قعودا لكونه قاعدا، كذا في الفتح. (فلما انصرف) أي من الصلاة. (إنما جعل) بصيغة المجهول. (الإمام) يحتمل أن يكون جعل بمعنى سمي فيتعدى إلى مفعولين أحدهما الإمام القائم مقام الفاعل، والثاني محذوف أي إنما جعل الإمام إماما، ويحتمل أن يكون بمعنى صار، أي إنما صير الإمام إماما. وقيل: جعل بمعنى نصب واتخذ فلا حاجة إلى التقدير، وكلمة "إنما" تفيد جعل الإمام مقصورا على الإنصاف بكونه مؤتما به لا يتجاوز المؤتم إلى مخالفته. (ليؤتم به) أي ليقتدي به بالوجه المشروع. وقوله: فإذا صلى قائما الخ بيان لذلك والائتمام الاقتداء والاتباع، أي جعل الإمام إماما ليقتدي به ويتبع، ومن شأن التابع أن لا يسبق متبوعه ولا يساويه ولا يتقدم عليه في موقفه بل يراقب أحواله، ويأتي على أثرها بنحو فعله، ومقتضى ذلك أن لا يخالفه في شيء من الأحوال التي فصلها الحديث
فإذا صلى قائما فصلوا قياما، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله
لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون.

(7/158)


ولا في غيرها قياسا، ولكن ذلك مخصوص بالأفعال الظاهرة ولا يشمل الباطنة، وهي ما لا يطلع عليه المأموم كالنية لما سيأتي. وبالجملة الإئتمام يقتضي متابعة المأموم لإمامه في أحوال الصلاة، فتنتفى المقارنة والمسابقة والمخالفة. قال النووي: متابعة الإمام واجبة في الأفعال الظاهرة. وقد نبه عليها في الحديث فذكر الركوع وغيره بخلاف النية، فإنها لم تذكر، وقد خرجت بدليل آخر، وكأنه يعني قصة معاذ المقدمة في باب القراءة وستأتي أيضا في باب من صلى صلاة مرتين. ويمكن أن يستدل بهذا الحديث على عدم دخولها؛ لأنه يقتضي الحصر في الاقتداء به في أفعاله لا في جميع أحواله كما لو كان محدثا أو حامل نجاسة، فإن الصلاة خلفه تصح لمن لم يعلم حاله على الصحيح عند العلماء. ثم مع وجوب المتابعة ليس شيء منها شرطا في صحة القدوة إلا تكبيرة الإحرام. واخنلف في السلام، والمشهور عند المالكية اشتراطه مع الإحرام والقيام من التشهد الأول، وخالف الحنفية فقالوا: تكفي المقارنة، قالوا لأن معنى الإئتمام الامتثال ومن فعل مثل فعل إمامه عد ممتثلا سواء أوقعه معه أو بعده، وسيأتي حديث أبي هريرة الدال على تحريم التقدم على الإمام في الأركان. (فإذا صلى قائما فصلوا قياما) مصدر أي ذوي قيام أو جمع أي قائمين ونصبه على الحالية. (وإذا ركع فاركعوا) وفي رواية للبخاري: فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا فالتكبير هنا مقدر مراد. (وإذا رفع) أي رأسه. (فارفعوا) وفي رواية للبخاري: إذا رفع فارفعوا وإذا سجد فاسجدوا. وهو يتناول الرفع من الركوع والرفع من السجود وجميع السجدات. (ربنا لك الحمد) كذا في جميع النسخ: "لك الحمد" بغير الواو. ووقع في البخاري بإثباتها. قال الحافظ: كذا لجميع الرواة في حديث أنس بإثبات الواو إلا في رواية الليث عن الزهري في باب إيجاب التكبير، فللكشمهينى بحذف الواو، ورجح إثبات الواو بأن فيها معنى زائدا لكونها عاطفة على محذوف، وقد تقدم

(7/159)


الكلام في معناه. (فإذا صلى) أي الإمام (جالسا) أي بعذر. (فصلوا جلوسا) جمع جالس وهو حال بمعنى جالسين. (أجمعون) بالرفع على أنه تأكيد لضمير الفاعل في قوله "صلوا" أو للضمير المستكن في الحال وهو جلوسا. قال الحافظ: كذا في جميع الطرق في الصحيحين بالواو. وقال القسطلاني: ولأبي ذر و أبي الوقت: أجمعين بالنصب على الحال أي من ضمير الفاعل في قوله "صلوا" أو من ضمير"جلوسا"، أي صلوا جالسين مجتمعين، وليس منصوبا على أنه تأكيد لجلوسا؛ لأنه نكرة فلا يؤكد. وقيل: هو منصوب على التأكيد، لكن تأكيد لضمير منصوب مقدر كأنه قال: أعينكم أجمعين. ولا يخفى ما فيه من البعد. والحديث فيه فوائد: منها: وجوب متابعة الإمام، فيكبر للإحرام بعد فراغ الإمام منه، فإن شرع فيه قبل فراغه لم تنعقد؛ لأن الإمام لا يدخل في

(7/160)


الصلاة إلا بالفراغ من التكبير، فالاقتداء به في أثناءه اقتداء بمن ليس في صلاة بخلاف الركوع والسجود ونحوهما، فيركع بعد شروع الإمام في الركوع، فإن قارنه أو سبقه أساء ولا تبطل، وكذافي السجود، ويسلم بعد سلامه، فإن سلم قبله بطلت إلا أن ينوي المفارقة أو معه فلا تبطل؛ لأنه تحلل فلا حاجة فيه للمتابعة بخلاف السبق، فإنه مناف للاقتداءن قاله القسطلاني. ومنها: مشروعية ركوب الخيل والتدرب على أخلاقها والتأسي لمن يحصل له سقوط، ونحوه بما اتفق للنبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الواقعة، وبه الأسوة الحسنة. ومنها: أنه يجوز عليه - صلى الله عليه وسلم - ما يجوز على البشر من الأسقام ونحوها من غير نقص في مقداره بذلك بل ليزداد قدره رفعة ومنصبه جلالة. ومنها: استحباب العيادة عند حصول الخدشة ونحوها. ومنها: جواز الصلاة جالسا عند العجز. ومنها: أنه يجب متابعة الإمام في القعود. وأنه يقعد المأموم مع قدرته على القيام، واختلف الأئمة فيه: فذهب إلى ظاهر الحديث إسحاق والأوزاعي وداود وبقية أهل الظاهر، قالوا: يجب القعود خلف الإمام القاعد ولو كان القوم أصحاء. قال ابن حزم في المحلى (ج3 ص69) : وبهذا نأخذ إلا فيمن يصلي إلى جنب الإمام يذكر الناس ويعلمهم تكبير الإمام، فأنه مخير بين أن يصلي قاعدا وبين أن يصلي قائما، وذهب أحمد إلى التفصيل، فقال: إذا ابتدأ إمام الحي الراتب الصلاة قاعدا لمرض يرجي برءه فحينئذ يصلون وراءه جلوسا ندبا ولو كانوا قادرين على القيام وتصح الصلاة خلفه قياما، فالحديث عنده محمول على القعود الأصلي الغير الطارىء، ومقيد بإمام الحي الراتب المرجو زوال مرضه، والأمر بالجلوس فيه للندب، قال: وإذا ابتدأ الإمام الراتب قائما لزم المأمومين أن يصلوا خلفه قياما سواء طرأ ما يقتضي صلاة إمامهم قاعدا أم لا، كما في الأحاديث التي في مرض موته، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرهم بالقعود؛ لأنه ابتدأ إمامهم، وهو

(7/161)


أبوبكر، صلاته قائما ثم أمهم - صلى الله عليه وسلم - في بقية الصلاة قاعدا بخلاف صلاته - صلى الله عليه وسلم - بهم في مرضه الأول المذكور في حديث أنس، فإنه ابتدأ صلاته قاعدا فأمرهم بالقعود. وذهب الشافعي وأبوحنيفة وأبويوسف إلى أنه لا يجوز للقادر على القيام أن يصلي خلف القاعد إلا قائما، وهو رواية عن مالك فيما رواه الوليد بن مسلم عنه، قالوا: الأمر بالقعود خلف الإمام القاعد للعذر منسوخ، وناسخه صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالناس في مرض موته قاعدا وهم قيام، وأبوبكر قائم. هكذا قرره الشافعي، ونقله البخاري عن شيخه الحميدي، وهو تلميذ الشافعي، وسيأتي الجواب عن ادعاء النسخ. وذهب مالك في الرواية المشهورة عنه إلى أنه لا يجوز صلاة القادر على القيام خلف القاعد لا قائما ولا قاعدا، وبه قال محمد فيما حكاه الطحاوي عنه قالت المالكية، إمامة الجالس المعذور بمثله وبالقائم خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يصح التقدم بين يديه في الصلاة ولا لعذر ولا لغيره، ورد بصلاته - صلى الله عليه وسلم - خلف عبدالرحمن بن عوف وخلف أبي بكر ثم لو سلم أنه لا يجوز أن يؤمه أحد لم يدل ذلك على منع إمامة القاعد، وقد أم قاعدا جماعة من الصحابة بعده - صلى الله عليه وسلم -، منهم أسيد بن حضير
قال الحميدي: قوله: إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا، هو في مرضه القديم، ثم صلى بعد ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -

(7/162)


وجابر وقيس بن قهد وأنس بن مالك، والأسانيد عنهم بذلك صحيحة. أخرجها عبدالرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وغيرهم، بل ادعى ابن حبان وابن حزم إجماع الصحابة على صحة إمامة القاعد. وقال أبوبكر ابن العربي: لا جواب لأصحابنا عن حديث مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - يخلص عند السبك، واتباع السنة أولى، والتخصيص لا يثبت بالاحتمال. قال: إلا إني سمعت بعض الأشياخ يقول: الحال أحد وجوه التخصيص، وحال النبي - صلى الله عليه وسلم - والتبرك به وعدم العوض عنه يقتضي الصلاة معه على أي حال كان عليها وليس ذلك لغيره، وأيضا فنقص صلاة القاعد عن القائم لا يتصور في حقه، فلا نقص في صلاته عن القائم، والجواب عن الأول رده بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: صلوا كما رأيتموني أصلي، وعن الثاني بأن النقص إنما هو في حق القادر في النافلة، وأما المعذور في الفريضة فلا نقص في صلاته عن القائم. وقال ابن دقيق العيد: وقد عرف أن الأصل عدم التخصيص حتى يدل عليه دليل- انتهى. على أنه يقدح في التخصيص ما تقدم من إمامة جماعة من الصحابة قاعدين بعده - صلى الله عليه وسلم -.......... واستدل بعضهم على دعوى التخصيص بما روى الدارقطني (ص153) والبيهقي (ج3 ص80) عن الشعبي مرفوعا: لا يؤمن أحد بعدي جالسا، وأجيب عن ذلك بأن الحديث باطل؛ لأنه من رواية جابر الجعفى عن الشعبي مرسلا وجابر متروك، وروي أيضا من الرواية مجالد عن الشعبي ومجالد ضعفه الجمهور، وحكى عياض عن بعض مشائخهم: أن إمامة القاعد منسوخة جملة بحديث الشعبي المذكور، وتعقب بأن ذلك يحتاج لو صح إلى تاريخ وهو لا يصح كما قدمنا. (قال الحميدي) بضم الحاء المهملة وفتح الميم هو شيخ البخاري وتلميذ الشافعي، واسمه عبدالله بن الزبير بن عيسى أبي عبيدالله بن الزبير بن عبيدالله بن حميد القرشي الأسدي المكي أبوبكر، ثقة فقيه حافظ، أجل أصحاب ابن عيينة. قال الحاكم : كان البخاري إذا وجد الحديث عند الحميدي

(7/163)


لا يعدوه إلى غيره من الثقة به. وفي الزهرة: روى عنه البخاري خمسة وسبعين حديثا، وهو من أفراد البخاري، مات بمكة سنة تسع عشرة ومائتين. وقيل: بعدها وليس هو الحميدي الذي جمع بين الصحيحين. (هو في مرضه القديم) يعني مرضه الذي كان بسبب سقوطه عن الفرس. وقال القاري: أي حين- آلى من نسائه- انتهى. وفيه أن قصة الإيلاء كانت سنة تسع على ما هو المشهور، وواقعه سقوطه عن الفرس المذكورة في حديث أنس وعائشة وجابر كانت سنة خمس على ما أفاد ابن حبان وجزم به العيني والقسطلاني وصاحب تأريخ الخميس. (ثم صلى بعد ذلك) أي في مرض موته. (النبي - صلى الله عليه وسلم -) حال
جالسا والناس خلفه قيام لم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -.

(7/164)


كونه (جالسا والناس خلفه قيام لم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -) يعني أن الذي يجب به العمل هو ما استقر عليه آخر الأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولما كان آخر الأمرين منه - صلى الله عليه وسلم - صلاته قاعدا والناس وراءه قيام دل على أن ما كان قبله من ذلك مرفوع الحكم ومنسوخ، هذا هو الجواب المشهور عن حديث أنس وما في معناه ممن اختار وجوب القيام خلف الإمام القاعد، وإليه يظهر ميل البخاري حيث ذكر قول شيخه الحميدي هذا بعد إخراج الحديث ولم يتعقبه. وقال في كتاب المرضى بعد إخراج حديث عائشة في قصة السقوط عن الفرس: قال الحميدي: هذا الحديث منسوخ. قال أبوعبد الله. (هو البخاري نفسه)؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - آخر ما صلى صلى قاعدا والناس خلفه قيام – انتهى. قلت: في هذا الجواب نظر من وجوه: منها: أن حديث أنس وما في معناه قانون كلي وتشريع عام للأمة، وما صدر منه - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته واقعة جزئية غير منكشفة الحال، وحكاية حال محتملة لمحامل فلا يدري أنه كان لنسخ الأمر بالقعود خلف الإمام القاعد أو كان لبيان أن الأمر المذكور ليس للوجوب بل للندب، أو كان ذلك لأن إمامهم كان قد ابتدأ الصلاة قائما فأقرهم على القيام إظهارا للفرق بين القعود الأصلي والقعود الطارىء، وبين المرض المرجو الزوال وغير المرجو الزوال، وادعاء النسخ بمثل هذه الواقعة الجزئية لا يخلو عن خفاء بل هو مشكل. قال صاحب فيض الباري: القول بالنسخ لا يعلق بالقلب؛ لأن الحديث مشتمل على أجزاء كثيرة من تشريع عام وضابطة كلية على نحو بيان سنة وسرد معاملة بين الإمام والمأموم، فالقول بنسخ جزء من الأجزاء من البين، وإبقاء المجموع على ما كان ثم بواقعه جزئية تحتمل محامل مما يفضي إلى الاضطبراب ولا يشفي، ولعمرى أنا لو لم نعلم هذه المسألة لما انتقل ذهن أحدنا إلى أن صلاة النبي - صلى الله

(7/165)


عليه وسلم - تلك قاعدا كانت لبيان النسخ وإنما حملناها عليه حفظا للمذهب فقط، وإلا فالجمع بين الحديثين يحصل على مذهب أحمد ولا يحتاج إلى النسخ ألا ترى أن ساداتنا (الحنفية) لما تركوا مسئلة جواز الاستقبال والاستدبار لم يبالوا بوقائع تنقل في هذا وقالوا: إنها وقائع غير منكشفة الحال، وحديث أبي أيوب تشريع عام فلا أدري أنه ما الفرق بين هذين، فذهبوا إلى النسخ ههنا دون هناك- انتهى. ومنها: أن القول بالنسخ مبني على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان الإمام وأن أبا بكر كان مأموما في تلك الصلاة، وقد وقع في ذلك خلاف. قال السندي في حاشية ابن ماجه: قوله: كان أبوبكر يأتم بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. (أى في قصة مرض موته) ظاهره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إماما، وقد جاء خلافه أيضا. وبسبب التعارض في روايات هذا الحديث سقط استدلال من استدل به على نسخ حديث: وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا، وقال في حاشية النسائي بعد ذكر الروايات المختلفة في ذلك ما لفظه: وهذا يفيد الاضطراب في هذه لواقعة، فعلى هذا فالحكم بنسخ ذلك الحكم الثابت بهذه الواقعة المضطربة، لا يخلو عن خفاء. وأجيب بأن هذا الاختلاف ليس بقادح؛ لأن روايات إمامة النبي - صلى الله عليه وسلم - أصح وأرجح، لكونها مخرجة في الصحيحين،

(7/166)


فتقدم على روايات إمامة أبي بكر. ويظهر من صنيع الشيخين أن الراجح عندهما هو إمامة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهما لم يدخلا في صحيحها من طرق حديث عائشة إلا ما فيه إمامة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ثقة رواة الخلاف، وكذا لم يذكرا في صحيحهما حديث أنس المصرح بإمامة أبي بكر، وهو عند أحمد والترمذي والنسائي وأبي داود الطيالسي والطحاوى. وهذا على تقدير اتحاد الواقعة. وأما على ما جزم به ابن حبان وابن حزم والبيهقي والضياء المقدسي وغيرهم من تعدد الواقعة، وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان إماما مرة ومأموما أخرى فلا تعارض أصلا. ومنها: أن هذا مبني على أن الصحابة صلوا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - قياما، ولم يثبت ذلك صريحا بطريق صحيح متصل. وأما ما ذكر الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص42) من كتاب المعرفة للبيهقي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر أن يصلي بالناس في مرضه الذي مات فيه إلى أن قال: فكان عليه السلام بين يدي أبي بكر يصلي قاعدا، وأبوبكر يصلي بصلاته قائما، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، والناس قيام خلف أبي بكر. ففيه أنه لم يذكر إسناده فما لم يعرف حال سنده، وأنه صالح للاحتجاج لا يكون حجة على المخالف. وأما ما قال الحافظ في الفتح نقلا عن الشافعي: إنه أي قيام المأمومين في رواية إبراهيم النخعي عن الأسود عن عائشة وإنه وجد مصرحا به في مصنف عبدالرزاق عن ابن جريج عن عطاء، فذكر الحديث، وفيه فصلى الناس وراءه قياما. ففيه أن رواية عائشة معلقة ورواية عطاء مرسلة. وقد قال أحمد: ليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن وعطاء، فإنهما كانا يأخذان عن كل أحد. وقال ابن المديني: كان عطاء يأخذ عن كل ضرب. وقد نازع أيضا ابن حزم وابن حبان في ثبوت كون الصحابة صلوا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو قاعد قياما غير أبي بكر، واستدل ابن حبان على ذلك بما رواه من طريق أبي الزبير عن جابر قال:

(7/167)


اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبوبكر يسمع الناس تكبيره، قال فالتفت إلينا فرأنا قياما، فأشار إلينا فقعدنا، فلما سلم قال إن كدتم لتفعلون فعل فارس والروم فلا تفعلوا- الحديث. وهو حديث صحيح أخرجه مسلم والنسائي والطحاوى وابن ماجه. قال ابن حبان: وإسماع أبي بكر التكبير لم يكن إلا في مرض موته؛ لأن صلاته في مرضه الأول كانت في مشربة عائشة، ومعه نفر من أصحابه لا يحتاجون إلى من يسمعهم تكبيره، بخلاف صلاته في مرض موته، فإنها كانت في المسجد يجمع كثير من الصحابة فاحتاج أبوبكر أن يسمعهم التكبير- انتهى. وأجاب عنه الحافظ بحمله على حديث أنس على صلاته في مشربة عائشة في مرضه الأول، قال: وإسماع التكبير في هذا لم يتابع أبا الزبير عليه أحد. وعلى تقدير أنه حفظه فلا مانع أن يسمعهم أبوبكر التكبير في تلك الحالة؛ لأنه يحمل على أن صلاته - صلى الله عليه وسلم - كان خفيا من الوجع، وكان من عادته أن يجهر بالتكبير، فكان أبوبكر يجهر عنه بالتكبير لذلك. نعم وقع في مرسل عطاء المذكور متصلا به بعد قوله: وصلى الناس وراءه قياما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:

(7/168)


لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما صليتم إلا قعودا، فصلوا صلاة إمامكم ما كان، إن صلى قائما فصلوا قياما، وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا. وهذه الزيادة تقوي ما قال ابن حبان: إن هذه القصة كانت في مرض موت النبي - صلى الله عليه وسلم - - انتهى. ثم رأيت السندي قد ذكر في حاشية البخاري (ج1 ص88) وجه النظر الثالث، وقرره أحسن تقرير، وبسط الكلام فيه فأجاد حيث قال: لا دلالة فيه أي في حديث عائشة الذي في مرض موته على أن الصحابة كانوا قياما نعم قد ثبت أن أبا بكر كان قائما، ولعله قام لضرورة الإسماع، لا يقال: قد جاء في بعض الروايات أنهم كانوا قائمين؛ لأن مدار النسخ حينئذ على تلك الروايات لا على ما ذكره صاحب الصحيح أو أصحاب الصحاح، فحينئذ ينظر في تلك الروايات هل يقوى شيء منها قوة حديث إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا، وما ذكروا إلا يساوي هذا الحديث، بل ولا يدانيه، فلا يتجه الحكم بنسخ هذا الحديث بتلك الروايات. وما قيل: إنهم ابتدؤو الصلاة مع أبي بكر قياما فلا نزاع فمن ادعى أنهم قعدوا بعد ذلك فعليه البيان ففيه أن المحتاج إلى البيان من يدعى النسخ وأما من يمنعه فيكفيه الاحتمال؛ لأن الأصل عدم النسخ، ولا يثبت بجرد الإحتمال. فقوله فمن ادعى أنهم قعدوا بعد ذلك فعليه البيان خارج عن قواعد البحث، على أنا نقول قعود الصحابة هو الأصل الظاهر عملا بالحكم السابق المعلوم عندهم، وبقاءهم على القيام لا يتصور إلا بعد علمهم بنسخ ذلك الحكم المعلوم، ولا دليل عليه. فالواجب أنهم قعدوا، فمن ادعى خلافه فعليه البيان. وأما القول بأنهم ثبتوا على القيام اتفاقا وإن كان المعلوم عندهم أن الحكم هو القعود إلا أنه وافق النسخ، وعلم ذلك بتقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - إياهم على القيام، فمن باب فرض المستحيل عادة، وكذا القول بأنه لم يكن في الحاضرين أحد يعرف الحكم السابق مع أن الحكم السابق كان مشهورا فيما بينهم، وكانوا يعملون به،

(7/169)


وكذا القول بأنهم لعلهم عرفوا النسخ قبل هذه القضية ببيانه - صلى الله عليه وسلم - لهم النسخ، فلذلك ثبتوا القيام، إذ يستبعد جدا أن يكون هناك ناسخ لذلك يعرفه أولئك الحاضرون ثم يخفى بحيث لا يرويه أحد – انتهى كلام السندي. ومنها: أنه إنما يصار إلى النسخ إذا تعذر الجمع، وههنا الجمع ليس بمعتذر، بل هو ممكن، كما نقل عن أحمد أنه جمع بين الحديثين بتنزيلهما على حالتين، وهو واضح مما ذكرنا من مذهبه. وجمع بعضهم بأن الأمر بالجلوس كان للندب وتقريره قيامهم خلفه كان لبيان الجواز. قال الحافظ بعد ذكر رواية عطاء المرسلة المتقدمة: ويستفاد منها نسخ الأمر بوجوب صلاة المأمومين قعودا إذا صلى إمامهم قاعدا؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرهم في هذه المرة الأخيرة بالإعادة، لكن إذا نسخ الوجوب يبقى الجواز، والجواز لا ينافي الاستحباب، فيحمل أمره الأخير بأن يصلوا قعودا على الاستحباب؛ لأن الوجوب قد رفع بتقريره لهم وترك أمرهم بالإعادة، هذا مقتضى الجمع بين الأدلة- انتهى. ومنها: أنه وقع الأمر بالجلوس خلف الإمام القاعد في صلاة مرض موته

(7/170)


عليه السلام أيضا كما تقدم في رواية عطاء، فالاستدلال بصلاة مرض موته على نسخ الأمر بالجلوس خلف القاعد لا يخلو عن إشكال: ومنها: أن الحديث يدل على أن الجلوس عند جلوس الإمام من جملة الائتمام بالإمام، ولا شك أن الاقتداء بالإمام حكم ثابت على الدوام غير منسوخ، وأيضا حديث جابر يدل على أن علة عدم جواز القيام عند قعود الإمام هي أن القيام يصير تعظيما لغير الله فيما شرع تعظيما لله وحده لا شريك له، ولا شك في أن هذه العلة دوامها يقتضى دوام الحكم، فيلزم أن يدوم عدم شرعية القيام خلف الإمام القاعد لوجوب دوام المعلول عند دوام العلة، فالقول بنسخ هذا الحكم لا يخلو عن بعد، قاله السندي في حاشية ابن ماجه، وذكر نحوه أيضا في حاشية الصحيحين. ومنها: أن الأصل عدم النسخ، لا سيما وهو في هذه الحالة يستلزم النسخ مرتين؛ لأن الأصل في حكم القادر على القيام أن لا يصلي قاعدا وقد نسخ إلى القعود في حق من صلى إمامه قاعدا، فدعوى نسخ القعود بعد ذلك تقتضى وقوع النسخ مرتين. وهو بعيد، وأبعد منه ما تقدم من نقل عياض، فإنه يقتضي وقوع النسخ ثلاث مرات. هذا، وقد أجاب أيضا من اختار وجوب القيام خلف القاعد، وكذا من منع صحة إمامة القاعد بأن المراد بالأمر في قوله: "وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا" أن يتقدى به في جلوسه في التشهد وبين السجدتين؛ لأنه ذكر ذلك عقب ذكر الركوع والرفع منه والسجود، قالوا: فيحمل على أنه لما جلس للتشهد قاموا تعظيما له فأمرهم بالجلوس وقد نبه على ذلك بقوله في حديث جابر: إن كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا، فيكون معنى قوله "إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا" أنه إذا كان في حالة الجلوس فاجلسوا ولا تخالفوه بالقيام، وإذا صلى قائما فصلوا قياما أي إذا كان في حالة القيام فقوموا ولا تخالفوه بالقعود، وكذلك في قوله " فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا". وتعقبه ابن دقيق العيد وغيره

(7/171)


بالاستبعاد وبأن سياق طرق الحديث يأباه، وبأنه لو كان المراد الأمر بالجلوس في الركن لقال "وإذا جلس فاجلسوا" ليناسب قوله "وإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا"، فلما عدل عن ذلك إلى قوله "وإذا صلى جالسا" ظهر أن المراد بذلك في جميع الصلاة، ويؤيد ذلك قول أنس: "فصلينا وراءه قعودا"، وإذا عرفت هذا فاعلم أن أولى الأقوال وأرجحها عندي، هو أن يجمع بين القصتين بأن الأمر بالجلوس كان للندب، وتقريره - صلى الله عليه وسلم - قيام الصحابة خلفه لو ثبت كان لبيان الجواز، فمن أم قاعدا لعذر تخير من صلى خلفه بين القيام والقعود، والقعود أولى بالثبوت الأمر الائتمام والاتباع وكثرة الأحاديث الواردة في ذلك، ويؤيد هذا الجمع أنه استمر عليه عمل الصحابة في حياته وبعده، وقد ذكر الحافظ في الفتح (ج3 ص382) قيس بن قهد وأسيد بن حضير وجابر بن عبدالله أنهم صلوا قعودا والناس خلفهم جلوس، وذكر عن أبي هريرة "أنه أفتى بذلك وذكر من أخرج هذه
هذا لفظ البخاري. واتفق مسلم إلى أجمعون. وزاد في رواية: فلا تختلفوا عليه، وإذا سجد فاسجدوا.
1146- (5) وعن عائشة، رضي الله عنها قالت: ((لما ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جاء بلال يؤذنه بالصلاة

(7/172)


الآثار وصحح أسانيدها. وذكر ابن حزم في المحلى (ج3 ص70) ذلك أيضا وأخرج الدارقطني في (ص52) عن أسيد بن حضير وفي (ص162) عن جابر: أنهما صليا جالسين والمأمون أيضا جلوسا، وادعى ابن حبان: الإجماع على العمل. وكأنه أراد السكوتى؛ لأنه حكاه عن أربعة من الصحابة الذين تقدم ذكرهم. وقال: لا يحفظ عن أحد من الصحابة وغيرهم القول بخلافه، لا من طريق صحيح ولا ضعيف، وكذا قال ابن حزم: أنه لا يحفظ عن أحد من الصحابة خلاف ذلك. وأما ما قال الشافعي: أن ما حكي عن هؤلاء الصحاية: أنهم أموا جالسين ومن خلفهم جلوس. محمول على أنه لم يبلغهم النسخ، ففيه أن كل ما زعموه للنسخ هو حديث عائشة الآتي، ولا يدل على شيء مما أرادوا كما تقدم. وأيضا أن هؤلاء الصحابة لم يتفردوا بذلك، بل وافقهم على ذلك من صلى خلفهم جالسين من الصحابة والتابعين، وبعيد كل البعد أن لا يبلغ النسخ أحدا منهم. (هذا لفظ البخاري) في باب إنما جعل الإمام ليؤتم به. (واتفق مسلم) أي معه في أصل الحديث. (إلى أجمعون. وزاد) أي مسلم. (في رواية فلا تختلفوا عليه) فيه نظر؛ لأن هذا اللفظ ليس في حديث أنس لا في البخاري، ولا في مسلم، نعم هو في حديث أبي هريرة عند الشيخين، فأخرجه البخاري بهذا اللفظ في باب إقامة الصف من تمام الصلاة، ومسلم في باب إئتمام المأموم بالإمام. ومحل هذا اللفظ بعد قوله: إنما جعل الإمام ليؤتم به" متصلا به واستدل به على عدم جواز صلاة المفترض خلف المتنفل، لما فيها من الاختلاف بين الإمام والمأموم نية، وهو ضعيف؛ لأن المراد عدم الاختلاف في الأفعال، بدليل التفسير بقوله " فإذا ركع الخ". كيف ولو كان شاملا للاختلاف نية لما كانت صلاة المتنفل خلف المفترض جائزة مع أنه جائز بالاتفاق. (وإذا سجد فاسجدوا) فيه أن هذه الزيادة عند البخاري أيضا في حديث أنس وليست من أفراد مسلم كما توهم المصنف، واختلفت الروايات في ذكر محلها، وحديث أنس هذا أخرجه أيضا أحمد ومالك

(7/173)


والشافعي في الرسالة وفي الأم وفي اختلاف الحديث، والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
1146- قوله: (لما ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في مرضه الذي توفي فيه بفتح الثاء وضم القاف يقال ثقل الشيء يثقل ثقلا، مثال صغر يصغر صغرا فهو ثقيل ضد خف، والمعنى ههنا اشتد به مرضه وتناهى ضعفه وركد أعضاءه عن خفة الحركات، ويفسره قولها بعده في رواية: واشتد به وجعه. (يؤذنه) بضم الياء وسكون الهمزة من الإيذان، أي يعلمه ويخبره ويجوز إبدال الهمزة واوا. (بالصلاة) أي بحضور وقتها والمراد صلاة العشاء
فقال: مروا أبا بكر أن يصلي بالناس فصلى أبوبكر تلك الأيام. ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد في
نفسه خفة، فقام يهادى بين رجلين، ورجلاه تخطان في الأرض، حتى دخل المسجد، فلما
سمع أبوبكر حسه ذهب يتأخر، فأومأ إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يتأخر، فجاء حتى جلس
عن يسار أبي بكر،

(7/174)


الآخرة كما سيأتي. (مروا أبا بكر أن يصلي بالناس) استدل به أهل السنة على خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ووجهه أن الإمامة في الصلاة التي هي الإمامة الصغرى كانت من وظائف الإمامة الكبرى، فنصبه - صلى الله عليه وسلم - إياه إماما في الصلاة في تلك الحالة من أقوى إمارات تفويض الإمامة الكبرى إليه، وهذا مثل أن يجلس سلطان زماننا أحد أولاده عند الوفاة على سرير السلطنة، فهل يشك أحد في أنه فوض السلطنة إليه، فهذه دلالة قوية لمن شرح الله تعالى صدره، وليس من باب قياس الإمامة الكبرى على الإمامة الصغرى مع ظهور الفرق، كما زعمه الشيعة. وقولهم: إن الدلالة لو كانت ظاهرة قوية لما حصل الخلاف بينهم في أول الأمر باطل ضرورة أن الوقت حيرة ودهشة، وكم من ظاهر يخفى في مثله. (ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد في نفسه خفة) أي قوة في بعض تلك الأيام. والظاهر أن ذلك كان عند صلاة الظهر يوم الخميس قبل أن يقبض بخمسة أيام. (فقام يهادى) بضم أوله وفتح الدال على بناء المفعول من المفاعلة. (بين رجلين) أي يمشي بينهما معتمدا عليهما متمايلا في مشيه من شدة ضعفه وإحدى يديه على عاتق أحدهما والأخرى على عاتق الآخر. يقال: جاء فلان يهادى بين اثنين إذا كان يمشي بينهما معتمدا عليهما من ضعفه متمايلا إليهما في مشيه من شدة الضعف. والرجلان: العباس بن عبدالمطلب وعلي بن أبي طالب، كما في الحديث الآتي في الفصل الثالث. وفي رواية ابن حبان: وجد من نفسه خفة فخرج بين بريرة ونوبة. ويجمع كما قال النووي: بأنه خرج من البيت إلى المسجد بين هذين، ومن ثم إلى مقام الصلاة بين العباس وعلي. وقال أبوحاتم: خرج بين الجاريتين إلى الباب ومن الباب أخذه العباس وعلي حتى دخلا به المسجد. وقيل: يحمل على التعدد، ويدل عليه ما في رواية الدارقطني: أنه خرج بين أسامة بن زيد والفضل بن عباس. وأما ما في مسلم أنه خرج بين الفضل بن عباس وعلي، فذلك في حال مجيئه من بيت

(7/175)


ميمونة إلى بيت عائشة. (ورجلاه تخطان) بضم الخاء. (في الأرض) أي تعملان فيها خطا، إذ لا يقدر أن يرفعهما عنها من الضعف. قال النووي: أي لا يستطيع أن يرفعهما ويضعفهما ويعتمد عليهما. (فلما سمع أبوبكر حسه) بكسر الحاء وتشديد السين المهملتين أي نفسه المرك بحس السمع، قاله السندي. وقيل: أي حركته أوصوته الخفي. (ذهب) أي أراد وقصد أو طفق أو شرع. (يتأخر) عن موضعه ليقوم عليه السلام مقامه. (فأومأ) بهمزة في آخره أي أشار. وفي بعض النسخ: فأومأ بالألف وهوخطأ. (أن لا يتأخر) أي بعدم تأخره. (فجاء) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (حتى جلس عن يسار أبي بكر) هذا هو مقام الإمام، وفيه تعيين لما أبهم في الرواية الآتية من مكان جلوسه - صلى الله عليه وسلم -، وفيه دلالة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إماما لا مأموما لجعله أبا بكر عن يمينه، وقال العيني: إنما لم يجلس
فكان أبوبكر يصلي قائما، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي قاعدا، يقتدى أبوبكر بصلاة
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والناس يقتدون بصلاة أبوبكر)).

(7/176)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن يمينه؛ لأن اليسار كان من جهة حجرته فكان أخف عليه (يقتدي أبوبكر بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فيه رد على من زعم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مقتديا بأبي بكر. (والناس يقتدون بصلاة أبوبكر) أي من حيث أنه كان يسمع الناس تكبيره - صلى الله عليه وسلم -. قال القسطلاني: أي يستدلون بصلاته على صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال القاري: أي يصنعون مثل ما يصنع؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان قاعدا وأبوبكر كان بجنبه قائما لا أن أبا بكر كان إمام القوم والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان إمامه إذا الاقتداء بالمأموم لا يجوز بل الإمام كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبوبكر والناس يقتدون به. واعلم أنه قد وقع الاختلاف في حديث عائشة هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إماما أو مأموما؟ فوقع عند الشيخين، وكذا عند أحمد في مسنده ومالك في باب صلاة الإمام وهو جالس، والنسائي في باب الائتمام بمن يأتم بالإمام، وفي باب الائتمام بالإمام يصلي قاعدا، وابن الجارود في المنتقى في باب تخفيف الصلاة بالناس، والبزار كما قال الحافظ في الفتح وابن حبان كما قال الزيلعي وابن ماجه في باب صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه ما يفيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إماما وأبوبكر مأموما، ووقع عند ابن حبان كما قال الزيلعي، وعند ابن حزم في المحلى (ج3 ص67) وابن الجارود في المنتقى (ص166) وأحمد في مسنده (ج6 ص159) والبيهقي في سننه (ج3 ص82) وابن المنذر وابن خزيمة كما قال الحافظ، والترمذي في باب بعد باب إذا صلى الإمام قاعدا فصلوا قعودا ما يفيد أن أبا بكر كان هو الإمام. وروى ابن خزيمة عن محمد بن بشار عن أبي داود الطيالسي عن شعبة عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: من الناس من يقول كان أبوبكر المقدم بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(7/177)


في الصف، ومنهم من يقول كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المقدم، وظاهر هذه الرواية أن عائشة لم تشاهد الهيئة المذكورة. قال الحافظ: ولكن تظافرت الروايات عنها بالجزم بما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هو الإمام في تلك الصلاة، منها رواية موسى بن أبي عائشة وهى التي تأتي في الفصل الثالث، ثم قال بعد أن ذكر الاختلاف فيها: فمن العلماء من سلك الترجيح فقدم الرواية التي فيها أن أبا بكر كان مأموما للجزم بها، ولأن أبا معاوية (الذي روى الحديث بلفظ يقتدي أبوبكر بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس يقتدون بصلاة أبي بكر) أحفظ في حديث الأعمش من غيره. ومنهم من سلك عكس ذلك ورجح أنه كان إماما. ومنهم من سلك الجمع. (كابن حبان والبيهقي وابن حزم) فحمل القصة على التعدد. (يعني أنه كان إماما مرة ومأموما أخرى) ويؤيده اختلاف النقل عن الصحابة غير عائشة، فحديث ابن عباس فيه. أن أبا بكر كان مأموما كما سيأتي في رواية موسى بن أبي عائشة، وكذا في رواية أرقم بن شرحبيل عن ابن عباس

(7/178)


عند ابن ماجه وحديث أنس فيه: أن أبا بكر كان إماما. أخرجه الترمذي والنسائي- انتهى كلام الحافظ. قلت: حديث أرقم عن ابن عباس أخرجه أيضا أحمد (ج1 ص231و 255و 256) والطحاوى في شرح الآثار (ج1 ص235) وفي مشكله (ج2 ص27) وابن سعد في طبقاته (ج2 ص130) والبيهقي في سننه (ج3 ص81). ومدار هذا الحديث عند الجميع على أبي إسحاق السبيعي عن أرقم بن شرحبيل، وأبوإسحاق مدلس واختلط بآخره. وقد رواه بالعنعنة. وقد قال البخاري لا يذكر سماعا من أرقم بن شرحبيل- انتهى. وحديث أنس قد صححه الترمذي، وأخرجه أيضا أحمد (ج3 ص159، 233، وص243). والراجح عندي أن القصة واحدة، وأن الاختلاف في إمامة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر في صلاة واحدة. وإن هذا الاختلاف من تصرف الرواة فقط، وهو ظاهر من سياق الأحاديث الواردة في الباب وطرقها، ومن صنيع الشيخين حيث لم يخرجا في صحيحيهما من طرق حديث عائشة إلا ما فيه إمامة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ثقة رواة الخلاف، ولم يخرجا حديث أنس أصلا. قال الحافظ: قد صرح الشافعي بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصل بالناس في مرض موته في المسجد إلا مرة واحدة، وهي هذه التي صلى فيها قاعدا، وكان أبوبكر فيها أولا إماما ثم صار مأموما يسمع الناس التكبير- انتهى. وقال ابن عبدالبر: الآثار الصحاح على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان الإمام- انتهى. وفي هذه القصة من الفوائد غير ما مضى تقديم أبي بكر وترجيحه على جميع الصحابة، والأدب مع الكبير لهم أبي بكر بالتأخر عن الصف وإكرام الفاضل؛ لأنه أراد أن يتأخر حتى يستوي، فلم يتركه النبي - صلى الله عليه وسلم - يتزحزح عن مقامه وفيه أن الإيماء يقوم مقام النطق واقتصار النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإشارة يحتمل أن يكون لضعف صوته، ويحتمل أن يكون للإعلام بأن مخاطبة من يكون في الصلاة بالإيماء أولى من النطق. وفيه تأكيد أمر الجماعة والأخذ فيها بالأشد وإن كان

(7/179)


المرض يرخص في تركها، ويحتمل أن يكون فعل ذلك لبيان جواز الأخذ بالأشد وإن كانت الرخصة أولى. وقال الطبري: إنما فعل ذلك لئلا يعذر أحد من الأئمة بعده في نفسه بأدنى عذر فيتخلف عن الإمامة، ويحتمل أن يكون قصد إفهام الناس أن تقديمه لأبي بكر كان لأهليته لذلك حتى أنه صلى خلفه. واستدل به على جواز استخلاف الإمام لغير ضرورة لصنيع أبي بكر. وعلى جواز مخالفة موقف المأموم للضرورة، كمن قصد أن يبلغ عنه، ويلتحق به من زحم عن الصف، وعلى جواز ائتمام بعض المأمومين ببعض، وهو قول الشعبي واختيار الطبري، وأومأ إليه البخاري كما تقدم. وتعقب بأن أبا بكر إنما كان مبلغا كما سيأتي الآن، وعلى هذا فمعنى الإقتداء اقتداءهم بصوته، ويؤيده أنه - صلى الله عليه وسلم - كان جالسا وكان أبوبكر قائما، فكان بعض أفعاله يخفى على بعض المأمومين، فمن ثم كان أبوبكر كالإمام في حقهم، وتأويله بأن المراد أن أبا بكر كان يراعي في الصلاة حاله - صلى الله عليه وسلم - في القيام والركوع والسجود، فكأنه كان مقتديا به، كما ورد في
متفق عليه. وفي رواية لهما: يسمع أبوبكر الناس التكبير.
1147- (6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أما يخشى

(7/180)


الحديث واقتد بأضعفهم بعيدا جدا، يرده قوله الآتي: يسمع أبوبكر الناس التكبير. واستدل به الطبري على أن للامام أن يقطع الاقتداء به ويقتدى هو بغيره من غير أن يقطع الصلاة، بناء على أن أبا بكر كان دخل في الصلاة ثم قطع القدوة وائتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. واستدل به على صحة إمامة القاعد المعذور بمثله وبالقائم أيضا خلافا للمالكية. وقد تقدم الكلام فيه مفصلا. (متفق عليه) الحديث أخرجه البخاري في عدة مواضع بألفاظ وطرق مطولا ومختصرا، والسياق المذكور مختصر من حديث طويل أورده البخاري في باب الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم. وفيه فلما دخل (أبوبكر) في الصلاة وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفسه خفة، بدل قوله: فصلى أبوبكر تلك الأيام، ثم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد في نفسه خفة، وأيضا ليس في قوله: أن لا يتأخر. والمراد بقوله: فلما دخل في الصلاة وجد الخ، أي فلما دخل في أن يصلي بالناس أي في منصب الإمامة، وتقرر إماما لهم واستمر على ذلك أياما وجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفسه خفة في بعض تلك الأيام، أو لما دخل في الصلاة في بعض تلك الأيام وجد - صلى الله عليه وسلم - في نفسه خفة، وليس المراد أنه حين دخل أبوبكر في تلك الصلاة التي جرى في شأنها الكلام وجد - صلى الله عليه وسلم - في أثنائها خفة، فلا تنافي هذه الرواية الرواية الآتية في الفصل الثالث. (وفي رواية لهما يسمع أبوبكر الناس التكبير) أي تكبير النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني كان أبوبكر مكبرا لا إماما، وهذه اللفظة مفسرة للمراد بقوله: يقتدى أبوبكر بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس يقتدون بصلاة أبي بكر. وبقوله في رواية: كان أبوبكر يصلي بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس يصلون بصلاة أبي بكر. وفيه دليل على أنه يجوز رفع الصوت بالتكبير لإسماع المأمومين فيتبعونه، وأنه يجوز للمقتدي اتباع

(7/181)


صوت المكبر وصحة صلاة المسمع والسامع، وهذا مذهب الجمهور، وفيه خلاف للمالكية وتفاصيل لا دليل عليها. والحديث أخرجه البيهقي أيضا (ج3 ص81- 93).
1147- قوله: (أما يخشى) كلمة "ما" نافية والهمزة للاستفهام للإنكار. والمقصود الإنكار على ترك الخشية والحث عليها ليرتدع فاعل ذلك الفعل بسبب الخشية من شنيع عاقبته عن ذلك الفعل. والحاصل أن فاعل هذا الفعل في محل المسخ، ويستحق ذلك فحقه أن يخشى هذه العقوبة وليس له أن لا يخشى، وهذا إنما يدل على أن فاعل هذا الفعل يستحق هذا العقاب، ولا يدل على أن من يفعل ذلك يلحق به هذا العقاب قطعا، وكونه لا يلحق به كما ترى فضلا من الله تعالى لا يدل على خلافه، فكم من شيء يستحقه العبد ويعفو عنه الرب تعالى وقد قال: ?ويعفو
الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار)).

(7/182)


عن كثير?. (الذي يرفع رأسه) أي من الركوع والسجود فالحديث نص عام في الركوع والسجود، وأما تخصيص السجدة بالذكر في رواية أبي داود بلفظ: الذي يرفع رأسه والإمام ساجد فمن باب الإكتفاء، وهو ذكر أحد الشيئين المشتركين في الحكم إذا كان للمذكور مزية فاكتفى فيها بذكر حكم السجدة عن ذكر حكم الركوع لكون العلة واحدة وهي السبق على الإمام، كما في قوله تعالى ?سرابيل تقيكم الحر? [16: 81] أي البرد أيضا، ولم يعكس الأمر؛ لأن السجود أعظم من الركوع في إظهار التواضع والتذلل، والعبد أقرب ما يكون إلى الرب وهو ساجد. وأما التقدم على الإمام في الخفض للركوع والسجود، فقد ورد الزجر عنه في حديث أخرجه البزار والطبراني عن أبي هريرة مرفوعا: الذي يخفض ويرفع قبل الإمام إنما ناصيته بيد شيطان. قال الهيثمي في مجمع الزوايد (ج2 ص78): إسناده حسن، وأخرجه مالك وعبدالرزاق عنه موقوفا. قال الحافظ: وهو المحفوظ. (قبل الإمام) أي قبل رفع رأسه. (أن يحول الله) أي من أن يبدل ويغير. (رأسه رأس حمار) وفي رواية مسلم: صورته في صورة حمار. وفي أخرى له: أن يجعل الله وجهه وجه حمار. قال الحافظ: الظاهر أنه من تصرف الرواة. قال عياض: هذه الروايات متفقة؛ لأن الوجه في الرأس ومعظم الصورة فيه. قلت: لفظ الصورة يطلق على الوجه أيضا. وأما الرأس فرواتها أكثر وهى أشمل فهي المعتمدة، وخص وقوع الوعيد عليها؛ لأن بها وقعت الجنابة وهي أشمل- انتهى. وقيل: الظاهر أن الاختلاف حصل من تعدد الواقعة، ويؤيده رواية ابن حبان بلفظ: أن يحول الله رأسه رأس كلب. واختلف في معنى هذا الوعيد: فقيل: يحتمل أن يرجع ذلك إلى أمر معنوي مجازي كالبلادة الموصوف بها الحمار، والمعنى يجعله بليدا كالحمار، فيكون مسخا معنويا مجازيا. قال الطيبي: لعل المأموم لما لم يعمل بما أمر به من الاقتداء بالإمام ومتابعته، ولم يفهم أن معنى الإمام والمأموم ما هو شبه بالحمار في البلادة كقوله تعالى ?مثل

(7/183)


الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا? [62: 5] انتهى. ويرجح هذا المجاز أن التحويل الظاهري لم يقع مع كثرة الفاعلين لذلك. وقيل: هو محمول على ظاهره، وإن المراد تغيير الصورة الظاهرة، إذ لا مانع من وقوع المسخ الحقيقي في هذه الأمة، كما يشهد له حديث أبي مالك الأشعري المروي في المغازي من صحيح البخاري؛ لأن فيه ذكر الخسف، وفي آخره: ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة. ويقوي حمله على ظاهره رواية ابن حبان بلفظ: أن يحول الله رأسه رأس كلب. فهذا يبعد المجاز؛ لأنتفاء المناسبة التي ذكروها من بلادة الحمار، ومما يبعده أيضا يراد الوعيد بالأمر المستقبل وباللفظ الدال على تغيير الهيئة الحاصلة، ولو أريد تشبيهه بالحمار لأجل البلادة لقال: فرأسه رأس حمار، وذلك لأن الصفة المذكورة وهي البلادة حاصلة في فاعل ذلك عند فعله المذكور، فلا يحسن أن يقال له يخشى إذا فعلت ذلك أن تصير بليدا، مع أن فعله المذكور إنما نشأ عن البلادة. وأما ما ما قيل في ترجيح المجاز من أن التحويل الظاهري لم يقع مع
متفق عليه.
?الفصل الثاني?
1148، 1149- (7) عن علي، ومعاذ بن جبل، رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام)). رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب.

(7/184)


كثرة الفاعلين لذلك، ففيه أنه ليس في الحديث ما يدل على أن ذلك يقع ولا بد، وإنما يدل على كون فاعله متعرضا لذلك وكون فعله ممكنا؛ لأن يقع عند ذلك الوعيد، ولا يلزم من التعرض للشيء وقوع ذلك الشيء، وقد أوضحنا ذلك في شرح أول الحديث. وظاهر الحديث يقتضي تحريم الرفع قبل الإمام، لكونه توعد عليه بالمسخ وهو أشد العقوبات، وبذلك جزم النووي في شرح المهذب، ومع القول بالتحريم، فالجمهور على أن فاعله يأثم وتجزئ صلاته. وعن ابن عمر تبطل، وبه قال أحمد في رواية، وأهل الظاهر بناء على أن النهي يقتضي الفساد، والوعيد بالمسخ في معناه. وقد ورد التصريح بالنهي في حديث أنس ثاني أحاديث هذا الباب عن السبق بالركوع والسجود والقيام والقعود. وفي المغنى عن أحمد أنه قال في رسالته: ليس لمن سبق الإمام صلاة لهذا الحديث، قال: ولو كانت له صلاة لرجي له الثواب ولم يخش عليه العقاب، وفي الحديث كمال شفقته - صلى الله عليه وسلم - بأمته وبيانه لهم الأحكام وما يترتب عليها من الثواب والعقاب، واستدل به على جواز المقارنة، ولا دلالة فيه؛ لأنه دل بمنطوقه على منع المسابقة وبمفهومه على طلب المتابعة، وأما المقارنة فمسكوت عنها. (متفق عليه) واللفظ لمسلم. وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص93).

(7/185)


1148، 1149- قوله: (والإمام على حال) أي من قيام أو ركوع أو سجود أو قعود. (فليصنع كما يصنع الإمام) أي ليكبر تكبيرة الإحرام، ويوافق الإمام فيما هو من القيام أو الركوع أو غير ذلك، ولا يخالفه بأداء ما سبق من الصلاة بل يدخل معه في الفعل الذي يؤديه، فيتبعه في القيام والقعود والركوع والسجود، ولا ينتظر رجوع الإمام إلى القيام، كما يفعله العوام. والحديث يدل على أنه يجب على من لحق بالإمام أن يدخل معه في أي جزء من أجزاء الصلاة أدركه من غير فرق بين الركوع والسجود والقعود، لظاهر قوله: والإمام على حال. قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم. (رواه الترمذي) في أواخر الصلاة من طريق الحجاج بن أرطاة عن أبي إسحاق السبيعي عن هبيرة بن يريم عن علي، وعن عمرو بن مرة عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل. (وقال: هذا حديث غريب) لا نعلم أحدا أسنده إلا ما روي من هذا الوجه. قال النووي إسناده
1150- (8) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا جئتم إلى الصلاة، ونحن سجود، فاسجدوا ولا تعدوه شيئا، ومن أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة)).

(7/186)


ضعيف. وقال الحافظ في التلخيص (ص117) فيه ضعف وانقطاع. وقال في بلوغ المرام: رواه الترمذي بإسناد ضعيف، وهذا لأن الحجاج بن أرطاة وأباإسحاق السبيعي مدلسان، ولم يصرحا بالسماع هناد بن أبي ليلى قالوا: لم يسمع من معاذ، لكن له شاهد من حديثه أيضا عند أبي داود والبيهقي (ج3 ص93) يقول: فيه ابن أبي ليلى حدثنا أصحابنا، ثم ذكر الحديث، وفيه فقال معاذ: لا أراه على حال إلا كنت عليها، قال فقال: إن معاذا قد سن لكم سنة كذلك فافعلوا وهذا متصل؛ لأن المراد بأصحابه الصحابة، كما صرح بذلك في رواية ابن أبي شيبة حدثنا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويشهد له أيضا ما رواه ابن أبي شيبة عن رجل من الأنصار مرفوعا من وجدني راكعا أو قائما أو ساجدا، فليكن معي على حالى التي أنا عليها. وما أخرجه سعيد بن منصور عن أناس من أهل المدينة مثل لفظ ابن أبي شيبة.

(7/187)


1150- قوله: (ونحن سجود) جمع ساجد والجملة حالية أي والحال إني ومن معي من المقتدين في حالة السجود. (فاسجدوا) أي وافقوه في السجود، وفيه مشروعية السجود مع الإمام لمن أدركه ساجدا. (ولا تعدوه) بضم العين وتشديد الدال أي لا تحسبوا ذلك السجود. وفي أبي داود: لا تعدوها أي بضمير التأنيث، وكذا ذكره المجد ابن تيمية في المنتقى والجزري في جامع الأصول (ج6 ص406). والمعنى: لا تعدوا تلك السجدة. (شيئا) أي معتدا به باعتبار حكم الدنيا من ادراك الركعة؛ لأن مع إدراك السجدة تفوت الركعة ولا يحصل بها إلا ثواب الآخرة. (ومن أدرك ركعة) وفي أبي داود: الركعة أي بالتعريف. (فقد أدرك الصلاة) قيل: المراد بالركعة هنا الركوع، وبالصلاة الركعة. والمعنى من أدرك ركوعا مع الإمام فقد أدرك الركعة، أي صحت له تلك الركعة، وحصل له فضيلتها فيكون الحديث دليلا لما ذهب إليه الجمهور من أن مدرك الإمام راكعا مدرك لتلك الركعة، وتعقب بأن الركعة حقيقة لجميعها، وإطلاقها على الركوع وما بعده مجاز لا يصار إليه إلا لقرينة، كما وقع عند مسلم من حديث البراء بلفظ: فوجدت قيامه فركعته فاعتداله فسجدته، فإن وقوع الركعة في مقابلة القيام والاعتدال والسجود قرينة تدل على أن المراد بها الركوع، وههنا ليست قرينة تصرف عن حقيقة الركعة، فالاستدلال به على أن مدرك الركوع مع الإمام مدرك لتلك الركعة لا يخلو عن خفاء. وقيل: المعنى من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة مع الإمام، يعني يحصل له الثواب الجماعة، ويؤيده حديث أبي هريرة بلفظ: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الفضل. وفي رواية: فقد أدرك الصلاة وفضلها. قال الطيبي: هذا الحكم في الجمعة، ولا يحصل له ثواب الجماعة إن أدرك بعضا من الصلاة قبل السلام. ومذهب مالك أنه
رواه أبوداود.

(7/188)


لا يحصل فضيلة الجماعة إلا بإدراك ركعة تامة سواء في الجمعة وغيرها. وقيل: المعنى من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة، أي حكم صلاة الجماعة من سهو الإمام ولزوم الإتمام وغير ذلك، ويؤيده ما ورد بلفظ: من أدرك ركعة مع الإمام فقد أدرك الصلاة. قلت: ظاهر سياق حديث الكتاب يدل على أن المراد بالركعة الركوع، والقرينة على ذلك قوله: إذا جئتم ونحن سجود فاسجدوا، فذكر السجود أولا ثم ذكر الركعة، يدل على أن المراد بالركعة هنا الركوع، وأيضا في قوله: ولا تعدوها شيئا بيان حكم إدراك السجدة مع الإمام، وأنه لا يعتد به، ويكون مدركه مدركا للركعة وأما حملها على بيان إدراك فضل صلاة الجماعة أو حكمها فبعيد؛ لأنه لا يبقى حينئذ مناسبة بين الجملتين، وأيضا حصول ثواب الجماعة لا يتوقف على إدراك الركعة، بل يحصل ذلك بإدراك جزء من الصلاة جمعة كانت أو غيرها. وأما رواية: فقد أدرك الفضل أو فقد أدرك الصلاة وفضلها فهو حديث آخر لأبي هريرة، ليس فيه الجملة الأولى مع أنها رواية ضعيفة، وعلى هذا فلا خفاء في دلالة حديث الكتاب على كون مدرك الركوع مدركا للركعة، لا سيما على مذهب من يعتبر مفهوم المخالفة، فان الجملة الأولى بمفهومها يدل على أن من أدرك الإمام راكعا يعتد بتلك الركعة، لكن الحديث ضعيف كما ستعرف. ويلزم من يقول أن الصحابي إذا روى حديثا وعمل بخلافه أن العبرة بما عمل أن لا يقول بكون مدرك الركوع مدركا للركعة؛ لأن أبا هريرة أفتى بخلاف ما روى، فقد أخرج البخاري في جزء القراءة (ص39) عنه قال: لا يجزيك إلا أن تدرك الإمام قائما قبل أن يركع. وفي لفظ له (ص64) قال: إذا أدركت القوم ركوعا لم تعتد بتلك الركعة. والحق عندي إن من أدرك الإمام راكعا ودخل معه في الركوع لم تحسب له تلك الركعة، وقد تقدم الكلام فيه مفصلا. (رواه أبوداود) وكذا الحاكم (ج1:ص273، 274) والبيهقي (ج2:ص89) وسكت عنه أبوداود، والمنذري. وفيه يحيى بن

(7/189)


أبي سليمان المدني. قال البخاري في جزء القراءة: يحيى هذا منكر الحديث لم يتبين سماعه من زيد بن أبي العتاب ولا من سعيد بن أبي سعيد المقبري، ولا تقوم به الحجة. وقال البيهقي في المعرفة رواية الحديث من طريق يحيى: تفرد به يحيى بن أبي سليمان هذا وليس بالقوى. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج11:ص228) : قال البخاري إنه منكر الحديث. وقال أبوحاتم: مضطرب الحديث ليس بالقوي يكتب حديثه، وذكره ابن حبان في الثقات. وأخرج إبن خزيمة حديثه في صحيحه وقال: في القلب شيء من هذا الإسناد. قال: لا أعرف يحيى بن سليمان بعدالة ولا جرح، وإنما أخرجت خبره لأنه لم يختلف فيه العلماء. وقال الحاكم في المستدرك: هو من ثقات المصريين. وقال في موضع آخر منه: يحيى مدني سكن مصر لم يذكر
1151- (9) وعن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من صلى لله أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولى، كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق) رواه الترمذي.
بجرح - انتهى. وهذا يدل على أن يحيى هذا لم يعرفه ابن خزيمة والحاكم بعدالة ولا جرح، وهذا هو شأن المستور ورواية المستور لا تكون حجة على القول الصحيح، ولا يعتد بذكر ابن حبان له في ثقاته لما عرف من اصطلاحه، مع أنه قد ضعفه أمير المؤمنين في الحديث محمد بن إسماعيل البخاري. وقال أبوحاتم: مضطرب الحديث ليس بالقوى. ومن المعلوم أن من عرف حجة على من لم يعرف.

(7/190)


1151- قوله: (من صلى لله) أي خالصا. (أربعين يوما) أي ليلة. (في جماعة) متعلق بصلى. (يدرك) حال. (التكبيرة الأولى) أي التكبيرة التحريمة مع الإمام. (براءة من النار) أي خلاص ونجاة. منها يقال برئ من الدين والعيب خلص، ولا يكون الخلاص منها إلا بمغفرة الصغائر والكبائر جميعا. (وبراءة من النفاق) قال الطيبي: أي يؤمنه في الدنيا أن يعمل عمل المنافق ويؤفقه لعمل أهل الإخلاص، وفي الآخرة يؤمنه مما يعذب به المنافق أو يشهد له أنه غير منافق، فإن المنافقين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، وحال هذا بخلافهم. والحديث يدل على فضل إدراك التكبيرة الأولى مع الإمام. قال ابن حجر: إدراك التكبيرة الأولى سنة مؤكدة، وكان السلف إذا فاتتهم عزوا أنفسهم ثلاثة أيام، وإذا فاتتهم الجماعة عزوا أنفسهم سبعة أيام، ذكره القاري. (رواه الترمذي) وقال: قد روى هذا الحديث عن أنس موقوفا ولا أعلم أحدا رفعه إلا ما روى سلم بن قتيبة عن طعمة بن عمرو (عن حبيب بن أبي ثابت عن أنس). وإنما يروى هذا عن حبيب بن أبي حبيب البجلي عن أنس قوله: وكأنه يريد بذلك تضعيف الرفع ولم يبين وجهه، مع أن سلم بن قتيبة وطعمة وبقية رواته كلهم ثقات، على أن هذا مما لا يقال مثله من قبل الرأي والاجتهاد، فالموقوف في حكم المرفوع، مع أنه في فضائل الأعمال. ومن المعلوم أنه يعمل فيها بالضعيف بالشروط المذكورة في أصول الحديث. وقال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذا الحديث: رواه الترمذي من حديث أنس وضعفه، ورواه البزار واستغربه - انتهى. وقد وردت في فضل إدراك التكبيرة الأولى مع الإمام أحاديث أخرى تؤيد حديث أنس، منها: حديث عمر، أخرجه ابن ماجه وسعيد بن منصور، وفيه ضعف وانقطاع. ومنها: حديث عبدالله بن أبي أوفي، أخرجه أبونعيم في الحلية، وفيه الحسن بن عمارة وهو ضعيف. ومنها: حديث أبي كاهل، أخرجه الطبراني في الكبير والعقيلي في الضعفاء والحاكم أبوأحمد في الكنى. قال العقيلي: إسناده

(7/191)


مجهول. ومنها: حديث أبي هريرة، أخرجه البزار والعقيلي، وفيه الحسن بن السكن. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص103): ضعفه أحمد، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال في التخليص: لم يكن الفلاس يرضاه. ومنها: حديث أبي الدرداء أخرجه البزار وابن أبي شيبة، وفيه رجل مجهول. ذكر هذه الأحاديث الحافظ في التلخيص (ص121) مع الكلام عليها.
1152- (10) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من توضأ فأحسن الوضوءه، ثم راح فوجد الناس قد صلوا، أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها، لا ينقص من أجورهم شيئا)) رواه أبوداود، والنسائي.
1153- (11) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((جاء رجل وقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟

(7/192)


1152- قوله: (ثم راح) أي ثم ذهب إلى المسجد أي وقت كان، فالمراد بالرواح مطلق الذهاب، ويؤيده أن في رواية النسائي: ثم خرج عامدا إلى الصلاة. (قد صلوا) أي فرغوا من صلاتهم في الجماعة. (أعطاه) أي الرجل الذي جاء بعد انقطاع صلاة الجماعة. (مثل أجر من صلاها) أي الصلاة في الجماعة. (وحضرها) أي حضر صلاة الجماعة. (لا ينقص ذلك) أي أعطاه الله إياه مثل أجرهم. (من أجورهم) وفي أبي داود: من أجرهم، أي بالإفراد، وكتب على هامش عون المعبود: أجورهم، بعلامة النسخة، يعني أجر المصليين بالجماعة. (شئيا) من الأجر أو النقص بل لهم أجورهم كاملا؛ لأداءهم الصلاة بالجماعة، وله مثل أجر أحدهم لسعيه في تحصيل صلاة الجماعة وإن فاتته. قال السندي: ظاهر الحديث أن إدراك فضل الجماعة يتوقف على أن يسعى لها بوجهه ولا يقصر في ذلك سواء أدركها أم لا، فمن أدرك جزءا منها ولو في التشهد، فهو مدرك بالأولى، وليس الأجر والفضل مما يعرف بالاجتهاد، فلا عبرة بقول من يخالف قوله الحديث في هذا الباب أصلا. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (والنسائي) وأخرجه أيضا الحاكم. وقال: صحيح على شرط مسلم. والبيهقي (ج3:ص69) وفي الباب عن سعيد المسيب عن رجل من الأنصار يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث، وفيه: فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له، فإن أتى المسجد وقد صلوا بعضا وبقي بعض صلى ما أدرك وأتم ما بقي كان كذلك، فان أتى المسجد وقد صلوا فأتم الصلاة كان كذلك. أخرجه أبوداود والبيهقي من طريقه وسكت عليه أبوداود والمنذري.

(7/193)


1153- قوله: (جاء رجل) أي المسجد، ففي رواية لأحمد (ج3:ص45) والبيهقي (ج3:ص69) أن رجلا دخل المسجد (وقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي بأصحابه الظهر، كما في مسند أحمد (ج3:ص85) وزاد فيه: قال فدخل رجل من أصحابه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما حبسك يا فلان عن الصلاة؟ فذكر شيئا اعتل به، قال فقام يصلي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الخ. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح. (فقال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (ألا رجل يتصدق على هذا) أي يتفضل عليه ويحسن إليه. (فيصلي معه) ليحصل له بذلك أجر الجماعة، فيكون
فقام رجل فصلى معه)).

(7/194)


كأنه تصدق عليه. قال المظهر: سماه صدقة؛ لأنه يتصدق عليه بثواب ست وعشرين درجة، إذ لو صلى منفردا لم يحصل له إلا ثواب صلاة واحدة. قال الطيبي: قوله "فيصلي" منصوب لوقوعه جواب قوله "ألا رجل" كقولك ألا تنزل بنا فتصيب خيرا. وقيل: الهمزة للاستفهام ولا بمعنى ليس، فعلى هذا "فيصلي" مرفوع عطفا على الخبر، وهذا أولى - انتهى. وقال ابن حجر: بالنصب جواب الاستفهام، ويصح الرفع عطفا على "يتصدق" الوقع خبرا للا التي بمعنى ليس، والمعنى أليس رجل ممن فرغوا من صلاتهم بالجماعة فيتصدق بثواب الجماعة على هذا الرجل الذي فاتته الصلاة مع الإمام فيصلي معه، فيحصل بذلك له ثواب الجماعة، فإنه إذا فعل ذلك فكأنه تصدق عليه. (فقام رجل) أي ممن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أبوبكر الصديق. وفي رواية للبيهقي (ج3:ص70) أن الذي قام فصلى معه أبوبكر رضي الله عنه. (فصلى معه) أي مقتديا به. والحديث يدل على مشروعية الدخول مع من دخل في الصلاة منفردا وإن كان الداخل معه قد صلى في جماعة، وقد استدل الترمذي بهذا الحديث على جواز أن يصلي القوم جماعة في مسجد قد صلى فيه، قال: وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم من التابعين، وبه يقول أحمد وإسحاق. وقال آخرون من أهل العلم يصلون فرادى، وبه يقول سفيان ومالك وابن المبارك والشافعي –انتهى. قلت: من ذهب من الأئمة إلى اشتراط الجماعة لصحة الصلاة أو إلى وجوب الجماعة عينا من غير أن يجعلها شرطا أجاز تكرار الجماعة مطلقا، وكل من ذهب إلى عدم وجوبها عينا أو إلى سنيتها كرهها، كما ستعرف وإلى الجواز ذهب ابن مسعود. فقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن سلمة بن كهيل: أن ابن مسعود دخل المسجد وقد صلوا فجمع بعلقمة ومسروق والأسود، وإسناده صحيح، وهو قول أنس بن مالك. قال البخاري في صحيحه: وجاء أنس بن مالك إلى مسجد قد صلي فيه فأذن وأقام وصلى جماعة - انتهى. قال

(7/195)


الحافظ: وصله أبويعلى في مسنده، وابن أبي شيبة والبيهقي –انتهى مختصرا ملخصا. قال ابن حزم في المحلى (ج4:ص238) : هذا ممالا يعرف فيه لأنس مخالف من الصحابة. وقال العيني في شرح البخاري: وهو قول عطاء والحسن في رواية، وإليه ذهب أحمد وإسحاق وأشهب عملا بظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ... الحديث- انتهى. ومذهب الحنفية في ذلك ما ذكر الشامي في حاشية الدر المختار نقلا عن الخزائن ويكره. (أى تحريما) تكرار الجماعة في مسجد محلة. (يعني المسجد الذي له إمام وجماعة معلومون) بأذان وإقامة إلا إذا صلى بهما فيه أو لا غير أهله، أو أهله لكن بمخافتة الأذان ولو كرر أهله بدونهما أو كان مسجد طريق جاز، كما في مسجد ليس له إمام ومؤذن –انتهى. واستدلوا لذلك بما رواه الطبراني في الكبير والأوسط عن أبي بكرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل من نواحي المدينة يريد الصلاة فوجد الناس قد صلوا، فمال إلى منزله فجمع أهله فصلى بهم. ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص45) وقال: رجاله ثقات. قال الحنفية: لو كانت

(7/196)


الجماعة الثانية جائزة لما اختار الصلاة في بيته على الجماعة في المسجد. قالوا: وفي إطلاق الإذن تقليل الجماعة معنى، فإنهم لا يجتمعون إذا علموا أنها لا تفوتهم. قلت: في الاستدلال بحديث أبي بكرة على كراهة تكرار الجماعة تنزيها أو تحريما نظر؛ لأنه ليس بنص في أنه - صلى الله عليه وسلم - جمع أهله فصلى بهم في منزله، بل يحتمل أن يكون صلى بهم في المسجد. وكان ميله إلى منزله لجمع أهله لا للصلاة فيه، وحينئذ يكون هذا الحديث دليلا لاستحباب الجماعة في مسجد محلة له إمام ومؤذن وأهل معلومون قد صلى فيه مرة، ولا يكون دليلا لكراهتها، فما لم يدفع هذا الاحتمال كيف يصح الاستدلال. ولو سلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بأهله في منزله لا يثبت منه كراهة تكرار الجماعة في المسجد، بل غاية ما يثبت منه أنه لو جاء رجل في مسجد قد صلى فيه فيجوز له أن لا يصلي فيه بل يخرج منه، فيميل إلى منزله فيصلي به بأهله. وأما أنه لا يجوز له أن يصلي في ذلك المسجد بالجماعة أو يكره له ذلك فلا دلالة الحديث عليه البتة، كما لا يدل الحديث على كراهة أن يصلي فيه منفردا، على أنه لو ثبت من هذا الحديث كراهة تكرار الجماعة، لأجل أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصل في المسجد لثبت منه كراهة الصلاة فرادى أيضا في مسجد قد صلى فيه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصلى في المسجد لا منفردا ولا بالجماعة. وأما قولهم: لو كانت الجماعة الثانية جائزة لما اختار الصلاة في منزله على الجماعة في المسجد، ففيه أنه يلزم من هذا التقرير كراهة الصلاة فرادى أيضا في المسجد قد صلى فيه مرة بالجماعة، فإنه يقال لو كانت الصلاة فرادى جائزة في مسجد قد صلى فيه بالجماعة لما اختار الصلاة في بيته على الصلاة في مسجده الذي هو أفضل المساجد بعد مسجد الحرام، وهذا كله على تقدير أن يكون هذا الحديث صحيحا قابلا للاحتجاج، ومن دونه خرط القتاد. وأما قول الهيثمي: "رجاله

(7/197)


ثقات" فلا يدل على صحته؛ لأنه لا يلزم من كون رجال الحديث ثقات أن يكون صحيحا، كما هو مقرر في موضعه مع أن في سنده معاوية بن يحيى أبا مطيع الاطرابلسي، وهو من رجال الميزان متكلم فيه، وثقة أبوزرعة وأبوعلي النيسابوري وهشام بن عمار. وقال: دحيم وابن معين وأبوداود والنسائي: ليس به بأس. وقال أبوحاتم: صدوق مستقيم الحديث. وقال البغوي والدارقطني: ضعيف. وذكره الدارقطني في المتروكين، وقال: هو أكثر مناكير من معاوية بن يحيى الصدفي. وقال ابن عدي: في بعض رواياته ما لا يتابع عليه، كذا في تهذيب التهذيب (ج10 ص221) وقال في التقريب: صدوق له أوهام. وأجاب الحنفية عن حديث أبي سعيد الذي نحن في شرحه بأنه ليس بحجة علينا؛ لأن المختلف فيه ما إذا كان الإمام والمقتدي مفترضين، وفي هذا الحديث كان المقتدي متنفلا، قال الشيخ في شرح الترمذي متعقبا على هذا الجواب ما نصه: إذا ثبت من هذا الحديث حصول ثواب الجماعة بمفترض ومتنفل فحصول ثوابها بمفترضين بالأولى، ومن ادعى الفرق فعليه البيان، على أنه لم يثبت عدم جواز تكرار الجماعة أصلا

(7/198)


لا بمفترضين ولا بمفترض ومتنفل، فالقول بجواز تكرارها بمفترض ومتنقل وعدم جواز تكرارها بمفترضين مما لا يصغى إليه، كيف وقد تقدم أن أنسا جاء في نحو عشرين من فتيانه إلى المسجد قد صلى فيه فصلى بهم جماعة، وظاهر أنه هو وفتيانه كلهم كانوا مفترضين، وكذلك جاء ابن مسعود إلى مسجد قد صلى فيه فجمع بعلقمة ومسروق والأسود، وظاهر أنه هو وهؤلاء الثلاثة كلهم كانوا مفترضين - انتهى. ومذهب الشافعية ما ذكره الشافعي في الأم (ج1:137، 136) وإذا كان للمسجد إمام راتب ففاتت رجلا أو رجالا فيه الصلاة صلوا فرادى ولا أحب أن يصلوا فيه جماعة، فان فعلوا أجزأتهم الجماعة فيه، وإنما كرهت ذلك لهم؛ لأنه ليس مما فعل السلف قبلنا، بل قد عابه بعضهم. قال الشافعي: وأحسب كراهية من كره ذلك منهم إنما كان لتفرق الكلمة وأن يرغب الرجل عن الصلاة خلف إمام جماعة فيختلف هو، ومن أراد عن المسجد في وقت الصلاة فإذا قضيت دخلوا فجمعوا، فيكون في هذا اختلاف وتفرق كلمة وفيهما المكروه، وإنما أكره هذا في كل مسجد له إمام ومؤذن، فأما مسجد بني على ظهر الطريق أو ناحية لا يؤذن فيه مؤذن راتب ولا يكون له إمام معلوم ويصلي فيه السمارة ويستظلون فلا أكره ذلك فيه؛ لأنه ليس فيه المعنى الذي وصفت من تفرق الكلمة، وإن يرغب رجال عن إمامة رجل فيتخذون إماما غيره وإن صلى جماعة في مسجد له إمام ثم صلى فيه آخرون في جماعة بعدهم كرهت ذلك لهم لما وصفت وأجزأتهم صلاتهم - انتهى. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج1:ص431) بعد تصويب قول الشافعي وتحسينه: وهذا المعنى الذي ذهب إليه الشافعي لا يعارض حديث الباب، يعني حديث أبي سعيد الذي نحن في شرحه، فان الرجل الذي فاتته الجماعة لعذر ثم تصدق عليه أخوه من نفس الجماعة بالصلاة معه، وقد سبقه بالصلاة فيها هذا الرجل، يشعر في داخلة نفسه كأنه متحد مع الجماعة قلبا وروحا وكأنه لم تفته الصلاة. وأما الناس الذي يجمعون وحدهم بعد

(7/199)


صلاة جماعة المسلمين فإنما يشعرون أنهم فريق آخر خرجوا وحدهم وصلوا وحدهم إلى آخر ما قال. ومذهب المالكية ما في المدونة (ج1:ص89) قلت: فلو كان رجل هو إمام مسجد قوم ومؤذنهم أذن وأقام فلم يأته أحد فصلى وحده ثم أتى أهل المسجد الذين كانوا يصلون فيه، قال فليصلوا أفذاذا ولا يجمعوا؛ لأن إمامهم قد أذن وصلى، قال: وهو قول مالك. قلت: أرأيت إن أتى هذا الرجل الذي أذن في هذا المسجد وصلى وحده أتى مسجدا فأقيمت الصلاة أيعيد أم لا في جماعة في قول مالك؟ قال: لا أحفظ من مالك فيه شيئا، ولكن لا يعيد؛ لأن مالكا قد جعله وحده جماعة - انتهى. وقال ابن العربي في شرح الترمذي (ج2:ص21): هذا معنى محفوظ في الشريعة عن زيغ المبتدعة لئلا يتخلف عن الجماعة ثم يأتي فيصلي بإمام آخر، فتذهب حكمة الجماعة وسننها، لكن ينبغي إذا أذن الإمام في ذلك أن يجوز، كما في حديث أبي سعيد، وهو قول بعض علماءنا - انتهى. ولعلك عرفت بما ذكرنا من مذاهب العلماء وما استدلوا به عليها أنه لا دليل على كراهة تكرار
رواه الترمذي، وأبوداود.
?الفصل الثالث?
1154- (12) عن عبيدالله بن عبدالله، قال: ((دخلت على عائشة، فقلت: ألا تحدثين عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: بلى، ثقل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أصلى الناس؟ فقلنا: لا يارسول الله - صلى الله عليه وسلم -! وهم ينتظرونك قال: ضعوا لي ماء في المخضب،

(7/200)


الجماعة، وعدم جواز الجماعة الثانية في مسجد له إمام راتب قد صلى فيه أهله لا من كتاب ولا من سنة صحيحة ثابتة ولا إجماع إلا من رأي معارض لحديث أبي سعيد ومخالف لعمل ابن مسعود وأنس بن مالك رضي الله عنهما، لا يعرف فيه لهما مخالف من الصحابة، فأرجح الأقوال عندنا هو أنه يجوز ويباح لمن أتى مسجدا قد صلي فيه بإمام راتب وهو لم يكن صلاها، وقد فاتته الجماعة لعذر أن يصلي بالجماعة، والله أعلم. (رواه الترمذي) وحسنه. (وأبوداود) وسكت عنه هو، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره، واللفظ المذكور للترمذي إلا قوله: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه، فإن هذا اللفظ لأبي داود، ولفظ الترمذي: أيكم يتجر على هذا. والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج3:ص5و45، 64، 85) والدارمي والحاكم (ج1:ص209) وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وابن حزم في المحلي (ج4:ص238) والبيهقي (ج3:ص69و ج2:ص303) وابن حبان وابن الجارود في المنتقي (ص168) وابن خزيمة. وفي الباب عن أبي أمامة وسلمان وعصمة بن مالك الخطمي وأنس ، ذكر أحاديثهم الزيلعي في نصب الراية (ج2:ص57، 58) والهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص45، 46). هذا، وكان الأنسب إيراد الأحاديث الثلاثة في باب فضيلة الجماعة.

(7/201)


1154- قوله: (عن عبيدالله بن عبدالله) أي ابن عتبة بن مسعود، أحد الفقهاء السبعة من كبار التابعين. (فقلت) لها. (ألا) بتخفيف اللام للعرض والاستفتاح. (تحدثيني عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي مرضه الذي توفى فيه. (قالت بلى) أي نعم أحدثك. (ثقل النبي - صلى الله عليه وسلم -) بضم القاف، اشتد مرضه فحضرت الصلاة. (فقال) صلى الله عليه وسلم. (أصلي الناس) الهمزة فيه للاستفهام والاستخبار. (فقلنا: لا) أي ما صلوا. (وهم ينتظرونك) أي خروجك أو أمرك. قال الطيبي: حال من المقدر أي لم يصلوا والحال أنهم ينتظرونك. (قال) وفي بعض النسخ: "فقال". (ضعوا) أمر من الوضع. (لي) أي لأجلي. (ماء في المخضب) بكسر ميم وسكون خاء وفتح ضاد معجمتين ثم الموحدة هو أجانة تغسل فيها الثياب، ويقال لها المركن، وكان هذا المخضب
(1) وفي نسخة "فقال"
قالت: ففعلنا، فاغتسل، فذهب لينوء، فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله ! قال ضعوا لي ماء في المخضب، قالت: فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء، فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله ! قال: ضعوا لي ماء في المخضب، فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء، فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله ! والناس عكوف في المسجد.

(7/202)


من نحاس، كما في رواية ابن خزيمة. (قالت) أي عائشة. (ففعلنا) ما أمر به. (فاغتسل) وللمتسملى: ففعلنا فقعد فاغتسل قال الحافظ: الماء الذي اغتسل به كان من سبع قرب، يشير إلى رواية البخاري في باب الغسل والوضوء في المخضب بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال بعد ما دخل بيته واشتد وجعه: هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلى أعهد إلى الناس، وأجلس في مخضب لحفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم طفقنا نصب عليه تلك، قيل: والحمة في ذلك أن المريض إذا صب عليه الماء البارد ثابت إليه قوته، لكن في مرض يقتضي ذلك والنبي - صلى الله عليه وسلم - علم بذلك، فلذلك طلب الماء ولذلك بعد استعمال الماء قام وخرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم، وأما تعيين العدد بالسبعة فقيل: يحتمل أن يكون ذلك من جهة التبرك بهذا العدد؛ لأن له دخولا في كثير من أمور الشريعة وأصل الخلقة، والحكمة في عدم حل الأوكية، لكونه أبلغ في طهارة الماء وصفائه لعدم مخالطة الأيدي. قال الحافظ وفي رواية للطبراني من آبار شتى، والظاهر أن ذلك للتداوي لقوله في رواية أخرى في الصحيح: لعلي أستريح فأعهد أي أوصى. (فذهب) أي شرع. (لينوء) بنون مضمومة ثم همزة أي لينهض بجهد ومشقة. وقال الكرماني: وينوء كيقوم لفظا ومعنى. (فأغمي عليه) بالبناء للمفعول أي لشدة ما حصل له من تناهي الضعف وفتور الأعضاء عن تمام الحركة. قال في المجمع: أغمي على المريض إذا غشي عليه كأنه ستر عقله - انتهى. وفيه أن الإغماء جائز على الأنبياء؛ لأنه مرض من الأمراض بخلاف الجنون فلم يجز عليهم؛ لأنه نقص وقد كملهم الله تعالى بالكمال التام. قال العيني: العقل في الإغماء يكون مغلوبا، وفي الجنون يكون مسلوبا، والحكمة في جواز المرض عليهم ومصائب الدنيا تكثير أجورهم وتسلية الناس بأحوالهم وأمورهم، لئلا يفتتن الناس بهم ويعبدونهم لما يظهر على أيديهم من المعجزات والآيات البينات. (هم ينتظرونك) جملة

(7/203)


اسمية وقعت حالا بلا واو، وهو جائز وقد وقع في القرآن نحو قوله ?قلنا اهبطو بعضكم لبعض عدو? [36:2] وكذلك هم ينتظرونك الثاني. (فأغمي عليه ثم أفاق) وقع الاغماء والإفاقة ثلاث مرات. قال الأسنوي في المهمات: نقل القاضي حسين أن الاغماء لا يجوز على الأنبياء الا ساعة أو ساعتين، فأما الشهر أو الشهرين فلا يجوز كالجنون. (والناس عكوف)
ينتظرون النبي - صلى الله عليه وسلم - لصلاة العشاء الآخرة، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر: بأن يصلي بالناس، فأتاه الرسول، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تصلي بالناس، فقال أبوبكر – وكان رجلا رقيقا – يا عمر! صل بالناس، فقال له عمر: أنت أحق بذلك، فصلى أبوبكر تلك الأيام، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد في نفسه خفة، وخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر، وأبوبكر يصلي بالناس،

(7/204)


بضم العين جمع العاكف، أي مجتمعون مقيمون، وأصل العكف اللبث والحبس واللزوم، ومنه الاعتكاف؛ لأنه لبث في المسجد ولزومه وحبس النفس فيه. (ينتظرون النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي خروجه. (لصلاة العشاء الآخرة) قال الحافظ: كذا للأكثر بلام التعليل. وفي رواية المستملي والسرخسي: الصلاة العشاء الآخرة. وتوجيهه أن الراوي كأنه فسر الصلاة المسؤل عنها في قوله - صلى الله عليه وسلم -، أي الصلاة المسؤل عنها هي العشاء الآخرة. (فأتاه الرسول) أي رسول النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بلال المؤذن؛ لأنه هو الذي أعلم بحضور الصلاة كما تقدم فأجيب بذلك. (فقال أبوبكر) أي لعمر بن الخطاب. (وكان رجلا) جملة معترضة مقول عائشة. (رقيقا) أي رقيق القلب كثير الحزن والبكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن. (يا عمر صل بالناس) قال النووي: تأوله بعضهم على أنه قاله تواضعا وليس كذلك بل للعذر المذكور وهو كونه رقيق القلب كثير البكاء، فخشي أن لا يسمع الناس من البكاء. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون رضي الله عنه فهم من الإمامة الصغرى الإمامة العظمى، وعلم ما في تحملها من الخطر، وعلم قوة عمر على ذلك فاختاره، ويؤيده أنه عند البيعة أشار عليهم أن يبايعوه أو يبايعوا أباعبيدة بن الجراح. والظاهر أنه لم يطلع على المراجعة التي وقعت بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين عائشة، وفهم من الأمر له بذلك تفويض الأمر له في ذلك، سواء باشر بنفسه أو استخلف - انتهى. وقال السندي: كأن أبا بكر رضي الله عنه رأى أن أمره بذلك كان تكريما منه له، والمقصود أداء الصلاة بإمام لا تعيين أنه الإمام، ولم يدر ما جرى بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين بعض أزواجه في ذلك، وإلا لما كان له تفويض الإمامة إلى عمر. (فقال له عمر أنت أحق بذلك) مني أي لفضيلتك أو لأمر الرسول إياك خاصة. (فصلى أبوبكر تلك الأيام) أي التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها مريضا. (وجد في نفسه خفة) أي

(7/205)


من المرض، وقوة على الخروج إلى الجماعة. (أحدهما العباس) والآخر علي، كما سيأتي. (لصلاة الظهر) هو صريح في أن الصلاة المذكورة كانت الظهر، وزعم بعضهم أنها الصبح، مستدلا بقوله في رواية ابن عباس عند ابن ماجه والبيهقي (ج3:ص81): وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القراءة من حيث بلغ أبوبكر، لكن في الاستدلال به على ذلك نظر. لاحتمال أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم سمع لما قرب من أبي بكر الآية التي كان انتهى إليها خاصة، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يسمع الآية أحيانا في الصلاة السرية على أن حديث ابن عباس هذا في سنده أبوإسحاق السبيعي كان قد
فلما رآه أبوبكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن لا يتأخر، قال: أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى جنب أبي بكر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قاعد. وقال عبيدالله: فدخلت على عبدالله بن عباس، فقلت له: ألا أعرض عليك ما حدثني عائشة عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: هات، فعرضت عليه حديثها، فما أنكر منه شيئا، غير أنه قال: أسمت لك الرجل الذي كان مع العباس؟ قلت: لا. قال: هو علي))

(7/206)


اختلط بآخر عمره، وكان مدلسا، وقد رواه بالعنعنة. وقد قال البخاري: لا نذكر لأبي إسحاق سماعا عن أرقم ابن شرجيل. (فلما رأه أبوبكر ذهب ليتأخر) أي أراد أن يتأخر وشرع فيه. (فأومأ) بالألف وفي بعض النسخ بالهمزة أي أشار. (قال) أي للرجلين. (فأجلساه إلى جنب أبي بكر والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قاعد) كذا وقع في جميع النسخ الموجودة عندنا. ولفظ البخاري: فأجلساه إلى جنب أبي بكر، قال: فجعل أبوبكر يصلي، وهو يأتم بصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والناس بصلاة أبي بكر والنبي - صلى الله عليه وسلم - قاعد. ولفظ مسلم: فأجلساه إلى جنيب أبي بكر فكان يصلي أبوبكر وهو قائم بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي - صلى الله عليه وسلم - قاعد. وذكر الجزري في جامع الأصول (ج11:ص372) لفظ مسلم. والظاهر أنه وقع في نسخ المشكاة ههنا سقط من النساخ حتى صار الكلام مهملا. والعجب من القاري أنه لم يتنبه لذلك ومر عليه كأنه رأى معناه واضحا ليس فيه اختلال ولا إهمال. واستدل بهذا الحديث على أن استخلاف الإمام الراتب إذا اشتكى أولى من صلاته بهم قاعدا؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - استخلف أبابكر ولم يصل بهم قاعدا غير مرة واحدة. وفيه دليل على صحة إمامة القاعد المعذور للقائم خلافا لمالك. وفي الحديث فوائد أخرى غير ما تقدم منها: فضيلة أبي بكر الصديق وترجيحه على جميع الصحابة وتفضيله، وتنبيه على أنه أحق بخلافة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غيره. ومنها: فضيلة عمر بعد أبي بكر؛ لأن أبابكر لم يعدل إلى غيره. ومنها: أن المفضول إذا عرض عليه الفاضل مرتبة لا يقبلها بل يدعها للفاضل إذا لم يمنع مانع. ومنها: الثناء في الوجه لمن أمن عليه الإعجاب والفتنة، لقوله: أنت أحق بذلك. ومنها: أن الإمام إذا عرض له عذر عن حضور الجماعة وأراد أن يستخلف أحدا فلا يستخلف إلا أفضلهم. (وقال عبيدالله) ابن عبدالله بن عتبة.

(7/207)


(ألا أعرض) الهمزة للاستفهام ولا للنفي وليس حرف التنبيه ولا حرف التحضيض، بل هو استفهام للعرض. (عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي وعن صلاته في تلك الحالة وإنما اقتصر على الأول؛ لأنه المقصود بالسؤال. (قال هات) بكسر التاء مفرد هاتوا بمعنى أحضر. (فعرضت عليه) أي على ابن عباس. (حديثها) هذا. (فما أنكر منه) أي من حديثها. (شيئا) مصدر أي ما أنكر شيئا من الانكار فهو مفعول مطلق. وقيل: مفعول به أي ما انكر شيئا من الأشياء. (قال هو علي) أي ابن أبي طالب قيل: لم تسمه عائشة؛
متفق عليه.
1155- (13) وعن أبي هريرة، أنه كان يقول: ((من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة، ومن فاتته قراءة أم القرآن فقد فاته خير كثير)).
لأنه كان في قلبها منه ما يحصل في قلوب البشر. مما يكون سببا في الإعراض عن ذكر اسمه، ففي رواية للإسماعيلي: ولكن عائشة لا تطيب نفسا له بخير، ولابن إسحاق في المغازي، ولكنها لا تقدر على أن تذكره بخير. قال الحافظ: وفي هذا رد على من تنطع فقال: لا يجوز أن يظن ذلك بعائشة ورد على من زعم أنها أبهمت الثاني، لكونه لم يتعين في جميع المسافة إذ كان تارة يتوكأ على الفضل وتارة على أسامة وتارة على علي. وفي جميع ذلك الرجل الآخر هو العباس، واختص بذلك إكراما له، وهذا توهم ممن قاله، والواقع خلافه؛ لأن ابن عباس في جميع الروايات الصحيحة جازم بأن المبهم علي فهو المعتمد، ودعوى وجود العباس في كل مرة والذي يتبدل غيره مردودة بدليل رواية ابن حبان التي قدمت الإشارة إليها وغيرها صريح في أن العباس لم يكن في مرة ولا مرتين - انتهى كلام الحافظ. فتفكر. (متفق عليه) أخرجه البخاري في باب : إنما جعل الإمام ليؤتم به، وأخرجه أيضا النسائي في باب الإئتمام بالإمام يصلي قاعدا والبيهقي (ج1:ص31 وج3:ص80).

(7/208)


1155- قوله: (أنه كان يقول) الضمير راجع إلى أبي هريرة. ولفظ المؤطا مالك: أنه بلغه أن أباهريرة كان يقول. (من أدرك الركعة) قيل: المراد بالركعة الركوع، ومعنى إدراك الركوع أن يركع المأموم قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع يعني من أدرك الإمام راكعا فكبر وركع قبل رفع الإمام رأسه فقد أدرك الركوع وإذا أدرك الركوع. (فقد أدرك السجدة) بالأولى يعني يعتبر بهذه السجدة إذا أدرك الركوع. وقيل: المراد بالسجدة الركعة، والمعنى من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة أي صحت له تلك الركعة. وقيل: لفظ الركعة محمول على معناه الحقيقي، والمراد بالسجدة الصلاة والمعنى من أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة أي فضيله جماعتها بكمالها. (ومن فاتته قراءة أم القرآن) أي فاتحة الكتاب. (فقد فاته خير كثير) قال الباجي في المنتقي (ج1:ص21) معناه من أدرك الركعة فقد أدرك الاعتداد بالسجدة، وليست فضيلة من أدرك الركعة بدون قراءة كفضيلة من أدرك القراءة من أولها إلى آخرها. وقال الطيبي: أي من أدرك الركوع وفاته قراءة أم الكتاب وإن أدرك الركعة فقد فاته ثواب كثير - انتهى. وهذا بظاهره يدل على أن أباهريرة ذهب إلى أن مدرك الركوع مدرك للركعة، لكن هذا الأثر مما رواه مالك بلاغا، وقد قال بعضهم: يسمى مثل هذا معضلا ولم نقف على من رواه مسندا، ولا يكفي لثبوته وصحته ما نقله القاري عن سفيان إذا قال مالك: بلغني فهو إسناد قوي، ولو سلم فهو معارض لما رواه البخاري في جزء القراءة (ص35) بسنده عن أبي هريرة لا يجزيك إلا أن
رواه مالك.
1156- (14) وعنه، أنه قال: ((الذي يرفع رأسه ويخفضه قبل الإمام، فإنما ناصيته بيد الشيطان))
رواه مالك.

(7/209)


تدرك الإمام قائما قبل أن يركع. وفي رواية (ص64) إذا أدركت القوم ركوعا لم تعتد بتلك الركعة، قال ابن عبدالبر بعد ذكره: في إسناد نظر، ولم يبين وجه النظر، والحق أن إسناد الروايتين صحيح أو حسن، رواته مقبولون موثقون، فإن الأول رواه عن عبيد بن يعيش عن يونس عن محمد بن إسحاق قال: أخبرني الأعرض عن أبي هريرة. والثاني عن معقل بن مالك عن أبي عوانة عن محمد بن إسحاق عن عبدالرحمن الأعرج عنه، وهذا أقوى وأرجح مما رواه مالك بلاغا، فيقدم ذلك على هذا. (رواه مالك) أي بلاغا عن أبي هريرة، ورواه البيهقي (ج2:ص90) من طريق مالك.

(7/210)


1156- قوله: (وعنه) أي عن أبي هريرة. (أنه قال) موقوف. وقد روي مرفوعا، ورجح الحافظ وقفه كما سيأتي. (الذي يرفع رأسه) أي من الركوع والسجود. (ويخفضه) أي الرأس فيهما. (قبل الإمام) أي قبل رفعه وخفضه. (فإنما ناصيته) أي شعر مقدم رأسه. قال في المجمع: هي الشعر المسترسل في مقدم الرأس، وقد يكنى بها عن جميع الذات. وقال في القاموس: الناصية قصاص الشعر. (بيد الشيطان) حقيقة أو مجازا، يعني يقلبه على خلاف رضى الحق، فهو في تصريف الشيطان، وقبول أمره. والمعنى أن المبادرة بالرفع والخفض قبل الإمام من فعل الشيطان بالمبادر. قال الباجي: معناه الوعيد لمن فعل ذلك، وإخبار أن ذلك من فعل الشيطان، وأن فعله هذا انقياد من كانت ناصيته بيده - انتهى. قال صاحب القبس: ليس للتقدم قبل الإمام سبب إلا طلب الاستعجال، ودواؤه أنه يستحضر أنه لا يسلم قبل الإمام فلا يستعجل في هذه الأفعال، ذكره الحافظ في الفتح. (رواه مالك) عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص عن مليح بن عبدالله بن السعدي عن أبي هريرة من قوله قال ابن عبدالبر: رواه مالك موقوفا، ورواه الدراوردي عن محمد بن عمرو عن مليح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الحافظ في الفتح أخرجه البزار من رواية مليح بن عبدالله السعدي عن أبي هريرة مرفوعا، وأخرجه عبدالرزاق من هذا الوجه موقوفا. وهو المحفوظ - انتهى. قلت: والحديث المرفوع عزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص78) للبزار، والطبراني وقال: وإسناده حسن - انتهى. ومليح بن عبدالله السعدي لم أجد ترجمته في كتب الرجال الموجودة عندي، إلا أنه ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة، فقال: مليح بن عبدالله السعدي روى عن أبي هريرة وروى عنه محمد بن عمرو بن علقمة الليثي - انتهى.
(29) باب من صلى صلاة مرتين
?الفصل الأول?

(7/211)


1157- (1) عن جابر، قال: ((كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يأتي قومه فيصلي بهم)). متفق عليه.
(باب من صلى) أي فيمن صلى. (صلاة مرتين) أي حقيقة أو صورة وله صور، والمقصود منها ههنا بالنظر إلى أحاديث الباب هو أن يصلي فريضة منفردا في منزله أو في المسجد بالجماعة مأموما ثم يذهب إلى مسجد الجماعة فيصلي بهم إماما أو معهم مأموما.
1157- قوله. (كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي العشاء الآخرة، كما في رواية لمسلم فكان العشاء هي التي كان يواظب فيها على الصلاة مرتين. (ثم يأتي قومه) أي مسجد قومه بني سلمة. (فيصلي بهم) أي الصلاة المذكورة، ففي رواية مسلم المتقدمة: فيصلي بهم تلك الصلاة، أي التي صلاها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وللبخاري في الأدب: فيصلي بهم الصلاة أي المذكورة. وفي هذا رد على من زعم أن الصلاة التي كان يصليها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - غير الصلاة التي كان يصليها بقومه، واستدل به لما ذهب إليه الشافعي وأحمد من صحة إقتداء المفترض خلف المتنفل، بناء على أن معاذا كان ينوي بالأولى بالفرض وبالثانية النفل. وأجاب بعض الحنفية بأنه لا حجة فيه لجواز أن يكون كان معاذ يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نافلة، ثم يأتي قومه فيصلي بهم فريضة، ورد هذا الجواب بأن الظاهر من هذا الحديث أن معاذا كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فريضة، إذ بعيد من فقاهة معاذ وهو أفقه الصحابة أن يدرك الفرض خلف أفضل الأئمة في مسجده الذي هو أفضل المساجد بعد المسجد الحرم، فيتركه ويضيع حظه منه ويقنع من ذلك بالنفل. قال السندي في حاشية النسائي: دلالة هذا الحديث على جواز إقتداء المفترض واضحة، والجواب عنه مشكل جدا، وأجابوا بما لا يتم، وقد بسطت الكلام فيه في حاشية ابن الهمام-انتهى. قلت: والرواية الآتية نص صريح في صحة اقتداء المفترض خلف المتنفل، وهي صحيحة، كما

(7/212)


ستعرف، والحديث يدل على جواز إعادة الصلاة بالجماعة إماما أو مأموما لمن صلى جماعة في مسجد، واختلف فيه. قال ابن رشيد: أكثر الفقهاء على أنه لا يعيد، منهم مالك وأبوحنيفة. وقال بعضهم: يعيد، ومن قال بهذا أحمد وداود وأهل الظاهر-انتهى. قلت: وبه قال الشافعي، وهو الحق لحديث جابر هذا، وسيأتي مزيد الكلام في ذلك في شرح الأحاديث المذكورة في الباب. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب إذا صلى ثم أم قوما ويمثله أخرجه مسلم إلا أن فيه ثم يأتي مسجد قومه.
1158- (2) وعنه، قال: ((كان معاذ يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم العشاء، وهي له نافلة
وللحديث طرق وألفاظ مطولة ومختصرة، منها ما تقدم في باب القراءة في الصلاة. وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم.

(7/213)


1158- قوله. (ثم يرجع إلى قومه) أي بني سلمة. (فيصلي بهم العشاء) أي التي كان يصليها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية الحميدي عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار: ثم يرجع إلى بني سلمة فيصليها بهم. وفي رواية الشافعي عن ابن عيينة: ثم يرجع فيصليها بقومه في بني سلمة، ولأحمد: ثم يرجع فيؤمنا. (وهي) أي صلاته بقومه. (له) أي لمعاذ. (نافلة) أي تطوع، ولقومه فريضة، ففي رواية للدارقطني. (ص102): ثم ينصرف إلى قومه فيصلي بهم، هي له تطوع، ولهم فريضة، وهذه الزيادة المصرحة أن صلاة معاذ بقومه كانت له تطوعا، دليل واضح على صحة إقتداء المفترض خلف المتنفل خلافا للمالكية والحنفية. وأجاب بعض الحنفية بأن هذه الزيادة فيها كلام، لأنه تفرد بها ابن جريج عن عمرو بن دينار. قال أحمد: أخشى أن لا تكون محفوظة. وقال ابن الجوزي: هذه الزيادة لا تصح. وقال الطحاوي: إن ابن عيينة قد روى هذا الحديث عن عمرو بن دينار كما رواه ابن جريج، وجاء به تاما، وساقه أحسن من سياق ابن جريج غير أنه لم يقل فيه هذا الذي قاله ابن جريج: هي له تطوع ولهم فريضة-انتهى. قلت: الزيادة المذكورة صحيحة ثابتة محفوظة، فإنها زيادة من ثقة حافظ، ليست منافية لرواية من هو أحفظ منه أو أكثر عددا. وأما قول ابن الجوزي والطحاوي فقد رده الحافظ أحسن رد، حيث قال: ويدل عليه. (أى أن معاذ كان ينوي بالأولى الفرض وبالثانية النفل) ما رواه عبد الرزاق والشافعي والطحاوى والدارقطني وغيرهم من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار عن جابر في حديث الباب، زاد هي له تطوع، ولهم فريضة. وهو حديث صحيح، وقد صرح ابن جريج في رواية عبدالرزاق بسماعه فيه، فانتفت تهمة تدليسه. فقول ابن الجوزي: لا يصح، مردود. وتعليل الطحاوي بأن ابن عيينة ساقه عن عمرو أتم من سياق ابن جريج، ولم يذكر هذه الزيادة، ليس بقادح، لأن ابن جريج أسن وأجل من ابن عيينة وأقدم أخذا عن عمرو منه، ولو لم يكن كذلك فهي زيادة

(7/214)


من ثقة حافظ ليست منافية لرواية من هو أحفظ منه ولا أكثر عددا، فلا معنى للتوقف في الحكم بصحتها- انتهى. ودعوى شذوذ هذه الزيادة، كما تفوه بها بعضهم، باطلة جدا، لأنه لا بد لكون الرواية شاذة من أن تكون منافية لرواية من هو أوثق من راويها أو أكثر عددا منه، والأمر ههنا ليس كذلك، كما هو ظاهر جلي. وأجاب الطحاوي عن هذه الزيادة بوجوه: أحدها أن هذه الزيادة ليست من كلام رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، ولا من كلام معاذ، وهذا ظاهر جدا، فيحتمل أن تكون من قول ابن جريج
. . .

(7/215)


أو من قول عمرو بن دينار، فعلى هذا تكون مدرجة، فلا تقبل. ومع هذا لا تدل على حقيقة فعل معاذ أنه كذلك أم لا. وأجاب الحافظ عنه بأن الأصل عدم الإدراج حتى يثبت التفصيل. فمهما كان مضموما إلى الحديث فهو منه. ومجرد الاحتمال لا يثبت به الإدراج. فرد هذه الزيادة بمجرد احتمال أن تكون مدرجة، باطل جدا. وثانيها أنه يحتمل أن تكون هذه الزيادة من قول جابر، فعلى هذا لا تكون مدرجة، لكن لا تدل على حقيقة فعل معاذ أنه كذلك أم لا، لأنه لم يحك ذلك عن معاذ، بل هو ظن من جابر. وقد يجوز أن يكون في الحقيقة بخلاف ذلك. وأجاب الحافظ عنه بأن قول الطحاوي: هو ظن من جابر، مردود، لأن جابرا كان ممن يصلي مع معاذ، فهو محمول على أنه سمع ذلك منه، ولا يظن بجابر أنه يخبر عن شخص بأمر غير مشاهد إلا بأن يكون ذلك الشخص أطلعه عليه. وثالثها أنه لو ثبت أن هذه الزيادة نقلها جابر عن معاذ وسمعها منه لم يكن في ذلك دليل على أنه كان بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو أخبره به لأقره أو غيره، فعلى هذا لا تكون فيها حجة. وأجاب الحافظ عنه بأنهم لا يختلفون في أن رأي الصحابي إذا لم يخالفه غيره حجة، والواقع هنا كذلك، فإن الذين كان يصلي بهم معاذ كلهم صحابة، وفيهم ثلاثون عقبيا وأربعون بدريا، قاله ابن حزم، قال: ولا يحفظ عن غيرهم من الصحابة امتناع ذلك، بل قال معهم بالجواز عمر وابن عمر وأبوالدرداء وأنس وغيرهم- انتهى. قلت: ويمكن أن يجاب بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم بذلك، وأمر معاذ به. ففي رواية لأحمد أنه قال لمعاذ: لا تكن فتانا، إما أن تصلي معي. وإما أن تخفف على قومك، يعني إما تصلي معي إذا لم تخفف. وإما أن تخفف بقومك فتصلي معي. ورابعها أنه لو سلم أن ذلك كان من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإذنه لم يكن فيه حجة، لاحتمال أن ذلك كان في الوقت الذي كانت الفريضة فيه تصلى مرتين، فإن

(7/216)


ذلك قد كان يفعل في أول الإسلام حتى نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كما سيأتي في حديث سليمان عن ابن عمر في آخر الفصل الثالث، يعني فيكون فعل معاذ منسوخا بما روي من النهي. وتعقب ذلك بأنه يتضمن إثبات النسخ بالاحتمال، وهو لا يسوغ. وأما حديث ابن عمر ففي الاستدلال به على تقدير صحته نظر، لاحتمال أن يكون النهي عن أن يصلوا مرتين على أنهما فريضة. وبذلك جزم البيهقي جمعا بين الحديثين، بل لو قال قائل: هذا النهي منسوخ بحديث معاذ لم يكن بعيدا. ولا يقال إن القصة قديمة، لأن صاحبها استشهد بأحد. لأنا نقول كانت أحد في أواخر الثالثة، فلا مانع من أن يكون النهي في الأولى، والإذن في الثالثة مثلا، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - للرجلين الذين لم يصليا معه: إذا صليتما في حالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم فإنها لكما نافلة، وكان ذلك في حجة الوداع في أواخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويدل على الجواز أيضا أمره - صلى الله عليه وسلم - لمن أدرك الأئمة الذين يأتون بعده،
رواه........
((الفصل الثاني))
1159_(3) عن يزيد بن الأسود، قال: ((شهدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجته، فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته وانحرف فإذا هو برجلين في آخر القوم لم يصليا معه،

(7/217)


ويؤخرون الصلاة عن ميقاتها، أن صلوها في بيوتكم في الوقت، ثم اجعلوها معهم نافلة. (رواه) بيض له المصنف ليبين روايه ومخرجه، وكان ينبغي تأخيره للفصل الثاني، لأنه ليس في الصحيحين، ولا في أحدهما، ولا في واحد من الكتب الستة، وإنما رواه البيهقي. (ج3 ص86) وغيره. وقد تقدم في كلام الحافظ أنه رواه عبدالرزاق والشافعي والطحاوي والدارقطني وغيرهم. وكأن المصنف ذكره في الفصل الأول تبعا لما في المصابيح، وكان على البغوي أن يؤخره للحسان. قال الطيبي: لم يبين المؤلف روايه من أصحاب السنن، يشير إلى أنه ما وجده في الصحيحين. قال التوربشتي: هذا الحديث أثبت في المصابيح من طريقين: أما الأول فقد رواه الشيخان. وأما الثاني فبالزيادة التي فيه، وهي قوله: نافلة له فلم نجده في أحد الكتابين، فإما أن يكون المؤلف أورده بيانا للحديث الأول، فخفي قصده لإهمال التمييز بينهما أو هو سهو منه، وإما أن يكون مزيدا من خائض افتحم الفضول إلى مهامه لم يعرف طرقها- انتهى. والحديث مع هذه الزيادة صححه البيهقي وغيره. وقال الشافعي في مسنده: هذه زيادة صحيحة. وتقدم قول الحافظ أنه حديث صحيح.

(7/218)


1159- قوله. (عن يزيد بن الأسود) هو أبو جابر يزيد بن الأسود ويقال: ابن أبي الأسود السوائي بضم المهملة وتخفيف الواو والمد، العامري، ويقال الخزاعي، حليف قريش، صحابي، نزل الطائف، ووهم من ذكره في الكوفيين. له هذا الحديث فقط، وروى عنه ابنه جابر بن يزيد الأسود. (شهدت) أي حضرت. (مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجته) أي حجة الوداع. (صلاة الصبح) فيه رد على من زعم من الحنفية بأن هذه القصة كانت في صلاة الظهر. وأما ما وقع في مسند أبي حنيفة بلفظ: أن رجلين صليا الظهر في بيوتهما- الحديث. فلا يعتد به، أو هي قصة أخرى. (في مسجد الخيف) بفتح الخاء المعجمة وإسكان الياء، وهو مسجد مشهور بمنى. قال الطيبي: الخيف ما انحدر من غليظ الجبل. وارتفع عن المسيل، يعني هذا وجه تسميته به. (فلما قضى صلاته) أي أداها وسلم منها. (وانحرف) وفي بعض نسخ الترمذي: "انحرف" بدون الواو، وهكذا نقله الجزرى في جامع الأصول. (ج6ص419) ووقع عند البيهقي. (ج2 ص301): وانحرف بزيادة الواو أي انصرف عنها، والظاهر أن المعنى انحرف عن القبلة. (فإذا هو) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (برجلين في آخر القوم) كذا في جميع النسخ، أي بالمد في أوله
قال: علي بهما، فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: يا رسول الله ! إنا كنا قد صلينا في رحالنا، قال: فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة)).

(7/219)


وكسر الخاء. والذي في الترمذي: أخرى القوم، أي بضم الهمزة تأنيث آخر بكسر الخاء، ونقله الجزري كذلك. وأخرى القوم من كان في آخرهم، كما في القاموس. (علي) بتشديد الياء، اسم فعل. (بهما) أي ائتوني بهما واحضروهما عندي. (ترعد) بالبناء للمجهول أي تحرك وترجف وتضطرب من الخوف من أرعد الرجل إذا أخذته الرعدة، وهي الفزع والاضطراب. (فرائصهما) بالصاد المهملة جمع فريصة، وهي اللحمة التي بين الجنب والكتف، تهتز وترجف عند الفزع، أي تتحرك وتضطرب. ووجه ارتعاد فرائصهما ما أعطي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العظمة والمهابة مع كثرة تواضعه. (فقال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ما منعكما أن تصليا) هذه الصلاة. (معنا) معشر المسلمين. (في رحالنا) أي منازلنا، جمع رحل بفتح الراء وسكون المهملة. (فلا تفعلا) أي ما فعلتما من ترك الصلاة مع الإمام بل (إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة) لفظ أبي داود: إذا صلى أحدكم في رحله، ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه. ولفظ ابن حبان: إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الصلاة فصليا. قال الشوكاني: ظاهر التقييد بقوله: ثم أتيتما مسجد جماعة، إن هذا الحكم مختص بالجماعات التي تقام في المساجد لا التي تقام في غيرها، فيحمل المطلق من ألفاظ حديث الباب كلفظ أبي داود وابن حبان المتقدمين على المقيد بمسجد الجماعة. (فصليا معهم) أي مع أهل المسجد. (فإنها) أي الصلاة الثانية، وهي التي صلياها مع أهل المسجد بعد صلاتهما الفريضة. (لكما نافلة) والفريضة هي الأولى، سواء صليت جماعة أو فرادى لإطلاق الخبر. قال الشوكاني: فيه تصريح بأن الثانية في الصلاة المعادة نافلة. وظاهره عدم الفرق بين أن تكون الأولى جماعة أو فرادى، لأن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال. قال الخطابي في المعالم. (ج1 ص164): في الحديث من الفقه أن من صلى في رحله، ثم صادف جماعة يصلون كان عليه أن يصلي

(7/220)


معهم أي صلاة كانت من الصلوات الخمس، وهو مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق. وكان مالك يكره أن يعيد صلاة المغرب وكان أبوحنيفة لا يرى أن يعيد صلاة العصر والمغرب والفجر- انتهى. قال ابن رشد: من استثنى من ذلك صلاة المغرب فقط فإنه خصص العموم بالقياس الشبه وهو مالك، وذلك أنه زعم أن صلاة المغرب وتر، فلو أعيدت لأشبهت صلاة الشفع، لأنها بمجموع ذلك تكون ست ركعات، فكأنها تنتقل من جنسها إلى جنس صلاة أخرى. وهذا القياس فيه ضعف، لأن السلام قد فصل بين الأوتار- انتهى. وعلل الحنفية استثناء
رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي.

(7/221)


العصر والفجر والمغرب بأن الصلاة الأولى فرض، والثانية نفل، قالوا: فيراعى فيه ما يراعى في التنفل، كالمنع من التطوع بعد فرض العصر والصبح، وعدم مشروعية التطوع وترا. قال الخطابي: وظاهر الحديث حجة على الجماعة من منع عن شيء من الصلوات كلها، ألا تراه يقول: إذا صلى أحدكم في رحله، ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه، ولم يستثن صلاة دون صلاة، فأما نهيه عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب فقد تأولوه على وجهين: أحدهما أن ذلك على معنى إنشاء الصلاة ابتداء من غير سبب. فأما إذا كان لها سبب مثل أن يصادف قوما يصلون جماعة فإنه يعيدها معهم ليحرز الفضيلة. والوجه الآخر أنه منسوخ، وذلك أن حديث يزيد بن الأسود متأخر، لأن في قصته أنه شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع، ثم ذكر الحديث. وفي قوله: فإنها نافلة دليل على أن صلاة التطوع جائزة بعد الفجر قبل طلوع الشمس إذا كان لها سبب- انتهى. وقال السندي في حاشية النسائي: قوله: فصليا معهم، هذا تصريح في عموم الحكم أوقات الكراهة أيضا، ومانع عن تخصيص الحكم بغير أوقات الكراهة، لاتفاقهم على أنه لا يصح استثناء المورد من العموم، والمورد صلاة الفجر. قال: ولا يمكن أن يتوهم نسخ هذا الحكم لكون ذلك في حجة الوداع. قلت: الحديث نص في رد ما قاله أبوحنيفة للتصريح بأن ذلك كان في صلاة الصبح، فيكون هذا مخصصا لعموم الأحاديث القاضية بكراهة الصلاة بعد صلاة الصبح. ومن جوز التخصيص بالقياس ألحق ما ساواه من أوقات الكراهة. وأما التنفل بالثلاث غير صلاة الوتر فالظاهر أنه يشرع في مثل هذه الصورة لإطلاق حديث يزيد هذا وما وافقه من أحاديث الباب. ولا يعارض هذا حديث ابن عمر الآتي بلفظ: لا تصلوا صلاة في يوم مرتين، لما سنذكره. (رواه الترمذي وأبوداود والنسائي) واللفظ المذكور للترمذي، وأخرجه أيضا أحمد (ج4 ص160) والطيالسي وابن سعد في الطبقات وابن حبان والدارقطني

(7/222)


والحاكم (ج1 ص245) والبيهقي (ج2 ص300- 301)، وصححه ابن السكن والترمذي، وسكت عنه أبوداود ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره، وقد أخرجوه كلهم من طريق يعلى بن عطاء عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه، قال الشافعي في القديم: إسناده مجهول. قال البيهقي: لأن يزيد بن الأسود ليس له راو غير ابنه، ولا لابنه جابر راو غير يعلى. قال الحافظ في التلخيص (ص122): يعلى من رجال مسلم، وجابر وثقة النسائي وغيره، وقد وجدنا لجابر بن يزيد راويا غير يعلى، أخرجه ابن مندة في المعرفة من طريق شيبة عن إبراهيم بن أبي أمامة عن عبدالملك بن عمير عن جابر.
((الفصل الثالث))
1160- (4) عن بسر بن محجن، عن أبيه، ((أنه كان في مجلس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذن بالصلاة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(7/223)


1160- قوله. (عن بسر) بضم الموحدة وسكون المهملة، كذا قال مالك في روايته عن زيد بن أسلم. وأما الثوري فقال: عن زيد بن أسلم عن بشر بكسر الموحدة وبالمعجمة. قال أبونعيم: والصواب ما قال مالك. وقال ابن عبدالبر: الأكثر على ما قال مالك. ونقل الدارقطني أن الثورى رجع عن ذلك. وقال ابن عبدالبر: إن عبدالله بن جعفر والد علي بن المديني رواه عن زيد بن أسلم، فقال بشر بن محجن بالمعجمة. وقال الطحاوي: سمعت إبراهيم البرلسي يقول: سمعت أحمد بن صالح بجامع مصر يقول: سمعت جماعه من ولده ومن رهطه فما اختلف اثنان أنه بشر، كما قال الثوري يعني بالمعجمة. وقال ابن حبان في الثقات: من قال بشر فقد وهم، روى عنه زيد بن أسلم حديثا واحدا. قيل صحابي، والصواب أنه تابعي. ذكره الحافظ في الإصابة في القسم الرابع من حرف الباء، وهو فيمن ذكر في الصحابة على سبيل الوهم والغلط بشرط أن يكون الوهم فيه بينا، فقال: بسر بالضم وإسكان المهملة تابعي مشهور، جزم بذلك البخاري والجمهور. ذكره البغوي وغيره في الصحابة لرواية سقط فيها لفظ عن أبيه، وسنذكرها وقال ابن الأثير في أسد الغابة: لا تصح صحبته، تصح صحبة أبيه محجن. وقال في التقريب: بسر بن محجن. وقيل: بكسر أوله والمعجمة، صدوق من الرابعة أي من الطبقة التي تلي الطبقة الوسطى من التابعين، جل روايتهم عن كبار التابعين. (بن محجن) بكسر الميم وسكون مهملة وفتح جيم آخره نون. (عن أبيه) أي محجن بن أبي محجن الديلى، صحابي قليل الحديث. قال ابن عبدالبر: معدود في أهل المدينة. قال الذهبي في تلخيصه للمستدرك (ج1 ص244): محجن تفرد عنه ابنه – انتهى. ووهم من قال فيه: محجن بن الأدرع، كما في المنتقى لابن تيمية، فإنه صحابي آخر. (أنه) أي أباه. (كان في المجلس) أي داخل المسجد. (فأذن) بصيغة المفعول. (بالصلاة) قيل أي بالصلاة الظهر، لما أخرج البغوي وغيره من طريق ابن إسحاق عن عمران بن أبي أنس عن حنظلة بن علي عن بسر بن

(7/224)


محجن، قال صليت الظهر في منزلي، ثم خرجت بإبل لى لأضربها، فمررت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو يصلي الظهر في مسجده- الحديث. ذكره الحافظ في الإصابة. وقال قد سقط من الإسناد قوله: عن أبيه، وأخرجه الطحاوي من طريق سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم بلفظ: صليت في بيتي الظهر والعصر- الحديث. وذكر ابن الأثير الجزري في أسد الغابة حديث بسر هذا بلفظ: صلاة الظهر. وروى أحمد عن رجل من بني الديل، قال خرجت بأباعر لي، لأصدرها إلى الراعي، فمررت برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يصلي بالناس الظهر، فمضيت، فلم أصل
فصلى، ورجع، ومحجن في مجلسه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما منعك أن تصلي مع الناس؟ ألست برجل مسلم؟ فقال: بلى، يا رسول الله ! ولكني كنت قد صليت في أهلي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا جئت المسجد، وكنت قد صليت، فأقيمت الصلاة، فصل مع الناس وإن كنت قد صليت)). رواه مالك، والنسائي.

(7/225)


معه- الحديث. (فصلى) أي بعد الإقاومة. (ورجع) وفي الموطأ، وكذا عند النسائي: ثم رجع أي بعد الفراغ من الصلاة (ومحجن في مجلسه) أي مكانه الأول لم يتحرك منه. (ما منعك أن تصلي مع الناس) أي جماعة المسلمين الذين صلوا معي. (ألست برجل مسلم) قال الباجي: يحتمل الاستفهام، ويحتمل التوبيخ، وهو الأظهر. ولا يقتضي أن من لم يصل مع الناس ليس بمسلم، إذ هذا لا يقوله أحد- انتهى. (فقال بلى يا رسول الله ) أنا مسلم حقا. (ولكني كنت قد صليت) وفي الموطأ: ولكني قد صليت أي بدون لفظ: كنت (في أهلي) يعني ما تركت الصلاة، وإنما اكتفيت بصلاتي في أهلي. ولعله سمع قبل ذلك قوله: لا تصلوا صلاة في يوم مرتين. (إذا جئت المسجد وكنت قد صليت فأقيمت الصلاة فصل مع الناس) ولفظ الموطأ والنسائي: إذا جئت فصل مع الناس. ولفظ الكتاب لم أجده إلا في جامع الأصول. وقد نسبه إلى الموطأ والنسائي. وزاد أحمد في رواية له: واجعلها نافلة. (وأن) وصلية أي ولو. (كنت قد صليت) أي في أهلك. قال الطيبي: تكرير تقرير لقوله: وكنت قد صليت، وتحسين للكلام، كما في قوله تعالى. ?ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة، ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم? [16: 119] فقوله: لغفور رحيم، خبر لقوله: إن ربك للذين عملوا السوء، وقوله: إن ربك من بعدها تكرير للتقرير والتحسين –انتهى. والحديث بعمومه وإطلاقه يدل على مشروعية الصلاة مع الإمام إذا وجده يصلي أو سيصلي أي صلاة كانت من الصلوات الخمس لمن كان قد صلى جماعه أو فرادى، والأولى هي الفريضة. والأخرى نافلة، كما صرح به في رواية لأحمد، (رواه مالك) عن زيد بن أسلم عن بسر عن أبيه محجن، والنسائي من طريق مالك، وأخرجه أيضا أحمد (ج4 ص34) من طريق الثوري، ومالك عن زيد بن أسلم. ونسبه الحافظ في الإصابة للبخاري في الأدب المفرد، وابن خزيمة، ونسبه أيضا في التلخيص لابن حبان والحاكم. وأخرجه أيضا الطحاوي والدارقطني

(7/226)


والدارمي والبيهقي (ج2 ص300)، وهو في المستدرك (ج1 ص244). من طريق مالك ومن طريق الشافعي عن عبدالعزيز بن محمد عن زيد بن أسلم، ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح، ومالك بن أنس الحكم في حديث المدنيين، وقد احتج به في الموطأ، وهو من النوع الذي قدمت ذكره أن الصحابي إذا لم يكن له راويان لم يخرجاه- انتهى.
1161- (5) وعن رجل من أسد بن خزيمة، أنه سأل أبا أيوب الأنصاري قال: ((يصلي أحدنا في منزله الصلاة، ثم يأتي المسجد، وتقام الصلاة، فأصلى معهم، فأجد في نفسي شيئا من ذلك. فقال أبوأيوب: سألنا عن ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: فذلك له سهم جمع)). رواه مالك، وأبوداود.

(7/227)


1161- قوله. (عن رجل من أسد) كذا في جميع النسخ. وكذلك نقله الجزري في جامع الأصول (ج6 ص420). وهكذا وقع في رواية للبيهقي وفي الموطأ وأبي داود: من بني أسد. وهذا الرجل مجهول لم يسم ولم يدر. (أنه سأل أبا أيوب الأنصاري) النجاري الخزرجي البدري من كبار الصحابة. (قال) أي الرجل السائل، وهذا بيان للسؤال. (يصلي أحدنا في منزله الصلاة) أي المكتوبة. (وتقام) وفي بعض النسخ: فتقام. (فأصلي معهم) أي مرة أخرى بعد ما صليت في منزلي. قال الطيبي: فيه التفات من الغيبة إلى الحكاية على سبيل التجريد؛ لأن الأصل أن يقال أصلي في منزلي بدل قوله: يصلي أحدنا- انتهى. قال القاري: والأظهر كان الأصل أن يقال فيصلي معهم فالتفت، وكذا قوله. (فأجد في نفسي) ولفظ الموطأ: فقال إني أصلي في بيتي، ثم آتي المسجد فأجد الإمام يصلي، أفأصلى معه؟. (شيئا) أي شبهة. (من ذلك) أي من إعادة الصلاة. (سألنا عن ذلك) قال الطيبي: المشار إليه بذلك هو المشار إليه بذلك الأول والثالث أي الآتي، وهو ما كان يفعله الرجل من إعادة الصلاة بالجماعة بعد ما صلاها منفردا- انتهى. (قال) وفي بعض النسخ: فقال موافقا لما في أبي داود وجامع الأصول. (فذلك) الظاهر أن المشار إليه هنا هو الرجل خلاف ما ذكره الطيبي أي فذلك الرجل الذي أعاد الصلاة بالجماعة. (له سهم جمع) أي نصيب من ثواب الجماعة. وقال الخطابي في المعالم (ج1 ص165): يريد أنه سهم من الخير، جمع له فيه حظان. وفيه وجه آخر. قال الأخفش: سهم جمع، يريد سهم الجيش. وسهم الجيش هو السهم من الغنيمة، قال: والجمع ههنا هو الجيش، واستدل بقوله تعالى. ?يوم التقى الجمعان? [3: 155، 166]، وبقوله: ?سيهزم الجمع? [54: 45]، وبقوله: ?فلما تراء الجمعان? [26: 61]. وقال ابن عبدالبر: له أجر الغازي في سبيل لله. وقال الباجي: يحتمل عندي أن ثوابه مثل ثواب الجماعة، ويحتمل مثل سهم من بيت بالمزدلفة في الحج؛ لأن جمع اسم المزدلفة، ويحتمل أن له

(7/228)


سهم الجمع بين الصلاتين صلاة الفذ والجماعة، فيكون فيه الإخبار بأنه لا يضيع له أجر الصلاتين- انتهى. قال الطيبي: قوله: فأجد في نفسي، أي أجد في نفسي من فعل ذلك حزازة، هل ذلك لي أو علي؟ فقيل له سهم الجمع أي ذلك لك لا عليك، ويجوز أن يكون المعنى إني أجد من فعل ذلك روحا أو راحة، فقيل ذلك الروح نصيبك من صلاة الجماعة، والأول أوجه- انتهى. (رواه مالك وأبوداود) الحديث عند مالك موقوف، وعند أبي داود مرفوع. وكلام المصنف هذا يدل على أنه مرفوع عندهما جميعا، فكان ينبغي
1162- (6) وعن يزيد بن عامر، قال: ((جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة، فجلست ولم أدخل معهم في الصلاة، فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رآني جالسا، فقال: ألم تسلم يا يزيد؟ قلت: بلى، يا رسول الله ! قد أسلمت. قال: وما منعك أن تدخل مع الناس في صلاتهم؟ قال: إني كنت فقد صليت في منزلي، أحسب أن قد صليتم. فقال: إذا جئت الصلاة فوجدت الناس، فصل معهم وإن كنت قد صليت،
له أن يقول رواه مالك موقوفا، وأبوداود مرفوعا أو يقول رواه أبوداود، ورواه مالك موقوفا، ورواه البيهقي (ج2 ص300) مرفوعا من طريق أبي داود، وموقوفا من طريق مالك. والحديث في سنده رجل مجهول، كما تقدم.

(7/229)


1162- قوله. (وعن يزيد بن عامر) بن الأسود العامري أبوحاجز السوائي. قال في التقريب: صحابي، له حديث، يعني هذا الحديث. وقال في الإصابة: قال أبوحاتم: له صحبة، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة. أخرجه أبوداود من طريق نوح بن صعصعة عنه. ثم أخرجه الطبراني من هذا الوجه، وكان شهد حنينا مع المشركين، ثم أسلم (جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة) وفي أبي داود جئت والنبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة أي مع الجماعة. ولفظ المشكاة موافق لما في جامع الأصول (ج6 ص420). (فجلست) أي في ناحية من المسجد منفردا عن الصف. (ولم أدخل معهم) أي مع المصلين. (في الصلاة) يعني إذا كنت قد صليت. (فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي عن الصلاة وانحرف عن القبلة. (رآني جالسا) وفي أبي داود: قال فانصرف علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فرأى يزيد جالسا، أي على غير هيئة الصلاة أو على حدة من الصف. ولفظ المشكاة يوافق لما في جامع الأصول. (ألم تسلم) الهمزة للاستفهام أي أما أسلمت؟ (قلت) وفي بعض النسخ: فقلت: وفي أبي داود: قال أي يزيد. (وما منعك) وفي أبي داود: فما منعك. (أن تدخل مع الناس في صلاتهم) فإنه من علامة الإسلام. (قال) أي يزيد. (إني كنت قد صليت في منزلي أحسب) حال من فاعل صليت. (إن قد صليتم) قال الطيبي: قوله أحسب الخ جملة حالية أي ظانا فراغ صلاتكم- انتهى. قلت: وفي أبي داود وأنا أحسب أي والحال إني كنت قد أحسب أن قد فرغتم من الصلاة. وفيه اعتذار، أن الأول عن عدم الدخول في صلاة الجماعة، وهو بقوله: إني كنت قد صليت. والثاني عن الصلاة في المنزل، وهو بقوله: أحسب أن قد صليتم. (فقال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إذا جئت الصلاة) وفي أبي داود إلى الصلاة أي إلى المسجد. وفي جامع الأصول: إذا جئت الصلاة، كما في المشكاة. (فوجدت الناس) أي يصلون. (فصل معهم وإن) وصلية. (كنت

(7/230)


قد صليت) في منزلك، أي ليحصل لك ثواب الجماعة وزيادة النافلة.
تكن لك نافلة وهذه مكتوبة)).
(تكن) أي الصلاة الثانية التي صليتها مع الناس. (نافلة) بالنصب أي زائدة على الفرض. (وهذه) أي الصلاة الأولى التي صليتها في منزلك، ويحتمل العكس، لكن حديث يزيد بن الأسود المتقدم، وحديث محجن عند أحمد (ج4 ص338) وحديث أبي ذر السياق في باب تعجيل الصلاة يرجع الاحتمال الأول. (مكتوبة) بالرفع. وقيل: بالنصب. واعلم أنه اختلف في الصلاة التي تصلى مرتين: هل الفريضة الأولى أو الثانية، فقال الشافعي في القديم : إن الفريضة الثانية إذا كانت الأولى فرادى، واستدل له بحديث يزيد بن عامر هذا، لأن ظاهره أن الصلاة الأولى تكون نافلة. والثانية التي يصليها مع الناس مكتوبة، ويقوي ذلك رواية الدارقطني بلفظ: وليجعل التي صلى في بيته نافلة، وذكرها الحافظ في التلخيص (ص122) والزيلعي في نصب الراية (ج2 ص150). والمشهور في مذهب المالكية هو أن يعيدها في الجماعة بنية الفرض مع التفويض لله تعالى في قبول ما شاء من الصلاتين لفرضه. وقال في الشرح الكبير: وندب لمن لم يحصل فضل الجماعة أن يعيد صلاته ولو بوقت ضرورة لا بعده مفوضا أمره لله تعالى في قبول أيهما شاء لفرضه. قال الدسوقي: ما ذكره المصنف من كون المعيد ينوي التفويض. قال الفاكهاني: هو المشهور في المذهب. وقيل: ينوي الفرض. وقيل ينوي النفل. وقيل: ينوي إكمال الفريضة. وقال ابن عبدالبر: أجمع مالك وأصحابه: أن من صلى وحده لا يؤم في تلك الصلاة. وهذا يدل على أن الأولى هي فريضة، ومقتضى قواعد المالكية أنها على وجه الاعتداد بها، وبحسب النظر الفقهي الدنيوى هي الصلاة الأولى، وأما بالاعتبار الأخروي فالأمر مفوض إلى الله تعالى، واستدلوا للتفويض بأثر ابن عمر الذي بعد هذا. وقال الشافعي في الجديد: إن الأولى هي الفريضة، وهو مذهب الحنفية، وهو الحق لحديث يزيد بن الأسود السابق، ولحديث محجن عند أحمد، ولحديث أبي

(7/231)


ذر المتقدم في باب تعجيل الصلاة، ولحديث ابن مسعود عند مسلم، وأبي داود في معنى حديث أبي ذر، وغير ذلك من الأحاديث التي ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص44). وأما حديث يزيد بن عامر الذي استدل به لقول الشافعي في القديم فهو ضعيف، ضعفه النووي، لأن في سنده نوح بن صعصعة، وهو مستور، كما قال الحافظ في التقريب. وقال الدارقطني: حاله مجهولة كما في تهذيب التهذيب. وقال البيهقي: إن حديث يزيد بن الأسود أثبت منه وأولى، مع أن اللفظ المذكور في الكتاب ليس بصريح فيما ذهب إليه الشافعي. وأما الرواية بلفظ: وليجعل التي صلى في بيته نافلة، فهي ضعيفة شاذة، كما صرح به الدارقطني على ما نقله الحافظ عنه في التلخيص (ص122). وقال الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص150): قال الدارقطني والبيهقي إنها رواية ضعيفة شاذة مردودة لمخالفتها الثقات. قال الشوكاني: وعلى فرض صلاحية حديث يزيد بن عامر للاحتجاج به، كما هو مقتضى سكوت أبي داود والمنذري، فالجمع بينه وبين حديث الباب ممكن بحمل حديث يزيد بن الأسود على من صلى الصلاة الأولى في جماعة، وحمل حديث يزيد بن عامر على من صلى منفردا، كما هو الظاهر
رواه أبوداود.
1163- (7) وعن ابن عمر، رضي الله عنهما، ((أن رجلا سأله فقال: إني أصلي في بيتي، ثم أدرك الصلاة في المسجد مع الإمام، أفأصلى معه؟ قال له: نعم. قال الرجل: أيتهما أجعل صلاتي؟ قال ابن عمر: وذلك إليك؟ إنما ذلك إلى الله عزوجل، يجعل أيتهما شاء)).
من سياق الحديثين. وأما أثر ابن عمر الآتي فسيأتي الجواب عنه. (رواه أبوداود) ومن طريقه البيهقي (ج2 ص302). وسكت عنه أبوداود والمنذري. وقد عرفت أن في سنده نوح بن صعصعة، وهو مستور. وقال الدارقطني: حاله مجهولة.

(7/232)


1163- قوله. (إني أصلي في بيتي) أي بالإنفراد أو بالجماعة. (في المسجد) ليس هذا اللفظ في نسخ الموطأ الموجودة وإن كان مرادا ههنا. وزاد الجزري لفظ: في المسجد. والمصنف تبعه في ذكر سياق الحديث. (أفأصلي معه) أي أزيد في صلاتي فأصلي معه، قال الطيبي. أو الفاء للتعقيب وتقديم الهمزة للصدارة. (قال له نعم) وفي الموطأ: فقال عبدالله بن عمر نعم. (أيتهما) قال القاري: بالنصب في أكثر النسخ. وفي نسخة السيد: بالرفع. والأول أظهر أي أية الصلاتين. (أجعل صلاتي) أي أعدهما عن فرضي. (قال) وفي الموطأ فقال له. (وذلك إليك) قال الطيبي: إخبار في معنى الاستفهام بدليل قوله. (إنما ذلك إلى الله) قلت: وقع في الموطأ أو ذلك إليك أي بهمزة الاستفهام، وكذا نقله الجزري عن الموطأ، ووقع عند البيهقي، وذلك كما في المشكاة. (يجعل) الفرض. (أيتهما شاء) يعني الله يعلم التي يتقبلها عن الفريضة إذا صليتهما بنية الفرض، وهذا هو المشهور في مذهب مالك أعني الإعادة بنية الفرض مع التفويض إلى الله في قبول شاء من الصلاتين لفرضه، كما تقدم. وقال ابن حبيب: معناه أن الله يعلم التي يتقبلها، فأما على وجه الاعتداد بها فهي الأولى، ومقتضى هذا أن يصلي الصلاتين بنية الفرض. وقال ابن الماجشون وغيره: أراد به القبول فإن الله تعالى قد يقبل الفريضة دون النافلة وبالعكس. وقال القاري: لأن المدار على القبول، وهو مخفي على العباد، وإن كان جمهور الفقهاء يجعلون الأولى فريضة، وأيضا يمكن أن يقع في الأولى فساد فيحسب الله تعالى نافلته بدلا عن فريضته، فالاعتبار الأخروي غير النظر الفقهي الدنيوي- انتهى. وعلى هذا فلا منافاة بينه وبين قول من قال الفريضة هي الأولى، كما روي عن ابن عمر نفسه أنه سئل عن الرجل يصلي الظهر في بيته ثم يأتي المسجد والناس يصلون فيصلي معهم، فأيتهما صلاته؟ قال: الأولى منهما صلاته. ذكره القاري في شرح مسند أبي حنيفة، وكذا حكاه عنه ابن عبدالبر وقال:

(7/233)


في وجه الجمع بين قوليهما أنه يحتمل أن يكون شك في رواية مالك، ثم إن له أن صلاته هي
1146- (8) وعن سليمان مولى ميمونة، قال: أتينا ابن عمر على البلاط، وهم يصلون فقلت: ألا
نصلي معهم؟ قال: قد صليت، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تصلوا صلاة في يوم
مرتين)).
الأولى فرجع من شكه إلى يقين علمه، ومحال أن يرجع إلى الشك- انتهى. قلت: الأحاديث المرفوعة الصحيحة صريحة في أن صلاته هي الأولى، وأنه يجعل الثانية نافلة والأولى فريضة، فهي مقدمة على أثر ابن عمر هذا. (رواه مالك) عن نافع أن رجلا سأل عبدالله بن عمر فقال الخ. ورواه البيهقي من طريق مالك.

(7/234)


1164- قوله. (عن سليمان) يسار الهلالي المدني. (أتينا ابن عمر) وفي أبي داود: أتيت ابن عمر، والسياق المذكور هنا موافق لما ذكره الجزري (ج6 ص423، 424). (على البلاط) بفتح الباء ضرب من الحجارة يفرش به الأرض. وفي المصباح البلاط كل شيء فرشت به الدار من حجر وغيره. وفي القاموس: البلاط كسحاب الأرض المستوية الملساء والحجارة التي تفرش في الدار وكل أرض فرشت بها أو بالآجر، وهو موضع المدينة. وقال في النيل: هو موضع مفروش بالبلاط بين المسجد والسوق بالمدينة. وقال الحافظ في مقدمة الفتح: هو موضع قريب من مسجد المدينة، اتخذه عمر لمن يتحدث. (وهم) أي أهله. (يصلون) أي على البلاط لا في المسجد، وابن عمر قد صلى قبلهم في المسجد بالجماعة، وهو الذي فهمه النسائي يدل عليه ترجمته على هذا الحديث بلفظ: سقوط الصلاة عمن صلى مع الإمام في المسجد جماعة. (قال: قد صليت) لم يدخل في صلاتهم لأنه صلى جماعة، كما فهمه النسائي. وقال النووي: إنما لم يعدها ابن عمر لأنه كان صلاها في جماعة- انتهى. وقيل: كان الوقت صبحا أو مغربا، فقد روي عنه أنه كان يقول من صلى المغرب أو الصبح ثم أدركهما مع الإمام فلا يعد لهما. وقد ذكره المصنف بعد هذا الحديث، ورواه عبدالرزاق بلفظ: إن كنت قد صليت في أهلك ثم أدركت الصلاة في المسجد مع الإمام فصل معه، غير الصبح والمغرب فإنهما لا تصليان مرتين. (وإني سمعت) وفي أبي داود والنسائي: إني سمعت أي بدون الواو. (لا تصلوا صلاة) أي واحدة. (في يوم) أي في وقت واحد. (مرتين). هذا لفظ أحمد وأبي داود. ولفظ النسائي: لا تعاد الصلاة في يوم مرتين. قال الشوكاني: قد تمسك بهذا الحديث القائلون أن من صلى في جماعة ثم أدرك جماعة لا يصلي معهم، كيف كانت، لأن الإعادة لتحصيل فضيلة الجماعة وقد حصلت له، وهو مروى عن الصيدلاني والغزالى وصاحب المرشد، والحديث يخالف الأحاديث السابقة والذي مر من الأثر من ابن عمر نفسه من افتاء به رجلا

(7/235)


سأله، واختلف في وجه الجمع فقيل: يحمل هذا الحديث على من صلى بالجماعة، والأحاديث الأخر على من صلى منفردا. قال البيهقي (ج2 ص303):
رواه أحمد، وأبوداود، والنسائي.
1165- (9) وعن نافع، قال: إن عبدالله بن عمر كان يقول: ((من صلى المغرب أو الصبح، ثم
أدركهما مع الإمام، فلا يعد لهما)). رواه مالك.
إن صح هذا الحديث يحمل على ما إذا صلاها مع الإمام أي في جماعة، وإلى هذا التوجيه أشار النسائي في ترجمته المتقدمة، وبوب عليه أبوداود بلفظ: إذا صلى جماعة ثم أدرك جماعة هل يعيد الصلاة؟ وقيل: المراد بحديث ابن عمر هذا النهي عن أن يصليهما على وجه الفرض. قال في الاستذكار: اتفق أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه على أن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تصلوا صلاة في يوم مرتين أن ذلك أن يصلي الرجل صلاة مكتوبة عليه ثم يقوم بعد الفراغ منها فيعيدها على جهة الفرض أيضا. وأما من صلى الثانية مع الجماعة على أنها نافلة إقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أمره بذلك فليس ذلك من إعادة الصلاة في يوم مرتين، لأن الأولى فريضة والثانية نافلة، فلا إعادة حينئذ- انتهى. وقيل: هو محمول على ما إذا لم تكن عن سبب. قال الخطابي في المعالم (ج1 ص166): هذه صلاة الإيثار والاختيار دون ما كان لها سبب، كالرجل يدرك الجماعة وهم يصلون فيصلي معهم ليدرك فضيلة الجماعة توفيقا بين الإخبار ورفعا للاختلاف بينها- انتهى. (رواه أحمد وأبوداود والنسائي) وأخرجه أيضا الطحاوي وابن حزم في المحلى، وصححه والدارقطني والبيهقي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. قال النووي: إسناده صحيح. وفي سنده عمرو بن شعيب روى عن سليمان بن يسار مولى ميمونة قال في تهذيب التهذيب (ج8 ص49): قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: إذا حدث عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب أو سليمان بن بسار أو عروة فهو ثقة عن هؤلاء. وقال ابن حبان: عمرو بن شعيب في نفسه ثقة يحتج يخبره إذا روى عن غير

(7/236)


أبيه.
1165- قوله: (وعن نافع) أي مولى ابن عمر. (قال) أي نافع. (فلا يعد) بفتح الياء وضم العين من العود. (لهما) أي للصبح والمغرب، لأن الصلاة الثانية تكون نافلة والتنفل بعد صلاة الصبح منهي عنه، ولأن النافلة لا تكون وترا، وبه قال النخعي والأوزاعي ولم يذكر ابن عمر النهي عن الصلاة بعد العصر، لأنه كان يحمله على أنه بعد الإصفرار، ومن جوز الإعادة مع كون الوقت وقت كراهة. قال: أحاديث الإعادة مخصصة لعموم أحاديث النهي كما تقدم. (رواه مالك) وأخرجه أيضا عبدالرزاق ولفظه: إن كنت قد صليت في أهلك ثم أدركت الصلاة في المسجد مع الإمام فصل معه غير الصبح والمغرب، فإنهما لا يصليان مرتين. وأما ما ذكره القاري في المرقاة من أن الدارقطني أخرج عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا صليت في أهلك ثم أدركت فصلها إلا الفجر والمغرب، ففيه إني لم أجد هذا الحديث في سنن الدارقطني لا مرفوعا ولا موقوفا. والظاهر أنه وهم من القاري.
(30) باب السنن وفضائلها

(7/237)


(باب السنن) أي المؤكدة والمستحبة. (وفضائلها) قال في اللمعات: أراد بالسنن الصلاة التي تؤدى مع الفرائض في اليوم والليلة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواظب عليهما مؤكدة أو غير مؤكدة، وسمى القسم الأول الرواتب مأخوذ من الرتوب وهو الدوام والثبوت، يقال: رتب رتوبا ثبت ولم يتحرك، ومنه الترتيب، ويمكن أن يجعل الرواتب أعم من المؤكد، وقد جعل صاحب سفر السعادة (يعني مجد الدين الفيروز آبادي صاحب القاموس) سنة العصر من الرواتب- انتهى. واختلف الفقهاء في مشروعية الرواتب القبلية والبعدية للفرائض وتحديدها، فذهب الجمهور، ومنهم الأئمة الثلاثة الشافعي وأحمد وأبوحنيفة إلى مشروعيتها، وأنها مؤقته تستحب المواظبة عليها. وذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه لا توقيت في ذلك ولا تحديد حماية للفرائض، لكن لا يمنع من تطوع بما شاء إذا أمن من ذلك. وذهب العراقيون من أصحابه إلى موافقة الجمهور، ففي المدونة: قلت: هل كان مالك يوقت قبل الظهر للنافلة ركعات معلومات أو بعد الظهر أو قبل العصر أو بعد المغرب فيما بين المغرب والعشاء أو بعد العشاء؟ قال: لا وإنما يوقت في هذا أهل العراق- انتهى. وفي الشرح الكبير: لهم ندب نفل في كل وقت يحل فيه، وتأكد الندب بعد صلاة المغرب كبعد ظهر وقبلها كقبل عصر بلا حد يتوقف عليه، بحيث لو نقص عنه أو زاد فات أصل الندب، بل يأتي بركعتين وبأربع وست، وإن كان الأكمل ما ورد من أربع قبل الظهر وأربع بعدها وأربع قبل العصر وست بعد المغرب- انتهى. وفيه أيضا وهي أي صلاة الفجر يعني سنة رغيبة أي رتبتها دون السنة وفوق النافلة تفتقر لنية تخصها وتميزها عن مطلق النافلة، بخلاف غيرها من النوافل المطلقة فيكفي فيه نية الصلاة ، وكذا النوافل التابعة للفرائض بخلاف الفرائض والسنن والرغيبة وليس عندنا رغيبة إلا الفجر – انتهى. قال ابن دقيق العيد في شرح العمدة (ج1 ص170): في تقديم السنن على الفرائض وتأخيرها عنها معنى

(7/238)


لطيف مناسب، أما في تقديم فلأن الإنسان يشتغل بأمور الدنيا وأسبابها، فتتكيف النفس في ذلك بحالة بعيدة عن حضور القلب في العبادة والخشوع فيها الذي هو روحها، فإذا قدمت السنن على الفريضة تأنست النفس بالعبادة وتكيفت بحالة تقرب من الخشوع، فيدخل في الفرائض على حاله حسنة لم يكن يحصل له لو لم تقدم السنة فإن النفس مجبولة على التكيف بما هي فيه، لا سيما إذا كثر أو طال وورود الحالة المنافية لما قبلها قد تمحو أثر الحالة السابقة أو تضعفه. وأما السنن المتأخرة فلما ورد أن النوافل جابرة لنقصان الفرائض، فإذا وقع الفرض مناسب أن يكون بعده ما يجبر خللا فيه إن وقع- انتهى. قلت: يشير بقوله ما ورد إلى ما أخرجه أحمد وأبوداود وابن ماجه والحاكم من حديث تمتم الداري مرفوعا: أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته، فإن كان أتمها كتبت له تامة وإن لم يكن أتمها قال الله لملائكته: أنظروا هل تجدون لعبدي من تطوع فتكملون بها فريضته ثم الزكاة كذلك تؤخذ الأعمال على حسب ذلك- انتهى. وأخرجه الترمذي وأبوداود أيضا من حديث أبي هريرة
?الفصل الأول?
1166- (1) عن أم حبيبة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى في يوم وليلة

(7/239)


قال النووي: تصح النوافل وتقبل، وإن كانت الفريضة ناقصة لهذا الحديث وخبر لا تقبل نافلة المصلى حتى يؤدي الفريضة ضعيف، ولو صح حمل الراتبة البعدية لتوقفها على صحة الفرض- انتهى. قيل: والسنن في حقه - صلى الله عليه وسلم - لزيادة الدرجات. قال القاري: السنة والنفل والتطوع والمندوب والمستحب والمرغب فيه ألفاظ مترادفة معناها واحد، وهو ما رجح الشارع فعله على تركه وجاز تركه وإن كان بعض المسنون آكد من بعض- انتهى. وقال الشامي في حاشيته على الدر المختار (ج1 ص95): المشروعات على أربعة أقسام: فرض، وواجب، وسنة، ونفل، فما كان فعله أولى من تركه مع منع الترك إن ثبت بدليل قطعي ففرض، أو بظني فواجب، وبلا منع الترك إن كان مما واظب عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو الخلفاء الراشدون من بعده فسنة، وإلا فمندوب ونفل. والسنة نوعان: سنة الهدى، وتركها يوجب إساءة وكراهية. وسنة الزوائد، وتركها لا يوجب ذلك. سميت بذلك لأنها ليست من مكملات الدين وشعائره بخلاف سنة الهدى، وهي السنن المؤكدة القريبة من الواجب التي يضلل تاركها، لأن تركها استخفاف بالدين. وبخلاف النفل فإنه كما قالوا ما شرع لنا زيادة على الفرض والواجب والسنة بنوعيها، ولذا جعلوه قسما رابعا وجعلوا منه المندوب والمستحب وهو ما ورد به دليل ندب يخصه، فالنفل ما ورد به دليل ندب عموما أو خصوصا ولم يواظب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذا كان دون سنة الزوائد. وقد يطلق النفل على ما يشمل السنن الرواتب، ومنه قولهم باب الوتر والنوافل، ومنه تسمية الحج نافلة، لأن النفل الزيادة وهو زائد على الفرض مع أنه من شعائر الدين العامة- انتهى مختصرا.

(7/240)


1166- قوله. (عن أم حبيبة) هي أخت معاوية بن أبي سفيان زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - اسمها رملة بفتح راء وسكون ميم وبلام بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية الأموية، أم المؤمنين مشهورة بكنيتها. وقيل: اسمها هند، والمشهور رملة. قال ابن عبدالبر: وهو الصحيح عند جمهور أهل العلم بالنسب والسير والحديث والخبر، وكذلك قال الزبير أسلمت قديما، وأمها صفية بنت أبي العاص بن أمية، وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش الأسدي أسد خزيمة، وتنصر هو هناك، ومات، فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهي هناك سنة ست. وقيل: سنة سبع، توفيت سنة اثنتين أو أربع. وقيل: تسع وأربعين. وقيل: وخمسين. (من صلى في يوم وليلة) أي في كل يوم وليلة فهو من عموم النكرة في الإثبات مثل علمت نفس ونحوه، لأن المقصود المواظبة كما يدل عليه قوله الآتي: يصلي لله كل يوم ، وكما يدل عليه حديث عائشة عند الترمذي والنسائي وابن ماجه بلفظ: من ثابر أي واظب ولازم وداوم، وفيه أن الأجر المذكور منوط بالمواظبة على هذه النوافل لا بأن يصلي يوما دون يوم.
ثنتى وعشر ركعة، بني له بيت في الجنة: أربعا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر)). رواه الترمذي.

(7/241)


(ثنتى عشرة) بسكون النون. (ركعة) بسكون الكاف. أي تطوعا غير فريضة كما في الرواية الآتية (بني له) أي بهذه الركعات. (بيت في الجنة) مشتمل على أنواع النعمة. (أربعا) بدل تفصيل. (قبل الظهر) فيه دلالة على أن السنة الراتبة المؤكدة قبل الظهر أربع ركعات، وإليه ذهبت الحنفية. وقال الشافعي وأحمد: الراتبة قبل الظهر ركعتان، واستدل لهما بحديث ابن عمر الآتي، وسيأتي البسط فيه وبيان القول الراجح. ثم إن قوله أربعا المتبادر منه أنها بسلام واحد، ويحتمل كونها بسلامين والأقرب أن إطلاقها يشمل القسمين، قاله السندي. (وركعتين بعدها) فيه أن السنه بعد الظهر ركعتان، ويدل عليه أيضا حديث ابن عمر بعد ذلك، وحديث علي قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل الظهر أربعا وبعدها ركعتين. أخرجه الترمذي وحسنه، وحديث كريب المتقدم في باب أوقات النهي، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: أتاني ناس من عبدالقيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، ويؤيده حديث عائشة عند الترمذي وابن ماجه مرفوعا بلفظ: من ثابر على ثنتى عشرة ركعة من السنة بنى الله له بيتا في الجنة، أربع ركعات قبل الظهر وركعتين بعدها الخ. وحديث أبي هريرة عند ابن عدي في الكامل، وفيه محمد بن سليمان الأصبهانى، وهو ضعيف، ولا يعارض ذلك مايأتي من حديث أم حبيبة أول أحاديث الفصل الثاني، لأنه يحمل على أن الأمر فيه للتوسع، ويقال ركعتان من الأربع مؤكدة وركعتان مستحبة، وهذا لأنه لم يصح عنه - صلى الله عليه وسلم - في فعل الأربع بعد الظهر شيء غير هذا الحديث الواحد القولى، وقد تكلم فيه بعضهم كما ستعرف. وقيل: الأربع أفضل وآكد. (وكعتين بعد المغرب) الخ قال القاري: كل هذه السنن مؤكدة وآخرها آكدها حتى قيل بوجوبها. قال ابن حجر: وهو صريح في رد قول الحسن البصري، وبعض الحنفية بوجوب ركعتى الفجر. وفي رد قول الحسن البصري أيضا بوجوب الركعتين بعد المغرب- انتهى. قلت: اختلف في

(7/242)


ترتيب سنن الرواتب، فقيل: أفضلها سنة الفجر ثم المغرب ثم سنة الظهر والعشاء سواء في الفضيلة وهذا عند الحنابلة. وقالت: الشافعية: أفضلها بعد الوتر ركعتا الفجر ثم سائر الرواتب ثم التراويح، ثم اختلفوا بعد ذلك هل القبلية أفضل أو البعدية؟ ولهم فيه قولان: أحدهما: أن البعدية أفضل، لأن القبلية كالمقدمة. وتلك تابعة والتابع يشرف بشرف متبوعة. والثاني: أنهما سواء واختلفت أقوال الحنفية في ترتيب الرواتب. فقال في البحر عن القنية اختلف في آكد السنن بعد سنة الفجر، فقيل: كلها سواء والأصح أن الأربع قبل الظهر آكد. وقال في الدر المختار: آكدها سنة الفجر اتفاقا ثم الأربع قبل الظهر في الأصح ثم الكل سواء، وهكذا صححه في العناية والنهاية واستحسنه في فتح القدير. وقد تقدم أن سنة الفجر رغيبة عند المالكية والباقي تطوعات ونوافل. والراجح عندي أن آكد السنن الوتر ثم ركعتا الفجر ثم التي قبل الظهر ثم الكل سواء. والله تعالى أعلم. (رواه الترمذي) وقال:
وفي رواية لمسلم أنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم ثنتى وعشرة ركعة تطوعا غير فريضة، إلا بنى الله له بيت في الجنة- أو إلا بني له بيت في الجنة))
1167- (2) وعن ابن عمر، قال: ((صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين قبل الظهر،

(7/243)


حديث حسن صحيح، فيه اعتراض على محي السنة صاحب المصابيح حيث ذكره في الصحاح وترك الصحيح الآتي، مع أن هذا اللفظ ليس بتمامه في الصحيحين ولا في أحدهما إنما هو لفظ الترمذي، فكان حق البغوي أن يذكر حديث مسلم الآتي في الصحاح، وحديث الترمذي في الحسان؛ ليكون لإجمال مسلم كالبيان والحديث المذكور، رواه النسائي مفصلا كالترمذي. ولكن قال وركعتين قبل العصر ولم يذكر ركعتين بعد العشاء، وكذلك فسره ابن حبان في صحيحه رواه عن ابن خزيمة بسنده، وكذلك رواه الحاكم في المستدرك (ج1 ص311) وقال: صحيح على شرط مسلم والبيهقي (ج2 ص272، 273)، وجمع الحاكم في لفظ بين الروايتين فقال فيه: ركعتين قبل العصر وركعتين بعد العشاء، وكذلك عند الطبراني في معجمه، كذا في نصب الراية (ج2 ص138). قلت: وكذا وقع إثبات ركعتين قبل العصر وركعتين بعد العشاء في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه وابن عدي في الكامل لكن في سنده محمد بن سليمان الأصبهاني، وهو ضعيف. (وفي رواية لمسلم أنها) أي أم حبيبة (يصلي لله كل يوم) أي وليلة. (تطوعا) وهو ما ليس بفريضة، والمراد هنا السنة، قاله ابن الملك. (غير فريضة) قال الطيبي: تأكيد للتطوع فإن التطوع التبرع من نفسه بفعل من الطاعة، وهي قسمان راتبة وهى التي داوم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وغير راتبة وهذا من القسم الأول، والرتوب الدوام- انتهى. (إلا بنى الله له بيتا في الجنة) الخ، وهذا الحديث أخرجه أيضا أحمد وأبوداود وابن ماجه والحاكم (ج1 ص312) وأبوداود الطيالسي والبيهقي (ج2 ص472).

(7/244)


1167- قوله: (صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال السندي: الظاهر أنه المراد به المعية في مجرد المكان والزمان لا المشاركة والإقتداء في الصلاة، إذ المشاركة في النوافل الرواتب ما كانت معروفة، ويحتمل على بعد أنه اتفق المشاركة أيضا. وقال القاري: أراد به معية المشاركة لا معية الجماعة، ونظيره قوله تعالى حاكيا: ?وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين? [27: 44] وقال الحافظ: المراد بقوله مع التبعية أي أنهما اشتركا في كون كل منهما صلى صلاة لا التجميع، فلا حجة فيه لمن قال يجمع في رواتب الفرائض، وسيأتي من رواية أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: حفظت من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر ركعات فذكرها- انتهى. وقال العيني: المراد من المعية هذه مجرد المتابعة في العدد، وهو أن ابن عمر صلى ركعتين وحده كما صلى - صلى الله عليه وسلم - ركعتين، لا أنه اقتدى به عليه الصلاة والسلام فيهما. (ركعتين قبل الظهر) هذا متمسك الشافعي في أن السنة قبل الظهر ركعتان، وهو قول الأكثرين من أصحابه، وعد جمع من الشافعية الأربع قبل الظهر من الرواتب، كما هو مذهب الحنفية. وقد روى البخاري في صحيحه عن عائشة: كان

(7/245)


لا يدع أربعا قبل الظهر وركعتين قبل الغداة. واختلف في وجه الجمع بين الحديثين، فقيل: يحتمل أن ابن عمر قد نسي ركعتين من الأربع. ورد بأن هذا الاحتمال بعيد وقيل: هو محمول على أنه كان إذا صلى في بيته صلى أربعا وإذا صلى في المسجد اقتصر على ركعتين. قال ابن القيم في زاد المعاد (ج1 ص80): وهذا أظهر، قلت: ويقوي ذلك ما سيأتي في حديث عبدالله بن شقيق عن عائشة كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعا، ثم يخرج فيصلي بالناس، وقيل: يحمل على حالين، فكان تارة يصلي سنتين، وتارة يصلي أربعا، فحكى كل من ابن عمر وعائشة ما شاهده. وقيل: يحتمل أن يكون يصلي إذا كان في بيته ركعتين ثم يخرج إلى المسجد فيصلي ركعتين، فرأى ابن عمر مافي المسجد دون ما بيته وأطلعت عائشة على الأمرين. وقيل: كان يصلي في بيته أربعا فرأته عائشة، وكان يصلي ركعتين إذا آتي المسجد تحيته فظن ابن عمر أنها سنة الظهر ولم يعلم بالأربع التي صلاها في البيت، وهذا أيضا بعيد مثل الأول. وقيل: يمكن أن يكون مطلعا على الأربع، لكنه ظنها صلاة فيء الزوال لا سنة الظهر. قال ابن القيم في زاد المعاد (ج1 ص80، 81): وقد يقال: إن هذه الأربع لم تكن سنة الظهر، بل هي صلاة مستقلة كان يصليها بعد الزوال، كما (سيأتي) في حديث عبدالله بن السائب. (وفي حديث أبي أيوب) قال فهذه هي الأربع التي أرادت عائشة أنه كان لا يدعهن. وأما سنة الظهر فالركعتان اللتان قال عبدالله بن عمر، قال فتكون هذه الأربع التي قبل الظهر وردا مستقلا سببه انتصاف النهار وزوال الشمس. قال القسطلاني لحديث ثوبان عند البزار: إنه - صلى الله عليه وسلم -كان يستحب أن يصلي بعد نصف النهار، وقال: إنها ساعة تفتح فيه أبواب السماء، وينظر الله إلى خلقه بالرحمة. قلت: وأولى الوجوه عندي هو الوجه الثالث، أعني أن يحمل ذلك لى اختلاف الأحوال، ويقال كان يصلي تارة أربعا وتارة ركعتين، فحكى كل من ابن عمر وعائشة ما رأى، ورجحه الحافظ

(7/246)


أيضا، لكن المختار فعل الأكثر الأكمل. قال ابن جرير الطبري: الأربع كانت في كثير من أحواله، والركعتان في قليلها. قلت: هذا هو الظاهر لكثرة الأحاديث في ذلك: منها حديث أم حبيبة السابق. ومنها حديث عبدالله بن شقيق عن عائشة، وسيأتي. ومنها حديث عائشة أيضا عند الترمذي وابن ماجه، وقد ذكرنا لفظه. ومنها حديث عائشة أيضا في السنن: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا لم يصل أربعا قبل الظهر صلاهن بعدها. ومنها حديث علي عند الترمذي، وحسنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل الظهر أربعا وبعد ها ركعتين. قال الترمذي بعد روايته: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم، يختارون أن يصلي الرجل قبل الظهر أربع ركعات، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك وإسحاق. قال القسطلاني: قيل في وجه عند الشافعي: إن الأربع قبل الظهر راتبه عملا بحديث عائشة. قلت: ويؤيده تأكد استحباب الأربع حديث أم حبيبة الآتي، وحديث
وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته

(7/247)


البراء بن عازب عند الطبراني في الأوسط، وسعيد بن منصور في سننه مرفوعا بلفظ: من صلى قبل الظهر أربع ركعات كان كمن تهجد بهن من ليلته الحديث. (وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب في بيته) الظاهر أن قوله: في بيته قيد للأخيرة ويؤيد ذلك قوله. (وركعتين بعد العشاء في بيته) وهذا لفظ البخاري في رواية. وفي لفظ له: فأما المغرب والعشاء ففي بيته. قال الحافظ: استدل به على أن فعل النوافل الليلة في البيوت أفضل من المسجد بخلاف رواتب النهار، وحكي ذلك عن مالك والثوري. وفي الاستدلال به لذلك نظر. والظاهر أن ذلك لم يقع عن عمد، وإنما كان - صلى الله عليه وسلم - يتشاغل بالناس في النهار غالبا، وبالليل يكون في بيته غالبا. وأغرب ابن أبي ليلى، فقال لا تجزئ سنة المغرب في المسجد، حكاه عبدالله بن أحمد عنه عقب روايته لحديث محمود بن لبيد رفعه: أن الركعتين بعد المغرب من صلاة البيوت، وقال: إنه حكى ذلك لأبيه عن أبي ليلى، فاستحسنه- انتهى. قلت: الظاهر أن فعل الركعتين بعد المغرب في البيت أفضل وأن ذلك وقع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عمد، يدل عليه حديث محمود بن لبيد عند أحمد بلفظ: اركعوا هاتين الركعتين في البيوت، وحديث كعب بن عجزة الآتى، واختلفوا في أن تطوع في المسجد أفضل أو في البيت. قال ابن عبدالبر: قد اختلف الآثار وعلماء السلف في صلاة النافلة في المسجد، فكرهها قوم لهذا الحديث. والذي عليه العلماء أنه لا بأس بالتطوع في المسجد لمن شاء إلا إنهم مجعمون على أن صلاة النافلة في البيوت أفضل لقوله - صلى الله عليه وسلم - : صلاة الرجل في بيته أفضل من صلاته في مسجدى إلا المكتوبة- انتهى. وفرق المالكية بين الرواتب والنفل المطلق، وبين الغرباء وأهل المدينة ففي الشرح الكبير لهم وندب إيقاع نفل بمسجد المدينة بمصلاه- صلى الله عليه وسلم - . قال الدسوقي: إن قلت هذا يخالف ما تقرر أن صلاة النافلة في البيوت أفضل من فعلها في

(7/248)


المسجد قلت: يحمل كلام المصنف على الرواتب فإن فعلها في المساجد أولى كالفرائض بخلاف النفل المطلق، فإن فعلها في البيوت أفضل ما لم يكن في البيت ما يشغل عنها، أو يحمل كلامه على من صلاته بمسجده عليه السلام أفضل من صلاته في البيت كالغرباء، فإن صلاتهم النافلة بمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل من صلاتهم لها في البيوت، سواء كانت النافلة من الرواتب أو كانت نفلا مطلقا بخلاف أهل المدينة، فإن صلاتهم النفل المطلق في بيوتهم أفضل من فعله في المسجد- انتهى. وأما عند الحنفية والحنابلة فالأفضل أداء التطوع في البيت مطلقا، ولا كراهة في المسجد. أما كون البيوت أفضل في حق التطوع مطلقا فللأحاديث التي وردت عن جماعة من الصحابة في الترغيب في صلاة النافلة في البيت. ذكرها المنذري في الترغيب (ج1 ص133)؛ ولأن هديه - صلى الله عليه وسلم - كان فعل عامة السنن والتطوع الذي لا سبب له في البيت وأما إنه لو فعلها في المسجد أجزأت من غير كراهة فلما يأتي من حديث ابن عباس في الفصل الثالث قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطيل القراءة في الركعتين بعد المغرب حتى يتفرق أهل المسجد. ولما روى مسلم من حديث أبي هريرة: إذا صليتم بعد الجمعة فصلوا أربعا، زاد في
قال: وحدثني حفصة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان يصلي ركعتين خفيفتين، حين يطلع الفجر)) متفق عليه.
1168- (3) وعنه قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف، فيصلي

(7/249)


رواية فإن عجل بك شيء فصل ركعتين في المسجد وركعتين إذا رجعت، ولما يأتي من حديث أنس في الفصل الثالث قال: كنا بالمدينة فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السوارى- الحديث، ولما روى الطبراني في الكبير من حديث ابن عمر مرفوعا: من صلى العشاء الآخرة في جماعة، وصلى أربع ركعات قبل أن يخرج من المسجد كان كعدل ليلة القدر، ولأن تقييد ابن عمر سنة المغرب والعشاء والفجر بكونها في البيت، يدل على أن ما عداها كان يفعله في المسجد أي في بعض الأحيان، ولما روي عن حذيفة قال أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصليت معه المغرب، فصلى إلى العشاء، رواه النسائي، قال المنذري: بإسناد جيد، وغير ذلك من الأحاديث، هذا. وقال ابن الملك: قيل: في زماننا إظهار السنة الراتبة أولى ليعلمها الناس. قال القاري: أي ليعلموا عملها أو لئلا ينسبوه إلى البدعة. ولا شك أن متابعة السنة أولى مع عدم الالتفات إلى غير المولى- انتهى. قلت: لا شك أن متابعة السنة أولى، لكن من المعلوم أنه قد يترك بعض المختارات من أجل خوف أن يقع الناس في أشد من ترك ذلك المختار. فالأولى عندي اليوم أداء الرواتب في المسجد لا سيما للخواص من العلماء والمشائخ، فإن الناس تبع لهم فيما يفعلون ويذرون فيتركون أولا فعلها في المسجد في اتباعهم، ثم يتركونها رأسا لوقوع التواني في الأمور الدينية والغفلة عنها سيما التطوعات والنوافل، ولأنه لا يؤمن أن يتهمهم بعض الناس بترك الرواتب وإهمالهما، وقد شاهدنا ذلك في أمر التراويح حيث أنه لما سمع بعض الجهال أن صلاة الليل في البيت في آخر الليل أفضل من أوله في المسجد، ورأوا بعض العلماء أنهم لا يصلونها في أول الليل ترك هؤلاء أيضا للتراويح في المسجد بالجماعة في أول الليل قائلين إنا نقوم في آخر الليل لكنهم يتركونها رأسا فلا يصلونها لا في أول الليل ولا في آخره. (قال) أي ابن عمر. ( وحدثني حفصة) أي أخته بنت عمر زوجة النبي - صلى الله

(7/250)


عليه وسلم -. (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ركعتين خفيفتين حين يطلع الفجر) وفي البخاري: بعد ما يطلع الفجر، وزاد وكانت ساعة لا أدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها وفي لفظ له: وركعتين قبل صلاة الفجر، وكانت ساعة لا أدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها، حدثني حفصة أنه كان إذا أذن المؤذن، وطلع الفجر صلى ركعتين قال الحافظ: وهذا يدل على أنه إنما أخذ عن حفصة وقت إيقاع الركعتين قبل الصبح لا أصل مشروعيتها انتهى. (متفق عليه) واللفظ للبخاري: وأخرجه أيضا مالك والترمذي والبيهقي (ج2 ص471- 477) وغيرهم.
1168 – قوله: (كان لا يصلي) أي شيئا. (بعد الجمعة حتى ينصرف) أي حتى يرجع إلى بيته. (فيصلي)
ركعتين في بيته)). متفق عليه.
1169- (4) وعن عبدالله بن شقيق، قال: سئلت عائشة، عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن تطوعه، فقالت: كان يصلي في بيتى قبل الظهر أربعا، ثم يخرج فيصلي بالناس ثم يدخل فيصلي ركعتين. وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يدخل فيصلي ركعتين. ثم يصلي بالناس العشاء. ويدخل في بيتي فيصلي ركعتين. وكان يصلي من الليل تسع ركعات فيهن

(7/251)


بالرفع. قال الطيبي: عطف من حيث الجملة لا من حيث التشريك على ينصرف، أي لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف، فإذا انصرف يصلي ركعتين. ولا يستقيم أن يكون منصوبا عطفا عليه لما يلزم منه أن يصلي بعد الركعتين الصلاة. وهذا معنى قول ابن حجر: إذ يصير التقدير لا يصلي حتى يصلي، وليس مرادا لفساده. (ركعتين) يريد بهما سنة لجمعة. وفيه دليل على أن السنة بعد الجمعة ركعتان. وبه استدل من قال به. وسيأتي الكلام على ذلك مفصلا في شرح حديث أبي هريرة الآتي في آخر الفصل. (في بيته) عملا بالأفضل. وقال القسطلاني: لأنهما لو صلاهما في المسجد ربما يتوهم أنهما اللتان حذفتا، وصلاة النفل في الخلوة أفضل. وقال الحافظ: الحكمة في ذلك أنه كان يبادر إلى الجمعة ثم ينصرف إلى القائلة بخلاف الظهر، فإنه كان يبرد بها، وكان يقيل قبلها. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص477).

(7/252)


1169- قوله. (وعن عبدالله بن شقيق) من ثقات التابعين. (عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي ليلا ونهارا ما عدا الفرائض، ولذا قال: (عن تطوعه) قال الطيبي: بدل عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كذا في صحيح مسلم. وهذه العبارة، يعني بلفظ عن أولى مما في المصابيح، وهو قوله من التطوع- انتهى. قلت: وقع عند أبي داود "من التطوع" كما في المصابيح. قال القاري: فتكون "من" بيانية، والأولوية باعتبار الأصحية. (كان يصلي في بيتى قبل الظهر أربعا) فيه دليل على أن المؤكدة قبلها أربع، وهو وجه عند الشافعي. (ثم يخرج) أي إلى المسجد. (فيصلي بالناس) أي الفريضة. (ثم يدخل) أي بيتي. (فيصلي ركعتين) ولعل وجه ترك العصر لأنها بصدد بيان السنن المؤكدة. (وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يدخل) الخ الحديث دليل على استحباب أداء السنة في البيت. (وكان) أي أحيانا. (يصلي من الليل) أي بعض أوقاته. (تسع ركعات) قال ابن حجر: أي تارة، وإحدى عشرة تارة، وأنقص تارة- انتهى. وجاء أنه كان يصلي ثلاث عشر ركعة. كما سيأتي في باب صلاة الليل. (فيهن)
الوتر. وكان يصلي ليلا طويلا قائما، وليلا طويلا قاعدا، وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم. وكان إذا قرأ قاعدا ركع وسجد وهو قاعد. وكان إذا طلع الفجر

(7/253)


أي في جملتهن. (الوتر) وجاء بيان ذلك فيما روى مسلم وغيره عن سعيد بن هشام أنه قال لعائشة: أنبئينى عن وتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: كنا نعد له سواكه وطهوره، فيبعثه الله متى شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ويتوضأ، ويصلي تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليما يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد. فتلك إحدى عشر ركعة يا بني. فلما أسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأخذه اللحم أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعة الأول. فتلك تسع يا بني الخ. (وكان يصلي ليلا طويلا) أي زمانا طويلا من الليل. (قائما وليلا طويلا قاعدا) قال في لمفتاتيح: يعني يصلي صلاة كثيرة من القيام والقعود أو يصلى ركعات مطولة في بعض الليالي من القيام، وفي بعضها من القعود. (وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم) أي لا يقعد قبل الركوع، قاله ابن حجر. وقال الطيبي: أي ينتفل من القيام إليهما. وكذا التقدير في الذي بعده، أي ينتفل إليهما من القعود. (وكان إذا قرأ قاعدا ركع وسجد وهو قاعد) أي لا يقوم للركوع، كذا في المفاتيح. وفيه دليل على أن المشروع لمن قرأ قائما أن يركع ويسجد من قيام، ومن قرأ قاعدا أن يركع ويسجد من قعود. وفي رواية لمسلم: فإذا افتتح الصلاة قائما ركع قائما، وإذا افتتح الصلاة قاعدا ركع قاعدا. وروى الشيخان وغيرهما عن عائشة أنها لم تر النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة الليل قاعدا قط حتى أسن، وكان يقرأ قاعدا، حتى إذا أراد أن يركع قام فقرأ نحوا من ثلاثين أو أربعين آية ثم ركع ثم سجد ثم يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك. وهذا يدل على جواز الركوع من قيام لمن قرأ قاعدا. فيحمل على أنه كان يفعل أحيانا هذا وأحيانا ذاك. وبهذا يحصل التوفيق بين الحديثين. قال العراقي:

(7/254)


يحمل على أنه كان يفعل مرة كذا، فكان مرة يفتتح قاعدا ويتم قراءته قاعدا ويركع قاعدا، وكان مرة يفتتح قاعدا ويقرأ بعض قراءته قاعدا وبعضها قائما ويركع قائما، فإن لفظ "كان" لا يقتضي المداومة – انتهى. واعلم أن ههنا أربع صور: الأولى أن ينتفل من القيام إلى الركوع والسجود، والثانية أن ينتقل من القعود إليهما، وهاتان مذكورتان في حديث عبدالله بن شقيق عن عائشة. والثالثة أن يتنفل من القعود إلى القيام ويقرأ بعض القراءة قائما، ثم يتنفل من القيام إلى الركوع والسجود. وهذه مذكورة في حديث عائشة الذي ذكرنا، والرابعة عكس الثالثة، وهي أن يتنفل من القيام إلى القعود فيقرأ بعض القراءة قاعدا، ثم ينتفل من القعود إلى الركوع والسجود، ولم ترو هذه الصورة وعلى هذا فكان - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الليل على ثلاث أحوال: قائما في كلها، وقاعدا في كلها، وقاعدا في بعضها ثم قائما. وأما أن يكون قائما في بعضها ثم
صلى ركعتين)). رواه مسلم، وزاد أبوداود، ((ثم يخرج فيصلي بالناس صلاة الفجر)).
1170- (5) وعن عائشة، رضي الله عنها. قالت: ((لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشد
تعاهدا منه على ركعتى الفجر)).

(7/255)


قاعدا، وهي الصورة الرابعة فذهب الجمهور إلى جوازها. قال العينى: جواز الركعة الواحدة بعضها من قيام وبعضها من قعود هو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وعامة العلماء، وسواء في ذلك قام ثم قعد أو قعد ثم قام، ومنعه بعض السلف، وهو غلط. ولو نوى القيام ثم أراد أن يجلس جاز عند الجمهور، وجوزه من المالكية ابن قاسم، ومنعه أشهب- انتهى. وقال الشوكاني في النيل: حديث عائشة الثاني يدل على أنه يجوز فعل بعض الصلاة من قعود، وبعضها من قيام، وبعض الركعة من قعود، وبعضها من قيام. قال العراقي: وهو كذلك، سواء قام ثم قعد أو قعد ثم قام، هو قول جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق. وحكاه النووي عن عامة العلماء. وحكى عن بعض السلف منعه، قال هو غلط. وحكى القاضي عياض عن أبي يوسف ومحمد في آخرين كراهة القعود بعد القيام. ومنع أشهب من المالكية الجلوس بعد أن ينوي القيام. وجوزه ابن القاسم والجمهور- انتهى. (صلى ركعتين) أي خفيفتين، وقد تقدم بيان ما يقرأ فيهما في باب القراءة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص471- 489) مختصرا ومطولا. (وزاد أبوداود) أشار بهذا إلى الاعتراض على الشيخ محي السنة حيث أدرج هذه الجملة في حديث عائشة في الصحاح، مع أنها لم تكن في واحد من الصحيحين. (ثم يخرج) أي إلى المسجد. (فيصلي بالناس) إماما لهم (صلاة الفجر) أي فرض الصبح.

(7/256)


1170- قوله. (لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء) أي على تحفظ شيء. (من النوافل) أي الزوائد على الفرائض من السنن. (أشد) قال ابن حجر: خبر لم يكن، أي أكثر. (تعاهدا) أي تفقدا وتحفظا. وفي رواية أبي داود: أشد معاهدة، أي محافظة ومدوامة. وفي رواية لمسلم: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى شيء من الخير أسرع منه إلى الركعتين قبل الفجر. زاد ابن خزيمة في هذه الرواية: ولا إلى غنيمة. (منه) أي من تعاهده عليه السلام. (على ركعتي الفجر) قال الطيبي: قولها "على" متعلقة بقولها تعاهدا. ويجوز تقديم معمول التمييز. والظاهر أن خبر لم يكن "على شيء" أي لم يكن يتعاهد على شيء من النوافل، وأشد تعاهدا حال أو مفعول مطلق على تأويل أن يكون التعاهد متعاهدا كقوله: ?أو أشد خشية?- انتهى. وفي الحديث دليل على عظم فضل ركعتى الفجر، وأن المحافظة عليهما أشد من المحافظة على غيرهما، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتركهما حضرا ولا سفرا، وعلى أنهما
متفق عليه.
1171- (6) وعنها، قالت . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها)). رواه
مسلم.
1172- (7) وعن عبدالله بن مغفل، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا قبل صلاة المغرب ركعتين، صلوا
قبل صلاة المغرب ركعتين،
سنة ليستا واجبتين، وبه قول جمهور العلماء. وحكى ابن أبي شيبة عن الحسن البصري أنه ذهب إلى وجوبهما. وذكر المرغيناني عن أبي حنيفة: أنها واجبة. وفي جامع المحبوبي روى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: لو صلى سنة الفجر قاعدا بلا عذر لا يجوز. والصواب عدم الوجوب لقولها على شيء من النوافل؛ ولأنه - صلى الله عليه وسلم - ساقها مع سائر السنن في حديث المثابرة. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أبوداود وابن خزيمة والبيهقي (ج2 ص470).

(7/257)


1171- قوله. (ركعتا الفجر) أي سنة الفجر هي المشهورة بهذا الاسم. (خير من الدنيا وما فيها) أي أثاثها ومتاعها، يعني أجرهما خير من أن يعطي تمام الدنيا في سبيل لله تعالى، أو هو على اعتقادهم أن في الدنيا خيرا، وإلا فذرة من الآخرة لا يساويها الدنيا وما فيها، قال الطيبي: إن حمل الدنيا على أعراضها وزهرتها فالخير إما مجرى على زعم من يرى فيها خيرا أو يكون من باب ?أي الفريقين خير مقاما?، وإن حمل على الإنفاق في سبيل لله فتكون هاتان الركعتان أكثر ثوابا منها- انتهى. وقال في حجة الله البالغة: إنما كانتا خيرا منها، لأن الدنيا فانية، ونعيمها لا يخلو عن كدر النصب والتعب، وثوابهما باق غير كدر- انتهى. وقد استدل به على أن ركعتى الفجر أفضل من الوتر، وهو أحد قولي الشافعي، ووجه الدلالة أنه جعل ركعتى الفجر خيرا من الدنيا وما فيها، وجعل الوتر خيرا من حمر النعم، وحمر النعم جزء ما في الدنيا. وأصح القولين عن الشافعي أن الوتر أفضل. وقد استدل لذلك بما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: أفضل الصلاة بعد الفريضة الصلاة في جوف الليل، وبالاختلاف في وجوبه كما سيأتي. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي والنسائي والبيهقي (ج2 ص470). وفي رواية لمسلم: أنه قال في شأن الركعتين عند طلوع الفجر: لهما أحب إلى من الدنيا وما فيها جميعا.
1172- قوله (صلوا قبل صلاة المغرب ركعتين، صلوا قبل صلاة المغرب ركعتين) كذا وقعت هذه الجملة مكررة في بعض النسخ المطبوعة بالهند، وكذا وقعت في المصابيح. وهو موافق لما في سنن أبي داود قال الحافظ: وأعادها الاسماعيلي ثلاث مرات- انتهى. ووقعت في بعض نسخ المشكاة الأخرى مرة فقط، كما في نسخة صاحب أشعة اللمعات شرح المشكاة بالفارسية. وفي النسخة التي على هامش المرقاة، وفي نسخة القاري التي
قال في الثالثة: لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة)). متفق عليه.

(7/258)


صحها على عدة نسخ معتمدة مقروءة مسموعة صحيحة بينها في أول شرحه، وأخذ من مجموعها أصلا اعتمده في الشرح. واختلف النسخ أيضا في ذكر قوله ركعتين فيوجد هذا اللفظ في طبعات الهند، وفي النسخة التي على هامش المرقاة، وكذا هو موجود في المصابيح، وهذا هو موافق لرواية أبي نعيم في المستخرج، ولرواية أبي داود أيضا. ويظهر من كلام صاحب الأشعة والقاري في شرحيهما: أن هذا اللفظ لم يكن في النسخ الموجودة عندهما، حيث لم يذكرا ولم يأخذا ذلك في أصلي شرحهما. ففي أشعة اللمعات (ج1 ص535). (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلوا قبل صلاة المغرب) نماز بكزاريد بيش از نماز مغرب يعني دو ركعت اين راسه بار مكرر فرمود. وفي المرقاة (ج2 ص112). (قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صلوا قبل صلاة المغرب) أي ركعتين، كما في رواية صحيحة، وكرر ذلك ثلاثا- انتهى. أي كما يدل عليه قول في الثالثة. فعلى ما في نسختى القاري وصاحب الأشعة لا اعتراض على صاحب المشكاة في عزو الحديث للبخاري. وأما على ما في طبعات الهند فيرد عليه أنه كيف نسب هذه الرواية إلى البخاري، مع أنه لم تقع هذه الجملة عنده مكررة، ولا وقع في روايته لفظ ركعتين. ويرد عليه أيضا أنه جعل الحديث متفقا عليه، مع أنه لم يخرجه مسلم أصلا، نعم أخرج مسلم من حديث حديث عبدالله بن مغفل بلفظ: بين كل أذانين صلاة، قالها ثلاثا، قال في الثالثة لمن شاء. وأخرجه البخاري أيضا، وقد تقدم في باب فضل الآذان. والظاهر أن المصنف تبع في ذلك الجزري حيث صرح في جامع الأصول (ج7 ص24) بأنه أخرجه البخاري ومسلم. وقد أخطأ أيضا صاحب المصابيح في ذكر هذه الرواية في الصحاح. والحديث فيه دليل على استحباب الركعتين بين الغروب وصلاة المغرب. وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين، ومن المتأخرين أحمد وإسحاق وأصحاب الحديث. وهو الحق. والقول بأنه منسوخ مما لا التفات إليه لأنه لا دليل عليه. (قال) أي النبي - صلى

(7/259)


الله عليه وسلم -. (في) المرة. (الثالثة) أي عقبها. (لمن شاء) يعني أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر في المرة الثالثة لفظ لمن شاء. قال الطيبي: أي ذلك الأمر لمن شاء- انتهى. وفيه إشارة إلى أن الأمر حقيقة في الوجوب، إلا إذا قامت قرينة تدل على التخيير بين الفعل والترك. فقوله: لمن شاء إشارة إليه، فكان هذا صارفا عن الحمل على الوجوب. قال الطيبي: فيه دليل على أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - محمول على الوجوب حتى يقوم دليل غيره. ويوضحه قول ابن حجر: سنة أي عزيمة لازمة متمسكين بقوله: صلوا، فإنه أمر والأمر للوجوب، فتعليقه بالمشيئة يدفع حمله على حقيقته، فيكون مندوبا- انتهى. (كراهية) منصوب على التعليل أي قال ذلك لأجل كراهية. (أن يتخذها الناس سنة) أي طريقة لازمة لا يجوز تركها، أو سنة راتبة يكره تركها. قال المحب الطبري: لم يرد نفي استحبابها، لأنه لا يمكن أن يأمر بما لا يستحب، بل هذا الحديث من أقوى الأدلة على استحبابها. ومعنى قوله: سنة أي شريعة وطريقة لازمة. وكان المراد انحطاط مرتبتها عن رواتب الفرائض، ومن ثم لم يذكرها أكثر الشافعية في الرواتب، وقد عدها بعضهم.

(7/260)


وتعقب بأنه لم يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - واظب عليه. قال ابن القيم: الصواب في هاتين الركعتين أنهما مستحبتان مندوب إليهما، وليستا راتبة كسائر السنن الرواتب. قال القسطلاني: والذي صححه النووي أنها سنة للأمر بها في هذا الحديث. وقال مالك بعدم السنية. وقال النووي في المجموع: واستحبابهما قبل الشروع في الإقامة، فإن شرع فيها كره الشروع في غير المكتوبة لحديث: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة. وعن النخعي أنها بدعة، لأنه يؤدي إلى تأخير المغرب عن أول وقتها. وأجيب بأنه خيال فاسد منابذ للسنة، فلا يلتفت إليه، ومع هذا فزمنهما يسير لا تتأخر به الصلاة عن أول وقتها. قال ابن الهمام: وما ذكر من استلزام تأخير المغرب فقد قدمنا عن القنية استثناء القليل، والركعتان لا تزيد على القليل إذا تجوز فيهما- انتهى. قال الحافظ: ومجموع الأدلة يرشد إلى تخفيفهما، كما في ركعتى الفجر- انتهى. وذهب الحنفية إلى عدم استحبابهما، بل قال بعضهم بكراهتها، واستدلوا لنفي الاستحباب بأحاديث منها ما رواه أبوداود ومن طريقة البيهقي عن طاووس قال: سئل ابن عمر عن الركعتين قبل المغرب، فقال: ما رأيت أحدا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليهما، ورخص في الركعتين بعد العصر- انتهى. سكت عنه أبوداود ثم المنذري. قال النووي في الخلاصة: إسناده حسن. وأجيب عنه بأن في سنده شعيبا يباع الطيالسة، وهو وإن كان ممن لا بأس به لكن الظاهر أن الحديث وهم منه، وقد تفرد بروايته عن طاووس، وكيف يصح هذا الحديث، وقد روي في الصحيحين وغيرهما عن أنس وعقبة بن عامر أن الصحابة كانوا يصلون بين الأذان المغرب وإقامته في عهده - صلى الله عليه وسلم - وبحضرته، كما سيأتي، وروي عن عبدالله بن مغفل الأمر بذلك، وأنه - صلى الله عليه وسلم - قد صلاهما، وروى عن جماعة من الصحابة أنهم كانوا يصلونهما بعد وفاته، منهم أنس وعبدالرحمن بن عوف وأبي بن كعب وأبوأيوب الأنصاري

(7/261)


وأبوالدرداء وجابر بن عبدالله وأبوموسى وأبويرزة وغيرهم، وكذلك روي عن جماعة من التابعين أنهم كانوا يصلون قبل فرض المغرب بين الأذان والإقامة. وقال النووي في الخلاصة: وأجاب العلماء عنه بأنه نفي، فتقدم رواية المثبت، ولكونها أصح وأكثر رواة ولما معهم من علم ما لم يعلمه ابن عمر –انتهى. ذكر هذا الجواب الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص140) وأقره، ولم يتكلم عليه بشيء، وتكلم عليه ابن الهمام في فتح القدير بما لا يعبأ به، فإن حاصل كلامه معارضة حديث ابن عمر هذا بأحاديث الصحيحين المثبتة، ثم ترجيح حديث ابن عمر عليها يعمل أكابر الصحابة على وفقه كأبي بكر وعمر، ثم إنكار ترجح حديث أنس وغيره على حديث ابن عمر لكون الأول مثبتا والثاني نافيا بناء على أن النفي ههنا كالإثبات. فإنه لو كان الحال على ما في رواية أنس لم يخف على ابن عمر. قلت: قد حقق وقرر في محله أن حديث غير الصحيحين لا يساوي ولا يعارض حديثهما، وأن حديثهما يقدم على حديث غيرهما عند المخالفة وهذا

(7/262)


مما تمالأ عليه كلمة المحدثين خلفا وسلفا والفقهاء المتقدمين والمتأخرين قاطبة إلا ابن الهمام ومن تبعه من تلامذته وغيرهم. فالشيخ ابن الهمام هو أول من خالف هذا الأصل، وخرق هذا الإجماع. وغرضه من ذلك كما قال الشيخ عبدالحق الدهلوى في مقدمة شرح سفر السعادة بعد ما مشى ممشاه ورضي بما ارتضاه، تأييد مصادمة الفقهاء الحنفية بالمحدثين ومعارضتهم إياهم، قال الشيخ الدهلوى مشيرا إلى الكلام ابن الهمام في مخالفة هذا الأصل. وهذا نافع مفيد في غرضنا من شرح هذا الكتاب يعني السفر، وهو تأييد المذهب الحنفي وهذا صريح في إقرارهم بأن تأييد مذهب الحنفية إنما يتأتى بصيرورة الصحيحين كغيرهما من الصحاح بإبطال الخصوصية منهما صحة وثقة، وأن محاولة هذه المخالفة إنما هو لكون هذا المذهب في الأغلب على خلاف ما في الصحيحين. هذا، وقد أشبع الكلام في الرد على ابن الهمام الشيخ محمد معين الحنفي أحد تلامذه الشاه ولي الله الدهلوى في دراساته، وخص الدراسة (ص277- 322) الحادية عشر لذلك، فعليك أن تطالعها، وإذا كان الأمر كذلك فلا يعارض حديث ابن عمر هذا ما روى الشيخان من الأحاديث المثبتة للصلاة قبل فرض المغرب بين الأذان والإقامة. وأما ترجيحه لحديث ابن عمر على توهم أن عمل أكابر الصحابة على وفقه ففيه أنه لم يثبت عن أحد منهم العمل على خلاف ما في الأحاديث المثبتة، بل يرد ما ادعاه ويبطله حديث أنس عند البخاري في باب الصلاة إلى الأسطوانة. قال: لقد رأيت كبار أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يبتدرون السوارى عند المغرب حتى يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ: وعند النسائي قام كبار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وأما قوله: لو كان الحال على ما في رواية أنس لم يخف على ابن عمر. ففيه أنه خفي ذلك على ابن عمر، لأنهم لم يكونوا يواظبون عليه كالرواتب. وهذا على تقدير أن يكون حديث ابن عمر صحيحا ومعارضا لحديث أنس وغيره من

(7/263)


الصحابة. وأما على ما هو مقرر عند المحدثين والفقهاء من عدم مساواة حديث غير الصحيحين لحديثهما، وترجيح حديثهما على حديث غيرهما عند المخالفة فلا حاجة إلى هذا الجواب. ومنها: ما رواه الدارقطني ثم البيهقي في سننهما عن حيان بن عبيدالله العدوى ثنا عبدالله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن عند كل أذانين ركعتين ما خلا المغرب- انتهى. ورواه البزار في مسنده وقال: لا نعلم. رواه عن ابن بريدة الأحيان ابن عبيدالله، وهو رجل مشهور من أهل البصرة لا بأس به- انتهى. قلت: حيان بن عبيدالله وإن كان صدوقا لكنه اختلط. قال البخاري: ذكر الصلت منه الاختلاط. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص331): قيل اختلط، وذكره ابن عدي في الضعفاء فالحديث ضعيف. وأيضا كان بريدة وابنه عبدالله يصليان قبل صلاة المغرب، فلو كان الاستثناء الذي زاده حبان محفوظا لم يكن مخالفان خبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ في الفتح: رواية حيان شاذة لأنه وإن كان صدوقا عند البزار وغيره، لكنه خالف الحافظ من أصحاب

(7/264)


عبدالله بن بريدة في إسناد الحديث ومتنه وقد وقع في بعض طرقه عند الإسماعيلي. وكان بريدة يصلي ركعتين قبل المغرب، فلو كان الاستثناء محفوظا لم يخالف بريدة رواية- انتهى. وقال البيهقي في المعرفة: أخطأ فيه حبان بن عبيدالله في الإسناد والمتن جميعا. أما السند فأخرجاه في الصحيحين عن سعيد الجريري وكهمس عن عبدالله بن بريدة عن عبدالله بن مغفل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بين كل أذانين صلاة، قال في الثالثة: لمن شاء. وأما المتن فكيف يكون صحيحا. وفي رواية لمبارك عن كهمس في هذا الحديث قال وكان ابن بريدة يصلي قبل المغرب ركعتين. وفي رواية حسين المعلم عن عبدالله بن بريدة عن عبدالله بن مغفل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلوا قبل المغرب ركعتين، وقال في الثالثة: لمن شاء خشبة أن يتخذها الناس سنة. رواه البخاري في صحيحه- انتهى. ومنها: ما رواه الطبراني في كتاب مسند الشاميين عن جابر قال: سألنا نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل رأيتن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتين قبل الغروب؟ فقلن: لا غير أن أم سلمة قالت: صلاهما عندي مرة فسألته ما هذه الصلاة، فقال: نسيت الركعتين قبل العصر الآن- انتهى. قلت: في سنده يحيى بن أبي الحجاج. قال ابن معين والنسائي: ليس بشيء. وقال أبوحاتم: ليس بالقوى. وذكره ابن في الثقات. وقال ابن عدي: لا أرى بحديثه بأسا. وقال الحافظ في التقريب: لين الحديث. وفي سنده أيضا عيسى بن سنان القسملى، ضعفه أحمد والنسائي وأبوزرعة وابن معين، وذكره الساجي والعقيلي في الضعفاء. وقال أبوحاتم: ليس بقوي في الحديث، وقال العجلي: لا بأس به. وقال ابن خراش: صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ: لين الحديث. وعلى تقدير صحة هذا الحديث فجوابه هو ما ذكره الزيلعي نقلا عن النووي من أنه نفي متقدم رواية المثبت الخ. منها:ما رواه محمد بن الحسن في كتاب الآثار أخبرنا أبوحنيفة

(7/265)


ثنا حماد بن أبي سليمان أنه سأل إبراهيم النخعي عن الصلاة قبل المغرب قال: فنهاه عنها، وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر لم يكونوا يصلونها- انتهى. قلت: هذا الحديث معضل فلا يصلح للاستدلال. قال الحافظ في الفتح: هو منقطع ولو ثبت لم يكن فيه دليل على النسخ ولا الكراهة، وسيأتي أن عقبة بن عامر سئل عن الركعتين قبل المغرب فقال: كنا نفعلهما على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، قيل له فما يمنعك الآن؟ قال الشغل، فلعل غيره أيضا منعه الشغل. وقد روى محمد بن نصر وغيره من طرق قوية عن عبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبي بن كعب وأبي الدرداء وأبي موسى وغيرهم أنهم كانوا يواظبون عليهما. وأما قول ابن العربي اختلف الصحابة ولم يفعلهما أحد بعدهم، فمردود بقول محمد بن نصر. وقد روينا عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يصلون الركعتين قبل المغرب. ثم أخرج ذلك بأسانيد متعددة عن عبدالرحمن بن أبي ليلى وعبدالله بن بريدة ويحيى بن عقيل والأعرج وعامر بن عبدالله بن الزبير وعراك بن
1173- (8) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((من كان منكم مصليا بعد الجمعة، فليصل أربعا)). رواه مسلم. وفي أخرى له، قال: ((إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعا)).

(7/266)


مالك. ومن طريق الحسن البصري أنه سئل عنهما فقال: حسنتين والله جميلتين لمن أراد بهما- انتهى. (متفق عليه) فيه نظر كما أوضحنا ذلك، والحديث أخرجه أبوداود وابن حبان والبيهقي (ج2 ص474) وزاد ابن حبان فيه: وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى قبل المغرب ركعتين. قال بعض الحنفية هذا الحديث أخرجه البخاري في الأذان أيضا بلفظ عام: بين كل أذانين صلاة وأخرج ههنا بلفظ المغرب خاصة، وحصل إلى الجزم بأنها رواية المعنى لا رواية بالمعنى، فإن الراوي استنبط المسألة من الحديث بين كل أذانين صلاة، ثم أجرى عمومه في المغرب وترك الصلوات الأربع، ثم عبر عنها بقوله صلوا قبل المغرب، وما حاشى به، لأنه قد تعلمها من الحديث العام وفيه تلك. قلت: هذا القول بعيد عن الحق والصواب بل هو باطل جدا. لأنه تحكم محض وادعاء مجرد وتخرص بحت، ولا يكفي في مثل هذه الأمور فتوى القلب، لا سيما من مثل هذا المقلد، بل لا بد لذلك من دليل قوي أو قرينة ظاهرة، ولا شيء ههنا، ولم يذهب إلى ذلك قبله ذهن ذاهن، لأنه تقول على الراوي من غير برهان ولم يتفكر هذا البعض في هذا الحديث سنين حتى جزم بما جزم إلا لأنه كان مخالفا لمذهبه.

(7/267)


1173- قوله. (من كان منكم مصليا بعد الجمعة فليصل أربعا رواه مسلم) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والبيهقي (ج3 ص240). (وفي أخرى له) أي لمسلم. (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعا) وأخرجها أيضا أحمد (ج2 ص249- 442- 499) وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي. وفي رواية لمسلم: إذا صليتم بعد الجمعة فصلوا أربعا. والرواية الثانية تدل على الأمر بأربع ركعات. وظاهره الوجوب، إلا أنه أخرجه عنه الرواية الأولى، فإنها تدل على أنها ليست بواجبة. قال النووي: نبه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: إذا صلى أحدكم بعد الجمعة فليصل بعدها أربعا، على الحث عليها، فأتى بصيغة الأمر، ونبه بقوله: من كان منكم مصليا، على أنها سنة ليست بواجبة- انتهى. وحديث أبي هريرة هذا يدل على أن السنة بعد الجمعة أربع ركعات: وقد تقدم حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين، وهذا يدل على أن السنة بعدها ركعتان. قال النووي: في هذا الأحاديث استحباب سنة الجمعة بعدها، والحث عليها وأن أقلها ركعتان وأكملها أربع. قال وذكر الأربع لفضيلتها وفعل الركعتين في أوقات بيانا؛ لأن أقلها ركعتان. وقال إسحاق بن راهوية: إن صلى في المسجد يوم الجمعة صلى أربعا وإن صلى

(7/268)


في بيته صلى ركعتين. وكذا قال ابن تيمية وابن القيم، كما في زاد المعاد (ج1 ص124). وكأنهم جمعوا بذلك بين الحديثين فإن حديث الأربع مطلق وليس مقيدا بكونها في البيت. وأما حديث الركعتين فهو مقيد بكونهما في البيت، فحملوا حديث الركعتين على ما إذا صلى في البيت وحديث الأربع على ما إذا صلى في المسجد. وفيه أنه لو كان الأمر كما قال هؤلاء لما صلى ابن عمر بعد الجمعة في المسجد ركعتين، فإنه هو الذي روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته. قال الترمذي بعد ذكر قول إسحاق بن راهوية ما نصه: وابن عمر هو الذي روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته، وابن عمر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في المسجد بعد الجمعة ركعتين وصلى بعد الركعتين أربعا، وحمل النسائي حديث ابن عمر على أنه للإمام حيث بوب عليه بلفظ: صلاة الإمام بعد الجمعة وحمل حديث أبي هريرة على أنه لمن يصلي في المسجد فقد بوب له: عدد الصلاة بعد الجمعة في المسجد. ومال الشوكاني إلى أن الأربع للأمة سواء كانت في المسجد أو في البيت لإطلاقه وعدم تقييده بالبيت. وأما الركعتان فللنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، قال: وفعله لا ينافي مشروعية الأربع لعدم المعارضة بين قوله الخاص بالأمة وفعله الذي لم يقترن بدليل خاص يدل على التأسي به فيه، وذلك لأن تخصيصه للأمة بالأمر يكون مخصصا لأدلة التأسي العامة- انتهى. واختلف العلماء في عدد الراتبة بعد الجمعة فأقلها عند الحنابلة ركعتان وأكثرها ستة، فنقل ابن قدامة في المغني عن أحمد أنه قال: إن شاء صلى بعد الجمعة ركعتين وإن شاء صلى أربعا. وفي رواية عنه: وإن شاء ستا. وأما عند الشافعية فالمؤكدة ركعتان والمستحب أربع ركعات. وحكى الترمذي عن الشافعي وأحمد أنهما قالا بحديث ابن عمر. قال العراقي: لم يرد الشافعي وأحمد بذلك إلا بيان أقل ما يستحب، وإلا فقد استحبا

(7/269)


أكثر من ذلك. فنص الشافعي في الأم على أنه يصلي بعد الجمعة أربع ركعات، ذكره في باب صلاة الجمعة والعيدين. ثم ذكر العراقي ما تقدم من كلام أحمد نقلا عن المغني. وأما المالكية فالمستحب عندهم ركعتان في البيت، لأنه لا رغيبة عندهم إلا للصبح. قال في المدونة: قال ابن القاسم قال مالك: بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى الجمعة انصرف ولم يركع في المسجد، قال: وإذا دخل بيته ركع ركعتين، قال مالك: وينبغي للأئمة اليوم إذا سلموا من صلاة الجمعة أن يدخل الإمام منزله ويركع ركعتين ولا يركع في المسجد، قال: ومن خلف الإمام إذا سلموا أحب إلى أن ينصرفوا أيضا ولا يركعوا في المسجد، قال: وإن ركعوا فذلك واسع- انتهى. وأما الحنفية فالمؤكد عندهم أربع لحديث أبي هريرة، وأما ما روي من فعله - صلى الله عليه وسلم - فليس فيه ما يدل على المواظبة. وقال أبويوسف يصلي ستا جمعا بين قوله- صلى الله عليه وسلم - وفعله، وروي ذلك عن علي وابن عمر وأبي موسى، وهو قول عطاء والثوري إلا أن أبا يوسف استحب أن يقدم الأربع قبل الركعتين كيلا يصير متطوعا بعد صلاة الفرض يمثلها. قال الشيخ في شرح الترمذي: ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - ركعتان بعد الجمعة فعلا وأربع قولا. وأما الست فلم تثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -
?الفصل الثاني?
1174- (9) عن أم حبيبة، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من حافظ على أربع ركعات قبل
الظهر وأربع بعدها، حرمه الله على النار)). رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي،
وابن ماجه.

(7/270)


بحديث صحيح صريح، نعم ثبتت عن ابن عمر من فعله، وروي عن علي أنه أمر بها. وأما حديث ابن عمر يعني الذي يأتي في آخر الفصل الثالث، فقال العراقي: إنما أراد رفع فعله بالمدينة فحسب، لأنه لم يصح أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الجمعة بمكة- انتهى. والأولى بالعمل عندي أن يصلي الرجل بعد الجمعة أربعا. (سواء كان في المسجد أو في بيته لإطلاق حديث أبي هريرة)، لأنه قد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - قولا وأمرنا به وحثنا عليه- انتهى.

(7/271)


1174- قوله: (من حافظ) أي داوم وواظب. (على أربع ركعات قبل الظهر) فيه دليل على أن السنة قبل الظهر أربع ركعات وقد تقدم الكلام عليه. (وأربع بعدها) قال القاري: ركعتان منها مؤكدة وركعتان مستحبة، فالأولى بتسليمتين بخلاف الأولى. (حرمه الله على النار) وفي رواية: لم تمسه النار. وفي أخرى: حرم الله لحمه على النار. قال الشوكاني: وقد اختلف في معنى ذلك هل المراد أنه لا يدخل النار أصلا، أو أنه وإن قدر عليه دخولها لا تأكله، أو أنه يحرم على النار أن تستوعب أجزاءه وإن مست بعضه، كما في طرق الحديث عند النسائي بلفظ: فتمس وجهه النار أبدا، وهو موافق لقوله في الحديث الصحيح: وحرم على النار أن تأكل مواضع السجود فيكون قد أطلق الكل وأريد البعض مجازا، والحمل على الحقيقة أولى، وإن الله تعالى يحرم جميعه على النار. وفضل الله أوسع، ورحمته أعم- انتهى. وقال السندي: ظاهره أنه لا يدخل النار أصلا، وقيل: على وجه التأبيد، وحمله على ذلك بعيد، ويكفي في ذلك الإيمان وعلى هذا فلعل من داوم على هذه الفعل يوفقه الله تعالى للخيرات، ويغفر الذنوب كلها- انتهى. (رواه أحمد) الخ للحديث طرق: منها طريق حسان بن عطية عن عنسبة بن أبي سفيان عن أم حبيبة، وهى عند أحمد (ج2 ص325) والنسائي والبيهقي (ج2 ص473). ومنها طريق محمد بن عبدالله الشعيثي عن أبيه عن عنسبة عن أم حبيبة وهي عند أحمد (ج6 ص426) والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقد حسنه الترمذي من هذا الطريق. ومنها طريق القاسم بن عبدالرحمن عن عنسبة عن أم حبيبة، وهي عند الترمذي والنسائي. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، والقاسم بن عبدالرحمن ثقة شامي. ونقل المنذري في الترغيب كلام الترمذي هذا وأقره، وقال في مختصر السنن: وصححه الترمذي من حديث القاسم بن عبدالرحمن، والقاسم هذا اختلف فيه: فمنهم من يضعف روايته، ومنهم من يوثقه- انتهى. قلت: قال الحافظ في التقريب: إنه صدوق. ووثقه ابن

(7/272)


معين والعجلي ويعقوب بن سفيان ويعقوب بن شيبة. وقال أبوحاتم: حديث الثقات عنه مستقيم، لا بأس به، وإنما ينكر عنه الضعفاء. وقال أبوإسحاق
1175- (10) وعن أبي أيوب الأنصاري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أربع قبل الظهر ليس فيهن
تسليم، تفتح لهن أبواب السماء)).
الحربي: كان من ثقات المسلمين. وقال الجوزجاني: كان خيارا فاضلا، أدرك أربعين رجلا من المهاجرين والأنصار. وتكلم فيه أحمد. وقال الغلابي: منكر الحديث. وقال ابن حبان: يروي عن الصحابة المعضلات، كذا في تهذيب التهذيب. ومنها طريق سليمان بن موسى عن مكحول عن مولى لعنسبة بن أبي سفيان عن عنسبة عن أم حبيبة، وهي عند أحمد (ج6 ص326). ومنها طريق سليمان بن موسى والنعمان بن المنذر عن مكحول عن عنسبة عن أم حبيبة. أما طريق سليمان فهي عند النسائي. وأما طريق النعمان فهي عند أبي داود والحاكم والبيهقي (ج2 ص472)، ومن طريق مكحول عن عنسبة عن أم حبيبة أخرج ابن خزيمة في صحيحه، كما في الترغيب. قال البخاري ويحيى بن معين وأبوزرعة وأبوحاتم والنسائي وأبومسهر: إن مكحولا لم يسمع من عنسبة. وخالفهم دحيم وهو أعرف بحديث الشاميين، فأثبت سماع مكحول من عنسبة، قاله الحافظ. ومنها طريق سليمان بن موسى عن محمد بن أبي سفيان عن أم حبيبة، وهي عند النسائي وابن خزيمة، كما في الترغيب. قال النسائي: هذا خطأ، والصواب حديث مروان من حديث سعيد بن عبدالعزيز عن سليمان عن مكحول عن عنسبة. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج9 ص192): وهو الصواب. وهكذا قال غير واحد عن مكحول- انتهى. قلت: الظاهر أن حديث أم حبيبة هذا حسن صحيح من طريق حسان ومحمد بن عبدالله الشعيثي والقاسم بن عبدالرحمن ومكحول كلهم عن عنسبة عن أم حبيبة. فهذه طرق أربع للحديث من بين حسان وصحاح. وأما الطريق الرابع فلعل مكحولا سمع أولا من مولى لعنسبة، ثم لقي عنسبة وسمع منه من غير واسطة، والله أعلم.

(7/273)


1175- قوله. (أربع) أي من الركعات يصليهن الإنسان. (قبل الظهر) أي قبل صلاته. (ليس فيهن) أي بين الركعتين الأوليين والركعتين الأخيرتين. (تسليم) أي فصل بسلام يعني تصلى بتسليمة واحدة. قال القاري: أي الأفضل فيها ذلك. وقد استدل بهذا من جعل صلاة النهار أربعا أربعا، ويمكن أن يقال المراد ليس فيهن تسليم واجب، فلا ينافي أن الأفضل مثنى مثنى ليلا ونهارا لخبر أبي داود وغيره: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. وبه قال الأئمة غير أبي حنيفة، فإنه قال الأفضل أربعا أربعا ليلا ونهارا، ووافقه صاحباه في النهار دون الليل. قال البيجوري في شرح الشمائل. قال القاري: وينبغي أن يكون الخلاف فيما لم يرد فيه تعيين تسليم أو تسليمتين. (تفتح لهن) أي لأجلهن. (أبواب السماء) كناية عن حسن القبول. وهذا لفظ أبي داود ورواه ابن ماجه بلفظ: كان يصلي قبل الظهر أربعا إذا زالت الشمس، لا يفصل بينهن بتسليم، وقال: إن أبواب السماء تفتح إذا زالت الشمس- انتهى. وتسمى
رواه أبوداود، وابن ماجه.

(7/274)


هذه سنة الزوال، وهي غير سنة الظهر. قال ابن القيم: هذه الأربع صلاة مستقلة كان يصليها بعد الزوال، وورد مستقل سببه انتصاف النهار وزوال الشمس. وسر هذا والله تعالى أعلم أن انتصاف النهار مقابل لانتصاف الليل، وأبواب السماء تفتح بعد زوال الشمس ويحصل النزول الإلهي بعد انتصاف الليل، فهما وقتا قرب ورحمة هذا يفتح فيه أبواب السماء، وهذا ينزل فيه الرب تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا- انتهى. وقيل: بل هي سنة الظهر القبلية، والحديث رواه الترمذي في الشمائل بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدمن أربع ركعات عند زوال الشمس، فقلت: يا رسول الله ! إنك تدمن هذه الأربع ركعات عند زوال الشمس، فقال: إن أبواب السماء تفتح، فلا ترتج حتى يصلي الظهر، فأحب أن يصعد لي في تلك الساعة خير- الحديث. ورواه الطبراني في الكبير الأوسط بلفظ: لما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رأيته يديم أربعا قبل الظهر، وقال: إنه إذا زالت الشمس فتحت أبواب السماء، فلا يغلق منها باب حتى يصلى الظهر الخ. وروى البيهقي ونحوه. قال البيجوري: ويبعد الأول أي كون المراد سنة الزوال غير سنة الظهر التعبير بالإدمان المراد به المواظبة، إذ لم يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - واظب على شيء من السنن بعد الزوال إلا على راتبة الظهر- انتهى. (رواه أبوداود وابن ماجه) وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص416) والترمذي في الشمائل والطحاوي (ص196) والبيهقي في السنن (ج2 ص488) كلهم من طريق عبيدة عن إبراهيم عن سهم بن منجاب عن قرثع، وقال بعضهم عن قزعة عن قرثع عن أبي أيوب، وعبيدة هذا هو ابن متعب الضبي الكوفي الضرير. قال في التقريب: ضعيف، واختلط بآخرة، ونقل الزيلعي عن صاحب التنقيح: أنه قال: وروى ابن خزيمة هذا الحديث في مختصر المختصر وضعفه، فقال وعبيدة بن متعب ليس ممن يجوز الاحتجاج بخبره-انتهى. قلت: عبيدة هذا ضعفه أيضا أبوداود وابن معين وأبوحاتم والنسائي وابن عدي.

(7/275)


وذكره ابن المبارك فيمن يترك حديثه. وقال عبدالله بن أحمد عن أبيه: ترك الناس حديثه. وقال يحيى بن سعيد: كان عبيدة سيء الحفظ ضريرا متروك الحديث. وقال الساجي: صدوق سيء الحفظ يضعف عندهم. وقال يعقوب بن سفيان: حديثه لا يسوى شيئا. وقال أبوداود عن شعبة: أخبرني عبيدة قبل أن يتغير كذا في تهذيب التهذيب. قلت: قد روى هذا الحديث أبوداود من طريق شعبة عن عبيدة، وأخرجه الطيالسي أيضا عن شعبة عن عبيدة. كما في الميزان (ج2 ص175) وللحديث طريق أخرى عند أحمد (ج5 ص418) والبيهقي في السنن (ج2 ص489) وابن خزيمة، وهي طريق شريك عن الأعمش عن المسيب بن رافع عن علي بن الصلت عن أبي أيوب، وليس فيه: لا يسلم بينهن، وأخرجه محمد في موطئه عن بكير بن عامر البجلي عن إبراهيم والشعبي عن أبي أيوب. قال الزيلعي. وتكلم الدارقطني في علله، وذكر الاختلاف فيه، ثم قال: وقول أبي معاوية. (يعني عن عبيدة عن إبراهيم عن سهم عن قزعة عن قرثع عن أبي أيوب بذكر هل فيهن تسليم فاصل؟ قال: لا) أشبه بالصواب- انتهى. وحديث أبي معاوية عند الترمذي وأحمد (ج5 ص416)
1176- (11) وعن عبدالله بن السائب، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي أربعا بعد أن تزول
الشمس قبل الظهر، وقال: إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، فأحب أن يصعد لي فيها
عمل صالح)). رواه الترمذي.
1177- (12) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((رحم الله أمرأ صلى قبل العصر أربعا)).
رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود.
واعلم أنه أطلق المنذري عزو حديث أبي أيوب هذا إلى الترمذي في مختصره، وكان عليه أن يقيده بالشمائل.

(7/276)


1176- قوله. (عن عبدالله بن السائب) هو وأبوه صحابي. (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي أربعا بعد أن تزول الشمس قبل الظهر) أي قبل فرضه وهل هي سنة الزوال أو سنة الظهر القبلية؟ فيه خلاف علم مما نقدم. قال العراقي: هي غير الأربع التي هي سنة الظهر قبلها، وتسمى هذه سنة الزوال. وقال القاري: تلك الركعات الأربع سنة الظهر التي قبله. كذا قاله بعض الشراح من علمائنا، وأراد به الرد على من زعم أنها غيرها وسماها سنة الزوال- انتهى. (وقال: إنها) أي قطعة الزمن التي بعد الزوال. وقال القاري: أي ما بعد الزوال. وأنثه باعتبار الخبر وهو. (ساعة تفتح) بالتأنيث وبالتخفيف، ويجوز التشديد. (فيها أبواب السماء) لصعود الطاعة ونزول الرحمة. (فأحب أن يصعد) بفتح الياء ويضم. (فيها) أي في تلك الساعة. (عمل صالح) أي إلى السماء. ويستشكل بأن الملائكة الحفظة لا يصعدون إلا بعد صلاة العصر. وبعد صلاة الصبح، ويبعد أن العمل يصعد قبل صعودهم، وقد يرد بالصعود القبول، قاله البيجوري. (رواه الترمذي) في جامعه وفي شمائله وبوب له في جامعة باب الصلاة عند الزوال، وأشار إلى حديث أبي أيوب المتقدم بقوله: وفي الباب عن أبي أيوب. قال الترمذي: حديث عبدالله بن السائب حديث حسن غريب. قلت: بل هو حديث صحيح متصل الإسناد رواته ثقات، وأخرجه أيضا أحمد (ج3 ص411).

(7/277)


1177- قوله: (رحم الله امرأ) أي شخصا. قال العراقي: يحتمل أن يكون دعاء. وأن يكون خبرا (صلى قبل العصر أربعا) أي أربع ركعات تطوع العصر وهي من المستحبات. قال النووي في شرح المذهب: إنها سنة، وإنما الخلاف في المؤكد منه، وقال في شرح مسلم: لا خلاف في استحبابها عند أصحابنا. وممن كان يصليها أربعا من الصحابة علي. وقال إبراهيم النخعي: كانوا يصلون أربعا قبل العصر، ولا يرونها من السنة. وممن كان لا يصلى قبل العصر شيئا سعيد بن المسيب والحسن البصري وسعيد بن منصور وقيس بن أبي حازم وأبوالأحوص- انتهى. (رواه أحمد) (ج2 ص117). (والترمذي) وحسنه. (وأبو داود) وسكت عنه، وأخرجه أيضا الطيالسي
1178- (13) وعن علي قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل العصر أربع ركعات، يفصل بينهن
بالتسليم على الملائكة المقربين، ومن تبعهم من المسلمين والمؤمنين)).

(7/278)


والبيهقي (ج2 ص473) وابن حبان وصححه وكذا شيخه ابن خزيمة. وفيه محمد بن إبراهيم بن مسلم بن مهران بن المثنى، روى عن جده مسلم بن مهران عن ابن عمر. قال الحافظ في التلخيص: محمد بن مهران فيه مقال، لكن وثقه ابن حبان- انتهى. وقال ابن معين: ليس به بأس. وقال الدارقطني: بصري، روى عن جده ولا بأس بهما. وقال الحافظ في ترجمة مسلم بن مهران: قال أبوزرعة: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وفي الباب عن أم حبيبة عند أبي يعلى، وعن أم سلمة عند الطبراني في الكبير، وعن عبدالله بن عمرو بن العاص عند الطبراني في الكبير الأوسط، وعن علي عند الطبراني في الأوسط، ذكر هذه الأحاديث الشوكاني في النيل، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص222)، والمنذري في الترغيب. واعلم أن الحافظ في الفتح والزرقاني في شرح الموطأ تبعا للحافظ قد نسبا حديث ابن عمر هذا إلى أبي هريرة. قال الحافظ: قد ورد في الصلاة قبل العصر حديث لأبي هريرة مرفوع لفظه: رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا. أخرجه أحمد وأبوداود والترمذي وصححه ابن حبان- انتهى. وهو وهم منهما، لأن الحديث من مسند ابن عمر لا أبي هريرة كما لا يخفى، نعم أخرج أبونعيم من حديث الحسن عن أبي هريرة مرفوعا: من صلى قبل العصر أربع ركعات غفر الله عز وجل له مغفرة عزما. والحسن لم يسمع من أبي هريرة. ذكره الشوكاني والعيني.

(7/279)


1178- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل العصر أربع ركعات) فيه دليل على استحباب أربع ركعات قبل العصر كالحديث السابق، ولا منافاة بينه وبين ما يأتي بعد ذلك من حديث علي أيضا أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي قبل العصر ركعتين، لأن المراد أنه - صلى الله عليه وسلم - أحيانا يصلي أربع ركعات وأحيانا ركعتين، فالرجل مخير بين أن يصلي أربعا أو ركعتين، والأربع أفضل. (يفصل بينهن) أي بين الركعتين الأوليين والركعتين الأخيرتين. (بالتسليم) المراد به تسليم التشهد دون تسليم التحلل من الصلاة كما سيأتي. (على الملائكة المقربين) زاد الترمذي في رواية: والنبيين والمرسلين. (ومن تبعهم) أي النبي ين والمرسلين. (من المسلمين) بيان لمن أي المنقادين ظاهرا وباطنا. (والمؤمنين) المصدقين بقلوبهم المقرين بألسنتهم، فلا فرق بينهما إلا في مفهوم اللغة دون عرف الشريعة، قاله القاري. قال الترمذي: اختار إسحاق بن راهوية أن لا يفصل في الأربع قبل العصر، واحتج بهذا الحديث، وقال معنى قوله: يفصل بينهن بالتسليم يعني التشهد. وقال البغوي: المراد بالتسليم التشهد دون السلام. أي وسمي تسليما على من ذكر لاشتماله عليه. قال الطيبي: ويؤيده حديث عبدالله بن مسعود: كنا إذا صلينا قلنا السلام على الله قبل عباده السلام على جبريل، وكان ذلك في التشهد- انتهى. وقيل: المراد به تسليم التحلل من الصلاة حمله على
رواه الترمذي.
1179- (14) وعنه، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل العصر ركعتين)). رواه أبوداود.
1180- (15) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من صلى بعد المغرب ست ركعات لم
يتكلم فيما بينهن

(7/280)


هذا من اختار أن صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. قال العراقي: حمل بعضهم هذا على أن المراد بالفصل بالتسليم الشهد، لأن فيه السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى عباد الله الصالحين، قاله إسحاق بن إبراهيم، فإنه كان يرى صلاة النهار أربعا، قال وفيما أوله عليه بعد- انتهى كلام العراقي. قال الشيخ في شرح الترمذي: ولا بعد عندي فيما أوله عليه، بل هو الظاهر القريب بل هو المتعين إذ النبي ون والمرسلون لا يحضرون الصلاة حتى ينويهم المصلي بقوله: السلام عليكم فكيف يراد بالتسليم تسليم التحلل من الصلاة- انتهى. قلت: ولقائل أن يقول يكفي للخطاب بقوله السلام: عليكم شهود الأنبياء والمرسلين واستحضارهم في القلب وتصورهم في النفس وإن لم يكونوا حاضرين في الخارج، فلا مانع من أن يراد بالتسليم تسليم التحلل من الصلاة. (رواه الترمذي) أي من طريق أبي إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضمرة عن علي في باب ما جاء في الأربع قبل العصر، وحسنه. ونسبه الحافظ في التلخيص لأحمد (ج1 ص85) والبزار والنسائي أيضا، وهو مختصر من حديث طويل أخرجه الترمذي من الطريق المذكور في باب كيف كان يتطوع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهار، وذكر هناك أنه روي عن ابن مبارك أنه كان يضعف هذا الحديث، وإنما ضعفه عندنا - والله أعلم من أجل - عاصم بن ضمرة، وعاصم بن ضمرة من ثقة عند بعض أهل الحديث. وقال علي بن المديني قال يحيى بن سعيد القطان قال سفيان: كنا نعرف فضل حديث عاصم بن ضمرة على حديث الحارث-انتهى. قلت: عاصم هذا وثقة يحيى بن معين وابن المديني والعجلي وابن سعد. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال البزار: هو صالح الحديث. وقال أحمد: هو أعلى من الحارث الأعور، وهو عندي حجة. وضعفه ابن حبان وابن عدي والجوزجاني تبعا لابن عدي، وقد رد الحافظ على الجوزجاني في تهذيب التهذيب (ج5 ص45- 46) فارجع إليه.

(7/281)


1179- قوله: (يصلي قبل العصر ركعتين) أي أحيانا فلا ينافي ما تقدم من الأربع. (رواه أبوداود) من طريق أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: عاصم بن ضمرة وثقه يحيى بن معين وغيره وتكلم فيه غير واحد.
1180- قوله: (من صلى بعد المغرب) أي فرضه. (ست ركعات) مع الركعتين الراتبتين أو سواهما، قاله في اللمعات. وقال الطيبي: المفهوم إن الركعتين الراتبتين داخلتان في الست، وكذا في العشرين المذكورة في الحديث الآتي- انتهى. قال القاري: فيصلي المؤكدتين بتسليمة، وفي الباقي بالخيار. (لم يتكلم فيما بينهن)
بسوء، عدلن له بعبادة ثنتى عشرة سنة)). رواه الترمذي. وقال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن أبي خثعم، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: هو منكر الحديث، وضعفه جدا.
1181- (16) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى بعد المغرب عشرين ركعة بنى الله له بيتا في الجنة)) رواه الترمذي.

(7/282)


أي في أثناء أدائهن. وقال ابن حجر إذا سلم من ركعتين. (بسوء) أي بكلام سيء أو بكلام يوجب سوء. (عدلن) بصيغة المجهول. قال الطيبي: يقال عدلت فلانا بفلان إذا سويت بينهما يعني ساوين من جهة الأجر. (له) أي للمصلي. (بعبادة ثنتى عشرة سنة) قال البيضاوي: فإن قلت كيف تعادل العبادة القليلة العبادات الكثيرة فإنه تضييع لما زاد عليها من الأفعال الصالحة. قلت: الفعلان إن اختلفا نوعا فلا إشكال. وإن اتفقا فلعل القليل يكتسي بمقارنة ما يخصه من الأوقات والأحوال ما يرجحه على أمثاله، فلعل القليل في هذا الوقت، والحال يضاعف على الكثير في غيرهما. وقال الطيبي: هذا من باب الحث والتحريض، فيجوز أن يفضل ما لا يعرف فضله على ما يعرف وإن كان أفضل حثا وتحريضا، ونظيره قوله تعالى. ?مما خطيئاتهم أغرقوا? [71: 25] خصت الخطيئات استعظاما لها وتنفيرا من ارتكابها وجعلت علة للإغراق دون الكفر وأنه أغلظ وأصعب. قال التوربشتي: وقيل: يحتمل أن يراد ثواب القليل مضعفا أكثر من ثواب الكثير غير مضعف. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا ابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه كلهم من حديث عمر بن أبي خثعم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة. (لا نعرفه إلا من حديث عمر بن أبي خثعم) بفتح معجمة وسكون مثلثة وفتح مهملة. وعمر هو ابن عبدالله بن أبي خثعم نسب هنا إلى جده. (وسمعت محمد بن إسماعيل) أي البخاري. (يقول هو) أي عمر. (منكر الحديث) هذا من ألفاظ الجرح، وهو في المرتبة الثالثة من مراتب ألفاظ الجرح فيما ذكره العراقي، لكن قد قدمنا في شرح حديث أبي هريرة في الفصل الثالث من باب آداب الخلاء أن البخاري إنما يطلق هذا اللفظ على من لا تحل الرواية عنه على ما صرح به السيوطي في التدريب (ص127). (وضعفه جدا) أي تضعيفا قويا. قال في تهذيب التهذيب: قال الترمذي عن البخاري: ضعيف الحديث ذاهب، ضعفه جدا. وقال البرذعي عن أبي زرعة واهي الحديث حدث عن يحيى بن أبي

(7/283)


كثير ثلاثة أحاديث. (أحدها حديث أبي هريرة هذا) لو كانت في خمسمائة حديث لأفسدتها. وقال ابن عدي: منكر الحديث. وقال في الميزان: له حديثان منكران، فذكرهما، وأحدهما هذا الحديث، ثم قال وهاه أبوزرعة. وقال البخاري: منكر الحديث ذاهب- انتهى.
1181- قوله: (بنى الله له بيتا في الجنة) أي عظما مشتملا على أنواع النعم. (رواه الترمذي) أي ذكره تعليقا
1182- (7) وعنها، قالت: ((ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء قط فدخل علي، إلا صلى أربع ركعات أو ست ركعات)).

(7/284)


بصيغة التمريض فقال: وقد روى عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره. وأخرجه ابن ماجه موصولا من رواية يعقوب ابن الوليد المدائني عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. قال المنذري في الترغيب: ويعقوب كذبه أحمد وغيره- انتهى. قلت: قال الحافظ في تهذيب التهذيب: قال عبدالله بن أحمد عن أبيه: خرقنا حديثه منذ دهر، كان من الكذابين الكبار، وكان يضع الحديث. وقال الغلابي عن ابن معين: كذاب. وقال ابن حبان: يضع الحديث على الثقات، لا يحل كتب حديثه إلا على سبيل التعجب. وقال النسائي: ليس بشيء متروك الحديث، هذا وكان على المصنف أن يقول: علقه الترمذي أو ذكره تعليقا، فإنه لا يقال في مثل هذا: رواه وإنما يقال ذكره، وقد عرفت مما قدمنا أن حديث أبي هريرة وحديث عائشة كليهما ضعيفان جدا، لكن قد ورد في فضل الصلاة بين المغرب والعشاء أحاديث أخرى: منها ما رواه الطبراني في معاجيمه الثلاثة عن عمار بن ياسر قال: رأيت حبيبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بعد المغرب ست ركعات، وقال من صلى بعد المغرب ست ركعات غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر. قال الطبراني: تفرد به صالح بن قطن البخاري. قال الهيثمي: ولم أجد من ترجمه. وقال المنذري: وصالح هذا لا يحضرني الآن فيه جرح ولا تعديل. ومنها ما رواه محمد بن نصر في قيام الليل عن ابن عمر مرفوعا: من صلى ست ركعات بعد المغرب قبل أن يتكلم غفر له بها خمسين سنة. وفي إسناده محمد بن غزوان الدمشقي. قال أبوزرعة: منكر الحديث. وقال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج به. ومنها ما رواه أحمد والترمذي وغيرهما عن حذيفة قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المغرب، فلما قضى الصلاة قام يصلي، فلم يزل يصلي حتى صلى العشاء ثم خرج، قال الشوكاني بعد ذكر هذه الأحاديث وغيرهما مما ورد في الباب: الأحاديث المذكورة تدل على مشروعية الاستكثار من الصلاة ما بين المغرب والعشاء. والأحاديث وإن كان أكثرها ضعيفا فهي

(7/285)


منتهضة بمجموعها لاسيما في فضائل الأعمال- انتهى.
1182- قوله: (ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء) أي فرضه. (قط فدخل علي) أي في نوبتي. (إلا صلى أربع ركعات) أي ركعات مؤكدة بتسليمة وركعتان مستحبة، قاله القاري. (أو ست ركعات) يحتمل الشك والتنويع، فركعتان نافلة، قاله القاري. وقال الزرقاني في شرح المواهب: قالت عائشة: ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء قط فدخل بيتي إلا صلى أربع ركعات، أي تارة أو ست ركعات أي أخرى، فليست أو للشك. وفي مسلم قالت عائشة ثم يصلي بالناس العشاء ويدخل بيتي فيصلي ركعتين. وكذا في حديث ابن عمر عند الشيخين. ومفاد الأحاديث أنه كان يصلي بحسب ما تيسر ركعتين وأربعا وستا إذا دخل بيته بعد العشاء- انتهى. وأما
رواه أبوداود.
1183- (18) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إدبار النجوم الركعتان قبل الفجر،

(7/286)


ما روى محمد بن نصر من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى العشاء الآخرة، ثم صلى أربع ركعات حتى لم يبق في المسجد غيري وغيره. وهذا يقتضى أن يكون صلى الأربع في المسجد لا في البيت، فأجيب عنه بأن في سنده المهال بن عمرو، وقد اختلف فيه. وعلى تقدير ثبوته فيكون قد وقع ذلك منه لبيان الجواز أو لضرورة له في المسجد اقتضت ذلك. وأما ما روى الطبراني في الكبير عن ابن عمر مرفوعا: من صلى العشاء الآخرة في جماعة وصلى أربع ركعات قبل أن يخرج من المسجد كان كعدل ليلة القدر، ففيه أنه قال العراقي: لم يصح. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص231): وفيه من ضعف الحديث. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد (ص6/58) والبيهقي (ج2 ص477) من طريق أبي داود، وسكت عنه أبوداود والمنذري. قال الشوكاني. . الحديث رجال إسناده ثقات. ومقاتل بن بشير العجلي. (يعني الراوي عن شريح بن هاني عن عائشة) قد وثقه ابن حبان، وقد أخرجه النسائي أيضا في السنن الكبرى. وفي الباب عن ابن عباس عند البخاري وغيره، قال: بت في بيت خالتي ميمونة- الحديث، وفيه فصلي النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء، ثم جاء إلى منزله فصلى أربع ركعات، ثم نام الخ. والظاهر أن هذه الأربعة سنة العشاء البعدية لكونها وقعت قبل النوم، وعليه حمله محمد بن نصر في قيام الليل، وعن عائشة أنها سئلت عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جوف الليل فقالت: كان يصلي صلاة العشاء في جماعة، ثم يرجع إلى أهله فيركع أربع ركعات، ثم يأوي إلى فراشه- الحديث بطوله. وفي آخره حتى قبض على ذلك، أخرجه أبوداود من طريق زرارة بن أبي أوفي عن عائشة، وأخرجه أيضا من رواية زرارة عن سعد بن هشام عن عائشة. قال المنذري: هذه الرواية هي المحفوظة. وعندي في سماع زرارة من عائشة نظر، فإن أبا حاتم الرازي قال: قد سمع زرارة من عمران بن حصين وأبي هريرة وابن عباس وهذا ما صح له، فظاهر هذا أن زرارة لم يسمع

(7/287)


عنده من عائشة- انتهى. وعن عبدالله بن الزبير قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى العشاء ركع أربع ركعات، وأوتر بسجدة، ثم تام حتى يصلي بعدها صلاته من الليل. أخرجه أحمد (ج4 ص4) والبزار والطبراني في معجمه، ذكره الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص146). وعن أنس وعن البراء بن عازب، وعن ابن عباس عند الطبراني، ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص230- 231) مع الكلام عليها.
1183- قوله: (إدبار النجوم) بكسر الهمزة ونصب الراء على الحكاية من قوله تعالى: ?وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم? [49: 52] ويجوز الرفع. وعلى الوجهين هو مبتدأ خبره: (الركعتان قبل الفجر) أي فرضه. والإدبار والدبور الذهاب، يعني عقب ذهاب النجوم. وقال ابن كثير : أي عند جنوحها
وأدبار السجود الركعتان بعد المغرب)). رواه الترمذي.
?الفصل الثالث?
1184- (19) عن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((أربع قبل الظهر، بعد الزوال، تحسب
بمثلهن في صلاة السحر.

(7/288)


للغيبوبة وهو سنة الصبح. (وأدبار السجود) بفتح الهمزة وكسرها قراءتان متواترتان في قوله تعالى: ?وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، ومن الليل فسبحه وأدبار السجود? [40: 50] قال الطيبي: صلاة أدبار السجود، وأدبار نصبه بسبح في التنزيل أوقعه مضافا في الحديث على الحكاية- انتهى. والمراد بالسجود فريضة المغرب. (الركعتان بعد المغرب) أي فرضه وهي سنة المغرب البعدية. (رواه الترمذي) في تفسير سورة الطور، وأخرجه أيضا الحاكم وصححه وابن مردويه وابن أبي حاتم كلهم من طريق رشدين بن كريب عن أبيه عن ابن عباس، ورشدين ضعفه ابن المديني وأبوزرعة وابن نمير وأبوحاتم والنسائي. وقال أحمد والبخاري: منكر الحديث. وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء. وقال ابن عدي: أحاديثه مقلوبة، لم أر فيها حديثا منكرا جدا، ومع ضعفه يكتب حديثه. وقال ابن كثير: رشيدين بن كريب ضعيف، ولعل الحديث من كلام ابن عباس موقوفا عليه- انتهى. والحديث أخرجه مسدد في مسنده وابن المنذر وابن مردويه من حديث علي مرفوعا.

(7/289)


1184- قوله: (أربع) أي من الركعات. (قبل الظهر بعد الزوال) صفة لأربع، وخبره قوله: (تحسب) بصيغة المجهول. (بمثلهن) أي الكائن. (في صلاة السحر) بفتح المهملتين. ولفظ الترمذي: بمثلهن من صلاة السحر، أي بمثل أربع ركعات كائنة من صلاة السحر، يعني تعدل في الفضل أربعا مماثلة لهن من جملة صلاة السحر أي التهجد. وذكره المنذري في الترغيب نقلا عن الترمذي بلفظ: بمثلهن في السحر. وقال الطيبي: أي توازي أربعا في الفجر من السنة والفريضة لموافقه المصلي بعد الزوال سائر الكائنات في الخضوع والدخور لبارئها، فإن الشمس أعلى وأعظم منظورا في الكائنات، عند زوالها يظهر هبوطها وانحطاطها وسائر ما يتفيؤ بها ظلاله عن اليمين والشمال- انتهى. وقيل: لا يظهر وجه العدول عن الظاهر، وهو حمل السحر على حقيقته، وتشبيه هذه الأربع بأربع من صلاة الصبح إلا باعتبار كون المشبة به مشهودا بمزيد الفضل- انتهى. يعني قوله تعالى: ?إن قرآن الفجر كان مشهودا? [17: 78] وفيه إشارة إلى أن العدول إنما هو ليكون المشبه به أقوى، إذ ليس التهجد أفضل من سنة الظهر. قال القاري: والأظهر حمل السحر على حقيقته، وهو السدس الأخير من الليل. ويوجه كون المشبه به أقوى بأن العبادة فيه أشق وأتعب، والحمل على الحقيقة مهما أمكن فهو أولى وأحسن. قلت: لا شك أم الحمل على الحقيقة أولى. وعلى هذا فالمراد بصلاة السحر صلاة التهجد. ويؤيده ما روي عن الأسود ومرة
وما من شيء إلا وهو يسبح لله تلك الساعة، ثم قرأ: ? يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل
سجدا لله وهم داخرون?. رواه الترمذي، والبيهقي في شعب الإيمان.
1185- (20) وعن عائشة، قالت: ((ما ترك رسول الله صلى الله وعليه وسلم

(7/290)


مسروق، قالوا قال عبدالله يعني ابن مسعود ليس شيء يعدل صلاة الليل من صلاة النهار إلا أربعا قبل الظهر الخ، رواه الطبراني في الكبير. قال الهيثمي: وفيه بشير بن الوليد الكندي وثقة جماعة، وفيه كلام، وبقية رجاله رجال الصحيح- انتهى. وهذا في حكم المرفوع. ويستأنس بهذا أن المراد بصلاة السحر في حديث عمر: صلاة الليل. قال بعض المشائخ: السر في هذا أن هذين الوقتين زمان تتنزل الرحمة بعد الزوال، فإنه تفتح أبواب الرحمة والقبول بعد انتصاف النهار كما عرفت، وتنزل الرحمة الإلهية في الليل بعد انتصافه إلى وقت السحر، فلما تناسب الوقتان تناسبت الصلاة الواقعة فيهما، ويكون كل منهما عديل الآخر، ولما كان نزول الرحمة في آخر الليل أظهر وأشهر جعل الصلاة وقت الزوال عديلة وشبيهة به. (وما من شيء إلا وهو يسبح لله تلك الساعة) أي يسبحه تسبيحا خاصا تلك الساعة، فلا ينافي قوله تعالى: ?وإن من شيء إلا يسبح بحمده? [17: 44] المقتضى لكونه كذلك في سائر الأوقات، والتسبيح في الآيتين بلسان القال والحال. (ثم قرأ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عمر، قاله القاري. والظاهر هو الأول. (يتفيؤ) أي يميل. (ظلاله) أي ظلال كل شيء. (عن اليمين) أريد به الجنس. (والشمائل) جمع شمال، وفيه تفتن أي جانبيها أول النهار وآخره. (سجدا لله) حال أي خاضعين بما يراد منهم. (وهم) أي الظلال. (داخرون) أي صاغرون، نزلوا منزلة العقلاء. وقيل: المراد بقوله هم الخلق المعبر عنه بما منشيء، وفيه تغليب العقلاء. قال الطيبي: ومعنى الآية بتمامها. ?أولم يروا? [16: 48] بالغيبة والخطاب. ? إلى ما خلق الله من شيء? [16: 48] أي من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن أيمانها وشمائلها كيف تنقاد لله تعالى غير ممتنعة عليه فيما سخرها من التفيؤ، والأجرام في أنفسها داخرة أيضا منقاد صاغرة. والشمس وإن كانت أعظم وأعلى منظورا في هذا العالم. إلا أنها عند الزوال يظهر هبوطها وانحطاطها

(7/291)


وأنها آيلة إلى الفناء والذهاب، فأشار عليه السلام إلى أن المصلي حينئذ موافق لسائر الكائنات في الخضوع لخالقها، فهو وقت خضوع وافتقار، فساوى وقت السحر الذي هو وقت تجلي الحق ومحل الاستغفار. (رواه الترمذي) في تفسير سورة النحل، وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن عاصم عن يحيى البكاء عن عبدالله بن عمر. وعلي بن عاصم هذا. قال الحافظ: صدوق يخطىء ويصر، ويحيى البكاء بتشديد الكاف ضعيف.
1185- قوله: (ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي من الوقت الذي شغل فيه عن الركعتين بعد الظهر فصلاهما
ركعتين بعد العصر عندي قط)). متفق عليه. وفي رواية للبخاري، قالت: ((والذي ذهب به ما
تركهما حتى لقي الله)).

(7/292)


بعد العصر، ولم ترد أنه كان يصلي بعد ركعتين من أول ما فرضت الصلوات مثلا إلى أخر عمره. وقال النووي: تعني بعد وفود قوم عبد القيس. (ركعتين عد العصر) أي بعد فرضه قضاء أولا، ثم استمرار ثانيا. (عندي)" أي في بيتي. (قط) أي أبدا. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي والبيهقي. (وفي رواية للبخاري) ذكرها في باب ما يصلي بعد العصر من الفوائت ونحوها. (قالت) عائشة. (والذي) قسم. (ذهب به) أي توفاه تعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (ما تركهما) أي الركعتين بعد صلاة العصر. (حتى لقي الله) عزوجل، زاد البخاري في هذه الرواية: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يصليهما في المسجد مخافة أن يثقل على أمته، وكان يحب ما يخفف عنهم. وفي رواية لمسلم: صلاتان ما تركهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي قط سرا ولا علانية، ركعتين قبل الفجر وركعتين بعد العصر، وفي رواية للبخاري: ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتيني في يوم بعد العصر إلا صلى ركعتين. قيل: هاتان ركعتان ركعتا سنة الظهر البعدية، فاتتا منه- صلى الله عليه وسلم - بسبب وفد عبد القيس، فقضاهما بعد العصر، كما تقدم من حديث أم سلمة، ثم داوم عليهما. وروي: أنه أتاه مال فشغله عن الركعتين بعد الظهر فصلاهما بعد العصر. وقيل: هما سنة العصر القبلية، فقد روى مسلم عن أبي سلمة أنه سأل عائشة عن السجدتين اللتين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليهما بعد العصر، فقالت: كان يصليهما قبل العصر ثم أنه شغل عنهما أو نسيهما، فصلاهما بعد العصر ثم أثبتهما، وكان إذا صلى صلاة أثبتها، تعني دوامها ثم إن هذه الأحاديث يعارضها ما روى النسائي عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في بيتها بعد العصر ركعتين مرة واحدة- الحديث. وفي رواية له عنها: لم أره يصليهما قبل ولا بعد، وما روى الترمذي عن ابن عباس قال: إنما صلى النبي - صلى الله

(7/293)


عليه وسلم - الركعتين بعد العصر، لأنه أتاه مال فشغله عن الركعتين بعد الظهر، فصلاهما بعد العصر، ثم لم يعد لهما. قال الترمذي: حديث حسن فيحمل النفي على علم الراوي، فإنه لم يطلع على ذلك، والمثبت مقدم على النافي. قال الحافظ: يجمع بين الحديثين بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يصليهما إلا في بيته، فلذلك لم يره ابن عباس ولا أم سلمة. ويشير إلى ذلك قول عائشة: وكان لا يصليهما في المسجد مخافة أن تثقل على أمته- انتهى. وقال الشوكاني: قد جمع بين رواية النفي ورواية الإثبات بحمل النفي في المسجد، أي لم يفعلهما في المسجد، والإثبات على البيت. وقد تمسك بحديث عائشة من أجاز قضاء النفل بعد العصر. وأجاب المانعون بأنها من الخصائص. وأجيب بأن الذي اختص به - صلى الله عليه وسلم - المداومة على ذلك لا أصل القضاء. والجمع بين هذا وحديث النهي عن الصلاة بعد العصر، أن ذلك فيما لا سبب له، وهذا سببه قضاء فائتة الظهر كما أمر آنفا. وقد سبق الكلام في هذا مفصلا في باب أوقات النهي.
1186- (21) وعن المختار بن فلفل، قال: سألت أنس بن مالك عن التطوع بعد العصر، فقال:
كان عمر يضرب الأيدي على صلاة بعد العصر.

(7/294)


1186- قوله: (وعن المختار بن فلفل) بفائين مضمومتين ولامين، الأولى ساكنة، المخزومي مولى عمرو بن حريث. وثقه أحمد وابن معين وأبوحاتم والعجلي والنسائي ويعقوب بن سفيان. وقال أبوداود: ليس به بأس. وقال أبوبكر البزار: صالح الحديث، وقد احتمله حديثه. (كان عمر يضرب الأيدي) أي أيدي من عقد الصلاة وأحرم بالتكبير. (على صلاة) أي نافلة. (بعد العصر) أي يمنعهم من التطوع بعد فرض العصر، وضرب عمر الناس على الصلاة بعد العصر ثابت في عدة أحاديث: منها ما رواه البيهقي والإسماعيلي عن أيمن أنه دخل على عائشة، فسألها عن الركعتين بعد العصر، فقالت: والذي ذهب بنفسه، تعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ما تركهما حتى لقي الله، فقال لها أيمن إن عمر كان ينهى عنهما ويضرب عليهما، فقالت: صدقت، ولكن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصليهما. ومنها ما رواه البخاري في باب إذا كلم وهو يصلي آخر أبواب الصلاة من حديث كريب: أن ابن عباس والمسور بن مخرمة وعبدالرحمن بن أزهر أرسلوه إلى عائشة. فقالوا اقرأ عليها السلام منا جميعا، وسلها عن الركعتين بعد صلاة العصر، وقل لها :إنا أخبرنا أنك تصليهما، وقد بلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنهما. وقال ابن عباس: قد كنت أضرب الناس مع عمر عليهما- الحديث. ومنها ما رواه مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد أنه رأى عمر بن الخطاب يضرب المنكدر في الصلاة بعد العصر. ومنها ما روى ابن أبي شيبة عن عبدالله بن شقيق قال: رأيت عمر أبصر رجلا يصلي بعد العصر، فضرب حتى سقط وراءه. وقد استدل بهذه الآثار من منع التنفل بعد العصر مطلقا، لكن في الاستدلال بها على ذلك نظر، لأنه يحتمل أن عمر كان يرى أن النهي عن الصلاة بعد العصر إنما هو خشية إيقاع الصلاة عند الغروب الشمس لا مطلقا. قال الحافظ: روى عبدالرزاق من حديث زيد بن خالد سبب ضرب عمر الناس على ذلك، فقال عن زيد بن خالد أن عمر رآه، وهو خليفة، ركع بعد

(7/295)


العصر فضربه، فذكر الحديث، وفيه فقال عمر: يا زيد لو لا أني أخشى أن يتخذهما الناس سلما إلى الصلاة حتى الليل لم أضرب فيهما. ولعل عمر كان يري أن النهي عن الصلاة بعد العصر إنما هو خشية إيقاع الصلاة عند الغروب الشمس. وهذا يوافق قول ابن عمر: أصلي كما رأيت أصحابي يصلون لا أنهى أحدا يصلي بليل أو نهار وما شاء غير أن لا تحروا طلوع الشمس ولا غروبها. ويوافق ما نقلناه عن ابن المنذر وغيره من أنه لا تكره الصلاة بعد الصبح ولا بعد العصر إلا لمن قصد بصلاته طلوع الشمس وغروبها. وقد روى يحيى بن بكير عن الليث عن أبي الأسود عن عروة عن تميم الداري نحو رواية زيد بن خالد وجواب عمر له، وفيه: ولكني أخاف أن يأتي بعدكم قوم يصلون ما بين العصر إلى المغرب حتى يمروا بالساعة التي نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلى
وكنا نصلي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين بعد الغروب الشمس قبل صلاة المغرب، فقلت له: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليهما؟ قال: يرانا نصليهما فلم يأمرنا ولم ينهنا)). رواه مسلم.
1187- (22) وعن أنس، قال: ((كنا بالمدينة، فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب، ابتدروا السواري،
فركعوا ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد، فيحسب أن الصلاة قد صليت
من كثرة من يصليهما)).

(7/296)


فيها وهذا أيضا يدل لما قلناه- انتهى كلام الحافظ. (فقلت) قول المختار بن فلفل الراوي (له) أي لأنس. (أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليهما) كذا في جميع النسخ الموجودة، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص23) ولفظ مسلم: صلاهما أي بصيغة الماضي، وكذا نقله المجد بن تيمية في المنتقى. ولفظ أبي داود: أراكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (قال) أنس. (كان يرانا نصليهما فلم يأمرنا ولم ينهنا) قال الطيبي: أي لم يأمر من لم يصل ولم ينه من صلى- انتهى. قلت: وتقريره - صلى الله عليه وسلم - لمن يراه يصلي في ذلك الوقت يدل على عدم كراهة الصلاة فيه ولاسيما والفاعل لعله لذلك عدد كثير من الصحابة، وقد ثبت أمره بذلك، لكن لا على سبيل الوجوب، بل على طريق الندب والاستحباب، كما تقدم في شرح حديث عبدالله بن مغفل في الفصل الأول. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أبوداود والبيهقي (ج2 ص475).

(7/297)


1187- قوله: (ابتدروا) أي ناس من الصحابة. (السواري) بتخفيف الياء، جمع سارية، وهي الأسطوانة، أي تسارعوا، واستبقوا إلى الأسطوانات للاستتار بها ممن يمر بين أيديهم لكونهم يصلون فرادى. والمعنى وقف كل من سبق خلف الأسطوانة. (حتى إن الرجل الغريب) بكسر همزة إن، وجوز فتحها. والغريب الأجنبي البعيد عن وطنه. قال ابن حجر: حتى عاطفة لما بعدها على جملة ابتدروا. (فيحسب) بكسر السين وفتحها أي فيظن. (أن الصلاة) أي التي هي فرض المغرب. (قد صليت من كثرة من يصليهما) أي الركعتين. والحديث رواه البخاري في باب كم بين الأذان والإقامة من طريق عمرو بن عامر الأنصاري عن أنس. قال: كان المؤذن إذا أذن قام ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يبتدرون السواري حتى يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم كذلك يصلون ركعتين قبل المغرب، ورواه في باب الصلاة إلى الأسطوانة بلفظ قال: لقد رأيت كبار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبتدرون السواري عند المغرب. قال القرطبي: ظاهر حديث أنس أن الركعتين بعد أذان المغرب وقبل صلاة المغرب كان أمرا قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عليه، وعملوا به حتى كانوا يستبقون إليه. وهذا يدل على الاستحباب. وكان أصله قوله - صلى الله عليه وسلم -: بين كل أذانين صلاة. وأما كونه - صلى الله عليه وسلم - لم يصلهما فلا ينفي الاستحباب بل يدل على أنهما
رواه مسلم.
1188- (23) وعن مرثد بن عبدالله، قال: ((أتيت عقبة الجهني، فقلت: ألا أعجبك من أبي تميم
يركع ركعتين قبل صلاة المغرب؟ فقال عقبة: إنا كنا نفعله على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قلت:
فما يمنك الآن؟ قال: الشغل)). رواه البخاري.

(7/298)


ليستا من الرواتب. وإلى استحبابهما ذهب أحمد وإسحاق وأصحاب الحديث، كذا في الفتح. قلت: قد ثبت فعله - صلى الله عليه وسلم - من حديث عبدالله بن مغفل عند ابن حبان في صحيحه، كما في نصب الراية (ج2 ص141). وعلى هذا فلا شك في كون الركعتين بعد غروب الشمس وقبل صلاة المغرب مستحبا، لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلا وأمرا وتقريرا. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا البخاري، وتقدم لفظه، وأحمد والنسائي والبيهقي (ج2 ص475).

(7/299)


1188- قوله: (وعن مرثد) بميم مفتوحة وراء ساكنة بعدها مثلثة مفتوحة. (بن عبدالله) اليزني بفتح التحتية والزاي بعدها نون، نسبة إلى يزن، بطن من حمير أبي الخير، المصري، ثقة فقيه. قال في تهذيب التهذيب: كان لا يفارق عقبة بن عامر الجهني، وكان مفتي أهل مصر في زمانه. قال العجلي: مصري تابعي ثقه. وقال ابن سعد: كان ثقة وله فضل وعبادة. وقال ابن شاهين في الثقات: كان عند أهل مصر مثل علقمة عند أهل الكوفة، وكان رجل صدق. ووثقه يعقوب بن سفيان. (أتيت عقبة) بضم العين ابن عامر وإلى مصر. (الجهني) بضم الجيم نسبة إلى جهنية قبيلة. (ألا أعجبك) بضم الهمزة وسكون المهملة. وفي رواية بفتح العين وتشديد الجيم، أي ألا أوقعك في التعجب. (من أبي تميم) بفتح المثناة الفوقية، هو عبدالله بن مالك الجيشاني بفتح الجيم وسكون التحتانية بعدها معجمة المصري، مشهور بكنيته، أصله من اليمن تابعي كبير ثقة مخضرم، أسلم في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقرأ على معاذ بن جبل باليمن، ثم قدم في زمن عمر، فشهد فتح مصر وسكنها. قال ابن يونس: وقد عده جماعة في الصحابة لهذا الإدراك، مات سنة سبع وسبعين. (يركع) أي يصلي. (ركعتين) زاد أحمد والإسماعيلي حين يسمع أذان المغرب. (إنا) أي معشر الصحابة. (كنا نفعله على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي في زمانه وبحضرته، كما تقدم في حديث أنس. (فما يمنعك الآن) أي من صلاتهما. (قال الشغل) بضم الشين وسكون الغين وضمها وهو ضد الفراغ، والحديث دليل على مشروعية صلاة الركعتين قبل المغرب. وفيه رد على قول القاضي أبي بكر بن العربي: لم يفعلهما أحد بعد الصحابة، لأن أبا تميم تابعي، وقد فعلهما، قاله الحافظ. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا أحمد (ج4 ص155) والبيهقي (ج2 ص475).
1189- (24) وعن كعب بن عجرة، قال: ((إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى مسجد بنى عبدالأشهل، فصلى فيه

(7/300)


المغرب، فلما قضوا صلاتهم رآهم يسبحون بعدها، فقال: هذه صلاة البيوت)). رواه أبو
داود. وفي رواية الترمذي، والنسائي، ((قام الناس يتنفلون، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: عليكم بهذه
الصلاة في البيوت)).
1189- قوله: (أتى مسجد بني عبدالأشهل) هم من أنصار الأوس. وعبد الأشهل هو ابن جشم بن الحارث بن الخزرج الأصغر ابن عمرو بن مالك بن الأوس بن حارثة. (فصلى فيه المغرب) أي فرضه. (رآهم يسبحون) أي يصلون نافلة بدليل الرواية الآتية. (بعدها) أي بعد صلاة المغرب. (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (هذه) أي الصلاة بعد المغرب أو النافلة مطلقا، والأول أقرب. ويلزم منه أن يكون للصلاة التي بعد المغرب زيادة اختصاص بالبيت فوق اختصاص مطلق النافلة به والله تعالى أعلم، قاله السندي: (صلاة البيوت) أي الأفضل أن يصلى بها في البيوت، لأنها أبعد من الرياء، وأقرب إلى الإخلاص لله تعالى. قال القاري: والظاهر أن هذا إنما هو لمن يريد الرجوع إلى بيته بخلاف المعتكف في المسجد، فإنه يصليها فيه، ولا كراهة بالاتفاق. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا الترمذي والنسائي كما صرح به المصنف فيما بعد، والبيهقي (ج2 ص189) وفي سنده إسحاق بن كعب بن عجرة. قال الذهبي في الميزان: إسحاق بن كعب تابعي مستور، تفرد بحديث سنة المغرب، وهو غريب جدا- انتهى. وقال الحافظ في التقريب: مجهول الحال، قتل يوم الحرة سنة 63. وذكره ابن حبان في الثقات. والحديث قد أعله الترمذي بما تقدم من حديث ابن عمر ثاني أحاديث الفصل الأول فقال: والصحيح ما روي عن ابن عمر قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الركعتين بعد المغرب في بيته، وفيه أن هذا تعليل غير جيد، لأن الحديث الفعلي المؤيد للقولي لا يكون علة له، مع أن له شاهدا بإسناده جيد حسن رواه أحمد في المسند (ج5 ص427) من حديث محمود بن لبيد أخي بنى عبدالأشهل، قال: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى بنا

(7/301)


المغرب في مسجدنا، فلما سلم قال: اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم للسبحة يعني بعد المغرب، ذكره الهيثمي، وقال رجاله ثقات، ورواه أحمد مرة أخرى في الصفحة بعدها، ثم قال ابنه عبدالله قلت لأبي: إن رجلا قال من صلى ركعتين بعد المغرب في المسجد لم تجزه إلا أن يصليهما في بيته، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن هذه من صلوات البيوت، قال: من هذا؟ قلت: محمد بن عبدالرحمن. (ابن أبي ليلى)، قال: ما أحسن ما قال، أو ما أحسن ما انتزع- انتهى. قلت: الأمر في حديث محمود بن لبيد هذا محمول على الندب جمعا بينه وبين الأحاديث التي تدل على صلاته - صلى الله عليه وسلم - بعد المغرب في المسجد كحديث ابن عباس الآتي وغيره مما ذكرنا في شرح حديث ابن عمر. (عليكم بهذه الصلاة في بيوت) إرشاد لما هو الأفضل والأولى.
1190- (25) وعن ابن عباس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطيل القراءة في الركعتين بعد المغرب، حتى يتفرق أهل المسجد)). رواه أبوداود.
1191- (26) وعن مكحول يبلغ به، ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: من صلى بعد المغرب قبل أن يتكلم ركعتين)) ـ وفي رواية ـ. ((أربع ركعات))،

(7/302)


1190- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطيل القراءة في الركعتين بعد المغرب) أي أحيانا لما تقدم في باب القراءة من حديث ابن مسعود أنه كان يقرأ فيهما الكافرون والإخلاص. (حتى يتفرق أهل المسجد) ظاهره أنه كان يصليهما في المسجد، فيحمل على أن فعلهما فيه لعذر منعه من دخول البيت. والأظهر أنه يحمل على بيان الجواز. قال محمد بن نصر: لعله أن يكون قد فعل هذا مرة. وقيل: يحمل على وقت الاعتكاف. وقيل: يحتمل أنه كان يفعلهما في البيت، وإن ابن عباس علم بذلك، لأن بيته - صلى الله عليه وسلم - كان متصلا بالمسجد، ولم يكن بينهما إلا جدار، وكان في الجدار باب إلى المسجد. (رواه أبوداود) وسكت نه، وأخرجه أيضا محمد بن نصر في قيام الليل والبيهقي (ج2 ص190) وفي سنده يعقوب بن عبدالله الأشعري أبوالحسن القمي بضم القاف وتشديد الميم. قال النسائي: ليس به بأس. وقال أبوالقاسم الطبراني: كان ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الدارقطني:ليس بالقوي. مات سنة أربع وسبعين ومائة. كذا في تهذيب التهذيب. وقال في التقريب: صدوق يهم. خرج له البخاري تعليقا في الطب. وروى الطبراني في الكبير عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعد المغرب ركعتين يطيل فيهما القراءة حتى يتصدع أهل المسجد، ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص230)، وقال: فيه يحيى بن عبدالحميد الحماني، وهو ضعيف.

(7/303)


1191- قوله: (وعن مكحول) الشامي الدمشقي أبي عبدالله التابعي المشهور. (يبلغ به) الباء للتعدية أي يبلغ بالحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويرفعه إليه. فالحديث مرسل، لأن مكحولا تابعي، وأسقط من السند ذكر الواسطة بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وذكره محمد بن نصر في قيام الليل بلفظك عن مكحول أنه بلغه. (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من صلى بعد المغرب) أي فرضه. (قبل أن يتكلم) أي بكلام الدنيا. (ركعتين) الظاهر أنهما سنة صلاة المغرب البعدية. (وفي رواية أربع ركعات) ركعتان منها سنتها البعدية، وركعتان من سنة وقت الغفلة، فقد روى الطبراني في الكبير عن الأسود بن يزيد، قال قال عبدالله بن مسعود: نعم ساعة الغفلة، يعني الصلاة فيما بين المغرب والعشاء. قال الهيثمي: فيه جابر الجعفي، وفيه كلام كثير، وعن عبدالرحمن بن يزيد قال: ساعة ما أتيت عبدالله بن مسعود فيها إلا وجدته يصلي ما بين المغرب والعشاء، فسألت عبدالله. (عن ذلك)
رفعت صلاته في عليين))، مرسلا.
1192- (27) وعن حذيفة نحوه، وزاد: فكان يقول: ((عجلوا الركعتين بعد المغرب، فإنها ترفعان
مع المكتوبة)). رواهما رزين،

(7/304)


فقال: إنها ساعة غفلة. قال الهيثمي: وفيه ليث بن أبي سليم، وفيه كلام. وتسمية الصلاة بين العشائين صلاة الغفلة اصطلاح للشافعية سموها في كتبهم أخذا من قول ابن مسعود. قال القاري: والأولى أن يسمى الصلاة ما بين المغرب والعشاء صلاة الأوابين، فقد روى محمد بن نصر عن محمد بن المنكدر مرسلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من صلى ما بين المغرب والعشاء فإنها من صلاة الأوابين. وهذا لا يعارض ما روي من قوله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة الأوابين حين ترمض الفصال، فإنه لا مانع أن يكون كل من الصلاتين صلاة الأوابين. (رفعت صلاته) أي نافلته أو مع فريضته. (في عليين) كناية عن غاية قبولها. وعظيم ثوابها. وعليون جمع علي اسم لمقام في السماء السابعة، تصعد إليه أعمال الصالحين وأرواحهم. والحديث يدل على استحباب تعجيل الركعتين الراتبتين بعد المغرب. ويدل عليه أيضا حديث حذيفة الآتي، وهو الذي فهمه محمد بن نصر حيث بوب عليه: باب تعجيل الركعتين بعد المغرب. (مرسلا) أي يبلغ به حال كون الحديث مرسلا، لأن مكحولا تابعي قال ابن حجر: والإرسال هنا لا يضر، لأن المرسل كالضعيف الذي لم يشتد ضعفه، يعمل بهما في فضائل الأعمال- انتهى.

(7/305)


1192- قوله: (وعن حذيفة) أي مروي عنه. (نحوه) أي نحو حديث مكحول بمعناه دون لفظه. (وزاد) أي حذيفة. (فكان يقول) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - : (عجلوا الركعتين بعد المغرب) أي بالمبادرة إليهما. وقيل: بالتخفيف فيهما. وقيل: لا منع من الجمع. والمراد بهما سنته بلا خلاف. (فإنهما ترفعان مع المكتوبة) فإن السنة تابعة للفرض ومكملة له وقت العرض. (رواهما رزين) نقل المنذري في الترغيب حديث مكحول وقال: ذكره رزين ولم أره في الأصول- انتهى. قلت: الحديثان أخرجهما محمد بن نصر في باب تعجيل الركعتين بعد المغرب من كتابه قيام الليل، قال: حدثنا إسحاق أخبرنا بقية حدثني زيد العمى عن أبي العالية عن حذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال: عجلوا الركعتين بعد المغرب، فإنهما ترفعان مع المكتوبة، قال محمد بن نصر: هذا حديث ليس بثابت، وقد روي عن حذيفة من طريق آخر خلاف هذا عن حذيفة، قال: كانوا يحبون تأخير الركعتين بعد المغرب حتى كان بعض الناس تفاجئهم الصلاة ولم يصلوهما، فعجلهما الناس، وهذا أيضا ليس بثابت، قال: وحدثنا محمد بن يحيى أخبرنا أبوصالح حدثني الليث حدثني يحيى بن عبدالله بن سالم بن عبدالله بن عمر عن عمر بن عبدالعزيز عن مكحول أنه حدثه أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من صلى بعد المغرب ركعتين قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليين- انتهى. وروى الديلمي في مسند الفردوس عن ابن عباس مرفوعا: من صلى أربع
وروى البيهقي الزيادة عنه نحوها في شعب الإيمان.
1193- (28) وعن عمر بن عطاء قال: ((إن نافع بن جبير أرسله إلى السائب يسأله عن شيء رآه
منه معاوية في الصلاة. فقال: نعم، صليت معه الجمعة في المقصورة، فلما سلم الإمام قمت
في مقامي، فصليت، فلما دخل أرسل إلي،

(7/306)


ركعات بعد المغرب قبل أن يتكلم رفعت له في عليين، وكان كمن أدرك ليلة القدر في المسجد الأقصى، وهي خير من قيام نصف الليلة. قال العراقي: وفي إسناده جهالة ونكارة، وهو أيضا من رواية عبدالله بن أبي سعيد، فإن كان الذي يروي الحسن ويروي عنه يزيد بن هارون فقد جهله أبوحاتم، وذكره ابن حبان في الثقات، وإن كان أبا سعيد المقبري فهو ضعيف، قاله الشوكاني. (وروى البيهقي الزيادة) أي المذكورة. (عنه) أي حذيفة. (نحوها) بدل أي روى نحو زيادة رزين عنه. (في شعب الإيمان) فتتقوى بذلك رواية رزين، قاله ابن حجر. قلت: وقد تقدم أنه روى الحديثين محمد بن نصر، وقال: حديث حذيفة غير ثابت، وسكت عن مرسل مكحول.

(7/307)


1193- قوله: (وعن عمر) بضم العين. (بن عطاء) بن أبي الخوار بضم المعجمة وتخفيف الواو المكي مولى بنى عامر تابعي ثقة. ووقع في النسخ الحاضرة عندنا عمرو أي بفتح أوله، وهو غلط. (أن نافع بن جبير) بضم الجيم مصغرا ابن مطعم النوفلي المدني أبومحمد، ويقال أبوعبدالله ثقة فاضل من الطبقة الوسطى من التابعين، مات سنة تسع وتسعين. (أرسله) أي عمر بن عطاء. (إلى السائب) بن يزيد ابن أخت نمر الصحابي رضي الله عنه. (يسأله) أي يسأل عمر بن عطاء السائب. ( عن أي شيء رآه) أي ذلك الشيء. (منه) أي من السائب. (فقال) أي السائب. (نعم) قال الطيبي: "نعم" حرف إيجاب وتقرير لما سأله نافع من قوله: هل رآى منك معاوية شيئا في الصلاة فأنكر عليك، والمذكور معناه (صليت معه) أي مع معاوية. (الجمعة في المقصورة) أي في مقصورة المسجد. قال القاري: موضع معين في الجامع مقصور للسلاطين. قال النووي: فيه دليل على جواز اتخاذها في المسجد إذا رآها ولي الأمر مصلحة، قالوا: وأول من عملها معاوية بن أبي سفيان حين ضربه الخارجي. قال القاضي: واختلفوا في المقصورة، فأجازها كثيرون من السلف وصلوا فيها، منهم الحسن والقاسم بن محمد وسالم وغيرهم، وكرهها ابن عمرو الشعبي وإسحاق وأحمد، وكان ابن عمر إذا حضرت الصلاة، وهو في المقصورة خرج منها إلى المسجد. قال القاضي: وقيل إنما يصح فيها الجمعة إذا كانت مباحة لكل أحد، فإن كانت مخصوصة ببعض الناس ممنوعة عن غيرهم لم تصح فيها الجمعة لخروجها عن الحكم الجامع. (فلما سلم الإمام) أي خرج عن صلاة الجمعة بالسلام. (قمت في مقامي) أي الذي صليت فيه الجمعة. (فصليت) فيه سنة الجمعة. (فلما دخل) أي معاوية بيته. (أرسل إلي) رجلا
فقال: لا تعد لما فعلت، إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تكلم أو تخرج، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بذلك أن لا نوصل بصلاة حتى نتكلم أو نخرج)). رواه مسلم.

(7/308)


1194- (29) وعن عطاء، قال: ((كان ابن عمر إذا صلى الجمعة بمكة تقدم فصلى ركعتين، ثم يتقدم فيصلي أربعا. وإذا كان في المدينة صلى الجمعة، ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين، ولم يصل في المسجد. فقيل له، فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله)).
يدعوني فحضرته (فقال لا تعد) من العود. (لما فعلت) من إتيان السنة في مكان فعل الجمعة بلا فصل، أي لا تفعل ذلك مرة أخرى بل. (إذا صليت الجمعة) وفرغت منها. ذكر الجمعة على سبيل المثال، وإلا فالحكم غيرها من الصلاة كذلك كما تقدم. (فلا تصلها) بفتح فكسر وسكون اللام من الوصل أي لا توصلها. (بصلاة) أخرى نافلة أو قضاء. (حتى تكلم) بحذف إحدى التائين أي تتكلم. (أو تخرج) أي من المقام الذي صليت فيه الجمعة. قال القاري: تخرج أي حقيقة أو حكما بأن تتأخر عن ذلك المكان. (أمرنا بذلك) أي بما تقدم وبيانه. (أن لا نوصل بصلاة) كذا في جميع النسخ الحاضرة. ووقع في صحيح مسلم: أن لا نوصل صلاة بصلاة. وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص30) عن مسلم. وفي أبي داود: أن لا توصل صلاة بصلاة. (حتى نتكلم أو نخرج) فيه دليل على أن النافلة الراتبة وغيرها يستحب أن يتحول لها عن موضع الفريضة إلى موضع آخر، وأفضله التحول إلى بيته، وإلا فموضع آخر من المسجد أو غيره ليكثر مواضع سجوده، ولتنفصل صورة النافلة عن صورة الفريضة. وقوله: "حتى نتكلم" دليل على أن الفصل بينهما يحصل بالكلام أيضا، ولكن بالانتقال أفضل لما ذكر، قاله النووي. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أبوداود والبيهقي (ج2 ص191، ج3ص240).

(7/309)


1194- قوله: (عن عطاء) أي ابن أبي رباح. (كان ابن عمر إذا صلى الجمعة بمكة تقدم) أي من مكان صلى فيه، فيكون هذا التقدم بمنزلة الخروج المذكور في حديث معاوية المتقدم. (ثم يتقدم) أي من المكان الذي صلى فيه ركعتي السنة. (فيصلي أربعا) كذا في جميع النسخ الحاضرة، ثم يتقدم فيصلي، أي بلفظ المضارع، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص29). وفي سنن أبي داود: ثم تقدم فصلى أي بلفظ الماضي. وفعل ابن عمر هذا يؤيد قول أبي يوسف: أن سنة الجمعة ست، لكنه يقول إن تقديم الأربع أولى. (فصلى ركعتين) أي في بيته. (ولم يصل في المسجد) هذا تصريح بما علم ضمنا. (فقيل له) أي سئل عن سبب ذلك. (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله) يعني وأنا أفعله تبعا له. وظاهر هذا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يفرق بين الحرمين، فإذا كان بمكة صلى في المسجد بعد الجمعة ست ركعات، وإذا كان بالمدينة رجع بعد الجمعة إلى بيته ثم صلى فيه ركعتين،
رواه أبوداود. وفي روية الترمذي، قال: رأيت ابن عمر صلى بعد الجمعة ركعتين، ثم صلى بعد ذلك أربعا.
(31) باب صلاة الليل
?الفصل الأول?
1195- (1) عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر

(7/310)


ولم يصل في المسجد، لكن قال العراقي: ليس في ذلك، أي في حديث ابن عمر هذا علم ولا ظن أنه - صلى الله عليه وسلم -كان يفعل بمكة ذلك، وإنما أراد ابن عمر رفع فعله بالمدينة فحسب، لأنه لم يصح أنه صلى الجمعة بمكة، قال: والذي صح من فعله هو صلاة ركعتين في بيته بعد الجمعة. قلت: لا شك أن الست لم تثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - بحديث صحيح صريح، نعم ثبتت عن ابن عمر من فعله، وروي عن علي أنه أمر بها. قال الشوكاني: اختلف هل الأفضل فعل سنة الجمعة في البيت أو في المسجد؟ فذهب إلى الأول الشافعي ومالك وأحمد وغيرهم، واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: أفضل صلاة المرء في بيته إلا مكتوبة. وأما صلاة ابن عمر في مسجد مكة فقيل لعله كان يريد التأخر في مسجد مكة للطواف بالبيت، فيكره أن يفوته بمضيه إلى منزله لصلاة سنة الجمعة، أو أنه يشق عليه الذهاب إلى منزله ثم الرجوع إلى المسجد للطواف، أو أنه كان يرى النوافل تضاعف بمسجد مكة دون بقية مكة، أو كان له أمر متعلق به- انتهى. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا البيهقي (ج3 ص240- 241) وسكت عنه أبوداود والمنذري. وقال العراقي: إسناده صحيح. (وفي رواية الترمذي) المختصرة. (قال) أي عطاء بن أبي رباح. (ثم صلى بعد ذلك) أي بعدما ذكر من الركعتين. (أربع) أي صلى ست ركعات. وأخرج أبوداود هذه الرواية المختصرة بلفظ: أي عطاء رأى ابن عمر يصلي بعد الجمعة فينماز عن مصلاه الذي صلى فيه الجمعة قليلا غير كثير قال: فيركع ركعتين، قال: ثم يمشي أنفس من ذلك فيركع أربع ركعات. قلت: لعطاء كم رأيت ابن عمر يصنع ذلك؟ قال مرارا- انتهى. وأخرجه أيضا الطحاوي، هذا ولم يذكر البغوي ولا المصنف حديثا ولا أثرا في التطوع والسنة قيل الجمعة. وسيأتي الكلام عليه في شرح حديث سلمان وأبي هريرة من باب التنظيف والتبكير من أبواب الجمعة.

(7/311)


(باب صلاة الليل) قال القاري: أي في قيام الليل من التهجد وغيره- انتهى. واعلم أن صلاة الليل وقيام الليل وصلاة التهجد عبارة عن شيء واحد، واسم لصلاة يبتدأ وقتها من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، فلا فرق بين الألفاظ الثلاثة شرعا. وقيل: صلاة التهجد مختصة بما يكون في آخر الليل بعد النوم. والظاهر هو الأول قال ابن الفارس: المتهجد المصلي ليلا. وقال كراع: التهجد صلاة الليل خاصة.
1195- قوله: (يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر) هذا بظاهره يشمل ما إذا كان بعد
إحدى عشرة ركعة، يسلم من ركعتين، ويوتر بواحدة، فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر،

(7/312)


نوم أم لا. (إحدى عشرة ركعة) أي في غالب أحواله. وقال السندي في حاشية ابن ماجه: قوله إحدى عشرة ركعة وقد جاء ثلاث عشرة ركعة. فيحمل على أن هذا كان أحيانا، أو لعله مبني على عد الركعتين الخفيفتين اللتين يبدأ بهما صلاة الليل من صلاة الليل أحيانا، وتركه أخرى. وعلى كل تقدير فهذه الهيئة لصلاة الليل لا بد من حملها على أنها كانت أحيانا، وإلا فقد جاءت هيئات أخرى في قيام الليل-انتهى. (يسلم من كل ركعتين) فيه أن الأفضل في صلاة الليل أن يسلم من كل ثنتين، ويدل عليه أيضا قوله: صلاة الليل مثنى مثنى. (ويوتر بواحدة) فيه أن أقل الوتر ركعة وأن الركعة الفردة صلاة صحيحة، وهو مذهب الأئمة الثلاثة، وهو الحق. وقال أبوحنيفة: لا يصح الإيتار بواحدة ولا تكون الركعة الواحدة صلاة قط. قال النووي: والأحاديث الصحيحة ترد عليه. قال الحافظ: حمل الطحاوي هذا ومثله على أن الركعة مضمومة إلى الركعتين قبلها، ولم يتمسك في دعوى ذلك إلا بالنهي عن البتيراء، مع احتمال أن يكون المراد بالبتيراء أن يوتر بواحدة فردة ليس قبلها شيء، وهو أعم من أن يكون مع الوصل أو الفصل- انتهى. قلت: حديث النهي عن البتيراء أخرجه ابن عبدالبر في التمهيد، وفيه عثمان بن محمد بن ربيعة، وهو متكلم فيه. قال ابن القطان: الغالب على حديثه الوهم، مع أن قول عائشة: يسلم من كل ركعتين، ظاهر في الفصل فإنه يدخل في الركعتان اللتان قبل الأخيرة، فهو كالنص في موضع النزاع. (فيسجد سجدة من ذلك) الفاء لتفصيل المجمل يعني فيسجد كل واحدة من سجدات تلك الركعات طويلة. (قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية) وفي رواية للبخاري: كان يصلي إحدى عشرة ركعة كانت تلك صلاته تعني بالليل، فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ الخ. وهي ظاهرة في أن المراد بيان طول سجود ركعات صلاة الليل، لا قدر سجدة منفردة بعد الوتر، كما فهم النسائي وغيره. وفي رواية أخرى للبخاري: يسجد السجدة من ذلك أي بغير الفاء. قال

(7/313)


القسطلاني: الألف واللام لتعريف الجنس. فيشمل سجود لإحدى عشرة، والتاء فيه لا تنافي ذلك. والتقدير يسجد سجدات تلك الركعات طويلة قدر ما، أي بقدر ما، ويصح جعله صفا لمصدر محذوف، أي سجودا قدر ما، أو يمكث مكثا قدر ما. (قبل أن يرفع رأسه) من السجدة أي قبل إتمام السجود، وكان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، كما تقدم في باب الركوع من حديث عائشة، وعنها كان - صلى الله عليه وسلم - يقول في صلاة الليل في سجوده: سبحانك لا إله إلا أنت. رواه أحمد في مسنده بإسناد رجاله ثقات. والحديث فيه دليل على استحباب تطويل السجود في قيام الليل، وقد بوب عليه البخاري باب طول السجود في قيام الليل. (فإذا سكت) بالتاء الفوقية. (المؤذن) أي فرغ. (من صلاة الفجر) أي من أذانها. (وتبين له الفجر) أي ظهر وانتشر. قال الطيبي: يدل على أن التبين لم يكن
قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة، فيخرج.
متفق عليه.
1196- (2) وعنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى ركعتى الفجر، فإن كنت مستيقظة حدثني

(7/314)


في الأذان، وإلا لما كان لذكر التبين فائدة. (قام فركع ركعتين) هما سنة الفجر. (خفيفتين) يقرأ فيهما الكافرون والإخلاص ونحوهما. (ثم اضطجع) أي في بيته للاستراحة عن تعب قيام الليل ليصلي فرضه على نشاط، أو ليفصل بين الفرض والنفل بالضجعة. واستدل به على استحباب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر في البيت دون المسجد. قال الحافظ: ذهب بعض السلف إلى استحبابها أي الضجعة في البيت دون المسجد، وهو محكي عن ابن عمر، وقواه بعض شيوخنا بأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله في المسجد، وصح عن ابن عمر أنه كان يحصب من يفعله في المسجد. أخرجه ابن أبي شيبة- انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: حديث أبي هريرة يعني الذي يأتي في آخر الفصل الثاني بلفظ: إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه مطلق، فبإطلاقه يثبت استحباب الاضطجاع في البيت وفي المسجد، فحيث يصلي سنة الفجر يضطجع هناك، إن صلى في البيت فيضطجع في البيت، وإن صلى في المسجد ففي المسجد، وإنما لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله في المسجد، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي سنة الفجر في البيت فكان يضطجع في البيت- انتهى. (على شقه) أي جنبه (الأيمن) جريا على عادته الشريفة في حبه التيامن في شأنه كله أو للتشريع، لأن النوم على الأيسر يستلزم استغراق النوم في غيره عليه السلام بخلافه هو، لأن عينه تنام ولا ينام قلبه، فعلى الأيمن أسرع للإنتباه بالنسبة لنا، وهو نوم الصالحين. قال القسطلاني: لا يقال حكمته أن لا يستغرق في النوم، لأن القلب في اليسار، ففي النوم عليه راحة له فيستغرق فيه، لأنا نقول: صح أنه عليه الصلاة والسلام كان تنام عينه ولا ينام قلبه، نعم يجوز أن يكون فعله لإرشاد أمته وتعليمهم. (حتى يأتي المؤذن للإقامة) أي يستأذنه فيها لأنها منوطة بنظر الإمام. (فيخرج) أي للصلاة. (متفق عليه) واللفظ لمسلم إلا قوله: فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ

(7/315)


أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، فإن البخاري إنفرد به، وإلا قوله: يسلم من كل ركعتين، فإن لفظ مسلم يسلم بين كل ركعتين، وإلا قوله: فيخرج فإنه ليس في صحيح مسلم بل ولا في البخاري أيضا، وبهذا تعلم أن السياق الذي ذكره المصنف تبعا للبغوي ليس للبخاري ولا لمسلم، ثم رأيت المرقاة قال فيه متفق عليه أي بمجموع الحديث وإن لم يكن بهذا السياق في حديث واحد، كذا نقله ميرك عن التصحيح والحديث أخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص7، 32).
1196- قوله: (إذا صلى ركعتي الفجر) أي سنته. (فإن كنت مستيقظة حدثني) قال الطيبي: الشرط مع الجزاء جزاء الشرط الأول، ويجوز أن يكون جزاء الشرط الأول محذوفا، والفاء تفصيلية، والمعنى إذا
وإلا اضطجع)). رواه مسلم.

(7/316)


صلاهما أتاني، فإن كنت مستيقظة حدثني ولا تضاد بين هذا وبين ما في سنن أبي داود من طريق مالك عن سالم بن أبي النضر عن أبي سلمة عن عائشة أن كلامه عليه الصلاة والسلام لها كان بعد فراغه من صلاة الليل، وقبل أن يصلي ركعتي الفجر، لاحتمال أن يكون كلامه لها كان قبل ركعتي الفجر وبعدهما. (وإلا) أي وإن لم أكن مستيقظة. (اضطجع) للراحة من تعب القيام أو ليفصل بين الفرض والنفل بالحديث أو الاضطجاع. وظاهره أنه كان يضطجع إذا لم يحدثها، وإذا حدثها لم يضطجع، وإلى هذا جنح البخاري، كما سيأتي. وكذا جنح إليه ابن خزيمة حيث ترجم له الرخصة في ترك الاضطجاع بعد ركعتي الفجر. واستدل به بعضهم على عدم استحباب الضجعة بعد ركعتي الفجر. وأجيب بأنه لا يلزم من كونه ربما تركها عدم الاستحباب، بل يدل تركه لها أحيانا على عدم الوجوب، وأن الأمر بها في حديث أبي هريرة المذكور محمول على الندب والإرشاد، وقد بوب البخاري على حديث عائشة هذا الباب: من تحدث بعد ركعتي الفجر ولم يضطجع. قال الحافظ: أشار بهذه الترجمة إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يداوم عليها. وبذلك احتج الأئمة على عدم الوجوب، وحملوا الأمر الوارد بذلك في حديث أبي هريرة على الاستحباب. وفائدة ذلك الراحة والنشاط لصلاة الصبح. وعلى هذا فلا يستحب ذلك إلا للمتهجد. وبه جزم ابن العربي. وقيل: إن فائدتها الفصل بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح. وعلى هذا فلا اختصاص- انتهى. ويدل على عدم الاختصاص حديث أبي هريرة، فإنه مطلق يشمل المتهجد وغيره. فالحق أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر مشروع ومستحب مطلقا. وسيأتي مزيد بحث فيه في شرح حديث أبي هريرة. قال النووي: وفيه أي في تحديثه - صلى الله عليه وسلم - لعائشة بعد ركعتي الفجر دليل على إباحة الكلام بعد سنة الفجر وهو مذهبنا ومذهب مالك والجمهور. وقال القاضي: وكره الكوفيون. وروى عن ابن مسعود وبعض السلف: إنه وقت الاستغفار، والصواب الإباحة لفعل

(7/317)


النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكونه وقت استحباب الاستغفار لا يمنع من الكلام- انتهى. وقال القسطلاني: وفيه أنه لا بأس بالكلام المباح بعد ركعتي الفجر. قال ابن العربي: ليس في السكوت في ذلك الوقت فضل مأثور، إنما ذلك بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس-انتهى. قلت: أثر ابن مسعود رواه الطبراني في الكبير عن عطاء عنه، وكذا روي عن أبي عبيدة عنه، هو منقطع، لأن عطاء وأبا عبيدة لم يسمعا من ابن مسعود، وإن صح فيحمل على أن القوم المتحدثين الذين أنكر عليهم ابن مسعود لعلهم كانوا يتكلمون بما لا يجدي نفعا، فنهاهم عن ذلك. والسكوت عن مثل هذا ليس بمختص بهذا الوقت، وإن لم يحتمل على هذا فالتحديث بالكلام المباح ثابت من الشارع. وكلام الصحابي لا يوازن كلام الشارع. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والبيهقي (ج3 ص45) والبخاري ولفظه عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى. وفي رواية: كان يصلي ركعتين، فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع حتى يؤذن بالصلاة- انتهى. فكان ينبغي للمصنف أن يقول: متفق عليه، واللفظ لمسلم.
1197- (3) وعنها قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن)) متفق عليه.

(7/318)


1197- قوله: (إذا صلى ركعتي الفجر) أي سنته. (اضطجع) أي حتى يأتيه المؤذن فإذا أتي خرج إلى الصلاة. (على شقه الأيمن) لأنه كان يحب التيامن في شأنه كله أو تشريع لنا، لأن القلب في جهة اليسار، فلو اضطجع عليه لاستغراق نوما لكونه أبلغ في الراحة بخلاف اليمين فيكون معلقا فلا يستغرق. وهذا بخلافه - صلى الله عليه وسلم - : لأن عينه تنام ولا ينام قلبه. وفيه كالحديثين المتقدمين دليل على استحباب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر. وقد ورد فيه أحاديث أخرى: قال ابن حجر: ومن هذه الأحاديث أخذ الشافعي أنه يندب لكل أحد المتهجد وغيره أن يفصل بين سنة الصبح وفرضه بضجعة على شقه الأيمن، ولا يترك الاضطجاع ما أمكنه، بل في حديث صحيح على شرطهما أنه عليه السلام أمر بذلك وأن المشي إلى المسجد لا يجزىء عنه- انتهى. ويشير بذلك إلى ما روى أبوداود عن أبي هريرة مرفوعا: إذا صلى أحدكم الركعتين قبل الصبح فليضطجع على يمينه، فقال له مروان بن الحكم: أما يجزي أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى يضطجع على يمينه؟ قال: لا- انتهى. ولذلك استحب البغوي في شرح السنة الاضطجاع بخصوصه، واختاره في شرح المهذب. قال الحافظ: وأما إنكار ابن مسعود الاضطجاع، وقول إبراهيم النخعي: هي ضجعة الشيطان، كما أخرجه ابن أبي شيبة، فهو محمول على أنه لم يبلغهما الأمر بفعله. وكلام ابن مسعود يدل على أنه إنما أنكر تحتمه، فإنه قال في آخر كلامه إذا سلم فقد فصل. وكذا ما حكي عن ابن عمر أنه بدعة، فإنه شذ بذلك حتى روى عنه أنه أمر بحصيب من اضطجع. وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن أنه كان لا يعجبه الاضطجاع. وأرجح الأقوال مشروعيته للفصل لكنه بعينه- انتهى. وقال السندي: قد جاء الأمر بهذا الاضطجاع فهو أحسن وأولى. وما ورد من إنكاره عن بعض الفقهاء لا وجه له أصلا، ولعلهم ما بلغهم الحديث، وإلا فما وجه إنكارهم- انتهى. (متفق عليه) لم أجد هذا الحديث بهذا السياق في صحيح مسلم. وقد أخرجه أيضا أحمد

(7/319)


وابن ماجه والبيهقي. واعلم أنه اختلفت أحاديث عائشة في ذكر محل الاضطجاع ففي أحاديثها الثلاثة المتقدمة أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر. وروى مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة الاضطجاع قبلهما. وكذا في حديث ابن عباس الآتي الاضطجاع بعد صلاة الليل، وقبل ركعتي الفجر. وقد أشار القاضي عياض وغيره إلى أن رواية الاضطجاع بعدهما مرجوحة، فتقدم رواية الاضطجاع قبلهما. قال الشوكاني: لا نسلم أرجحية رواية الاضطجاع بعد صلاة الليل، وقبل ركعتي الفجر على رواية الاضطجاع بعدهما، بل رواية الاضطجاع بعدهما أرجح. والحديث من رواية عروة عن عائشة. ورواه عن عروة محمد بن عبدالرحمن يتيم عروة والزهري، ففي رواية محمد بن عبدالرحمن إثبات الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، وهي في صحيح البخاري، ولم تختلف الرواية عنه في ذلك، واختلف الرواة عن الزهري، فقال مالك في أكثر الروايات عنه: إنه كان إذا فرغ من صلاة
1198- (4) وعنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، منها الوتر، وركعتا الفجر)). رواه مسلم.
1199- (5) وعن مسروق، قال:

(7/320)


الليل اضطجع على شقه الأيمن- الحديث، ولم يذكر الاضطجاع بعد ركعتي الفجر. وقال معمر ويونس وعمرو بن الحارث والأوزاعي وابن أبي ذئب وشعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن عروة عن عائشة: كان إذا طلع الفجر صلى ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن. وهذه الرواية اتفق عليها الشيخان، فرواها البخاري من رواية معمر، ومسلم من رواية يونس بن يزيد وعمرو بن الحارث. قال البيهقي (ج3 ص44) عقب ذكرهما : والعدد أولى بالحفظ من الواحد، قال وقد يحتمل أن يكونا محفوظين، فنقل مالك أحدهما ونقل الباقون الآخر، قال وقد اختلف فيه أيضا على ابن عباس، قال: وقد يحتمل مثل ما احتمل في رواية مالك. وقال النووي: إن حديث عائشة وحديث ابن عباس لا يخالفان حديث أبي هريرة، فإنه لا يلزم من الاضطجاع قبلهما أن لا يضطجع بعدهما، ولعله - صلى الله عليه وسلم - ترك الاضطجاع بعدهما في بعض الأوقات بيانا للجواز، ويحتمل أن يكون المراد بالاضطجاع قبلهما نومه - صلى الله عليه وسلم - بين صلاة الليل وصلاة الفجر، كما ذكره الحافظ- انتهى كلام الشوكاني.

(7/321)


1198- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل) أي في الليل. (ثلاث عشرة) بالبناء على الفتح وسكون شين عشرة، كما أجازه الفراء. (ركعة) يسلم من كل ركعتين، كما تقدم. (منها) أي من ثلاث عشرة. (الوتر) أي ركعة. (وركعتا الفجر) أي سنته وهذا لفظ البخاري من طريق حنظلة عن القاسم بن محمد عن عائشة. وفي رواية مسلم من هذا الوجه: كانت صلاته من الليل عشر ركعات، ويوتر بسجدة، ويركع ركعتي الفجر، فتلك ثلاث عشرة. وهذا كان غالب عادته- صلى الله عليه وسلم - ، فقد روى البخاري من رواية أبي سلمة عنها ما يدل على أن ذلك كان أكثر ما يصليه في الليل. ولفظه: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة- الحديث قال ابن الملك: وإنما ألحق الوتر ركعتي الفجر بالتهجد، لأن الظاهر أنه عليه السلام كان يصلي الوتر آخر الليل ويبقى مستيقظا إلى الفجر، ويصلي الركعتين أي سنة الفجر متصلا بتهجده ووتره. (رواه مسلم) قلت: بل متفق عليه، واللفظ للبخاري. ففي قوله: رواه مسلم، نظر ظاهر. وأخرجه أيضا البيهقي (ج3 ص6، 7).
1199- قوله: (عن مسروق) هو ابن الأجدع بن مالك الهمداني الوداعي أبوعائشة الكوفي، ثقة فقيه عابد مخضرم من كبار التابعين. قال الشعبي: ما رأيت أطلب للعلم منه، وكان أعلم بالفتوى من شريح، وكان شريح يستشيره، وكان مسروق لا يحتاج إلى شريح. وقال علي بن المديني: ما أقدم على مسروق من أصحاب عبدالله أحدا، صلى خلف أبي بكر، ولقي عمر وعليا، ولم يرو عن عثمان شيئا، مات بالكوفة سنة
سألت عائشة عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالليل، فقالت: سبع، وتسع، وإحدى عشرة ركعة،
سوى ركعتي الفجر)).

(7/322)


ثلاث وستين، وله ثلاث وستون سنة. قال السمعاني: سمي مسروقا، لأنه سرق إنسان في صغره. ثم وجد، وغير عمر اسم أبيه إلى عبدالرحمن. فأثبت في الديوان مسروق بن عبدالرحمن مكان أجدع. وقال في تهذيب التهذيب (ج10 ص110): قال مجالد عن الشعبي عن مسروق قال لي عمر: ما اسمك؟ قلت: مسروق بن الأجدع قال: الأجدع شيطان أنت مسروق بن عبدالرحمن- انتهى. (سألت عائشة عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي عن عدد صلاته. (فقالت) تارة. (سبع و) تارة. (تسع و) أخرى. (إحدى عشرة) أي كل مع الوتر. ووقع ذلك منه في أوقات مختلفة بحسب اتساع الوقت وضيقه أو عذر من مرض أو غيره أو كبر سنه. وفي النسائي عنها: أنه كان يصلي من الليل تسعا، فلما أسن صلى سبعا. قال الحافظ: أما ما أجابت به عائشة مسروقا فمرادها أن ذلك وقع منه في أوقات مختلفة، فتارة كان يصلي سبعا وتارة تسعا وتارة إحدى عشرة. وأما حديث القاسم عنها فمحمول على أن ذلك كان غالب حاله- انتهى. (ركعة) كذا وقع في جميع النسخ، وكذا وقع في جامع الأصول (ج6 ص63) تمييز لإحدى عشرة. وفي البخاري: إحدى عشرة أي بدون لفظ ركعة. (سوى ركعتي الفجر) فالمجموع ثلاث عشرة ركعة. وأما ما رواه الزهري عن عروة عنها عند البخاري في باب ما يقرأ في ركعتي الفجر بلفظ: كان يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلي إذا سمع النداء للصبح ركعتين خفيفتين الخ. وظاهره يخالف ما ذكر، فأجيب باحتمال أن يكون أضافت إلى صلاة الليل سنة العشاء لكونه كان يصليها في بيته، أو ما كان يفتتح به صلاة الليل، كما سيأتي. قال الحافظ: وهذا أرجح في نظري، لأن رواية أبي سلمة التي دلت على الحصر في إحدى عشرة جاء في صفتها عند البخاري وغيره: يصلي أربعا ثم يصلي أربعا ثم يصلي ثلاثا، فدل على أنها لم تعرض للركعتين الخفيفتين، وتعرضت لهما في رواية الزهري، والزيادة من الحافظ مقبولة، وسيأتي في باب الوتر حديث عبدالله بن أبي قيس عن عائشة بلفظ:

(7/323)


كان يوتر بأربع وثلاث، وست وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأنقص من سبع ولا بأكثر من ثلاث عشرة. قال الحافظ: وهذا أصح ما وقفت عليه من ذلك، وبه يجتمع بين ما اختلف عن عائشة من ذلك، والله أعلم. قال القرطبي: أشكلت روايات عائشة على كثير من أهل العلم حتى نسب بعضهم حديثها إلى الاضطراب، وهذا إنما يتم لو كان الراوي عنها واحدا أو أخبرت عن وقت واحد. والصواب أن كل شيء ذكرته من ذلك محمول على أوقات متعددة وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز- انتهى. وقال النووي: نقلا عن القاضي عياض بعد ذكر رواياتها المختلفة في ذلك يحتمل أن إخبارها بإحدى عشرة هو الأغلب،
رواه البخاري.
1200- (6) وعن عائشة، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل ليصلي افتتح صلاته بركعتين
خفيفتين)). رواه مسلم.

(7/324)


وباقي رواياتها إخبار عنها بما كان يقع نادرا في بعض الأوقات، فأكثر خمس عشرة بركعتي الفجر، وأقله سبع، وذلك بحسب ما كان يحصل من اتساع الوقت أو ضيقه بطول قرأة أو لنوم أو عذر مرض وغيره، أو في بعض الأوقات عند كبر السن كما قالت: فلما أسن صلى سبع ركعات، أو تارة تعد الركعتين الخفيفتين في أول قيام الليل وتعد ركعتي الفجر تارة وتحذفهما تارة، أو تعد أحدهما، وقد تكون عدت راتبة العشاء مع ذلك تارة، وحذفتها تارة. قال القاضي: ولا خلاف أنه ليس لذلك حد لا يزاد عليه ولا ينقص منه، وأن صلاة الليل من الطاعات التي كلما زاد فيها زاد الأجر، وإنما الخلاف في فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما اختاره لنفسه- انتهى. وقال الباجي بعد ذكر رواية عائشة أنه كان يصلي ثلاث عشرة ركعة غير ركعتي الفجر، وروايتها أنه كان لا يزيد على إحدى عشرة ركعة ما لفظه: ورواية عائشة في ذلك تحتمل وجهين: أحدهما أنه كان - صلى الله عليه وسلم - تختلف صلاته بالليل، لأنه لا حد صلاة الليل، فمرة كانت تخبر بما شاهدت منه في وقت ما، ومرة تخبر بما شاهدت منه - صلى الله عليه وسلم - في غيره، وإنما قالت: إنه - صلى الله عليه وسلم - لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة، تريد صلاته المعتادة الغالبة وإن كان ربما يزيد في بعض الأوقات على ذلك، فقصدت في تلك الرواية الإخبار عن غالب صلاته - صلى الله عليه وسلم -، وذكرت في هذه الرواية أكثر ما كان تنتهي إليه صلاته - صلى الله عليه وسلم - في الأغلب. والوجه الثاني أن تكون رضي الله عنها تقصد في بعض الأوقات الإخبار عن جميع صلاته في ليلة، وتقصد في وقت ثان إلى ذكر نوع من صلاته في الليل. وجميع صلاته النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل في رواية عائشة خمس عشرة مع الركعتين الخفيفتين وركعتي الفجر، فعائشة كانت تخبر بالأمر على وجوه شتى، ولعله أن يكون ذلك على قدر أسباب السؤال- انتهى. (رواه البخاري) في باب كيف كان

(7/325)


صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - من أبواب التهجد.
1200- قوله: (إذا قام من الليل ليصلي) أي التهجد. (افتتح صلاته بركعتين خفيفتين) قال الطيبي: ليحصل بهما نشاط الصلاة ويعتاد بهما، ثم يزيد عليهما بعد ذلك- انتهى. وفي حديث أبي هريرة الآتي الأمر بذلك. وهذا دليل على استحباب افتتاح صلاة الليل بركعتين خفيفتين لينشط بهما لما بعدهما. والظاهر أن الركعتين من جملة التهجد، وقد تقدم أن هاتين الركعتين هما اللتان إذا ضمتهما عائشة قالت في حكايتها لصلاته - صلى الله عليه وسلم - بالليل: إنها ثلاث عشرة، وإذا لم تضمهما قالت إحدى عشرة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والبيهقي (ج3ص5، 6).
1201- (7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قام أحدكم من الليل، فليفتتح الصلاة بركعتين خفيفتين)). رواه مسلم.
1202- (8) وعن ابن عباس، قال: ((بت عند خالتي ميمونة ليلة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - عندها، فتحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أهله ساعة، ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر أو بعضه قعد، فنظر إلى السماء فقرأ: ?إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار
1201- قوله: (فليفتتح) من الافتتاح أي فليبدأ. وفي بعض النسخ: فليفتح أي من الفتح. والأول هو الصواب، لأنه موافق لما في المصابيح وصحيح مسلم، وكذا نقله المجد ابن تيمية في المنتقى، والجزري في جامع الأصول (ج7 ص72) وكذا وقع عند البيهقي (ج3 ص6). (الصلاة) كذا وقع في جميع النسخ، وهكذا نقله الجزري. وفي المصابيح وصحيح مسلم والمنتقى صلاته أي بالإضافة إلى الضمير. (بركعتين خفيفتين) زاد أبوداود في رواية: ثم ليطول بعد ما شاء. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والبيهقي (ج3 ص6).

(7/326)


1202- قوله: (بت) بكسر الباء وتشديد التاء على صيغة المتكلم من البيتوتة. (عند خالتي ميمونة) بنت الحارث أم المؤمنين زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -. (والنبي - صلى الله عليه وسلم - عندها) أي في نوبتها. (فتحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أهله ساعة) فيه جواز الكلام المباح مصلحة بعد العشاء، وإذا جاز في المباح ففي المستحب كالموعظة والعلم من طريق الأولى. (ثم رقد) أي نام. وفي رواية: فاضطجعت في عرض الوسادة أي المخدة أو الفراش، واضطجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهله في طولها. (فلما كان) أي بقي فكان تامة. (ثلث الليل الآخر) بالرفع على أنه صفة ثلاث أي جميعه. (أو بعضه) أي بعض الثلث أي أقل منه. (قعد) أي فمسح النوم عن وجهه بيده. وفي رواية: فنام حتى انتصف الليل أو قريبا منه، فاستيقظ وهذه الرواية، كما ترى، مخالفة لرواية الكتاب. قال الحافظ: يجمع بينهما بأن الاستيقاظ وقع مرتين: ففي الأولى نظر إلى السماء، ثم تلا الآيات، ثم عاد لمضجعه فنام. وفي الثانية أعاد ذلك ثم توضأ وصلى، وقد بين ذلك محمد بن الوليد عن كريب عن ابن عباس عند محمد بن نصر. وفي رواية في الصحيحين: فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الليل، فأتى حاجته ثم غسل وجهه ويديه، ثم نام ثم قام فأتى قربة- الحديث. وفي رواية لمسلم: ثم قام قومه أخرى. (فنظر إلى السماء) يتفكر في عجائب الملكوت. (فقرأ إن في خلق السماوات والأرض) أي في خلقتهما من ارتفاع السماوات واتساعها وانخفاض الأرض وكثافتها واتضاعها، أو في الخلق الكائن فيهما من الكواكب المختلفة وغيرها في السماوات والبحار والجبال والقفار والأشجار والأنهار والزروع
لآيات لأولي الألباب?. حتى ختم السورة، ثم قام إلى القربة فأطلق شناقها، ثم صب في الجفنة، ثم توضأ وضوء حسنا بين الوضوئين، لم يكثر وقد أبلغ، فقام فصلى، فقمت وتوضأت،

(7/327)


والثمار والحيوان والمعادن وغيرها من العجائب في الأرض. (واختلاف الليل والنهار) أي في تعاقبهما، أو طولا وقصرا أو ظلمة ونورا وحرا وبردا (لآيات لأولى الألباب) أي دلالات واضحات على وجود الصانع ووحدته وعلمه وكمال قدرته لذوي العقول الخالصة الصافية، الذين يفتحون بصائرهم للنظر والاستدلال والاعتبار، لا ينظرون إليها نظر البهائم، غافلين عما فيها من عجائب مخلوقاته وغرائب مبدعاته، وقد ورد ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها. رواه ابن مردويه وابن حبان في صحيحه. (حتى ختم السورة) فإن فيها لطائف عظيمة وعوارف جسيمة لمن تأمل في مبانيها وظهر له بعض معانيها. قال الباجي: يحتمل أن يفعل ذلك ليبتدئ يقظته بذكر الله كما ختمها بذكره عند نومه، ويحتمل أنه فعل ذلك ليتذكر ما ندب إليه من العبادة، وما وعد على ذلك من الثواب، فإن هذه الآية جامعة لكثير من ذلك، فيكون ذلك تنشيطا له على العبادة- انتهى. (ثم قام) أي قصد. (إلى القربة) بكسر القاف وسكون الراء وفي رواية: إلى شن معلق بفتح الشين المعجمة وتشديد النون، وهي القربة الخلقة الصغيرة من أدم. (فأطلق) أي حل. (شناقها) بكسر المعجمة وتخفيف النون ثم قاف، خيطها الذي يشد به فمها أو السير الذي تعلق به القربة. قال في الفتح: هو رباط القربة يشد عنقها فشبه بما يشنق به. وقيل: هو ما تعلق به، ورجح أبوعبيد الأول. (ثم صب) أي أراق الماء منها. (في الجفنة) بفتح الجيم وسكون الفاء ثم نون، القصعة الكبيرة. واستعمال "ثم" للترتيب والتراخي في الذكر أو للإشارة إلى أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - كانت واقعة بالتؤدة والوقار من غير استعجال. (ثم توضأ) أي من الجفنة. (وضوء حسنا بين الوضوئين) أي من غير إسراف ولا تقتير. وقيل: أي توضأ مرتين مرتين. (لم يكثر) أي صب الماء. قال القاري: هو بيان للوضوء الحسن، وهو إيماء إلى عدم الإفراط. (وقد أبلغ) أي أوصل الماء إلى ما يجب إيصاله إليه إشارة إلى عدم

(7/328)


التفريط. وقال الحافظ: قد فسر قوله: وضوء بين وضوئين بقوله: لم يكثر وقد أبلغ، وهو يحتمل أن يكون قلل من الماء مع التثليث، أو اقتصر على دون الثلث في الغسل. وفي رواية لمسلم: فأسبغ الوضوء ولم يمس من الماء إلا قليلا. والحاصل أنه أتى بمندوبات الوضوء مع التخفيف الماء. وبذلك يجمع بين ما وقع في رواية: فأسبغ الوضوء، وبين قوله في رواية: فتوضأ وضوءا خفيفا. (فقام فصلى) أي فشرع في الصلاة. (فقمت) أي من مضجعي وقصدت إلى القربة. (وتوضأت) أي نحو مما توضأ، كما في رواية للبخاري. وفي رواية: فقمت فصنعت مثل ما صنع، وهو محمول على الأغلب. ولا يلزم من إطلاق المثلية المساواة من كل جهة، فيحمل
فقمت عن يساره، فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه، فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة، ثم
اضطجع فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ،

(7/329)


على الوضوء فقط، ويحتمل أنه صنع جميع ما ذكر من النظر والقول والوضوء والسواك وغير ذلك. (فقمت) أي للصلاة في إقتدائه. (عن يساره) لعدم العلم. (فأخذ بأذني) بالضم وبضمتين. وفي رواية: فوضع يده اليمنى على رأسي، وأخذ بأذني يفتلها. قال ابن حجر: وضعها أولا ليتمكن من مسك الأذن، أو لأنها لم تقع إلا عليه، أو لينزل بركتها به ليعي جميع أفعاله عليه السلام في ذلك المجلس وغيره، قال: وفتلها إما لينبهه على مخالفة السنة أو ليزداد تيقظه لحفظ تلك الأفعال، أو ليزيل ما عنده من النعاس، لرواية مسلم: فجعلت إذا أغفيت أخذ بشحمة أذني. وفي هذا رد على من زعم أن أخذ الأذن إنما كان في حالة إدارته له من اليسار إلى اليمين متمسكا بقوله: فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه، وهو لفظ البخاري في الدعوات، لكن لا يلزم من إدارته على هذه الصفة أن لا يعود إلى مسك أذنه لتأنيسه وإيقاظه. فالحق أنه أخذ بأذنه أولا لإدارته من اليسار إلى اليمين، ثم أخذ بها أيضا لتأنيسه لكون ذلك في ظلمة الليل أو لإيقاظه أو لإظهار محبته، لأن حاله كانت تقتضي ذلك لصغر سنه. (فأدارني عن يمينه) قال ابن الملك: "عن" هنا بمعنى الجانب أي أدارني عن جانب يساره إلى جانب يمينه. (فتتامت) بمثناتين وتشديد الميم. قال الطيبي: أي صارت تامة تفاعل من تم، وهو لا يجيء إلا لازما- انتهى. أي تكاملت، وهي رواية شعبة عن كريب عند مسلم (صلاته ثلاث عشرة ركعة) أي مع ركعة الوتر، يسلم من كل ركعتين، ففي رواية للشيخين: ثم صلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن، فقام فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى الصبح. قال الحافظ: ظاهره أنه فصل بين كل ركعتين. ووقع التصريح بذلك في رواية طلحة بن نافع عند ابن خزيمة حيث قال فيها: يسلم من كل ركعتين. ولمسلم من رواية علي بن عبدالله بن عباس التصريح بالفصل أيضا، وأنه استاك بين كل ركعتين إلى غير ذلك، كما

(7/330)


سيأتي. ومقتضى التصريح بذكر الركعتين ست مرات، وقوله بعد ذلك ثم أوتر أنه صلى في هذه الليلة ثلاث عشرة ركعة مع الوتر، كما وقع التصريح بذلك في رواية الكتاب. وظاهره أنه أوتر بركعة واحدة مفصولة، لأنه إذا صلى ركعتين ركعتين ست مرات مع الفصل بين كل ركعتين صارت الجملة اثنتى عشرة ركعة غير ركعة الوتر، وكانت جميع صلاته - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عشرة ركعة، فلم يبق الوتر إلا ركعة واحدة. وأما رواية مسلم الآتية بلفظ: ثم أوتر بثلاث ففي كونها محفوظة الكلام. ولعل ذلك من حبيب بن أبي ثابت الراوي عن علي بن عبدالله بن عباس، فإن فيه مقالا، وقد اختلف عليه في إسناده ومتنه اختلافا. (ثم اضطجع فنام حتى نفخ) أي تنفس بصوت حتى يسمع منه صوت النفخ بالفم كما يسمع من النائم. (وكان إذا نام نفخ) وفي رواية مسلم: ثم نام حتى نفخ، وكنا
فآذنه بلال بالصلاة، فصلى، ولم يتوضأ.

(7/331)


نعرفه إذا نام بنفخه (فآذنه) بالمد أي أعلمه. (بالصلاة) أي بصلاة الصبح. (فصلى) أي ركعتي الفجر ثم خرج إلى المسجد فصلى الصبح بالجماعة. (ولم يتوضأ) قيل: إنما لم يتوضأ وقد نام حتى نفخ، لأن النوم لا ينقض الطهر بنفسه، بل لأنه مظنة خروج الخارج. ولما كان قلبه عليه السلام يقظان لا ينام، ولم يكن نومه مظنة في حقه فلا يؤثر. ولعله أحس بتيقيظ قلبه بقاء طهوره. وهذا من خصائصه عليه السلام. قال الطيبي: فيقظة قلبه تمنعه من الحدث، وما منع النوم إلا ليعي الوحي إذا أوحي إليه في منامه، فالوضوء الأول إما لنقض آخر أو لتجديد وتنشيط. واعلم أن قوله: فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة الخ يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى تلك الليلة ثلاث عشرة ركعة غير ركعتي الفجر، وهي رواية الثوري عن سلمة بن كهيل عن كريب عن ابن عباس عند البخاري في الدعوات، وأخرجها أيضا مسلم. وقد اختلف على كريب أصحابه في بيان العدد، لكن اتفق أكثرهم على أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى تلك الليلة ثلاث عشرة ركعة وركعتي الفجر. وفي رواية شريك بن أبي النمر عنه عند البخاري في التفسير: فصلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال فصلى ركعتين. ونحوه في رواية الضحاك بن عثمان عن مخرمة عن كريب عند مسلم، فخالف شريك الأكثر، وروايتهم مقدمة على روايته لما معهم من الزيادة، ولكونهم أحفظ منه. وحمل بعضهم الزيادة على سنة العشاء، ولا يخفي بعده لاسيما مع رواية الكتاب هذا. وقد ورد عن ابن عباس في حكاية صلاته - صلى الله عليه وسلم - بالليل الذي بات فيه عنده أحاديث كثيرة بروايات مختلفة رواها عنه علي بن عبدالله بن عباس وعطاء وأبوجمرة وسعيد بن جبير ويحيى بن الجزاز وغيرهم. قال الحافظ بعد ذكر الاختلاف في رواية كريب، وفي رواية سعيد بن جبير ما لفظه: وأكثر الرواة عنه لم يذكروا عددا، ومن ذكر العدد منهم لم يزد على ثلاث عشرة، ولم ينقص عن إحدى عشرة، إلا أن في رواية علي بن عبدالله بن عباس

(7/332)


عند مسلم ما يخالفه، فإن فيه فصلى ركعتين أطال فيهما، ثم انصرف فنام حتى نفخ، ففعل ذلك ثلاث مرات بست ركعات، كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ هؤلاء الآيات، يعني آخر آل عمران ثم أوتر بثلاث، فأذن المؤذن فخرج إلى الصلاة- انتهى. فزاد على الرواية تكرار الوضوء وما معه ونقص عنه ركعتين أو أربعا. ولم يذكر ركعتي الفجر أيضا، وأظن ذلك من الراوي عنه حبيب بن أبي ثابت، فإن فيه مقالا، وقد اختلف عليه فيه في إسناده ومتنه اختلافا، ويحتمل أنه لم يذكر الأربع الأول. وأما سنة الفجر فقد ثبت ذكرها في طريق أخرى عن على بن عبدالله بن عباس عند أبي داود. والحاصل أن قصة مبيت ابن عباس يغلب على الظن عدم تعددها، فلهذا ينبغي الاعتناء بالجمع بين مختلف الروايات، ولا شك أن الأخذ بما اتفق عليه الأكثر والأحفظ أولى مما خالفهم فيه من هو دونهم، ولاسيما إن زاد أو نقص. والمحقق من عدد صلاته تلك الليلة إحدى عشرة. وأما رواية ثلاث عشرة فيحتمل أن يكون منها ست العشاء- انتهى. ويعكر على هذا الجمع رواية الثوري
وكان في دعائه: اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي بصري نورا، وفي سمعي نورا، وعن يميني
نورا، وعن يساري نورا، وفوقي نورا، وتحتي نورا، وأمامي نورا، وخلفي نورا،

(7/333)


عن سلمة عن كريب، وقد ذكرنا سياقها. وأما لحمل قوله صلى ركعتين ثم ركعتين أي قبل أن ينام، ويكون منها سنة العشاء، وقوله ثم ركعتين الخ أي بعد أن قام، فبعيد يأباه ظاهر السياق. وجمع الكرماني بين ما اختلف من روايات قصة ابن عباس هذه باحتمال أن يكون بعض رواته ذكر القدر الذي اقتدى ابن عباس به وفصله عما لم يقتد به فيه، وبعضهم ذكر الجميع مجملا- انتهى. (وكان في دعائه) أي في جملة دعائه تلك الليلة. قال الحافظ: فيه إشارة إلى أن الدعائه حينئذ كان كثيرا أو كان هذا من جملته، وقد ذكر في ثاني حديثي الباب. (أي باب الدعاء إذا انتبه من الليل من كتاب الدعوات من صحيح البخاري) قوله: اللهم أنت نور السماوات والأرض الخ. (يعني المذكور في حديث ابن عباس الآتي في باب ما يقول إذا قام من الليل). واختلف الرواة في تعيين محل هذا الدعاء أي قوله: اللهم اجعل في قلبي نورا الخ، فوقع في رواية شعبة عن سلمة عن كريب عند مسلم ثم خرج إلى الصلاة فصلى، فجعل يقول في صلاته أو في سجوده اللهم الخ، ووقع عند مسلم أيضا في رواية حبيب بن أبي ثابت عن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس عن أبيه أنه قال هذا الدعاء، وهو ذاهب إلى صلاة الصبح ولفظه: فأذن المؤذن فخرج إلى الصلاة، وهو يقول اللهم اجعل الخ. ويمكن أن يجمع بأنه قال هذا الدعاء حين خروجه إلى صلاة الصبح، ثم قاله في صلاته أيضا. وروى الترمذي هذا الدعاء في الدعوات من طريق داود بن علي بن عبدالله بن عباس عن أبيه عن جده، وفي روايته زيادة طويلة في هذا الدعاء، وفيها أنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك حين فرغ من صلاته. ووقع عند البخاري في الأدب المفرد من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يصلي فقضى صلاته، يثني على الله بما هو أهله، ثم يكون آخر كلامه اللهم اجعل في قلبي نورا- الحديث. قال الحافظ: ويجمع بأنه كان يقول ذلك عند القرب من فراغه-

(7/334)


انتهى. أو يقال: إنه كان يقول ذلك الدعاء بعد الفراغ من الصلاة أيضا. (اللهم اجعل في قلبي نورا) قيل: هو ما يتبين به الشيء ويظهر. قال الكرماني: التنوين للتعظيم أي نورا عظيما، وقدم القلب، لأنه المضغة التي إذا صلحت صلح سائر البدن، وإذا فسدت فسد سائر البدن، ولأن القلب إذا نور فاض نوره على البدن جميعا، ومن لازم تنوير هذه الأعضاء حلول الهداية، لأن النور يقشع ظلمات الذنوب، ويرفع سدفات الآثام. (وفي بصري نورا، وفي سمعي نورا، وعن يميني نورا، وعن يساري نورا) أي في جانبي أو في جارحتي. (وفوقي نورا، وتحتي نورا، وأمامي) أي قدامي. (نورا) يسعى بين يدي. (وخلفي نورا) أي ليتبعني أتباعي ويقتدي بي أشياعي. والمعنى اجعل النور يحفى من جميع الجهات الست. قيل: أراد بالنور بيان الحق وضياءه كأنه قال: اللهم استعمل هذه الأعضاء
واجعل لي نورا ـ وزاد بعضهم ـ: وفي لساني نورا. ـ وذكر ـ: وعصبي ولحمي
ودمي وشعري وبشري)).

(7/335)


مني في الحق، واجعل تصرفي وتقلبي فيها على سبيل الصواب حتى لا يزيغ شيء منها عنه. وقال القسطلاني: قد سأل - صلى الله عليه وسلم - النور في أعضائه وجهاته ليزاد في أفعاله وتصرفاته ومنقلباته نورا على نور، فهو دعاء بدوام ذلك، فإنه كان حاصلا له لا محالة، أو هو إرشاد وتعليم لأمته. وقال القرطبي: هذه الأنوار التي دعا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمكن حملها على ظاهرها، فيكون سأل الله تعالى أن يجعل له في كل عضو من أعضاءه نورا يستضيء به يوم القيامة في تلك الظلم هو ومن تبعه أو من شاء الله منهم، قال: والأولى أن يقال هي مستعارة للعلم والهداية، كما قال تعالى: ?فهو على نور من ربه? [39: 23]، وقوله تعالى: ?وجعلنا له نورا يمشي به في الناس? [6: 122] ثم قال والتحقيق في معناه أن النور مظهر ما نسب إليه وهو يختلف بحسبه، فنور السمع مظهر للمسموعات، ونور البصر كاشف للمبصرات، ونور القلب كاشف عن المعلومات، ونور الجوارح ما يبدو عليها من أعمال الطاعات. وقال الطيبي: معنى طلب النور للأعضاء عضوا عضوا أن يتحلى كل عضو بأنوار المعرفة والطاعات، ويتعرى عما عداهما، فإن الشياطين تحيط بالجهات الست بالوسواس والشبهات، ولا مخلص من ذلك إلا بالأنوار السادة لتلك الجهات، قال: وكل هذه الأمور راجعة إلى الهداية والبيان وضياء الحق. وإلى ذلك يرشد قوله تعالى: ?الله نور السماوات والأرض? إلى قوله تعالى: ?نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء? [24: 35]- انتهى مخلصا. (واجعل لي نورا) عطف عام على خاص أي اجعل لي نورا عظيما جامعا للأنوار كلها يعني التي ذكرها ههنا والتي لم يذكرها. وقال الطيبي: أجمل به ما فصله، فذلكة لذلك وتأكيدا له. ولمسلم في رواية غندر عن شعبة عن سلمة عن كريب: واجعل لي نورا، أو قال واجعلني نورا، وفي رواية النضر عن شعبة: واجعلني نورا، ولم يشك وهذا أبلغ من الكل. ولمسلم في رواية الكتاب بعد قوله: وخلفي نورا

(7/336)


وعظم لي نورا بتشديد الظاء المعجمة، ولم يذكر قوله واجعل لي نورا. وفي رواية سعيد بن مسروق وعقيل بن خالد عن سلمة عن كريب عند مسلم أيضا: وأعظم لي نورا أي من الأعظام. (وزاد بعضهم) أي بعض الرواة، وهو عقيل بن خالد عن سلمة عن كريب، وحبيب بن أبي ثابت عن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس. (وفي لساني نورا) أي بعد قوله في قلبي نورا، وهذه الزيادة عند مسلم فقط. (وذكر) أي بعض ولد العباس، كما يظهر من سياق رواية الشيخين، فعند البخاري بعد قوله: واجعل لي نورا قال كريب: وسبع. (أي من الكلمات أو الأنوار) في التابوت. (أي في صحيفة في تابوت عند ولد العباس)، فلقيت رجلا من ولد العباس. (قال القسطلاني: هو علي بن عبدالله بن عباس)، فحدثني بهن فذكر عصبي الخ. (وعصبي) بفتح المهملتين بعدهما موحدة أطناب المفاصل. (وشعري) بفتح العين وسكونها. (وبشري) بفتح الموحدة والمعجمة،
متفق عليه. وفي رواية لهماـ: واجعل في نفسي نورا، وأعظم لي نورا. وفي أخرى لمسلم: اللهم أعطني نورا)).
1203- (9) وعنه، أنه رقد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستيقظ، فتسوك، وتوضأ وهو يقول: ?إن في خلق السماوات والأرض?. حتى ختم السورة، ثم قام فصلى ركعتين

(7/337)


ظاهر جلده. (متفق عليه) فيه أن لفظ الحديث بهذا السياق ليس لهما ولا لأحدهما، بل هو مجموع من مجموع ما فيهما، لأن حديث ابن عباس في حكايته لصلاته - صلى الله عليه وسلم - في الليلة التي بات فيها عند خالته ميمونة رواه البخاري في ثمانية عشر بابا من صحيحه، ومسلم في باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه بالليل، وفي الطهارة بألفاظ مختلفة مختصرا ومطولا، وليس السياق المذكور ههنا أحدها وبالجملة لم يتفق الشيخان على السياق المذكور بعينه وبخصوصه، ففي قوله متفق عليه نظر. (وفي رواية لهما) أي للشيخين وفيه نظر كما ستعرف. (واجعل في نفسي نورا، وأعظم لي نورا) بفتح الهمزة من باب الإفعال. وهذه الرواية من إفراد مسلم، وليست عند البخاري، رواها مسلم من طريق عقيل بن خالد عن سلمة عن كريب قال: ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلتئذ تسع عشرة كلمة، قال سلمة حدثنيها كريب، فحفظت منها ثنتي عشرة كلمة ونسيت ما بقي، فذكر ما تقدم إلى قوله: واجعل لي نورا، وزاد: في لساني نورا بعد قوله في قلبي، وقال في آخره: واجعل لي في نفسي نورا، وأعظم لي نورا. (وفي أخرى لمسلم اللهم أعطني نورا) وهي رواية حبيب بن أبي ثابت عن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس عن أبيه عن عبدالله بن عباس. وفي رواية الترمذي التي أشهرت إليها قال ابن عباس: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ليلة حين فرغ من صلاته: اللهم إني أسألك رحمة من عندك، فساق الدعاء بطوله، وفيه اللهم اجعل لي في قلبي ونورا في قبري، ثم ذكر الجهات الست والسمع والبصر ثم الشعر والبشر ثم اللحم والدم والعظام، ثم قال في آخره اللهم أعظم لي نورا، وأعطني نورا واجعل لي نورا، ونقله الحافظ والقسطلاني بلفظ: واجعلني نورا. قال الترمذي: غريب وقد روى شعبة وسفيان عن سلمة عن كريب بعض هذا الحديث، ولم يذكره بطوله- انتهى. وعند ابن أبي عاصم في كتاب الدعاء من طريق عبدالحميد بن

(7/338)


عبدالرحمن عن كريب في آخر الحديث، وهب لي نورا على نور. ويجمع من اختلاف الروايات، كما قال ابن العربي، خمس وعشرون خصلة هذا، وفي حديث ابن عباس فوائد وأحكام كثيرة، ذكرها النووي والحافظ والعيني وغيرهم. والحديث أخرجه أيضا أحمد والنسائي والبيهقي.
1203- قوله: (وعنه) أي ابن عباس. (أنه رقد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) قال الطيبي: هذا معنى ما قاله ابن عباس لا حكاية لفظه. والتقدير أنه قال رقدت في بيت خالتي ميمونة، ورقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . (وهو يقول) أي يقرأ، وهو يخالف الرواية السابقة بظاهره حيث قال فقرأ ثم توضأ إلا أن يحمل على تعدد القراءة أو الواقعة،
أطال فيهما القيام والركوع، والسجود، ثم انصرف فنام حتى نفخ، ثم فعل ذلك ثلاث مرات ست ركعات، كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ هؤلاء الآيات، ثم أوتر بثلاث)). رواه مسلم.
1204- (10) وعن زيد بن خالد الجهني أنه قال: ((لأرمقن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(7/339)


أو تحمل "ثم" ثمة على أنها لمجرد العطف أو للتراخي الرتبي، قاله القاري. وقد تقدم في كلام الحافظ التنبيه على ما في هذه الرواية من الزيادة والاختلاف على الروايات الأخرى. (أطال فيهما القيام والركوع والسجود) أي بالنسبة إلى العادة. (ثم انصرف) أي عن الصلاة. (ثم) أي أعلم أنه. (فعل ذلك) أي المذكور من قوله فتسوك إلى قوله حتى نفخ. (ثلاث مرات ست ركعات) قال الطيبي: يدل من ثلاث مرات أي فعل ذلك في ست ركعات- انتهى. وقيل: منصوب بإضمار أعني أو بيان لثلاث وكذلك. (كل ذلك) بالنصب بيان له أيضا، أي كل مرة من المرات، ويجوز أن يكون مفعول. (يستاك) وقال الطيبي: كل ذلك يتعلق بيستاك، أي في كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ ويصلي. "وثم" في قوله "ثم فعل ذلك" لتراخي الإخبار تقديرا وتأكيدا لا لمجرد العطف لئلا يلزم منه أنه فعل ذلك أربع مرات. (ثم أوتر بثلاث) وبعده فأذن المؤذن فخرج إلى الصلاة، وهو يقول: اللهم اجعل في قلبي نورا الخ. قال النووي: هذه الرواية، وهي رواية حبيب بن أبي ثابت عن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس عن أبيه عن ابن عباس، مخالفة لباقي الروايات في تخليل النوم بين الركعات، وفي عدد الركعات، فإنه لم يذكر في باقي الروايات تخلل النوم، وذكر الركعات ثلاث عشرة. قال القاضي: هذه الرواية مما استدركه الدارقطني على مسلم لاضطرابها واختلاف الرواة، قال الدارقطني: وروى عنه على سبعة أوجه. وخالف فيه الجمهور. قال النووي: ولا يقدح هذا في مسلم، فإنه لم يذكر هذه الرواية متأصلة مستقلة بل متابعة، والمتابعات يحتمل فيها ما لا يحتمل في الأصول. قال القاضي: ويحتمل أنه لم يعد في هذه الصلاة الركعتين الأوليين الخفيفتين اللتين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفتح صلاة الليل بهما، ولهذا قال: صلى ركعتين فأطال فيهما، فدل على أنهما بعد الخفيفتين، فتكون الخفيفتان ثم الطويلتان ثم الست المذكورات ثم ثلاث بعدها، كما ذكر، فصارت الجملة ثلاث

(7/340)


عشرة، كما في باقي الروايات. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي.
1204- قوله: (عن زيد بن خالد الجهني) بضم الجيم وفتح الهاء، نسبه إلى جهينة، المدني الصحابي الشهير. (أنه) أي زيد بن خالد. (لأرمقن) بضم الجيم وفتح القاف ونون التوكيد الثقيلة من باب نصر، أي لأنظرن وأراقين وأحافظن من الرمق بفتح وسكون أو بفتحتين، وهو النظر إلى الشيء على وجه المراقبة والمحافظة. وأكد باللام والنون مبالغة في طلب تحصيل معرفة ذلك وضبطه (صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي صلاته النافلة من الليل.
الليلة، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين
وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما
دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما،

(7/341)


قال الطيبي: عدل عن الماضي إلى المضارع فلم يقل رمقت استحضارا لتلك الحالة الماضية؛ ليقررها في ذهن السامع أبلغ تقرير. (الليلة) أي في هذه الليلة حتى أرى كم يصلي. وقال ابن حجر: والظاهر أنه قال ذلك لأصحابة نهارا ثم رمقه، وحينئذ فالمضارع على حاله. قال القاري: ولا يستقيم ذلك إلا على تقديرات كثيرة، كما لا يخفى، قال ويمكن أن يكون هذا القول من زيد قبل العلم والعمل. وقيل: إن ذلك حين سمعه - صلى الله عليه وسلم - قام يصلي لا قبل ذلك، لأنه من التجسس المنهي عنه. وأما ترقبه للصلاة فمحمود- انتهى. زاد في رواية الموطأ وأبي داود وابن ماجه والشمائل للترمذي، قال أي زيد: فتوسدت عتبته أو فسطاطه، والعتبة محركة أسكفة الباب، أي جعلت عتبة بابه كالوسادة بوضع الرأس عليها. والفسطاط مثلثة الفاء بيت من شعر. والمراد من توسد الفسطاط توسد عتبة الفسطاط، فهو على تقدير مضاف، وهذا شك من الراوي عن زيد أنه قال: توسد عتبة بيته أو عتبة فسطاطه. قيل: والظاهر الثاني، لأنه - صلى الله عليه وسلم - في الحضر يكون عند نسائه، فلا يمكن أن يتوسد زيد عتبة بيته ليرمقه بخلاف السفر، فإنه خال عن الأزواج المطهرات، فيمكنه أن يتوسد عتبة فسطاطه. قال القاري في جمع الوسائل: فالترديد إنما هو في العبارة، وإلا فالمقصود عن عتبته أيضا عتبة فسطاطه في الحقيقة لا شك فيه- انتهى. والمراد بعتبة الفسطاط بابه، أي محل دخوله يعني أرقد عند باب خيمته. (فصلى) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (ركعتين خفيفتين) أي ابتداء، وإنما خفف فيهما، لأنهما عقب كسل من أثر النوم وليدخل في صلاة التهجد بنشاط. (ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين) التكرار للتأكيد، وليس المراد بكل طويلتين ركعتين. كذا في المفاتيح. قال الطيبي: كرر ثلاث مرات إرادة لغاية الطول، ثم تنزل شيئا فشيئا- انتهى. وإنما بولغ في تطويلهما، لأن النشاط في أول الصلاة يكون أقوى، والخشوع يكون أتم، ومن ثم

(7/342)


سن تطويل الركعة الأولى على الثانية من الفريضة. قال الباجي: ومعنى ذلك أن آخر الصلاة مبني على التخفيف عما تقدم، ولذا شرع هذا المعنى في الفرائض. (ثم صلى ركعتين وهما) أي الركعتان. (دون اللتين قبلهما) أي في الطول، وإنما كانتا دون الركعتين اللتين قبلهما، لأنه إذا استوفى الغاية في النشاط والخشوع أخذ في النقص شيئا فشيئا، فيخفف من التطويل على سبيل التدريج. (ثم) ثانيا (صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما) في الطول. (ثم) ثالثا (صلى ركعتين، وهما دون التين قبلهما ثم) رابعا (صلى ركعتين، وهما دون) الركعتين. (اللتين قبلهما) قال الطيبي: أربع مرات، فعلى هذا لا تدخل الركعتان الخفيفتان تحت ما أجمله بقوله: فذلك ثلاث عشرة ركعة، أو يكون الوتر ركعة
ثم أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعة))، رواه مسلم. قوله: ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين
قبلهما أربع مرات، هكذا في صحيح مسلم، وأفراده من كتاب الحميدي، وموطأ مالك،
وسنن أبي داود، وجامع الأصول.
1205- (11) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((لما بدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثقل

(7/343)


واحدة ولعل ناسخ المصابيح لما رأى المجمل جعل الخفيفتين من جملة المفصل فكتب قوله: ثم صلى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما ثلاث مرات. ومن ذهب إلى أن الوتر ثلاث ركعات حمل قوله: ثم أوتر على ثلاث ركعات، فعليه أن يخرج الركعتين الخفيفتين من البين. (ثم أوتر) أي بواحدة على أن الركعتين الخفيفتين داخلتان في المجمل. (فذلك) أي المجموع مع الوتر. (ثلاث عشرة ركعة) فيه أن صلاته - صلى الله عليه وسلم - في الليل ثلاث عشرة ركعة بدون ركعتي الفجر. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد ومالك وأبوداود والترمذي في الشمائل وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص8) قال المصنف: (قوله) أي قول زيد. (ثم صلى ركعتين، وهما اللتين قبلهما أربع مرات) بالنصب، أي وقع هذا القول أربع. (هكذا) أي أربع مرات. ( في صحيح مسلم) أي متنه. (وأفراده) بفتح الهمزة أي أفراد مسلم. (من كتاب الحميدي) الجامع بين الصحيحين. والأحاديث فيه على ثلاثة أنواع: الأول ما اتفق عليه الشيخان. والثاني ما انفرد به البخاري ويعبر عنه بأفراد البخاري. والثالث ما انفرد به مسلم، وهو المراد بأفراد مسلم. والحاصل أن الجملة المذكورة وقعت في متن صحيح مسلم أربع مرات، وكذا وقعت في أفراد مسلم من كتاب الجمع بين الصحيحين للحميدي. (وموطأ مالك) أي في موطئه. (وسنن أبي داود) السجستاني. (وجامع الأصول) الستة لابن الأثير الجزري (ج7 ص53)، وكذا وقع في سنن ابن ماجه والشمائل للترمذي والسنن الكبرى للبيهقي أربع مرات. ومقصود المصنف من هذا الكلام الاعتراض على البغوي حيث ذكره في المصابيح ثلاث مرات. وقد يقال في توجيه ما في المصابيح إن قوله: طويلتين ثلاث مرات محمول على ست ركعات بحذف حرف العطف، والركعتان الخفيفتان خارجتان، والوتر ركعة. والأظهر أن التكرير للمبالغة في الطول.

(7/344)


1205- قوله: (لما بدن) بتشديد الدال من التبدين، وهو الكبر والضعف أي مسه الكبر وأسن. (وثقل) بضم القاف أي عن الحركة وضعف عنها لدخوله في السن، ويروى بدن بضم الدال المخففة أي كثر لحمه وثقل أي ضعف لكبر سنه وكثرة لحمه، وذلك قبل موته بسنة. قال التوربشتي: اختلف الرواة في قوله بدن: فمنهم من يرويه مخففا بضم الدال، من قولهم بدن يبدن بدانة وبدن. بفتح الدال يبدن بدنا، وهو السمن والاكتناز.
كان أكثر صلاته جالسا)). متفق عليه.
1206- (12) وعن عبدالله بن مسعود، قال: ((لقد عرفت النظائر التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم -

(7/345)


ومنهم من يرويه بفتح الدال وتشديدها من التبدين وهو السن والكبر، وهذه الرواية هي التي يرتضيها أهل العلم بالرواية، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوصف بالسمن فيما يوصف به، نقله الأبهري. وقال عياض: قال أبوعبيد في تفسير هذا الحديث: بدن الرجل بفتح الدال المشددة تبدينا إذا أسن، قال ومن رواه بدن بضم الدال المخففة فليس له معنى هنا، لأن معناه كثر لحمه، وهو خلاف صفته - صلى الله عليه وسلم -. قال عياض: روايتنا في مسلم عن جمهورهم بدن بالضم، وعن العذري بالتشديد، قال وأراه إصلاحا، قال ولا ينكر اللفظان في حقه - صلى الله عليه وسلم - فقد قالت عائشة في صحيح مسلم: فلما أسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذه اللحم أوتر بسبع. وفي حديث آخر ولحم، وفي آخر أسن وكثر لحمه. وقول ابن أبي هالة في وصفه: بادن متماسك. قال النووي: والذي ضبطناه ووقع في أكثر أصول بلادنا بالتشديد- انتهى. قلت: روى البخاري في تفسير سورة الفتح من حديث عائشة قالت: إن النبي - صلى الله عليه وسلم -كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا. فلما كثر لحمه صلى جالسا، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع- انتهى. قال الحافظ: أنكر الداودي قوله: فلما كثر لحمه، وقال: المحفوظ فلما بدن أي كبر، فكان الراوي تأويله على كثرة اللحم- انتهى. وقال ابن الجوزي أحسب بعض الرواة لما رأى بدن ظنه أي كثر لحمه وليس كذلك، وإنما هو بدن تبدينا، أي أسن- انتهى. وهو خلاف الظاهر. وفي حديث مسلم عن عائشة قالت: لما بدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثقل كان أكثر صلاته جالسا، لكن يمكن تأويل قوله: ثقل أي ثقل عليه حمل لحمه، وإن كان قليلا لدخوله في السن- انتهى مختصرا. وقيل: رواية كثر لحمه محمولة على استرخاء لحم بدنه كما يقتضيه كبر سنه. (كان أكثر صلاته)

(7/346)


أي النافلة (جالسا) وفي رواية أبي سلمة عن عائشة: لم يمت حتى كان كثير من صلاته جالسا. وفي حديث حفصة: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في سبحته جالسا حتى إذا كان قبل موته بعام وكان يصلي في سبحته جالسا، أخرجهما مسلم. والحديث يدل على جواز التنفل قاعدا مع القدرة على القيام. قال النووي: وهو إجماع العلماء. قال ابن حجر: ومن خصائصه عليه السلام أن ثواب تطوعه جالسا كهو قائما، سواء جلوسه يكون بعذر أو بغير عذر. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، ولم يقل البخاري: أكثر.
1206- قوله: (لقد عرفت النظائر) جمع نظيرة، وهي المثل والشبه أي السور المتشابهة والمتقاربة في الطول والقصر. قال الحافظ في الفتح: أي السور المتماثلة في المعاني كالموعظة أو الحكم أو القصص، لا المتماثلة في عدد الآي لما سيظهر عند تعيينها. قال المحب الطبري: كنت أظن أن المراد أنها متساوية في العد حتى اعتبرتها
يقرن بينهن، فذكر عشرين سورة من أول المفصل، على تأليف ابن مسعود

(7/347)


فلم أجد فيها شيئا متساويا. (يقرن) بضم الراء ويجوز كسرها أي يجمع. (بينهن) أي بين سورتين منهن في ركعة. (فذكر) أي ابن مسعود. (عشرين سورة من أول المفصل) وهي الرحمن والنجم في ركعة، واقتربت والحاقة في ركعة، والطور والذاريات في ركعة، وإذا وقعت ونون في ركعة، وسأل سائل والنازعات في ركعة، وويل للمطففين وعبس في ركعة، والمدثر والمزمل في ركعة، وهل آتي ولا أقسم بيوم القيامة في ركعة، وعم يتسآءلون والمرسلات في ركعة، والدخان وإذا الشمس كورت في ركعة. رواه أبوداود، وقال هذا تأليف ابن مسعود أي ترتيب السور المذكورة في الحديث، وهو الترتيب الذي ألف عليه ابن مسعود السور في مصحفه. (على تأليف) مصحف (ابن مسعود) أي جمعه وترتيبه. قال الحافظ: فيد دلالة على أن تأليف ابن مسعود على غير تأليف العثماني، وكان أوله الفاتحة ثم البقرة ثم النساء ثم آل عمران، ولم يكن على ترتيب النزول. ويقال: إن مصحف على كان ترتيب النزول، أوله إقرأ ثم المدثر ثم ن والقلم ثم المزمل ثم تبت ثم التكوير ثم سبح وهكذا إلى آخر المكي ثم المدني، والله أعلم. وأما ترتيب المصحف على ما هو عليه الآن فقال القاضي أبوبكر الباقلاني: يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أمر بترتيبه هكذا، ويحتمل أن يكون من اجتهاد الصحابة، ثم رجح الأول بما روى البخاري عن أبي هريرة أنه كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعارض به جبريل في كل سنة، فالذي يظهر أنه عارضه به هكذا على هذا الترتيب، وبه جزم ابن الأنباري. ومما يدل على أن ترتيب المصحف كان توقيفا ما أخرجه أحمد وأبوداود وغيرهما عن أوس بن حذيفة الثقفي، قال: كنت في الوفد الذين أسلموا من ثقيف، فذكر الحديث، وفيه فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طرأ على حزبي من القرآن فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه، قال: فسألنا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قلنا كيف تحزبون القرآن؟ قلنا نحزبه ثلاث سور وخمس

(7/348)


سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشرة، وحزب المفصل من ق حتى تختم. قال الحافظ: فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويستفاد من هذا الحديث حديث أوس أن الراجح في المفصل أنه من أول سورة ق إلى آخر القرآن، لكنه مبني على أن الفاتحة لم تعد في الثلاث الأول، فإنه يلزم من عدها أن يكون أول المفصل من الحجرات، وبه جزم جماعة من الأئمة- انتهى. وقيل: ترتيب جميع السور توقيفي إلا ترتيب براءة والأنفال، فهو من اجتهاد عثمان، كما يدل عليه حديث ابن عباس عند أحمد وأصحاب السنن، وصححه ابن حبان والحاكم، وقد ذكره المصنف في الباب الذي قبل كتاب الدعوات، وسيأتي الكلام في ذلك هناك. قال الجزري: اختلف في ترتيب السور هل هو توقيفي من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إجماع من الصحابة، أو بعضه توقيف وبعضه إجماع من الصحابة؟ وأجمعوا على أنه لم ينزل مرتبا هكذا، وعلى أنه لا يقرأ إلا هكذا، كما هو مرتب اليوم، وإنما يصح للصغار أن يقرؤا من أسفل لضرورة التعليم، ولو قرأ في الصلاة غير مرتب، فهو غير أولى. وقيل: يكره، ولو قرأ في
سورتين في ركعة آخرهن حم الدخان، وعم يتساءلون)). متفق عليه.

(7/349)


أول ركعة سورة الناس، فماذا يقرأ في الثانية؟ قال أبوحنيفة: يعيدها. وقال الشافعي: يبدأ من أول البقرة أي إلى المفلحون. وهو رواية عن أبي حنيفة، وهو الأظهر، لأن الإفادة أولى من الإعادة. (سورتين) أي كل سورتين من العشرين. (في ركعة آخرهن) أي آخر العشرين مبتدأ، يعني آخر الثنتين من العشرين. (حم الدخان) يحتمل الحركات الثلاث في "حم" والفتح أشهر، وكذلك في الدخان، والجر أشهر. (وعم يتساءلون) هذا يخالف ظاهره ما تقدم من رواية أبي داود، إلا أن يقال: التقدير أخرهن أي آخر العشرين "حم الدخان" ونظيرتها إذا الشمس كورت، وعم يتساءلون، ونظيرتها والمرسلات، قاله القاري. وقال الحافظ: قوله أخرهن حم الدخان، وعم يتساءلون مشكل، لأن حم الدخان آخرهن في جميع الروايات. وأما عم، فهي في رواية ابن خزيمة السابعة عشرة. وفي رواية أبي داود: الثامنة عشرة، فكان فيه تجوزا، لأن عم وقعت في الركعتين الأخيرتين في الجملة- انتهى. ووقع في رواية البخاري في باب الجمع بين السورتين في ركعة من أبواب الصلاة، فذكر عشرين سورة من المفصل، واستشكل عد الدخان من المفصل، لأنها ليست منه. وأجيب بأن ذكرها معهن فيه تجوز، ولذلك فصلها من المفصل في رواية البخاري في باب الترتيل في القراءة ولفظها: وإني لأحفظ القرناء التي كان يقرأ بهن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمان عشرة سورة من المفصل وسورتين من آل حم، لكن يرد رواية البخاري هذه أن الروايات لم تختلف أنه ليس في العشرين من الحواميم غير الدخان. قال الحافظ: فتحمل على التغليب أو فيها حذف كأنه قال: وسورتين إحداهما من آل حم- انتهى. ولذكر ابن مسعود هذا الحديث سبب وهو أن رجلا وهو نهيك بن سنان جاء إلى ابن مسعود فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة فقال: (أي ابن مسعود) هذا كهذ الشعر لقد عرفت النظائر الخ. قال الحافظ: وفي الحديث من الفوائد كراهة الإفراط في سرعة التلاوة، لأنه ينافي المطلوب من التدبر

(7/350)


والتفكر في معاني القرآن، ولا خلاف في جواز السرد بدون تدبر لكن القراءة بالتدبر أعظم أجرا وفيه جواز تطويل الركعة الأخيرة على ما قبلها، وفيه الجمع بين السورتين في ركعة، ويستدل بع على الجمع بين السور، لأنه إذا جمع بين السورتين ساغ الجمع بين الثلاث فصاعدا. وقد روى أبوداود، وصححه ابن خزيمة من طريق عبدالله بن شقيق قال سألت عائشة: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين السور؟ قالت نعم من المفصل. ولا يخالف هذا ما سيأتي في التهجد أنه جمع بين البقرة وغيرها من الطوال لأنه يحمل على النادر. وقال عياض في حديث ابن مسعود: هذا يدل على أن هذا القدر كان قدر قراءته غالبا. وأما تطويله فإنما كان في التدبر والترتيل. وما ورد غير ذلك من قراءة البقرة وغيرها في ركعة، فكان نادرا. قال الحافظ: لكن ليس في حديث ابن مسعود ما يدل على المواظبة، بل فيه أنه كان يقرن بين هذه السور المعينان إذا قرأ من المفصل، وفيه موافقة لقول عائشة وابن عباس إن صلاته بالليل كانت عشر ركعات غير الوتر. (متفق عليه)
?الفصل الثاني?
1207-(13) عن حذيفة: ((أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل، وكان يقول: الله أكبر، ثلاثا، ذو
الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة، ثم استفتح فقرأ البقرة، ثم ركع، فكان ركوعه نحوا
من قيامه، فكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثم رفع رأسه من الركوع،
فيه أن هذه الألفاظ لم يتفقا عليها، بل الحديث في الصحيحين بألفاظ مختلفة، ولفظ الكتاب بهذا السياق ليس لهما ولا لأحدهما، بل هو مجموع من مجموع ما فيهما. والحديث أخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن خزيمة والبيهقي (ج2 ص9).

(7/351)


1207- قوله: (يصلي من الليل) أي التهجد. (وكان) وفي بعض النسخ "فكان" موافقا لما في سنن أبي داود. قال الطيبي: الفاء للتفصيل. (يقول: الله أكبر ثلاثا) ليس في رواية النسائي ثلاثا. (ذو الملكوت) بفتحتين أي صاحب الملك والعزة ظاهرا وباطنا، والصيغة للمبالغة في الملك. (والجبروت) بفتحتين أيضا مبالغة في الجبر بمعنى القهر والغلبة. (والكبرياء والعظمة) قيل: الكبرياء الترفع عن جميع الخلق مع انقيادهم له التنزه عن كل نقص، والعظمة تجاوز القدر عن الإحاطة به. وقيل: الكبرياء عبارة عن كمال الذات. والعظمة عبارة عن جمال الصفات، ولا بوصف بهذين الوصفين إلا الله تعالى. (ثم استفتح) أي قرأ الثناء فإنه يسمى دعاء الاستفتاح أو استفتح بالقراءة أي بدأ بها من غير الإتيان بالثناء لبيان الجواز، أو بعد الثناء جمعا بين الروايات، وحملا على أكمل الحالات، قاله القاري. وقال ابن حجر: أي يقوله في صلاته في محل دعاء للافتتاح ثم استفتح القراءة- انتهى. قلت: يؤيد ما قاله ابن حجر رواية أحمد والترمذي في شمائله عن حذيفة أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الليل قال: فلما دخل في الصلاة قال: الله أكبر ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة، قال: ثم قرأ البقرة الخ، فقوله لما دخل أي بتكبيرة الإحرام وقوله الله أكبر الخ ظاهر أنه قال: ذلك بعد تكبيرة الإحرام بدليل زيادة الكلمات المذكورة، فيكون هذا صيغة من صيغ دعاء الافتتاح الواردة. (فقرأ) في الركعة الأولى. (البقرة) أي بكمالها بعد الفاتحة وإن لم يذكرها اعتمادا على ما هو معلوم من أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يخل صلاة عن الفاتحة. (فكان ركوعه) أي طوله. (نحوا من قيامه) أي قريبا منه فيكون قد طول الركوع قريبا من هذا القيام الطويل يدل عليه رواية النسائي في صلاته التهجد، فلما ركع مكث قدر سورة البقرة ويقول في ركوعه: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، وكان مقروا فيها

(7/352)


أيضا سورة البقرة. (فكان يقول) حكاية للحال الماضية استحضارا. قاله ابن حجر: وفي سنن أبي داود "وكان يقول". (في ركوعه سبحان ربي العظيم) بفتح الياء، وتسكن، والمراد أنه كان يكرر هذه الكلمة ما دام
فكان قيامه نحوا من ركوعه، يقول: لربي الحمد، ثم سجد، فكان سجوده نحوا من قيامه، فكان يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى. ثم يرفع رأسه من السجود، وكان يقعد فيما بين السجدتين نحوا من سجوده، وكان يقول: رب اغفر لي رب اغفر لي. فصلى أربع ركعات قرأ فيهن البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة أو الأنعام))، شك شعبة رواه أبوداود.

(7/353)


راكعا (فكان قيامه) بعد الركوع أي اعتداله. (نحوا من ركوعه) أي قريبا منه، وفيه دليل على أن الاعتدال ركن طويل خلافا للشافعية فإنه ركن قصير عندهم. واختار النووي أنه طويل أخذا بهذا الحديث وأمثاله. (يقول) أي بعد سمع الله لمن حمده(لربي الحمد) أي كان يكرر ذلك مادام في الاعتدال. (فكان سجوده نحوا من قيامه) من الركوع للاعتدال. قال ابن حجر: أي من اعتداله. (فكان يقول في سجوده سبحان ربي الأعلى) أي كان يكرر ذلك مادام ساجدا. (ثم رفع رأسه من السجود) أي السجود الأول إلى الجلوس بين السجدتين. (وكان يقعد فيما بين السجدتين نحوا من سجوده) أي سجوده الأول. وفي مسند أحمد والشمائل فكان فيما بين السجدتين نحوا من السجود، وفيه دليل على أن الجلوس بين السجدتين ركن طويل خلافا للشافعية. (وكان يقول) أي في جلوسه بين السجدتين. (رب اغفر لي رب اغفر لي) أي وهكذا، فالمرتان المراد منهما التكرار مرارا كثيرة لا خصوص المرتين على حد قوله تعالى: ?ثم ارجع البصر كرتين? [67: 4]، فكان يكرر هذه الكلمة مادام جالسا، ولم يذكر السجود الثاني ولا تطويله ولا ما قاله فيه لعلمه بالمقايسة على السجود الأول. (قرأ) وفي أبي داود "فقرأ". (فيهن) أي في الركعات الأربع. (البقرة) في الركعة الأولى. (وآل عمران) في الثانية. (والنساء) في الثالثة. (والمائدة أو الأنعام) بالشك أي في الرابعة. (شك شعبة) راوي الحديث المذكور في السند، أي في السورة التي قرأها في الرابعة هل هي المائدة أو الأنعام؟ قال القاري: والأظهر الأول مراعاة للترتيب المقرر، مع أن الصحيح أن الترتيب في جميع السور توقيفي، وهو ما عليه الآن مصاحف الزمان، كما ذكره السيوطي في الإتقان في علوم القرآن- انتهى. والحديث يدل على مشروعية طلب المغفرة في الاعتدال بين السجدتين، وعلى استحباب تطويل صلاة النافلة والقراءة فيها بالسور الطويلة وتطويل أركانها جميعا. وفيه رد على من ذهب إلى كراهة

(7/354)


تطويل الاعتدال من الركوع والجلسة بين السجدتين. قال النووي: والجواب عن هذا الحديث صعب، ذكره الشوكاني في النيل. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص398) والنسائي والترمذي في الشمائل، كلهم من طريق أبي حمزة مولى الأنصار عن رجل من بني عبس عن حذيفة. قال الترمذي: أبوحمزة اسمه طلحة بن زيد. وقال النسائي: هو طلحة بن يزيد، وهذا الرجل المبهم يشبه أن يكون صلة بني زفر. قال
1208-(14) وعن عبدالله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين)).
المنذري: طلحة بن يزيد أبوحمزة الأنصاري مولاهم الكوفي، احتج به البخاري في صحيحه، وصلة بن زفر العبسي احتج به البخاري ومسلم- انتهى. والحديث أصله في صحيح مسلم.

(7/355)


1208- قوله: (من قام بعشر آيات) أي أخذها بقوة وعزم من غير فتور ولا توان، من قولهم قام بالأمر، فهو كناية عن حفظها والدوام على قراءتها والتفكر في معانيها والعمل بمقتضاها، وإليه الإشارة بقوله: لم يكتب من الغافلين، ولا شك أن قراءة القرآن في كل وقت لها مزايا وفضائل، وأعلاها أن يكون في الصلاة لاسيما في الليل قال تعالى: ?إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا? [73: 6] ومن ثم أورد محي السنة الحديث في باب صلاة الليل، قاله الطيبي. وحاصله أن الحديث مطلق غير مقيد لا بصلاة ولا بليل، فينبغي أن يحمل على أدنى مراتبه، ويدل عليه قوله لم يكتب من الغافلين، وإنما ذكره البغوي في محل الأكمل. وقال ابن حجر: أي يقرأها في ركعتين أو أكثر، وظاهر السياق أن المراد غير الفاتحة- انتهى. قلت: تفسير قام يصلي أي بالقراءة في الصلاة بالليل في هذا المقام هو الظاهر بل هو المتعين، لما روى ابن خزيمة في صحيحه والحاكم (ج1 ص309) عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: من صلى في ليلة بمائة آية لم يكتب من الغافلين، ومن صلى في ليلة بمائتى آية فإنه يكتب من القانتين المخلصين. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وأخرجه أيضا البزار، لكن في سنده يوسف بن خالد السمتي، وهو ضعيف، قاله الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص267). (لم يكتب من الغافلين) أي لم يثبت اسمه في صحيفة الغافلين. وقيل: أي خرج من زمرة الغفلة من العامة ودخل في زمرة ?رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله?. (ومن قام بمائة آية كتب من القانتين) القنوت يرد بمعنان: كالطاعة والقيام والخشوع والعبادة والسكوت والصلاة، فيصرف في كل واحد من هذه المعاني إلى ما يحتمله لفظ الحديث الوارد فيه، والمراد هنا القيام أو الطاعة أي كتب عند الله من الثابتين على طاعته أو من القائمين بالليل. وقال الطيبي: أي من الذين قاموا بأمر الله ولزموا طاعته وخضعوا له. (ومن قام بألف آية)

(7/356)


قال المنذري من الملك إلى آخر القرآن ألف آية. (كتب من المقنطرين) بكسر الطاء أي من المكثرين من الأجر والثواب، مأخوذ من القنطار، وهو المال الكثير. قال الطيبي: أي من الذين بلغوا في حيازة المثوبات مبلغ المنقطرين في حيازة الأموال. قال أبوعبيد: لا تجد العرب تعرف وزن القنطار، وما نقل عن العرب المقدار المعول عليه. قيل: أربعة آلاف دينار، فإذا قالوا: قناطير مقنطرة فهي اثنا عشرة ألف دينار.
رواه أبوداود.
1209- (15) وعن أبي هريرة، قال: ((كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل يرفع طورا ويخفض طورا)). رواه أبوداود.
1210- (16) وعن ابن عباس، قال: ((كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - على قدر ما يسمعه من في الحجرة

(7/357)


وقيل: القنطار ملأ جلد ثور ذهبا. وقيل: هو جملة كثيرة مجهولة من المال- انتهى. قلت: روى ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة مرفوعا: القنطار اثنا عشر ألف أوقية، الأوقية خير مما بين السماء والأرض، ذكره المنذري. وروى الطبراني في الكبير بسند ضعيف عن أبي أمامة في أثناء حديث: ومن قرأ ألف آية أصبح، وله قنطار ألف ومائتا أوقية، الأوقية خير مما بين السماء والأرض، أو قال: خير مما طلعت عليه الشمس. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما إلا أن في رواية ابن حبان: ومن قام بمائتى آية كتب من المقنطرين، أخرجوه من طريق أبي سوية عن ابن حجيرة عن عبدالله بن عمرو، وقد سكت عنه أبوداود والمنذري في تلخيص السنن. ونقل في الترغيب عن ابن خزيمة أنه قال: إن صح الخبر، فإني لا أعرف أبا سوية بعدالة ولا جرح- انتهى. قلت: أبوسوية هذا اسمه عبيد بن سوية. وقيل: عبيد بن حميد. وقيل: كنيته أبوسويد بدال مصغرا. قال في التقريب: والصواب أبوسوية صدوق. وقال في تهذيب التهذيب: قال ابن ماكولا: أنه كان فاضلا. وقال ابن حبان: ثقة مصري. وقال ابن يونس: كان رجلا صالحا- انتهى. وفي الباب عن فضالة بن عبيد وتميم الداري وأبي هريرة وأبي أمامة وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وأبي سعيد، ذكر أحاديثهم الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص267، 268) مع الكلام فيها.

(7/358)


1209- قوله: (كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل) في الأزهار يعني في الصلاة، ويحتمل في غيرها أيضا، والخبر محذوف وهو مختلفة. (يرفع) أي صوته رفعا متوسطا. (طورا) أي مرة أو حالة إن كان خاليا. (ويخفض) بكسر الفاء المعجمة من ضرب أخرى، إن كان هناك نائم أو بحسب حاله المناسب لكل منهما. وقال الطيبي: يرفع خبر كان والعائد محذوف، أي يرفع عليه السلام فيها طورا صوته، والحديث يدل على أن الجهر والأسرار جائزان في قراءة صلاة الليل. (رواه أبوداود) وكذا في البيهقي (ج3 ص12، 13) وسكت عليه أبوداود والمنذري.
1210- قوله: (كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي رفع صوت قراءته في الصلاة بالليل. (على قدر ما يسمعه) أي مقدار قراءة يسمعها. وقال ابن حجر: أي صوت أو رفع يسمعه. (من في الحجرة) أي في صحن
وهو في البيت. رواه أبوداود.
1211-(17) وعن أبي قتادة، قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج ليلة فإذا هو بأبي بكر يصلي يخفض من صوته، ومر بعمر وهو يصلي رافعا صوته، قال: فلما اجتمعا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا أبا بكر! مررت بك وأنت تصلي تخفض صوتك. قال: قد أسمعت من ناجيت يا رسول الله ! وقال لعمر: مررت بك وأنت تصلي رافعا صوتك. فقال: يا رسول الله ! أوقظ الوسنان

(7/359)


البيت، وهي الأرض المحجورة أي الممنوعة بحائط محوط عليها. (وهو في البيت) أي والحال أنه - صلى الله عليه وسلم - في بيته، ويحتمل أن يقال المراد بالبيت هو الحجرة نفسها، أي يسمع من في الحجرة، وهو فيها. وقيل: الحجرة أخص من البيت، يعني أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يرفع صوته كثيرا، ولا يسر بحيث لا يسمعه أحد، بل كانت قراءته بين الجهر والإسرار، فكان إذا قرأ في بيته سمع قراءته من في الحجرة من أهله، ولا يتجاوز صوته إلى ما وراء الحجرة، وهذا إذا كان يصلي ليلا، وأما في المسجد، فكان يرفع صوته فيها كثيرا، وفي قيام الليل لمحمد بن نصر المروزي: سئل ابن عباس عن جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقراءة بالليل، فقال: كان يقرأ في حجرته قراءة لو أراد أن يحفظها حافظ فعل. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا الترمذي في الشمائل بلفظ: كان قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما يسمعه من في الحجرة، وهو في البيت. والحديث سكت عنه أبوداود. وقال المنذري: وفي سنده ابن أبي الزناد، واسمه عبدالرحمن بن عبدالله ابن ذكوان، وفيه مقال، وقد استشهد به البخاري في مواضع- انتهى. قلت: ضعفه ابن معين وعلي بن المديني والنسائي وغيرهم، ووثقه الترمذي والعجلي، وصح الترمذي عدة من أحاديثه. وقال في اللباس: ثقة حافظ. وقال ابن عدي: هو ممن يكتب حديثه. وقال ابن المديني والساجي وعمرو بن علي: ما حدث به بالمدينة فهو مقارب، وما حدث به العراق فهو مضطرب، وقال الحافظ في التقريب: صدوق تغير لما قدم بغداد، وكان فقيها. وللبيهقي (ج3 ص11) من طريق آخر بلفظ: كان يقرأ في بعض حجره، فيسمع قراءته من كان خارجا.

(7/360)


1211- قوله: (فإذا هو بأبي بكر) قال الطيبي: أي مار بأبي بكر. (يصلي) حال عنه. (يخفض) حال عن ضمير يصلي. (من صوته) "من" زائدة أو تبعيضية أو بعض صوته. (قال) أي أبوقتادة. (فلما إجتمعا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - . (وأنت تصلي) وفي رواية الترمذي: وأنت تقرأ وهي جملة حالية. (تخفض صوتك) بدل أو حال. وفي بعض النسخ أبي داود: تخفض من صوتك. (قال) أبوبكر. (قد أسمعت من ناجيت) جواب متضمن لعلة الخفض، أي أنا أناجي ربي وهو يسمع لا يحتاج إلى رفع الصوت. (أوقظ) أي أنبه. (الوسنان) أي النائم الذي ليس بمستغرق في نومه، من وسن يوسن وسنا وسنة أخذه ثقل النوم
وأطرد الشيطان. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا بكر! ارفع من صوتك شيئا، وقال لعمر: اخفض من صوتك شيئا)). رواه أبوداود، وروى الترمذي ونحوه.
1212-(18) وعن أبي ذر، قال: ((قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أصبح بآية، والآية: ?إن تعذبهم فإنهم
عبادك. وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم?.

(7/361)


أو اشتد نعاسه. (وأطرد) أي أبعد. (الشيطان) ووسوسته بالغفلة عن ذكر الله (يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئا) أي قليلا لينتفع بك سامع ويتعظ مهتد. (وقال لعمر: اخفض من صوتك شيئا) أي قليلا لئلا يتشوش بك نحو مصل أو نائم معذور. قال الطيبي: نظيره قوله تعالى: ?ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ? [17: 110] كأنه قال للصديق أنزل من مناجاتك ربك شيأ قليلا واجعل للخلق من قراءتك نصيبا، وقال للفاروق ارتفع من الخلق هونا، واجعل لنفسك من مناجاة ربك نصيبا، وفيه هداية للأمر الوسط الذي هو خير الأمور وتصرف بتغيير ما هما وذلك من دأب المرشدين. (رواه أبوداود) مسندا ومرسلا، وكذا البيهقي (ج3 ص11). (روى الترمذي نحوه) أي بمعناه. وقال: حديث غريب. وإنما أسنده يحيى بن إسحاق عن حماد بن سلمة وأكثر الناس إنما رووا هذا الحديث عن ثابت عن عبدالله بن رباح مرسلا- انتهى. قال العلامة أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج2 ص330) هذا التعليل لا يؤثر في صحة الحديث، فإن يحيى بن إسحق ثقة صدوق، كما قال أحمد. وقال ابن سعد: كان ثقة حافظا لحديثه، ووصل الحديث زيادة يجب قبولها، والحديث قد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري بعد نقل كلام الترمذي: يحيى بن إسحاق هذا هو البجلي السيلحيني، وقد احتج به مسلم في صحيحه- انتهى. وفي الباب عن علي عند أحمد برجال ثقات، وعن عمار بن ياسر عند الطبراني في الكبير، وفي سنده أيوب بن جابر، وثقه أحمد وعمرو بن علي، وضعفه ابن المديني وابن معين، وعن أبي هريرة عند أبي داود، وقد سكت عنه هو والمنذري.

(7/362)


1212- قوله: (قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي في صلاته ليلا. (بآية) متعلق "بقام" أي أخذ يقرأها من لدن قيامه ويتفكر في معانيها مرة بعد أخرى، قاله الطيبي. وفي رواية لأحمد (ج5 ص149) قال: قال صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها. وفي فضائل القرآن لأبي عبيد: قام مصطفى - صلى الله عليه وسلم - ليلة فقرأ آية واحدة الليل كله حتى أصبح بها يقوم وبها يركع، والمعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - قد استمر يكررها ليلته كلها في ركعات تهجده، فلم يقرأ فيها بغيرها. (والآية) أي المعهودة. (إن تعذبهم فإنهم عبادك) أي لا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل في ملكه. (وإن تغفر لهم) أي مع كفرهم. (فإنك أنت العزيز الحكيم) أي القوي القادر على الثواب والعقاب لا
رواه النسائي وابن ماجه.
1213-(19) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه)).

(7/363)


تثيب ولا تعاقب إلا عن حكمة. وقيل: المعنى أن تعذبهم أي من أقام على الكفر منهم، فإنهم عبادك أي تصنع بهم ما شئت وتحكم فيهم بما تريد، لا اعتراض عليك وإن تغفر لهم أي لمن آمن منهم، فإنك أنت العزيز أي القادر على ذلك الحكيم في أفعاله، وإنما كررها - صلى الله عليه وسلم - حتى أصبح لما اعتراه عند قراءتها من هول ما ابتدئت به ومن حلاوة ما اختتمت به، والآية من قول عيسى عليه السلام في حق قومه، وكأنه عرض - صلى الله عليه وسلم - حال أمته على الله سبحانه وتعالى واستغفر لهم، يدل على ذلك ما زاد أحمد في روايته: فلما أصبح قلت: يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها، وتسجد بها قال: إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها، وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئا- انتهى. والحديث يدل على جواز تكرار الآية في الصلاة، ولعل ذلك كان قبل النهي عن القراءة في الركوع والسجود، أو أنه كان يقرأ بها في الركوع والسجود بنية الدعاء لا بنية القراءة والتلاوة، والله أعلم. (رواه النسائي) أي في سننه الكبرى. (وابن ماجه) قال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات، ثم قال: رواه النسائي في الكبرى وأحمد في المسند (ج5 ص149، 156) وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم- انتهى. وهو في المستدرك (ج1ص241) ووافقه الذهبي على تصحيحه، ورواه بقصة مطولة المروزي في قيام الليل (ص59) وذكره السيوطي في الدر المنثور مطولا بألفاظ مختلفة (ج2 ص249، 250) ونسبه أيضا لابن أبي شيبة وابن مردويه والبيهقي، وهو في السنن الكبرى من طريقين (ج3 ص13، 14). وفي الباب عن عائشة قالت: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بآية من القرآن ليلة. أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب.

(7/364)


1213- قوله: (إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر) يعني سنة الفجر، كما يشهد له حديث عائشة أول الفصل الأول. (فليضطجع) أي ندبا واستحبابا لما تقدم في شرح عائشة في الفصل الأول. (على يمينه) ولفظ الترمذي: على شقه الأيمن أي جنبه الأيمن، وهذا نص صريح في مشروعية الاضطجاع بعد سنة الفجر لكل أحد المتهجد وغيره، والمصلي ركعتي الفجر في المسجد وفي البيت، لأن الحديث مطلق، ولا دليل على تقييده بالمتهجد وبالمصلي في البيت. وللعلماء في هذا الاضطجاع أقوال: أحدها أنه سنة، وإليه ذهب الشافعي وأصحابه. وقال النووي في شرح مسلم: والصحيح أو الصواب أن الاضطجاع بعد سنة الفجر سنة. الثاني أنه مستحب، وروي ذلك عن جماعة من الصحابة، وهم أبوموسى الأشعري ورافع بن خديج وأنس بن مالك وأبوهريرة، ذكرهم

(7/365)


ابن القيم في زاد المعاد والعراقي والعيني. وممن قال به من التابعين: محمد بن سيرين وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وأبوبكر بن عبدالرحمن وخارجة بن زيد بن ثابت وعبيدالله بن عبدالله بن عتبة وسليمان بن يسار، كان هؤلاء الصحابة والتابعون يضطجعون على أيمانهم بيت ركعتي الفجر وصلاة الصبح، ويأمرون بذلك. الثالث أنه واجب مفترض لا بد من الإتيان وهو قول أبي محمد علي بن حزم الظاهري فقال في المحلى (ج3 ص196): كل من ركعتي الفجر لم تجزه صلاة الصبح إلا بأن يضطجع على شقه الأيمن بين سلامه من ركعتي الفجر وبين تكبيرة لصلاة الصبح، وسواء عندنا ترك الضجعة عمدا أو نسيانا، وسواء صلاها في وقتها أو صلاها قاضيا لها من نسيان أو عمد نومه، فإنه لم يصل ركعتي الفجر لم يلزمه أن يضطجع، فإن عجز عن الضجعة على اليمين لخوف أو مرض أو غير ذلك أشار إلى ذلك حسب طاقته، واستدل لذلك بحديث أبي هريرة، قال: وقد أوضحنا أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كله على فرض حتى يأتي نص آخر أو إجماع متيقن على أنه ندب فنقف عنده، وإذا تنازع الصحابة فالرد إلى كلام الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -- انتهى. قلت: هذا إفراط من ابن حزم في هذه المسألة وغلو جدا، وقول لم يسبقه إليه أحد ولا ينصره فيه أي دليل، فقد عرفت في شرح حديث عائشة ثاني أحاديث الفصل الأول أن الأمر الوارد في حديث أبي هريرة هذا محمول على الاستحباب، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يداوم على الاضطجاع، فلا يكون واجبا فضلا عن أن يكون شرطا لصحة صلاة الصبح، ولو سلمنا أن الأمر فيه للوجوب. فمن أن يخلص له أن الوجوب معناه الشرطية، وأن من لم يضطجع لم تجزئه صلاة الصبح، وما كل واجب شرط. الرابع أن هذا الاضطجاع بدعة ومكروه، وممن قال به من الصحابة: ابن مسعود وابن عمر على اختلاف عنه، وقد تقدم الجواب عن ذلك في شرح حديث عائشة ثالث أحاديث الفصل الأول. الخامس أنه خلاف

(7/366)


الأولى، روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن الحسن أنه كان لا يعجبه الاضطجاع بعد ركعتي الفجر. السادس أنه ليس مقصودا لذاته، وإنما المقصود الفصل بين ركعتي الفجر وبين الفريضة، إما باضطجاع أو حدث أو بالتحول من ذلك المكان إلى غيره أو غير ذلك. والاضطجاع غير متعين في ذلك، وهو محكي عن الشافعي، لكن قال البغوي والنووي والحافظ: المختار الاضطجاع بخصوصه لظاهر حديث أبي هريرة. السابع التفرقة بين من يقوم بالليل، فيستحب له ذلك للاستراحة وبين غيره، فلا يشرع له، واختاره ابن العربي وقال: لا يضطجع بعد ركعتي الفجر لانتظار الصلاة إلا أن يكون قام الليل فيضطجع استجماما لصلاة الصبح فلا بأس، ويشهد لهذا ما رواه الطبراني وعبدالرزاق عن عائشة: أنها كانت تقول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يضطجع لسنة، ولكنه كان يدأب ليلة فيستريح، وهذا لا تقوم به حجة. أما أولا فلأن في إسناده روايا لم يسم، كما قال الحافظ. وأما ثانيا فلأن ذلك منها ظن وتخمين وليس بحجة، وقد روت أنه كان يفعله، والحجة في فعله، وقد ثبت أمره به، فتأكدت بذلك مشروعية الثامن

(7/367)


التفرقة بين البيت فيستحب فيه وبين المسجد فلا يستحب فيه، ذهب إليه بعض السلف، وهو محكي عن ابن عمر وقد تقدم الجواب عنه. والراجح عندي هو القول الثاني يعني أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر مشروع على طريق الاستحباب لكل أحد أي المتهجد وغيره من المصلي سنة الفجر في المسجد وفي البيت، والله أعلم. وقد أجاب من لم ير مشروعية الاضطجاع عن حديث أبي هريرة هذا بأجوبة: أحدها أنه من رواية عبدالواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، وقد تكلم فيه بسبب ذلك يحيى بن سعيد القطان وأبوداود الطيالسي. قال يحيى بن سعيد: ما رأيته يطلب حديثا بالبصرة ولا بالكوفة قط، وكنت أجلس على بابه يوم الجمعة بعد الصلاة إذا كره بحديث الأعمش لا يعرف منه حرفا. وقال الفلاس: سمعت أبا داود يقول: عمد عبدالواحد إلى أحاديث كان يرسلها الأعمش فوصلها، يقول: حدثنا الأعمش حدثنا مجاهد في كذا وكذا، وهذا روايته عن الأعمش: وقال عثمان بن سعيد الدارمي عن يحيى بن معين: أن عبدالواحد ليس بشيء. والجواب عن هذا الجواب أن عبدالواحد بن زياد قد احتج به الأئمة الستة، ووثقه أحمد بن حنبل وأبوزرعة وأبوداود وابن القطان وابن سعد وأبوحاتم والنسائي والعجلي والدارقطني وابن حبان. وقد روى عن ابن معين ما يعارض قوله السابق فيه من طريق من روي عنه التضعيف له، وهو عثمان بن سعيد المتقدم، فروي عنه أنه قال ثقة. وقال العراقي: وما روي عنه من أنه ليس بثقة، فلعله اشتبه على ناقله بعبدالواحد بن زيد، وكلاهما بصري. وقال الحافظ في مقدمة الفتح: قال ابن معين: أثبت أصحاب الأعمش شعبة وسفيان ثم أبومعاوية ثم عبدالواحد بن زياد، وعبدالواحد ثقة وأبوعوانه أحب إلي منه، ووثقه أبوزرعة وأبوحاتم وابن سعد والنسائي وأبوداود والعجلي والدارقطني، حتى قال ابن عبدالبر لا خلاف بينهم أنه ثقة ثبت- انتهى. وأما قول يحيى بن سعيد: ما رأيته يطلب حديثا الخ، فقال الحافظ: هذا غير قادح، لأنه صاحب

(7/368)


كتاب، وقد احتج به الجماعة. وأما قول الفلاس ففيه أن هذا الحديث من روايته عن الأعمش عن أبي صالح لا عن مجاهد. الثاني أن الأعمش مدلس، وقد رواه عن أبي صالح بالعنعنة، والجواب عنه أن عنعنة الأعمش عن أبي صالح محمولة على الاتصال. قال الذهبي في الميزان: هو أي الأعمش يدلس، وربما دلس عن ضعيف ولا يدري به، فمتى قال: نا فلان، فلا كلام، ومتى قال: عن، تطرق إليه احتمال التدليس، إلا في شيوخ له أكثر عنهم كإبراهيم وأبي وائل وأبي صالح السمان، فإنه روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال- انتهى. الثالث أن رواية أبي صالح عن أبي هريرة معلولة لم يسمعه أبوصالح عن أبي هريرة، وبين الأعمش وأبي صالح كلام، نسب هذا القول إلى ابن العربي. وقال الأثرم: قلت لأحمد حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: رواه بعضهم مرسلا. والجواب عنه أن عبدالواحد قد رواه موصولا، وهو ثقة ثبت قد
رواه الترمذي وأبوداود.
?الفصل الثالث?
1214-(20) عن مسروق، قال: ((سألت عائشة: أي العمل كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت:
الدائم.

(7/369)


احتج به الأئمة الستة، وهو من أثبت أصحاب الأعمش، فتقبل وصله، لأنها زيادة ثقة، ولا يضره إرسال من أرسله. وأما دعوى عدم سماع أبي صالح من أبي هريرة، فمردودة، لأنه ادعاء محض، ويرده أيضا تصحيح الترمذي لهذا الحديث، وهو من أئمة الشأن. وسكوت أبي داود ثم المنذري، وقول النووي: أسانيده صحيحة. الرابع أنه اختلف في حديث أبي هريرة هذا هل من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من فعله؟ فقد روى الترمذي وأبوداود وغيرهما من أمره. وروى ابن ماجه من فعله. وقد قال البيهقي: أن كونه من فعله أولى أن يكون محفوظا. وقال ابن تيمية: حديث أبي هريرة ليس بصحيح، وإنما الصحيح عنه الفعل لا الأمر بها، والأمر تفرد به عبدالواحد ابن زياد وغلط فيه- انتهى. والجواب عنه أن وروده من فعله - صلى الله عليه وسلم - لا ينافي كونه وروده من قوله، فيكون عند أبي هريرة حديثان حديث الأمر به، وحديث ثبوته من فعله، على أن الكل يفيد ثبوت أصل الشرعية، فيرد القول بكراهته ونفي مشروعيته. الخامس أن ابن عمر لما سمع أبا هريرة يروي حديث الأمر به قال: أكثر أبوهريرة على نفسه. والجواب عنه أن ابن عمر سئل هل تنكر شيئا مما يقول أبوهريرة؟ قال: لا، وأن أبا هريرة قال: فما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا له بالحفظ هذا. وقد أفاض القول في هذا المبحث العلامة العظيم آبادي في أعلام أهل العصر بأحكام ركعتي الفجر (ص14- 20) فارجع إليه. (رواه الترمذي) وصححه. (وأبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. وقال النووي في شرح مسلم والشيخ زكريا الأنصاري في فتح العلام: إسناده على شرط الشيخين، وقال النووي في رياض الصالحين (426): أسانيده صحيحه. وقال الشوكاني: رجاله رجال الصحيح. وقد أفرط ابن تيمية في الرد على ابن حزم حتى زعم أن حديث أبي هريرة هذا باطل، وليس بصحيح لتفرد عبدالواحد بن زياد به، وفي حفظه مقال. قال الحافظ بعد ذكره: والحق أنه تقوم به

(7/370)


حجة- انتهى. قلت: قول ابن تيمية هذا غلو منه وبعيد عن الصواب. والحق أن الحديث صحيح سندا ومتنا، وعبد الواحد ثقة ثبت فلا يضر تفرده به، والله أعلم. والحديث أخرجه أيضا أحمد وابن حزم في المحلي، وابن حبان، والبيهقي.
1214- قوله: (أي العمل) بالرفع. وفي رواية النسائي أي الأعمال. (كان أحب) بالنصب. (قالت: الدائم) بالرفع، لأنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو الدائم. وقيل: بالنصب. قال الطيبي: أي العمل الذي يدوم عليه صاحبه ويستقر عليه عامله، ومن ثم أدخل حرف التراخي في قوله تعالى: ?إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا? [41: 30)
قلت: فأي حين كان يقوم من الليل؟ قالت: كان يقوم إذا سمع الصارخ)). متفق عليه.
1215- (21) وعن أنس، قال: ((ما كنا نشاء أن نرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الليل مصليا إلا رأيناه، ولا نشاء أن نراه نائما إلا رأيناه)).

(7/371)


والمراد بالدوام الملازمة العرفية لا شمول الأزمنة، لأنه متعذر (فأي حين) بالنصب. وقيل: بالرفع. (كان يقوم) أي فيه. (من الليل) أي من أحيانه وأوقاته، ولم أجد هذا اللفظ أي قوله: من الليل في الصحيحين. وفي بعض النسخ للبخاري "في" أي حين كان يقوم. (قالت كان يقوم) أي فيصلي، ففي رواية: كان إذا سمع الصارخ قام فصلى. (إذا سمع الصارخ) أي الديك. قال النووي: هو المراد هنا باتفاق العلماء، وسمي بذلك لكثرة صياخه. وفي سيرة الحافظ العراقي المنظومة: أنه كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ديك أبيض. قال: كان عند النبي الديك أبيض له. كذا المحب الطبري نقله. قال الحافظ في الفتح: وقع في مسند في الطيالسي في هذا الحديث. الصارخ الديك، والصرخة الصحيحة الشديدة، وجرت العادة بأن الديك يصيح عند نصف الليل غالبا، قاله محمد بن ناصر. قال ابن التين: وهو موافق لقول ابن عباس نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل. وقال ابن بطال: الصارخ يصرخ عند ثلث الليل الأخير. والمراد بالدوام قيامه كل ليلة في ذلك الوقت لا الدوام المطلق- انتهى. قلت: لعل صراخ الديك في الليل يختلف باختلاف البلاد، وفي بلادنا يصيح في الثلث الأخير، بل في السدس الأخير. وروى أحمد وأبوداود وابن ماجه عن زيد بن خالد الجهني مرفوعا: لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة، وإسناده جيد. وفي لفظ: فإنه يدعوا إلى الصلاة، وليس المراد أن يقول بصراخه حقيقة الصلاة، بل العادة جرت أنه يصرخ صرخات متتابعة عند طلوع الفجر، وعند الزوال فطرة فطره الله عليها، فيذكر الناس بصراخة الصلاة، قاله القسطلاني. وفي الحديث الحث على المداومة على العمل وإن قل. وفيه الاقتصاد في العبادة وترك التعمق فيها؛ لأن ذلك أنشط والقلب به أشد انشراحا. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في الرقاق، إلا قوله "من الليل" فلم أجده عنده ولا عند مسلم. والظاهر أن المصنف نسب هذا اللفظ إلى الشيخين تبعا للجزري. والحديث أخرجه

(7/372)


أيضا أبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص3، 17).
1215- قوله: (ما كنا) ما نافية. (نشاء أن نرى) أي نبصر. (في الليل) أي في وقت من أجزاء الليل. (مصليا) حال من المفعول. (إلا رأيناه) أي مصليا. (ولا نشاء أن نراه نائما) أي في الليل. (إلا رأيناه) أي نائما. قال الطيبي: المعنى ما كنا أردنا أمرا منهما إلا وجدنا عليه يعني أن أمره كان قصدا لا إفراطا ولا تفريطا- انتهى. يعني ينام بالليل ويقوم، ولا يقوم الليل كله ولا ينام فيه كله هذا، ويحتمل أن يكون المراد أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يقوم
رواه النسائي.
1216-(22) وعن حميد بن عبدالرحمن بن عوف، قال: ((إن رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قلت وأنا في سفر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : والله لأرقبن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة حتى أرى فعله، فلما صلى صلاة العشاء، وهي العتمة، اضطجع هويا من الليل، ثم استيقظ فنظر في الأفق، فقال:

(7/373)


تارة وينام أخرى، يفعل ذلك المرات في الليل، فمنهم من يتفق رؤيته مصليا، ومنهم من يتفق رؤيته نائما، قالوا كان صلاته نصف الليل ونومه نصفه، كذا في اللمعات. وقال السندي في حاشية النسائي: أي أن صلاته ونومه ما كان مخصوصين بوقت دون وقت، بل كانا مختلفين في الأوقات، وكل وقت صلى فيه أحيانا نام فيه أحيانا-انتهى. يعني أنه ما كان يعين بعض الليل للصلاة وبعضه للنوم، بل وقت صلاته في بعض الليالي وقت نومه في بعض آخر وعكسه، فكان لا يرتب لتهجده وقتا معينا بل بحسب ما تيسر له من القيام. قال الحافظ: يعني أنس أن حاله في التطوع بالقيام كان يختلف، فكان تارة يقوم من أول الليل وتارة في وسطه وتارة من آخره، فكان من أراد أن يراه في وقت من أوقات الليل قائما فراقبه المرة بعد المرة، فلا بد أن يصادفه قام على وفق ما أراد أن يراه، هذا معنى الخبر وليس المراد أنه كان يستوعب الليل قياما- انتهى. ولا يشكل عليه قول عائشة كان إذا صلى صلاة دوام عليها. وقولها: كان عمله ديمة، لأن اختلاف وقت التهجد تارة في أول الليل وأخرى في آخره لا ينافي مداومة العمل، كما أن صلاة الفرض تارة تكون في أول الوقت وتارة في آخره مع صدق المدوامة عليه، ولا يشكل عليه أيضا قول عائشة: إذا سمع الصارخ قام فصلى، فإن عائشة تخبر عما لها عليه إطلاع، وذلك أن صلاة الليل كانت تقع منه غالبا في البيت، فخبر أنس محمول على ما وراء ذلك. (رواه النسائي) وأخرجه البخاري مطولا وسيأتي في باب القصد في العمل والبيهقي (ج3 ص17).

(7/374)


1216- قوله: (عن حميد) بضم الحاء المهملة مصغرا. (بن عبدالرحمن بن عوف) الزهري المدني، ثقة من كبار التابعين، توفي سنة 95 وهو ابن 73 سنة. وقيل: مات سنة 105. (أن رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ) الظاهر أنه هو زيد بن خالد الجهني المتقدم فلا تضر جهالته، لأن الصحابة كلهم عدول. (قال) أي رجل. (قلت) في نفسي أو لبعض أصحابي. (وأنا في سفر) من غزوة أو عمرة أو حجة. (لأرقبن) أي لأنظرن وأحفظن. (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي وقت قيامه في الليل. (للصلاة) أي لأجلها. (حتى أرى فعله) وأقتدي به. قال الطيبي: أي لأرقبن وقت صلاته في الليل فأنظر ماذا يفعل فيه، فاللام في الصلاة، كما في قوله: ?قدمت لحياتي?. (اضطجع) أي رقد. (هويا) بفتح الهاء وتشديد الياء التحتانية أي زمانا طويلا. (فنظر في الأفق) أي نواحي السماء. (فقال) أي قرأ
?ربنا ما خلقت هذا باطلا? حتى بلغ إلى: ?إنك لا تخلف الميعاد? ثم أهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فراشه، فاستل منه سواكا، ثم أفرغ في قدح من إداوة عنده ماء، فاستن، ثم قام، فصلى، حتى قلت: قد صلى قدر ما نام ثم اضطجع حتى قلت قد نام قدر ما صلى، ثم استيقظ، ففعل كما فعل أول مرة، وقال مثل ما قال، ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات قبل الفجر)). رواه النسائي.
1217- (23) وعن يعلى بن مملك، أنه سأل أم سلمة

(7/375)


(ربنا ما خلقت هذا) أي مرئينا من السماء والأرض. (باطلا) أي خلقا عبثا بل خلقته بالحق والحكمة. والظاهر أنه عليه السلام قرأ ما قبله من قوله تعالى: ?إن في خلق السماوات والأرض? [3: 190] إلى آخر السورة، كما تقدم. وإنما سمع الراوي هذا المقدار. (حتى بلغ إلى أنك لا تخلف الميعاد) أي البعث بعد الموت، كما صح عن ابن عباس أن الميعاد البعث بعد الموت، وعدم إخلاف الميعاد بإثابة المطيع وعقاب العاصي، وقيل: أي وعدك للعباد في يوم المعاد، ويحتمل أنه عليه السلام وقف على هذا المقدار وتلك الليلة، ويحتمل أن السامع لم يسمع ما بعده، فيوافق ما سبق عن ابن عباس أنه قرأ إلى آخر السورة. (ثم أهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي مد يده أو قصد بيده أو مال. (إلى فراشه) بكسر الفاء. (فاستل منه) أي استخرج من تحت فراشه. (سواكا) قال الطيبي: أي انتزاع السواك من الفراش برفق وتأن وتدريج. (ثم أفرغ) أي صب. (في قدح) بفتحتين. (من إداوة) أي مطهرة كائنة. (عنده) والاداوة بكسر الهمزة إناء صغير من جلد. (ماء) مفعول صب. قال ابن حجر: أي ماء بل السواك منه، كما هو السنة- انتهى. ويحتمل أنه صب الماء فيه تهيئة للوضوء. (فاستن) بتشديد النون أي استعمل السواك في الأسنان، وهو افتعال من الأسنان، لأنه يمره عليها. (ثم قام فصلى) أي بوضوء مجدد أو بوضوء السابق. (حتى قلت) أي في ظني. (قد نام) أي رقد أو استراح. (ثم استيقظ) أي استنبه من النوم أو رفع جنبه عن الأرض أي فقام. (ففعل كما فعل أول مرة) أي من الاستياك والصلاة. (وقال مثل ما قال) من قراءة الآيات. والواو لمطلق الجمع. (ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي ما ذكر من القول والفعل أو من النوم واليقظة. (قبل الفجر) أي قبل طلوعه. (رواه النسائي) برجال ثقات إلا أن في رواية يونس بن يزيد الأيلي عن الزهري وهما قليلا. وهذا الحديث من رواية يونس عن الزهري عن حميد بن عبدالرحمن بن عوف.

(7/376)


1217- قوله: (عن يعلى) بفتح الياء وسكون العين المهملة وفتح اللام. (بن مملك) بفتح الميم الأولى وسكون الثانية وفتح اللام بعدها كاف بوزن جعفر، ذكره ابن حبان في الثقات. وقال في التقريب: مقبول
زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلاته؟ فقالت: وما لكم وصلاته؟ كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح، ثم نعتت قراءته، فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا)). رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي.

(7/377)


(زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ) بدل أو عطف بيان. (عن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أي عن صفتها من الترتيل والمد والوقف وغير ذلك. (وصلاته) أي في الليل. (وما لكم وصلاته) بالنصب، فإن الواو بمعنى مع أي ما تصنعون بصلاته، والحال أنكم لا طاقة لكم أن تصلوا مثلها، ففيه نوع استغراب. وقال الطيبي: "وما لكم" عطف على مقدر، أي مالكم وقراءته وما لكم وصلاته، والواو في قوله "وصلاته" بمعنى مع، أي ما تصنعون مع قراءته وصلاته، ذكرتها تحسرا وتلهفا على ما تذكرت من أحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا أنها أنكرت السؤال على السائل- انتهى. قال القاري: أو معناه أي شيء يحصل لكم مع وصف قراءته وصلاته، وأنتم لا تستطيعون أن تفعلوا مثله، ففيه نوع تعجب، ونظيره قول عائشة: وأيكم يطيق ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطيق. ووقع في رواية أحمد (ج6 ص294): ما لكم ولصلاته ولقراءته، أي بحذف الواو في الأول وزيادة اللام الجارة في الصلاة. (كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى ثم يصلي قدر ما نام ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح) أي كان يستمر حاله هذا من القيام والنيام إلى أن يصبح. وفي رواية للنسائي: قالت أي أم سلمة: كان يصلي العتمة ثم يسبح ثم يصلي بعدها ما شاء الله من الليل ثم ينصرف فيرقد مثل ما صلى ثم يستيقظ من نومه ذلك فيصلي مثل ما نام وصلاته تلك الآخرة تكون إلى الصبح. (ثم نعتت قراءته) أي وصفت قراءته - صلى الله عليه وسلم -. (فإذا هي) أي أم سلمة. (تنعت قراءة مفسرة) بفتح السين المشددة أو كسرها من الفسر وهو البيان أي مبينة. (حرفا حرفا) أي كان يقرأ بحيث يمكن عد حروف ما يقرأ، والمراد أن قراءته كانت مرتلة ومجودة ومميزة غير مخالطة، ونعتها لقراءته - صلى الله عليه وسلم - يحتمل وجهين: أحدهما أنها قالت كانت قراءته كذا وكذا. وثانيهما أنها قرأت قراءة مرتلة ومبينة، وقالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ مثل هذه

(7/378)


القراءة، وحرفا حرفا حال أي حال كونها مفصولة الحروف. قال أبوالبقاء: نصبهما على الحال أي مرتلة نحو أدخلتهم رجلا رجلا أي مفردين. . . . . (رواه أبوداود) في أواخر الصلاة. (والترمذي) في أواخر فضائل القرآن. وقال: حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث الليث بن سعد عن ابن أبي ملكية عن أم سلمة- انتهى. والليث بن سعد ثقة ثبت فقيه إمام مشهور، أخرج عنه الجماعة فلا يضر تفرد به، وقد سكت عنه أبوداود، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. (والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد (ج6 ص294، 300) والبيهقي (ج3 ص13).
(32) باب ما يقول إذا قام من الليل
?الفصل الأول?
1218-(1) عن ابن عباس قال:((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يتهجد قال: اللهم لك الحمد أنت
قيم السماوات والأرض
(باب ما يقول إذا قام من الليل) من الأدعية والأذكار.

(7/379)


1218- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يتهجد) أي يصلي صلاة الليل، وهو حال من فاعل "قام" وأصل التهجد ترك الهجود، وهو النوم. وقال ابن فارس: المتهجد المصلي ليلا، ذكره القسطلاني. وقال الحافظ: تفسير التهجد بالسهر معروف في اللغة، وهو من الأضداد يقال: تهجد إذا سهر وتهجد إذا نام، حكاه الجوهري وغيره، ومنهم من فرق بينهما فقال: هجدت نمت وتهجدت سهرت، حكاه أبوعبيدة وصاحب العين، فعلى هذا أصل الهجود النوم، ومعنى تهجدت طرحت عني النوم. وقال الطبري: التهجد السهر بعد نومة ثم ساقه عن جماعة من السلف. وقال ابن فارس: المتهجد المصلي ليلا، وقال فرا: التهجد صلاة الليل خاصة- انتهى. وقال الفخر الرازي في تفسيره: قال الأزهري المعروف في كلام العرب أن الهاجد هو النائم، ثم أن في الشرع يقال لمن قام من النوم إلى الصلاة أنه متهجد، فوجب أن يحمل على أنه سمى متهجدا لا لقاءه الهجود عن نفسه، كما قيل للعابد متحنث لا لقاءه الحنث عن نفسه وهو الإثم، ويقال: فلان رجل متحرج ومتأثم ومتحوب أي يلقي الحرج والإثم والحوب عن نفسه- انتهى. (قال) في موضع نصب خبر "كان" و"إذا" المجرد الظرفية، أي كان عليه السلام عند قيامه من الليل متهجدا يقول. وقال الطيبي: الظاهر أن "قال" جواب "إذا". والشرطية خبر كان- انتهى. وفي رواية مالك ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن كان يقول: إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل. قال الحافظ: ظاهر السياق أنه كان يقوله أول ما يقوم إلى الصلاة، وترجم عليه ابن خزيمة الدليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول هذا التحميد بعد أن يكبر، ثم ساقه من طريق قيس بن سعد عن طاووس عن ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام للتهجد قال بعد ما يكبر اللهم لك الحمد- انتهى. قلت: ولأبي داود من هذا الطريق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في التهجد يقول بعد ما يقول الله أكبر. (اللهم

(7/380)


لك الحمد) تقديم الخبر للدلالة على التخصيص. (أنت قيم السماوات والأرض) أي القائم بأمره وتدبيره السماوات والأرض وغيرها. وفي رواية: قيام وفي أخرى قيوم، وهي من أبنية المبالغة، وهي من صفات الله تعالى، ومعناه واحد. وقيل: القيم معناه القائم بأمور الخلق ومدبر العالم في جميع أحواله والقيام القائم بنفسه بتدبير خلقه المقيم لغيره، والقيوم من أسماء الله
ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك
السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك الحق،

(7/381)


تعالى المعدودة، وهو القائم بنفسه مطلقا لا بغيره وهو مع ذلك يقوم به كل موجود، حتى لا يتصور وجود شيء ولا دوام وجوده إلا به، وأصل هذه الألفاظ من الواو قيوم وقيوام وقيووم بوزن فيعل فيعال فيعول، وكأنه قيل: لم خصصتني بالحمد؟ فقال لأنك أنت الذي تقوم بحفظ المخلوقات وتراعيها وتؤتي كل شيء ما به قوامه وما به ينتفع إلى غير ذلك. وتكرير الحمد المخصص للاهتمام بشأنه وليناط به كل مرة معنى آخر. (ومن) غلب فيه العقلاء. (فيهن) أي في السماوات والأرض. (أنت نور السماوات والأرض) أي منورها وخالق نورهما، يعني أن كل شيء استنار منهما وأضاء فبقدرتك وجودك والأجرام النيرة بدائع فطرتك والعقول والحواس خلقك وعطيتك. قيل: وسمي بالنور لما اختص به من إشراق الجمال وسبحات العظمة والجلال التي تضمحل الأنوار دونها، ولما هيأ للعالم من النور ليهتدوا به عالم الخلق، فهذا الاسم على هذا المعنى لا استحقاق لغيره فيه، بل هو المستحق له المدعو به. وقيل: المعنى منزه في السماوات والأرض من كل عيب ومبرأ من كل ريبة، يقال: فلان منور أي مبرأ من العيب. وقيل: هو اسم مدح، يقال: فلان نور البلد أي مزينه. قال في الملمعات: وعند أهل التحقيق هو محمول على ظاهره، والنور عندهم الظاهر بنفسه المظهر لغيره. (أنت ملك السماوات والأرض ) بكسر اللام أي المتصرف فيهما تصرفا كليا ملكيا وملكيا ظاهريا وباطنيا، لا نزاع في ملكه ولا شريك له في ملكه. وفي رواية: أنت رب السماوات والأرض. (ومن فيهن) عبر بمن تغليبا للعقلاء لشرفهم وإلا فهو رب كل شيء وملكيه. (أنت الحق) أي المتحقق الوجود الثابت بلا شك فيه. قال القرطبي: هذا الوصف له سبحانه وتعالى بالحقيقة خاص به، لا ينبغي لغيره إذ وجوده بذاته لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم، ومن عداه ممن عداه يقال فيه ذلك فهو بخلافه. وقيل: يحتمل أن يكون معناه أنت الحق بالنسبة إلى من يدعى فيه أنه إله أو بمعنى أن من سماك إلها فقد قال

(7/382)


الحق. (ووعدك الحق) أي صادق لا يمكن التخلف فيه، والظاهر أن تعريف الخبر فيه، وفي قوله أنت الحق ليس للقصر، وإنما هو لإفادة أن الحكم به ظاهر مسلم لا منازع فيه، كما قال علماء المعاني في قوله: ووالدك العبد، وذلك لأن مرجع هذا الكلام إلى أنه تعالى موجود صادق الوعد، وهذا أمر يقوله المؤمن والكافر. قال تعالى: ?ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله? [31: 25] ولم يعرف في ذلك منازع يعتد به، وكأنه لهذا عدل إلى التنكير في البقية حيث وجد المنازع فيها بقي أن المناسب لذلك أن يقال وقولك الحق، كما في رواية مسلم:، فكان التنكير في رواية البخاري للمشاكلة، قاله السندي. وقال الطيبي: عرف الخبر فيهما ونكر في البواقي، لأنه لا منكر خلفا وسلفا أن الله هو الثابت الدائم الباقي، وما سواه في معرض الزوال. قال لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل. وكذا وعده مختص بالإنجاز دون وعد غيره، إما قصدا وإما عجزا، تعالى الله عنهما، والتنكير في البواقي للتفخيم- انتهى.
ولقاءك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبي ون حق ومحمد حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي

(7/383)


وقال القاري: فإن قلت لم عرف الحق في الأوليين ونكر في البواقي؟ قلت: المعرف بلام الجنس، والنكرة المسافة بينهما قريبة، بل صرحوا بأن مؤداهما واحد لا فرق بينهما، إلا بأن في المعرفة إشارة إلى أن الماهية التي دخل عليها اللام معلومة للسامع، وفي النكرة لا إشارة إليها وإن لم تكن إلا معلومة. وفي صحيح مسلم: قولك الحق بالتعريف أيضا. وقال الخطابي: عرفهما للحصر، وذكر ما قاله الطيبي- انتهى. (ولقاءك حق) أي المصير إلى الآخرة. وقيل: رؤيتك في الدار الآخرة حيث لا مانع. وقيل: لقاء جزائك لأهل السعادة والشقاوة، وهو وما ذكر بعده داخل تحت الوعد. لكن الوعد مصدر، وما ذكر بعده هو الموعود به، ويحتمل أن يكون من الخاص بعد العام كما أن ذكر القول بعد الوعد من العام بعد الخاص، وقد يراد باللقاء الموت لكونه وسيلة إلى اللقاء، وأبطله النووي. (وقولك حق) أي مدلوله ثابت. وقد تقدم أن في رواية مسلم: وقولك الحق بالتعريف. (والجنة حق والنار حق) أي كل منهما موجود. (ومحمد حق) خص محمدا - صلى الله عليه وسلم - من بين النبي ين بالذكر تعظيما له، وعطفه عليهم إيذانا بالتغاير، وأنه فائق عليهم عليهم بأوصاف مختصة به، فإن تغاير الوصف ينزل منزلة تغاير الذات، ثم حكم عليه استقلالا بأنه حق وجوده عن ذاته كأنه غيره وأوجب عليه الإيمان به وتصديقه مبالغة في إثبات نبوته كما في التشهد. وقال السندي: قوله: محمد حق التأخير للتواضع وهو أنسب بمقام الدعاء، وذكره على الإفراد لذلك وليتوسل بكونه نبيا حقا إلى إجابة الدعاء. وقيل: هو من عطف الخاص على العام تعظيما له ومقام الدعاء يأبى ذلك- انتهى. (والساعة حق) أي يوم القيامة. وأصل الساعة الجزء القليل من اليوم أو الليلة ثم استعير للوقت الذي تقام فيه القيامة، يريد أنها ساعة حقيقة يحدث فيها أمر عظيم. وإطلاق اسم الحق على ما ذكر من الأمور معناه أنه لا بد من كونها، وأنها مما يجب أن يصدق بها. وتكرار لفظ

(7/384)


حق للمبالغة في التأكيد. (لك أسلمت) أي انقدت وخضعت. (وبك آمنت) أي صدقت. (وعليك توكلت) أي فوضت الأمر إليك تاركا للنظر في الأسباب العادية. (وإليك أنبت) أي رجعت إليك مقبلا بقلبي إليك. قيل: التوبة والإنابة كلاهما بمعنى الرجوع، ومقام الإنابة أعلى وأرفع. (وبك خاصمت) أي بما أعطيتني من البراهين وبما لقنتني من الحجج خاصمت من خاصمني من أعدائك بتأئيدك ونصرتك قاتلت. (وإليك حاكمت) أي رفعت أمري إليك. والمحاكمة رفع الأمر إلى القاضي. قال الحافظ: أي كل من جحد الحق حاكمته إليك وجعلتك الحكم بيني وبينه لا غير مما كانت تحاكم إليه الجاهلية وغيرهم من كاهن ونحوه، فلا أرضى إلا يحكمك ولا أعتمد غيره. وقدم مجموع صلات هذه الأفعال عليها إشعارا بالتخصيص وإفادة للحصر. وقال السندي: الظاهر أن تقديم الجار للقصر بالنظر إلى سائر ما عبد من دون الله تعالى. (فاغفر لي) قال
ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت
المؤخر، لا إله إلا أنت، ولا إله غيرك)). متفق عليه.
1219-(2) عن عائشة، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل افتتح صلاته فقال: اللهم رب جبريل

(7/385)


ذلك مع كونه مغفورا له إما على سبيل التواضع والهضم لنفسه إجلالا وتعظيما لربه، أو على سبيل التعليم لأمته لتقتدي به (ما قدمت) أي قبل هذا الوقت. (وما أخرت) أي وما سأفعل أو ما فعلت وما تركت. (وما أسررت وما أعلنت) أي أخفيت وأظهرت أو ما حدثت به نفسي وما تحرك به لساني. (وما أنت أعلم به مني) هذا من ذكر العام بعد الخاص. (أنت المقدم وأنت المؤخر) قال المهلب: أشار بذلك إلى نفسه، لأنه المقدم في البعث في الآخرة والمؤخر في البعث في الدنيا. وقال عياض: قيل: معناه المنزل للأشياء منازلها يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء، وجعل عباده بعضهم فوق بعض درجات. وقيل: هو بمعنى الأول والآخر، إذ كل متقدم على متقدم فهو قبله، وكل مؤخر على متأخره فهو بعده، ويكون المقدم والمؤخر بمعنى الهادي والمضل قدم من يشاء لطاعته لكرامته، وأخر من شاء بقضائه لشقاوته- انتهى. قال الكرماني: هذا الحديث من جوامع الكلم، لأن لفظ القيم إشارة إلى أن وجود الجواهر وقوامها منه، وبالنور إلى أن الأعراض أيضا منه، وبالملك إلى أن حاكم عليها إيجادا وإعداما، يفعل ما يشاء كل ذلك من نعم الله تعالى على عباده، فلهذا قرن كلا منها بالحمد وخصص الحمد به، ثم قوله: أنت الحق إشارة إلى أنه المبدئ للفعل والقول ونحوه إلى المعاش والساعة، ونحوها إشارة إلى المعاد، وفيه الإشارة إلى النبوة وإلى الجزاء ثوابا وعقابا، ووجوب الإسلام والإيمان والتوكل والإنابة والتضرع إلى الله تعالى والخضوع له- انتهى. وفيه زيادة معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعظمة ربه وعظيم قدرته ومواظبته في الليل على الذكر والدعاء والاعتراف له بحقوقه والإقرار بصدق وعده ووعيده وغير ذلك. وفيه استحباب تقديم الثناء على المسألة عند كل مطلوب إقتداء به - صلى الله عليه وسلم -. (لا إله إلا أنت ولا إله غيرك) قال القاري: وفي نسخة "أو" بدل الواو. قال ميرك: كذا في البخاري بلفظ:

(7/386)


"أو" -انتهى. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب التهجد بالليل إلا قوله: "وما أنت أعلم به مني"، فإنه أخرج الحديث بهذه الزيادة في التوحيد، وزاد في الدعوات: أنت إلهي لا إله غيرك. والحديث أخرجه أيضا مالك في الصلاة، والترمذي في الدعوات، وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي في الصلاة.
1219- قوله: (افتتح صلاته) أي التهجد. (اللهم رب جبريل) منصوب على أنه منادى بتقدير حرف النداء، أو بدل من"اللهم" لا وصف له، لأن لحوق الميم المشددة مانع من التوصيف عند سيبويه، نعم جوز
وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين
عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء
إلى صراط مستقيم)). رواه مسلم.

(7/387)


الزجاج التوصيف أيضا. قال القاري: قيل لا يجوز نصب "رب" على الصفة، لأن الميم المشددة بمنزلة الأصوات، فلا يوصف بما اتصل به، فالتقدير: يا رب جبريل. قال الزجاج: هذا قول سيبوية. وعندي: أنه صفة فكما لا تمتنع الصفة مع ياء لا تمتنع مع الميم. قال أبوعلي: قول سيبوية عندي أصح، لأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد اللهم، ولذلك خالف سائر الأسماء، ودخل في حيز ما لا يوصف، نحو حيهل فإنها صارا بمنزلة صوت مضموم إلى اسم، فلم يوصف، ذكر الطيبي (جبريل) بالهمزة، وكذا وقع في جامع الترمذي والنسائي وابن ماجه بالهمز. قال ابن ماجه: قال عبدالرحمن بن عمر. (يعني شيخه) أحفظوه جبريل مهموزة، فإنه كذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - - انتهى. وفي بعض نسخ المشكاة: جبريل أي بغير الهمزة، وكذا وقع في نسخ مسلم وأبي داود، وفي المصابيح والسنن البيهقي وجامع الأصول. (وميكائيل وإسرافيل) تخصيص هؤلاء الثلاثة بالإضافة مع أنه تعالى رب كل شيء لتشريفهم وتفضيلهم على غيرهم، والمقام مقام وصفه تعالى بالملك والبقاء والإيجاد. وهذه الصفات لا تعلق بعزرائيل فلم يتعرض له بالذكر مع كونه أحد الملائكة العظام. قال النووي: قال العلماء خصهم بالذكر وإن كان الله تعالى رب كل مخلوقات، كما تقرر في القرآن والسنة من نظائره من الإضافة إلى كل عظيم المرتبة وكبير الشأن دون ما يستحقر ويستصغر، فيقال له تعالى: ?رب السماوات ورب الأرض، رب العرش الكريم، ورب الملائكة، والروح، رب المشرقين، ورب المغربين، رب الناس، ملك الناس، إله الناس، رب العالمين?. فكل ذلك وشبهة وصف له سبحانه بدلائل العظمة وعظيم القدرة والملك ولم يستعمل ذلك فيما يحتقر ويستصغر فلا يقال رب الحشرات وخالق القردة والخنازير. وشبه ذلك على الأفراد وإنما يقال خالق المخلوقات، وخالق كل شيء. وحينئذ تدخل هذه في العموم- انتهى. (فاطر السماوات والأرض) أي مبدعهما ومخترعهما. (عالم الغيب والشهادة) أي بما

(7/388)


غاب وظهر عند غيره. . (أنت تحكم بين عبادك) يوم القيامة بالتمييز بين المحق والمبطل بالثواب والعقاب. (فيما كانوا فيه يختلفون) أي من أمر الدين. (اهدني) أي زدني هدى أو ثبتني، فليس المطلوب تحصيل الحاصل. (لما اختلف) على بناء المفعول. (فيه) أي للذي اختلف فيه عند مجيء الأنبياء، وهو الطريق المستقيم الذي دعوا إليه، فاختلفوا فيه. (من الحق) بيان لما". (بإذنك) أي بتوفيقك وتيسيرك. (إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) جملة استئنافية متضمنة للتعليل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الترمذي في الدعوات وأبوداود والنسائي وابن ماجه في الصلاة وابن حبان والبيهقي (ج3 ص5).
1220- (3) وعن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من تعار من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: رب اغفر لي، أو قال: ثم دعا، أستجيب له،

(7/389)


1220- قوله: (من تعار) بفتح المثناة الفوقية والعين لمهملة وبعد الألف راء مشددة، أي انتبه واستيقظ من النوم. (من الليل) أي في الليل. قال التوربشتي: أن تعار يتعار يستعمل في انتباه معه صوت يقال: تعار الرجل إذا هب من نومه مع صوت، وأرى استعمال هذا اللفظ في هذا الموضع دون الهبوب والانتباه والاستيقاظ وما في معناه لزيادة معنى، وهو أنه أراد أن يخبر بأن من هب من نومه ذاكرا لله تعالى مع الهبوب فيسأل الله خيرا أعطاه، فأوجز في اللفظ وأعرض في المعنى وأتى من جوامع الكلم التي أوتيها تعار ليدل على المعنيين وأراه مثل قوله تعالى: ?يخرون للأذقان سجدا? [17: 107] فإن معنى خر سقط سقوطا يسمع منه خرير، ففي استعمال الخرور في هذا الموضع تنبيه على اجتماع الأمرين السقوط وحصول الصوت منهم بالتسبيح، وكذلك في قوله تعار تنبيه على الجمع بين الانتباه والذكر، وإنما يوجد ذلك عند من تعود الذكر فاستأنس به وغلب عليه حتى صار حديث نفسه في نومه ويقظته- انتهى. وقال ابن التين: ظاهر الحديث أن معنى تعار استيقظ، لأنه قال من تعار فقال فعطف القول على التعار- انتهى. قال الحافظ: يحتمل أن يكون الفاء تفسيرية لما صوت به المستيقظ، لأنه قد يصوت بغير ذكر، فخص الفضل المذكور لمن صوت بما ذكر من ذكر الله تعالى وهذا هو السر في اختيار تعار دون استيقظ وانتبه. (له الملك وله الحمد) زاد أبونعيم في الحلية: يحيى ويميت. (وسبحان الله والحمد لله) كذا وقع بتقديم التسبيح على الحمد في جميع النسخ موافقا لما في المصابيح، وكذا وقع عند الترمذي وأبي داود وابن ماجه، ووقع في البخاري بتقديم الحمد على التسبيح، وكذا نقله الجزري (ج5 ص 79) قال الحافظ: لم تختلف الروايات في البخاري على تقديم الحمد على التسبيح ، لكن عند الإسماعيلي بالعكس، والظاهر أنه من تصرف الرواة، لأن الواو لا تستلزم الترتيب- انتهى. (ولا حول قوة إلا بالله) زاد النسائي وابن ماجه وابن السني:

(7/390)


العلي العظيم. (ثم قال رب اغفر لي) قال القاري: وفي نسخة اللهم اغفر لي. قلت: وهكذا وقع في جامع الأصول. (أو قال ثم دعا) في البخاري ثم قال اللهم اغفر لي أو دعا. قال الحافظ: "أو" للشك، ويحتمل أن تكون للتنويع، ويؤيد الأول ما عند الإسماعيلي بلفظ: ثم قال رب اغفر لي غفر له أو قال فدعا. استجيب له شك الوليد. (راوي الحديث) واقتصر النسائي على الشق الأول. (أستجيب له) قال ابن الملك
فإن توضأ وصلى قبلت صلاته)). رواه البخاري.
?الفصل الثاني?
1221- (4) عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استيقظ من الليل قال: لا
إله إلا أنت، سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمتك، اللهم زدني علما،
ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك
المراد بها الاستجابة اليقينية، لأن الاحتمالية ثابتة في غير هذا الدعاء. وقال بعض أهل العلم: استجابة الدعاء في هذا الموطن، وكذا مقبولية الصلاة فيه أرجى منهما في غيره . (فإن توضأ وصلى) قال الطيبي: الفاء للعطف على دعا أو على قوله: قال لا إله إلا الله. والأول أظهر. وقال القاري: الظاهر هو الثاني. (قبلت صلاته) قال ابن الملك: وهذه المقبولية اليقينية على الصلاة المتعقبة على الدعوة الحقيقية كما قبلها. قال ابن بطال: وعد الله على لسان نبيه أن من استيقظ من نومه لهجا لسانه بتوحيد ربه والإذعان له بالملك والاعتراف بنعمة يحمده عليها وينزهه عما لا يليق به بتسبيحه والخضوع له بالتكبير والتسليم له بالعجز عن القدرة إلا بعونه أنه إذا دعاه أجابه وإذا صلى قبلت صلاته، فينبغي لمن بلغه هذا الحديث يغتنم العمل ويخلص نيته لربه سبحانه وتعالى. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا الترمذي في الدعوات وأبوداود في الأدب والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه في الدعاء والبيهقي (ج3 ص5).

(7/391)


1221- قوله: (إذا استيقظ من الليل) أي انتبه من نومه. (وبحمدك) لم أجد هذا اللفظ في نسخ أبي داود، ولا في المصابيح، نعم نقله الجزري في جامع الأصول (ج5 ص78) والظاهر أن المصنف ذكره تبعا للجزري، والله أعلم. (أستغفرك ذنبي) أراد تعليم أمته أو تعظيم ربه وجلالته، أو سمي ترك الأفضل لضرورة بيان الجواز أو غير ذلك ذنبا على مقتضى كمال طاعته. (اللهم زدني علما) التنكير للتفخيم. (ولا تزغ قلبي) أي لا تجعل قلبي مائلا عن الحق إلى الباطل، من أزاغ أي أمال عن الحق إلى الباطل وزاغ عن الطريق عدل عنه. قال الطيبي: أي لا تبلني ببلاء يزيغ فيه قلبي. (بعد إذا هديتني) أي أرشدتني إلى الحق وأقمتني عليه بل ثبتني عليه، "وبعد" منصوب بلا تزغ على الظرف، و"إذ" في محل بإضافة بعد إليه خارج عن الظرفية، أي بعد وقت هدايتك إيانا. وقيل: إنها بمعنى أن. (وهب لي من لدنك) متعلق بهب، ولدن ظرف، وهي لأول غاية زمان أو مكان أو غيرهما من الذوات نحو من لدن زيد، فليست مرادفة لعند، بل قد تكون بمعناها، وأكثر ما تضاف إلى المفردات، وقد تضاف إلى أن وصلتها لأنها في تأويل المفرد، وقد تضاف إلى الجملة الاسمية أو الفعلية "ومن"
رحمة إنك أنت الوهاب)). رواه أبوداود.
1222-(5) وعن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مسلم يبيت على ذكر طاهرا فيتعار من الليل، فيسأل الله خيرا إلا أعطاه الله إياه)). رواه أحمد وأبوداود.
1223-(6) وعن شريق الهوزني، قال: ((دخلت على عائشة فسألتها: بما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفتتح إذا هب من الليل؟ فقالت: سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، كان إذا هب من الليل كبر عشرا، وحمد الله

(7/392)


لابتداء الغاية أي أعطني رحمة كائنة من عندك فضلا وكرما منك. (رحمة) التنكير والتعظيم أي رحمة عظيمة واسعة تزلفني إليك وأفوز بها عندك، أو توفيقا للثبات على الإيمان والحق. (إنك أنت الوهاب) أي لكل مسؤل تعليل للسؤال أو لإعطاء المسؤل. قال ابن الملك: وهذا تعليم للأمة ليعلموا أن لا يجوز لهم الأمن من مكر الله وزال نعمته. (رواه أبوداود) في الأدب. وأخرجه أيضا النسائي وابن حبان والحاكم وصححه، وابن مردويه وابن السني في عمل اليوم والليلة.
1222- قوله: (يبيت) أي يرقد في الليل. (على ذكر) من الأذكار المستحبة عند النوم، أو مطلق الأذكار حال كونه. (طاهرا) أي متوضئا (فيتعار) بتشديد الراء أي يستيقظ من النوم. (فيسأل الله خيرا) كذا في جميع النسخ، وكذا في المصابيح. ولفظ أحمد: فيسأل الله خيرا من أمر الدنيا والآخرة. وفي رواية له: خيرا من خير الدنيا والآخرة. وفي أخرى له أيضا: ولأبي داود: خيرا من الدنيا والآخرة، ولابن ماجه: فسأل الله شيئا من أمر الدنيا أو من أمر الآخرة. (رواه أحمد) (ج5 ص235، 241، 244). (وأبو داود) في الأدب وسكت عليه هو والمنذري. وأخرجه أيضا النسائي في اليوم والليلة وابن ماجه في الدعاء، وفي الباب عن ابن عمر وابن عباس وأبي أمامة، ذكر أحاديثهم المنذري في باب الترغيب في أن ينام الإنسان طاهرا.
1223- قوله: (وعن شريق) بفتح الشين المعجمة وكسر الراء المهملة بعدها قاف. (الهوزني) بفتح الهاء والزاي نسبة إلى هوزن بن عوف حي من اليمن، وشريق هذا تابعي حمصي. قال في التقريب: مقبول. وذكره ابن حبان في الثقات. (بم كان) أي بأي شيء كان. (يفتتح) أي يبتدأ من الأذكار. (إذا هب) أي استيقظ. (من الليل) قال الطيبي: أي من نوم الليل والإضافة بمعنى في. (فقالت سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك) كأنها رضي الله عنها حمدت السائل على سؤاله. (كبر عشرا) أي قال الله أكبر عشر مرات. (وحمد الله عشرا) أي

(7/393)


عشرا، وقال: سبحان الله وبحمده عشرا، وقال: سبحان الملك القدوس عشرا، واستغفر الله عشرا، وهلل الله عشرا، ثم قال: اللهم إني أعوذ بك من ضيق الدنيا وضيق يوم القيامة عشرا، ثم يفتتح الصلاة)). رواه أبوداود.
?الفصل الثالث?
1224-(7) عن أبي سعيد، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا قام من الليل كبر، ثم يقول: سبحانك
اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، ثم يقول: الله أكبر كبيرا، ثم
يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
قال الحمد لله (عشرا) أي عشر مرات (سبحان الملك القدوس) أي المنزه عن كل عيب وآفة. (واستغفر الله عشرا) اعترافا بالتقصير وتعليما للأمة. (وهلل الله) أي قال لا إله إلا الله. (من ضيق الدنيا) أي مكارهها التي يضيق الصدر ويزيغ القلب. وقال القاري: أي شدائدها، لأن من به مشقة من مرض أو دين أو ظلم صارت الأرض عليه بعينه ضيقة. (وضيق يوم القيامة) أي شدائد أحوالها وسكرات أهوالها. (عشرا) فصار المجموع سبعين المعبر عنه بالكثرة. (ثم يفتتح الصلاة) أي صلاة التهجد. (رواه أبوداود) في الأدب، وسكت عنه. وقال المنذري: وأخرجه النسائي، وفي سنده بقية بن الوليد، وفيه مقال- انتهى. قلت: بقية هذا صدوق كثير التدليس، لكن قد صرح بالتحديث في روايته عند ابن السني (ص244) وروى أبوداود والنسائي وابن ماجه كلهم في الصلاة عن عاصم بن حميد قال: سألت عائشة بأي شيء كان يفتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيام الليل فقالت: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، كان إذا قام كبر عشرا وحمد الله عشرا وسبح عشرا وهلل عشرا واستغفر عشرا وقال اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة.

(7/394)


1224- قوله: (عن أبي سعيد) أي الخدري. (إذا قام من الليل) أي لصلاة التهجد. (كبر) للتحريمة. (ثم يقول) قال الطيبي: قوله كبر ثم يقول في المواضع الثلاث بالمضارع عطفا على الماضي للدلالة على استحضار تلك المقالات في ذهن السامع، وثم لتراخي الإخبار، ويجوز أن يكون لتراخي الأقوال في ساعات الليل. (سبحانك اللهم وبحمدك) أي أنزهك تنزيها مقرونا بحمدك. (وتبارك اسمك) أي تكاثر خير فضلا عن مسماه. (وتعالى جدك) أي ارتفع عظمتك فوق كل عظمة تتصور أو تعالى غناك عن أن يحتاج لأحد. (ثم يقول الله أكبر) بالسكون ويضم، قاله القاري. (كبيرا) حال مؤكدة. وقيل: منصوب على القطع من اسم الله. وقيل: بإضمار
من همزه ونفخه ونفثه)). رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، وزاد أبوداود بعد قوله:
غيرك: ثم يقول لا إله إلا الله ثلاثا: وفي آخر الحديث. ثم يقرأ.

(7/395)


أكبر. وقيل: صفة لمحذوف أي تكبيرا كبيرا. (من همزه) بدل اشتمال أي من نخزه يعني وسوسته وإغواءه، وفسر أيضا بالجنون. (ونفخه) أي كبره وعجبه. (ونفثه) أي سحره وشعره، وكل من الثلاثة بفتح فسكون، وقد تقدم الكلام في معانيها بالبسط في باب ما يقرأ بعد التكبير. (رواه الترمذي وأبوداود والنسائي) قال ابن حجر والحاكم وابن حبان في صحيحه- انتهى. وأخرجه أيضا أحمد (ج3 ص50) والبيهقي (ج2 ص34) مطولا وابن ماجه مختصرا. (وزاد أبوداود بعد قوله ثم يقول لا إله إلا الله ثلاثا) أي ثلاث مرات، وزاد أيضا لفظ ثلاثا بعد قول الله أكبر كبيرا. (وفي آخر الحديث) أي بعد الاستعاذة. (ثم يقرأ) أي يشرع في قراءة الفاتحة. والحديث أخرجوه كلهم من طريق جعفر بن سليمان الضبعي عن علي بن علي الرفاعي عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد، وقد تكلم فيه أبوداود والترمذي وصرح أحمد بعدم صحته. أما أبوداود فقال هذا الحديث يقولون ( أي المحدثون) هو عن علي بن علي عن الحسن مرسلا، الوهم من جعفر. (يعني وهم جعفر بن سليمان، فرواه موصولا عن علي بن علي عن أبي المتوكل عن أبي سعيد، وإنما هو عن علي عن الحسن البصري مرسل) وأما الترمذي فقال: حديث أبي سعيد أشهر حديث في هذا الباب، وقال: وقد تكلم في إسناد حديث أبي سعيد كان يحيى بن سعيد يتكلم في علي بن علي. وقال أحمد: لا يصح هذا الحديث- انتهى: قلت: الظاهر أن هذا الحديث صحيح لا حجة لمن تكلم فيه، وجعفر بن سليمان المذكور ثقة، وثقة ابن معين وابن المديني وابن سعد. وقال أحمد: لا بأس به. وقال أبوأحمد: حسن الحديث معروف بالتشيع، وهو عندي ممن يجب أن يقبل حديثه. وقال ابن شاهين في المختلف فيهم: إنما تكلم فيه لعلة المذهب، وما رأيت من طعن في حديثه إلا ابن عمار بقوله: جعفر بن سليمان ضعيف. وقال البزار: لم نسمع أحدا يطعن عليه في الحديث ولا في خطأ فيه، إنما ذكرت عنه شيعيته. وأما حديثه فمستقيم. وقال ابن حبان: كان من

(7/396)


الثقات في الروايات، غير أنه كان ينتحل الميل إلى أهل البيت ولم يكن بداعية إلى مذهبه، وليس بين أهل الحديث من أئمتنا خلاف أن الصدوق المتقن إذا كانت فيه بدعة ولم يكن يدعو إليها الاحتجاج بخبره جائز- انتهى. وأما علي بن علي الرفاعي اليشكري فهن أيضا ثقة، وثقه وكيع وابن معين وأبوزرعة وابن عمار. وقال أحمد وأبوبكر البزار والنسائي: ليس به بأس. وقال شعبة اذهبوا بنا إلى سيدنا وابن سيدنا علي بن علي الرفاعي. وقال الآجري: أثني عليه أبوداود. وقال الفضل بن دكين وعفان: كان يشبه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما أحمد بن حنبل فقال: لا يصح هذا الحديث، كما تقدم، ولم يبين وجه عدم صحته.
1225-(8) وعن ربيعة بن كعب الأسلمي، قال: ((كنت أبيت عند حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فكنت أسمعه إذا قام من الليل يقول: سبحان رب العالمين الهوي، ثم يقول: سبحان الله وبحمده الهوي)). رواه النسائي. وللترمذي نحوه، وقال: حديث حسن صحيح.
(33) باب التحريض على قيام الليل
?الفصل الأول?
1226-(1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يعقد الشيطان

(7/397)


1225- قوله: (عن ربيعة بن كعب) بن مالك. (الأسلمي) صحابي من أهل الصفة، خدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فروى أحمد (ج4 ص59) عن نعيم بن مجمر عن ربيعة قال: كنت أخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقوم له في حوائجه نهاري أجمع حتى يصلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء الآخرة فأجلس ببابه إذا دخل بيته أقول: لعلها أن تحدث لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجة الخ. (كنت أبيت) وفي رواية لأحمد: كنت أنام. (عند حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي عند باب الحجرة فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -. (فكنت أسمعه) بصيغة المتكلم والضمير المنصوب للنبي- صلى الله عليه وسلم -. (إذا قام من الليل) يصلي. (يقول سبحان رب العالمين الهوي) بفتح الهاء وكسر الواو ونصب الياء المشددة. قال في النهاية: الحين الطويل من الزمان. وقيل: هو مختص بالليل، فإن قلت مالفرق بين قوله هويا منكرا في حديث حميد بن عبدالرحمن في الفصل الثالث من باب صلاة الليل وبين الهوي ههنا معرفا؟ قلت: التعريف لاستغراق الحين الطويل بالذكر بحيث لا يفتر عنه في بعضه، والتنكير لا يفيده نصا، كما تقول قام زيد اليوم أي كله أو يوما أي بعضه، ومنه قوله تعالى: ?سبحان الذي أسرى بعبده ليلا? [17: 1] أي بعضا من الليل، قاله الطيبي: (ثم يقول سبحان الله وبحمده الهوي) وفي رواية لأحمد: فكنت أسمعه إذا قام من الليل يصلي الحمد لله رب العالمين الهوي، قال: ثم يقول سبحان الله العظيم وبحمده الهوي. وفي رواية له أيضا: كنت أبيت عند باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطيه وضوءه فأسمعه بعد هوي الليل يقول سمع الله لمن حمده، وأسمعه بعد الهوي من الليل يقول الحمد لله رب العالمين. (رواه النسائي) أي بهذا اللفظ في باب ذكر ما يستفتح به القيام من كتاب قيام الليل. (وللترمذي نحوه) أي بمعناه أخرجه في باب الدعاء إذا انتبه من الليل من أبواب الدعوات، وأخرجه أيضا أحمد

(7/398)


(ج4 ص57، 58) وابن ماجه في باب ما يدعو به إذا انتبه من الليل من أبواب الدعاء والبيهقي (ج2 ص486).
(باب التحريض) أي الترغيب والتحثيث. (على قيام الليل) أي صلاة التهجد.
1226- قوله: (يعقد) بكسر القاف أي يشد ويربط. (الشيطان) المراد به الجنس، ويكون فاعل ذلك
على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: عليك طويل فارقد،
القرين أو غيره من أعوان الشيطان، ويحتمل أن يراد به رأس الشياطين وهو إبليس، وتجوز نسبة ذلك إليه، لكونه الآمر لأعوانه بذلك الداعي إليه (على فاقية رأس أحدكم) أي مؤخره، وقفاه وقافية كل شيء آخره، ومنه قافية الشعر، لأنه آخره. وظاهر قوله "أحدكم" التعميم في المخاطبين، ومن في معناهم، ويمكن أن يخص منه من ورد في حقه أنه يحفظ من الشيطان كالأنبياء ومن يتناوله قوله: ?إن عبادي ليس لك عليهم سلطان?، وكمن قرأ آية الكرسي عند نومه لطرد الشيطان، فقد ثبت أنه يحفظ من الشيطان حتى يصبح. (إذا هو نام) أي حين نام. قال الحافظ: كذا للأكثر، وللحموي والمستملي: إذا هو نائم بوزن فاعل، والأول أصوب، وهو الذي في الموطأ- انتهى. وقيل: بل الظاهر أن رواية المستملي أصوب، لأنها جملة اسمية والخبر فيها اسم. (ثلاث عقد) كلام إضافي منصوب، لأنه مفعول، والعقد بضم العين وفتح القاف جمع عقدة بسكون القاف، والتقييد بالثلاث. إما للتأكيد أو لأنه يريد أن يقطعه عن ثلاثة أشياء الذكر والوضوء والصلاة، فكأنه منع من كل واحدة منها بعقدة عقدها على مؤخر رأسه، وكان تخصيص القفا بذلك، ولكونه محل الواهمة ومحل تصرفها، وهو أطوع القوى للشيطان وأسرع إجابة لدعوته. (على كل عقدة) متعلق بيضرب، وللمستلي: على مكان عقدة، والكشمهيني: عند يلقي مكان كل عقدة. وقوله: يضرب أي بيده على العقدة تأكيدا وأحكاما لها قائلا: عليك ليل طويل. وقيل: معناه يلقي الشيطان في نفس النائم هذا القول ويسوله واقعا ومستوليا على كل عقدة يعقدها من ضرب الشبكة

(7/399)


على الطائر ألقاها عليه. وقيل ومعناه يحجب الحس عن النائم حتى لا يستيقظ، ومنه قوله تعالى: ?وضربنا على آذانهم? [18: 11] أي حجبنا الحس أن يلج في آذانهم فينتبهوا، وفي حديث أبي سعيد: ما ينام أحد إلا ضرب على سماخه بجرير معقود. أخرجه المخلص في فوائده. والسماخ بكسر السين المهملة وآخره معجمة، ويقال بالصاد المهملة بدل السين. (عليك ليل طويل فارقد) أي يضرب على كل عقدة قائلا عليك ليل طويل الخ. فالجملة مفعول للقول المحذوف، وارتفاع ليل بالابتداء وعليك خبره مقدما، أي باق عليك ليل طويل، ويجوز أن يكون ارتفاع ليل بفعل محذوف، أي بقي عليك ليل طويل، وعلى هذا كان الفاء في قوله "فارقد" رابطة شرط مقدر، أي وإذا كان كذلك فارقد ولا تعجل بالقيام ففي الوقت متسع. وقيل: قوله عليك اغراء أي عليك بالنوم أمامك ليل طويل، فالكلام جملتان، والثانية مستأنفة كالتعليل للجملة الأولى. وفي رواية مسلم: عليك ليلا طويلا. قال عياض رواية الأكثرين عن مسلم بالنصب على الإغراء. قال القرطبي: الرفع أولى من جهة المعنى، لأنه الأمكن في الغرور من حيث أنه يخبره عن طويل الليل ثم يأمره بالرقاد بقوله "فارقد". وإذا نصب على الإغراء لم يكن فيه إلا الأمر بملازمة طول الرقاد، وحينئذ يكون قوله "فارقد" ضائعا، ومقصود الشيطان بذلك تسويفه بالقيام والإلباس عليه. وقد اختلف في هذا العقد: فقيل هو على الحقيقة، وأنه كما يعقد الساحر من يسحره، وأكثر من يفعله النساء تأخذ إحداهن
فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة،

(7/400)


الخيط فتعقد منه عقدة، وتتكلم عليها بالكلمات السحرية، فيتأثر المسحور عند ذلك، ومنه قوله تعالى. ?ومن شر النفاثات في العقد? [4:113] وعلى هذا فالمعقود شيء عند قافية الرأس لا قافية نفسها، وهل العقد في شعر الرأس أو في غيره؟ الأقرب الثاني إذ ليس لكل أحد شعر، ويؤيده رواية ابن ماجه بلفظ: يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم بالليل بحبل فيه ثلاث عقد، ولأحمد: إذا نام أحدكم عقد على رأسه بجرير، ولابن خزيمة وابن حبان من حديث جابر: ما من ذكر ولا أنثى إلا على رأسه جرير معقود حين يرقد-الحديث. والجرير بفتح الجيم هو الحبل وقيل: هو على المجاز كأنه شبه فعل الشيطان بالنائم من منعه من الذكر والصلاة بفعل الساحر بالمسحور بجامع المنع من التصرف، فلما كان الساحر يمنع بعقده ذلك تصرف من يحاول عقده كان هذا مثله من الشيطان للنائم الذي لا يقوم من نومه إلى ما يحب من ذكر الله والصلاة، وقيل: المراد به عقد القلب وتصميمه على الشيء كأنه يوسوس له، بأنه بقي من الليل قطعة طويلة فيتأخر عن القيام، وانحلال العقد كناية عن علمه بكذبه فيما وسوس به. وقيل: العقد كناية عن تثبيط الشيطان وتعويقه للنائم من قيام الليل بالقول المذكور، ومنه عقدت فلانا عن امرأته أي منعته عنها، أو عن تثقيله عليه النوم وإطالته، كأنه قد سد عليه سدا وعقد عليه عقدا. قال البيضاوي: عقد الشيطان على قافيته استعارة عن تسويل الشيطان وتحبيبه النوم إليه والدعة والاستراحة، يعني أن الشيطان يحبب إليه النوم ويزين له الدعة والاستراحة، ويسول كلما انتبه أنه لم يستوف حظه من النوم، فيوثقه عن القيام إلى العبادة ويبطئه بتلك التسويلات عن النهوض إليها. (فإن استيقظ) أي من نوم الغفلة. (فذكر الله) بأي ذكر كان، لكن المأثور أفضل. قال الحافظ: لا يتعين للذكر شيء مخصوص لا يجزئ غيره بل كل ما صدق عليه ذكر الله أجزأ ويدخل فيه تلاوة القرآن وقراءة الحديث النبوي والاشتغال بالعلم الشرعي،

(7/401)


وأولى ما يذكر به ما تقدم في الباب الذي قبله من حديث عبادة بن الصامت. (انحلت) أي انفتحت. (عقدة) واحدة من الثلاث. (فان توضأ) خص الوضوء بالذكر، لأنه الغالب، وإلا فالجنب لا تنحل عقدته إلا بالاغتسال والتيمم، يقوم مقام الوضوء والغسل، ويجزئ عنهما لمن ساغ له ذلك، ولا شك أن في معاناة الوضوء عونا كبيرا على طرد النوم لا يظهر مثله في التيمم. (انحلت عقدة) أخرى ثانية. (فإن صلى) أي النافلة ولو ركعتين. قال العراقي في شرح الترمذي: السر في استفتاح الصلاة بركعتين خفيفتين المبادرة إلى حل عقد الشيطان، وبناه على أن الحل لا يتم إلا بتمام الصلاة. قال الحافظ: وهو واضح، وقد وقع عند ابن خزيمة عن أبي هريرة في آخر الحديث: فحلوا عقد الشيطان ولو بركعتين. وفعله - صلى الله عليه وسلم - مع كونه محفوظا ومنزها عن عقد الشيطان تعليما للأمة وإرشادا لهم إلى ما يحفظهم من الشيطان. (انحلت عقدة) كذا في جميع النسخ الموجودة عندنا بلفظ الإفراد، وكذا وقع في المصابيح. قال الحافظ في الفتح قوله: انحلت عقده بلفظ الجمع بغير اختلاف في البخاري، ووقع لبعض رواة الموطأ بالإفراد-انتهى. قال
فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس، كسلان))

(7/402)


القاري: فينبغي أن يكون في المشكاة بلفظ الجمع لقوله في آخره: متفق عليه، لكن في جميع النسخ الحاضرة بلفظ الإفراد، ذكره ميرك-انتهى. قلت: وقع في نسخ البخاري الموجودة الحاضرة عندنا من طبعات الهند ومصر: انحلت عقدة أي بالإفراد. وقال القسطلاني قوله: عقده ضبطها في اليونينية بلفظ الجمع والإفراد، كما ترى. قال ابن قرقول في مطالعة كعياض في مشارقه: لا خلاف في الأولى، والثانية أنه بالإفراد، واختلف في الثالثة فقط فوقع في الموطأ لابن وضاح على الجمع، وكذا ضبطناه في البخاري، وكلاهما يعني الجمع والإفراد صحيح والجمع أوجه. لاسيما وقد جاء في رواية مسلم في الأولى عقدة، وفي الثانية عقدتان، وفي الثالثة العقد-انتهى. قال الحافظ: ويؤيد الإفراد رواية أحمد بلفظ: فإن ذكر الله انحلت عقدة واحدة، وإن قام فتوضأ أطلقت الثانية، فإن صلى أطلقت الثالثة، وكأنه محمول على الغالب، وهو من ينام مضطجعا فيحتاج إلى الوضوء إذا انتبه، فيكون لكل فعل عقدة يحلها، ويؤيد الأول أي الجمع ما في بدء الخلق عند البخاري بلفظ: عقده كلها. ولمسلم: انحلت العقد. وظاهر رواية الجمع أن العقد تنحل كلها بالصلاة خاصة، وهو كذلك في حق من لم يحتج إلى الطهارة كمن نام متمكنا غير متكئ مثلا، ثم انتبه فصلى من قبل أن يذكر أو يتطهر، فإن الصلاة يجزئه في حل العقد كلها، لأنها تستلزم الطهارة وتتضمن الذكر، وعلى هذا فيكون معنى قوله: فإذا صلى انحلت عقده كلها، إن كان المراد به من لا يحتاج إلى الوضوء، فظاهر على ما قررناه، وإن كان من يحتاج إليه، فالمعنى انحلت بكل عقده أو انحلت عقده كلها بانحلال الأخيرة التي بها يتم انحلال العقد-انتهى. (فأصبح) أي دخل في الصباح أو صار. (نشيطا) أي لسروره بما وفقه الله له من الطاعة، وبما وعده من الثواب، وما زال عنه من عقد الشيطان. (طيب النفس) لما بارك الله له في نفسه من هذا التصرف الحسن، كذا قيل. قال الحافظ: والظاهر أن في صلاة الليل

(7/403)


سرا في طيب النفس وإن لم يستحضر المصلي شيئا مما ذكر. (وإلا) أي وإن لم يفعل كذلك بل ترك الذكر والوضوء والصلاة. (أصبح خبيث النفس) أي محزون القلب كثير الهم. قيل: هذا الحديث يعارض قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يقولن أحدكم خبثت نفسي. قال ابن عبدالبر: وليس كذلك، لأن النهي إنما ورد عن إضافة المرء ذلك إلى نفسه كراهة لتلك الكلمة، وهذا الحديث وقع ذما لفعله، ولكل من الحديثين وجه. وقال الباجي: ليس بين الحديثين اختلاف؛ لأنه نهى عن إضافة ذلك إلى النفس؛ لكون الخبث بمعنى فساد الدين، ووصف بعض الأفعال بذلك تحذيرا منها وتنفيرا. قال الحافظ: تقرير الأشكال أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن إضافة ذلك إلى النفس فكل ما نهى المؤمن أن يضيفه إلى نفسه نهى أن يضيفه إلى أخيه المؤمن وقد وصف - صلى الله عليه وسلم - هذا المرء بهذه الصفة، فيلزم جواز وصفنا له بذلك لمحل التأسي، ويحصل الانفصال فيما يظهر بأن النهي محمول على ما إذا لم يكن هناك حامل على الوصف بذلك كالتنفير والتحذير-انتهى. (كسلان) لبقاء أثر تثبيط الشيطان ولشؤم تفريطه وظفر الشيطان
متفق عليه.
1227- (2) وعن المغيرة، قال: ((قام النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تورمت قدماه، فقيل له: لم تصنع هذا وقد غفر
لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا))

(7/404)


به بتفويته الحظ الأوفر من قيام الليل، فلا يكاد يخف عليه صلاة ولا غيرها من القربات والطاعات. وكسلان غير منصرف للوصف، وزيادة اللألف والنون مذكر كسلى، ومقتضى قوله وإلا أصبح أنه إن لم يجمع الأمور الثلاثة دخل تحت من يصبح خبيثا كسلان وإن آتي ببعضها، لكن يختلف ذلك بالقوة والخفة، فمن ذكر الله مثلا كان في ذلك أخف ممن لم يذكر أصلا. وهذا الذم مختص بمن لم يقم إلى الصلاة وضيعها، أما من كانت له عادة فغلبته عينه، فقد ثبت أن الله يكتب له أجر صلاته ونومه عليه صدقة، ذكره ابن عبدالبر. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد ومالك وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2:ص51 وج3:ص15) وغيرهم.

(7/405)


1227- قوله: (قام النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي في صلاة الليل. وقال ابن حجر: أي صلى ليلا طويلا. وقيل: التقدير قام بصلاة الليل على وجه الإطالة والإدامة. (حتى تورمت) بتشديد الراء أي انتفخت من طول القيام. (قدماه) مرفوع، لأنه فاعل تورمت. وفي رواية البخاري: كان يصلي حتى ترم أو تنتفخ قدماه. وفي أخرى له: إن كان ليقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه. وفي حديث عائشة عند البخاري: كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه. وفي حديث أبي هريرة عند النسائي: حتى تزلع، يعني تشقق قدماه. ولا إختلاف بين هذه الروايات فإنه إذا حصل الورم أو الانتفاخ حصل الزلع والتشقق. (فقيل له) لم يبين القائل من هو. وفي حديث عائشة فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخ. (لم تصنع هذا) لم أجد هذه الجملة في رواية المغيرة عند أحد ممن خرج حديثه، نعم هي في حديث عائشة، كما تقدم. وفي رواية لمسلم من حديث المغيرة: أتكلف هذا، والمعنى أتلزم نفسك بهذه الكلفة والمشقة. وفي حديث أبي هريرة عند البزار: أتفعل هذا وقد جاءك من الله أن غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. قيل: الاستفهام للتعجب. (وقد غفر لك) بصيغة المجهول. وفي البخاري: قد غفر الله لك. (ما تقدم من ذنبك وما تأخر) أي جميع ما فرط منك مما يصح أن تعاتب عليه. قيل: هو محمول على ترك الأولى، وسمي ذنبا لعظم قدره - صلى الله عليه وسلم -، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. قيل: المراد لو وقع منك ذنب لكان مغفورا، ولا يلزم من فرض ذلك وقوعه، والله أعلم. (أفلا أكون عبدا شكورا) تقديره أ أترك عبادة ربي لما غفر لي، فلا أكون شاكرا على نعمة المغفرة وغيرها مما لا تعد ولا تحصى من خير الدارين، والعبادة لا تحصر في مغفرة الذنوب، بل إنما وجبت شكرا لنعم المولى تعالى. قال الطيبي: الفاء مسبب عن محذوف أي أ أترك قيامي وتهجدي
متفق عليه.

(7/406)


1228- (3) وعن ابن مسعود، قال: ((ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل، فقيل له: ما زال نائما حتى أصبح، ما قام إلى الصلاة،
لما غفر لي، فلا أكون عبدا شكورا، يعني أن غفران الله إياي سبب، لأن أقوم وأتهجد شكرا له، فكيف أتركه أي كيف لا أشكره وقد أنعم علي، وخصني بخير الدارين، فإن الشكور من أبنية المبالغة يقتضي بنعمة خطيرة، وتخصيص العبد بالذكر مشعر بغاية الإكرام والقرب من الله تعالى، ومن ثم وصفه به في مقام الإسراء، ولأن العبودية تقتضي صحة النسبة وليست إلا بالعبادة، والعبادة عين الشكر. وقال القرطبي: ظن من سأله عن سبب تحمله المشقة في العبادة، أنه إنما يعبد الله خوفا من الذنوب وطلبا للمغفرة وإيصال النعمة لمن لا يستحق عليه فيها شيئا فيتعين كثرة الشكر على ذلك، والشكر الاعتراف بالنعمة والقيام بالخدمة، فمن كثر ذلك منه سمي شكورا، ومن ثم قال سبحانه وتعالى. ?وقليل من عبادي الشكور? [13:34] قال ابن بطال في هذا الحديث أخذ الإنسان على نفسه بالشدة في العبادة وإن أضر ذلك ببدنه، لأنه - صلى الله عليه وسلم - إذا فعل ذلك مع علمه بما سبق له فكيف بمن لم يعلم بذلك فضلا عمن لم يأمن أنه استحق النار-انتهى. قال الحافظ: ومحل ذلك إذا لم يفض إلى الملال، لأن حال النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت أكمل الأحوال، فكان لا يمل من عبادة ربه وإن أضر ذلك ببدنه، بل صح أنه قال: وجعلت قرة عيني في الصلاة، كما أخرجه النسائي من حديث أنس، فأما غيره - صلى الله عليه وسلم - فإذا خشي الملل لا ينبغي له أن يكره نفسه وعليه، يحمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا. وفي الحديث مشروعية الصلاة للشكر، وفيه أن الشكر يكون بالعمل كما يكون باللسان، كما قال الله تعالى. ?اعملوا آل داود شكرا? [13:34]. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في تفسير سورة الفتح إلا قوله "لم تصنع هذا" فإنه ليس عند

(7/407)


البخاري بل ولا عند غيره من مخرجي هذا الحديث. وأخرجه مسلم في أواخر الكتاب في باب إكثار الأعمال والإجتهاد في العبادة والترمذي والنسائي وابن ماجه في الصلاة.
1228- قوله: (ذكر) بضم الذال على بناء المفعول. (رجل) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، لكن أخرج سعيد بن منصور عن عبدالرحمن بن يزيد النخعي عن ابن مسعود ما يؤخذ منه أنه هو ولفظه بعد سياق الحديث بنحوه: وأيم الله لقد بال في أذن صاحبكم ليلة يعني نفسه. (فقيل) أي قال رجل من الحاضرين. (له) ليس هذا اللفظ في الصحيحين ولا في المصابيح ولا في جامع الأصول (ج7:ص46). (مازال) أي الرجل المذكور. (نائما حتى أصبح) وفي رواية للبخاري: ذكر رجل نام ليلة حتى أصبح. (ما قام إلى الصلاة) اللام للجنس، ويحتمل
قال: ذلك رجل بال الشيطان في أذنه، أو قال: في أذنيه)) متفق عليه.

(7/408)


العهد، ويراد به صلاة الليل أو المكتوبة أي العشاء أو الصبح. ويدل لكون المراد المكتوبة قول سفيان فيما أخرجه ابن حبان في صحيحه: هذا عندنا نام عن الفريضة، وظاهر صنيع مسلم والنسائي وابن ماجه يدل على كون المراد صلاة الليل. قال الطيبي: يحتمل أن يكون أصبح تامة، وما قام في محل النصب حالا من الفاعل، أي أصبح وحاله أنه غير قائم إلى الصلاة، ويحتمل أن تكون ناقصة وما قام خبرها، ويحتمل أن تكون ما قام جملة مستأنفة مبنية للجملة الأولى أو مؤكدة مقررة لها. (قال) صلى الله عليه وآله وسلم. (ذلك رجل) وفي الصحيحين: ذاك رجل. وكذا نقله الجزري. (بال الشيطان في أذنه) بالإفراد للجنس، وهو بضم الهمزة والذال وسكونها. (أو قال في أذنيه) بالتثنية للمبالغة وأو للشك من الراوي، وهي رواية جرير عن منصور عن أبي وائل عن ابن مسعود. وفي رواية أبي الأحوص عن منصور، عند البخاري: بال في أذنه أي بالإفراد فقط، واختلف في بول الشيطان، فقيل: هو على حقيقته. قال القرطبي وغيره: لا مانع من ذلك إذ لا إحالة فيه، لأنه ثبت أن الشيطان يأكل ويشرب ويضرط وينكح، فلا مانع من أن يبول. وقد يتأول بتأويلات مناسبة: منها أنه تمثيل شبه تثاقل نومه وإغفاله عن الصلاة وعدم سماعه صوت المؤذن وعدم انتباهه بصياح الديك ونحوه، بحال من وقع البول في أذنه فثقل سمعه وأفسد حسه والبول ضار مفسد، قاله الخطابي: قال الحافظ: والعرب تكنى عن الفساد بالبول. قال الراجز: بال سهيل في الفضيخ ففسد. وكنى بذلك عن طلوعه، لأنه وقت إفساد الفضيخ فعبر عنه بالبول. ومنها أن المراد أن الشيطان ملأ سمعه بالأباطيل وبأحاديث اللغو، فأحدث ذلك في أذنه وقرا عن استماعه دعوة الحق، قاله التوربشتي. ومنها أنه كناية عن استهانة الشيطان والاستخفاف والازدراء به، يعني أن الشيطان استولى عليه واستخف به حتى اتخذه كالكنيف المعد للبول، إذ من عادة المستخف بالشيء غاية الاستخفاف أن يبول عليه. ومنها أنه كناية

(7/409)


عن سد الشيطان أذن الذي ينام عن الصلاة حتى لا يسمع الذكر. ومنها أنه استعارة عن تحكمه فيه وجعله مسخرا ومطيعا ومنقادا للشيطان، يقبل ما يأمره من ترك الصلاة وغيرها. قال الطيبي: خص الأذن بالذكر والعين أنسب بالنوم إشارة إلى ثقل النوم، فإن المسامع هي موارد الإنتباه بالأصوات ونداء حي على الصلاة. قال الله تعالى. ?فضربنا على آذانهم في الكهف? [11:18] أي أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات، وخص البول من الأخبثين، لأنه مع خباثته أسهل مدخلا في تجاويف الخروق وأوسع نفوذا في العروق، فيورث الكسل في جميع الأعضاء. (متفق عليه) أخرجه البخاري في التهجد من طريق أبي الأحوص. وفي صفة إبليس من بدأ الخلق من طريق جرير. وأخرجه مسلم من طريق جرير فقط، والسياق المذكور إلى قوله: ما قام إلى الصلاة لأبي الأحوص وما بعده من رواية جرير. والحديث أخرجه أيضا النسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي (ج3:ص15).
1229- (4) وعن أم سلمة، قالت: ((استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة فزعا، يقول: سبحان الله ! ماذا
أنزل الليلة من الخزائن؟ ! وماذا أنزل من الفتن؟! من يوقظ صواحب الحجرات – يريد
أزواجه – لكي يصلين؟ رب كاسية في الدنيا

(7/410)


1229- قوله: (عن أم سلمة) أم المؤمنين. (استيقظ) أي تيقظ فالسين ليست هنا للطلب، أي انتبه من النوم. (ليلة) أي من لياليها. (فزعا) بكسر الزاى حال أي خائفا مضطربا مما شاهده. (يقول) حال أيضا. (سبحان الله) وفي رواية: فقال سبحان الله. وفي أخرى: استيقظ من الليل وهو يقول: لا إله إلا الله. وقوله: سبحان الله بالنصب على المصدرية بفعل لازم الحذف، قاله تعجبا واستعظاما، والعرب قد تستعمله في مقام التعجب والتعظيم. وقوله: (ما ذا أنزل الليلة) كالتقرير والبيان، لأن ما استفهامية متضمنة لمعنى التعجب والتعظيم. وأنزل بضم الهمزة وكسر الزاي، والليلة بالنصب على الظرفية. وهذه رواية أبي ذر عن الكشمهيني. وفي رواية غيره: ما ذا أنزل الله بإظهار الفاعل. (من الخزائن وماذا أنزل من الفتن) عبر عن الرحمة بالخزائن كقوله تعالى. ?خزائن رحمة ربك? [9:38] وقوله: ?خزائن رحمة ربي? [100:17] وعبر عن العذاب بالفتن، لأنها أسباب مؤدية إلى العذاب، وجمعهما لسعتهما وكثرتهما، واستعمل المجاز في الإنزال، والمراد إعلام الملائكة بالأمر المقدور، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - رأى في المنام أنه سيقع بعده فتن. وتفتح لهم الخزائن، أو أوحى الله تعالى إليه ذلك قبل النوم، فعبر عنه بالإنزال، وهو من المعجزات، فقد فتحت خزائن فارس والروم وغيرهما كما أخبر عليه السلام، ووقعت الفتن بعده كما هو المشهور. (من يوقظ) أي من ينتدب فيوقظ. قال ابن الملك: استفهام أي هل أحد يوقظ؟ قال الحافظ: أراد بقوله: من يوقظ بعض خدمه، كما قال يوم الخندق: من يأتيني بخبر القوم؟ وأراد أصحابه، لكن هناك عرف الذي انتدب، وهنا لم يذكر (صواحب الحجرات) كلام إضافي مفعول لقوله: يوقظ. وصواحب جمع صاحبة. والحجرات بضم الحاء المهملة وفتح الجيم. قال القسطلاني: والذي في اليونينية بضم الجيم أيضا جمع حجرة، وهي منازل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -. (يريد أزواجه) أي يعني - صلى الله

(7/411)


عليه وسلم - بصواحب الحجرات أزواجه الطاهرات. (لكي يصلين) ويستعذن مما أراه الله من الفتن النازلة كي يوافقن المرجو فيه الإجابة. وفي رواية: حتى يصلين، وإنما خصهن بالإيقاظ، لأنهن الحاضرات حينئذ، أومن باب: إبدأ بنفسك ثم بمن تعول. وهذا يدل على أن المراد بالايقاظ: الإيقاظ لصلاة الليل، لا لمجرد الإخبار بما أنزل، لأنه لو كان لمجرد الإخبار لكان يمكن تأخيره إلى النهار، لأنه لا يفوت. وبهذا ظهرت مطابقة الحديث للباب، وأن فيه التحريض على صلاة الليل. ويؤخذ منه أنها ليست بواجبة، لأنه ترك إلزامهن بذلك، وقد ترجم البخاري لهذا الحديث: باب تحريض النبي - صلى الله عليه وسلم - على قيام الليل من غير إيجاب. (رب كاسية) وفي رواية : "فرب " زيادة فاء في أوله. وفي رواية "يا رب كاسية"
عارية في الآخرة)). رواه البخاري.
1230-(5) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا

(7/412)


بزيادة حرف النداء في أوله، أي يا قوم أو يا سامعين، فالمنادى فيه محذوف.وفي رواية: "كم من كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة، وهي تدل على أن "رب" ههنا للتكثير، لأن معنى كم الخبرية التكثير بلا خلاف، ولأنه ليس مراده أن ذلك قليل، بل المتصف بذلك من النساء كثير. (عارية) بتخفيف الياء. قال الحافظ: وهي مجرورة في أكثر الروايات على النعت. قال السهيلي: إنه الأحسن عند سيبوية، لأن رب عنده حرف جر يلزم صدر الكلام، قال: ويجوز الرفع على إضمار مبتدأ، والجملة في موضع النعت أي هي عارية، والفعل الذي تتعلق به رب محذوف، أي رب كاسية هي عارية عرفتها-انتهى. واختار الكسائي أن تكون رب اسما مبتدأ، والمرفوع خبرها. واختلف في المراد بقوله: كاسية وعارية على أوجه: أحدها رب امرأة أو نسمة أو نفس كاسية في الدنيا بالثياب لوجود الغنى، عارية في الآخرة من الثواب لعدم العمل في الدنيا. ثانيها: كاسية بالثياب، لكنها رقيقة لا تمنع إدراك البشرة، شفافة لا تستر العورة، عارية في الآخرة جزاء على ذلك، أي معاقبة في الآخرة بفضيحة التعري، ففيه نهي عن لبس ما يشف من الثياب. ثالثها: كاسية من نعم الله، عارية من الشكر الذي تظهر ثمرته في الآخرة بالثواب. رابعها: كاسية جسدها، لكنها تشد به خمارها من ورائها، فيبدو صدرها، فتصير عارية، فتعاقب في الآخرة. خامسها: كاسية من خلعة التزوج بالرجل الصالح، عارية في الآخرة من العمل، فلا ينفعها صلاح زوجها، كما قال تعالى: ?فلا أنساب بينهم? [23: 101]. قال الطيبي: قوله: "رب كاسية" كالبيان لموجب استيقاظ الأزواج للصلاة، أي لا ينبغي لهن أن يتغافلن عن العبادة، ويعتمدن على كونهن أهالي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كاسيات خلعة نسبة أزواجه، متشرفات في الدنيا بها، فهي عاريات في الآخرة، إذ لا أنساب فيها، وهذا وإن ورد في أمهات المؤمنين، لكن الحكم عام لهن ولغيرهن، فإن العبرة بعموم اللفظ، لا لخصوص السبب والمورد.

(7/413)


قال ابن بطال: في هذا الحديث أن المفتوح في الخزائن تنشأ عنه فتنة المال، بأن يتنافس فيه فيقع القتال بسببه، وأن يبخل به فيمنع الحق أو يبطر صاحبه فيسرف، فأراد - صلى الله عليه وسلم - تحذير أزواجه من ذلك كله وكذا غيرهن ممن بلغه ذلك. وفي الحديث الندب إلى الدعاء والتضرع عند نزول الفتنة، ولا سيما في الليل لرجاء وقت الإجابة، فتكشف أو يسلم الداعي أو من دعا له. وفيه جواز قول سبحان الله عند التعجب وندبية ذكر الله بعد الاستيقاظ، وإيقاظ الرجل أهله بالليل للعبادة لا سيما عند آية تحدث. (رواه البخاري) في موضع بألفاظ متقاربة، واللفظ المذكور له في الفتن. وأخرجه أيضا أحمد (ج6:ص297) ومالك في كتاب الجامع من الموطأ مرسلا، والترمذي في الفتن.
1230- قوله: (ينزل ربنا) أي نزولا يليق بجنابة المقدس. والحاصل أن التفويض والتسليم أسلم،

(7/414)


والقدر الذي قصد إفهامه معلوم، وهو أن الثلث الأخير وقت استجابة وعموم رحمة ووفور مغفرة، فينبغي لطالب الخير أن يدركه ولا يفوته، فعلى الإنسان أن يقتصر على هذا القدر، ولا يتجاوز عنه، إذ لا يتعلق بأزيد منه غرض، قاله السندي. واعلم أنه اختلف في ضبط قوله "ينزل"، فقيل: بضم الياء من الإنزال. قال أبوبكر بن فورك: ضبط لنا بعض أهل النقل هذا الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بضم الياء من ينزل يعني من الإنزال، وذكر أنه ضبط عمن سمع منه من الثقات الضابطين. وكذا قال القرطبي: قد قيده بعض الناس بذلك، فيكون معديا إلى مفعول محذوف، أي ينزل الله ملكا، قال: ويقويه ما رواه النسائي من حديث الأغر عن أبي سعيد وأبي هريرة بلفظ: أن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر مناديا يقول: هل من داع فيستجاب له-الحديث. وصححه عبدالحق. وفي حديث عثمان بن أبي العاص عند أحمد: ينادي مناد هل من داع يستجاب له-الحديث. وعلى هذا فلا إشكال في الحديث. وأما على ما هو المشهور في ضبطه، وهو فتح الياء من النزول، فالحديث مشكل، لأن النزول انتقال الجسم من فوق إلى تحت، والله تعالى منزه عن ذلك. ويؤيد هذا الضبط رواية مسلم بلفظ: يتنزل ربنا بزيادة تاء بعد ياء المضارعة، وعلى هذا فالحديث من المتشابهات. والعلماء فيه على قسمين: الأول المفوضة أجروه على ما ورد مؤمنين به على طريق الإجمال، منزهين الله تعالى عن الكيفية والتشبيه، وهم جمهور السلف، ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والأوزاعي والليث وابن المبارك والزهري ومكحول وغيرهم. والثاني: المؤلة فأولوه بتأويلين: أحدهما أن معنى ينزل ربنا ينزل أمره لبعض ملائكته، أو ينزل ملكه بأمره، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. والثاني: أنه استعارة، ومعناه الإقبال على الداعي بالإجابة واللطف والرحمة وقبول المعذرة، كما هو ديدن الملوك الكرماء والسادة الرحماء إذا نزلوا بقرب قوم

(7/415)


محتاجين ملهوفين فقراء مستضعفين. قال البيضاوي: لما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع أعلى إلى ما هو أخفض منه، فالمراد: وفور رحمته أي ينتقل من مقتضي صفات الجلال التي تقتضي الأزفة من الأرذال وقهر الأعداء والانتقام من العصاة إلى مقتضى صفات الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة والعفو-انتهى. هذا، وقد أفرط بعضهم في التأويل حتىكاد أن يخرج إلى نوع من التحريف، وحمله بعضهم على ظاهره وحقيقته، وهم المشبهة تعالى الله عن قولهم، وأنكر بعضهم صحة الأحاديث الواردة في ذلك جملة، وهم الخوارج والمعتزلة، وهو مكابرة. والعجب أنهم أولوا ما في القرآن من نحو ذلك، وأنكروا ما في الحديث إما جهلا وإما عنادا. قلت: الحق عندنا هو قول جمهور السف، فنؤمن بما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة على طريق الإجمال، وننزه الله سبحانه وتعالى عن الكيف والشبه بخلقه، ونذهب إلى ما وسع سلفنا الصالح من السكوت عن التأويل، ونقول ما قال البيهقي: وأسلمها الإيمان بلا كيف
تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر،

(7/416)


والسكوت عن المراد، إلا أن يرد ذلك عن الصادق فيصار إليه، نقله الحافظ في الفتح، وقال: من الدليل على ذلك اتفاقهم على أن التأويل المعين غير واجب، فحينئذ التفويض أسلم هذا، وقد أطال الكلام في مسألة النزول وأشباهها من أحاديث الصفات الأئمة المتقدمون كشيخ الإسلام والمسلمين الإمام ابن تيمية وتلميذيه الإمام ابن القيم والحافظ الذهبي وغيرهم، فعليك أن ترجع إلى ما ألفوا في ذلك من الكتب. (تبارك وتعالى) جملتان معترضتان بين الفعل وظرفه وهو قوله: (كل ليلة) أي في وقت خاص. (إلى السماء الدنيا) وفي حديث أبي الخطاب: رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن الله يهبط من السماء العليا إلى السماء الدنيا – الحديث. أخرجه عبدالله بن أحمد في كتاب السنة بإسناده. (حين يبقى ثلث) بضم لام وسكونه. (الليل) بالجر. (الآخر) بكسر الخاء المعجمة وضم الراء المهملة صفة ثلث، وتخصيصه بالليل وبالثلث الأخير منه، لأنه وقت التهجد وغفلة الناس عمن يتعرض لنفحات رحمة الله تعالى، وعند ذلك تكون النية خالصة، والرغبة إلى الله وافرة. وذلك مظنة القبول والإجابة، ولكن اختلف الروايات في تعيين الوقت على ستة أقوال: الأولى هي التي ههنا، وهي حين يبقى ثلث الليل الآخر، قال الترمذي: هذا أصح الروايات في ذلك. وقال العراقي: أصحها ما صححه الترمذي. وقال الحافظ: ويقوي ذلك أن الروايات المخالفة له اختلف فيها على رواتها. والثانية: حين يمضي الثلث الأول، وهي عند الترمذي ومسلم. والثالثة: حين يبقى نصف الليل الآخر. وفي لفظ: إذا كان شطر الليل. وفي آخر: إذا مضى شطر الليل. الرابعة: ينزل الله تعالى شطر الليل أو ثلث الليل الآخر على الشك أو التنويع. الخامسة: إذا مضى نصف الليل أو ثلث الليل أي الأول. وفي لفظ: إذا ذهب ثلث الليل أو نصفه. والسادسة: الإطلاق ولا تعارض بين رواية من عين الوقت ومن لم يعين، كما هو ظاهر جلي، فالروايات المطلقة تحمل على المقيدة. وأما من

(7/417)


عين الوقت، واختلفت ظواهر رواياتهم، فقد صار بعض العلماء إلى الترجيح كالترمذي على ما تقدم، إلا أنه عبر بالأصح، فلا يقتضي تضعيف غير تلك الرواية. وأما القاضي عياض فعبر في الترجيح بالصحيح، فاقتضى ضعف الرواية الأخرى، ورده النووي بأن مسلما رواها في صحيحه بإسناد لا يطعن فيه عن صحابيين، فكيف يضعفها؟ وإذا أمكن الجمع ولو على وجه فلا يصار إلى التضعيف. قال النووي: ويحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم بأحد الأمرين في وقت فأخبر به، ثم أعلم بالآخر في وقت فأعلم به، وسمع أبوهريرة الخبرين جميعا فنقلهما، وسمع أبوسعيد الخدري خبر الثلث الأول فقط فأخبر به-انتهى. وقال الحافظ: أما الرواية التي بأو، فإن كانت أو للشك فالمجزوم به مقدم على المشكوك فيه، وإن كانت للتردد بين حالين فيجمع بين الروايات بأن ذلك يقع بحسب اختلاف الأحوال، لكون أوقات الليل تختلف في الزمان، وفي الآفاق باختلاف تقدم دخول الليل عند قوم، وتأخره عند قوم. وقال بعضهم : يحتمل أن يكون النزول يقع في الثلث الأول، والقول يقع في النصف وفي الثلث الثاني. وقيل: يحتمل على أن ذلك يقع في
يقول من يدعوني فأستجب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟)) متفق عليه.

(7/418)


جميع الأوقات التي وردت بها الأخبار، ويحمل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم بأحد الأمور في وقت فأخبر به، ثم أعلم به في وقت آخر فأخبر به، فنقل الصحابة ذلك عنه-انتهى كلام الحافظ. وقال القاري: لا تنافي بين الروايات، لأنه يحتمل أن يكون النزول في بعض الليالي هكذا وفي بعضها هكذا، كذا قاله ابن حبان. وقال ابن حجر: ويحتمل أن يتكرر النزول عند الثلث الأول والنصف والثلث الأخير، واختص بزيادة الفضل لحثه على الاستغفار بالأسحار، ولإتفاق الصحيحين على روايته-انتهى. (من يدعوني فاستجب له) بالنصب على جواب الاستفهام، وبالرفع على تقدير مبتدأ، أي فأنا أستجيب له، وكذلك حكم فأعطيه فأغفر له. وقال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج2:ص308): ضبطت هي وما بعدها في النسخة اليونينية من البخاري (ج2:ص53) بالنصب فقط، ولكن قال الحافظ في الفتح: بالنصب على جواب الاستفهام، وبالرفع على الاستئناف. وكذا قوله: فأعطيه وأغفرله. وقد قرئ بهما في قوله تعالى. ?من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له? [245:2] الآية وليست السين في قوله تعالى: فأستجيب للطلب بل أستجيب بمعنى أجيب. (من يسألني فأعطيه) بفتح الياء وضم الهاء وبسكون الياء وكسر الهاء. (من يستغفرني فأغفر له) قيل: الثلاثة المذكورة، وهي الدعاء والسؤال والاستغفار، بمعنى واحد وإن اختلف اللفظ، يعني أن المقصود واحد، واختلاف العبارات لتحقيق القضية وتأكيدها. وقيل: الفرق بين الثلاثة أن المطلوب إما لدفع المضار أو جلب المسار، والثاني إما ديني وإما دنيوي، ففي الاستغفار إشارة إلى الأول، وفي السؤال إشارة إلى الثاني، وفي الدعاء إشارة إلى الثالث. وزاد في رواية عند النسائي: هل من تائب فأتوبه عليه؟ وزاد في رواية عنده أيضا: من ذا الذي يسترزقني فأرزقه؟، من ذا الذي يستكشف الضر فأكشفه عنه. وزاد في رواية: ألا سقيم يستشفي فيشفى؟ ومعانيها داخلة في ما تقدم. (متفق عليه)

(7/419)


وأخرجه أيضا أحمد ومالك والترمذي في الصلاة، وفي الدعوات، وأبوداود في الصلاة، والنسائي في النعوت، وفي اليوم والليلة، وابن ماجه في الصلاة، والبيهقي (ج3:ص2). وفي الباب عن علي بن أبي طالب وأبي سعيد ورفاعة الجهني وجبير بن مطعم وابن مسعود وأبي الدرداء وعثمان بن أبي العاص وجابر بن عبدالله وعبادة بن الصامت وعقبة بن عامر وعمرو بن عبسة وأبي الخطاب وأبي بكر الصديق وأنس بن مالك وأبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل وأبي ثعلبة الخشني وعائشة وابن عباس ونواس بن سمعان وأم سلمة وجد عبدالحميد بن سلمة، سرد أسماءهم العيني في شرح البخاري (ج7:ص197، 198) مع تخريج أحاديثهم، وإنما أشرت إلى كثرة الروايات في ذلك، لأن بعض الناس يستنكفون عن مثل هذا، وينكرون صحة الأحاديث الواردة في هذا الباب؛ لقلة فهمهم وكثرة جهلهم أو لعنادهم، كما تقدم عن الخوارج والمعتزلة، وذكر ابن حبان في كتاب السنة عن أبي زرعة قال: هذه الأحاديث المتواترة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا. قد رواه عدة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
وفي رواية لمسلم: ((ثم يبسط يديه ويقول: من يقرض غير عدوم ولا ظلوم؟ حتى ينفجر الفجر)).
1231- (6) وعن جابر قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن في الليل لساعة ==

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج3.كتاب المزهر في معرفة اللغة للسيوطي الجزء الثالث والاخير{من النوع الحادي والأربعون معرفة آداب اللغوي الي الخاتمة}

  النوع الحادي والأربعون معرفة آداب اللغوي  أول ما يلزمه الإخلاص وتصحيح النية لقوله ﷺ: « الأعمال بالنيات » ثم التحري في الأخذ عن الثقات لق...