7 مرعاة المفاتيح
حديث أبي ذر وغيره، وإليه ذهب
صاحب فيض الباري من الحنفية حيث قال: المختار عندي أن التراويح وصلاة الليل واحد
وإن اختلفت صفتاهما، كعدم المواظبة على التراويح، وأدائها بالجماعة، وأدائها في
أول الليل تارة، وإيصالها إلى السحر أخرى بخلاف التهجد، فإنه كان في آخر الليل،
ولم تكن فيه الجماعة، وجعل اختلاف الصفات دليلا على اختلاف نوعيهما ليس بجيد عندي،
بل كانت تلك صلاة واحدة، إذا تقدمت سميت باسم التراويح، وإذا تأخرت سميت باسم
التهجد، ولا بدع في تسميتها باسمين عند تغاير الوصفين، فإنه لا حجر في التغاير
الاسمي إذا اجتمعت عليه الأمة، وإنما يثبت تغاير النوعين إذا ثبت عن النبي ? أنه
صلى التهجد مع إقامته بالتراويح-انتهى. قلت: لا شك في أن التراويح والتهجد صلاة
واحدة، لكن تخصيص التهجد بكونه في آخر الليل، فيه عندي كلام، نعم أكثر صلاته ?
بالليل كانت في آخره.
1303- قوله: (اتخذ) أي في رمضان. (حجرة) بالراء. قال الحافظ: كذا للأكثر بالراء،
ولأبي ذر عن الكشمهيني: بالزاي أي شيئا حاجزا، يعني مانعا بينه وبين الناس. (في
المسجد) أي في مسجد المدينة
من حصير، فصلى فيها ليالي، حتى اجتمع عليه ناس، ثم فقدوا صوته ليلة، وظنوا أنه قد
نام،
فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم، فقال:
(6/80)
(من حصير) أي موضعا من المسجد بحصيرة ليستره، يعني جعل الحصير كالحجرة ليصلي فيه التطوع، ولا يمر بين يديه مار ليتوفر خشوعه ويتفرغ قلبه، وفيه جواز مثل هذا إذا لم يكن فيه تضييق على المصلين ونحوهم ولم يتخذه دائما؛ لأن النبي ? كان يحتجره بالليل يصلي فيه، ويبسطه بالنهار فيجلس عليه، كما في رواية عائشة عند الشيخين. (فصلى فيها) أي في تلك الحجرة. (ليالي) أي من رمضان. (حتى اجتمع) قال القاري: أي فكان يخرج عليه الصلاة والسلام منها، ويصلي بالجماعة في الفرائض والتراويح حتى اجتمع. (عليه ناس) أي وكثروا، وقول ابن حجر ههنا: فأتموا به موهم أن الإقتداء وقع به، وهو في داخل الحجرة، وهو محل بحث، ويحتاج إلى نقل صحيح- انتهى كلام القاري. قلت: ظاهر الحديث أنهم اقتدوا بالنبي ?، وهو في داخل الحجرة، ويؤيده رواية البخاري في الأدب بلفظ: فخرج رسول الله ? يصلي فيها قال: فتتبع إليه رجال. (أي طلبوا موضعه واجتمعوا عليه) وجاءوا يصلون بصلاته الخ. ويؤيده أيضا حديث عائشة عند البخاري قالت: كان رسول الله ? يصلي من الليل في حجرته. (أي التي اتخذها من حصير) وجدار الحجرة قصيرة فرأى الناس شخص النبي ? فقام أناس يصلون بصلاته- الحديث. وقيل: هذه قصة أخرى غير ما وقع في حديث زيد بن ثابت، والله أعلم. واستشكل صلاته ? في المسجد؛ لأنه يلزم منه أن يكون تاركا للأفضل الذي أمر به الناس به حيث قال: فصلوا في بيوتكم الخ. وأجيب عنه بوجوه: منها أن هذه الصلاة مما استثني عنه؛ لأن الأفضل عند الجمهور في صلاة التراويح المسجد، كما سيأتي. ومنها أنه ?كان إذ ذاك معتكفا، ومن المعلوم أن المعتكف لا يصلي إلا في المسجد. ومنها أنه إذا احتجر صار كأنه بيت بخصوصية. ومنها أن السبب في كون صلاة التطوع في البيت أفضل عدم شوبه بالرياء غالبا، والنبي ? منزه عن الرياء في بيته وفي غير بيته. (ثم فقدوا صوته) أي حسه. (ليلة) بأن دخل الحجرة بعد ما صلى بهم الفريضة ولم
(6/81)
يخرج إليهم بعد ساعة للتراويح،
قاله القاري، وفيه ما تقدم. (فجعل بعضهم يتنحنح) فيه دليل لما أعتيد في بعض
النواحي من التنحنح إشارة إلى الاستئذان في دخوله، أو إلى الإعلام بوجود المتنحنح
بالباب أو بطلبه خروج من قصده إليه. (ليخرج) أي النبي ? من الحجرة. (إليهم) لصلاة
التراويح بعد أن دخل فيها، كما في الليالي الماضية، قاله القاري. (فقال) أي فخرج
فقال، ففي رواية البخاري في الأدب: ثم جاءوا ليلة فحضروا وابطأ رسول الله ? عنهم،
فلم يخرج إليهم فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم مغضبا، وقوله: حصبوا
الباب يدل بظاهره على أنه دخل بيتا من بيوت أزواجه بعد ما صلى بهم الفريضة
ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم، حتى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما
قمتم به، فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة
المكتوبة)).
(6/82)
فلم يخرج منه إلى الحجرة التي كان احتجرها في المسجد بالحصير، فحصبوا باب بيته ليخرج منه إلى حجرة الحصير فيصلوا بصلاته من ورائها. (ما زال بكم) أي متلبسا كم. (الذي رأيت) بكم خبر زال قدم على الاسم، وهو الموصول بصلته، أي أبدا ثبت بكم الذي رأيت. (من صنيعكم) قال الحافظ: كذا للأكثر، وللكشمهيني بضم الصاد وسكون النون، أي من شدة حرصكم على إقامة صلاة التراويح بالجماعة، حتى رفعتم أصواتكم وحصب بعضكم الباب وتنحنح بعضكم. (حتى خشيت أن يكتب) أي يفرض (عليكم) أي لو واظبت على إقامتها بالجماعة لفرضت عليكم. (ولو كتب عليكم) ذلك (ما قمتم به) ولم تطيقوه بالجماعة كلكم بعجزكم. قال القاري: فيه دليل على أن التراويح سنة جماعة وانفرادا، والأفضل في عهدنا الجماعة لكسل الناس. وقد استشكلت هذه الخشية مع ما ثبت في حديث الإسراء من أن الله تعالى قال: هن خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي، فإذا أمن التبديل فكيف يقع الخوف من الزيادة؟ وقد أجيب عنه بأجوبة ذكرها الحافظ في الفتح عن الشراح، وتكلم في كل واحد منها، ثم قال: وقد فتح الباري بثلاثة أجوبة أخرى: أحدها يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام الليل بمعنى جعل التهجد في المسجد جماعة شرطا في صحة التنفل بالليل، ويومئ إليه قوله في حديث زيد بن ثابت: حتى خشيت أن يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فمنعهم من التجميع في المسجد إشفاقا عليهم من اشتراطه وأمن مع أذنه في المواظبة على ذلك في بيوتهم من افتراضه عليهم. ثانيها: يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام الليل على الكفاية لا على الأعيان، فلا يكون زائدا على الخمس، بل هو نظير ما ذهب إليه قوم في العيد ونحوها. ثالثها: يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام رمضان خاصة، فقد وقع في حديث الباب. (أي حديث عائشة) إن ذلك كان في رمضان، وفي رواية سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة عن عائشة عند أحمد: خشيت أن يفرض عليكم قيام
(6/83)
هذا الشهر، فعلى هذا يرتفع
الإشكال؛ لأن قيام رمضان لا يتكرر كل يوم في السنة، فلا يكون ذلك قدرا زائدا على
الخمس، وأقوى هذه الأجوبة الثلاثة في نظري الأول-انتهى كلام الحافظ. (فصلوا أيها
الناس في بيوتكم) أي النوافل التي لم تشرع فيها الجماعة والتي لا تخص المسجد،
والأمر للاستحباب. (فإن أفضل صلاة المرء) هذا عام لجميع النوافل والسنن إلا
النوافل التي من شعار الإسلام كالعيد والكسوف والاستسقاء. قاله القاري. وقال بعض
الأئمة الشافعية: هو محمول على ما لا يشرع فيه التجميع، وكذا ما لا يخص المسجد
كركعتي التحية. (في بيته) خبر إن أي صلاته في بيته. (إلا الصلاة المكتوبة) أي
المفروضة. قال النووي:
متفق عليه.
1304-(2) وعن أبي هريرة قال: ((كان رسول الله ? يرغب في قيام رمضان من غير أن
يأمرهم فيه بعزيمة فيقول: من قام رمضان إيمانا واحتسابا،
(6/84)
إنما حث على النافلة في البيت، لكونه أخفى وأبعد من الرياء، وليتبرك البيت بذلك فتنزل فيه الرحمة وينفر منه الشيطان. قلت: والحديث يدل على أن صلاة التراويح في البيت أفضل؛ لأنه ورد في صلاة رمضان في مسجده ?، فإذا كان صلاة رمضان في البيت أفضل منها في مسجده ? فكيف غيرها في مسجد آخر؟ وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن صلاة رمضان أي التراويح في المسجد أفضل، وهذا يخالف هذا الحديث؛ لأن مورده صلاة رمضان. وأجيب عنهم بأن رسول الله ? قال ذلك لخشية الافتراض، فإذا زالت الخشية بوفاته ? ارتفعت العلة المانعة، وصار أداءها في المسجد أفضل، كما أداها ? في المسجد عدة ليال، ثم أجراها عمر بن الخطاب واستمر عليها عمل المسلمين إلى يومنا هذا؛ لأنه من الشعائر الظاهرة للإسلام فأشبه صلاة العيد، وأجاب السندي بأنه يقال: صار أفضل حين صار أداءها في المسجد من شعار الإسلام، والله تعالى أعلم. وفي الحديث ندب قيام رمضان جماعة؛ لأن الخشية المذكورة أمنت بعد النبي ?، ولذلك جمعهم عمر بن الخطاب على أبي بن كعب، كما سيأتي. وفيه أن الكبير إذا فعل شيئا خلاف ما اعتاده أتباعه ينبغي أن يذكر لهم عذره وحكمه والحكمة فيه. وفيه ما كان النبي ? عليه من الشفقة على أمته والرأفة بهم. وفيه ترك بعض المصالح لخوف المفسدة وتقديم أهم المصلحتين. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة والأدب والاعتصام، ومسلم في الصلاة، واللفظ للبخاري في الاعتصام. وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي والبيهقي (ج2 ص494).
(6/85)
1304- قوله: (يرغب) أي الناس،
وهو بضم الياء وفتح الراء وكسر الغين المعجمة المشددة من الترغيب. (في قيام رمضان)
أي يحضهم على قيام لياليه، مصليا أي صلاة التراويح، كما قاله النووي. (من غير أن
يأمرهم فيه بعزيمة) أي بعزم وقطع وبت، يعني بفريضة، وفيه التصريح بعدم وجوب
القيام. قال النووي: معناه لا يأمرهم أمر إيجاب وتحتيم بل أمر ندب وترغيب، ثم فسره
بقوله فيقول الخ. وهذه الصيغة تقتضي الندب والترغيب دون الإيجاب، واجتمعت الأمة
على أن قيام رمضان ليس بواجب بل هو مندوب. (من قام رمضان) أي قام لياليه مصليا
يعني صلى التراويح، وقيل: المراد ما يحصل به مطلق القيام. (إيمانا أي تصديقا بوعد
الله عليه بالثواب. (واحتسابا) أي طلبه للأجر والثواب من غير رياء وسمعة،
غفر له ما تقدم من ذنبه، فتوفي رسول الله ? على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في
خلافة
أبي بكر، وصدرا من خلافة عمر على ذلك)).
(6/86)
فنصبهما على المفعول له. وقيل: على الحال مصدران بمعنى الوصف أي مؤمنا بالله ومصدقا بأن هذا القيام حق وتقرب إليه معتقدا فضيلته ومحتسيا بما فعله عند الله أجرا، مريدا به وجه الله، لا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص. وقيل: منصوبان على التمييز، يقال: فلان يحتسب الإخبار أي يتطلبها، ويقال: احتسب بالشيء أي اعتد به. (غفر له ما تقدم من ذنبه) أي من الصغائر من حقوق الله. وقال الحافظ: ظاهره يتناول الصغائر والكبائر، وبه جزم ابن المنذر. وقال النووي: المعروف عند الفقهاء أنه يختص بالصغائر، وبه جزم إمام الحرمين، وعزاه عياض لأهل السنة. قال بعضهم: ويجوز أن يخفف من الكبائر إذا لم يصادف صغيرة- انتهى. وزاد أحمد وغيره وما تأخر. وقال الحافظ: وقد ورد في غفران ما تقدم وما تأخر من الذنوب عدة أحاديث جمعتها في كتاب مفرد، وقد استشكلت هذه الزيادة من حيث أن المغفرة تستدعي سبق شيء يغفر، والمتأخر من الذنوب لم يأت فكيف يغفر، والجواب عنه أنه كناية عن عدم الوقوع يعني يحفظهم الله في المستقبل عن الكبائر فلا تقع منهم كبيرة، وقيل: معناه أن ذنوبهم تقع مغفورة، وبهذا أجاب جماعة منهم الماوردي في الكلام على حديث صيام عرفة، وأنه يكفر سنتين سنة ماضية وسنة آتية. (فتوفى رسول الله ?) كذا وقع مدرجا في نفس الخبر عند مسلم والترمذي وأبي داود، وهو قول الزهري صرح به مالك في الموطأ والبخاري في صحيحة ومحمد بن نصر في قيام الليل من رواية مالك. قال الباجي: وهذا مرسل أرسله الزهري وأدرجه معمر في نفس الحديث. أخرجه مسلم والترمذي وأبوداود من طريق معمر عن ابن شهاب. (والأمر على ذلك) أي على ترك اهتمام الجماعة الواحدة في صلاة التراويح، يعني كانوا يصلون أوزاعا متفرقين يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، ويصلي بعضهم في أول الليل، وبعضهم في آخره ويصلي بعضهم في بيته وبعضهم في المسجد، إما لكونهم معتكفين أو؛ لأنهم من
(6/87)
أهل الصفة أو لغير ذلك. (ثم
كان الأمر) أي أمر صلاة التراويح. (على ذلك) أي على وفق ما كان زمانه ? في خلافة
أبي بكر أي في جميع زمانها. (وصدرا) بالنصب عطفا على خبر كان. (من خلافة عمر) أي
في أول خلافته، وصدر الشيء وجهه وأوله. (على ذلك) أي ما ذكر، ثم جمعهم عمر على
قاري في المسجد واهتم بالجماعة الواحدة، قيل: المراد بصدر من خلافته السنة الأولى
من خلافته؛ لأن بدء خلافته في أخرى الجمادين سنة ثلاث عشرة، واستقر أمر التراويح
سنة أربع عشرة من الهجرة في السنة الثانية من خلافته، كما ذكره السيوطي وابن
الأثير وابن سعد. قال الباجي: وإنما أمضاه أبوبكر على ما كان في زمنه ? وإن كان قد
علم أن
رواه مسلم.
1305-(3) وعن جابر، قال: قال رسول الله ? : ((إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده،
فليجعل لبيته نصيبا من صلاته، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرا)).
(6/88)
الشرائع لا تفرض بعد النبي ? لأحد وجهين: إما لأنه شغل بأمر أهل الردة وغير ذلك من مهمات الأمور، ولم يتفرغ للنظر في جميع أمور المسلمين مع قصر مدة خلافته، أو لأنه رأى من قيام الناس في آخر الليل وقوتهم عليه ما كان أفضل عنده من جمعهم على إمام واحد في أول الليل، ثم رأى عمر أن يجمعهم على إمام واحد-انتهى مختصرا. والحديث يدل على فضيلة قيام رمضان وتأكد استحبابه، واستدل به أيضا على استحباب صلاة التراويح؛ لأن القيام المذكور في الحديث المراد به صلاة التراويح، كما تقدم عن النووي والكرماني. قال النووي: واتفق العلماء على استحبابها، قال: واختلفوا في أن الأفضل صلاتها في بيته منفردا أم في جماعة في المسجد، فقال الشافعي: وجمهور أصحابه وأبوحنيفة وأحمد وبعض المالكية وغيرهم: أن الأفضل صلاتها جماعة في المسجد، كما فعله عمر بن الخطاب والصحابة رضي الله عنهم، واستمر عمل المسلمين عليه؛ لأنه من الشعائر الظاهرة فأشبه صلاة العيد، وبالغ الطحاوي فقال: إن صلاة التراويح في الجماعة واجبة على الكفاية. وقال مالك وأبويوسف وبعض الشافعية وغيرهم: الأفضل فرادى في البيت لحديث زيد بن ثابت المتقدم بلفظ: صلوا في بيوتكم الخ. وقد تقدم الجواب عنه. وقال الحافظ: عند الشافعية في أصل المسألة ثلاثة أوجه، ثالثها: من كان يحفظ القرآن ولا يخاف من الكسل ولا تختل الجماعة في المسجد بتخلفه فصلاته في الجماعة والبيت سواء، فمن فقد بعض ذلك فصلاته في الجماعة أفضل- انتهى. قلت: وهذا هو الراجح عندي، والله تعالى أعلم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد ومالك والبخاري والترمذي وأبوداود ومحمد بن نصر والبيهقي (ج2 ص492). لكن ليس عند البخاري قوله: كان يرغب في قيام رمضان إلى قوله بعزيمة وأخرجه النسائي وابن ماجه مختصرا.
(6/89)
1305- قوله: (إذا قضى أحدكم
الصلاة) أي أداها "وال" للعهد أي المكتوبة. (في مسجده) يعني أدى الفرض
في محل الجماعة، ويحتمل أن المراد مطلق الصلاة التي يريد أن يصليها في المسجد. قال
السندي: يحتمل أن المراد بالصلاة جميع ما يريد أن يصلي من الفرائض والنوافل،
والمعنى إذا أراد أن يقضي ويؤدي تلك الصلاة. (فليجعل لبيته نصيبا من صلاته) أي
فليصل شيئا منها في البيت، "فمن" تبعيضية، ويحتمل أن المراد بها
الفرائض، والمعنى إذا فرغ من الفرائض في المسجد فليجعل نصيبا منه في البيت يجعل
سنته ومتعلقاته فيه، ومن سببية. (فإن الله تعالى جاعل) أي خالق أو مصير. (في بيته
من صلاته) أي من أجلها. (خيرا) يعود على أهله
رواه مسلم.
?الفصل الثاني?
1306-(4) عن أبي ذر، قال: ((صمنا مع رسول الله ? فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى
بقي سبع، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، فلما كانت السادسة لم يقم بنا، فلما كانت
الخامسة قام بنا، حتى ذهب شطر الليل،
بتوفيقهم وهدايتهم ونزول البركة في أرزاقهم وأعمارهم. قال العلقمي: من سببية بمعنى
من أجل، والخير الذي يجعل في البيت بسبب التنفل فيه هو عمارته بذكر الله تعالى
وطاعته، وحضور الملائكة واستغفارهم ودعاؤهم، وما يحصل لأهله من الثواب والبركة،
وتستثنى التراويح لما تقدم من فعله عليه السلام ولما تقرر عليه عمل الصحابة بعده،
فيراد المصنف هذا الحديث في هذا الباب تبعا للبغوي موهم، كما لا يخفى. (رواه مسلم)
وكذا أحمد (ج3 ص316) والبيهقي (ج2 ص189) كلهم من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن أبي
سفيان عن جابر، وأخرجه ابن ماجه والبيهقي أيضا من حديث أبي سعيد كلاهما من طريق
سفيان عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن أبي سعيد الخدري. قال البوصيري في
الزوائد: رجاله ثقات. وأخرجه أيضا ابن خزيمة في صحيحة من حديث أبي سعيد، كما في
الترغيب، وأخرجه الدارقطني في الإفراد عن أنس.
(6/90)
1306- قوله: (صمنا مع رسول
الله ?) أي في رمضان، كما في رواية أبي داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي. (فلم
يقم بنا) أي في لياليه يعني لم يصل لنا التراويح. (شيئا من الشهر) بل كان إذا صلى
الفرض دخل حجرته. (حتى بقي سبع) أي من الشهر، كما في الترمذي والنسائي أي ومضى
اثنان وعشرون. قال الطيبي: أي سبع ليال نظرا إلى المتيقن، وهو أن الشهر تسع
وعشرون، فيكون القيام في قوله: (فقام بنا) ليلة الثالثة والعشرين، وهو مصرح في بعض
روايات أحمد، وصرح أيضا بذلك في حديث النعمان بن بشير عند النسائي. ولفظ ابن ماجه:
فقام بنا ليلة السابعة. قال السندي: وهي الأولى من الباقية، ودأب العرب أنهم
يحسبون الشهر من الآخر، وهذا القيام لم يعلم كيف كان، وفسره كثير من العلماء
بالتراويح- انتهى. ورواه البيهقي بلفظ: فلم يقم بنا من الشهر شيئا حتى كانت ليلة
ثلاث وعشرين قام بنا حتى ذهب نحو من ثلث الليل. (حتى ذهب ثلث الليل) قال شيخنا:
المراد بالقيام صلاة الليل، والمعنى صلى بنا بالجماعة صلاة الليل إلى ثلث الليل،
وفيه ثبوت صلاة التراويح بالجماعة في المسجد أول الليل- انتهى كلام الشيخ. وهذا
يدل على أن المراد عنده بقيام ليالي رمضان صلاة التراويح، كما ذهب إليه كثير من
العلماء، وادعى الكرماني الاتفاق عليه. (فلما كانت السادسة) أي مما بقي وهي الليلة
الربعة والعشرون. (فلما كانت الخامسة) وهي الليلة الخامسة والعشرون. (حتى ذهب شطر
الليل) أي نصفه
فقلت: يا رسول الله ! لو نفلتنا قيام هذه الليلة؟ فقال: إن الرجل إذا صلى مع
الإمام حتى
ينصرف، حسب له قيام الليلة. فلما كانت الرابعة لم يقم بنا حتى بقي ثلث الليل،
(6/91)
(لو نفلتنا) بتشديد الفاء من التنفيل. (قيام هذه الليلة) وفي رواية الترمذي والنسائي وابن ماجه بقية ليلتنا هذه، أي لو أعطيتنا قيام بقية الليل وزدتنا إياه كان أحسن وأولى، ويحتمل أن كلمة "لو" للتمني فلا جواب لها. وقال القاري: أي لو جعلت الليل زيادة لنا على قيام الشطر. وفي النهاية: لو زدتنا من الصلاة النافلة، سميت بها النوافل؛ لأنها زائدة على الفرض. قال المظهر: تقديره لو زدت قيام الليل على نصفه لكان خيرا لنا. (إن الرجل) أي جنسه. (إذا صلى) أي الفرض. (مع الإمام) أي وتابعه. (حتى ينصرف) أي الإمام. (حسب) على البناء للمفعول أي عد واعتبر (له) وفي رواية النسائي: كتب الله له. (قيام ليلة) قال القاري: أي حصل له ثواب قيام ليلة تامة، يعني الأجر حاصل بالفرض، وزيادة النوافل مبنية على قدر النشاط؛ لأن الله لا يمل حتى تملوا. والظاهر أن المراد بالفرض العشاء والصبح لحديث ورد بذلك يعني عثمان المتقدم في باب فضائل الصلاة بلفظ: من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله. أخرجه مسلم وغيره. وقيل: المراد بالصلاة في قوله: إذا صلى مع الإمام صلاة التراويح، والمعنى: (إن الرجل إذا صلى) أي التراويح في أول الليل في رمضان. (مع الإمام حتى ينصرف) أي يفرغ الإمام من الصلاة ويرجع. (حسب له قيام ليلة) أي كاملة، وعلى هذا يكون دليلا للجمهور على أن صلاة التراويح مع الإمام أفضل من الانفراد، وأجاب من خالفهم بأنه يجوز أن يكتب له بالقيام مع الإمام بعض الليل قيام كله، وأن يكون قيامه في بيته أفضل من ذلك، ولا منافاة بين الأمرين. وأما حديث عثمان الذي أشار إليه القاري، فيقال في معناه: أن من صلى فريضة العشاء والصبح مع الإمام أي بالجماعة يكون له ثواب ليلة كاملة ثواب صلاة الفرض، ويقال ههنا أنه إذا صلى التراويح مع الإمام حتى ينصرف يحصل له ثواب ليلة كاملة ثواب صلاة النفل. قيل: ويؤيد ذلك
(6/92)
رواية الترمذي والنسائي وابن
ماجه بلفظ: "من قام مع الإمام" بدل "إذا صلى مع الإمام"، فإن
لفظ القيام ظاهر في معنى صلاة الليل أي التراويح، ويؤيده أيضا أن أبا ذر سأله ? أن
ينفل بقية الليلة، وهذا يقتضي أن يجيب بأنه لا يحتاج إلى قيام بقية الليلة؛ لأن
ثواب الليلة التامة قد حصل بالقدر الذي قام بهم، ويؤيده أيضا أن قوله: "حتى
ينصرف" فإنه يشير إلى أن الانصراف قبل أن ينصرف الإمام من جميع صلاته ممكن،
ومن المعلوم أن الانصراف في الفرض في أثناء الصلاة غير ممكن؛ لأنه لا يحصل إلا بعد
ما ينصرف الإمام، بخلاف التراويح فإن الانصراف فيها قبل انصراف الإمام ممكن؛ لأنها
شفعات متعددة فيمكن أن ينصرف الرجل قبل أن يفرغ الإمام من جميع صلاة التراويح.
(فلما كانت الرابعة) أي من الباقية، وهي السادسة والعشرون. (لم يقم بنا حتى بقي
ثلث الليل)
فلما كانت الثالثة، جمع أهله ونساءه والناس، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح.
قلت: وما
الفلاح؟ قال: السحور. ثم لم يقم بنا بقية الشهر)). رواه أبوداود، والترمذي،
والنسائي.
(6/93)
كذا في جميع النسخ الموجودة، ولم يظهر لي معناه، ولفظ أبي داود ثم على قوله لم يقم أي ليس عنده "بنا حتى بقي ثلث الليل" ولفظ النسائي ثم لم يصل بنا ولم يقم بنا حتى بقي ثلث من الشهر. ولفظ الترمذي: ثم لم يصل بنا حتى بقي ثلث من الشهر، وذكره الجزري في جامع الأصول (ج7 ص82) بلفظ: ثم لم يقم بنا حتى بقي ثلث من الشهر. وذكره البغوي في المصابيح بلفظ: فلما كانت الرابعة لم يقم بنا حتى بقي ثلاث. والظاهر أن البغوي أخذ قوله "فلما كانت الرابعة لم يقم" من أبي داود، وأخذ قوله "بنا حتى بقي ثلاث" من الترمذي والنسائي وأسقط لفظ: من الشهر، فسياق البغوي مجموع ما في أبي داود والنسائي والترمذي. والمراد بقوله: ثلاث أي ثلاث من الشهر، كما هو مصرح عند الترمذي والنسائي. وأما ما وقع في المشكاة من قوله: ثلث الليل فهو خطأ بلا شبهة، والعجب أنه لم يتنبه لذلك أحد من الشراح. ولفظ ابن ماجه: ثم كانت الرابعة التي تليها فلم يقمها حتى كانت الثالثة التي تليها. (فلما كانت الثالثة) أي من الباقية وهي الليلة السابعة والعشرون (جمع أهله ونساءه) فيه استحباب ندب الأهل إلى فعل الطاعات وإن كانت غير واجبة، وفيه تأكد مشروعية القيام في الإفراد من ليالي العشر الآخرة من رمضان؛ لأنها مظنة الظفر بليلة القدر، واهتم ? في السابعة والعشرين بجمع أهله وغيرهم؛ لأنها أرجاها. (حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح) قال في القاموس: الفلاح الفوز والنجاة والبقاء في الخير والسحور. (قلت) قائله جبير بن نفير الراوي عن أبي ذر. (وما الفلاح قال) أي أبوذر. (السحور) أي المراد بالفلاح السحور، وهو بفتح السين ما يتسحر به من الطعام والشراب، أي ما يوكل وقت السحر، وهو بفتحتين آخر الليل قبيل الصبح، وبالضم المصدر والفعل نفسه. قال القاضي: الفلاح الفوز بالبغية، سمي السحور به؛ لأنه يعين على إتمام الصوم، وهو الفوز بما قصده ونواه والموجب للفلاح في الآخرة. وقال الخطابي: أصل الفلاح
(6/94)
البقاء، وسمي السحور فلاحا
لكونه سببا لبقاء الصوم ومعينا عليه، ومن ذلك حي على الفلاح أي العمل الذي يخلدكم
في الجنة، فهو من تسمية السبب باسم المسبب. وقيل: سمي به لأنه معين على إتمام الصوم
المفضي إلى الفلاح، وهو الفوز بالزلفى والبقاء في العقبى. (ثم لم يقم بنا بقيه
الشهر) أي في الثامنة والعشرين والتاسعة والعشرين، وحديث أبي ذر هذا يخالف ما روته
عائشة من قيامه ? في ليالي رمضان بالجماعة في المسجد عند الشيخين وغيرهما، فإن
ظاهره يدل على أن صلاته ? بالجماعة كانت في الليالي الموصولة، وفي حديث أبي ذر
تصريح بأن صلاته كانت في الليالي المفصولة، أي في الأوتار فقط، فأما أن يحمل على
تعدد القصة أو يقال بأنه ليس في حديث عائشة ذكر الوصل صريحا، فيحمل على الفصل،
كحديث أبي ذر. (رواه أبوداود ) واللفظ له إلا قوله: بنا حتى بقي ثلث الليل.
(والترمذي والنسائي)
وروى ابن ماجه نحوه، إلا أن الترمذي لم يذكر: ثم لم يقم بنا بقية الشهر.
(6/95)
وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص159و 163و 172و 180) والحاكم ومحمد بن نصر (ص89) والبيهقي (ج2 ص494). والحديث صححه الترمذي والحاكم، وسكت عنه أبوداود ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. (وروى ابن ماجه نحوه) أي بمعناه. (إلا أن الترمذي لم يذكر: ثم لم يقم بنا بقية الشهر) وكذا لم يذكره النسائي. تنبيه اعلم أنه لم يرو في حديث أبي ذر هذا بيان عدد الركعات التي صلاها رسول الله ? في تلك الليالي، لكن قد ورد بيانه في حديث جابر بن عبدالله قال: صلى بنا رسول الله ? في شهر رمضان ثمان ركعات وأوتر- الحديث. أخرجه الطبراني في الصغير، وأبويعلى ومحمد بن نصر في قيام الليل، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. قال الذهبي في الميزان (ج2 ص311) بعد ذكر هذا الحديث إسناده وسط- انتهى. وذكر الحافظ: هذا الحديث في الفتح في شرح عائشة الذي أشرنا إليه لبيان عدد الركعات التي صلاها النبي ? في شهر رمضان بالجماعة، فهو صحيح عنده أو حسن، لما ذكر في المقدمة أنه يسوق الباب وحديثه أولا، ثم يذكر وجه المناسبة بينهما إن كانت خفية، ثم يستخرج ثانيا ما يتعلق به غرض صحيح في ذلك الحديث من الفوائد المتنية والإسنادية من تتمات وزيادات، وكشف غامض وتصريح مدلس بسماع ومتابعة سامع من شيخ اختلط قبل ذلك، كل ذلك من أمهات المسانيد والجوامع والمستخرجات والأجزاء والفوائد بشرط الصحة أو الحسن فيما يورده من ذلك، وذكره أيضا في التلخيص لبيان عدد تلك الركعات، وسكت عنه ولم يتكلم فيه، وذكره أيضا العيني في شرح البخاري لبيان عدد ركعاته ? في قيامه بالناس في ليالي رمضان نقلا عن صحيحي ابن خزيمة وابن حبان، ولم يتكلم فيه. فإن قلت قال النيموني في آثار السنن بعد ذكر حديث جابر المذكور: في إسناده لين، وقال في تعليقه مداره على عيسى بن جارية، ثم ذكر جرح ابن معين وأبي داود والنسائي وتوثيق أبي زرعة وابن حبان، ثم قال قول الذهبي: إسناده وسط ليس بصواب، بل اسناده دون وسط –
(6/96)
انتهى. قلت: قال الحافظ في شرح النخبة: الذهبي من أهل الاستقرار التام في نقد الرجال- انتهى. فلما حكم الذهبي بأن إسناده وسط بعد ذكر الجرح والتعديل في عيسى بن جارية، وهو من أهل الاستقرار التام في نقد الرجال، فحكمه بأن إسناده وسط هو الصواب. ويؤيده إخراج ابن خزيمة وابن حبان هذا الحديث في صحيحيهما، فلا يلتفت إلى قول النيموني، ويشهد لحديث جابر هذا حديث أبي سلمة بن عبدالرحمن أنه سأل عائشة: كيف كان صلاة رسول الله ? في رمضان؟ فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي
(6/97)
ثلاثا- الحديث. أخرجه الشيخان وغيرهما، فهذا الحديث نص في أنه ? إنما صلى التراويح في رمضان ثمان ركعات فقط، ولم يصل بأكثر منها. قال في العرف الشذى (ص201): هذه الرواية رواية الصحيحين، وفي الصحاح صلاة تراويحة عليه السلام ثمان ركعات. وفي السنن الكبرى وغيره بسند ضعيف من جانب أبي شيبة فإنه ضعيفة اتفاقا: عشرون ركعة، وقال في (ص329، 330): ثم أن حديث: يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، فيه تصريح أنه حال رمضان، فإن السائل سأل عن حال رمضان وغيره، كما عند الترمذي ومسلم، ولا مناص من تسليم أن تراويحه عليه السلام كانت ثمانية ركعات، ولم يثبت في رواية من الروايات أنه عليه السلام صلى التراويح والتهجد على حدة في رمضان، بل طول التراويح، وبين التراويح والتهجد في عهده عليه السلام لم يكن فرق في الركعات، بل في الوقت والصفة أي التراويح تكون بالجماعة في المسجد بخلاف التهجد، وأن الشروع في التراويح يكون في أول الليل، وفي التهجد في آخر الليل، ثم مأخوذ الأئمة الأربعة من عشرين ركعة هو عمل الفاروق الأعظم. وأما النبي ? فصح عنه ثمان ركعات، وأما عشرون ركعة، فهو عنه عليه السلام بسند ضعيف، وعلى ضعفه إتفاق- انتهى. فإن قلت قد ثبت في الصحيح من حديث عائشة: أنه ? كان إذا دخل العشر الأواخر يجتهد مالا يجتهد في غيره، وفي الصحيح أيضا من حديثها كان إذا دخل العشر أحيى الليل وأيقظ أخله وجد وشد ميزره، وهذا يدل على أنه كان يزيد في العشر الأواخر على عادته، وهو مخالف لحديث أبي سلمة عن عائشة المذكور. قلت: المراد بالاجتهاد تطويل الركعات لا الزيادة في العدد. قال العيني: إن الزيادة في العشر الأواخر يحمل على التطويل دون الزيادة في العدد- انتهى. وأما ما روى ابن أبي شيبة في مصنفه والطبراني في الكبير والأوسط والبيهقي (ج2 ص496) عن ابن عباس أن النبي ? كان يصلي في رمضان عشرين ركعة سوى الوتر، فهو ضعيف جدا لا يصلح للاستدلال ولا
(6/98)
للاستشهاد ولا للاعتبار، فإن مداره على أبي شيبة إبراهيم بن عثمان، وهو متروك الحديث، كما في التقريب. قال الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص153): هو معلول بأبي شيبة إبراهيم بن عثمان، وهو متفق على ضعفه، ولينه ابن عدي في الكامل، ثم إنه مخالف للحديث الصحيح عن أبي سلمة بن عبدالرحمن أنه سأل عائشة: كيف كانت صلاة رسول الله ? في رمضان قالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة- الحديث. انتهى كلام الزيلعي. وقال ابن الهمام في فتح القدير بعد ذكر هذا الحديث: هو ضعيف بأبي شيبة إبراهيم بن عثمان متفق على ضعفه مع مخالفته للصحيح. وقال العيني في شرح البخاري (ج11 ص128) بعد ذكر هذا الحديث: وأبوشيبة هو إبراهيم بن عثمان العبسي الكوفي، قاضي واسط، جد أبي بكر أبي شيبة، كذبه
(6/99)
شعبة، وضعفه أحمد وابن معين والبخاري والنسائي وغيرهم، وأورد له ابن عدي هذا الحديث في الكامل في مناكيره- انتهى. وقال البيهقي (ج2 ص496) بعد روايته: تفرد به أبوشيبة إبراهيم بن عثمان العبسي الكوفي، وهو ضعيف- انتهى. وقال النيموني في تعليق آثار السنن (ج2 ص56): وقد أخرجه عبد بن حميد الكشي في مسنده، والبغوي في معجمه، والبيهقي في سننه، كلهم من طريق أبي شيبة إبراهيم بن عثمان وهو ضعيف، ثم نقل كلام البيهقي المذكور، وجروح أئمة الجرح والتعديل عن التهذيب والميزان والتقريب. وقال الزرقاني في شرح الموطأ: حديث ابن عباس في عشرين ركعة حديث ضعيف. وهذا كله يدل على أن حديث ابن عباس هذا ضعيف جدا عند جميع العلماء الحنفية والشافعية والمالكية وغيرهم، ومع ذلك قد تفوه بعض الحنفية في هذا العصر بأن رواية ابن عباس إذ هي مؤيدة بآثار الصحابة أولى من رواية جابر. (المتقدمة) وإن كان فيها بعض الضعف، فإن جمهور الصحابة متفقة على صلاة التراويح بعشرين ركعة- انتهى. قلت: قد تقدم أن حديث ابن عباس ضعيف جدا، قد أطبق الأئمة على ضعفه، ومع هذا فهو مخالف لحديث عائشة المتفق عليه بخلاف حديث جابر فإنه صحيح أو حسن، ولم يضعفه أحد ممن يعتمد عليه، وله شاهد صحيح، وهو حديث عائشة، فهو أولى بالقبول وأحق بالعمل. وأما دعوى تأيد حديث ابن عباس بعمل جمهور الصحابة فهي مردودة بما سيأتي من حديث السائب بن يزيد قال: أمر عمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وبما روى سعيد بن منصور في سننه عن السائب بن يزيد قال: كنا نقوم في زمن عمر بن الخطاب بإحدى عشرة ركعة. قال السيوطي: هذا الأثر إسناده في غاية الصحة، هذا وقد حاول بعضهم إثبات صحة حديث ابن عباس حيث قال في تعليقه على المشكاة: حديث ابن عباس في عشرين ركعة الذي ضعفه أئمة الحديث هو صحيح عندي، لما ذكر السيوطي في التدريب. قال بعضهم: يحكم للحديث بالصحة إذا تلقاه الناس بالقبول
(6/100)
وإن لم يكن له إسناد صحيح،
يعني فحديث ابن عباس هذا حقيق بأن يصحح، لما تلقاه الخلفاء الراشدون والسابقون
الأولون من المهاجرين والأنصار، والذي استقر عليه الأمر في سائر البلدان والأمصار-
انتهى كلامه مخلصا مختصرا. قلت: التصدي لإثبات صحة حديث ابن عباس المتفق على ضعفه
بمثل هذا الكلام الواهي عصبية باردة، لا يفعل هذا إلا صاحب التقليد الأجوف
والعصبية العمياء؛ لأن الصحيح الثابت عن عمر، هو جمعه الناس على إحدى عشرة ركعة لا
عشرين، كما تقدم، وسيأتي أيضا، ولو سلمنا أن طائفة من الصحابة والتابعين كانوا يصلون
عشرين ركعة فليس ههنا أثر للتلقي الذي جعله بعض العلماء موجبا لقبول الخبر الغير
الصحيح؛ لأنه لا دليل على أن حديث ابن عباس هذا قد بلغ هؤلاء الصحابة ولا على أنهم
1307-(5) عن عائشة، قالت: ((فقدت رسول الله ? ليلة، فإذا هو بالبقيع، فقال: أكنت
تخافين أن يحيف الله عليك ورسول؟ قلت: يا رسول الله ! إني ظننت إنك أتيت بعض
نسائك،
(6/101)
تعرضوا للاحتجاج به واستشهدوا به عند العمل أو استأنسوا به، وما لم يثبت ذلك لا تصح دعوى وجود التلقي المصطلح الذي يكون فيه غني من الإسناد، على أنه قال السيوطي في التدريب (ص115): مما يدل على صحة الحديث أيضا كما ذكره أهل الأصول موافقة الإجماع له على الأصح لجواز أن يكون المستند غيره. وقيل يدل- انتهى. والحاصل أن الثابت عن رسول الله ? في قيام رمضان في الجماعة هو إحدى عشرة ركعة مع الوتر لا غير، فهي السنة لا العشرون، ولله در ابن الهمام حيث اعترف بضعف حديث ابن عباس ومخالفته لحديث عائشة الصحيح، ولم يتحمل لتصحيح حديث ابن عباس، وصرح بأن العشرين ليست سنة النبي ? . قلت: ويدل أيضا على كون التراويح ثمان ركعات ما روي عن جابر بن عبدالله قال: جاء أبي بن كعب إلى رسول الله ? فقال يا رسول الله! أنه كان منى الليلة شيء، يعني في رمضان قال: وما ذاك يا أبي؟ قال: نسوة في داري قلن إنا لا نقرأ القرآن فنصلي بصلاتك، قال: فصليت بهن ثمان ركعات وأوترت، فكانت سنة الرضا ولم يقل شيئا. رواه أبويعلى والطبراني بنحوه في الأوسط. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص74): إسناده حسن- انتهى. قلت: وأخرجه أيضا محمد بن نصر المروزي في قيام الليل وعبدالله بن أحمد في المسند (ج5 ص115)، وفي إسناده من لم يسم، وسيأتي مزيد الكلام في هذه المسألة.
(6/102)
1307- قوله: (فقدت رسول الله ?
) أي غاب عني. قال في النهاية: فقدت الشيء أفقده إذا غاب عنك. (ليلة) من ليالي
تعني الليلة التي كان فيها عندي. (فإذا هو بالبقيع) أي فخرجت أطلبه فإذا هو واقف
بالبقيع، والمراد بالبقيع بقيع الغرقد، وهو موضع بظاهر المدينة، فيه قبور أهلها،
كان به شجر الغرقد، فذهب وبقي اسمه، كذا في النهاية. (أن يحيف) الحيف الظلم
والجور، أي أظننت أن قد ظلمتك يجعل نوبتك لغيرك، وذلك مناف لمنصب الرسالة وذكر
الله تعظيما لرسوله ودلالة على أن فعل الرسول عادة لا يكون إلا بإذنه وأمره. وقال
الطيبي: أو تزيينا للكلام وتحسينا، أو حكاية لما وقع في الآية أم تخافون أن يحيف
الله عليهم ورسوله، وإشارة إلى التلازم بينهما كالإطاعة والمحبة. قال العيني: يعني
ظننت أني ظلمتك بأن جعلت من نوبتك لغيرك، وذلك مناف لمن تصدي بمنصب الرسالة، وهذا
معنى العدول عما هو مقتضى ظاهر العبارة، وهو ظننت أني أحيف عليك، فوضع رسوله موضع
الضمير للاشعاء بأن لحيف ليس من شيم الرسل، وفيه أن القسم كان واجبا عليه، إذ لا
يكون تركه جورا إلا إذا كان واجبا. (قلت يا رسول الله إني ظننت أنك أتيت بعض
نسائك) أي زوجاتك لبعض مهماتك فأردت تحقيقها، وحملني على
فقال: إن الله تعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا، فيغفر لأكثر من
عدد شعر غنم كلب)). رواه الترمذي، وابن ماجه. وزاد رزين: ممن استحق النار. وقال
الترمذي: سمعت محمدا ـ يعني ـ يضعف هذا الحديث.
(6/103)
هذا الغيرة الحاصلة للنساء التي تخرجهن عن دائرة العقل وحائزة التدبر للعاقبة من المعاتبة أو المعاقبة. والحاصل إني ما ظننت أن يحيف الله ورسوله علي أو على غيري، بل ظننت أنك بأمر من الله أو باجتهاد منك خرجت من عندي لبعض نسائك؛ لأن عادتك أن تصلي النوافل في بيتك، كذا في المرقاة. ولفظ ابن ماجه قالت. (أي عائشة): قد قلت. (أي في جوابه ? ) وما بي ذلك. (أي الخوف والظن السوء بالله ورسوله) ولكني ظننت أنك أتيت بعض نسائك. قال السندي: أي لكني ظننت أنك فعلت ما أحل الله لك من الإتيان لبعض نسائك، تريد أنها ما جوزت ذلك ولا زعمته من جهة كونه حيفا وجورا، ولكونه جوزته من جهة أنه في ذاته إتيان بعض النساء، وهو حلال، والمقصود أنها ما لاحظت ذلك من جهة كونه ظلما، ولكن لاحظت من جهة كونه حلالا، فلذلك جوزته فانظر إلى كمال عقلها، فإنها قد زعمت ذلك للنبي ? وذلك جورا، وقال: أتخافين من الله تعالى ورسوله؟ فإن قالت في الجواب نعم خفت ذلك يكون قبيحا، وإن قالت ما خفته يكون كذبا فتفطن- انتهى. (فقال: إن الله تعالى ينزل) استئناف لبيان موجب خروجه من عندها، يعني خرجت للدعاء لأهل البقيع لما رأيت من كثرة الرحمة في هذه الليلة. (فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب) أي قبيلة بني كلب وخصمهم؛ لأنهم أكثر غنما من سائر العرب نقل الأبهري عن الأزهار: أن المراد بغفران أكثر عدد الذنوب المغفورة لا عدد أصحابها، وهكذا رواه البيهقي- انتهى. وأما الحديث الآتي فيغفر لجميع خلقه فالمراد أصحابها، كذا في المرقاة. (رواه الترمذي) في الصيام. (وابن ماجه) في أواخر الصلاة كلاهما من رواية حجاج بن أرطاة عن يحيى بن أبي كثير عن عروة عن عائشة. قال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، والحديث منقطع، كما ستعرف. (وزاد رزين ممن استحق النار) قال ابن حجر: أي من المؤمنين، كما صرح به قوله تعالى: ?إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء? [4: 48].
(6/104)
وقيد ذلك في روايات بينتها ثم
بغير المشاحن وقاطع الرحم ومدمن الخمر ومسبل الإزار وعاق لوالديه. (وقال الترمذي:
سمعت محمدا يعني البخاري) هو تفسير من المصنف. (يضعف) يعني البخاري. (هذا الحديث)
ويقول يحيى بن أبي كثير: لم يسمع من عروة والحجاج لم يسمع من يحيى بن أبي كثير-
انتهى. فالحديث منقطع في موضعين أحدهما ما بين الحجاج ويحيى، والآخر ما بين يحيى
وعروة. والحديث المنقطع من أقسام
(1) كذا في الأصل، ولعله وسمي ذلك جورا.
1308-(6) وعن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله ?: ((صلاة المرء في بيته أفضل من
صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة)). رواه أبوداود، والترمذي.
?الفصل الثالث?
1309-(7) عن عبدالرحمن بن عبد القاري،
الضعيف، لكنه ورد في فضيلة ليلة النصف من شعبان أحاديث أخرى، وقد ذكر المصنف بعضها
في الفصل الثالث، وسنذكر بقيتها هناك إن شاء الله تعالى. وهي بمجموعها حجة على من
زعم أنه لم يثبت في فضيلتها شيء. قيل في وجه مناسبة هذا الحديث بالباب: الإيذان
بأن ليلة النصف من شعبان لما ورد في إحيائها من الثواب ما لا يحصى كانت كالمقدمة
لقيام رمضان، فاستدعى ذكره: ذكرها قال القاري، أو لأن الكلام لما كان في القيام
والمراد الأعظم منه إدراك ليلة القدر فذكر ليلة البراءة طرد الباب.
(6/105)
1308- قوله: (صلاة المرء في
بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا)؛ لأنه أبعد من الرياء. والحديث يدل على استحباب
فعل صلاة التطوع في البيوت. وأن فعلها فيها أفضل من فعلها في المساجد، ولو كانت
المساجد فاضلة كالمسجد الحرام ومسجده ? ومسجد بيت المقدس، فلو صلى الرجل نافلة في
مسجد المدينة كانت بألف صلاة على القول بدخول النوافل في عموم الحديث، وإذا صلاها
في بيته كانت أفضل من ألف صلاة، وهكذا حكم المسجد الحرام ومسجد المقدس. وقد تقدم
أنه استثنى من عموم حديث الباب ما تشرع فيه الجماعة من النوافل كالعيدين،
والاستسقاء، والكسوف، والتراويح، وما يخص المسجد كصلاة القدوم من السفر، وتحية
المسجد. (إلا المكتوبة) أي الصلوات المكتوبات، وهي الصلوات الخمس. وهذا في حق
الرجال دون النساء، فيجب على الرجال أن يصلوا المكتوبات في المساجد بالجماعة. وأما
النساء فصلاتهن في البيوت أفضل، مكتوبة كانت أو نافلة وإن أذن لهن في حضور
المكتوبات في المساجد. (رواه أبوداود والترمذي) واللفظ لأبي داود، وقد سكت عنه هو،
وحسنه الترمذي، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. والحديث ذكره المجد في المنتقى
في باب إخفاء التطوع بلفظ: أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة، وقال
رواه الجماعة إلا ابن ماجه، لكن له معناه من رواية عبدالله بن سعد-انتهى.
1309- قوله: (عن عبدالرحمن بن عبد) بالتنوين أي بغير إضافة. (القاري) بخفة راء
وشدة ياء بلا همزة، نسبة إلى القارة بن الديش قبيلة مشهور، يقال إنه ولد على عهد
رسول الله ?، وليس له منه سماع ولا رؤية، وقيل: أتي به إليه، وهو صغير. وذكره
العجلي في ثقات التابعين. واختلف قول الواقدي فيه، قال تارة:
قال خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل
لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط ، فقال عمر : إني لو جمعت هؤلاء على قاري
واحد لكان أمثل، ثم عزم، فجمعهم على أبي بن كعب،
(6/106)
له صحبة، وتارة: تابعي. والمشهور أنه تابعي من أجلة تابعي المدينة، وكان عاملا لعمر على بيت المال. مات سنة. (88)، وهو ابن (78) سنة. (خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة) أي في رمضان كما في البخاري. (إلى المسجد) النبوي. (فإذا الناس) بعد صلاتهم العشاء جماعة واحدة. وكلمة "إذا" للمفاجأة. (أوزاع) بفتح الهمزة وسكون الواو بعدها زاي أي جماعات متفرقة، لا واحد له من لفظه. وقوله: (متفرقون) تأكيد لفظي. وقال الطيبي. كعطف البيان. (يصلي الرجل لنفسه) هذا وما بعده بيان لما أجمل أولا بقوله: أوزاع. (ويصلي الرجل) الآخر. (فيصلي) أي مقتديا (بصلاته الرهط) بسكون الهاء ويحرك، ما بين الثلاثة إلى العشرة. وقيل: إلى الأربعين والحاصل أن بعضهم كان يصلي منفردا، وبعضهم يصلي جماعة. (فقال عمر: إني لو) قال ابن حجر: وفي نسخة: إني أرى لو قلت، وكذا وقع عند البخاري، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7:ص83) وفي الموطأ: إني لأراني لو (جمعت هؤلاء على قارئ واحد) يأتمون كلهم به، ويسمعون قراءته. (لكان أمثل) أي أفضل؛ لأنه أنشط لكثير من المصلين فيكون الثواب أكمل. يقال: هذا أمثل من كذا أي أفضل وأدنى إلى الخير، وأماثل الناس خيارهم. قال ابن التين وغيره: استنبط عمر ذلك من تقرير النبي ? من صلى معه في تلك الليالي وإن كان كره ذلك لهم، فإنما كرهه خشية أن يفرض عليهم، فلما مات النبي ? حصل الأمن من ذلك، ورجح عند عمر ذلك لما في الاختلاف من افتراق الكلمة، ولأن الاجتماع على واحد أنشط لكثير من المصلين.وإلى قول عمر جنح الجمهور. (ثم عزم) أي على ذلك وصمم عليه عمر. (فجمعهم) أي الرجال منهم في سنة أربع عشرة. (على أبي بن كعب) أي جعله إماما لهم يصلي بهم التراويح. وكأنه اختاره عملا بقوله ?: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، وقال عمر: اقرؤنا أبي. وقيل: اختاره لما قد علم أن أبيا كان يصلي بالناس التراويح في عهد رسول الله ?، فقد أخرج أبوداود، ومن طريقه
(6/107)
البيهقي عن أبي هريرة قال: خرج
رسول الله ?، فإذا أناس في رمضان يصلون في ناحية المسجد، فقال: ما هؤلاء؟ فقيل
هؤلاء الناس ليس معهم قرآن، وأبي بن كعب يصلي وهم يصلون بصلاته، فقال النبي ?:
أصابوا، ونعم ما صنعوا، لكن قال الحافظ: فيه مسلم بن خالد، وهو ضعيف. والمحفوظ أن
عمر هو الذي جمع الناس على أبي-انتهى. وأجيب عن هذا بأن مسلم بن خالد وإن ضعفه ابن
المديني والبخاري وابن معين في رواية
قال: ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعمت البدعة
هذه،
(6/108)
وأبوداود، فقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من فقهاء الحجاز، ومنه تعلم الشافعي الفقة قبل أن يلقى مالكا، وكان مسلم بن خالد يخطئ أحيانا. وقال ابن معين في رواية والدارقطني : ثقة، حكاه ابن القطان. وقال ابن عدي: حسن الحديث، وأرجو أنه لا بأس به. وقال الساجي: صدوق كثير الغلط. ولحديث أبي هريرة هذا شاهد مرسل عند البيهقي في المعرفة وفي السنن (ج2:ص495) من حديث ثعلبة بن أبي مالك القرظي. وكون عمر هو الذي جمع الناس على أبي لا ينافي كون أبي قد صلى بالناس في زمنه ?؛ لأن صلاة أبي بالناس في زمنه عليه السلام لم يكن من أمره ولا من اهتمامه. فالاجتماع على إمام واحد أي أبي، والاهتمام بجماعة واحدة إنما كان في زمان عمر، فهو الذي رفع التفرق والتوزع، وجمعهم على قاري واحد، واهتم بجماعة واحدة، ثم إنه لا ينافي هذا ما سيأتي من أن عمر جمعهم على تميم الداري، كما ستعرف. وروى سعيد بن منصور من طريق عروة أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب، فكان يصلي بالرجال، وكان تميم الداري يصلي بالنساء. ورواه محمد بن نصر في قيام الليل من هذا الوجه، فقال: سليمان بن أبي حثمة بدل تميم الداري. قال الحافظ: ولعل ذلك كان في وقتين. (قال) أي عبدالرحمن. (ثم خرجت معه) أي مع عمر. (والناس يصلون) مقتدين. (بصلاة قارئهم) أي إمامهم المذكور، فالإضافة للعهد. وفيه دليل على أن عمر لم يكن يصلي معهم لشغله بأمور المسلمين، أو كان يصليها منفردا في بيته، أو كان يرى أن الصلاة في آخر الليل أفضل. (نعمت البدعة) وفي البخاري: نعم البدعة بغير تاء. قال الحافظ: في بعض الروايات: نعمت البدعة بزيادة تاء. (هذه) أي الجماعة الكبرى، لا أصل التراويح، ولا نفس الجماعة، فإنهما ثابتان من فعله ?. قال الإمام تقي الدين ابن تيمية في منهاج السنة: قد ثبت أن الناس كانوا يصلون بالليل جماعة في رمضان على العهد النبوي، وثبت أنه ? صلى ليلتين أو ثلاثا-انتهى. وفي وصفها
(6/109)
بـ"نعمت" إشارة إلى
أن أصلها سنة، وليست ببدعة شرعية حتى تكون ضلالة، بل بدعة لغوية، وهي حسنة، وقد
تعتريها الأحكام الخمسة. والبدعة الشرعية ما ليس لها أصل في الشرع، فلا تكون إلا
سيئة، وفيه تصريح من عمر بأنه أول من جمع الناس في التراويح على إمام واحد
بالجماعة الكبرى، واهتم بذلك؛ لأن البدعة لغة ما فعله أحد ابتداء من غير أن يتقدمه
غيره فالمراد بالبدعة في قوله هي البدعة اللغوية، وهي ههنا اجتماعهم على إمام
واحد، والاهتمام لذلك، والمواظبة عليه، لا أصل التراويح، أو نفس الجماعة، فإنهما
قد ثبتا من فعل النبي ? وفعل الصحابة في عهده بحضرته. قال ابن تيمية: إنما سماها
عمر بدعة؛ لأن ما فعل ابتداء بدعة لغة، وليس ذلك بدعة شرعية، فإن البدعة الشرعية
التي هي ضلالة ما فعل بغير دليل شرعي، كاستحباب ما لم يحبه الله، وإيجاب ما لم
يوجبه الله، وتحريم ما لم يحرمه الله. وبه يندفع ما يقال إن قول عمر: "نعمت
البدعة" مخالف لحديث:
والتي تنامون عنها
(6/110)
كل بدعة ضلالة، بأن المراد بالبدعة في الكلية البدعة الشرعية، وتوصيف الحسن للبدعة اللغوية. وقال الشاطبي في الاعتصام: قد قام بصلاة التراويح في رمضان رسول الله ? في المسجد، واجتمع الناس خلفه، فخرج أبوداود عن أبي ذر، قال: صمنا مع رسول الله ? رمضان فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقي سبع-الحديث، لكنه ? لما خاف افتراضه على الأمة أمسك عن ذلك، ففي الصحيح عن عائشة: أن رسول الله ? صلى ذات ليلة في المسجد، فصلى بصلاته ناس-الحديث. ففي هذا الحديث ما يدل على كونها سنة، فإن قيامه أولا بهم دليل على صحة القيام في المسجد جماعة في رمضان، وامتناعه بعد ذلك من الخروج خشية الافتراض لا يدل على امتناعه مطلقا؛ لأن زمانه كان وحي وتشريع، فيمكن أن يوحى إليه إذا عمل به الناس بالإلزام، فلما زالت علة التشريع بموت رسول الله ? رجع الأمر إلى أصله، وقد ثبت الجواز فلا ناسخ له، وإنما لم يقم ذلك أبوبكر رضي الله عنه لأحد أمرين: إما لأنه رأى أن قيام الناس في آخر الليل، وما هم به عليه كان أفضل عنده من جمعهم على إمام أول الليل، وإما لضيق زمانه عن النظر في هذه الفروع، مع شغله بأهل الردة وغير ذلك مما هو أوكد من صلاة التراويح، فلما تمهد الإسلام في زمن عمر، ورأى الناس في المسجد أوزاعا كما جاء في الخبر، قال: لو جمعت الناس على قاري واحد لكان أمثل، فلما تم له ذلك نبه على أن قيامهم في آخر الليل أفضل. ثم اتفق السلف على صحة ذلك وإقراره، والأمة لا تجتمع على ضلالة. وقد نص الأصوليون أن الإجماع لا يكون إلا عن دليل شرعي، فإن قيل: فقد سماها عمر بدعة، وحسنها بقوله "نعمت البدعة هذه"، وإذا ثبت بدعة مستحسنة في الشرع ثبت مطلق الاستحسان في البدع، فالجواب إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله ?، واتفق أن لم تقع في زمان أبي بكر رضي الله عنه، لا أنها بدعة في المعنى، فمن سماها بدعة بهذا الاعتبار فلا مشاحة في الأسامي-
(6/111)
انتهى كلام الشاطبي مختصرا.
وقال ابن رجب في شرح الخمسين (ص191): أما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض
البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية. فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه لما
جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك فقال:
"نعمت البدعة هذه" وروى عنه (من طريق نوفل بن إياس الهذلي عند ابن سعد
وجعفر الفريابي في السنن، كما في كنز العمال (ج4 ص284) أنه قال: إن كانت هذه بدعة
فنعمت البدعة، وروي عن أبي بن كعب. (أخرجه ابن منيع في مسنده) قال له: إن هذا لم
يكن، فقال عمر: قد علمت، ولكنه حسن، ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل
هذا الوقت، ولكن له أصل في الشريعة يرجع إليها، فمنها أن النبي ? كان يحث على قيام
رمضان ويرغب فيه، وكان في زمنه يقومون في المسجد جماعات متفرقة ووحدانا، وهو ? صلى
بأصحابه في رمضان غير ليلة الخ. (والتي تنامون) بالفوقية أي الصلاة أو الساعة التي
تنامون. (عنها) والمراد الصلاة في آخر
أفضل من التي تقومون – يريد آخر الليل – وكان الناس يقومون أوله. رواه البخاري.
1310-(8) وعن السائب بن يزيد، قال: أمر عمر أبي بن كعب، وتميما الداري أن يقوما
للناس
في رمضان بإحدى عشرة ركعة،
(6/112)
الليل. وعند أبي شيبة عن عبدالرحمن بن عبد القاري، قال عمر في الساعة التي تنامون عنها. أعجب إلى من الساعة التي يقومون فيها. (أفضل من) الصلاة أو الساعة (التي يقومون) بها. (يريد) أي عمر بن الخطاب بهذا الكلام بيان الفضل في الصلاة. (آخر الليل) وهو قول عبدالرحمن، وكذلك قوله: (وكان الناس) أي أكثرهم. (يقومون) إذ ذاك. (أوله) وبالضرورة ينامون آخره. قال الحافظ: هذا تصريح من عمر بأن الصلاة في آخر الليل أفضل من أوله، لكن ليس فيه أن الصلاة في قيام الليل فرادى أفضل من التجميع. وقال الطيبي: هذا تنبيه منه، على أن صلاة التراويح في آخر الليل أفضل. قال القاري: وفي كلامه رضي الله عنه إيماء إلى عذره في التخلف عنهم. وفي هامش المسوي: يعني آخر الليل أفضل، لكن الصلاة في أول جماعة أفضل كما أن صلاة العشاء في أول جماعة أفضل، والوقت المفضول قد يختص العمل فيه بما يوجب أن يكون أفضل منه في غيره، كما أن الجمع بين الصلاتين بعرفة والمزدلفة أفضل من التفريق بسبب أوجب ذلك، وإن كان الأصل أن فعل الصلاة في وقتها أفضل، والإبراد بالظهر أفضل، لكن الصلاة يوم الجمعة عقيب الزوال أفضل. قاله ابن تيمية في المنهاج- انتهى. ولم يقع في هذه الرواية عدد الركعات التي كان يصلي بها أبي بن كعب. وقد اختلف في ذلك، والصحيح أنها كانت إحدى عشرة ركعة كما سيأتي. (رواه البخاري) في الصيام، وأخرجه أيضا مالك والبيهقي (ج2 ص493).
(6/113)
1310- قوله: (الداري) بتشديد الياء، نسبة إلى جده الأعلى الدار بن هانيء بن حبيب. (أن يقوما للناس) أي يؤماهم. قال الباجي: يصلي بهم أبي ما قدر ثم يخرج، فيصلي تميم. والصواب أن يقرأ الثاني من حيث انتهى الأول؛ لأن الثاني إنما هو بدل عن الأول ونائب عنه، وسنة قراءة القرآن على الترتيب- انتهى. وقال القاري: أي يكون هذا إماما تارة، والآخر أخرى. وهو يحتمل أن تكون المناوبة في الركعات أو الليالي. (بإحدى عشرة ركعة) هذا نص في أن الذي جمع عليه الناس عمر في قيام رمضان، وأمرهم بإقامته هو إحدى عشرة ركعة مع الوتر، وأن الصحابة والتابعين على عهده كانوا يصلون التراويح إحدى عشرة ركعة موافقا لما تقدم من حديث عائشة: ما كان يزيد في رمضان ولا في غير رمضان على إحدى عشرة ركعة، وموافقا لما تقدم من حديث جابر: صلى بنا رسول الله ? في شهر رمضان ثمان ركعات. فإن قلت: قال الحافظ في الفتح بعد ذكر أثر عمر هذا: ورواه عبدالرزاق من وجه آخر. (أي من طريق داود بن قيس) عن محمد بن يوسف، فقال إحدى وعشرين- انتهى.
(6/114)
وقال ابن عبدالبر: روى غير مالك في هذا أحد وعشرون، وهو الصحيح، ولا أعلم أحدا قال فيه إحدى عشرة إلا مالكا. ويحتمل أن يكون ذلك أولا ثم خفف عنهم طول القيام، ونقلهم إلى أحد وعشرين إلا أن الأغلب عندي أن قوله: إحدى عشرة وهم- انتهى. قلت: قال شيخنا في شرح الترمذي: قول ابن عبدالبر: إن الأغلب عندي أن قوله إحدى عشرة وهو باطل جدا. قال الزرقاني في شرح الموطأ بعد ذكر قول ابن عبدالبر. هذا ما لفظه ولا وهم، وقوله: إن مالكا انفرد به، ليس كما قال، فقد رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن محمد بن يوسف، فقال إحدى عشرة، كما قال مالك- انتهى كلام الزرقاني. وقال النيموني في تعليق آثار السنن (ج2 ص52): ما قاله ابن عبدالبر من وهم مالك فغلط جدا؛ لأن مالكا قد تابعه عبدالعزيز بن محمد عند سعيد بن منصور في سننه، ويحيى بن سعيد القطان عند أبي بكر بن أبي شيبة في مصنفه كلاهما عن محمد بن يوسف، وقالا إحدى عشرة ركعة، كما رواه مالك عن محمد بن يوسف. وأخرج محمد بن نصر المروزي في قيام الليل من طريق محمد بن إسحاق حدثني محمد بن يوسف عن جده السائب بن يزيد، قال: كنا نصلي في زمن عمر في رمضان ثلاث عشرة ركعة- انتهى. قال النيموني: هذا قريب مما رواه مالك عن محمد بن يوسف أي مع الركعتين بعد العشاء- انتهى كلام النيموني. قال الشيخ: فلما ثبت أن الإمام مالكا لم ينفرد بقوله إحدى عشرة، بل تابعه عليه عبدالعزيز بن محمد، وهو ثقة، ويحيى بن سعيد القطان إمام الجرح والتعديل، وهو ثقة متقن حافظ إمام على ما قال الحافظ في التقريب، ظهر لك حق الظهور أن قول ابن عبدالبر: إن الأغلب أن قوله إحدى عشرة وهم، ليس بصحيح، بل لو تدبرت ظهر لك أن الأمر على خلاف ما قال ابن عبدالبر أن الأغلب أن قول غير مالك في هذا الأثر: إحدى وعشرون، كما في رواية عبدالرزاق، وهم، فانه قد انفرد هو بإخراج هذا الأثر بهذا لفظ، ولم يخرجه به أحد غيره فيما أعلم. وعبدالرزاق وإن كان
(6/115)
ثقة حافظا لكنه قد عمى في آخر
عمره فتغير، كما صرح به الحافظ في التقريب. وأما الإمام مالك فقال الحافظ في
التقريب: إمام دار الهجرة رأس المتقنين وكبير المتثبتين، حتى قال البخاري: أصح الأسانيد
كلها مالك عن نافع عن ابن عمر- انتهى. ومع هذا لم ينفرد هو بإخراج هذا الأثر بلفظ:
إحدى عشرة، بل أخرجه أيضا بهذا اللفظ سعيد بن منصور وابن أبي شيبة، كما عرفت.
فالحاصل أن لفظ: إحدى عشرة في أثر عمر بن الخطاب المذكور صحيح ثابت محفوظ، ولفظ
إحدى وعشرين في هذا الأثر غير محفوظ، والأغلب إنه وهم، والله تعالى أعلم- انتهى
كلام الشيخ. فإن قلت: قال صاحب الأوجز: الظاهر عندي ما رجحه ابن عبدالبر؛ لأن جل
الروايات نص في أنها كانت عشرين ركعة، لكن الوهم عندي فيه عن محمد بن يوسف؛ لأن
نسبة الوهم إلى الإمام أبعد من النسبة إليه. ويؤيده رواية سعيد بن منصور، وقد روى
يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد أنهم كانوا يقومون في عهد عمر بن الخطاب بعشرين
ركعة- انتهى.
فكان القاري يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العصا من طول القيام، فما كنا ننصرف
إلا في
فروع الفجر. رواه مالك.
(6/116)
قلت: كلام صاحب الأوجز باطل جدا؛ لأنه لم يثبت الأمر بعشرين عن عمر بسند صحيح خال عن الكلام، والآثار التي تذكر في ذلك لا يخلو واحد منها عن مقال، فإنها إما مراسيل منقطعة أو موصولة ضعيفة، كما حققه شيخنا في شرح الترمذي، فكيف تكون هي دليلا على كون رواية إحدى عشرة الصحيحة وهما؟ وأما نسبة الوهم إلى محمد بن يوسف فهي كنسبة الوهم إلى الإمام مالك مما لا يلفت إليه، لكونها مجرد ادعاء، وأما رواية يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد فهي عند البيهقي من وجهين، في أحدهما أبوعثمان عمرو بن عبدالله البصري، وفي الآخر أبوعبد الله الحسين بن فنجويه الدنيوري، ولم أقف على ترجمتها، ولم يعرف حالهما، وإنهما ثقتان قابلان للاحتجاج أم لا. (فكان) وفي الموطأ قال. (أي السائب) وكان (القاري) أي الإمام. (يقرأ) في كل ركعة. (بالمئين) بكسر الميم جمع مائة، أي السور التي تلي السبع الطول، سميت بذلك لزيادة كل منها على مائة آية. قال ابن حجر: أي بالسور التي يزيد كل منها على مائة آية. قال القاري: وفيه أنه لا دلالة على الزيادة، ولا على أنها سورة مستقلة، قال: والظاهر أن المراد بقوله بالمئين التقريب لا التحديد- انتهى. والظاهر عندي ما ذكره ابن حجر. (حتى كنا نعتمد على العصا) وفي بعض النسخ: على العصي، كما في الموطأ، وهكذا نقله الجزري أي بكسر العين والصاد المهملتين وتشديد الياء، جمع عصا، فالأولى للجنس، والثانية من مقابلة الجمع بالجمع. (من طول القيام) أي من أجل طول القيام؛ لأن الاعتماد في النافلة لطول القيام على حائط أو عصا جائز وإن قدر على القيام بخلاف الفرض، قاله الزرقاني والباجي. قلت: ويدل على جواز الاعتماد على العصا عند العذر حديث أم قيس بنت محصن عند أبي داود. (فما) وفي الموطأ: وما (كنا ننصرف) عن التراويح. (إلا في فروع الفجر) أي أوائله وأعاليه، وفرع كل شيء أعلاه، ذكره الطيبي. وفي رواية سعيد بن منصور: ننقلب عند بزوغ الفجر. قال
(6/117)
في النهاية: البزوغ الطلوع، والمراد أوائل مقدماته، فلا ينافي ما سيأتي أنهم كانوا يتسحرون بعد انصرافهم. قال القاري: ولعل هذا التطويل كان في آخر الأمر، فلا ينافي ما تقدم من قوله: والتي تنامون عنها أفضل. (رواه مالك) عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد، وأخرجه أيضا سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والبيهقي في السنن (ج2 ص496) والمعرفة. واعلم أنهم اختلفوا في المختار من عدد الركعات التي يقوم بها الناس. قال العيني في شرح البخاري (ج11 ص126): قد اختلف العلماء في العدد المستحب في قيام رمضان على أقوال كثيرة. فقيل: إحدى وأربعون. قال الترمذي: رأى بعضهم أن يصلي إحدى وأربعين ركعة مع الوتر، وهو قول أهل المدينة، والعمل على هذا عندهم بالمدينة. قال شيخنا. (يعني العراقي): وهو أكثر
(6/118)
ما قيل فيه. قال العيني: ذكر ابن عبدالبر في الاستذكار عن الأسود بن يزيد، كان يصلي أربعين ركعة، ويوتر بسبع، هكذا ذكره، ولم يقل إن الوتر من الأربعين. وقيل: ثمان وثلاثون، رواه محمد بن نصر من طريق ابن أيمن عن مالك، قال: يستحب أن يقوم الناس في رمضان بثمان وثلاثين ركعة، ثم يسلم الإمام والناس، ثم يوتر بهم بواحدة، قال وهذا العمل بالمدينة قبل الحرة منذ بضع ومائة سنة إلى اليوم. وقيل: ست وثلاثون، وهو الذي عليه عمل أهل المدينة. وروى ابن وهب، قال: سمعت عبدالله بن عمر يحدث عن نافع، قال: لم أدرك الناس إلا وهم يصلون، تسعا وثلاثين ركعة، ويوترون منها بثلاث. وقيل: أربع وثلاثون على ما حكى عن زرارة بن أوفي أنه كذلك كان يصلي بهم في العشر الأخير. وقيل: ثمان وعشرون وهو المروي عن زرارة بن أوفي في العشرين الأولين من الشهر، وكان سعيد بن جبير يفعله في العشر الأخير. وقيل: أربع وعشرون، وهو مروي عن سعيد بن جبير. وقيل: عشرون، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم، فإنه مروي عن عمر وعلي وغيرهما من الصحابة، وهو قول أصحابنا الحنفية. وقيل: إحدى عشرة ركعة، وهو اختيار مالك لنفسه. واختاره ابن العربي- انتهى كلام العيني. وقال السيوطي في رسالته المصابيح في صلاة التراويح: قال ابن الجوزي: من أصحابنا عن مالك أنه قال: الذي جمع عليه الناس عمر بن الخطاب أحب إلي، وهي إحدى عشرة ركعة، وهي صلاة رسول الله ?. قيل له: إحدى عشرة ركعة بالوتر؟ قال نعم، وثلاث عشرة قريب، قال: ولا أدري من أين أحدث هذا الركوع الكثير- انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: القول الراجح المختار الأقوى من حيث الدليل هو هذا القول الأخير الذي اختاره مالك لنفسه، أعني إحدى عشرة ركعة، وهو الثابت عن رسول الله ? بالسند الصحيح، وبها أمر عمر بن الخطاب. وأما الأقوال الباقية فلم يثبت واحد منها عن رسول الله ? بسند صحيح، ولا ثبت الأمر به عن أحد من الخلفاء الراشدين بسند صحيح
(6/119)
خال عن كلام، ثم ذكر حديث عائشة المذكور: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، وحديث جابر قال: صلى بنا رسول الله ? في شهر رمضان ثمان ركعات، وحديث جابر عن أبي في إمامته للنساء في داره بثمان ركعات، ثم ذكر أثر عمر الذي نحن بصدد شرحه. قلت: واستدل لمن ذهب إلى أن التراويح عشرون ركعة سوى الوتر بما تقدم من حديث ابن عباس: أن النبي ? كان يصلي في رمضان عشرين ركعة سوى الوتر، وقد تقدم أنه حديث ضعيف جدا، غير صالح للاستدلال، وبما روى عبدالرزاق عن داود بن قيس عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أن عمر بن الخطاب جمع الناس في رمضان على أبي بن كعب وعلى تميم الداري على إحدى وعشرين ركعة، وقد تقدم أن قوله: "إحدى وعشرين في هذه الرواية" وهم، على
(6/120)
أنه مضر للحنفية من حيث أنه يستلزم أن يقولوا بكون التراويح ثماني عشرة ركعة، أو بكون الوتر ركعة واحدة فردة، فافهم، وبما روى البيهقي في المعرفة من طريق محمد بن جعفر عن يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد قال: "كنا نقوم في زمان عمر بن الخطاب بعشرين ركعة والوتر". وصحح إسناده السبكي في شرح المنهاج، والقاري في شرح الموطأ. وأجيب عنه بأن في سنده أبا عثمان البصري واسمه عمرو بن عبدالله. قال النيموني في تعليق آثار السنن: لم أقف على من ترجم له. وقال شيخنا في شرح الترمذي: لم أقف أنا أيضا على ترجمته مع التفحص الكثير، فمن يدعي صحة هذا الأثر فعليه أن يثبت كونه ثقة قابلا للاحتجاج، ومع هذا فهو معارض بما روى سعيد بن منصور في سننه قال: حدثنا عبدالعزيز بن محمد بن يوسف سمعت السائب بن يزيد يقول: كنا نقوم في زمان عمر بن الخطاب بإحدى عشرة ركعة. قال السيوطي في رسالته المصابيح: إسناده في غاية الصحة- انتهى. وأيضا هو معارض بما روى أبوبكر بن أبي شيبة قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن محمد بن يوسف إن السائب أخبره إن عمر جمع الناس على أبي وتميم، فكانا يصليان إحدى عشرة ركعة، وإسناده صحيح. وأيضا هو معارض بما روى محمد بن نصر في قيام الليل من طريق محمد بن إسحاق حدثني محمد بن يوسف عن جده السائب بن يزيد قال: كنا نصلى في زمن عمر ثلاث عشرة ركعة. وهو أيضا معارض بما ذكره المصنف من رواية مالك عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنه قال: أمر عمر أبي بن كعب وتميما الداري إن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة. فأثر السائب بن يزيد الذي رواه البيهقي لا يصلح للاحتجاج، فان قلت: روى البيهقي هذا الأثر في السنن من طريق ابن أبي ذئب عن يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد بلفظ: كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب في شهر رمضان بعشرين ركعة، وصحح إسناده النووي وغيره. قلت: قال شيخنا: في إسناده أبوعبدالله بن فنجوية الدنيوري. (شيخ البيهقي) ولم
(6/121)
أقف على ترجمته، فمن يدعي صحة هذا الأثر فعليه أن يثبت كونه ثقة قابلا للاحتجاج. وأما قول النيموني هو من كبار المحدثين في زمانه لا يسأل عن مثله فمما لا يلتفت إليه، فإن مجرد كونه من كبار المحدثين لا يستلزم كونه ثقة. تنبيهان: الأول قال صاحب الأوجز: قال في الفتح الحماني: قال العلامة العيني: احتج أصحاب الشافعي وأحمد بما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن السائب بن يزيد قال: كانوا يقومون على عهد عمر بعشرين ركعة وعلى عهد عثمان وعلي مثله، قلت: قال النيموني في تعليق آثار السنن: قوله: "وعلى عهد عثمان وعلي مثله" قول مدرج لا يوجد في تصانيف البيهقي- انتهى. الثاني: قد جمع البيهقي وغيره بين روايتي السائب المختلفتين المذكورتين بأنهم كانوا يقومون بإحدى عشرة ركعة، ثم كانوا يقومون بعشرين، ويوترون بثلاث. قال شيخنا: فيه أنه لقائل أن يقول بأنهم كانوا يقومون أولا
(6/122)
بعشرين ركعة، ثم كانوا يقومون بإحدى عشرة ركعة، وهذا هو الظاهر؛ لأن هذا كان موافقا لما هو الثابت عن رسول الله ? وذاك كان مخالفا له، فتفكر- انتهى. قال بعض الحنفية: ويمكن أن يجمع بينهما بوجه آخر وهو أن يقال: إن رواية إحدى عشرين باعتبار مجموع ما صلياه، وإحدى عشرة باعتبار كل واحد منهما، فكان يلي كل منهما عشرا عشرا، والواحد الوتر يصلي مرة هذا ومرة هذا، فيصح النسبة إليهما. وفيه أن هذا الجمع مضر للحنفية؛ لأنه يدل على أن عمر جمع الصحابة على الإيتار بركعة واحدة فردة، وهو مخالف لمذهب الحنفية إلا أن يقولوا بأن التراويح كانت ثماني عشرة ركعة، لكن ليس هذا مذهبهم، فتفكر. قلت: واستدل أيضا للحنفية ومن وافقهم بما روى مالك، ومن طريقه البيهقي عن يزيد بن رومان أنه قال: كان الناس يقومون في رمضان عمر بن الخطاب في رمضان بثلاث وعشرين ركعة. وفيه أن هذا الأثر منقطع غير صالح للاستدلال؛ لأن يزيد بن رومان لم يدرك عمر بن الخطاب كما صرح به الزيلعي والعيني وغيرهما، وبما روى ابن أبي شيبة عن وكيع عن مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب أمر رجلا يصلي بهم عشرين ركعة. وفيه أن يحيى بن سعيد الأنصاري لم يدرك عمر، كما اعترف به النيموني. وقال ابن المديني: لا أعلمه سمع من صحابي غير أنس، فهذا الأثر منقطع لا يصلح للاحتجاج، ومع هذا فهو مخالف لما ثبت بسند صحيح عن عمر أنه أمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وأيضا هو مخالف لما ثبت عن رسول الله ? بالحديث الصحيح، وبما روى أيضا ابن أبي شيبة عن عبدالعزيز بن رفيع قال: كان أبي بن كعب يصلي بالناس في رمضان بالمدينة عشرين ركعة، ويوتر بثلاث. وفيه أن هذا أيضا منقطع غير صالح للاستدلال؛ لأن عبدالعزيز بن رفيع لم يدرك أبي بن كعب، كما صرح به النيموني، ومع هذا فهو مخالف لما تقدم أن عمر أمر أبيا وتميما أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وهذا أيضا منقطع،
(6/123)
فإن الأعمش لم يدرك ابن مسعود،
وبما روى البيهقي في السنن (ج2 ص497) وابن أبي شيبة في المصنف عن أبي الحسناء أن
علي بن أبي طالب أمر رجلا أن يصلي بالناس خمس ترويحات عشرين ركعة. وفيه أن مدار
هذا الأثر على أبي الحسناء، وهو مجهول، كما قال الحافظ في التقريب: وقال الذهبي في
الميزان: لا يعرف. ورواه أيضا البيهقي (ج2 ص496) من وجه آخر أي من طريق حماد بن
شعيب عن عطاء بن السائب عن أبي عبدالرحمن السلمي عن علي قال: دعا القراء في رمضان،
فأمر منهم رجلا يصلي بالناس عشرين ركعة، قال: وكان علي يوتر بهم. وفيه أن هذا
الأثر أيضا ضعيف غير صالح للاحتجاج بل ولا للاستشهاد ولا للاعتبار. قال النيموني
في تعليق آثار السنن بعد ذكره: حماد بن شعيب ضعيف. قال الذهبي في
1311-(9) وعن الأعرج، قال: ما أدركنا الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان.
(6/124)
الميزان: ضعفه ابن معين وغيره. وقال يحيى مرة: لا يكتب حديثه. وقال البخاري: فيه نظر. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن عدي: أكثر حديثه مما لا يتابع عليه- انتهى كلام النيموني. واستدل لهم أيضا بآثار أخرى ذكرها النيموني وغيره، لا يخلو واحد منها عن وهن. تنبيه: قد ادعى بعض الناس أنه وقع الإجماع على عشرين ركعة في عهد عمر، واستقر الأمر على ذلك في الأمصار. قال شيخنا: دعوى الإجماع على عشرين، واستقرار الأمر على ذلك في الأمصار باطلة جدا، كيف وقد عرفت في كلام العيني أن في هذا أقوالا كثيرة، وأن الإمام مالكا قال وهذا العمل يعني القيام في رمضان بثمان وثلاثين ركعة، والإيتار بركعة بالمدينة قبل الحرة منذ بضع ومائة سنة إلى اليوم- انتهى. واختار هذا الإمام إمام دار الهجرة لنفسه إحدى عشرة ركعة، وكان الأسود بن يزيد النخعي الفقيه يصلي أربعين ركعة، ويوتر بسبع وتذكر باقي الأقوال التي ذكرها العيني، فأين الإجماع على عشرين ركعة، وأين الاستقرار على ذلك في الأمصار؟- انتهى كلام الشيخ. هذا، ولشيخ مشائخنا العلامة التقي الورع الزاهد الحافظ الشيخ عبدالله الغازيفوري رسالة بسيطة في مسألة التراويح بالأردية طبعت مرارا، وهي نفيسة جدا عديم النظير في هذه المسألة، وقد ألف أيضا بعض أفاضل علماءنا رسالة حافلة في تنقيد بعض رسائل الحنفية في هذه المسألة سماها تحقيق التراويح في جواب تنوير المصابيح، وهي أيضا نفيسة، فعليك أن تطالعهما.
(6/125)
1311- قوله: (وعن الأعرج) هو
عبدالرحمن بن هرمز أبوداود المدني مولى ربيعة بن الحارث من مشاهير التابعين
وثقاتهم، روى عن أبي هريرة وغيره، واشتهر بالرواية عن أبي هريرة. قال الحافظ: ثقة
ثبت عالم من أوساط التابعين، مات بالإسكندرية سنة (117). (ما أدركنا) كذا في جميع
النسخ الحاضرة، وهكذا نقله الجزري (7ص83)، وفي الموطأ: ما أدركت الناس، وكذا وقع
في رواية البيهقي من طريق مالك. (الناس) أي الصحابة والتابعين. (إلا وهم يلعنون
الكفرة) بفتحات، جمع الكافر. (في رمضان) أي في قنوت الوتر. قد سبق أن الشافعية
والمالكية ذهبوا إلى استحباب قنوت الصبح دائما، وخالفهم الحنفية والحنابلة، فقالوا
بعدم مشروعيته في الصبح إلا عند النازلة، وسبق أيضا أن الشافعية ذهبوا إلى استحباب
قنوت الوتر في النصف الآخر من رمضان فقط، أي لا في جميع السنة، وهي رواية عن مالك
خلافا للحنفية والحنابلة، فإنهم قالوا باستحباب قنوت الوتر في جميع السنة،
والرواية الثانية عن مالك، وهي المشهورة المعتمدة عند المالكية، نفي القنوت في
الوتر جملة، كما سيأتي، وتقدم أيضا أن قنوت اللعن عند الحنفية والحنابلة مختص
بالنازلة، سواء كانت في رمضان أو في غيره، والحديث بظاهرة موافق للشافعية. قال ابن
حجر: لهذا الحديث استحسن أصحابنا للإمام أن يذكر في قنوت
قال: وكان القاري يقرأ سورة البقرة في ثماني ركعات، وإذا قام بها في ثنتي عشرة
ركعة رأى
الناس أنه قد خفف. رواه مالك.
(6/126)
الوتر اللهم اهدنا فيمن هديت الخ، واللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونستهديك الخ، واللهم العن كفرة أهل الكتاب والمشركين الذين يصدون عن سبيلك. قال الطيبي: لعل المراد أنهم لما لم يعظموا ما عظمه الله تعالى من الشهر، ولم يهتدوا بما أنزل فيه من الفرقان، استوجبوا بأن يدعى عليهم، ويطردوا عن رحمة الله الواسعة- انتهى. وقال بعض الحنفية: لا ذكر للوتر في هذه الرواية، فيصدق على الصبح أيضا، قال: وقنوت اللعن المذكور فيها محمول على القنوت المخصوص الذي فيه لعن الكفرة المسمى بقنوت النوازل-انتهى. وحمله القاري على قنوت الوتر، وقال: لعل هذه الزيادة. (أي زيادة اللعن) مخصوصة بالنصف الأخير من رمضان. وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث، فلا ينافي ما صح عن عمر رضي الله عنه: السنة إذا انتصف رمضان أن يلعن الكفرة في آخر ركعة من الوتر بعد ما يقول القاري: سمع الله لمن حمده، ثم يقول اللهم العن الكفرة. وما رواه أبوداود أنه لما جمع الناس على أبي لم يقنت بهم إلا في النصف الثاني محمول على القنوت المخصوص الذي فيه لعن الكفرة على العموم- انتهى. قلت: أثر عمر في اللعن على الكفرة ذكره الحافظ في التلخيص (ص120)، وقال إسناده حسن. وأما رواية أبي داود فقد تقدم أنها ضعيفة. وقال في المدونة بعد ذكر حديث الأعرج هذا: ليس عليه العمل، ولا أرى أن يعمل به ولا يقنت في رمضان في لا أوله ولا في آخره ولا في غير رمضان ولا في الوتر أصلا انتهى. (قال) أي الأعرج. (في ثماني ركعات) بفتح الياء. قال القاري: وفي نسخة صحيحة بحذف الياء. قلت: وهكذا وقع في نسخ الموطأ، وفي جامع الأصول، وفي السنن للبيهقي أي بإسقاط الياء. قيل: وهذا كان بعد إن خففت الصلاة عن القراءة بالمئين في كل ركعة. (وإذا) وفي الموطأ: فإذا. (قام) القاري. (بها) أي بسورة البقرة. (في ثنتي) وفي الموطأ: في اثنتي. (عشرة ركعة) فيه دليل على أن جماعة من الصحابة ممن أدركهم الأعرج كانوا يصلون في ليالي
(6/127)
رمضان أكثر من ثماني ركعات،
ولا بأس بذلك، فإنه تطوع وليس فيه ضيق ولا حد ينتهي إليه؛ لأنها نافلة، فيجوز له
أن يكثر الركوع والسجود، وكان طائفة من السلف يقومون بإحدى وأربعين ركعة، كما روى
محمد بن نصر عن محمد بن سيرين أن معاذا أبا حليمة القاري كان يصلي بالناس في رمضان
إحدى وأربعين ركعة، وعن ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة قال: أدركت الناس قبل
الحرة يقومون بإحدى وأربعين ركعة يوترون منها بخمس، لكن السنة النبوية الفعلية هي
إحدى عشرة ركعة مع الوتر؛ لأنها هي الثابت عن رسول الله ? لا غير. (رأى الناس)
بالرفع فاعل. (أنه قد خفف) أي الإمام في الإطالة. قيل: هذا يدل على أن تطويل
القراءة في التراويح أفضل، وهو عندي على قدر نشاط القوم فيراعيهم في ذلك لئلا
يملوا، فيتركوا التراويح بالجماعة أو جملة. (رواه مالك) عن داود بن الحصين أنه سمع
1312-(10) وعن عبدالله بن أبي بكر، قال: سمعت أبيا، يقول: كنا ننصرف في رمضان من
القيام، فنستعجل الخدم بالطعام مخافة فوت السحور، وفي أخرى: مخافة الفجر. رواه
مالك.
1313-(11) وعن عائشة، عن النبي ?، قال: ((هل تدرين ما هذه الليلة؟
الأعرج يقول: ما أدركت الناس الخ، وداود بن الصين ثقة إلا في عكرمة، ورمي برأي
الخوارج، وأخرجه أيضا البيهقي (ص497) من طريق مالك.
(6/128)
1312- قوله: (وعن عبدالله بن أبي بكر) أي ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري. (قال سمعت أبيا) بضم الهمزة وفتح الموحدة تشديد الياء منصوبا منونا، كذا وقع في جميع النسخ للمشكاة. في الموطأ وقيام الليل للمروزي، وجامع الأصول، والبيهقي. سمعت أبي. أي بفتح الهمزة وكسر الباء وسكون التحتية، يعني والده أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهذا هو الصحيح. وأما ما وقع في المشكاة فهو غلط؛ لأن عبدالله بن أبي بكر المذكور من صغار التابعين الذين رأوا الواحدة والاثنين من الصحابة، ولم يثبت لبعضهم السماع منهم، ومات هو سنة (135)، وهو ابن (70) سنة، فيكون ولادته سنة (65) بعد وفاة أبي بن كعب بأكثر من ثلاثين سنة، فإن أبيا توفي سنة (32) في خلافة عثمان على ما قيل، والأكثر على أنه توفي سنة (22) في خلافة عمر. وأما والد عبدالله المذكور فهو أبوبكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري الخزرجي ثم النجاري بالنون والجيم المدني القاضي اسمه وكنيته واحد. وقيل إنه يكنى أبا محمد، ثقة عابد من صغار التابعين، مات سنة (120) ، وقيل غير ذلك. (كنا ننصرف في رمضان من القيام) أي من صلاة التراويح. قال القاري: سمي بذلك لأنهم كانوا يطيلون القيام فيها. (الخدم) بفتحتين جمع خادم. (بالطعام) أي بتهيئته وإحضاره لنتسحر به. (مخافة) بالنصب علة للاستعجال. (فوت السحور) بالضم والفتح. (وفي أخرى مخافة الفجر) أي طلوعه فيفوت السحور فمآل الروايتين واحد، لكن ليس في نسخ الموطأ الموجودة عندنا إلا رواية: مخافة الفجر، وهكذا عند البيهقي. وذكر الجزري الروايتين جميعا، ولعل الرواية الأولى عند غير يحيى المصمودي، والله أعلم. قال الباجي: هذا لمن كان يستديم القيام إلى آخر الليل أو لمن كان يخص آخره بالقيام. فأما من قال فيهم عمر: والتي ينامون عنها خير فلم يكن هذا حالهم، وهذا يدل على اختلاف أحوال الناس في ذلك- انتهى، فبعضهم يقوم أول الليل، وبعضهم آخره، وبعضهم يستديم
(6/129)
القيام إلى آخره. (رواه مالك)
عن عبدالله بن أبي بكر أنه قال: سمعت أبي الخ، ورواه البيهقي (ج2 ص497) من طريق
مالك.
1313- قوله: (هل تدرين ما) أي ما يقع. (في هذه الليلة) قال ابن حجر: نبه عليه
السلام بهذا
يعني ليلة النصف من شعبان- قالت: ما فيها يا رسول الله ؟ فقال: فيها أن يكتب كل
مولود بني آدم في هذه السنة، وفيها أن يكتب كل هالك من بني آدم في هذه السنة،
وفيها ترفع أعمالهم، وفيها تنزل أرزاقهم،
الاستفهام على عظم خطر هذه الليلة وما يقع فيها ليحمل ذلك الأمة بأبلغ وجه ،وأكده
على إحيائها بالعبادة والدعاء والفكر والذكر (يعني) يريد النبي ? بهذه الليلة.
(ليلة النصف من شعبان) وقائل يعني عائشة أو الراوي عنها. (قالت) نقل بالمعنى، وإلا
فالظاهر قلت. (ما فيها) أي ما يقع فيها. (فيها أن يكتب) أي كتابة ثانية بعد
الكتابة في اللوح المحفوظ. (كل مولود بني آدم) أي كل من يولد من بني آدم، وخصصهم
تشريفا لهم. (في هذه السنة) أي الآتية إلى مثل هذه الليلة. (كل هالك) أي ميت.
(وفيها ترفع أعمالهم) قال الطيبي: أي تكتب الأعمال الصالحة التي ترفع في هذه السنة
يوما فيوما، ولهذا سألت عائشة: ما من أحد الخ أي كما سيأتي، فيكون رفع الأعمال في
كل يوم. وأما كتابتها فتكون في هذه الليلة، كذا قال. وفيه بعد، فإن المذكور رفع
الأعمال فيها لا كتابتها، ويمكن أن يكون المراد أن أعمال السنة التي ترفع وتكتب
يوما فيوما ترفع أيضا في هذه الليلة، وتعرض جملة واحدة للمقابلة، كما يفعل أهل الحساب
لتكريم هذه الليلة. قال الطيبي: والاستفهام على سبيل التقرير، يعني إذا كانت
الأعمال الصالحة الكائنة في تلك السنة تكتب قبل وجودها يلزم من ذلك أن أحدا لا
يدخل الجنة إلا برحمة الله، فقرره النبي ? بما أجاب. قال ابن حجر: حذف في هذه
السنة من هذا وما بعده للعلم به مما قبله. والمعنى ترفع أعمالهم إلى الملأ الأعلى.
ولا ينافيه رفعها كل يوم أعمال الليل
(6/130)
بعد صلاة الصبح. وأعمال النهار
بعد صلاة العصر، وكل يوم اثنين وخميس؛ لأن الأول رفع عام لجميع ما يقع في السنة،
والثاني رفع خاص لكل يوم وليلة، والثالث رفع لجميع ما يقع في الأسبوع، وكان حكمة
تكرير هذا الرفع مزيد من تشريف الطائعين وتقبيح العاصين، كذا في المرقاة. وقال
السندي: قد ثبت في الصحيحين: يرفع إلى الله تعالى عمل الليل قبل عمل النهار وعمل
النهار قبل عمل الليل، فيتحمل أن أعمال العباد تعرض عليه كل يوم، ثم تعرض عليه
أعمال الجمعة في كل اثنين وخميس، ثم تعرض عليه أعمال السنة في (ليلة النصف من)
شعبان، فتعرض عرضا بعد عرض، ولكل عرض حكمة يطلع عليها من يشاء من خلقه، أو يستأثر
بها عنده، مع أنه تعالى لا يخفى عليه من أعمالهم خافية، ويحتمل أن المراد إنها
تعرض كل يوم تفصيلا، ثم في الجمعة إجمالا أو بالعكس- انتهى. (وفيها تنزل) بالبناء
الفاعل أو للمفعول مخففا ومشددا. (أرزاقهم) أي أسباب أرزاقهم أو تقديرها قال ابن
حجر: يحتمل أن المراد تنزيل علم مقاديرها للمؤكلين بها أو أسبابها كالمطر بأن ينزل
إلى سماء الدنيا أو من سماء الدنيا إلى السحاب الذي بينها وبين الأرض. وقيل:
المراد بإنزال الأرزاق كتابتها. قال الطيبي: هذا كله مأخوذ من قوله تعالى: ?فيها
يفرق كل أمر حكيم? [44: 4]
فقالت يا رسول الله ! ما من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى؟ فقال: ما من أحد
يدخل
الجنة إلا برحمة الله تعالى ثلاثا. قلت: ولا أنت يا رسول الله ؟!
(6/131)
من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم إلى السنة الأخرى القابلة- انتهى. قال ابن حجر: وهو مبني على أن المراد في الآية هذه الليلة، وهو وإن قال به جماعة من السلف إلا أن ظاهر القرآن بل صريحة يرده لإفادته في آية أنه نزل في رمضان، وفي أخرى أنه نزل ليلة القدر، ولا تخالف بينهما؛ لأن ليلة القدر من جملة رمضان، والمراد بهذا النزول نزوله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا، ثم نزل عليه عليه الصلاة والسلام متفرقا بحسب الحاجة والوقائع. وإذا ثبت أن هذا النزول ليلة القدر ثبت أن الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم في الآية هي ليلة القدر لا ليلة النصف من شعبان. ولا نزاع في أن ليلة نصف شعبان يقع فيها فرق، كما صرح به الحديث، وإنما النزاع في أنها المرادة من الآية. والصواب أنها ليست مرادة منها. وحينئذ يستفاد من الحديث والآية وقوع ذلك الفرق في كل من الليلتين إعلاما بمزيد شرفهما- انتهى. قال القاري: ويحتمل أن يقع الفرق في إحداهما إجمالا، وفي الأخرى تفصيلا، أو تخص إحداهما بالأمور الدنيوية، والأخرى بالأمور الأخروية وغير ذلك من الاحتمالات العقلية- انتهى. قلت: ذهب الجمهور إلى أن المراد من ليلة مباركة في قوله تعالى: ?إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم? [44: 3] هي ليلة القدر لا ليلة نصف من شعبان. وقولهم هو الحق والصواب. قال الحافظ ابن كثير: من قال إنها ليلة من النصف من شعبان فقد أبعد، فإن نص القرآن أنها رمضان- انتهى. وقال العلامة الشوكاني في فتح القدير (ج4 ص554): والحق ما ذهب إليه الجمهور من أن هذه الليلة المباركة هي ليلة القدر لا ليلة النصف من شعبان؛ لأن الله سبحانه أجملها ههنا وبينها في سورة البقرة بقوله: ?شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن? [2: 185] ، وبقوله في سورة القدر: ?إنا أنزلناه في ليلة القدر? فلم يبق بعد هذا لبيان الواضح ما يوجب الخلاف، ولا ما يقتضي
(6/132)
الاشتباه- انتهى. (ما من أحد)
من زائدة لتأكيد الاستغراق. (يدخل الجنة) أي أولا وآخرا بدلالة الإطلاق. (إلا
برحمة الله تعالى) لا يعارضه قوله تعالى: ?وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم
تعملون? [43: 72]؛ لأن العمل سبب صوري، وسببه الحقيقي هو رحمة الله لا غير، على
أنه من جملة الرحمة بالعبد، فلم يدخل إلا بمحض الرحمة على كل تقدير. وقيل: دخولها
بالرحمة، وتفاوت الدرجات بتفاوت الطاعات، والخلود بالنيات. وقد بسط الحافظ الكلام
في توجيه الآية المذكورة والجواب عنها في الفتح في شرح حديث أبي هريرة: لن ينجي
أحدا منكم عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله !؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله
برحمته. (ثلاثا) أي قال هذا القول ثلاث مرات للتأكيد. (قلت) هذا رجوع إلى الأصل في
الكلام أن يكون باللفظ لا بالمعنى. (ولا أنت يا رسول الله ) أي ما تدخل الجنة إلا
برحمته تعالى مع كمال
فوضع يده على هامته فقال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه برحمته يقولها ثلاث
مرات)).
رواه البيهقي في الدعوات الكبير.
1314-(12) وعن أبي موسى الأشعري، عن رسول الله ?، قال: ((إن الله تعلى ليطلع في
ليلة
لنصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن)). رواه ابن ماجه.
(6/133)
مرتبتك في العلم والعمل (فوضع يده على هامته) بتخفيف الميم أي رأسه. قال الطيبي: في وضع اليد على الرأس، والله أعلم، إشارة إلى افتقاره كل الافتقار إلى استنزال رحمة الله تعالى وشمول الستر من رأسه إلى قدمه. (ولا أنا) أي ولا أدخلها أنا في زمان من الأزمنة. (إلا أن يتغمدني الله) أي إلا وقت أن يسترني ويحيط بي من جميع جهاتي، مأخوذ من الغمد وهو غلاف السيف. (منه) أي من عنده وفضله وكرمه. (برحمته) لا بعلم وعمل مني، مع أنهما لا يتصوران من غير جهة عنايته. ( يقولها) أي هذه الجمل وهي ولا أنا الخ. (ثلاث مرات) طبق الأول في التأكيد. (رواه البيهقي في الدعوات الكبير) لم أقف على سنده ولا على من أخرجه غيره، فالله أعلم، كيف حاله، نعم ورد في رفع الأعمال في شعبان ما رواه النسائي وصححه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد قال: قلت: لم أرك تصوم في شهر من الشهور ما تصوم من شعبان. قال: ذاك شهر يغفل عنه الناس بين رجب ومضر، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يرفع عملي، وأنا صائم. وفي كتابة الموت في شعبان ما روى أبويعلى عن عائشة بسند حسن أن النبي ? كان يصوم شعبان كله قالت: قلت: يا رسول الله! أحب الشهور إليك أن تصومه شعبان؟ قال: إن الله يكتب فيه على كل نفس ميتة تلك السنة، فأحب أن يأتيني أجلي، وأنا صائم. وفي عدم دخول أحد الجنة بدون رحمة الله وحديث أبي هريرة الذي أشرنا إليه.
(6/134)
1314- قوله: (إن الله تعالى ليطلع) بتشديد الطاء، أي يتجلى على خلقه بمظهر الرحمة العامة والإكرام الواسع، قاله ابن حجر. وقال الطيبي: بمعنى ينزل وقد مر، وقيل: أي ينظر نظر الرحمة السابقة والمغفرة البالغة. (إلا لمشرك) أي كافر بأي نوع من الكفر، فإن الله لا يغفر أن يشرك به. (أو) للتنويع. (مشاحن) أي مباغض ومعاد لمسلم من غير سبب ديني من الشحناء. وهي العداوة والبغضاء. قال الأوزاعي: أراد به صاحب البدعة المفارق لجماعة الأمة. وقال الطيبي: لعل المراد ذم البغضة التي تقع بين المسلمين من قبل النفس الأمارة بالسوء لا للدين، فلا يأمن أحدهم أذى صاحبه من يده ولسانه؛ لأن ذلك يؤدي إلى القتل، وربما ينتهي إلى الكفر إذ كثيرا ما يحمل على استباحة دم العدو وماله، ومن ثم قرن المشاحن في الرواية الأخرى بقاتل النفس. (رواه ابن ماجه) في أواخر الصلاة من طريق الوليد عن ابن لهيعة عن الضحاك بن أيمن عن الضحاك بن عبدالرحمن بن عرزب عن
(6/135)
أبي موسى الأشعري. قال في الزوائد: إسناد ضعيف لضعف عبدالله بن لهيعة، وتدليس الوليد بن مسلم-انتهى. قلت: ولجهالة الضحاك بن أيمن الكلبي، وللانقطاع في الإسناد. قال في تهذيب التهذيب (ج4:ص443) في ترجمة الضحاك بن أيمن بعد ذكر الطريق المذكور: وهو حديث مختلف في إسناده. قال الحافظ: قرأت بخط الذهبي: لا يدرى من هو. وقال السندي: ابن عرزب لم يلق أبا موسى، قاله المنذري، كذا بخطه روى ابن ماجه أيضا نحوه من طريق النضر بن عبدالجبار ثنا ابن لهيعة عن الزبير بن سليم عن الضحاك بن عبدالرحمن بن عرزب عن أبيه عن أبي موسى. والزبير بن سليم وعبدالرحمن بن عرزب مجهولان، فالحديث ضعيف بطريقيه، لكن له شواهد روي بعضها بإسناد حسن. فمنها حديث عبدالله بن عمرو بن العاص، وقد أشار إليه المصنف. ومنها حديث معاذ بن جبل رواه الطبراني في الأوسط وابن حبان في صحيحه والبيهقي. قال الزرقاني في شرح المواهب بعد عزوه إلى صحيح ابن حبان: فيه رد على قول ابن دحية: لم يصح في ليلة نصف شعبان شئ، إلا أن يريد نفي الصحة الاصطلاحية، فإن حديث معاذ هذا حسن لا صحيح-انتهى. وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج8:ص65) إلى الطبراني في الكبير والأوسط، وقال رجالهما ثقات. ومنها حديث أبي بكر الصديق رواه البزار والبيهقي. قال المنذري: بإسناد لا بأس به. وقال الهيثمي: فيه عبدالملك بن عبدالملك، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يضعفه، وبقية رجاله ثقات. قلت: ذكر عبدالملك هذا الذهبي في الميزان (ج2:ص151) قال: عبدالملك بن عبدالملك عن مصعب بن أبي ذئب عن القاسم قال البخاري في حديثه: نظر، يريد حديث عمرو بن الحارث عن عبدالملك أنه حدثه عن المصعب بن أبي ذئب عن القاسم بن محمد عن أبيه أو عمه عن جده عن رسول الله ?: ينزل الله ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا-الحديث. وقيل: إن مصعبا جده. وقال ابن حبان وغيره: لا يتابع على حديثه. قال الحافظ في اللسان (ج4:ص67): قال
(6/136)
ابن عدي: هو معروف بهذا
الحديث، ولا يروي عنه غير عمرو بن الحارث، وهو حديث منكر بهذا الإسناد. ومنها حديث
أبي هريرة، رواه البزار. قال الهيثمي: وفيه هشام بن عبدالرحمن، ولم أعرفه، وبقية
رجاله ثقات. ومنها حديث عوف بن مالك، رواه البزار أيضا، وفيه عبدالرحمن بن زياد بن
أنعم الإفريقي وابن لهيعة. وقد تقدم الكلام فيهما، وبقية رجاله ثقات. ومنها حديث
مكحول عن كثير بن مرة. (التابعي)، رواه البيهقي، وقال: هذا مرسل جيد. ومنها حديث
مكحول عن أبي ثعلبة رواه الطبراني والبيهقي. قال البيهقي: وهو أيضا بين مكحول وأبي
ثعلبة مرسل جيد، يعني لأنه لم يدرك مكحول أبا ثعلبة الخشني الصحابي، وعزاه الهيثمي
إلى الطبراني، وقال فيه الأحوض بن حكيم، وهو ضعيف. ومنها حديث العلاء بن الحارث عن
عائشة، رواه البيهقي أيضا، وقال: هذا مرسل جيد. ويحتمل أن يكون العلا أخذه من
مكحول كذا في الترغيب. وهذه الأحاديث كلها تدل على عظم خطر ليلة نصف شعبان وجلالة
1315- (13) ورواه أحمد، عن عبدالله بن عمرو بن العاص، وفي روايته:
(6/137)
شأنها وقدرها، وأنها ليست كالليالي الأخر، فلا ينبغي أن يغفل عنها، بل يستحب إحياءها بالعبادة والدعاء والذكر والفكر. ويدل على ندب إحيائها حديث على الآتي لكنه ضعيف جدا، كما ستعرف، وحديث معاذ بن جبل مرفوعا: من أحياء الليالي الخمس وجبت له الجنة: ليلة التروية وليلة عرفة وليلة النحر وليلة الفطر وليلة النصف من شعبان، رواه الأصبهاني في ترغيبه، وهذا أيضا ضعيف؛ لأن المنذري صدره بلفظة "روي" وأهمل الكلام عليه في آخره، وجعل هذا علامة للإسناد الضعيف. وأما إحياء هذه الليلة خاصة والاهتمام لذلك مع ترك بعض الصلوات الخمس أو جمعها، ومع عدم المبالاة بالواجبات الأخرى، كما هو حال عامة المسلمين في عصرنا هذا، فلا شك أنه أمر قبيح، كيف والاشتغال بالمندوب مع إهمال الفرائض ليس من الدين والرأي في شيء. وكذا الاهتمام بزيارة القبور فيها مع تركها جميع السنة ليس بشئ من السنة. فإن قلت: قد ورد في ذهابه ? إلى البقيع في هذه الليلة حديثان: أحدهما حديث عائشة السابق في الفصل الثاني. والثاني حديثها الذي ذكره المنذري في باب الترهيب من التهاجر نقلا عن البيهقي. قلت: هذا الحديثان ضعيفان جدا. أما الأول فقد تقدم بيانه. وأما الثاني فقد صدره المنذري بلفظه "روي" وأهمل الكلام عليه في آخره، على أنه لا دليل فيهما على تخصيص زيارة القبور بهذه الليلة، بل كان ذهابه ? إلى البقيع على ما اعتاده في نوبة عائشة. كما يدل عليه ما روى مسلم عنها قالت: كان رسول الله ? كلما كان ليلتها من رسول الله ? يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين-الحديث. فهذا ظاهر في أن ذهابه إلى البقيع في نوبة عائشة كان عادة له مستمرة، وقد صادف ذلك في بعض الأعوام ليلة نصف شعبان، فذهب إليه على عادته من غير أن يهتم لذلك. وأما تقسيم أنواع الأطعمة على الفقراء في هذه الليلة خاصة، فلم يرو فيه حديث مرفوع ولا موقوف لا صحيح ولا ضعيف. وأما اعتقاد
(6/138)
حضور أرواح الأموات في هذه
الليلة، وتنظيف البيوت، وتطيين جدرانها لتكريمها، وزيادة السرج والقناديل على
الحاجة فيها فهي من البدع والضلالات بلا شك. قال القاري: أول حدوث الوقيد من
البرمكة، وكانوا عبدة النار. فلما أسلموا أدخلوا في الإسلام ما يموهون أنه من سنن
الدين، ومقصودهم عبادة النيران حيث ركعوا وسجدوا مع المسلمين إلى تلك النيران، ولم
يأت في الشرع استحباب زيادة الوقيد على الحاجة في موضع، وقد أنكر الطرطوسي
الاجتماع ليلة الختم في التراويح، ونصب المنابر وبين أنه بدعة منكرة. وأما صوم يوم
ليلة نصف شعبان، فسيأتي الكلام فيه في شرح حديث علي الآتي.
1315- قوله: (ورواه أحمد) (ج2:ص176). (عن عبدالله بن عمرو بن العاص) قال المنذري:
بإسناد لين. قلت: في سنده ابن لهيعة. قال الهيثمي (ج8:ص65): هو لين الحديث، وبقية
رجاله وثقوا. (وفي روايته)
إلا اثنين: مشاحن وقاتل نفس.
1316- (14) وعن علي، قال: قال رسول الله ?: ((إذا كانت ليلة النصف من الشعبان،
فقوموا ليلها، وصوموا يومها، فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء
الدنيا فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له؟ ألا مسترزق فأرزقه؟ ألا مبتلى فأعافيه؟ ألا
كذا ألا كذا؟ حتى يطلع الفجر)).
أي رواية أحمد. (إلا اثنين مشاحن) بالرفع أي هما مشاحن. (وقاتل نفس) أي تعمدا بغير
حق. ويجوز جرهما على البدلية.
(6/139)
1316- قوله: (فقوموا ليلها) أي الليلة التي هي تلك الليلة، فالإضافة بيانية، وليست هي كالتي في قوله: "وصوموا يومها". وقال الطيبي: الظاهر أن يقال: فقوموا فيها، وإذا ذهب إلى وضع الظاهر موضع المضمر أن يقال ليلة النصف، فأنت الضمير اعتبار للنصف؛ لأنها عين تلك الليلة-انتهى. قال القاري: وقد يقال: لعل المراد أن يقع القيام في جميع ما يطلق عليه إسم الليل من أجزاء تلك الليلة، وهو أبلغ من القيام فيها، وحسنه أيضا مقابلة قوله: (وصوموا يومها) أي في نهار تلك الليلة بكماله، ويعاضده قوله: (فإن الله تعالى ينزل فيها) أي في تلك الليلة. (لغروب الشمس) أي أول وقت غروبها. وقال السندي: أي في وقت غروبها أو مع غروبها متصلا به. (ألا) للتنبيه والعرض. (من) زائدة لتأكيد الاستغراق، وحذفت مما بعده للإكتفاء، قال القاري. (مستغفر) يستغفر (فأغفر له) قال الطيبي: بالنصب على جواب العرض و"من" في مستغفر زائدة بشهادة قرينه، والتقدير ألا مستغفر فأغفر له. (ألا مسترزق) بالرفع. (فأرزقه) بالنصب. (ألا مبتلى) أي مستعف يطلب العافية، وهو مقدر لظهوره. (فأعافيه). ولا يشكل وجود كثير من المبتلين يسألون العافية ولا يجابون لعدم استجماعهم لشروط الدعاء. (ألا كذا) من طالب عطاء فأعطيه. (ألا كذا) من طالب دفع بلاء فأدفعه. والحديث يدل على ندب صوم يوم ليلة النصف من شعبان، لكنه ضعيف جدا كما ستعرف، والإباحة والندب من الأحكام الخمسة الشرعية، ولا يعمل بالضعيف في الأحكام، كما تقرر في موضعه، وأما في الفضائل فيعمل به، لكن بشروط ثلاثة لا يوجد شيء منها ههنا، فإن هذا الحديث شديد الضعف، وليس هو بمندرج تحت أصل معمول به، ولا يعتقد الاحتياط أحد ممن يعمل به، بل يعتقد ثبوته، كما هو الظاهر من حال من يصوم ذلك اليوم. هذا، وقد استدل لذلك بالأحاديث التي فيها الندب إلى صيام أيام البيض. ولا يخفى بطلانه، فإن المطلوب هو استحباب صوم يوم واحد فقط أي الخامس عشر من
(6/140)
شعبان خاصة، وأين هذا من الندب
إلى صيام ثلاثة أيام أي البيض من كل شهر.
رواه ابن ماجه.
(38) باب صلاة الضحى
وقد يستدل لذلك أيضا بما روى الشيخان عن عمران بن حصين مرفوعا في صيام سرر شعبان.
وقد قيل في تفسير السرر: أنه وسط الشهر. وفيه أن الجمهور على أن المراد بالسرر هنا
آخر الشهر، سميت بذلك لاستمرار القمر فيها، وهي ليلة ثمان وعشرين وتسع وعشرين
وثلاثين. وبه فسر أبوعبيد، واختاره البخاري حيث بوب عليه: باب الصوم من آخر الشهر،
وهذا لمن كانت له عادة بصيام آخر كل شهر، فإنه مستثنى من النهي عن تقدم رمضان بيوم
أو يومين، ومأمور بأن لا يترك ما كان اعتاده من ذلك. ولو سلمنا أن المراد به وسط
الشهر لا آخره لا يثبت المطلوب؛ لأن الحديث يدل حينئذ على ندب صيام أيام البيض؛
لأنها وسط الشهر. ويؤيده الأحاديث التي فيها الحض على صيام البيض. والحاصل أنه ليس
في صوم يوم ليلة النصف من شعبان حديث مرفوع صحيح أو حسن أو ضعيف خفيف الضعف ولا
أثر قوي أو ضعيف. (رواه ابن ماجه) في أواخر الصلاة، وسنده ضعيف جدا؛ لأن فيه أبا
بكر بن عبدالله بن محمد بن أبي سبرة القرشي العامري المدني، وقد ينسب إلى جده. قال
في التقريب: رموه بالوضع. قلت: ضعفه ابن معين وابن المديني والجوزجاني والبخاري.
وقال النسائي: متروك الحديث. وقال البخاري وابن المديني مرة: منكر الحديث. وقال
عبدالله وصالح ابنا أحمد عن عن أبيهما قال كان أبوبكر بن أبي سبرة يضع الحديث،
ويكذب. وقال ابن عدي: هو في جملة من يضع الحديث. وقال ابن حبان والحاكم
أبوعبدالله: يروي الموضوعات عن الثقات، زاد ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. كذا في
تهذيب التهذيب.
(6/141)
(باب صلاة الضحي) قال العيني في شرح البخاري: الضحى بالضم فوق الضحوة، وهي ارتفاع الشمس أول النهار. والضحاء بالفتح والمد هو إذا علت الشمس إلى ربع السماء فما بعده-انتهى. وقال المجد في القاموس: الضحو والضحوة. (كلاهما بفتح المعجمة وسكون المهملة) والضحية كعشية ارتفاع النهار. والضحى فويقه. والضحاء بالمد إذا كرب انتصاف النهار-انتهى مختصرا. قال القاري: قيل: التقدير صلاة وقت الضحى، والظاهر أن إضافة الصلاة إلى الضحى بمعنى في كصلاة الليل وصلاة النهار، فلا حاجة إلى القول بحذف المضاف. وقيل: من باب إضافة المسبب إلى السبب كصلاة الظهر-انتهى. قيل: وقت الضحى عند مضي ربع اليوم إلى قبيل الزوال. وقيل: هذا وقته المتعارف. وأما وقته فوقت صلاة الإشراق. وقيل: الإشراق أو الضحى. قال ابن العربي: هي كانت صلاة الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى مخبرا عن دواد عليه السلام:
(6/142)
?إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق? [18:38]. وروى ابن أبي شيبة في المصنف، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس أنه سئل عن صلاة الضحى. فقال: إنها في كتاب الله، ولا يغوص عليها الأغواص، ثم قرأ. ?في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له بالغدو والآصال? [36:24] وروى أيضا عنه قال: لم يزل في نفسي من صلاة الضحى حتى قرأت. ?إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق?. واختلف العلماء في حكمها، وقد جمع ابن القيم في زاد المعاد (ج1:ص92-97) الأقوال، فبلغت ستة: الأول أنها مستحبة، واختلف في عددها فقيل: أقلها ركعتان، وأكثرها وأفضلها ثمان، وهو مذهب الحنابلة والمالكية والشافعية في القول المعتمد عندهم، وقيل: أكثرها ثنتا عشرة ركعة وأوسطها ثمان، وهو أفضلها لثبوته بفعله عليه السلام وقوله. وأما أكثرها فبقوله فقط، وهو مذهب الحنفية والشافعية أيضا في قول. قال النووي في الروضة: أفضلها ثمان، وأكثرها ثنتا عشرة. قال الحافظ: فرق بين الأكثر والأفضل، ولا يتصور ذلك إلا فيمن صلى ثنتي عشر بتسليمة واحدة، فإنها تقع نفلا مطلقا عند من يقول إن أكثر سنة الضحى ثمان ركعات فأما من فصل فإنه يكون صلى الضحى، وما زاد على الثمان يكون له نفلا مطلقا، فتكون صلاة اثنتي عشرة في حقه أفضل من ثمان لكونه أتى بالأفضل وزاد. وقيل: أفضلها أربع ركعات لكثرة الأحاديث الواردة في ذلك. وذهب قوم منهم أبوجعفر الطبري، وبه جزم الحليمي والروياني من الشافعية والباجي من المالكية أنه لا حد لأكثرها. الثاني لا تشرع إلا بسبب، واحتج له بأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعلها إلا بسب، واتفق وقوعها وقت الضحى. وتعددت الأسباب فحديث أم هاني، الآتي في صلاته يوم الفتح كان بسبب الفتح، وإن سنة الفتح أن يصلي ثمان ركعات، ونقله الطبري من فعل خالد بن الوليد لما فتح الحيرة، وفي حديث عبدالله بن أبي أوفى أنه صلى الله عليه وسلم صلى الضحى حين بشر برأس أبي جهل،
(6/143)
وهذه صلاة شكر كصلاة يوم الفتح، وصلاته في بيت عتبان إجابة لسؤاله أن يصلي في بيته مكانا يتخذه مصلى، فاتفق أنه جاءه وقت الضحى فاختصره الراوي فقال: صلى في بيت الضحى، وحديث عائشة لم يكن يصلي الضحى إلا أن يجيء من مغيبه؛ لأنه كان ينهى عن الطروق ليلا، فيقدم في أول النهار، فيبدأ بالمسجد، فيصلي وقت الضحى. الثالث لا تستحب أصلا، وصح عن عبدالرحمن بن عوف أنه لم يصلها، وكذلك ابن مسعود. الرابع يستحب فعلها تارة وتركها تارة بحيث لا يواظب عليها، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد، والحجة فيه حديث أبي سعيد الآتي في الفصل الثالث. وعن عكرمة كان ابن عباس يصليها عشرا ويدعها عشرا. وقال الثوري عن منصور: كانوا يكرهون أن يحافظوا عليها كالمكتوبة. الخامس: تستحب صلاتها، والمواظبة عليها في البيوت للأمن من خشية
(6/144)
أن ترى حتما. السادس أنها بدعة، صح ذلك عن ابن عمر. قلت: ورجح ابن القيم القول الثاني، وبسط الكلام على الأحاديث المثبتة لها. والراجح عندنا هو القول الأول أعني أنها مستحبة، وإليه ذهبت الأئمة الأربعة وأتباعهم؛ لأن الأحاديث الواردة بإثباتها قد بلغت مبلغا لا تقصر عن اقتضاء الاستحباب، وفيها الصحيح والحسن وما يقاربه، وقد جمع الحاكم الأحاديث في إثباتها في جزء مفرد عن نحو عشرين نفسا من الصحابة، وكذلك السيوطي صنف جزءا في الأحاديث الواردة في إثباتها، وروى فيه عن جماعة من الصحابة أنهم كانوا يصلونها. قال الزبيدي في شرح الإحياء: ورد فيها أحاديث كثيرة صحيحة مشهورة، حتى قال ابن جرير الطبري: إنها بلغت حد التواتر-انتهى. وقال البيجوري في شرح الشمائل: وبالجملة فقد قام الإجماع على استحبابها وفي شأنها أحاديث كثيرة. وأما احتجاج القائلين بأنها لا تشرع إلا لسبب بما سلف فيرده ويبطله الأحاديث التي ذكرها المصنف في هذا الباب، والعيني في شرح البخاري، والشوكاني في النيل، وابن عبدالبر في الاستذكار والتمهيد، والزبيدي في شرح الإحياء، والهيثمي في مجمع الزوائد. وأما ما روي عن ابن عمر أنه قال في الضحى إنها بدعة، فقد قال النووي: إنه محمول على أن صلاتها في المسجد والتظاهر بها، كما كانوا يفعلونها بدعة، لا أن أصلها في البيوت مذموم. قيل: وهذا الاختلاف إنما هو في الصلاة التي تصلي عند مضي ربع اليوم إلى قبيل الزوال لا في التي تؤدي بعد خروج وقت الكراهة أول النهار وتسمى صلاة الإشراق. ثم إن صلاة الضحى وصلاة الإشراق واحدة أو ثنتان؟ فقيل: إنهما واحدة، وقتها من بعد خروج وقت الكراهة إلى قبيل الزوال. وقيل صلاة الضحى غير صلاة الإشراق، فهما صلاتان، يؤدي الإشراق في الضحوة الصغرى، وصلاة الضحى في الضحوة الكبرى، ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الإشراق في الأحاديث التي رغب فيها في الجلوس في المسجد بعد صلاة الصبح حتى تطلع
(6/145)
الشمس، فيصلي ركعتين. قال
القاري في شرح حديث معاذ بن أنس الآتي: وهذه الصلاة تسمى صلاة الاشراق، وهي أول
صلاة الضحى. قلت: ويدل عليه أيضا الأحاديث التي في الترغيب في أربع ركعات من أول
النهار، فإنها أوفق بصلاة الإشراق. ويدل عليه أيضا حديث أبي ذر في الفصل الأول وما
في معناه، فإن المناسب لأداء ما عليه من الحق أن يصليها أول النهار بعد خروج وقت
الكراهة. قال القاري: التحقيق أن أول وقت الضحى إذا خرج وقت الكراهة، وآخره قبيل
الزوال، وإن ما وقع في أوائله يسمى صلاة الاشراق أيضا، وما وقع بعد ذلك إلى آخره
يختص باسم صلاة الضحى-انتهى بتصرف يسير: وقال في شرح الإحياء: أما وقتها أي الضحى
فقد روى على أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى ستا في وقتين: الأول إذا أشرقت
الشمس وارتفعت قيد رمح قام، فصلى ركعتين، وهذه الصلاة المسماة بصلاة الإشراق عند
مشائخنا. والثاني إذا انبسطت الشمس وكانت في ربع السماء، صلى أربعا. قال العراقي:
أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث علي كان
?الفصل الأول?
1317- (1) عن أم هانئ، قالت: ((إن النبي ? دخل بيتها يوم فتح مكة، فاغتسل، وصلى
ثماني ركعات لم أر صلاة قط أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود. وقالت في رواية
أخرى: وذلك ضحى)).
النبي صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس من مطلعها قيد رمح أو رمحين كقدر صلاة
العصر من مغربها صلى ركعتين، ثم أمهل حتى إذا ارتفع الضحى صلى أربعا. لفظ النسائي.
وقال الترمذي: حسن –انتهى. قلت: هذا الحديث ظاهر بل نص في التفريق بين صلاتي
الإشراق والضحى. والله أعلم.
(6/146)
1317- قوله: (عن أم هانئ) بهمزة بعد النون. (دخل بيتها يوم فتح مكة) في رمضان سنة ثمان من الهجرة. (فاغتسل) أي بيتها، كما هو ظاهر التعبير بالفاء المقتضية للترتيب والتعقيب، لكن في مسلم كالموطأ من طريق أبي مرة عنها أنها قالت: ذهبت إلى النبي ? وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل. قال الحافظ: وجمع بينهما بأن ذلك تكرر منه. ويؤيده ما رواه ابن خزيمة من طريق مجاهد عن أم هانئ، وفيه أن أبا ذر ستره لما اغتسل. وفي رواية أبي مرة: أن فاطمة بنته هي التي سترته. ويحتمل أن يكون نزل في بيتها بأعلى مكة، وكانت هي في بيت آخر بمكة، فجاءت إليه فوجدته يغتسل فيصح القولان. وأما الستر فيحتمل أم يكون أحدهما ستره في ابتداء الغسل، والآخر في أثنائه- انتهى. (وصلى ثماني) بالياء التحتية المفتوحة، وللأصيلي وأبي ذر ثمان بإسقاط الياء. قاله القسطلاني. (ركعات) زاد كريب عن أم هانئ يسلم من كل ركعتين. أخرجه أبوداود وابن خزيمة، وفيه رد على من تمسك به صلاتها موصولة سواء صلى ثمان ركعات أو أقل. (فلم أر صلاة) أي ما رأيته صلى صلاة. (قط) أي أبدا. (أخف منها) يعني من صلاة النبي ?. وفي رواية: فما رأيته صلى صلاة قط أخف منها أي من هذه الثمان. وفي رواية لمسلم: لا أدري أقيامه فيها أطول أم ركوعه أم سجوده كل ذلك متقارب. واستدل به على استحباب تخفيف صلاة الضحى. وفيه نظر لاحتمال أن يكون السبب فيه التفرغ لمهمات الفتح لكثرة شغله به، وقد ثبت من فعله ? أنه صلى الضحى فطول فيها. أخرجه ابن أبي شيبة من حديث حذيفة. (غير أنه) عليه الصلاة والسلام. (يتم) أي كان يتم (الركوع والسجود) قالته دفعا لتوهم من يفهم أنه نقص منهما حيث عبرت بأخف. وقال الطيبي: نصب غير على استثناء، وفيه إشعار بالاعتناء بشأن الطمأنينة في الركوع والسجود؛ لأنه عليه الصلاة والسلام خفف سائر الأركان من القيام والقراءة والتشهد، ولم يخفف من الطمأنينة في الركوع والسجود- انتهى. (وقالت) أي أم
(6/147)
هانئ. (وذلك ضحى) أي
متفق عليه.
1318- (2) وعن معاذة، قالت: سألت عائشة: ((كم كان رسول الله ? يصلي صلاة الضحى؟
قالت: أربع ركعات ويزيد ما شاء الله))
ما فعله ? صلاة ضحى أو ذلك الوقت وقت ضحى، ويؤيد الأول ما يأتي من رواية أبي داود
وابن عبدالبر وغيرهما. والحديث استنبط منه سنية صلاة الضحى خلافا لمن قال ليس في
حديث أم هانئ دلالة لذلك بل هو إخبار منها بوقت صلاته فقط وكانت سنة الفتح. قال
السهيلي: هذه الصلاة تعرف عند العلماء بصلاة الفتح، وكان الأمراء يصلونها إذا
فتحوا بلدا، صلاها خالد بن الوليد لما فتح الحيرة، وصلاها سعد بن أبي وقاس حين
افتتح المدائن في إبوان كسرى، والأصل فيها صلاته صلى الله عليه وسلم يوم الفتح.
وقيل: إنها كانت قضاء عما شغل عنه تلك الليلة من حزبه فيها. وأجيب بأن الصواب صحة
الاستدلال به لقولها في حديث أبي داود وغيره صلى سبحة الضحى. والسبحة بالضم الصلاة
ومسلم في الطهارة ثم صلى ثمان ركعات سبحة الضحى، وفي التمهيد لابن عبدالبر قالت:
قدم رسول الله ? مكة فصلى ثمان ركعات، فقلت: ما هذه الصلاة، قالت: هذه صلاة الضحى،
واستدل بحديث الباب على أن أفضلها ثمان ركعات وهي أكثر ما ورد من فعله صلى الله
عليه وسلم، وقد ورد ذلك من قوله أيضا وورد من فعله دون ذلك ركعتان وأربع وست، وورد
الزيادة على الثمان من قوله فقط، ففي حديث أبي ذر مرفوعا قال: إن صليت الضحى عشرا
لم يكتب لك ذلك اليوم ذنب، وإن صليتها اثنتي عشرة ركعة بنى الله لك بيتا في الجنة.
رواه البيهقي، وقال: في إسناده نظر، وضعفه النووي في شرح المهذب، وفي ثنتي عشرة
أحاديث أخرى يقوي بعضها بعضا، وهي أكثر ما ورد في صلاة الضحى. (متفق عليه) وأخرجه
أيضا مالك والترمذي وأبوداود والبيهقي (ج3:ص48).
(6/148)
1318- قوله: (وعن معاذة) بضم
الميم بنت عبدالله العدوية. (كم كان رسول الله ?) أي كم ركعة، وهو مفعول مطلق
لقوله: (يصلي صلاة الضحى) وفي ورواية ابن ماجه: أ كان النبي ? يصلي الضحى؟ قالت
نعم. (قالت: أربع ركعات) روى الحاكم من طريق أبي الخير عن عقبة بن عامر قال: أمرنا
رسول الله ? أن نصلي الضحى بسور منها. ?والشمس وضحاها?. ?والضحى? ومناسبة ذلك
ظاهرة جدا. (ويزيد) عطف على مقدر، وهو مقول للقول أي يصلي أربع ركعات ويزيد (ما
شاء الله) قال المظهر: أي يزيد من غير حصر، ولكن لم ينقل أكثر من اثنتي عشرة ركعة.
وقال الحافظ: قد ذهب قوم منهم أبوجعفر الطبري وبه جزم الحليمي والروياني من
الشافعية إلى أنه لا حد لأكثرها، وروى من طريق إبراهيم النخعي قال: سأل رجل الأسود
بن يزيد كم أصلي
رواه مسلم.
(6/149)
الضحى قال: كم شئت، ثم ذكر الحافظ حديث عائشة هذا وقال: وهذا الإطلاق قد يحمل على التقييد، فيؤكد أن أكثرها اثنتا عشرة ركعة-انتهى. واعلم أنه قد جاء عن عائشة في صلاة الضحى أشياء مختلفة، فروي عنها أنه ? صلاها من غير تقييد، كما في حديث الباب، وروي عنها أنها سئلت هل كان رسول الله ? يصلي الضحى؟ قالت: لا إلا أن يجيء من مغيبه. أخرجه مسلم وروى عنها قالت: ما رأيت رسول الله ? يصلي سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها. متفق عليه. ففي رواية الكتاب إثباتها مطلقا، وفي الثالثة النفي مطلقا، وفي الثانية الإثبات مقيدا، وقد اختلف العلماء في ذلك فذهب ابن عبدالبر وجماعة إلى ترجيح الرواية الثالثة؛ لاتفاق الشيخين عليها فتقدم على ما انفرد به مسلم، وذهب بعضهم إلى ترجيح رواية الإثبات، وقالوا: إن عدم رؤيتها لذلك لا يستلزم عدم الوقوع، ويؤيد ذلك روايات من روى عنه من الصحابة الإثبات. وذهب بعضهم إلى الجمع، قال ابن حبان: قولها ما كان يصلي إلا أن يجيء من مغيبه مخصوص بالمسجد، وقولها: كان يصلي أربعا ويزيد محمول على البيت، وقولها: ما رأيته يصلي سبحة الضحى المنفي فيه صفة مخصوصة. وجمع عياض بين هذا وبين الثاني أي قولها: كان يصلي أربعا بأن المنفي في الثالث، أي في قولها ما رأيته يصلي الرؤية بنفسها، وفي الثاني إخبار الصلاة برواية غيرها، فأخبرت في الإنكار عن مشاهدتها، وفي الإثبات عن غيرها. وقال المنذري: يحتمل أنها أخبرت في الإنكار عن رؤيتها ومشاهدتها، وفي الآخر بغير المشاهدة، إما من خبره عليه السلام أو خبر غيره عنه. وجمع الباجي بأن النفي في قولها: ما رأيته يصلي مقيد بدون السبب، والإثبات في قولها كان يصلي أربعا مقيد بالسبب، وهو المجيء من السفر وإن لم يذكر فيهما، كما في بينه قولها: لا إلا أن يجيء من مغيبه. وقيل في الجمع أيضا: يحتمل أن يكون لفت صلاة الضحى المعهودة حينئذ من هيئة مخصوصة بعدد مخصوص في وقت مخصوص، وأنه ? كان
(6/150)
يصليها إذا قدم من سفر لا بعدد
مخصوص ولا بغيره، كما قالت: يصلي أربعا ويزيد ما شاء الله. قال المنذري: وقد يكون.
الإنكار إنما هو لصلاة الضحى المعهودة عند الناس على الذي اختاره جماعة من السلف
من صلاتها ثمان ركعات وأنه كان يصليها أربعا. ويزيد ما شاء فيصليها مرة أربعا ومرة
ستا ومرة ثمانية، وأقلها ركعتان. وقيل: النفي محمول على صلاة الاشراق، فإنها ما
رأته ? يصليها قط؛ لأنه كان يصليها في المسجد إذا خرج وقت الكراهة، وقولها: لا إلا
أن يجيء من مغيبه، وقولها: كان يصلي أربعا محمول على صلاة الضحى. والنفي المقيد
بغير المجيء من مغيبه محمول على المسجد والإثبات مطلقا على البيت، والله أعلم.
(رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص47) وأخرجه أبويعلى من طريق
عمرة عن عائشة قالت كان رسول الله ? يصلي الضحى أربع ركعات لا يفصل بينهن بكلام.
1319- (3) وعن أبي ذر قال: قال رسول الله ?: ((يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة،
فكل تسبيحه صدقة، وكل تحميده صدقة، وكل تهليله صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر
بالمعروف صدقة، ونهى عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى))
(6/151)
1319- قوله: (يصبح على كل سلامى) بضم السين المهملة وتخفيف اللام وفتح الميم. قال النووي: أصله عظام الأصابع وسائر الكف، ثم استعمل في جميع عظام البدن ومفاصله، ويدل على ذلك ما في صحيح مسلم من حديث عائشة أن رسول الله ? قال: خلق الإنسان على ستين وثلثمائة مفصل على كل مفصل صدقة-انتهى. وفي النهاية: السلامى جمع سلامية، وهي الأنملة من الأنامل الأصابع. وقيل: واحده وجمعه سواء ويجمع على سلاميات، وهي التي بين كل مفصلين من أصابع الإنسان. (من أحدكم صدقة) قال الطيبي: اسم يصبح. أما صدقة أي كصبح الصدقة وأحبه على كل سلامي. وأما من أحدكم على تجويز زيادة من، والظرف خبره، وصدقة فاعل الطرف، أي يصبح أحدكم واجبا على كل مفصل منه صدقة. وأما ضمير الشأن والجملة الاسمية بعدها مفسرة له. قال عياض: يعني أن كل عظم من عظام ابن آدم وكل مفصل من مفاصله يصبح سليما عن الآفات باقيا على الهيئة التي تتم بها منافعه فعليه صدقة شكرا لمن صوره ووقاه عما يغيره ويؤذيه. (فكل تسبيحه صدقة) قال الطيبي: الفاء تفصيلية ترك تعديد كل واحد من المفاصل للاستغناء يذكر تعديد ما ذكر من التسبيح وغيره-انتهى. أو لأن تعديد المفاصل يجر إلى الإطالة، وفي تركه إيماء إلى قوله تعالى. ?وإن تعدو نعمة الله لا تحصوها? [34:14]. والمقصود ما به القيام بشكرها على أن جعل له ما يكون به متمكنا من الحركات والسكنات، وليس الصدقة بالمال فقط بل كل خير صدقة. (وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة) وكذا سائر الأذكار وباقي العبادات صدقات على نفس الذاكر. (وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة)؛ لأن منفعتهما راجعة إليه وإلى غيره من المسلمين، وفي ترك ذكر الصدقة الحقيقية تسلية للفقراء والعاجزين عن الخيرات المالية. (ويجزئ) قال النووي: ضبطناه بالضم أي ضم الياء من الإجزاء، وبالفتح من جزى يجزي أي يكفي. (من ذلك) هي بمعنى عن أي يكفي عما ذكر مما وجب على السلامي
(6/152)
من الصدقات. (ركعتان) لأن
الصلاة عمل بجميع أعضاء البدن فيقوم كل عضو بشكره، ولاشتمال الصلاة على الصدقات
المذكورة وغيرها، فإن فيها أمرا للنفس بالخير ونهيا لها عن ترك الشكر، وإن الصلاة
تنهى عن الفحشاء والمنكر. (يركعهما من الضحى) أي من صلاة الضحى، أو في وقت الضحى.
والحديث يدل على عظم فضل صلاة الضحى وكبر موقعها وتأكيد مشروعيتها، وأن ركعتيها
تجزئان عن ثلثمائة وستين صدقة، وما كان كذلك فهو حقيق بالمواظبة والمداومة، ويدل
أيضا على مشروعية الاستكثار من التسبيح والتحميد والتهليل والأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر وسائر أنواع الطاعات والقربات؛ ليسقط بفعل ذلك ما على الإنسان من
الصدقات اللازمة في كل يوم.
رواه مسلم.
1320- (4) وعن زيد بن أرقم أنه رأى قوما يصلون من الضحى، فقال: ((لقد علموا أن
الصلاة
في غير هذه الساعة أفضل، إن رسول الله ? قال: صلاة الأوابين حين ترمض الفصال ))
(رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والبيهقي (ج3:ص47).
(6/153)
1320- قوله: (رأى قوما يصلون) أي في مسجد قباء، كما في رواية البيهقي. (من الضحى) أي بعد طلوع الشمس وارتفاعها شيئا يسيرا. وفي رواية للبيهقي: رأى نأسا جلوسا إلى قاص، فلما طلعت الشمس ابتدروا السواري يصلون. قال الطيبي: "من" زائدة أي يصلون صلاة الضحى، ويجوز أن تكون تبعيضية، وعليه ينطبق قوله: (لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل) أنكر عليهم إيقاع صلاتهم في بعض وقت الضحى أي أوله ولم يصبروا إلى الوقت المختار، أي كيف يصلون مع علمهم بأن الصلاة في غير هذا الوقت أفضل، ويجوز أن تكون ابتدائية أي صلاة مبتدأة من أول الوقت، ويكون المعنى إنكار إنشاء الصلاة في أول وقت الضحى. (إن رسول الله ?) بكسر الهمزة استئناف بيان، ويجوز فتحها للعله. (قال) وفي رواية: خرج رسول الله ? على أهل قباء، وهم يصلون فقال (صلاة الأوابين) بتشديد الواو جمع أواب، وهو الكثير الرجوع إلى الله تعالى بالتوبة عن الذنوب وبالإخلاص وفعل الخيرات، من آب إذا رجع. (حين ترمض) بفتح التاء الفوقية والميم من باب فرح أي تحترق من الرمضاء، وهو شدة حرارة الأرض من وقوع الشمس على الرمل وغيره، وذلك يكون عند ارتفاع الشمس وتأثيرها الحر. (الفصال) بكسر الفاء جمع الفصيل، ولد الناقة إذا فصل عن أمه، يعني تحترق أخفافها من شدة حر النهار. وقيل: لأن هذا الوقت زمان الإستراحة فإذا تركها ورجع إلى الله تعالى بالاشتغال بالصلاة استحق الثناء الجميل. قال ابن الملك: إنما أضاف الصلاة في ذلك الوقت إلى الأوابين لميل النفس فيه إلى الدعة والاستراحة، فالاشتغال فيه بالصلاة أوب من مراد النفس إلى مرضات الرب. وقال التوربشتي: إنما قال ? هذا القول حين دخل مسجد قباء، ووجد أهل قباء يصلون في ذلك الوقت وإنما مدحهم بصلاتهم في الوقت الموصوف؛ لأنه وقت تركن فيه النفوس إلى الاستراحة ويتهيأ فيه أسباب الخلوة وصرف العناية إلى العبادة، فيرد على قلوب الأوابين من الإنس بذكر الله
(6/154)
وصفاء الوقت ولذاذة المناجاة
ما يقطعهم عن كل مطلوب سواه-انتهى. والحديث يدل على أن المستحب فعل الضحى في ذلك
الوقت، وقد توهم أن قول زيد بن أرقم أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل يدل على نفي
صلاة الضحى، وليس الأمر كذلك بل مراده أن تأخير الضحى إلى ذلك الوقت أفضل. قلت:
الأحاديث الواردة في الضحى تتضمن صلاتين: إحداهما ما يفعل بعد طلوع الشمس إذا خرج
وقت
رواه مسلم.
?الفصل الثاني?
1321، 1322-(5، 6) عن أبي الدرداء، وأبي ذر قالا: ((قال رسول الله ? عن الله تبارك
وتعالى
أنه قال: يا ابن آدم! اركع لي أربع ركعات من أول النهار، أكفك آخره)) رواه
الترمذي.
الكراهة، ويسمونها صلاة الاشراق وصلاة الضحوة الصغرى أيضا والأخرى قبيل نصف النهار
عند شدة الحر، وتسمى صلاة الضحوة الكبرى، وهذه هي المرادة في هذا الحديث، وجاء في
الأحاديث اسم الضحى شاملا لكل من الصلاتين. (رواه مسلم) في باب صلاة الليل. وأخرجه
أيضا أحمد والبيهقي (ج3 ص39). وفي الباب عن أبي هريرة مرفوعا قال: لا يحافظ على
صلاة الضحى إلا أواب. قال: وهي صلاة الأوابين. أخرجه الحاكم (ج1 ص344) وصححه على
شرط مسلم ووافقه الذهبي، وأخرجه أيضا الطبراني وابن خزيمة في صحيحه.
(6/155)
1321، 1322- قوله: (عن الله)
أي ناقلا أو قائلا عن الله (تبارك) أي كثر خيره وبركته. (وتعالى) أي علا مجده
وعظمته. وفي بعض نسخ الترمذي عن الله عزوجل. (أنه) بفتح الهمزة. (يا ابن آدم) وفي
نسخ الترمذي الموجودة عندنا ابن آدم بدون حرف النداء. (اركع) أي صل (لي) أي خالصا
لوجهي. (أربع ركعات من أول النهار) قيل: المراد صلاة الضحى. وقيل: صلاة الإشراق.
وقيل: سنة الصبح وفرضه؛ لأنه أول فرض النهار الشرعي. قلت: حمل الترمذي وأبوداود
هذه الركعات على صلاة الضحى، ولذا أخرجا هذا الحديث في باب صلاة الضحى. قال
العراقي: وهذا الاختلاف ينبني على أن النهار هل هو من طلوع الفجر أو من طلوع
الشمس؟ والمشهور الذي يدل عليه كلام جمهور أهل اللغة وعلماء الشريعة أنه من طلوع
الفجر، قال: وعلى تقدير أن يكون النهار من طلوع الفجر فلا مانع من أن يراد بهذه
الأربع ركعات بعد طلوع الشمس؛ لأن ذلك الوقت ما خرج عن كونه أول النهار، وهذا هو
الظاهر من الحديث وعمل الناس، فيكون المراد بهذه الأربع ركعات الضحى- انتهى. وقال
القاري: النهار في عرف الشرع من طلوع الصبح إلى المغرب، غايته أنه يطلق على الضحوة
وما قبلها أنه أول النهار، فمن تبعيضية في قوله من أول النهار. (أكفك) أي مهماتك. (آخره)
أي إلى آخر النهار. قال الطيبي: أي أكفك شغلك وحوائجك وارفع عنك ما تكرهه بعد
صلاتك إلى آخر النهار. والمعنى فرغ بالك بعبادتي في أول النهار أفرغ بالك في آخره
بقضاء حوائجك. (رواه الترمذي) وقال: حديث حسن غريب. قال المنذري في تلخيص السنن:
وفي إسناده إسماعيل بن عياش، وفيه مقال، ومن الأئمة من يصحح حديثه عن الشاميين،
وهذا الحديث شامي الإسناد، يعني أن إسماعيل بن عياش روى هذا الحديث
1323-(7) ورواه أبوداود، والدارمي، عن نعيم بن همار الغطفاني، وأحمد عنهم.
(6/156)
1324-(8) وعن بريدة، قال: سمعت
رسول الله ? يقول: ((في الإنسان ثلثمائة وستون مفصلا، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل
منه بصدقة،
عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان، وهما حمصيان شاميان. وقال في الترغيب بعد نقل
تحسين الترمذي: في إسناده إسماعيل بن عياش، ولكنه إسناده شامي. ورواه أحمد (ج6
ص440- 451) عن أبي الدرداء وحده ورواته كلهم ثقات.
1323- قوله: (ورواه أبوداود والدارمي) وكذا أحمد (ج5 ص286، 287) والبيهقي (ج3
ص48). (عن نعيم) مصغرا، صحابي، له أحاديث. (بن همار) بفتح الهاء وتشديد الميم
وبالراء المهملة. وقد اختلف في اسم والد نعيم هذا، فقيل: هكذا همار. وقيل: هبار
بفتح الهاء وتشديد الباء الموحدة. وقيل: هدار بفتح الدال المهملة المشددة وآخره
راء. وقيل: همام بميمين الأولى مشددة. وقيل: خمار بفتح الخاء المعجمة وشدة الميم
وبالراء. وقيل: حمار بفتح الحاء المهملة وتشديد الميم وآخره راء. وقيل: حمار بكسر
الحاء المهملة وخفة الميم. قال الحافظ في التقريب: ورجح الأكثر أن اسم أبيه همار.
وقال في التهذيب: وصحح الترمذي وابن أبي داود وأبوالقاسم البغوي وأبوحاتم بن حبان
وأبوالحسن الدارقطني وغيرهم: أن اسم أبيه همار. وقال الغلابي عن ابن معين: أهل
الشام يقولون نعيم بن همار، وهم أعلم به، يعني لأنه غطفاني شامي. (الغطفاني) منسوب
إلى قبيلة غطفان بحركتين. ذكر ابن أبي داود أن نعيم بن همار من غطفان جذام. قال
المنذري: حديث نعيم بن همار قد اختلف الرواة فيه اختلافا كثيرا، وقد جمعت طرقه في
جزء مفرد- انتهى. (وأحمد عنهم) أي يروي أحمد عن الثلاثة المذكورين من الصحابة، وفيه
نظر؛ لأني لم أجده في المسند من رواية أبي ذر، لا في مسند أبي الدرداء ولا في مسند
أبي ذر، اللهم أن يكون ذكره في أثناء مسند صحابي آخر، لكن قول المنذري في الترغيب
بعد نقل الحديث عن الترمذي من رواية أبي الدرداء وأبي ذر: "ورواه أحمد عن أبي
الدرداء وحده" يؤكد أن قول
(6/157)
المصنف "وأحمد عنهم"
وهم. والصواب أن يقول: وأحمد عنهما أي عن أبي الدرداء ونعيم بن همار، وفي الباب عن
غير واحد من الصحابة، ذكرهم الشوكاني والهيثمي وغيرهما.
1324- قوله: (مفصلا) بفتح الميم وكسر الصاد، كمجلس أحد مفاصل الأعضاء. (فعليه) أي
على الإنسان. (أن يتصدق عن كل مفصل منه بصدقة) و"على" هنا لتأكيد ندب
التصدق، لا بمعنى الوجوب الشرعي، إذ لم يقل أحد بوجوب ركعتي الضحى وسائر الصدقات
المذكورة، وإن كان الشكر على نعم الله تعالى إجمالا
قالوا: ومن يطيق يا نبي الله؟ قال: النخاعة في المسجد تدفنها، والشيء تنحيه عن
الطريق، فإن لم تجد، فركعتا الضحى تجزئك)). رواه أبوداود.
1325-(9) وعن أنس، قال: قال رسول الله ?: ((من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله
له
قصرا من ذهب في الجنة)) رواه الترمذي وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا
نعرفه إلا من هذا الوجه.
(6/158)
وتفصيلا واجبا، قاله القاري: (ومن يطيق ذلك) أي أن يتصدق ثلاث مائة وستين صدقة، فكأنهم حملوا الصدقة على المتعارف من الخيرات المالية، أي لا يطيق كل أحد ذلك؛ لأن أكثر الناس فقراء. ( قال) أي رسول الله ? (النخاعة) بضم النون. قيل: هي النخامة. وقيل: النخاعة هي الخارجة من أسفل الحلق الخارجة من الصدر، كمخرج الحاء. والنخامة هي الخارجة من مخرج الخاء النازلة من الدماغ. (في المسجد) أي النخاعة التي تكون في المسجد. (تدفنها) أي أيها المخاطب خطابا عاما، عدل عن صيغة الجمع لئلا يتوهم الاختصاص بالصحابة أي دفنها صدقة. (والشيء) بالرفع أي المؤذي للمار من شوك أو حجر أو غيرهما. (تنحيه) بالتشديد أي تبعده. (عن الطريق) أي تنحيه ذلك صدقة، وكذا كل معروف صدقة. وقال الطيبي: الظاهر أن يقال من يدفن النخاعة في المسجد، فعدل عنه إلى الخطاب العام اهتماما بشأن هذه الخلال، وأن كل من شأنه أن يخاطب بخطاب ينبغي أن يهتم بها. (فإن لم تجد) أي شيئا مما يطلق عليه اسم الصدقة عرفا أو شرعا يبلغ عدد الثلاث مائة والستين. (فركعتا الضحى) أي صلاته. (تجزئك) أي تكفيك عن جميعها، وأفرد الخبر باعتبار المعنى أي فصلاة الضحى تجزئك. قال المناوي: وخصت الضحى بذلك لتمحضها للشكر؛ لأنها لم تشرع جابرة لغيرها بخلاف الرواتب. (رواه أبوداود) في أواخر الأدب، وسكت عنه وقال المنذري: في إسناده علي بن الحسين بن واقد، وفيه مقال- انتهى. قلت: هو من رجال مقدمة صحيح مسلم، أخرج من طريقه كلام سفيان الثوري في عباد بن كثير، وليس هو من رجال صحيحه. قال أبوحاتم: ضعيف الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات، وكان إسحاق بن راهويه سيء الرأي فيه لعلة الإرجاء، كذا في التهذيب. وقال في التقريب: أنه صدوق يهم. وقال الذهبي: صدوق، فالظاهر أن حديثه حسن. والحديث أخرجه أيضا أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. قال المناوي: في شرح الجامع الصغير:
(6/159)
إسناده حسن.
1325- قوله: (من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة) هذا أكثر ما ورد من قوله في عدد صلاة
الضحى. قال العيني وغيره: لم يرد في عدد صلاة الضحى أكثر من ذلك. (رواه الترمذي
وابن ماجه) واستغربه الترمذي،
1326-(10) وعن معاذ بن أنس الجهني، قال: قال رسول الله ?: ((من قعد في مصلاه حين
ينصرف من صلاة الصبح، حتى يسبح ركعتي الضحى، لا يقول إلا خيرا، غفر له خطاياه وإن
كانت أكثر من زبد البحر)). رواه أبوداود.
?الفصل الثالث?
1327-(11) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ?: ((من حافظ على شفعة الضحى، غفرت له
ذنوبه
كما نقله المصنف، وذكره النووي في الأحاديث الضعيفة، قاله ميرك. وقال الحافظ في
الفتح: قال النووي: في شرح المهذب: فيه. (أي في فضل صلاة الضحى ثنتي عشرة ركعة)
حديث ضعيف، كأنه يشير إلى حديث أنس. (يعني الذي نحن بصدد شرحه). لكن إذا ضم إليه
حديث أبي ذر عند البزار، وحديث أبي الدرداء عند الطبراني. (وفي إسنادهما ضعف) قوى
وصلح للاحتجاج به، وقال فيه أيضا: أن حديث أنس ليس في إسناده من أطلق عليه الضعف،
وبه يندفع تضعيف النووي له، ولكنه تابعها الحافظ في التلخيص (ص118) حيث قال بعد
ذكر الحديث: وإسناده ضعيف.
(6/160)
1326- قوله: (الجهني) بضم
الجيم وفتح الهاء، منسوب إلى قبيلة جهنية مصغرا. (من قعد) أي استمر (في مصلاه) من
المسجد مشتغلا بذكر الله. (حين ينصرف) أي يفرغ. (حتى يسبح) أي إلى أن يصلي. (ركعتي
الضحى) أي بعد طلوع الشمس وارتفاعها. (لا يقول) أي فيما بينهما. (إلا خيرا) يعني
يستمر على الذكر في ذلك الوقت ولا يتكلم بسوء. وقال القاري: هو ما يترتب عليه
الثواب. واكتفى بالقول عن الفعل. (غفر له خطاياه) أي الصغائر، ويحتمل الكبائر،
قاله القاري. (وإن كانت أكثر من زبد البحر) الزبد بفتحتين ما يعلو الماء ونحوه من
الرغوة. والحديث من أدلة فضل صلاة الإشراق؛ لأنها أقرب النوافل بعد صلاة الصبح.
وقد تقدم أن الضحى يطلق على صلاة الإشراق أيضا. (رواه أبوداود) من طريق زبان بن
فائد عن سهل بن معاذ، وقد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري: سهل بن معاذ ضعيف،
والراوي عنه زبان بن فائد ضعيف أيضا. وقال العراقي: إسناده ضعيف. وأخرجه البيهقي
من طريق أبي داود (ج3 ص49).
1327- قوله: (من حافظ على شفعة الضحى) أي داوم عليها أو أداها على وجهها ولو مرة،
والمراد بشفعة الضحى ركعتا الضحى. قال الجزري في النهاية: من الشفع الزوج، ويروى
بالفتح والضم، كالغرفة والغرفة،
وإن كانت مثل زبد البحر)). رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه.
1328-(12) وعن عائشة: ((أنها كانت تصلي الضحى ثماني ركعات، ثم تقول: لو نشر لي
أبواي ما تركتها))
(6/161)
وإنما سماها شفعة؛ لأنها أكثر من واحدة. قال القتيبي: الشفع الزوج، ولم أسمع به مؤنثا إلا ههنا، وأحسبه ذهب بتأنيثه إلى الفعلة الواحدة أو إلى الصلاة- انتهى. وقال العراقي: المشهور في الرواية ضم الشين. (وإن كانت مثل زبد البحر) ما يعلو على وجهه عند هيجانه، مبالغة في الكثرة. قيل: إنما خص الكثرة بزبد البحر لاشتهاره بالكثرة عند المخاطبين. وقال ابن حجر: عبر هنا بمثل وفيما سبق بأكثر؛ لأن عمل ذلك أشق فكانت الزيادة به أحق. قال القاري: وفيه نظر؛ لأنه لا شبهة أن المواظبة المذكورة أقوى من مجرد القعود المسطور، اللهم إلا أن تكون المداومة فيه أيضا معتبرة، أو يضم إليه أداء الصلاة الفريضة- انتهى. (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه) من طريق نهاس ابن قهم عن شداد أبي عمار عن أبي هريرة، ونهاس ضعيف، وشداد ثقة، وفي سماعه من أبي هريرة خلاف. قال صالح بن محمد: شداد أبوعمار صدوق، لم يسمع من أبي هريرة، ولا من عوف بن مالك، كذا في التهذيب.
(6/162)
1328- قوله: (كانت تصلي الضحى
ثماني) بكسر النون وفتح الياء. (ركعات) قال الباجي: يحتمل أنها تفعل ذلك بخبر
منقول عن النبي ?، كخبر أم هانئ، ولذا اقتصرت على هذا العدد، ويحتمل أن هذا القدر
هو الذي كان يمكنها المداومة عليه، قال: وليست صلاة الضحى من الصلوات المحصورة
بالعدد، فلا يزاد عليها ولا ينقص منها، ولكنها من الرغائب التي يفعل الإنسان منها
ما أمكنه- انتهى. قال الزرقاني: هذا مختار الباجي، وإلا فالمذهب عندنا أن أكثرها
ثمان؛ لأن ذلك أكثر ما ورد من فعله ?- انتهى. وقال السيوطي: وهذا الذي قاله
الباجي، هو الصواب المختار، فلم يرد في شيء من الأحاديث ما يدل على حصرها في عدد
مخصوص. (ثم تقول) بيانا لشدة الاهتمام وحثا على المحافظة والمداومة. (لو نشر لي)
بضم النون وكسر الشين المعجمة أي أحي. (أبواي) أبوبكر وأم رومان. (ما تركتها) أي
ما تركت هذه اللذة بتلك اللذة. قال الطيبي: هم من باب التعليق على المحال العادي،
ولذلك خصته بقولها: لي أي لو فرض إحياءهما لي لم أتركها فكيف وأن ذلك محال عادة،
أي لا أدع هذه اللذة بتلك اللذة. وقال ابن حجر: معناه لو خصصت بإحياء أبوي الذي لا
ألذ منه لذات الدنيا. وقيل: لي أتركي لذة فعلها في مقابلة تلك اللذة ما تركت ذلك الإيثار
اللذة الأخروية وإن دعا الطبع الجبلي إلى تقديم تلك اللذة الدنيوية، أو المعنى ما
تركت هذه الصلاة اشتغالا بالترحيب بهما والقيام بخدمتهما، فهو كناية عن نهاية
المواظبة وغاية المحافظة بحيث لا يمنعها قاطع عنها- انتهى. قلت: وفي الموطأ: ما
تركتهن أي بضمير الجمع يعني
رواه مالك.
1329-(13) وعن أبي سعيد، قال: ((كان رسول الله ? يصلي الضحى حتى نقول: لا يدعها،
ويدعها حتى نقول: لايصليها)). رواه الترمذي.
1330-(14) وعن مورق العجلي قال: ((قلت لابن عمر: تصلى الضحى؟ قال: لا. قلت: فعمر؟
قال:لا. قلت: فأبو بكر؟ قال: لا. قلت: فالنبي ?؟ قال: لا إخاله)).
(6/163)
هذه الركعات فإن لذتها أكثر من
لذة إحيائهما. (رواه مالك) عن زيد بن أسلم عن عائشة أم المؤمنين.
1329- قوله: (حتى نقول) بالنون. (لا يدعها) أي لا يتركها أبدا. (ويدعها) أي
أحيانا. (حتى نقول لا يصليها) وفي بعض نسخ الترمذي: لا يصلي بدون الضمير المنصوب
وكان ذلك بحسب مقتضى الأوقات من العمل بالرخصة والعزيمة، كما يفعل في صوم النفل.
والحديث من أدلة القائلين بأن صلاة الضحى يستحب فعلها تارة وتركها تارة، بحيث لا
يواظب عليها بل يصلي أحيانا ويترك أحيانا، كما كان عادته ? من العمل بالرخصة
والعزيمة، وسيأتي شيء من الكلام في ذلك في شرح الحديث الآتي. وأما ما روي عنه ? أن
صلاة الضحى كانت واجبة عليه، فضعيف. قال الحافظ في الفتح: لم يثبت ذلك في خبر
صحيح. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا أحمد (ج3 ص21، 36) ونسبه الحافظ في الفتح
للحاكم. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب- انتهى. وفي سنده عطية بن سعيد بن جنادة
العوفي الكوفي، وهو صدوق، يخطىء كثيرا، وكان شيعيا مدلسا، قاله الحافظ.
(6/164)
1330- قوله: (وعن مورق) بضم
الميم وفتح الواو وتشديد الراء المكسورة، ابن المشمرج بضم الميم وفتح الشين
المعجمة وسكون الميم وفتح الراء وبكسرها وبالجيم، يكنى أبا المعتمر البصري، ثقة
عابد، من كبار الطبقة الوسطى من التابعين، مات سنة (103) وقيل: (105) وقيل: (108).
(العجلي) بكسر العين المهملة وسكون الجيم نسبة إلى عجل قبيلة. (تصلى الضحى) بحذف
أداة الاستفهام. وفي البخاري: أتصلي بإثباتها. (قال) ابن عمر. (لا) أصليها قال.
(قلت) له. (فعمر) كان يصليها. (قال لا) أي لم يصليها. (قلت فأبو بكر) كان يصليها.
(قال: لا) أي لم يصليها، والفاء للترقي من الأدنى إلى الأعلى. (قلت فالنبي ?) كان
يصليها. (قال: لا إخاله) برفع اللام وكسر الهمزة في الأشهر الأفصح. وقد تفتح
والخاء معجمة أي لا أظنه عليه الصلاة والسلام صلاها، وكان سبب توقف ابن عمر في ذلك
أنه بلغه عن غيره أنه صلاها، ولم يثق بذلك عمن ذكره، نعم جاء عنه الجزم بكونها
محدثة من رواية سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن مجاهد عنه، وروى البخاري في أول
رواه البخاري.
(39) باب التطوع
?الفصل الأول?
1331-(1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ? لبلال عند صلاة الفجر: ((يا بلال!
حدثني
بأرجى عمل عملته
(6/165)
أبواب العمرة من وجه آخر عن
مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبدالله بن عمر جالس إلى حجرة
عائشة، وإذا ناس يصلون الضحى فسألناه عن صلاتهم، فقال: بدعة، وروى سعيد بن منصور
أن ابن عمر كان لا يصلي الضحى إلا أن يأتي قباء، وهذا يحتمل أن يريد به صلاة تحية
المسجد في وقت الضحى لا صلاة الضحى، ويحتمل أن يكون ينويهما معا، كما قيل في ما
روى عنه أنه قال: ما صليت الضحى منذ أسلمت إلا أن أطوف البيت، أي فأصلي في ذلك
الوقت لا على نية صلاة الضحى بل على نية الطواف، ويحتمل أنه كان ينويهما معا. وفي
الجملة ليس في أحاديث ابن عمر هذه ما يدفع مشروعية صلاة الضحى؛ لأن نفيه محمول على
عدم رؤيته، لا على عدم الوقوع في نفس الأمر، أو الذي نفاه صفة مخصوصة، كما تقدم
نحوه في الكلام على حديث عائشة في الفصل الأول. قال عياض وغيره: إنما أنكر ابن عمر
ملازمتها وإظهارها في المساجد وصلاتها جماعة، لا أنها مخالفة للسنة. وقيل: لم يبلغ
ابن عمر فعل النبي ? وأمره بذلك. (رواه البخاري) الحديث من إفراد البخاري. قال الحافظ:
وليس لمورق المذكور في البخاري عن ابن عمر سوى هذا الحديث- انتهى. وأخرجه أيضا
أحمد (ج2 ص23).
(باب التطوع) أي سائر أنواع التطوع من الصلوات الثابتة عن النبي ? من صلاة الوضوء
وصلاة الاستخارة والتوبة والحاجة ومنها صلاة التسبيح، مأخوذ من الطوع والطاعة، وهو
الانقياد، ويطلق التطوع على كل عبادة نافلة مما لم يفرض ولم يجب فعله على العبد،
والمتطوع على كل متنفل بالخير أي الذي يأتي من الأعمال الصالحة زيادة على الفرائض
والواجبات، وأكثر إطلاق التطوع في الصلاة على غير سنن الرواتب، وصيغة التفعل
للمبالغة من حيث أن العبد يفعله من غير أن يكلفه الشارع بذلك، ويبالغ في الانقياد
له بفعله.
(6/166)
1331- قوله: (لبلال) هو ابن
رباح المؤذن. (عند صلاة الفجر) أي في الوقت الذي كان ? يقص فيه رؤياه ويعبر ما رآه
غيره من أصحابه. قال الحافظ: في قوله عند صلاة الفجر إشارة إلى أن ذلك وقع المنام؛
لأن عادته ? أنه كان يقص ما رآه ويعبر ما رآه أصحابه بعد صلاة الفجر، كما وردت
بذلك الأحاديث. (حدثني) أي أخبرني (بأرجى عمل عملته) بلفظ أفعل التفضيل المبني من
المفعول، وهو سماعي مثل أشغل وأعذر،
في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة. قال: ما عملت عملا أرجى عندي
أني لم أتطهر طهورا في ساعة من ليل ولا نهار،
(6/167)
أي أكثر مشغولية ومعذورية، والعمل ليس براج للثواب، وإنما هو مرجو الثواب، وأضيف إلى العمل؛ لأنه السبب الداعي إليه، والمعنى أخبرني بما أنت أرجى من نفسك به من أعمالك. قال التوربشتي: سأله عن أوثق أعماله وأحقها بالرجاء عنده وأضاف الرجاء إلى العمل؛ لأنه هو السبب الداعي إلى الرجاء، والمعنى أنبئني عن أعمالك بنا أنت أشد رجاء فيه أي يكون رجاءك بثوابه أكثر. (في الإسلام) زاد مسلم في روايته منفعة عندك. (فإني سمعت) أي الليلة، كما في مسلم، وفيه إشارة إلى أن ذلك وقع في المنام، ويدل على ذلك أيضا أن الجنة لا يدخلها أحد أي من غير الأنبياء إلا بعد الموت وإن كان النبي ? يدخلها يقظة كما وقع له في المعراج إلا أن بلالا لم يدخل. وقال التوربشتي: هذا شيء كوشف به ? من عالم الغيب في نومه أو يقظته. وقيل: هذا مبالغة في دخول الجنة، كأنه دخل في حال حياته، قلت: حديث بريدة الآتي في الفصل الثاني ظاهر في كونه رآه دخل الجنة، ويؤيد كونه وقع في المنام ما روى البخاري في أول مناقب عمر من حديث جابر مرفوعا: رأيتني دخلت الجنة فسمعت خشفة، فقيل: هذا بلال ورأيت قصرا بفنائه جارية، فقيل: هذا لعمر- الحديث. وبعده من حديث أبي هريرة مرفوعا: بينا أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب القصر، فقيل: هذا لعمر- الحديث. فعرف أن ذلك وقع في المنام ورؤيا الأنبياء وحي ولذلك جزم النبي ?له بذلك. (دف نعليك) بفتح الدال المهملة والفاء المشددة أي حسيسهما عند المشي فيهما. قال التوربشتي: أراد أخذ من دفيف الطائر إذا أراد النهوض قبل أن يستقل، وأصله ضربه بجناحيه، وفيه وهما جنباه فيسمع لهما حسيس. وقال الخليل: دف الطائر إذا حرك جناحيه، وهو قائم على رجليه. وقال الحميدي: الدف الحركة الخفيفة والسير اللين. والمراد هنا الصوت اللين الملائم الناشيء من السير، ووقع في رواية لمسلم خشف نعليك بفتح الخاء وسكون الشين المعجمتين وتخفيف الفاء. قال
(6/168)
أبوعبيدة وغيره: الخشف الحركة
الخفيفة. (بين يدي في الجنة) ظرف للسماع، وتقدم بلال بين يدي الرسول عليه الصلاة
والسلام في الجنة على عادته في اليقظة لا يستدعي أفضليته على العشرة المبشرة
بالجنة فضلا عن رسول الله ?، بل هو سبق خدمة، كما يسبق العبد سيده، وإنما أخبره
عليه السلام بما رآه ليطيب قبله باستحقاقه الجنة ليداوم عليه ولإظهار رغبة
السامعين. وفيه إشارة إلى بقاء بلال على ما هو عليه في حال حياته واستمراره على
قرب منزلته وذلك منقبة عظيمة لبلال. (ما عملت عملا أرجى عندي أني) بفتح الهمزة.
و"من مقدرة قبلها صلة لأفعل التفضيل، وثبتت في رواية مسلم وللكشمهيني أن بنون
خفيفة بدل أني. (لم أتطهر طهورا) بضم الطاء زاد مسلم تاما أي لم أتوضأ وضوءا. (في
ساعة من ليل ولا نهار) هذا لفظ مسلم، وفي رواية البخاري: في ساعة ليل أو نهار. قال
إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي)). متفق عليه.
1332-(2) وعن جابر، قال: ((كان رسول الله ? يعلمنا الاستخارة في الأمور،
(6/169)
القسطلاني: بغير تنوين ساعة على الإضافة، كما في بعض الأصول المقابل على اليونينية، ورأيته بها كذلك، وفي بعضها ساعة بالتنوين، وجر ليل على البدل، وهو الذي ضبطه به الحافظ ابن حجر والعيني، ولم يتعرض لضبطه البرماوي، كالكرماني، ونكر ساعة لإفادة العموم، فيدل على جواز هذه الصلاة في الأوقات المكروهة، وتعقب بأن الأخذ بعموم هذا ليس بأولى من الأخذ بعموم النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة، وتعقبه ابن التين بأنه ليس فيه ما يقتضي الفورية فيحمل على تأخير الصلاة قليلا ليخرج وقت الكراهة، وأنه كان يؤخر الطهور إلى آخر وقت الكراهة لتقع صلاته في غير وقت الكراهة، ورد بأنه في حديث بريدة عند الترمذي وابن خزيمة في نحو هذه القصة: ما أصابني حدث قط إلا توضأت عندها، ولأحمد من حديثه إلا توضأت وصليت ركعتين، فدل على أن يعقب الحدث بالوضوء والوضوء بالصلاة في أي وقت كان. (إلا صليت) زاد الإسماعيلي لربي. (بذلك الطهور) بضم الطاء. (ما كتب لي أن أصلي) أي ما قدر لي أعم من النوافل والفرائض، وكتب على صيغة المجهول. والجملة في موضع نصب، وأن أصلي في موضع رفع. قال ابن التين: إنما اعتقد بلال ذلك؛ لأنه علم من النبي ? أن الصلاة أفضل الأعمال، وأن عمل السر أفضل من عمل الجهر. قال الحافظ. والذي يظهر أن المراد بالأعمال التي سأله عن أرجاها الأعمال المتطوع بها وإلا فالمفروضة أفضل قطعا- انتهى. والحكمة في فضل الصلاة على هذا الوجه من وجهين: أحدهما أن الصلاة عقب الطهور أقرب إلى اليقين منها إذا تباعدت؛ لكثرة عوارض الحدث من حيث لا يشعر المكلف. ثانيهما: ظهور أثر الطهور باستعماله في استباحة الصلاة وإظهار آثار الأسباب مؤكد لها ومحقق. وفي الحديث فضيلة الصلاة عقب الوضوء، وإنها سنة، وسؤال الشيخ عن عمل تلميذه ليحضه عليه ويرغبه فيه إن كان حسنا وإلا فينهاه. (متفق عليه) أخرجه البخاري في باب فضل الصلاة بعد الوضوء بالليل والنهار قبل أبواب
(6/170)
التطوع، ومسلم في الفضائل
واللفظ للبخاري إلا قوله: في ساعة من ليل ولا نهار فإنه لمسلم، ولفظ البخاري: في
ساعة ليل أو نهار، وسيأتي في حديث الترمذي أنه ذكر أمورا متعددة غير ذلك، فأما أن
يكون ذكر الكل فحفظ بعض الرواة هذا وبعضهم ذاك أو تكون الواقعة مكررة فذكر هذا في
مرة وذاك في أخرى.
1332- قوله: (يعلمنا الاستخارة) أي صلاتها ودعاءها، وهو استفعال من الخير ضد الشر،
أو من الخيرة بكسر أوله وفتح ثانية بوزن العنبة، اسم من قولك: خار الله له، أي
أعطاه ما هو خير له، واستخارا لله، طلب منه الخيرة، والمراد طلب خير الأمرين من
الفعل والترك لمن احتاج إلى أحدهما. (في الأمور) أي التي نريد
كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير
الفريضة،
(6/171)
الإقدام عليها مما يعتني بشأنها مثل السفر والنكاح والعمارة ونحوها لا كأكل والشرب المعتاد. ولأبي ذر والأصيلي زيادة: كلها أي جليلها وحقيرها، كثيرها وقليلها، فإن اللفظ يدل على العموم وأن المرء لا يحتقر أمرا لصغره وعدم الاهتمام به، فيترك الاستخارة فيه فرب أمر يستخف بأمره، فيكون في الإقدام عليه ضرر عظيم أو في تركه. قال ابن أبي جمرة: هو عام أريد به الخصوص، فإن الواجب والمستحب لايستخار في فعلهما، والحرام والمكروه لايستخار في تركهما، فانحصرا الأمر في المباح وفي المستحب إذا تعارض منه أمران أيهما يبدأ به ويقتصر عليه. وقال الحافظ: وتدخل الاستخارة فيما عدا ذلك في الواجب والمستحب المخير، وفيما كان زمنه موسعا. (كما يعلمنا السورة من القرآن) أي يعتني بشأن تعليمنا الاستخارة لعظم نفعها وعمومه كما يعتني بتعليمنا السورة، ففيه دليل على الاهتمام بأمر الاستخارة، وأنه متأكد مرغب فيه. قال الطيبي: فيه إشارة إلى الاعتناء التام البالغ بهذا الدعاء وهذه الصلاة لجعلهما تلوين للفريضة والقرآن. (يقول) بيان لقوله: "يعلمنا الاستخارة". (إذا هم أحدكم بالأمر) أي أراده، كما في حديث ابن مسعود عند الطبراني والحاكم. والأمر يعم المباح، وما يكون عبادة إلا أن الاستخارة في العبادة بالنسبة إلى إيقاعها في وقت معين، وإلا فهي خير، ويستثنى ما يتعين إيقاعها في وقت معين، إذ لا يتصور فيه الترك. قال القسطلاني: أي قصد أمرا مما لا يعلم وجه الصواب فيه. أما ما هو معروف خيره كالعبادات وصنائع المعروف فلا، نعم قد يفعل ذلك لأجل وقتها المخصوص كالحج في هذه السنة لاحتمال عدو أو فتنة ونحوهما. (فليركع) أي ليصل في غير وقت الكراهة عند الأكثرين، وهو أمر ندب يدل عليه الأحاديث الدالة على عدم وجوب صلاة زائدة على الخمس من قوله: "هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع"، وغير ذلك. (ركعتين) بنية الاستخارة، وهما أقل ما يحصل به المقصود. وهل يجزيء في ذلك
(6/172)
إذا صلى أربعا بتسليمة؟ يتمل
أن يقال يجزيء ذلك لحديث أبي أيوب الأنصاري المروي في صحيح ابن حبان وغيره:
"ثم صل ما كتب الله لك"، فهو دال على أن الزيادة على الركعتين لا تضر.
(من غير الفريضة) فيه دليل على أنه لا تحصل سنة صلاة الاستخارة بوقوع الدعاء بعد
صلاة الفريضة لتقييد ذلك في النص بغير الفريضة. وأما السنن الراتبة وغيرها من
النوافل المطلقة فقال العراقي: إن كان همه بالأمر قبل الشروع في الراتبة ونحوها،
ثم صلى من غير نية الاستخارة، وبدا له بعد الصلاة الإتيان بدعاء الاستخارة،
فالظاهر حصول ذلك- انتهى. والظاهر أنه لا يجزئ ذلك إلا إذا نوى تلك الصلاة بعينها،
وصلاة الاستخارة معا. وأفاد النووي أنه يقرأ في الركعتين: ?الكافرون? و?الإخلاص?
قال العراقي في شرح الترمذي: لم أقف على دليل ذلك، ولعله ألحقهما بركعتي الفجر
والركعتين بعد المغرب، قال: ولهما مناسبة بالحال لما فيهما من الإخلاص والتوحيد،
والمستخير محتاج لذلك، قال ومن المناسب أن يقرأ فيهما مثل قوله: ?وربك يخلق ما
يشاء
ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم،
فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم إن هذا
الأمر خير لي في ديني، ومعاشي،
(6/173)
ويختار?الآية [28: 68]، وقوله: ?وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة? الآية [33: 36]. (ثم ليقل) ندبا. وهذا ظاهر في تأخير الدعاء عن الصلاة، فلو دعا به في أثناء الصلاة احتمل الإجزاء، كما يشير إليه رواية أبي داود بلفظ: وليقل. (اللهم إني أستخيرك) أي أطلب منك بيان ما هو خير لي. (بعلمك) أي أسألك أن ترشدني إلى الخير فيما أريد بسبب أنك عالما. (واستقدرك) أي أطلب منك أن تجعل لي قدرة عليه، أي تجعلني قادرا عليه إن كان فيه خير. ويحتمل أن يكون المعنى أطلب منك أن تقدره لي، والمراد بالتقدير التيسير. (بقدرتك) الباء فيه وفي قوله: "بعلمك" للتعليل، أي لأنك أعلم وأقدر، أو للاستعانة، كقوله: ?بسم الله مجريها ومرساها? [11: 41] أي أطلب منك الخير والقدرة مستعينا بعلمك وقدرتك، أو للاستعطاف كما في قوله: ?رب بما أنعمت علي? [28: 17] أي بحق علمك وقدرتك الشاملين. (وأسألك من فضلك العظيم) أي أسألك ذلك لأجل فضلك العظيم لا لاستحقاقي لذلك ولا لوجوبه عليك، إذ كل عطائك فضل، ليس لأحد عليك حق في نعمة ولا في شيء، فكل ما تهب فهو زيادة مبتدأة من عندك لم يقابلها منا عوض فيما مضى ولا يقابلها فيما يستقبل. (فإنك تقدر) بالقدرة الكاملة على كل شيء ممكن تعلقت به إرادتك. (ولا أقدر) على شيء إلا بقدرتك وحولك وقوتك. (وتعلم) بالعلم المحيط بجميع الأشياء خيرها وشرها كليها وجزئيها ممكنها وغيرها. (ولا أعلم) شيئا منها إلا بإعلامك. (وأنت علام الغيوب) بضم الغين أي أنت كثير العلم بجميع المغيبات؛ لأنك تعلم السر وأخفى فضلا عن الأمور الحاضرة والأشياء الظاهرة في الدنيا والآخرة. قال الحافظ في قوله: "فإنك تقدر"الخ. إشارة إلى أن العلم والقدرة لله وحده، وليس للعبد من ذلك إلا ما قدر الله له، وكأنه قال أنت يا رب تقدر قبل أن تخلق في القدرة، وعندما تخلقها فتى، وبعد ما تخلقها. (اللهم أن كنت تعلم) الترديد راجع إلى
(6/174)
عدم علم العبد بمتعلق علمه
تعالى، إذ يستحيل أن يكون خيرا ولا يعلمه العليم الخبير، وهذا ظاهر. قال الكرماني:
الشك في أن العلم متعلق بالخير أو الشر لا في أصل العلم. (إن هذا الأمر) زاد في
رواية أبي داود. يسميه بعينه الذي يريد، وظاهرها أن ينطق به. ويحتمل أن يكتفي
باستحضاره بقلبه عند الدعاء. وعلى الأول تكون التسمية في أثناء الدعاء عند ذكره
بالكناية عنه في قوله: "إن هذا الأمر". (خير لي) أي أمر الذي أريده أصلح
لي. (في ديني) أي فيما يتعلق بديني. (ومعاشي) أي حياتي. قال العيني: المعاش
والمعيشة واحد يستعملان مصدرا
وعاقبة أمري ـ أو قال: في عاجل أمري وآجله ـ فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي
فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري ـ أو قال:
في عاجل أمري وآجله ـ فاصرفه عني واصرفني عنه،
(6/175)
وأسماء، وفي المحكم: العيش الحياة عاش عيشا وعيشة ومعيشا ومعاشا، ثم قال المعيش والمعاش والعيشة ما يعاش به- انتهى. قال الحافظ: زاد أبوداود: ومعادي، وهو يؤيد أن المراد بالمعاش الحياة. ويحتمل أن يريد بالمعاش ما يعاش فيه، ولذلك وقع في حديث ابن مسعود، في بعض طرقه عند الطبراني في الأوسط: في ديني ودنياي، وفي حديث أبي أيوب عند الطبراني: في دنياي وآخرتي. زاد ابن حبان في روايته: وديني. وفي حديث أبي سعيد عند ابن حبان وأبي يعلي: في ديني ومعيشتي- انتهى. (وعاقبة أمري أو قال في عاجل أمري وآجله) قال الحافظ: هو شك من الراوي، واقتصر في حديث أبي سعيد على عاقبة أمري وكذا في حديث ابن مسعود. وهو يؤيد أحد الاحتمالين في أن العاجل والآجل مذكوران بدل الألفاظ الثلاثة، أو بدل الأخيرين فقط. وعلى هذا فقول الكرماني: لا يكون الداعي جازما بما قال رسول الله ? إلا إن دعا ثلاث مرات: يقول: مرة في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، ومرة في عاجل أمري وآجله، ومرة في ديني وعاجل أمري وآجله. قلت. (قائله الحافظ) ولم يقع ذلك أي الشك في حديث أبي أيوب وأبي هريرة أصلا- انتهى. وقال الطيبي: الظاهر أنه شك أي لا تخيير، كما توهم بعضهم في أن النبي ? قال في عاقبة أمري، أو قال عاجل أمري وآجله، وإليه ذهب القوم حيث قالوا: هي على أربعة أقسام: خير في دينه دون دنياه، وهو مقصود الأبدال، وخير في دنياه فقط، وهو حظ حقير ، وخير في العاجل دون الآجل، وبالعكس، وهو أولى، والجمع. (بين الأربعة) أفضل. ويحتمل أن يكون الشك في أنه عليه السلام قال: في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال بدل الألفاظ الثلاثة في عاجل أمري وآجله، ولفظ في المعادة في قوله: "في عاجل أمري" ربما يؤكد هذا. وعاجل الأمر يشمل الديني، والدنيوي، والآجل يشملهما، والعاقبة كذا في المرقاة. (فاقدره لي) بضم الدال وكسرها، أي اجعله مقدورا لي أي أدخله تحت قدرتي. وقيل: اقض لي به، أو أنجزه لي وهيئه، أو
(6/176)
قدره لي أي يسره، فهو مجاز عن
التيسير، فلا ينافي كون التقدير أزليا، ويكون قوله: (ويسره لي) عطفا تفسيريا. (ثم
بارك لي فيه) أي أدمه وضاعفه. (وإن كنت تعلم أن هذا الأمر) أي المذكور أو المضمر،
فاللام للعهد. (شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري) أي معادي. قال السندي: ينبغي أن
يجعل الواو ههنا بمعنى أو بخلاف قوله: "خير لي في كذا وكذا"، فإن هناك
على بابها؛ لأن المطلوب حين تيسره أن تكون خيرا من جميع الوجوه. وأما حين الصرف
فيكفي أن يكون شرا من بعض الوجوه- انتهى. (فاصرفه عني واصرفني عنه)
واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به، قال: ويسمى حاجته)).
(6/177)
فلا تعلق بالي بطلبه. وفي دعاء بعض العارفين: اللهم لا تتعب بدني في طلب ما لم تقدره لي، ولم يكتف بقوله اصرفه عني؛ لأنه قد يصرف الله عن المستخير ذلك الأمر، ولا يصرف قلبه عنه، بل يبقى متعلقا متطلبا متشوقا إلى حصوله، فلا يطيب له خاطره، فإذا صرف كل منهما عن الآخر كان ذلك أكمل، ولذا قال في آخره: (واقدر لي الخير) أي يسره علي واجعله مقدور الفعل. (حيث كان) أي الخير. وفي حديث أبي سعيد: أينما كان لا حول ولا قوة إلا بالله. (ثم أرضني به) بهمزة قطع أي اجعلني راضيا به؛ لأنه إذا قدر له الخير ولم يرض به، كان منكد العيش آثما بعدم رضاه بما قدره الله له مع كونه خيرا له. وفي رواية: ثم رضني به بالتشديد من الترضية، وهو جعل الشيء راضيا. وأرضيت ورضيت بالتشديد بمعنى. (قال: ويسمى حاجته) أي في أثناء الدعاء عند ذكرها بالكناية عنها في أوله: "إن كنت تعلم أن هذا الأمر". قال الطيبي: "يسمي حاجته" إما حال من فاعل "يقل" أي فليقل هذا مسميا حاجته، أو عطف على "ليقل" على التأويل؛ لأنه أي يسمي في معنى الأمر- انتهى. وفي الحديث دليل لأهل السنة أن الشر من تقدير الله على العبد؛ لأنه لو كان يقدر على اختراعه لقدر على صرفه ولم يحتج إلى طلب صرفه عنه. وفيه شفقة النبي ? على أمته وتعليمهم جميع ما ينفعهم في دينهم ودنياهم. وفيه أن العبد لا يكون قادرا إلا مع الفعل لا قبله والله هو خالق العلم بالشيء للعبد وهمه به واقتداره عليه، فإنه يجب على العبد رد الأمور كلها إلى الله، والتوكل عليه، والتفويض إليه، والتبرئ من الحول والقوة إليه، وأن يسأل ربه وفيه أموره كلها. وفيه استحباب صلاة الاستخارة والدعاء المأثور عقيبها، وليس في ذلك خلاف. واختلف فيماذا يفعل المستخير بعد الاستخارة. فقيل: يفعل ما بدا له ويختار أي جانب شاء من الفعل والترك وإن لم ينشرح صدره لشيء منهما، فإن فيما يفعله يكون خيره ونفعه، فلا يوفق إلا لجانب الخير، وهذا لأنه
(6/178)
ليس في الحديث أن الله ينشئ في
قلب المستخير بعد الاستخارة انشراحا لجانب أو ميلا إليه. كما أنه ليس فيه ذكر أن
يرى المستخير رؤيا أو يسمع صوتا من هاتف أو يلقى في روعه شيء، بل ربما لا يجد
المستخير في نفسه انشراحا بعد تكرار الاستخارة وهذا يقوي أن الأمر ليس موقوفا على
الانشراح. وفي الجملة المذكور في الحديث أنما هو أمر للعبد بالدعاء بأن يصرف الله
عنه الشر ويقدر له الخير أينما كان، وهذا اختاره ابن عبدالسلام حيث قال: يفعل
المستخير ما اتفق، واستدل له بقوله في بعض طرق حديث ابن مسعود في آخره: ثم يعزم،
وأول الحديث: إذا أراد أحدكم أمرا فليقل. وقال الشيخ كمال الدين الزملكاني: إذا
صلى الإنسان ركعتي الاستخارة لأمر فليفعل بعدها ما بدا له سواء انشرحت نفسه له أم
لا، فإن فيه الخير وإن لم تنشرح له نفسه. وليس في الحديث اشتراط انشراح النفس. كذا
في طبقات الشافعية (ج5 ص258). وقيل: ينبغي أن يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح له حتى
أنه يستحب له
رواه البخاري.
(6/179)
تكرار الصلاة والدعاء في الأمر الواحد إذا لم يظهر له وجه الصواب في الفعل أو الترك ما لم ينشرح صدره لما يفعل، واختاره النووي ومن وافقه، قال النووي في الأذكار (ص93): يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح به صدره، واستدل له بحديث أنس عند ابن السني (ص192): إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى الذي يسبق إلى قلبك، فإن الخير فيه. قال الحافظ: وهذا لو ثبت لكان هو المعتمد، لكن سنده واه جدا- انتهى. وبسط العيني والشوكاني الكلام في بيان وجه ضعف الحديث وسقوطه، قال الشوكاني بعد ذكر كلام النووي: فلا ينبغي أن يعتمد على انشراح كان له فيه هوى قبل الاستخارة، بل ينبغي للمستخير ترك اختياره رأسا، وإلا فلا يكون مستخيرا لله، بل يكون مستخيرا لهواه، وقد يكون غير صادق في طلب الخيرة وفي التبرئ من العلم والقدرة وإثباتهما لله، فإذا صدق في ذلك تبرأ من الحول والقوة ومن اختياره لنفسه- انتهى. قلت: والراجح عندي قول من ذهب إلى أنه يفعل المستخير بعد الاستخارة ما بدا له واتفق، فليس الأمر منوطا عندي على الانشراح أو الرؤيا؛ لأنه ليس في الحديث اشتراط انشراح النفس، ولا ذكر النوم بعد الاستخارة، وإطلاع ما هو خير له في رؤياه، والله أعلم. وارجع إلى زاد المعاد (ج1 ص286)، ومدارج السالكين (ج2 ص68). (رواه البخاري) في أبواب التطوع من الصلاة، وفي الدعوات، وفي التوحيد، وهو من أفراد البخاري. وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وصححه وأبوداود في أواخر الصلاة، والنسائي في النكاح، وابن ماجه في الصلاة، والبيهقي (ج3 ص52). والحديث مع كونه في صحيح البخاري وتصحيح الترمذي وابن حبان له، قد ضعفه أحمد بن حنبل، وقال: إن حديث عبدالرحمن بن أبي الموال يعني الذي أخرجه هؤلاء الجماعة من طريق منكر في الاستخارة، ليس يرويه غيره. وقال ابن عدي في الكامل: والذي أنكر عليه حديث الاستخارة، وقد رواه غير واحد من الصحابة كما رواه ابن أبي الموال- انتهى. قال
(6/180)
العراقي: كان ابن عدي أراد
بذلك أن لحديثه هذا شاهدا من حديث غير واحد من الصحابة، فخرج بذلك أن يكون فردا
مطلقا، وقد وثقه جمهور أهل العلم- انتهى. وقد جاء من رواية ابن مسعود عند الطبراني
والحاكم، وعن أبي أيوب عند الطبراني وابن حبان والحاكم، وعن أبي سعيد عند أبي يعلى
وابن حبان، وعن أبي هريرة عند ابن حبان، وعن ابن عباس وابن عمر عند الطبراني، وليس
في شيء من هذه الأحاديث ذكر الصلاة سوى حديث جابر إلا أن لفظ أبي أيوب: أكتم
الخطبة، وتوضأ فأحسن الوضوء ثم صل ما كتب الله لك- الحديث. فالتقييد بركعتين
وبقوله: من غير الفريضة خاص بحديث جابر. وارجع للكلام في هذه الأحاديث إلى مجمع
الزوائد (ج2 ص280، 281) والفتح والعيني والنيل.
?الفصل الثاني?
1333-(3) عن علي، قال: حدثني أبوبكر- وصدق أبوبكر- قال: سمعت رسول الله ? يقول:
((ما من رجل يذنب ذنبا، ثم يقوم فيتطهر، ثم يصلي، ثم يستغفر الله، إلا غفر الله
له، ثم قرأ: ?والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا
لذنوبهم?. رواه الترمذي، وابن ماجه،
(6/181)
1333- قوله: (وصدق أبوبكر) جملة معترضة بين بها علي رضي الله عنه جلالة أبي بكر رضي الله عنه، ومبالغة في الصدق حتى سماه رسول الله ? صديقا. (قال) أي أبوبكر. (ما من رجل) أي أو امرأة. و"من" زائدة لزيادة إفادة الاستغراق. (يذنب ذنبا) أي أي ذنب كان صغيرا أو كبيرا. (ثم يقوم) قال الطيبي: "ثم" للتراخي في الرتبة. قال القاري: والأظهر أنه للتراخي الزماني، يعني ولو تأخر القيام بالتوبة عن مباشرة المعصية؛ لأن تعقيب ليس بشرط، فالإتيان بـ"ثم" للرجاء. والمعنى ثم يستيقظ من نوم الغفلة، كقوله تعالى: ?أن تقوموا لله? [34: 46]. (فيتطهر) أي فيتوضأ، كما في رواية ابن السني. وفي رواية أبي داود: فيحسن الطهور. (ثم يصلي) أي ركعتين، كما في رواية ابن السني وابن حبان والبيهقي وأبي داود وابن ماجه. (ثم يستغفر الله) أي لذلك الذنب، كما في رواية ابن السني. والمراد بالاستغفار التوبة بالندامة والإقلاع والعزم على أن لا يعود إليه أبدا. وأن يتدارك الحقوق إن كانت هناك. و"ثم" في الموضعين لمجرد العطف التعقيبي. (ثم قرأ) أي النبي ? استشهادا وإعتضادا، أو قرأ أبوبكر تصديقا وتوفيقا. (والذين) مبتدأ خبره سيأتي ويحتمل وجهين آخرين. (إذا فعلوا فاحشة) أي ذنبا قبيحا كالزنا. (أو ظلموا أنفسهم) أي بما دونه كالقبلة واللمس. قال الطيبي: أي أي ذنب كان مما يؤاخذون به- انتهى. فيكون تعميما بعد تخصيص. (ذكروا الله) أي ذكروا عقابه، قاله الطيبي. وظاهر الحديث أن معناه صلوا، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فالمعنى ذكروا الله بنوع من أنواع الذكر، قاله القاري. (فاستغفروا) أي طلبوا المغفرة مع وجود التوبة والندامة. (لذنوبهم) اللام معدية أو تعليلية. وفي الترمذي إلى آخر الآية بعد قوله ذكروا الله وتمامها: ?ومن يغفر الذنوب إلا الله، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. أولئك جزاءهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها
(6/182)
ونعم أجر العالمين? [3: 135:
136]. والحديث يدل على استحباب الصلاة عند التوبة من الذنب، وتسمى صلاة الاستغفار
وصلاة التوبة. (رواه الترمذي) في الصلاة، وفي تفسير سورة آل عمران من طريق قتيبة
عن أبي عوانة عن عثمان بن المغيرة عن علي بن ربيعة عن أسماء بن الحكم
إلا أن ابن ماجه لم يذكر الآية.
1334-(4) وعن حذيفة، قال: ((كان النبي ? إذا حزبه أمر صلى)). رواه أبوداود.
الفزاري عن علي، وقال: حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث عثمان بن
المغيرة، وروى شعبة وغير واحد فرفعوه مثل أبي عوانة، ورواه سفيان الثوري ومسعر
فأوقفاه ولم يرفعاه إلى النبي ? ، وقد روي عن مسعر هذا الحديث مرفوعا أيضا- انتهى.
قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: وفيه أي في كلام الترمذي نظر فإنه جزم
بأن الثوري رواه موقوفا وأن مسعرا رواه موقوفا ومرفوعا، ولكن الحديث رواه أيضا
أحمد في مسنده (ج1 ص2). (وكذا ابن ماجه) عن وكيع عن مسعر وسفيان كلاهما عن عثمان
بن المغيرة بهذا الإسناد مرفوعا. ورواية شعبة التي أشار إليها رواها عنه أبوداود
الطيالسي في مسنده، وهو أول حديث فيه، . (ورواها أيضا ابن السني في عمل اليوم
والليلة (ص117). وهذا الحديث صحيح نسبه المنذري في الترغيب والسيوطي في الدر
المنثور (ج2 ص77) لابن حبان والبيهقي، ونسبه السيوطي أيضا لابن أبي شيبة وعبد بن
حميد والدارقطني والبزار وغيرهم. وأطال الكلام عليه الحافظ ابن حجر في التهذيب في
ترجمة أسماء بن الحكم، وقال: هذا الحديث جيد الإسناد، وذكر أن ابن حبان أخرجه في
صحيحه- انتهى. ورواه أبوداود أيضا في سننه من طريق مسدد عن أبي عوانة عن عثمان
بنحو ما رواه الترمذي. وكان صاحب المشكاة لم يقف على موضع إيراده في سننه، فترك
ذكره في التخريج. (إلا أن ابن ماجه) وضع الظاهر موضع الضمير، وإلا فالظاهر أن يقول
إلا أنه. (لم يذكر الآية) وكذا لم يذكرها أحمد في روايته. وعند ابن السني
(6/183)
(ص117) وتلا هذه الآية: ?ومن
يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما? [4: 110].
1334- قوله: (إذا حزبه) بحاء مهملة وزاي فموحدة من باب نصر أي أصابه. (أمر) أي
شديد. قال في النهاية: أي إذا نزل به أمر مهم أو أصابه غم. وفي بعض النسخ بالنون
من الحزن أي أوقعه في الحزن (صلى) أي بادر إلى الصلاة امتثالا لقوله تعالى:
?واستعينوا بالصبر والصلاة? [2: 45] أي بالصبر على البلايا والالتجاء إلى الصلاة،
وذلك؛ لأن الصلاة معينة على دفع النوائب. ومنه أخذ بعضهم ندب صلاة المصيبة، وهي
ركعتان عقيبها. وكان ابن عباس يفعل ذلك، ويقول نفعل ما أمرنا الله به بقوله:
?واستعينوا بالصبر والصلاة? فينبغي لمن نزل به غم أن يشتغل بالصلاة، فإنه تعالى
يفرجه عنه ببركة الصلاة. قال القاري: وهذه الصلاة ينبغي أن تسمى بصلاة الحاجات؛
لأنها غير مقيدة بكيفية من الكيفيات، ولا مختصة بوقت من الأوقات. (رواه أبوداود)
في باب وقت قيام النبي ? من الليل، وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: وذكر بعضهم
أنه روي مرسلا- انتهى. وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص388) وإسناده صحيح أو حسن.
1335-(5) وعن بريدة، قال: ((أصبح رسول الله ?، فدعا بلالا، فقال: بما سبقتني إلى
الجنة؟ ما
دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي. قال: يا رسول الله ! ما أذنت قط إلا صليت
ركعتين، وما أصابني حدث قط إلا توضأت عنده ورأيت أن لله علي ركعتين. فقال رسول
الله?: بهما)).
(6/184)
1335- قوله: (أصبح رسول الله ?) أي ذات يوم. (فدعا بلالا) أي بعد صلاة الصبح كما مر. (بما) وفي المصابيح: بم بإسقاط الألف، وكذا وقع في الترمذي أي بأي شيء. (سبقتني إلى الجنة) قال التوربشتي نرى ذلك- والله أعلم- عبارة عن مسارعة بلال إلى العمل الموجب لتلك الفضيلة قبل ورود الأمر عليه، وقبل بلوغ الندب إليه، وذلك مثل قول القائل لعبده: تسبقني إلى العمل أي تعمل قبل ورود أمري عليك. ومن ذهب في معناه إلى ما يقتضيه ظاهر اللفظ فقد أحال فإن نبي الله? جل قدرة أن يسبقه أحد من الأنبياء إلى الجنة فضلا عن بلال، وهو رجل من أمته، كذا قال. وقد قدمنا أن الواقعة واقعة منام، وأن حديث بريدة هذا ظاهر في كونه ? رأى بلالا دخل الجنة، وأن مشيه بين يدي النبي ? كان من عادته في اليقظة، فاتفق مثله في المنام. ولا يلزم من ذلك دخول بلال الجنة قبل النبي ? ؛ لأنه في مقام التابع والخادم، وكأنه أشار ? إلى بقاء بلال على ما كان عليه في حال حياته واستمراره على قرب منزلته. (ما دخلت الجنة قط) يدل على دخوله ? إياها ورؤيته بلالا كذلك مرات. (إلا سمعت خشخشتك) بمعجمتين مكررتين، وهي حركة لها صوت كصوت السلاح خشخش السلاح أو الحلي خشخشة أي سمع له صوت عند اصطكاكه. (أمامي) أي قدامي. (ما أذنت قط إلا صليت ركعتين) أي قبل الإقامة يعني بين الأذان والإقامة. (وما أصابني حدث) بفتحتين. هو لغة الشيء الحادث نقل إلى ناقضات الوضوء. (إلا توضأت عنده) أي بعد حدوث ذلك الحدث. وفي الترمذي: عندها أي عند إصابة الحدث. (ورأيت) عطف على "توضأت". قال ابن الملك: أي ظننت. وقال ابن حجر: أي اعتقدت. وقال القاري: الأظهر أن يكون من الرأي أي اخترت. (أن لله علي ركعتين) أي شكرا لله تعالى على إزالة الأذية وتوفيق الطهارة. قال الطيبي: كناية عن مواظبته عليهما. (بهما) أي بهما نلت ما نلت أو عليك بهما، قاله الطيبي. ثم الظاهر أن ضمير التثنية راجع إلى القريبين المذكورين،
(6/185)
وهما دوام الطهارة وتمامها
بأداء شكر الوضوء، فيوافق الحديث السابق أول الباب. ولا يبعد أن يرجع إلى الصلاة
بين كل أذانين، والصلاة بعد كل طهارة، أو إلى الصلاة بين كل الأذانين ومجموع دوام
الوضوء وشكره، قاله القاري. وفي الحديث استحباب إدامة الطهارة، ومناسبة المجازاة
على ذلك بدخول الجنة؛ لأن من لازم دوام الطهارة أن يبيت المرء طاهرا، ومن بات
طاهرا عرجت روحه، فسجدت
رواه الترمذي.
1336-(6) وعن عبدالله بن أبي أوفي، قال: قال رسول الله ? : ((من كانت له حاجة إلى
الله أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ فليحسن الوضوء ثم ليصل ركعتين، ثم ليثن على
الله تعالى، وليصل على النبي ? ، ثم ليقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان
رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين، أسألك موجبات رحمتك،
تحت العرش، كما رواه البيهقي في الشعب من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص، والعرش
سقف الجنة. وظاهره أن هذا الثواب وقع بسبب ذلك العمل، ولا معارضة بينه وبين قوله?:
لا يدخل أحدكم الجنة عمله؛ لأن أحد الأجوبة المشهورة بالجمع بينه وبين قوله تعالى:
?ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون? [16: 32] أن أصل الدخول إنما يقع برحمة الله،
واقتسام الدرجات بحسب الأعمال، فيأتي مثله في هذا. وفيه أن الجنة موجودة الآن
خلافا لمن أنكر ذلك من المعتزلة. (رواه الترمذي) أي في مناقب عمر رضي الله عنه
مطولا، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وذكره المصنف تبعا للبغوي مقتصرا على ما
يناسب الباب، وهو إثبات تطوع تحية الوضوء، وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص354- 360) وابن
خزيمة في صحيحه.
(6/186)
1336- قوله: (من كانت له حاجة)
دينية أو دنيوية. (فليتوضأ) ظاهره أنه يجدد الوضوء إن كان على وضوء. ويحتمل أن
المراد إن لم يكن له وضوء. (فليحسن الوضوء) باستعمال سننه وآدابه. وفي المستدرك:
وليحسن وضوءه، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص164). (ثم ليصل ركعتين) وتسمى
هذه الصلاة بصلاة الحاجة. (ثم ليثن) من الإثناء. (وليصل على النبي ?) الأصح الأفضل
لفظ صلاة التشهد. (لا إله إلا الله الحليم) الذي لا يعجل بالعقوبة. (الكريم) الذي
يعطي بغير استحقاق وبدون المنة. (رب العرش العظيم) اختلف في كون العظيم صفة للرب
أو العرش، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: لا إله إلا الله رب العرش العظيم. نقل
ابن التين عن الداودي أنه رواه برفع العظيم. على أنه نعت للرب، والذي ثبت في رواية
الجمهور الجر على أنه نعت للعرش. وكذلك قراءة الجمهور في قوله تعالى: ?رب العرش
العظيم? [9: 129) و ?رب العرش الكريم? [23: 116] بالجر. والمعنى المراد في المقام
أنه منزه عن العجز. فإن القادر على العرش العظيم. لا يعجز عن إعطاء مسؤل عبده
المتوجه إلى ربه الكريم. (والحمد لله) وفي الترمذي وابن ماجه والمستدرك بدون
العاطف، وهكذا في جامع الأصول. (موجبات رحمتك) بكسر الجيم أي أسبابها يعني أفعالا
وخصالا أو كلمات تتسبب لرحمتك وتقتضيها بوعدك، فإنه لا يجوز التخلف فيه، وإلا
فالحق سبحانه لا يجب عليه شيء. وقال الطيبي: جمع موجبة، وهي الكلمة
وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم، لا تدع لي ذنبا إلا غفرته،
ولا
هما إلا فرجته، ولا حاجة هي لك رضا إلا قضيتها يا أرحم الراحمين)). رواه الترمذي
وابن
ماجه وقال الترمذي: هذا حديث غريب.
(6/187)
الموجبة لقائلها الجنة. (وعزائم مغفرتك) أي موجباتها جمع عزيمة، قاله السيوطي. وقال الطيبي: أي أعمالا وخصالا تتعزم وتتأكد بها مغفرتك. (والغنيمة من كل بر) بكسر الباء أي طاعة وعبادة، فإنهما غنيمة مأخوذة بغلبة دواعي عسكر الروح على جند النفس، فإن الحرب قائم بينهما على الدوام ولهذا يسمى الجهاد الأكبر؛ لأن أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك، قاله القاري. (والسلامة من كل إثم) وعند الحاكم: والعصمة من كل ذنب والسلامة من كل إثم، وأسقط قوله "غنيمة من كل بر". قال العراقي: فيه جواز سؤال العصمة من كل الذنوب، وقد أنكر بعضهم جواز ذلك إذ العصمة إنما هي للأنبياء والملائكة، قال: والجواب أنها في حق الأنبياء والملائكة واجبة، وفي حق غيرهم جائزة، وسؤال الجائز جائز إلا أن الأدب سؤال الحفظ في حقنا لا العصمة، وقد يكون هذا هو المراد هنا- انتهى. (لا تدع) بفتح الدال وسكون العين أي لا تترك. (إلا غفرته) أي إلا موصوفا بوصف الغفران، فالاستثناء فيه وفيما يليه مفرغ من أعم الأحوال. (ولا هما) أي غما. (فرجته) بالتشديد ويخفف أي أزلته وكشفته. (ولا حاجة هي لك رضا) أي مرضية لك. والحديث يدل على مشروعية الصلاة عند الحاجة أي حاجة كانت بشرط أن تكون مباحة. (رواه الترمذي وابن ماجه) كلاهما من رواية فائد بن عبدالرحمن بن أبي الورقاء، وزاد ابن ماجه بعد قوله "قضيتها" ثم يسأل الله من أمر الدنيا والآخرة ما شاء، فإنه يقدر. وأخرجه الحاكم في المستدرك (ج1 ص320) باختصاره، ثم قال: إنما أخرجته شاهدا، وفائد مستقيم الحديث. وتعقبه الذهبي بأنه متروك، فالحديث ضعيف. قال الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص138): وأخرج ابن النجار في تاريخ بغداد عن غير فائد. قال ابن حجر (العسقلاني) في أمالية: والحديث له شاهد من حديث أنس، وسنده ضعيف. وأخرجه أيضا الأصبهاني من حديث أنس فذكر لفظه، قال: وأخرجه الطبراني، وفي إسناده أبومعمر عباد بن عبدالصمد ضعيف جدا،
(6/188)
وأخرج لهذا الحديث في مسند
الفردوس طريقا أخرى من حديث أنس، وفي إسناده أبوهاشم، واسمه عبدالرحمن، وهو ضعيف،
وأخرجه أحمد بإسناد صحيح عن أبي الدرداء مختصرا قال: سمعت رسول الله ? يقول من
توضأ فأسبغ الوضوء ثم صلى ركعتين يتمهما أعطاه الله عزوجل ما سأل معجلا أو مؤخرا.
قال الشوكاني: وذكرت ما قيل فيه أي في حديث ابن أبي أوفي الذي نحن بصدد شرحه بأطول
من هذا في الفوائد المجموعة (ص16)، استدركت على من قال: إنه موضوع. والحاصل أن
جميع طرق أحاديث هذه الصلاة لا تخلو عن ضعف إلا حديث أبي الدرداء، وبعده حديث ابن
أبي أوفي.
(40) باب صلاة التسبيح
1337-(1) عن ابن عباس، أن النبي ? قال للعباس بن عبدالمطلب: ((يا عباس! يا عماه!
ألا أعطيك؟ ألا أمنحك؟ ألا أحبوك؟ ألا أفعل بك؟ عشر خصال إذا أنت فعلت ذلك، غفر
الله لك ذنبك أوله وآخره، قديمه وحديثه، خطأه
(باب صلاة التسبيح) أي هذا بيانها وسميت بذلك لكثرة ما يقرأ فيها من التسبيحات.
(6/189)
1337- قوله: (يا عماه) بسكون الهاء إشارة إلى مزيد استحقاقه بالعطية الآتية، وهو منادى مضاف إلى ياء المتكلم قلبت ياءه الفاء، وألحقت بها هاء السكت كيا غلاماه. (ألا) الهمزة للاستفهام. (أعطيك) بضم همزة وكسر طاء من الإطاء أي عطية رفيعة. (ألا أمنحك) بفتح همزة ونون أي أعطيك منحة سنية، وأصل المنح أن يعطي الرجل الرجل شأة أو ناقة ليشرب لبنها ثم يردها إذا ذهب درها، هذا أصله ثم كثر استعماله حتى قيل في كل عطاء. (ألا أحبوك) بفتح همزة وسكون حاء مهملة وضم موحدة، من حباه كذا وبكذا إذا أعطاه والحباء العطية فهما تأكيد بعد تأكيد، وكذا أفعل بك فإنه بمعنى أعطيك أو أعلمك. (ألا أفعل بك) بالباء موافقا لما في أبي داود ووقع عند ابن ماجه باللام. (عشر خصال) منصوب تنازعت فيه الأفعال قبله. وقيل: بالرفع على تقدير هي. والمراد بعشر خصال الأنواع العشرة للذنوب المعدودة بقوله: أوله وآخره إلى قوله: سره وعلانيته، أي فهو على حذف المضاف أي ألا أعطيك مكفر عشرة أنواع ذنوبك، أو المراد التسبيحات، فإنهما فيما سوى القيام عشر عشر، وعلى هذا يراد الصلاة المشتملة على التسبيحات العشر بالنظر إلى غالب الأركان. وأما جملة: (إذا أنت فعلت ذلك) الخ فهي في محل النصب على أنها نعت للمضاف المقدر على الأول، أو لنفس عشر خصال على الثاني، وعلى الثاني لا يكون إلا نعتا مخصصا باعتبار أن المكفر يحتمل أن يكون علمه مكفرا، فبين بالنعت أن يكون عمله مكفرا لا علمه. (غفر الله لك ذنبك) أي ذنوبك بقرينة قوله أوله الخ على وجه الأبدال أو على وجه التفسير. (أوله وآخره) بالنصب قال التوربشتي: أي مبدأه ومنتهاه. وذلك أن من الذنب ما لا يواقعه الإنسان دفعة واحدة، وإنما يتأتى منه شيئا فشيئا، ويحتمل أن يكون معناه ما تقدم من ذنبه وما تأخر. (وحديثه) أي جديده. (وخطأه) بفتحتين وهمزة. قيل: يشكل بأن الخطأ لا إثم فيه لقوله عليه الصلاة والسلام: إن الله تجاوز عن أمتي
(6/190)
الخطأ والنسيان، وما استكرهوا
عليه، فكيف يجعل من الذنب؟ وأجيب بأن المراد بالذنب ما فيه نقص وإن لم يكن فيه
إثم. ويؤيده قوله تعالى: ?ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا? [2: 286] ويحتمل أن
يراد مغفرة ما يترتب على الخطأ من نحو الإتلاف من ثبوت بدلها في
وعمده، صغيره وكبيره، سره وعلانيته: أن تصلي أربع ركعات، تقرأ في كل ركعة فاتحة
الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة وأنت قائم. قلت: سبحان الله،
والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، خمس عشرة مرة،
(6/191)
الذمة ومعنى المغفرة حينئذ إرضاء الخصوم وفك النفس عن مقامها الكريم، المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام: نفس المؤمن مرهونة حتى يقضي عنه دينه ، كذا في المرقاة (وعمده) بفتح أوله وسكون ثانيه ضد الخطأ (صغيره وكبيره) قيل: المراد بالكبير ما هو من أفراد الصغائر، فإن الصغائر متفاوتة بعضها أكبر من بعض، والكبائر لا تغفر إلا بالتوبة. (سره وعلانيته) بفتح الياء المخففة والضمير في هذه كلها عائد إلى قوله: "ذنبك" فإن قلت أوله وآخره يندرج تحته ما يليه، وكذا باقيه فما الحاجة إلى تعدد أنواع الذنوب؟ قلت ذكره قطعا لوهم أن ذلك الأول والآخر ربما يكون عمدا أو خطأ. وعلى هذا في أقرانه وأيضا في التنصيص على الأقسام حث للمخاطب على المحثوث عليه بأبلغ الوجوه، ذكره القاري نقلا عن الأزهار. وسقط من المشكاة كالمصابيح هنا لفظ "عشر خصال وهو موجود في الأصول. (أن تصلي) خبر مبتدأ محذوف، والمقدر عائد إلى ذلك أي هو يعني المأمور به أن تصلي. وقيل: التقدير هي، وهي راجعة إلى الخصال العشر. وأما على ما في الأصول من وجود لفظ عشر خصال قبل قوله: أن تصلي" فيقال إن قوله: "عشر خصال" على الأول. (أي على حذف المضاف، وهو المكفر من قوله عشر خصال في الموضع الأول) بالرفع بتقدير مبتدأ أي هي أي أنواع الذنوب عشر خصال أو بالنصب على أنه بدل من مجموع أوله وآخره الخ، وعلى الثاني. (أي على كون المراد من الخصال العشر الصلاة المشتملة على التسبيحات العشر) مبتدأ وما بعده خبره، أو خبر مقدم وما بعده مبتدأ لئلا يلزم تنكير المبتدأ مع تعريف الخبر. (أربع ركعات) قيل: أي بتسليمة واحدة على ما هو الظاهر من الإطلاق ليلا كان أو نهارا. وقيل: يصلي في النهار بتسليمة، وفي الليل بتسليمتين. وقيل: يصلي مرة بتسليمة وأخرى بتسليمتين. واعلم أن الأولى أن يصلي صلاة التسبيح بعد زوال الشمس قبل صلاة الظهر لما روى أبوداود في سننه من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص
(6/192)
مرفوعا: إذ زال النهار فقم فصل
أربع ركعات- الحديث. وقد سكت عنه أبوداود والمنذري. (وسورة) قيل يقرأ فيها تارة
بـ?الزلزلة? و ?العاديات? و ?الفتح? و(الإخلاص)، وتارة بـ?ألهاكم التكاثر?
و?العصر? و ?الكافرون? و (الإخلاص) وقيل: الأفضل أن يقرأ أربعا من المسبحات.
?الحديد? و?الحشر? و?الصف? و?التغابن? لمناسبة بينها وبين كل الصلاة، لكن لم أقف
على ما يدل على شيء من ذلك من سنة ولا أثر. (في أول ركعة) أي قبل الركوع. (خمس
عشرة مرة) فيه أن التسبيح بعد القراءة، وبه أخذ أكثر الأئمة. وأما ما كان يفعله
عبدالله بن المبارك من جعله الخمس عشرة قبل
ثم تركع، فتقولها وأنت راكع عشرا، ثم ترفع رأسك من الركوع، فتقولها عشرا، ثم تهوي
ساجدا، فتقولها وأنت ساجد عشرا، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشرا، ثم تسجد
فتقولها عشرا، ثم ترفع رأسك فتقولها عشرا، فذلك خمس وسبعون في كل ركعة، تفعل ذلك
في أربع ركعات، إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل، فإن لم تفعل، ففي كل جمة
مرة، فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة، فإن لم تفعل ففي عمرك مرة)) رواه أبوداود، وابن
ماجه، والبيهقي في الدعوات الكبير.
(6/193)
القراءة وبعد القراءة عشرا، ولا يسبح في الاعتدال فهو مخالف لهذا الحديث. قال المنذري: إن جمهور الرواة على الصفة المذكورة في حديث ابن عباس وأبي رافع والعمل بها أولى، إذ لا يصح رفع غيرها-انتهى. قال الشيخ: الأمر كما قال المنذري. (ثم تركع فتقولها وأنت راكع عشرا) أي بعد تسبيح الركوع كذا في شرح السنة، وقد روى الترمذي عن ابن المبارك أنه قال: يبدأ في الركوع بسبحان ربي العظيم، وفي السجود بسبحان ربي الأعلى ثلاثا، ثم يسبح التسبيحات. وقيل: له إن سها فيها أ يسبح في سجدتي السهو عشرا عشرا؟ قال لا، إنما هي ثلاثمائة تسبيحة. (ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشرا) أي بعد التسميع والتحميد. (ثم تهوي) أي تنخفض وتنحط حال كونك. (ساجدا) أي مريدا للسجود من هوى بالفتح يهوي بالكسر الشيء إذا سقط من علو إلى سفل. (فتقولها وأنت ساجد عشرا) أي بعد تسبيح السجود. (ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشرا) أي بعد رب اغفرلي ونحوه. (ثم تسجد) ثانيا. (ثم ترفع رأسك) أي من السجدة الثانية. (فتقولها عشرا) أي قبل أن تقوم على ما في حديث أبي رافع عند الترمذي وابن ماجه. ففيه ثبوت جلسة الاستراحة في صلاة التسبيح، وهو المختار عند الشافعية وأهل الحديث خلافا للحنفية. (فذلك) أي مجموع ما ذكر من التسبيحات. (خمس وسبعون) أي مرة، كما في رواية البيهقي. (في كل ركعة) أي ثابتة فيها. (تفعل ذلك) أي ما ذكر في هذه الركعة. ( في أربع ركعات) أي في مجموعها بلا مخالفة بين الأولى والثلاث فتصير ثلاثمائة تسبيحة. (إن استطعت) استئناف أي إن قدرت. (أن تصليها) أي هذه الصلاة. (فإن لم تفعل) أي في كل يوم لعدم القدرة أو مع وجودها لعائق. (ففي كل جمعة) أي في كل أسبوع. (مرة) وفي التعبير بها إشارة إلى أنها أفضل أيام الأسبوع. (ففي عمرك) بضم الميم وتسكن. (رواه أبوداود وابن ماجه والبيهقي في الدعوات الكبير) أي عن ابن عباس، وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان في
(6/194)
صحيحيهما، والحاكم في المستدرك
(ج1:ص318-320) والبيهقي في السنن الكبرى (ج3:ص51-52)، والبخاري في جزء القراءة كلهم
من طريق عكرمة عن ابن عباس، وإسناده حسن. وفي الباب عن جماعة من الصحابة: الفضل بن
عباس، وأبيه العباس، وعبدالله بن عمرو، وعبدالله بن عمر، وعلي بن أبي طالب، وأخيه
جعفر، وابنه عبدالله بن
جعفر، وأبي رافع، وأم سلمة، والأنصاري غير مسمى. وقد قيل: إنه جابر بن عبدالله.
وقد ساق الحافظ في أمالي الأذكار تخريج أحاديث هؤلاء الصحابة جميعا. ونقلها
السيوطي في تعقباته على ابن الجوزي (ص16، 17) واللآتي المصنوعة (ج2:ص20-24) من أحب
الوقوف عليها رجع إلى هذين الكتابين. واعلم أنه اختلف كلام العلماء في حديث صلاة
التسبيح، فضعفه جماعة، منهم العقيلي وابن العربي والنووي في شرح المهذب، وابن
تيمية وابن عبدالهادي والمزي والحافظ في التلخيص، وبالغ ابن الجوزي فأورده في
الموضوعات، وقال: فيه موسى بن عبدالعزيز مجهول. وصححه أو حسنه جماعة منهم أبوبكر
الآجري وأبومحمد عبدالرحيم المصري والحافظ أبوالحسن المقدسي وأبوداود صاحب السنن
ومسلم صاحب الصحيح والحافظ صلاح الدين العلائي والخطيب وابن الصلاح والسبكي وسراج
الدين البلقيني وابن مندة والحاكم والمنذري وأبوموسى المديني والزركشي والنووي في
تهذيب الأسماء واللغات، وأبوسعد السمعاني والحافظ في الخصال المكفرة، وفي أمالي
الأذكار، وأبومنصور الديلمي والبيهقي والدارقطني وآخرون. والحق عندي أن حديث ابن
عباس ليس بضعيف فضلا عن أن يكون موضوعا أو كذبا، بل هو حسن لا شك في ذلك عندي،
فسنده لا ينحط عن درجة الحسن، بل لا يبعد أن يقال إنه صحيح لغيره لما ورد من
شواهده، وبعضها لا بأس بإسناده، كما ستعرف. وقد أكثر الحفاظ من الرد على ابن
الجوزي بذكره حديث ابن عباس في الموضوع. وأما ما قال الحافظ في التلخيص:
"والحق أن طرقه كلها ضعيفة وإن كان حديث ابن عباس يقرب من شرط الحسن إلا أنه
شاذ
(6/195)
لشدة الفردية فيه وعدم المتابع
والشاهد من وجه معتبر، ومخالفة هيئتها لهيئة باقي الصلوات. وموسى بن عبدالعزيز وإن
كان صادقا صالحا، فلا يحتمل منه هذا التفرد، فجوابه ظاهر من كلامه في الخصال
المكفرة حيث قال: رجال إسناد حديث ابن عباس لا بأس بهم، عكرمة احتج به البخاري
والحكم بن أبان صدوق، وموسى بن عبدالعزيز قال ابن معين: لا أرى فيه بأسا. وقال
النسائي نحو ذلك. وقال ابن المديني: فهذا الإسناد من شرط الحسن، فإن له شواهد
تقويه، وقد أساء ابن الجوزي بذكره في الموضوعات. وقوله: إن موسى مجهول، لم يصب
فيه؛ لأن من يوثقه ابن معين والنسائي فلا يضره أن يجهل حاله من جاء بعدهما. وشاهده
ما رواه الدارقطني من حديث العباس والترمذي وابن ماجه من حديث أبي رافع. ورواه
أبوداود من حديث ابن عمرو بإسناد لا بأس به. ورواه الحاكم من طريق ابن عمرو له طرق
أخرى-انتهى. وقال في أمالي الأذكار بعد ذكر من روى حديث صلاة التسبيح من الصحابة:
أما حديث ابن عباس فأخرجه أبوداود وابن ماجه والحسن بن علي المعمري في كتاب اليوم
والليلة عن عبدالرحمن بن بشر بن الحكم عن موسى بن عبدالعزيز عن الحكم بن أبان عن
عكرمة عن ابن عباس، وهذا إسناد حسن، وقال بعد بسط الكلام في سند حديث الأنصاري
الذي لم يسم عند أبي داود: فسند الحديث
1338- (2) وروى الترمذي عن أبي رافع نحوه.
1339- (3) وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ? يقول: ((إن أول ما يحاسب به العبد
يوم
القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح،
(6/196)
لا ينحط عن درجة الحسن، فكيف
إذا ضم إلى رواية أبي الجوزاء عن عبدالله بن عمرو التي أخرجها أبوداود، وقد حسنها
المنذري. ثم ذكر جماعة ممن صحح حديث ابن عباس أو حسنه، ومن شاء الإطلاع على تمام
كلامه فليرجع إلى اللآلي المصنوعة. وأما مخالفة هيئة صلاة التسبيح لهيئة باقي
الصلوات فلا يدل على ضعف الحديث وشذوذه بعد ما صح وثبت بطرق قوية، كذا أفاد شيخنا
في شرح الترمذي.
1338- قوله: (وروى الترمذي) وكذا ابن ماجه والدارقطني. (عن أبي رافع نحوه) قال
الترمذي: هذا حديث غريب من حديث أبي رافع. قال السيوطي في قوت المغتذي: بالغ ابن
الجوزي، فأورد هذا الحديث في الموضوعات، وأعله بموسى بن عبيدة الربذي، وليس كما
قال، فإن الحديث وإن كان ضعيفا، لم ينته إلى درجة الوضع. وموسى ضعفوه، وقال فيه
ابن سعد: ثقة وليس بحجة. وقال يعقوب بن شيبة: صدوق ضعيف الحديث جدا. وشيخه سعيد بن
أبي سعيد له عند المصنف أي الترمذي إلا هذا الحديث، وقد ذكره ابن حبان في الثقات.
وقال الذهبي في الميزان: ما روى عنه إلا موسى بن عبيدة-انتهى ما في قوت المغتذي.
ونقل السيوطي في التعقبات عن الحافظ أنه قال: وقول ابن الجوزي: إن موسى بن عبيدة
علة الحديث، مردود، فإنه ليس بكذاب مع ماله من الشواهد فذكرها.
(6/197)
1339- قوله: (إن أول ما يحاسب
به العبد) بالرفع على نيابة الفاعل. (يوم القيامة من عمله صلاته) أي المفروضة. قال
العراقي في شرح الترمذي: لا تعارض بينه وبين الحديث الصحيح إن أول ما يقضى بين
الناس يوم القيامة في الدماء، فحديث الباب محمول على حق الله تعالى، وحديث الصحيح
محمول على حقوق الآدميين فيما بينهم. فإن قيل: فأينما يقدم محاسبة العباد على حق
الله تعالى، أو محاسبتهم على حقوقهم؟ فالجواب أن هذا أمر توقيفي، وظواهر الأحاديث
دالة على أن الذي يقع أولا المحاسبة على حقوق الله تعالى قبل حقوق العباد-انتهى.
وقيل: حديث الباب من ترك العبادات، وحديث الصحيح من فعل السيئات. وقيل: المحاسبة
غير القضاء، فيكون المحاسبة أولا في الصلاة ويكون القضاء أولا في الدماء. وقيل:
حديث الباب مضطرب الإسناد، كما يظهر من كلام الحافظ في ترجمة أنس بن حكيم الضبي من
التهذيب، فلا يقاوم حديث الصحيح. (فإن صلحت) بضم اللام وفتحها. قال ابن الملك:
صلاحها بأدائها صحيحة-انتهى. أو بوقوعها مقبولة. (فقد أفلح وأنجح) الفلاح الفوز
وإن فسدت وقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضة شيء، قال الرب تبارك وتعالى: أنظروا هل
لعبدي من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك)). وفي
رواية:
(6/198)
والظفر والإنجاح بتقديم الجيم على الحاء، يقال: أنجح فلان إذا أصاب مطلوبه. قال القاري: "فقد أفلح" أي فاز بمقصوده، "وأنجح" أي ظفر بمطلوبه، فيكون فيه تأكيدا وفاز بمعنى خلص من العقاب، وأنجح أي حصل له الثواب. (وإن فسدت) بأن لم تود أو أديت غير صحيحة أو غير مقبولة. (فقد خاب) بحرمان المثوبة. (وخسر) بوقوع العقوبة. وقيل: معنى "خاب" ندم وخسر أي صار محروما من الفوز والخلاص قبل العذاب. (فإن انتقص) بمعنى نقص اللازم. (من فريضته شيء) أي من الفرائض وفي بعض نسخ الترمذي: شيئا وفعلا نقص وانتقص بمعنى، ويستعملان لازمين ومتعديين. (انظروا) يا ملائكتي. (هل لعبدي من تطوع) أي في صحيفته سنة أو نافلة من صلاة على ما هو ظاهر من السياق قبل الفرض أو بعده أو مطلقا. (فيكمل) بالتشديد ويخفف على بناء الفاعل أو المفعول وهو الأظهر، وبالنصب، ويرفع على الاستئناف. (بها) قال ابن الملك: أي بالتطوع، وتأنيث الضمير باعتبار النافلة. قال الطيبي: الظاهر نصب "فيكمل" على أنه من كلام الله تعالى جوابا للاستفهام. ويؤيده رواية أحمد: فكملوا بها فريضته، وإنما أنث ضمير التطوع في "بها" نظرا إلى الصلاة. (ما انتقص من الفريضة) ضمير "انتقص" راجع إلى الموصول على أنه لازم، أو إلى العبد، فيكون متعديا أي ما نقصه العبد من الفريضة. وظاهر الحديث أن من فاتته الصلاة المفروضة، وصلى تطوعا يحسب عنه التطوع موضع الفريضة. وقيل: بل ما نقص من خشوع الفريضة ورواتها يجبر بالتطوع. ورد بأن قوله: "ثم يكون سائر عمله على ذلك" لا يناسبه، إذ ليس في الزكاة إلا فرض أو فضل، فكما تكمل فرض الزكاة بفضلها كذلك في الصلاة، وفضل الله أوسع. قال العراقي في شرح الترمذي: يحتمل أن يراد به ما انتقصه من السنن والهيئات المشروعية فيها من الخشوع والأذكار والأدعية، وإنه يحصل له ثواب ذلك في الفريضة وإن لم يفعله فيها، وإنما فعله في التطوع. ويحتمل أن يراد به ما انتقص أيضا من
(6/199)
فروضها وشروطها. ويحتمل أن
يراد ما ترك من الفرائض رأسا فلم يصله، فيعوض عنه من التطوع، والله تعالى يقبل من
التطوعات الصحيحة عوضا عن الصلوات المفروضة-انتهى. وقال ابن العربي: الأظهر عندي
أنه يكمل بفضل التطوع ما نقص من فرض الصلاة وإعدادها؛ لقوله ثم الزكاة كذلك وسائر
الأعمال، وليس في الزكاة إلا فرض أو فضل، فكما يكمل فرض الزكاة بفضلها كذلك
الصلاة، وفضل الله أوسع، وكرمه أعم وأتم. (ثم يكون سائر عمله) من الصوم والزكاة
وغيرهما. (على ذلك) أي إن انتقص فريضة من سائر الأعمال المفروضة تكمل بالتطوع.
(وفي رواية) ظاهره أن الألفاظ الآتية في طريق من طرق حديث أبي هريرة، وليس كذلك،
فإن هذه
ثم الزكاة مثل ذلك، ثم الزكاة مثل ذلك، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك)) رواه
أبوداود.
1340- (4) ورواه أحمد عن رجل.
(6/200)
الألفاظ إنما هي في حديث تميم الداري عند أبي داود (ثم الزكاة مثل ذلك) أي مثل ما في الصلاة. (ثم تؤخذ الأعمال) أي المفروضة، ففي حديث أبي هريرة عند ابن ماجه: ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك. (على حسب ذلك) أي على حسب ذلك المثال المذكور في الصلاة من تكميل الفريضة بالتطوع. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد (ج2 ص290، 425) والترمذي وابن ماجه والحاكم (ج1 ص262) كلهم من حديث أبي هريرة. واللفظ المذكور للترمذي لا لأبي داود إلا قوله: "ثم الزكاة" الخ فإنه من حديث تميم الداري عند أبي داود. ففي قول المصنف: رواه أبوداود، تسامح ظاهر، إلا أن يقال إنه أراد أصل الحديث لا السياق المذكور بعينه. والحديث سكت عنه أبوداود والمنذري، وحسنه الترمذي وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وما ذكر من الاضطراب في سنده فيمكن أن يدفع بما قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: لعل الحسن البصري سمعه من ناس متعددين: حريث بن قتيبة (عند الترمذي) وأنس بن حكيم (عند أحمد وأبي داود والحاكم) ورجل من بني سليط (عند أحمد (ج4 ص103) وأبي داود وابن ماجه والحاكم) أو يكون هذا الرجل المبهم أحدهما، وليس هذا اضطرابا فيه يوجب ضعفه، بل هي طرق يؤيد بعضها بعضا. ورواه أحمد. (وابن ماجه أيضا) بإسناد آخر (ج2 ص290) عن يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين الواسطي عن علي بن زيد بن جدعان عن أنس بن حكيم الضبي قال: قال لي أبوهريرة، فذكر الحديث بتمامه، وقال: وهذا إسناد صحيح، وعلى زيد بن جدعان ثقة- انتهى. قلت: علي بن زيد هذا ضعفه الأكثرون، ولعله لسوء حفظه واختلاطه، قيل: وكان يتشيع. ووثقه يعقوب بن شيبة. وقال العجلي: كان يتشيع لا بأس به. وقال الساجي: كان من أهل الصدق. ويحتمل لرواية الجلة عنه، وليس يجري مجرى من أجمع على ثبته. وقال الترمذي: صدوق إلا أنه ربما رفع الشيء الذي يوقفه غيره، كذا في التهذيب، وحديث تميم الداري أخرجه أحمد (ج4 ص103) وأبوداود وابن
(6/201)
ماجه والحاكم (ج1 ص262، 263).
1340- قوله: (ورواه أحمد عن رجل) (ج4 ص103) قال: حدثنا الحسن بن موسى قال: حدثنا
حماد بن سلمة عن الأزرق بن قيس عن يحيى بن يعمر عن رجل من أصحاب النبي ? ، قال:
قال رسول الله ? : أول ما يحاسب به العبد الخ. وأخرجه أيضا الحاكم (ج1 ص263) من
طريق الربيع بن يحيى عن حماد بن سلمة، وذكر الاختلاف فيه على حماد بن سلمة، وأشار
إلى تقوية رواية حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند عن زرارة بن أوفي عن تميم
الداري.
1341-(5) وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله ?: ((ما أذن الله لعبد في شيء أفضل من
الركعتين يصليهما، وإن البر ليذر على رأس العبد ما دام في صلاته، وما تقرب العباد
إلى الله بمثل ما خرج منه، يعني القرآن)). رواه أحمد والترمذي.
(6/202)
1341- قوله: (ما أذن الله) أي ما استمع، في القاموس: أذن له وإليه كفرح استمع معجبا أو عام. والمراد هنا الإقبال من الله بالرأفة والرحمة على العبد. وذلك أن العبد إذا كان في الصلاة، وقد فرغ من الشواغل متوجها إلى مولاه، مناجيا بقلبه ولسانه، فالله سبحانه أيضا يقبل عليه بلطفه وإحسانه إقبالا لا يقبل في غيره من العبادات. ولعله ذكر الاستماع، وإن كانت الصلاة من جملة الأفعال لكونها مشتملة على الكلام من القرآن والتسبيحات والتكبيرات. (لعبد في شيء) أي في شيء من العبادات. (أفضل من الركعتين) في مسند الإمام أحمد والجامع للترمذي والجامع الصغير للسيوطي والترغيب للمنذري من ركعتين. (يصليهما) يعني أفضل العبادات الصلاة، كما ورد في الصحيح: الصلاة خير موضوع، أي خير من كل ما وضعه الله لعباده ليتقربوا إليه، قاله القاري. (وإن البر) بكسر الباء بمعنى الخير والإحسان. (ليذر) بالذال المعجمة والراء المشددة على بناء المجهول، أي ينثر ويفرق من قولهم: ذررت الحب والملح أي فرقته. (على رأس العبد) أي ينزل الرحمة والثواب هو أثر البر على المصلي. (ما دام في صلاته) أي مدة دوام كونه مصليا. (وما تقرب العباد الله بمثل ما خرج منه) أي بأفضل من كلامه. قال في مجمع البحار: أي ما ظهر من الله ونزل على نبيه. (فضمير "منه" راجع إلى الله، و"خرج" بمعنى ظهر). وقيل: ما خرج من العبد بوجود على لسانه محفوظا في صدره، مكتوبا بيده. وقيل: ما ظهر من شرائعه وكلامه، أو خرج من كتابة المبين. (وهو اللوح المحفوظ). و"ما" استفهامية للإنكار. ويجوز كونه نافية، وهو أقرب أي ما تقرب بشيء مثل- انتهى ما في المجمع. (يعني القرآن) هذا تفسير من بعض الرواة لقوله: "ما خرج منه" وهو أبوالنضر هاشم بن القاسم الليثي شيخ أحمد وشيخ شيخ الترمذي. قال شيخنا: وهذا تفسير أولى عندي، يعني ضمير "منه" يرجع إلى الله. والمراد بما خرج منه ما أنزل الله على نبيه ? وهو القرآن.
(6/203)
قال الطيبي: أطلق المصنف هذا
التفسير، ولم يقيده بما يفهم منه أن المفسر من هو. والحديث نقله المؤلف من كتاب
الترمذي. وفي روايته قال أبوالنضر يعني القرآن. ومثل لا يتسامح فيه أهل الحديث،
فإنه يوهم أن التفسير من فعل الصحابي، فيجعل متن الحديث- انتهى. قلت: أطلق صاحب
المشكاة هذا التفسير تبعا للبغوي في المصابيح. والحديث رواه أحمد، ولم يذكر في
روايته ما يفهم منه أن المفسر من هو، ولعل المؤلف نقله من مسند الإمام أحمد، فهو
معذور في الإطلاق وعدم بيان من فسره بذلك. (رواه أحمد) (ج5 ص268) عن أبي النضر
هاشم بن القاسم عن بكر بن خنيس عن ليث بن أبي سليم عن زيد بن أرطاة عن أبي أمامة.
(والترمذي) في فضائل القرآن عن أحمد بن منيع عن
(41) باب صلاة السفر
أبي النضر هاشم بن القاسم، قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه،
وبكر بن خنيس قد تكلم فيه ابن المبارك، وتركه في آخر أمره- انتهى. وقال الحافظ في
التقريب في ترجمة بكر بن خنيس: إنه عابد صدوق له أغلاط أفرط فيه ابن حبان- انتهى.
واختلف فيه قول ابن معين، فقال مرة: ليس بشيء، وقال مرة: ضعيف، وقال مرة: شيخ صالح
لا بأس به. وقال أبوحاتم: صالح غزاء ليس بالقوى. وقال العجلي: كوفي ثقة. وضعفه غير
واحد، كما في التهذيب. وليث بن أبي سليم صدوق اختلط أخيرا ولم يتميز حديثه فترك،
قاله في التقريب. فالحديث لا يخلو عن ضعف.
(6/204)
(باب صلاة السفر) قال في حجة الله (ج2 ص17): لما كان من تمام التشريع أن يبين لهم الرخص عند الأعذار ليأتي المكلفون من الطاعة بما يستطيعون، ويكون قدر ذلك مفوضا إلى الشارع ليراعي فيه التوسط لا إليهم فيفرطوا أو يفرطوا، اعتنى رسول الله ? بضبط الرخص والأعذار. ومن أصول الرخص أن ينظر إلى أصل الطاعة حسبما تأمر به حكمة البر، فيعض عليها بالنواجذ على كل حال، وينظر إلى حدود وضوابط شرعها الشارع ليتيسر لهم الأخذ بالبر، فيتصرف فيها إسقاطا وإبدالا حسبما تؤدي إليه الضرورة، فمن الأعذار السفر، وفيه من الحرج ما لا يحتاج إلى بيان، فشرع رسول الله ? له رخصا: منها القصر، ومنها الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ومنها ترك السنن، ومنها الصلاة على الراحلة حيث توجهت به يومىء إيماء، وذلك في النوافل وسنة الفجر والوتر لا الفرائض- انتهى مختصرا. والسفر لغة: قطع المسافة، وليس كل قطع تتغير به الأحكام من جواز الإفطار وقصر الرباعية وغيرهما، فاختلف العلماء فيه شرعا، كما ستعرف. قال ابن رشد في البداية (ج1 ص130): السفر له تأثير في القصر باتفاق، فقد اتفق العلماء على جواز قصر الصلاة للمسافر إلا قول شاذ أن القصر لا يجوز إلا للخائف لقوله تعالى: ?إن خفتم? الآية [4: 101]. واختلفوا من ذلك في خمسة مواضع: أحدها في حكم القصر. والثاني في المسافة التي يجب فيها القصر. والثالث في السفر الذي يجب فيه القصر. والرابع في الموضع الذي يبدأ منه المسافر بالتقصير. والخامس في مقدار الزمان الذي يجوز للمسافر فيه إذا قام في موضع أن يقصر الصلاة. فأما حكم القصر، فاختلفوا فيه على أقوال: فمنهم من رأى أن القصر هو فرض المسافر المتعين عليه. ومنهم من رأى أن القصر سنة. ومنهم من رأى أنه رخصة، والإتمام أفضل، بالقول الأول قال أبوحنيفة وأصحابه والكوفيون بأسرهم أعني أنه فرض متعين. وبالثاني أعنى سنة قال مالك في أشهر الروايات عنه. وبالثالث أعنى
(6/205)
رخصة. قال الشافعي في أشهر
الروايات عنه، وهو المنصور عند أصحابه- انتهى باختصار يسير. ويكون القصر أولى
وأفضل. قال أحمد. قال ابن قدامة: المشهور عن أحمد أن المسافر على الاختيار إن
شاء صلى ركعتين، وإن شاء أتم، والقصر عنده أفضل وأعجب- انتهى. والراجح عندي: أن لا
يتم المسافر الصلاة، بل يلازم القصر كما لازمه ?، فالقصر في السفر كالعزيمة عندي،
لكن لو خالف ذلك وأتم الصلاة أجزأ، سواء قعد القعدة الأولى أو نسيها ولم يقعد، فلا
تلزم الإعادة، فيكون الإتمام مجزئا، والله أعلم. وأما المسافة التي إذا أراد
المسافر الوصول إليها ساغ له القصر، ولا يسوغ له في أقل منها، فاختلف العلماء في
مقدارها اختلافا كثيرا، فحكى ابن المنذر وغيره فيها نحوا من عشرين قولا. وأقل ما
قيل في ذلك الميل كما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر، وإليه ذهب ابن
حزم الظاهري. واحتج له بإطلاق السفر في كتاب الله وسنة رسوله ?، فلم يخص الله ولا
رسوله سفرا دون سفر، واحتج على ترك القصر فيما دون الميل بأنه ? قد خرج إلى الفضاء
للغائط فلم يقصر. وذهب الظاهرية – كما قال النووي- إلى أن أقل مسافة القصر ثلاثة
أميال، وكأنهم احتجوا في ذلك بما رواه مسلم وأبوداود من حديث أنس قال: كان رسول
الله ? إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو فراسخ قصر الصلاة. قال الحافظ: وهو أصح حديث
ورد في بيان ذلك وأصرحه. وقد حمله من خالفه على أن المراد به المسافة التي يبتدأ
منها القصر لا غاية السفر. (يعني أنه أراد به إذا سافر سفرا طويلا قصر إذا بلغ
ثلاثة أميال، كما قال في لفظه الآخر: إن النبي ? ، صلى بالمدينة أربعا وبذي
الحليفة ركعتين). ولا يخفى بعد هذا الحمل مع أن البيهقي ذكر في روايته من هذا
الوجه أن يحيى بن يزيد راويه عن أنس قال: سألت أنسا عن قصر الصلاة، وكنت أخرج إلى
الكوفة يعني من البصرة فأصلي ركعتين ركعتين حتى أرجع. فقال أنس، فذكر الحديث. فظهر
أنه سأله عن
(6/206)
جواز القصر في السفر لا عن الموضع الذي يبتدأ منه القصر، ثم إن الصحيح في ذلك أنه لا يتقيد بمسافة، بل بمجاوزة البلد الذي يخرج منها. ورده القرطبي بأنه مشكوك فيه فلا يحتج به، فإن كان المراد به أنه لا يحتج به في التحديد بثلاثة أميال فمسلم، لكن لا يمتنع أن يحتج به في التحديد بثلاثة فراسخ، فإن الثلاثة أميال مندرجة فيها، فيؤخذ بالأكثر احتياطا. وقد روى ابن أبي شيبة عن حاتم بن إسماعيل عن عبدالرحمن بن حرملة قال: قلت لسعيد بن المسيب: أ أقصر الصلاة وأفطر في بريد من المدينة؟ قال: نعم- انتهى. وقيل: مذهب الظاهرية القصر في كل سفر قريبا كان أو بعيدا. وقال مالك والشافعي وأحمد وفقهاء أصحاب الحديث وغيرهم: إنه لا تقصر الصلاة إلا في مسيرة اليوم التام بالسير الوسط، وهي أربعة برد وهو ستة عشر فرسخا أي ثمانية وأربعون ميلا بالهاشمي؛ لأن البريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال. قال النووي: والميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربعة وعشرون إصبعا معترضة ومعتدلة، والإصبع ست شعيرات معترضة معتدلة.
(6/207)
قال الحافظ: وهذا الذي قاله هو الأشهر. ومنهم من عبر ذلك باثني عشر ألف قدم بقدم الإنسان. وقيل: هو أربعة آلاف ذراع. وقيل: بل ثلاثة آلاف ذراع. وقيل: وخمس مائة، صححه ابن عبدالبر. وقيل غير ذلك، وقد عقد البخاري في صحيحة ترجمة أورد فيها ما يدل على أن اختياره أن أقل مسافة القصر يوم وليلة، كما هو مختار الأئمة الثلاثة، واختاره أيضا الشاه ولي الله الدهلوي ، وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر. وقال أبوحنيفة أقل مسافة القصر مسيرة ثلاثة أيام ولياليها، ولا يشترط السفر كل يوم، بل إلى الزوال؛ لأنهم جعلوا النهار للسير والليل للاستراحة، ولا اعتبار بالفراسخ على أصل مذهبه، لكن المتأخرين قدروا ذلك بالفراسخ تسهيلا، ففي البحر عن النهاية الفتوى على ثمانية عشر فرسخا. وفي المجتبى فتوى أكثر أئمة خوارزم على خمسة عشر فرسخا، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل عند القدماء منهم ثلاثة آلاف ذراع، وعند المتأخرين أربعة آلاف ذراع، والذراع عند الأولين اثنان وثلاثون إصبعا، وعند الآخرين أربع وعشرون إصبعا، والإصبع عند الكل ست شعيرات مضمومة البطون إلى الظهور، وكل شعيرة مقدار ست شعور من ذنب الفرس التركي. والراجح عندي ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة أنه لا يقصر الصلاة في أقل من ثمانية وأربعين ميلا بالهاشمي. وذلك أربعة برد أي ستة عشر فرسخا، وهي مسيرة يوم وليلة بالسير الحثيث. وذهب أكثر علماء أهل الحديث في عصرنا إلى أن مسافة القصر ثلاثة فراسخ مستدلين لذلك بحديث أنس المتقدم في كلام الحافظ، ومال ابن قدامة إلى قول الظاهرية أنه يجوز القصر في كل سفر قصيرا كان أو طويلا، حيث قال بعد الرد على أقوال الأئمة الأربعة: والحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلى أن ينعقد الإجماع على خلافه. وأما السفر الذي يجوز فيه القصر فاختلفوا فيه على ثلاثة أقوال: الأول أنه تقصر في كل سفر من غير تفصيل طاعة أو معصية. مباح أو قربة، مكروه أو مندوب، قاله أبوحنيفة
(6/208)
وأصحابه اعتبار الإطلاق ظاهر
لفظ السفر. والثاني لا يجوز إلا في سفر قربة اختاره أحمد في أحد قوليه. والثالث لا
يجوز إلا في مباح، قاله مالك في المشهور من قوليه والشافعي قولا واحدا، وهو
المنصوص عن أحمد، كما في المغني، وكره مالك القصر لمن خرج متصيدا للهو. وأما من
كان معاشه فيقصر، والراجح عندي هو القول الثاني أنه لا يقصر المسافر إلا أن يكون
سفره في طاعة وقربة أو فيما أباح الله له، قال ابن قدامة: لأن الترخص شرع للإعانة
على تحصيل المقصد المباح توصلا إلى المصلحة، فلو شرع ههنا لشرع إعانة على المحرم
تحصيلا للمفسدة، والشرع منزه عن هذا، والنصوص وردت في حق الصحابة، وكانت أسفارهم
مباحة، فلا يثبت الحكم فيمن سفره مخالف لسفرهم، ويتعين حمله على ذلك جمعا بين
النصين. وقياس المعصية على الطاعة بعيد لتضادهما. وأما الموضع الذي يبدأ منه
المسافر بقصر الصلاة، فقال ابن قدامة:
?الفصل الأول?
1342-(1) عن أنس: ((أن رسول الله ? صلى الظهر بالمدينة أربعا، وصلى العصر بذي
الحليفة
ركعتين)). متفق عليه.
(6/209)
ليس لمن نوى السفر القصر حتى يخرج من بيوت مصره أو قريته ويخلفها وراء ظهره، قال: وبه قال مالك والأوزاعي وأحمد والشافعي وأبوإسحاق وأبوثور. وعن عطاء أنه كان يبيح القصر في البلد لمن نوى السفر. وعن الحارث ابن أبي ربيعة أنه أراد سفرا، فصلى بالجماعة في منزله ركعتين وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب عبدالله، وعن عطاء أنه قال: إذا دخل وقت صلاة بعد خروجه من منزله قبل أن يفارق بيوت المصر يباح له القصر- انتهى مختصرا. وفي رواية عن مالك أنه قال: لا يقصر إذا كانت قرية جامعة حتى يكون منها بنحو ثلاثة أميال، وبقول الجمهور قال أبوحنيفة وأصحابه وهو الراجح؛ لأن النبي ? لم يقصر في سفره من أسفاره إلا بعد خروجه من المدينة، ولأن الرجل لا يكون ضاربا في الأرض حتى يخرج. وأما الزمان الذي يجوز للمسافر إذا أقام فيه في بلد أن يقصر فاختلفوا فيه جدا، إلا أن الأشهر منها أربعة أقوال: أحدها مذهب مالك والشافعي: أنه إذا أزمع المسافر على إقامته أربعة أيام أتم، والثاني مذهب أبي حنيفة والثوري أنه إذا أزمع على إقامته خمسة عشر يوما أتم. والثالث مذهب أحمد وداود: أنه إذا أزمع على أكثر من أربعة أيام أتم. والرابع مذهب إسحاق بن راهويه: إنه إذا أزمع على أكثر من تسعة عشر يوما أتم. فمدة القصر عند مالك والشافعي ثلاثة أيام غير يومي الدخول والخروج، وعند أبي حنيفة أربعة عشر يوما، وعند أحمد أربعة أيام وعند إسحاق تسعة عشر يوما. والراجح عندي: ما ذهب إليه أحمد والله تعالى أعلم.
(6/210)
1342- قوله: (صلى الظهر
بالمدينة) أي في يوم الذي أراد فيه الخروج إلى مكة للحج أو العمرة. (أربعا) أي
أربع ركعات. (وصلى العصر بذي الحليفة) بضم المهملة وفتح اللام، تصغير حلفة.
و"ذو حليفة" موضع على ثلاثة أميال من المدينة على الأصح، وهو ميقات أهل
المدينة المشهور الآن ببئر علي. (ركعتين) قصرا؛ لأنه كان في السفر. والحديث دليل
على أن من أراد السفر لا يقصر حتى يبرز من البلد؛ لأن النبي ? لم يقصر حتى خرج من
المدينة. واستدل به على استباحة قصر الصلاة في السفر القصير؛ لأن بين المدينة وذي
الحليفة ثلاثة أميال. وقيل: ستة أميال. وقيل: سبعة. وتعقب بأن ذا الحليفة لم تكن
منتهى السفر وغايته، وإنما خرج إليها حيث كان قاصدا مكة فاتفق نزوله بها، وكانت
أول صلاة حضرت بها العصر فقصرها، واستمر يقصر إلى أن رجع. (متفق عليه) وأخرجه أيضا
أحمد والترمذي وأبوداود والبيهقي (ج3 ص145، 146).
1343- (2) وعن حارثة بن وهب الخزاعي، قال: ((صلى بنا رسول الله ? ونحن أكثر ما كنا
قط
وآمنه بمنى، ركعتين))
(6/211)
1343- قوله: (وعن حارثة) بالحاء المهملة والمثلثة. (بن وهب) بفتح الواو وسكون الهاء. (الخزاعي) بضم الخاء المعجمة، نسبة إلى خزاعة، وحارثة هذا أخو عبيدالله بن عمر الخطاب لأمه، صحابي نزل الكوفة، وكان عمر زوج أمه أم كلثوم بنت جرول بن المسيب الخزاعية. (صلى بنا رسول الله ?، ونحن أكثر من كنا) برفع "أكثر" على أنه خبر نحن، و"ما" مصدرية، ومعناه الجمع؛ لأن ما أضيف إليه أفعل التفضيل يكون جمعا. (قط) بفتح القاف وتشديد الطاء مضمومة في أفصح اللغات، ظرف بمعنى الدهر والزمان، متعلق بـ"كنا". ويختص بالماضي المنفي في الغالب الشائع، وربما استعمل بدون المنفي، كما في هذا الحديث وله نظائر. (وآمنه) بالرفع عطف على "أكثر" وقط مقدر ههنا، والضمير فيه راجع إلى "ما كنا". والواو في "ونحن" للحال المعترضة بين "صلى" ومعموله وهو. (بمنى) بكسر الميم والألف، منصرفا وفي بعض النسخ: بمنى بالياء غير منصرف، وهو يذكر ويؤنث، فإن قصد الموضع فمذكر، ويكتب بالألف وينصرف، وإن قصد البقعة فمؤنث، ولا ينصرف ويكتب بالياء، والمختار تذكيره، وسمي بذلك لكثرة ما يمنى فيه أي يراق من الدماء. (ركعتين) أي في حجة الوداع. والمعنى صلى بنا رسول الله ? بمنى ركعتين، والحال أنا في ذلك الوقت أكثر أكواننا في سائر الأوقات عددا، وأكثر أكواننا في سائر الأوقات أمنا. وإسناد الأمن إلى الأوقات مجاز، كذا قاله الطيبي. ويجوز أن تكون "ما" نافيه خبر المبتدأ الذي هو نحن و"أكثر" منصوبا على أنه خبر كان. ويجوز إعمال ما في ما قبلها إذا كانت بمعنى ليس، فكما يجوز تقديم خبر ليس عليه يجوز تقديم خبر ما في معناه عليه. والتقدير ونحن ما كنا قط أكثر منا في هذا الوقت ولا آمن منا فيه، وفي الحديث دليل على جواز القصر في السفر من غير خوف، ورد على من زعم أن القصر مختص بالخوف. وللحديث شاهد من حديث ابن عباس عند الترمذي وصححه، والنسائي بلفظ: خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا
(6/212)
الله يصلي ركعتين، والذي قال إن القصر مختص بالخوف تمسك بقوله تعالى: ?وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذي كفروا? [101:4]. ولم يأخذ الجمهور بهذا المفهوم. فقيل: لأن شرط مفهوم المخالفة أن لا يكون خرج مخرج الغالب، والشرط هنا خرج مخرج الغالب؛ لأن الغالب على المسلمين إذ ذاك الخوف في الأسفار. وقيل: هو من الأشياء التي شرع الحكم فيها بسبب، ثم زال السبب، وبقي الحكم كالرمل. وقيل: القصر مع الخوف ثابت بالكتاب، والقصر مع الأمن ثابت بالسنة، ومفهوم الشرط لا يقوى على معارضة ما تواتر عنه ? من القصر مع الأمن. قال
(6/213)
الخطابي في المعالم (ج2:ص211): ليس في قوله: صلى بنا، دليل على أن المكي يقصر الصلاة بمنى؛ لأن رسول الله ? كان مسافرا بمنى، فصلى صلاة المسافر، ولعله لو سأل رسول الله ? عن صلاته لأمره بالإتمام، وقد يترك رسول الله ? بيان بعض المأمور في بعض المواطن اقتصادا على ما تقدم من البيان السابق خصوصا في مثل هذا الأمر الذي هو من العلم الظاهر العام، وكان عمر بن الخطاب يصلي بهم فيقتصر، فإذا سلم التفت إليهم، وقال أتموا يا أهل مكة، فإنا قوم سفر-انتهى. قلت: اتفق الأئمة على أن الحاج القادم مكة يقصر الصلاة بها وبمنى وسائر المشاهد؛ لأنه عندهم في سفر؛ لأن مكة ليست دار إقامة إلا لأهلها أو لمن أراد الإقامة بها، وكذلك منى وعرفات والمزدلفة. واختلفوا في صلاة المكي بمنى وغيرها من المشاهد، فقال مالك: يتم بمكة ويقصر بمنى، وكذلك أهل منى يتمون بمنى ويقصرون بمكة وعرفات، قال: وهذه المواضع مخصوصة بذلك؛ لأن النبي ? لما قصر بعرفة لم يميز من وراءه، ولا قال لأهل مكة: أتموا، وهذا موضع بيان، وممن روى عنه أن المكي يقصر بمنى ابن عمر وسالم والقاسم وطاووس، وبه قال الأوزاعي وإسحاق، وقالوا: إن القصر سنة الموضع، وإنما يتم بمنى وعرفات من كان مقيما فيها. وقال أكثر أهل العلم: منهم عطاء والزهري والثوري والكوفيون وأبوحنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد وأبوثور: ولا يقصر الصلاة أهل مكة بمنى وعرفات؛ لانتفاء مسافة القصر.وحاصل مذهب مالك، كما يدل عليه كلامه في الموطأ، أن القصر عنده لأجل النسك بشرط السفر، لكن لا للسفر الشرعي، بل لمطلق السفر، ولذلك يتم عنده أهل مكة ومنى وعرفة والمزدلفة في أمكنتهم، ويقصرون في غيرها، وضابطه عنده أن أهل كل مكان يتمون به ويقصرون فيما سواه، خلافا للأئمة الثلاثة، فإن القصر عندهم للسفر الشرعي، فلا يقصر في هذه الأمكنة إلا من كان مسافرا شرعيا. قال ابن المنير المالكي: السر في القصر في هذه المواضع المتقاربة
(6/214)
إظهارا لله تعالى تفضله على
عباده، حيث اعتد لهم بالحركة القريبة اعتداده في السفر البعيد، فجعل الوافدين من
عرفة إلى مكة كأنهم سافروا إليها ثلاثة أسفار سفر إلى مزدلفة، ولهذا يقصر أهل مكة
بمنى، فهي على قربها من عرفة معدودة بثلاث مسافات، كل مسافة منها سفر طويل. وسر
ذلك-والله أعلم- أنهم كلهم وفد، وإن القرب كالبعيد في إسباغ الفضل، ذكره
القسطلاني. وقال الباجي: إن أهل مكة إذا حجوا اقتضى ذلك بلوغا إلى عرفة، ورجوعا
إلى مكة، ولو كان منتهى سفرهم عرفة لما قصروا الصلاة، واحتسب في هذا السفر بالذهاب
والمجيء؛ لأن من خرج من مكة إلى عرفة محرما بالحج فلا بد له من الرجوع إلى مكة
بحكم الإحرام الذي دخل فيه؛ لأنه لا يصح أن يتم عمله الذي دخل فيه إلا بالرجوع إلى
مكة. وأما سائر الأسفار فإن نوى فيه المسير والمجيء فإنه لا يلزمه الرجوع، وله أن
يقيم في منتهى سفره، أو يمضي منه إلى موضع سواه. فالواجب على أهل مكة إذا خرجوا
للحج أن يصلوا ركعتين حتى ينصرفوا إلى مكة، وذلك يقتضي أن يصلوا
متفق عليه.
1344- (3) وعن يعلى بن أمية، قال. ((قلت لعمر بن الخطاب: إنما قال الله تعالى: ?أن
تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا? فقد أمن الناس. قال عمر:
(6/215)
ركعتين في البداءة والعودة، ويصلون كذلك بعرفة والمزدلفة وغيرهما- انتهى بتغير يسير. وقال بعض المالكية: لو لم يجز لأهل مكة القصر بمنى لقال لهم النبي ?: أتموا، وليس بين مكة ومنى مسافة القصر، فدل على أنهم قصروا للنسك. وأجيب بأن الترمذي روى من حديث عمران بن حصين أنه ? كان يصلي بمكة ركعتين، ويقول: يا أهل مكة! أتموا، فإنا قوم سفر، وكأنه ترك إعلامهم بذلك بمنى استغناء بما تقدم بمكة. قال الحافظ: وهذا ضعيف؛ لأن الحديث من رواية علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، ولو صح فالقصة كانت في الفتح، وقصة منى في حجة الوداع، وكان لا بد من بيان ذلك لبعد العهد-انتهى. قلت: روى البيهقي (ج3:ص135، 136) من طريق علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة قال: سأل شاب عمران بن حصين عن صلاة رسول الله ? في السفر. فقال: إن هذا الفتى يسألني عن صلاة رسول الله ? في السفر، فاحفظوهن عني، ما سافرت مع رسول الله ? سفرا قط إلا صلى ركعتين حتى يرجع، وشهدت معه حنين والطائف فكان يصلي ركعتين، ثم حجت معه واعتمرت فصلى ركعتين، ثم قال: يا أهل مكة! أتموا الصلاة، فإنا قوم سفر-الحديث. وفيه نص على أنه ? قال ذلك في الحج أيضا، ورد على ما قيل: إن القصة لم تكن إلا في الفتح. (متفق عليه) وأخرجه أيضا الترمذي وأبودواد في الحج والنسائي في الصلاة والبيهقي (ج3:ص134، 135).
(6/216)
1344- قوله: (قلت لعمر بن
الخطاب: إنما قال الله تعالى: أن تقصروا) وفي صحيح مسلم: قلت لعمر بن الخطاب: ?ليس
عليكم جناح أن تقصروا? [101:4] أي وإذا ضربتم في الأرض أي سافرتم فليس عليكم جناح،
أي وزر وحرج أن تقصروا بضم الصاد أي في أن تقصروا أي في القصر، وهو خلاف المد،
يقال: قصرت الشيء أي جعلته قصيرا يحذف بعض أجزاءه فمتعلق القصر جملة الشيء لا
بعضه، فإن البعض متعلق الحذف دون القصر. فحينئذ قوله: (من الصلاة ) ينبغي أن يكون
مفعولا لتقصروا على زيادة من حسب ما رآه الأخفش. وأما على رأي غيره من عدم زيادتها
في الإثبات. فتجعل تبعيضية، ويراد بالصلاة الجنس، ليكون المقصور بعضا منها، وهو
الرباعيات، قاله أبوالسعود. (إن خفتم أن يفتنكم) أي ينالكم بمكروه. (الذين كفروا،
فقد أمن الناس) أي وذهب الخوف، فما بالهم يقصرون الصلاة، أو فما وجه القصر؟. (قال
عمر) وفي صحيح
عجبت ما عجبت منه، فسألت رسول الله ?، فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا
صدقته))
(6/217)
مسلم: فقال بزيادة الفاء وحذف الفاعل. (عجبت مما عجبت) أنت. (فسألت رسول الله ?) أي عن ذلك كما في مسلم. (فقال: صدقة) أي قصر الصلاة في السفر صدقة. (تصدق الله) أي تفضل. (بها عليكم) أي توسعة ورحمة. قال السندي: أي شرع لكم ذلك رحمة عليكم، وإزالة للمشقة نظرا إلى ضعفكم وفقركم. وهذا المعنى يقتضي أن ما ذكر فيه من القيد فهو اتفاق، ذكره على مقتضى ذلك الوقت، وإلا فالحكم عام، والقيد لا مفهوم له. ولا يخفى ما في الحديث من الدلالة على اعتبار المفهوم في الأدلة الشرعية، وأنهم كانوا يفهمون ذلك، ويرون أنه الأصل، وأن النبي ? قررهم على ذلك، لكن بين أنه قد لا يكون معتبرا أيضا بسبب من الأسباب، فإن قلت: يمكن التعجب مع عدم اعتبار المفهوم أيضا بناء على أن الأصل هو الإتمام لا القصر، وإنما القصر رخصة جاءت مقيدة للضرورة، فعند انتفاء القيد مقتضى الأدلة هو الأخذ بالأصل، قلت: هذا الأصل إنما يعمل به عند انتفاء الأدلة. وأما مع وجود فعل النبي ? بخلافه فلا عبرة به، ولا يتعجب من خلافه، فليتأمل- انتهى كلام السندي. (فاقبلوا صدقته) أي سواء حصل الخوف أم لا، وإنما قال في الآية. ?إن خفتم?؛ لأنه قد خرج مخرج الأغلب لكون أغلب أسفار النبي ? وأصحابه لم تخل من خوف العدو لكثرة أهل الحرب إذ ذاك فحينئذ لا تدل الآية على عدم القصر إن لم يكن خوف؛ لأنه بيان للواقع إذ ذاك فلا مفهوم له. قال ابن القيم: قد أشكلت الآية على عمر وغيره، فسأل عنها رسول الله ?، فأجابه بالشفاء، وأن هذا صدقة من الله، وشرع شرعة للأمة، وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد، وأن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف. وغايته أنه نوع تخصيص للمفهوم أو رفع له- انتهى. وقد احتج بالحديث لمن قال بأن القصر رخصة، والإتمام أفضل. قال الخطابي في المعالم (ج1 ص261): في هذا حجة لمن ذهب إلى أن الإتمام هو الأصل، ألا ترى أنهما (أي يعلى بن أمية وعمر) قد تعجبا من القصر مع
(6/218)
عدم شرط الخوف، فلو كان أصل صلاة المسافر ركعتين لم يتعجبا من ذلك، فدل على أن القصر إنما هو عن أصل كامل قد تقدمه، فحذف بعضه، وأبقى بعضه. وفي قوله: "صدقة تصدق الله بها عليكم" دليل على أنه رخصة رخص لهم فيها، والرخصة إنما تكون إباحة لا عزيمة- انتهى. وأجيب عن ذلك بأن الأمر بقبولها يقتضي وجوب القبول، وأنه لا محيص عنها، فإن أصل الأمر للوجوب، فلا يبقى له خيار الرد شرعا، وجواز الإتمام رد لها لا قبول، على أن الصدقة من الله تعالى فيما لا يحتمل التمليك عبارة عن الإسقاط، فلا يحتمل اختيار القبول وعدمه. وأيضا العبد فقير فإعراضه عن صدقة ربه يكون قبيحا، ويكون من قبيل ?أن رآه استغنى?. وفي رد صدقة أحد عليه من التأذى عادة ما لا يخفى فهذه من أمارات الوجوب، ويوافقه حديث: أنها تمام غير قصر. واحتج لهم أيضا بقوله تعالى: ?ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة? [101:4]
(6/219)
فإن نفي الجناح لا يدل على العزيمة، بل على الرخصة، وعلى أن الأصل التمام، والقصر إنما يكون عن شيء أطول منه. وأجيب عنه بوجوه: منها أن الآية وردت في قصر صفة الصلاة بترك الركوع والسجود إلى الإيماء، وترك القيام إلى الركوب في الخوف. فالمراد بالقصر في الآية إدخال التخفيف في كيفية أداء الركعات في الخوف دون القصر في عدد الركعات في صلاة السفر. ومنها أن المراد بالقصر في الآية القصر في كمية الركعات وعددها، وبالصلاة صلاة الخوف لا صلاة المسافر. فالآية نزلت في قصر العدد في صلاة الخوف لا في صلاة السفر. ومنها أنه إنما أتى بهذه العبارة؛ لأن المسلمين لكمال ولعهم بالعبادة وتكثيرها وأدائها بالتمام كأنهم كانوا يتحرجون في القصر، وكانوا يعدونه جناحا فقال: ?ليس عليكم جناح أن تقصروا? ولا حرج، فإن الركعتين في حكم الأربعة كما قال الذين ذهبوا إلى وجوب السعي بين الصف والمروة في قوله تعالى: ?فلا جناح عليه أن يطوف بهما? [158:2] وقال ابن القيم في الهدي (ج1 ص131): وقد يقال: إن الآية اقتضت قصر يتناول قصر الأركان بالتخفيف، وقصر العدد بنقصان ركعتين. وقيد ذلك بأمرين: الضرب بالأرض، والخوف، فإذا وجد الأمران أبيح القصران، فيصلون صلاة الخوف، مقصورة عددها وأركانها، وإن انتفى الأمران فكانوا آمنين مقيمين انتفى القصران، فيصلون صلاة تامة كاملة، وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده، فإذا وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفى العدد، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق في الآية، فإن وجد السفر والأمن قصر العدد، واستوفى الأركان، وسميت صلاة أمن، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق، وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد، وقد تسمى تامة باعتبار تمام أركانها، وأنها لم تدخل في قصر الآية. والأول اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين، والثاني يدل عليه كلام الصحابة كعائشة وابن عباس وغيرهما. قالت عائشة: فرضت الصلاة ركعتين، فلما
(6/220)
هاجر رسول الله ? إلى المدينة
زيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر. فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غير
مقصورة من أربع، وإنما هي مفروضة كذلك، وأن فرض المسافر ركعتان. وقال ابن عباس:
فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف
ركعة. وقال عمر بن الخطاب: صلاة السفر ركعتان والجمعة ركعتان والعيد ركعتان تمام
غير قصر على لسان محمد ?. وقد خاب من افترى. وهذا ثابت عن عمر رضي الله عنه، وهو
الذي سأل النبي ? ما بالنا نقصر؟ وقد أمنا؟ فقال له رسول الله ?: صدقة تصدق بها
الله عليكم فاقبلوا صدقته. ولا تناقض بين حديثيه، فإن النبي ? لما أجابه بأن هذه
صدقة الله عليكم، ودينه اليسر السمح، علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد،
كما فهمه كثير من الناس، فقال: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر. وعلى هذا فلا
دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح منفي عنه الجناح، فإن شاء المصلي فعله وإن
شاء أتم، وكان رسول الله ?
رواه مسلم.
1345- (4) وعن أنس، قال: ((خرجنا مع رسول الله ? من المدينة إلى مكة، فكان يصلي
ركعتين
ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة، قيل له: أقمتم بمكة شيئا؟ قال: أقمنا بها عشرا))
يواظب في أسفاره على ركعتين ركعتين، ولم يربع قط إلا شيئا فعله في بعض صلاة الخوف،
كما سنذكره هناك ونبين ما فيه- انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الشافعي وأحمد
والترمذي في تفسير وأبوداود والنسائي وابن ماجه في الصلاة والبيهقي (ج3 ص134-141)
وغيرهم.
(6/221)
1345- قوله: (من المدينة) أي متوجهين (إلى مكة) أي للحج كما في رواية لمسلم. (فكان يصلي) أي الرباعية. (ركعتين ركعتين) أي كل رباعية ركعتين. (قيل له) أي لأنس. والقائل أي السائل هو يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي الراوي عن أنس كما صرح به في رواية للبخاري في الصلاة. (أقمتم) بحذف همزة الاستفهام وفي رواية أبي داود: هل أقمتم. (شيئا) أي من الأيام. (قال) أي أنس. (أقمنا بها) أي بمكة وبضواحيها. (عشرا) أي عشرة أيام، وإنما حذفت التاء من العشرة مع أن اليوم مذكر؛ لأن المميز إذا لم يذكر جاز في العدد التذكير والتأنيث. ولا يعارض هذا حديث ابن عباس المذكور بعده وحديث عمران الآتي في الفصل الثاني؛ لأنهما في فتح مكة، وهذا في حجة الوداع، قال الإمام أحمد: إنما وجه حديث أنس أنه حسب مقام النبي ? بمكة ومنى، وإلا فلا وجه له غير هذا. واحتج بحديث جابر: أن النبي ? قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة. (يوم الأحد) فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلى الصبح في اليوم الثامن. (يوم الخميس) ثم خرج إلى منى، وخرج من مكة متوجها إلى المدينة بعد أيام التشريق. ومثله حديث ابن عباس عند البخاري بلفظ: قدم النبي ? وأصحابه لصبح رابعة يلبون بالحج... الحديث. قال الحافظ: ولا شك أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر فتكون مدة الإقامة بمكة وضواحيها عشرة أيام بلياليها كما قال أنس، وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء؛ لأنه خرج منها في اليوم الثامن فصلى الظهر بمنى. وقال المحب الطبري: أطلق على ذلك إقامة بمكة؛ لأن هذه المواضع مواضع النسك، وهي في حكم التابع لمكة؛ لأنها المقصود بالإصالة، لا يتجه سوى ذلك، كما قال الإمام أحمد- انتهى. وقد أشكل الحديث على الشافعية؛ لأنه قد تقرر عندهم أنه لو نوى المسافر إقامة أربعة أيام بموضع عينه انقطع سفره بوصوله ذلك الموضع بخلاف ما لو نوى دونها وإن زاد عليه. ولا ريب أنه ? في حجة الوداع كان جازما بالإقامة
(6/222)
بمكة المدة المذكورة، وأجاب
البيهقي في السنن الكبرى (ج3 ص149) بما نصه: وإنما أراد أنس بقوله "فأقمنا
بها عشرا" أي بمكة ومنى وعرفات، وذلك لأن الأخبار الثابتة تدل على أن رسول
الله ? قدم مكة في
حجته لأربع خلون من ذي الحجة فأقام بها ثلاثا يقصر، ولم يحسب اليوم الذي قدم فيه
مكة؛ لأنه كان فيه سائرا، ولا يوم التروية؛ لأنه خارج فيه إلى منى، فصلى بها الظهر
والعصر والمغرب والعشاء والصبح، فلما طلعت الشمس سار منها إلى عرفات، ثم دفع منها
حيت غربت الشمس حتى أتى المزدلفة، فبات بها ليلتئذ حتى أصبح، ثم دفع منها حتى أتى
منى فقضى بها نسكه، ثم أفاض إلى مكة فقضى بها طوافه، ثم رجع إلى منى فأقام بها، ثم
خرج إلى المدينة، فلم يقم ? في موضع واحد أربعا يقصر- انتهى كلام البيهقي. وتعقبه
ابن التركماني، وتعقبه متجه عندي، قال: أقام بمكة أربعة أيام يقصر، فإنه ? قدم صبح
رابعة من ذي الحجة، فأقام الرابع والخامس والسادس والسابع وبعض الثامن ناويا
للإقامة بها بلا شك، ثم خرج إلى منى يوم التروية، وهو الثامن قبل الزوال. وهذا
يبطل تقديرهم بأربعة أيام، ولهذا حكى ابن رشد عن أحمد وداود أنه إذا أزمع على أكثر
من أربعة أيام أتم، قال واحتجوا بمقامه عليه السلام في حجته بمكة مقصرا أربعة
أيام. وذكر صاحب التمهيد عن الأثرم قال أحمد: أقام عليه السلام اليوم الرابع
والخامس والسادس والسابع وصلى الصبح بالأبطح في الثامن. فهذه إحدى وعشرون صلاة قصر
فيها، وقد أجمع على إقامتها وظهر بهذا بطلان قول البيهقي: "فلن يقم عليه
السلام في موضع واحد أربعا يقصر". وكيف يقول كان سائرا في اليوم الرابع مع
أنه قدم في صبيحته فأقام بمكة؟! أو كيف لا يحسب يوم الدخول مع أن الأحكام المتعلقة
بالسفر لينقطع حكمها يوم الدخول إذا نوى الإقامة، ويلحق بما بعده أصله رخصة المسح
والإفطار؟! فلا معنى لإخراجه بعد نية الإقامة بغير دليل شرعي، وكذا يوم الخروج قبل
خروجه.
(6/223)
وفي اختلاف العلماء للطحاوي
روي عن ابن عباس وجابر أنه عليه السلام قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة، فكان
مقامه إلى وقت خروجه أكثر من أربع، وقد كان يقصر الصلاة، فدل على سقوط الاعتبار
بالأربع- انتهى كلام ابن التركماني. وأجاب بعضهم عن هذا التعقب بأنه إنما يخالفنا
إذا أقام أربع ليال مع أيامها التامة. ويمكن أنه صلى الله عليه وسلم خرج في اليوم
الثامن من قبل الوقت الذي دخل فيه في اليوم الرابع، فما تمت له أيام الأربع، كذا
أجاب، ولا يخفى ما فيه، قلت: واستدل الشافعية والمالكية على مذهبهم بنهيه صلى الله
عليه وسلم للمهاجر عن إقامة فوق ثلاث بمكة فتكون الزيادة عليها لإقامة لا قدر
الثلاث. قال القسطلاني: الترخيص في الثلاث يدل على بقاء حكم السفر بخلاف الأربعة
فالأربع حد الإقامة، وما دونه حد السفر يقصر فيه. ورد ذلك بأن الثلاث قدر قضاء
الحوائج لا لكونها غير إقامة. قال ابن حزم في المحلى (ج5ص24): ليس في هذا الخبر نص
ولا إشارة إلى المدة التي إذا أقامها المسافر يتم صلاته، وإنما هو في حكم المهاجر
لا يقيم أكثر من ثلاثة أيام ليجاز شغله وقضى حاجته في الثلاث، ولا حاجة إلى أكثر
منها، ولا يدل على أنه يصير مقيما في الأربعة، ولو احتمل لا يثبت حكم شرعي
بالاحتمال، قال وأيضا
متفق عليه.
(6/224)
فإن المسافر مباح له أن يقيم ثلاثا وأكثر من ثلاث لا كراهية في شيء من ذلك. وأما المهاجر فمكروه له أن يقيم بمكة بعد انقضاء نسكه أكثر من ثلاث، فأي نسبة بين إقامة مكروهة وإقامة مباحة؟ وأيضا فإن ما زاد على الثلاثة الأيام للمهاجر داخل عندهم في حكم أن يكون مسافرا. لا مقيما وما زاد على الثلاثة فإقامة صحيحة. وهذا مانع من أن يقاس أحدهما على الآخر، وأيضا فإن إقامة قدر صلاة واحدة زيادة على الثلاثة مكروهة للمهاجر، فينبغي عندهم إذا قاسوا عليه المسافر أن يتم، وهو خلاف مذهبهم. وقد ظهر بهذا أنه ليس حديث مرفوع صريح في ما ذهب إليه المالكية والشافعية. وكذا فيما ذهب إليه الحنفية كما صرح به ابن رشد في البداية. وقال صاحب العرف الشذى: لا مرفوع لأحد ولكل واحد آثار. فاستدل الحنفية بما روى الطحاوي عن ابن عباس وابن عمر قالا: إذا قدمت بلدة وأنت مسافر، وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر يوما أكمل الصلاة بها، وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصرها، ذكره الزيلعي في نصب الراية، والحافظ في الدراية، والعيني في البناية وابن الهمام في فتح القدير. وروى نحوه محمد بن الحسن في كتاب الآثار عن ابن عمر وحده. قال الشوكاني: ورد بأنه من مسائل الاجتهاد، ولا حجة في أقوال في المسائل التي للاجتهاد فيها مسرح، قال: والحق أن من حط رحله ببلد ونوى الإقامة بها أيامها من دون تردد لا يقال له مسافر، فيتم الصلاة ولا يقصر إلا لدليل ولا دليل ههنا إلا في ما في حديث الباب من إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة أربعة أيام يقصر الصلاة، والاستدلال به متوقف على ثبوت أنه صلى الله عليه وسلم عزم على إقامة أربعة أيام إلا أن يقال: إن تمام أعمال الحج في مكة لا يكون في دون الأربع، فكان كل من يحج عازما على ذلك فيقتصر على هذا المقدار، ويكون الظاهر والأصل في حق من نوى إقامة أكثر من أربع أيام هو التمام، وإلا لزم أن يقصر الصلاة من نوى إقامة سنين متعددة، ولا قائل به.
(6/225)
ولا يرد على هذا قوله في
إقامته بمكة في الفتح: إنا قوم سفر؛ لأنه كان إذ ذاك مترددا، ولم يعزم على إقامة
مدة معينة- انتهى. قلت: لا شك أنه صلى الله عليه وسلم كان جازما بالإقامة أربعة
أيام بمكة في حجته؛ لأنه دخل بها صبيحة رابعة، وخرج منها إلى منى في بعض الثامن أي
بعد صلاة الصبح، فكان ناويا لإقامة تلك المدة بلا شك، وقد قصر بها الصلاة. فهذا
يدل على مذهب الإمام أحمد. ولم يثبت من حديث مرفوع قولي أو فعلي أنه صلى الله عليه
وسلم أزمع على أكثر من أربعة أيام وقصر الصلاة. فالقول الراجح عندي هو ما ذهب إليه
أحمد، والله أعلم. وأما حديث ابن عباس فسيأتي الكلام فيه. (متفق عليه) وأخرجه أيضا
الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص136و145و148و153) وغيرهم.
1346- (5) وعن ابن عباس، قال: ((سافر النبي ? سفرا، فأقام تسعة عشر يوما يصلي
ركعتين
ركعتين، قال ابن عباس: فنحن نصلي فيما بيننا وبين مكة، تسعة عشر، ركعتين ركعتين،
(6/226)
1346- قوله: (سافر النبي ? سفرا) أي في فتح مكة، ففي رواية للبخاري في المغازي: أقام النبي ? بمكة تسعة عشر يوما يصلي ركعتين. وذكره المجد بن تيمية في المنتقى بلفظ: لما فتح النبي ? مكة أقام فيها تسع عشرة يصلي ركعتين. (فأقام) أي فلبث. (تسعة عشر) بتقديم الفوقية على السين. (يوما) بليلته. (يصلي) أي حال كونه يصلي. (ركعتين ركعتين) أي يقصر الصلاة الرباعية؛ لأنه كان مترددا متى تهيأ له فراغ حاجته وهو انجلاء حرب هوازن ارتحل، وأعلم أنه اختلفت الروايات في إقامته ? بمكة عام الفتح، فروي تسعة عشر، كما ذكره المصنف. وروي عشرون، أخرجه عبد بن حميد في مسنده. وروي سبعة عشر بتقديم السين، أخرجه أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي. وروي خمسة عشر، أخرجه أبوداود والنسائي كلها عن ابن عباس. وروي ثمانية عشر، كما في حديث عمران الآتي. قال البيهقي في السنن الكبرى (ج3 ص151): وأصح هذه الروايات في ذلك عندي رواية من روى تسع عشرة أي بتقديم التاء، وهي الرواية التي أودعها للبخاري في الجامع الصحيح، وجمع أيضا البيهقي بين روايات تسع عشرة وثمان عشرة وسبع عشرة بأن من رواها تسع عشرة عد يوم الدخول ويوم الخروج، ومن روى ثمان عشرة لم يعد أحد اليومين، ومن قال سبع عشرة لم يعدهما، قال الحافظ في التلخيص (ص129): وهو جمع متين، وتبقى رواية خمسة عشر شاذة لمخالفتها، ورواية عشرين، وهي صحيحة الإسناد إلا أنها شاذة أيضا، اللهم إلا أن يحمل على جبر الكسر، ورواية ثمانية عشر ليست بصحيحة من حيث الإسناد، أي لما في سنده علي زيد بن جدعان، وهو ضعيف، وسيأتي الكلام فيه، وقال في الفتح بعد ذكر الجمع المذكور: وأما رواية خمسة عشر فضعفها النووي في الخلاصة، وليس بجيد؛ لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبيدالله كذلك. وإذا ثبت أنها صحيحة فليحمل على أن الراوي ظن أن الأصل رواية سبع
(6/227)
عشرة، فحذف منها يومي الدخول
والخروج، فذكر أنها خمس عشرة. واقتضى ذلك أن رواية تسع عشرة أرجح الروايات. وبهذا
أخذ إسحاق بن راهويه، ويرجحها أيضا إنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة، وأخذ
الثوري وأهل الكوفة برواية خمس عشرة، لكونها أقل ما ورد، فيحمل ما زاد على أنه وقع
اتفاقا- انتهى. (قال ابن عباس) استنباطا من هذا الحديث. (فنحن نصلي فيما بيننا
وبين مكة تسعة عشر) أي يوما. ولفظ الترمذي: فنحن نصلي فيما بيننا وبين تسع عشرة.
(ركعتين ركعتين) وفي رواية للبخاري: ونحن نقصر ما بيننا وبين تسع عشرة. وفي رواية
للبيهقي (ج3 ص150): فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسعة عشر صلينا ركعتين ركعتين، ولأبي
يعلى: إذا سافرنا فأقمنا في موضع تسعة عشر.
فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعا)) رواه البخاري.
(6/228)
(فإذا أقمنا) أي مكثنا (أكثر من ذلك صلينا أربعا) وقد أخذ به إسحاق بن راهويه أيضا، كما تقدم في كلام الحافظ، فمدة القصر عنده وعند ابن عباس تسعة عشر يوما، فإذا أجمع على أكثر من ذلك في موضع أتم. قال الترمذي: أما إسحاق فرأى أقوى المذاهب فيه حديث ابن عباس هذا، قال: لأن أبن عباس روى عن النبي ? ثم تأوله بعد النبي ?. (يعني أخذ به وعمل عليه بعد وفاته?)- انتهى. قلت: الاستدلال بهذا الحديث على أن من يقيم هذه المدة. (تسعة عشر أو خمسة عشر على اختلاف الروايتين والمذهبين) قصدا يقصر، لا يخلو عن إشكال؛ لأنه موقوف على ثبوت أنه ? أزمع في أول الأمر على إقامته بمكة هذه المدة، ولا دلالة في هذه القصة على ذلك أصلا، بلا الظاهر أن النبي ? أقام بمكة هذه المدة اتفاقا، ولا يدري أول الأمر أن إقامته تمتد إلى متى؛ لأنه كان مترددا متى تهيأ له فراغ حاجته يرحل. ومن كان كذلك يقر أبدا؛ لأنه لم ينو الإقامة، والأصل بقاء السفر، ولذا قال الترمذي: أجمع أهل العلم على أن المسافر يقصر ما لم يجمع إقامة، وإن أتى عليه سنون، وكذا قال ابن المنذر. وأما الاستدلال بحديث ابن عباس على أن من يزيد على هذه المدة يتم، كما قال ابن عباس وإسحاق ففي غاية الخفاء، هذا وقد أجاب عن الأشكال المذكور الإمام ابن تيمية في أحكام السفر (ص81) بأنه معلوم بالعادة أن ما كان يفعل بمكة وتبوك لم يكن ينقضي في ثلاثة أيام ولا أربعة حتى يقال إنه كان يقول اليوم أسافر، غدا أسافر، بل فتح مكة وأهلها وما حولها كفار محاربون له، وهي أعظم مدينة فتحها، وبفتحها ذلت الأعداء، وأسلمت العرب. ومثل هذه الأمور مما يعلم أنها لا ينقضي في أربعة أيام، فعلم أنه أقام لأمور يعلم أنها لا تنقضي في أربعة أيام، وكذلك تبوك إلى آخر ما قال. ولا يخفى ما فيه على المتأمل. (رواه) أي أصل الحديث. (البخاري) وإلا فالسياق المذكور ليس للبخاري، فإن الحديث رواه البخاري في الصلاة بلفظ: أقام
(6/229)
النبي ? بمكة تسعة عشر يوما
يصلي ركعتين، ومطولا بلفظ: أقمنا مع النبي ? في سفر تسع عشرة نقصر الصلاة. وقال
ابن عباس: ونحن نقصر ما بيننا وبين تسع عشرة، فإذا أزدنا أتممنا. والسياق الذي
ذكره المصنف إنما هو للترمذي والبيهقي بفرق يسير. والبغوي إنما ذكر في المصابيح
سياق البخاري المختصر. ولعل المصنف أعرض عنه لاختصاره، وأورد سياق الترمذي
والبيهقي، لكونه واضحا مطولا، لكن كان ينبغي له أن ينبه على تصرفه هذا، فإن صنيعه
يدل على أن السياق المذكور للبخاري، والأمر ليس كذلك، كما عرفت، والحديث أخرجه
أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص149، 150، 151).
1347- (6) وعن حفص بن عاصم، قال: ((صحبت ابن عمر في طريق مكة، فصلى لنا الظهر
ركعتين، ثم جاء رحله، وجلس، فرأى ناسا قياما، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون.
قال: لو كنت مسبحا أتممت صلاتي. صحبت رسول الله ?، فكان لا يزيد في السفر على
ركعتين، وأبا بكر، وعمر، وعثمان كذلك))
(6/230)
1347- قوله: (وعن حفص بن عاصم) بن عمر بن الخطاب ثقة من الطبقة الوسطى من التابعين (صحبت ابن عمر) أي رافقت عمي عبدالله بن عمر بن الخطاب. (فصلى لنا الظهر ركعتين) قصرا ثم أقبل وأقبلنا معه. (ثم جاء) وفي مسلم: حتى جاء. (رحله) أي منزله ومسكنه. (وجلس) وجلسنا معه، فحانت منه إلتفاتة نحو حيث صلى. (فرأى ناسا قياما) بكسر القاف جمع قائم أي قائمين للصلاة في المكان الذي صلوا الفرض فيه. (فقال) إنكارا: (ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون) أي يصلون النافلة، فالسبحة هنا صلاة النفل، (لو كنت مسبحا) أي مصليا النافلة في السفر. (أتممت صلاتي) أي المكتوبة. قال السندي: لعل المعنى لو كنت صليت النافلة على خلاف ما جاءت به السنة لأتممت الفرض على خلافها، أي لو تركت العمل بالسنة لكان تركها لإتمام الفرض أحب وأولى من تركها لإتيان النفل، وليس المعنى لو كانت النافلة مشروعة لكان الإتمام مشروعا حتى يرد عليه ما قيل: إن شرع الفرض تاما يفضي إلى الحرج، إذ يلزم حينئذ الإتمام. وأما شرع النفل فلا يفضي إلى حرج، لكونها إلى خيرة المصلي- انتهى. وقال الحافظ في الفتح: مراد ابن عمر بقوله هذا يعني أنه لو كان مخيرا بين الإتمام وصلاة الراتبة لكان الإتمام أحب إليه، لكنه فهم من القصر التخفيف، فلذلك كان لا يصلي الراتبة ولا يتم. (فكان لا يزيد في السفر على ركعتين) أي في غير المغرب، إذ لا يصح ذلك في المغرب قطعا. والمعنى لا يزيد نفلا قبل الفريضة وبعدها. (وأبا بكر) أي وصحبت أبا بكر. (وعمر وعثمان كذلك) أي صحبتهم كما صحبته ?، وكانوا لا يزيدون في السفر على ركعتين. وفيه دليل على أنه ? واظب على القصر في السفر ولازمه، ولم يصل تماما. وذكر الموقوف بعد المرفوع مع أن الحجة قائمة بالمرفوع ليبين أن العمل استمر على ذلك، ولم يطرق إليه نسخ ولا معارض ولا راجح، لكن في ذكر عثمان إشكال؛ لأنه كان في آخر أمره يتم الصلاة. وأجيب بما سيأتي في الفصل الثالث
(6/231)
من حديث ابن عمر وعثمان صدرا من خلافته. قال في المصابيح: وهو الصواب، ذكره القسطلاني، أو المراد أنه إنما كان يتم إذا كان نازلا. وأما إذا كان سائرا فيقصر. فلذلك قيده في هذه الرواية بالسفر. وقال الزركشي: ولعل ابن عمر أراد في هذه الرواية أيام عثمان في سائر أسفاره في غير منى؛ لأن إتمامه كان بمنى، كما فسره عمران بن الحصين في روايته. والحديث فيه إشكال آخر، فإنه يدل على أنه ? كان لا يتنفل في السفر. وقد روى ابن عمر
(6/232)
نفسه، كما سيأتي في الفصل الثاني، أن النبي ? كان يصلي النافلة بعد الظهر والمغرب. وورد في حديث أبي قتادة عند مسلم في قصة النوم عن صلاة الصبح في السفر: ثم صلى ركعتين قبل الصبح ثم صلى الصبح. وقد روي عنه ? أنه صلى صلاة الضحى في السفر. كما تقدم، وصلاة الليل على الدابة، كما سيأتي من حديث ابن عمر، وصلاة الزوال أو الراتبة قبل الظهر، كما في حديث البراء عند الترمذي وأبي داود. وأيضا يشكل على إنكار ابن عمر على المتنفلين ما سيأتي في آخر الباب أن ابن عمر كان يرى ابنه عبيدالله يتنفل في السفر، فلا ينكر عليه، وما روي عن ابن عمر أنه كان يصلي على راحلته في السفر حيثما توجهت به. قال العراقي: الجواب: أن النفل المطلق وصلاة الليل لم يمنعهما ابن عمر ولا غيره. فأما السنن الرواتب فيحمل حديث الباب على الغالب من أحواله في أنه لا يصلى الرواتب، وحديثه في فعل أنه فعله في بعض الأوقات لبيان استحبابها وإن لم يتأكد فعلها فيه كتأكده في الحضر، أو أنه كان نازلا في وقت الصلاة ولا شغل له يشتغل به عن ذلك، أو سائرا، وهو على راحلته. ولفظ "كان" في حديث الباب لا يقتضي الدوام ولا التكرار على الصحيح، فلا تعارض بين حديثيه. وقيل: مذهب ابن عمر الفرق بين الرواتب والنوافل المطلقة كالتهجد والوتر والضحى وغير ذلك، فيحمل الإنكار على الأول، والإثبات على الثاني، ولا يخفى ما فيه. وقيل: نفي التطوع في السفر محمول على ما بعد الصلاة خاصة أي الرواتب البعدية، فلا يتناول ما قبلها ولا ما لا تعلق له بها من النوافل المطلقة، وإليه مال البخاري، كما يظهر من تبويبة. قال الحافظ: وهو فيما يظهر أظهر. قلت: بل هو غاية الخفاء فضلا عن أن يكون ظاهرا فضلا عن أن يكون أظهر لما سيأتي من حديث ابن عمر نفسه في إثبات الرواتب البعدية. وقيل: لعل النبي ? كان يصلي الرواتب في رحله فلا يراه ابن عمر. وقيل: النفي محمول على الصلاة على الأرض، والإثبات على الدابة.
(6/233)
قال الحافظ: وقد جمع ابن بطال
بين ما اختلف عن ابن عمر في ذلك بأنه كان يمنع التنفل على الأرض، ويقول به على
الدابة. وقيل: الأولى أن يحمل حديث الباب أي عدم الزيادة على ركعتي الفرض على حالة
السير وحديث الثبوت على حالة النزول والقرار، وهو المختار من مذهب الحنفية، كما
صرح به الدر المختار وفي الكبرى، هو أعدل الأقوال. قلت: قد اختلف العلماء في
التنفل في السفر على ستة أقوال: أحدها المنع مطلقا. الثاني الجواز مطلقا. الثالث:
الفرق بين الرواتب والمطلقة، وهو مذهب ابن عمر، كما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد
صحيح. الرابع: الفرق بين الليل والنهار في المطلقة. الخامس: الفرق بين الرواتب
البعدية وغيرها، فيحمل النفي على الأولى، فلا يتناول ما قبلها ولا النوافل
المطلقة. السادس: ما اختاره ابن القيم حيث قال في الهدي (ج1 ص134): كان من هديه ?
الاقتصار على الفرض، ولم يحفظ عنه ? أنه صلى سنة الصلاة
متفق عليه.
1348-(7) وعن ابن عباس، قال: ((كان رسول الله ? يجمع بين صلاة الظهر والعصر،
(6/234)
قبلها ولا بعدها إلا ما كان من الوتر وسنة الفجر، فإنه لم يكن ليدعهما حضرا ولا سفرا، قال: وأما ابن عمر فكان لا يتطوع قبل الفريضة ولا بعدها إلا من جوف الليل مع الوتر، وهذا هو الظاهر من هدي النبي ? ، كان لا يصلي قبل الفريضة المقصورة ولا بعدها شيئا، ولم يكن يمنع من التطوع قبلها ولا بعدها، فهو كالتطوع المطلق لا أنه سنة راتبة للصلاة كسنة صلاة الإقامة. ويؤيد هذا أن الرباعية قد خففت إلى ركعتين تخفيفا على المسافر، فكيف يجعل لها سنة راتبة يحافظ عليها، وقد خفف الفرض ركعتين، فلولا قصد التخفيف على المسافر وإلا كان الإتمام أولى به، وقال أيضا (ج1 ص83): وكان أي النبي ? في السفر يواظب على سنة الفجر، والوتر أشد من جميع النوافل دون سائر السنن، ولم ينقل في السفر أنه ? صلى سنة راتبة غيرهما، ولذلك كان ابن عمر لا يزيد على ركعتين، وسئل عن سنة الظهر في السفر، فقال: لو كنت مسبحا لأتممت. وهذا من فقهه رضي الله عنه، فإن الله سبحانه وتعالى خفف عن المسافر في الرباعية شطرها، فلو شرع له الركعتان قبلها أو بعدها لكان الإتمام أولى به. وتعقب قوله: لم يتنفل في السفر أنه ? صلى سنة راتبة غير سنة الفجر والوتر، بما سيأتي من حديث ابن عمر في إثبات الراتبة البعدية للظهر والمغرب. قال الترمذي: اختلف أهل العلم بعد النبي ?، فرأى بعض أصحاب النبي ? أن يتطوع الرجل في السفر، وبه يقول أحمد وإسحاق، ولم تر طائفة أن يصلي قبلها ولا بعدها، ومعنى من لم يتطوع في السفر قبول الرخصة، ومن تطوع فله في لك فضل كثير، وهو قول أكثر أهل العلم يختارون التطوع في السفر- انتهى. قلت: والراجح عندي أن لا يترك في السفر الوتر وسنة الفجر. وأما غيرهما من الرواتب القبلية والبعدية فهي إلى خيرته، إن شاء فعلها وحصل ثوابها، وإن شاء تركها ولا شيء عليه، أعني أنها لا تبقى في حقه متأكدة كسنة صلاة الإقامة، والله أعلم. (متفق عليه) فيه أن السياق المذكور ليس
(6/235)
لهما ولا لأحدهما، بل هو مجموع
من مجموع ما فيهما، فأول الحديث إلى قوله "أتممت صلاتي" من إفراد مسلم،
لم يروه البخاري أصلا. وقوله: صحبت رسول الله ? إلى آخر الحديث" وهو سياق
البخاري. وعند مسلم: يا ابن أخي! إني صحبت رسول الله ? في السفر، فلم يزد على
ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر
فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه
الله، وقد قال الله تعالى: ?لقد كان لكن في رسول الله أسوة حسنة? [21:33] وسياق
المشكاة موافق لما في المصابيح. ولو نبه المصنف على تصرف البغوي في سياق الحديث
لكان أحسن. والحديث أخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود وابن ماجه والبيهقي (ج3
ص158).
1348- قوله: (كان رسول الله ? يجمع بين صلاة الظهر والعصر) أي جمع تأخير، وهو أن
يؤخر
إذا كان على ظهر يسير، ويجمع بين المغرب والعشاء))
(6/236)
الظهر إلى أن يدخل وقت العصر، فيصلي الظهر والعصر جميعا في وقت العصر. (إذا كان على ظهر يسير) قال القسطلاني: بإضافة ظهر يسير. وللأصيلي وابن عساكر وأبي الوقت وأبي ذر عن الكشمهيني: ظهر بالتنوين، يسير بلفظ المضارع بتحتانية مفتوحة في أوله أي حال كونه يسير، وعزا في الفتح الأولى للأصيلي، والثانية للكشمهيني. ولفظ ظهر في قوله: "ظهر يسير" مقحم للتأكيد كقوله: الصدقة عن ظهر غنى. وقد يزاد في مثل هذا اتساعا للكلام، كأن السير مستند إلى ظهر قوي من المطي مثلا. وقيل: جعل للسير ظهر؛ لأن الراكب ما دام سائرا فكأنه راكب ظهر، وفيه جناس التحريف بين الظهر والعصر. (ويجمع بين المغرب والعشاء) أي كذلك. واستدل به على جواز جمع التأخير في السفر. وأما جمع التقديم فسيأتي الكلام فيه في شرح حديث معاذ بن جبل الآتي. واحتج بحديث ابن عباس هذا من قال باختصاص الجمع بالسائر دون النازل. وفي مسألة الجمع بين الصلاتين في السفر سبعة أقوال: أحدها أنه يجوز الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في السفر في وقت أحدها جمعا حقيقيا تقديما وتأخيرا مطلقا، أي سواء كان سائرا أم لا، وسواء كان سيرا مجدا أم لا. قال به كثير من الصحابة والتابعين، ومن الفقهاء الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبوثور وابن المنذر وأشهب. وحكاه ابن قدامة عن مالك أيضا. وقال الزرقاني: وإليه ذهب مالك في رواية مشهورة. قلت: وهو مختار المالكية، كما في فروعهم، واختاره الشاه ولي الله الدهلوي، حيث قال في حجة الله (ج2 ص18): من رخص السفر الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، والأصل فيه ما أشرنا أن الأوقات الأصلية ثلاثة الفجر والظهر والمغرب، وإنما اشتق العصر من الظهر والمغرب من العشاء، ولئلا تكون المدة الطويلة فاصلة بين الذكرين، ولئلا يكون النوم على صفة الغفلة، فشرع لهم جمع التقديم والتأخير، لكنه لم يواظب عليه ولم يعزم عليه مثل ما فعل في القصر- انتهى. والثاني
(6/237)
أنه يختص الجمع بمن يجد في السير أي يسرع، قاله الليث، وهو قول مالك في المدونة. واستدل لهما بما روي في الصحيح عن ابن عمر قال: كان النبي ? يجمع بين المغرب والعشاء (جمع تأخير) إذا جد به السير، وسيأتي الجواب عنه. والثالث أنه يختص بما إذا كان سائرا لا نازلا، قاله ابن حبيب من المالكية. واستدل لذلك بقوله: إذا كان على ظهر سير في حديث الباب. وأجيب عن ذلك بما وقع من التصريح في حديث معاذ بن جبل في الموطأ بلفظ: أن النبي ? أخر الصلاة (في غزوة تبوك) خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل ثم خرج، فصلى المغرب والعشاء جميعا. قال الشافعي في الأم قوله: "ثم دخل ثم خرج" لا يكون إلا وهو نازل، فللمسافر أن يجمع نازلا ومسافرا. وقال ابن عبدالبر: هذا أوضح دليل في الرد على من قال لا يجمع إلا من جد به السير، وهو قاطع للالتباس. وقال الباجي: مقتضى قوله: "ثم دخل ثم خرج" أنه مقيم غير سائر؛ لأنه إنما يستعمل في الدخول في المنزل والخباء، والخروج منهما، وهو غالب الاستعمال إلا أن يريد
(6/238)
أنه خرج من الطريق إلى الصلاة، ثم دخله للسير، وفيه بعد. وكذا حكى عياض هذا التأويل عن بعضهم ثم استبعده ولا شك في بعده، وكأنه ? فعل ذلك لبيان الجواز، وكان أكثر عادته التفرقة في حال الجمع بين ما إذا كان سائرا أو نازلا، ومن ثم قال الشافعية ترك الجمع أفضل. والرابع أن الجمع مكروه، قال ابن العربي: إنها رواية المصريين عن مالك، والخامس أنه يختص بمن له عذر حكى عن الأوزاعي. والسادس أنه يجوز جمع التأخير دون التقديم وهو اختيار ابن حزم، وسيأتي الكلام فيه. والسابع أنه لا يجوز الجمع مطلقا إلا بعرفة والمزدلفة، وهو قول الحسن والنخعي وأبي حنفية وصاحبيه، ووقع عند النووي أن الصاحبين خالفا شيخهما، ورد عليه السروجي في شرح الهداية، وهو أعرف بمذهبه، وأجاب هؤلاء عما ورد من الأخبار في ذلك الذي وقع جمع صوري، وهو أنه أخر المغرب مثلا إلى آخر وقتها، وعجل العشاء في أول وقتها. وتعقبه الخطابي في المعالم (ج1 ص264) بما حاصله: أن الجمع من الرخص العامة لجميع الناس عامهم وخاصهم، فلو كان على ما ذكروه لكان أعظم ضيقا من الإتيان بكل صلاة في وقتها؛ لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلا عن العامة. وأما أمره ? للمستحاضة بالجمع الصوري، فهو وارد في شيء يندر وجوده، على أنه ? قيد ذلك بقوله: إن قويت كما تقدم، فإن قدرت المستحاضة على معرفة أوائل الأوقات وأواخرها، وعلى الاغتسال ثلاث مرات جمعت بين الصلاتين فعلا وصورة. ومن الدليل على أن الجمع رخصة، قول ابن عباس: أراد أن لا يحرج أمته، أخرجه مسلم. وهذا يقدح في حمله على الجمع الصوري؛ لأن النزول للصلاتين والخروج إليهما مرة واحدة وإن كان أسهل من النزول مرتين، لكن لا يخلو ذلك عن حرج ومشقة بسبب عدم معرفة أكثر الناس أوائل أوقات الصلاة وأواخرها بخلاف الجمع الوقتي فهو أيسر وأخف من الجمع الفعلي، وهذا ظاهر وأيضا فإن الأخبار جاءت صريحة بالجمع في وقت إحدى الصلاتين،
(6/239)
وهي نصوص صريحة لا تحتمل
تأويلا، كما سيأتي. قال الشيخ عبدالحي اللكنوي في التعليق الممجد (ص129): حمل
أصحابنا يعني الحنفية الأحاديث الواردة في الجمع على الجمع الصوري. وقد بسط
الطحاوي الكلام فيه في شرح معاني الآثار، لكن لا أدري ماذا يفعل بالروايات التي
وردت صريحا بأن الجمع كان بعد ذهاب الوقت، وهي مروية في صحيح البخاري وسنن أبي
داود وصحيح مسلم وغيرها من الكتب المعتمدة على ما لا يخفى على من نظر فيها، فإن
حمل على أن الرواة لم يحصل التمييز لهم، فظنوا قرب خروج الوقت، خروج الوقت، فهذا
بعيد عن الصحابة الناصين على ذلك، وأن أختير ترك تلك الروايات بأبداء الخلل في
الإسناد فهو أبعد وأبعد مع إخراج الأئمة لها وشهادتهم بتصحيحها، وإن عورض
بالأحاديث التي صرحت بأن الجمع كان بالتأخير إلى آخر الوقت والتقديم في أول الوقت
فهو أعجب، فإن الجمع بينهما بحملها على اختلاف الأحوال ممكن
رواه البخاري.
1349-(8) وعن ابن عمر قال: ((كان رسول الله ? يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت
به
(6/240)
بل هو الظاهر- انتهى كلام الشيخ اللكنوي. وأيضا المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع هو الجمع الوقتي لا الفعلي. قال الخطابي في المعالم (ج1 ص264): ظاهر اسم الجمع عرفا لا يقع على من أخر الظهر حتى صلاها في آخر وقتها، وعجل العصر فصلاها في أول وقتها؛ لأن هذا قد صلى كل صلاة منهما في وقتها الخاص بها، وإنما الجمع المعروف بينهما أن تكون الصلاتان معا في وقت إحداهما ألا ترى أن الجمع بينهما بعرفة والمزدلفة كذلك- انتهى. ولو سلم أن لفظ الجمع عام يشمل الوقتي والفعلي كليهما فالروايات الصريحة في جمع التقديم والتأخير معين للمراد من لفظ الجمع في الروايات المطلقة، وأن المقصود هو الجمع الوقتي أي الحقيقي لا الصوري أي الفعلي. ومما يرد الحمل على الجمع الصوري جمع التقديم الآتي ذكره في الفصل الثاني. قال الحافظ: وفي هذه الأحاديث أي أحاديث الجمع الحقيقي الصريحة المفسرة تخصيص لحديث الأوقات التي بينها جبريل للنبي ? وبينها النبي ? للأعرابي حيث قال في آخرها: الوقت ما بين هذين- انتهى. وبهذا يندفع ما قيل: إن هذه الصلوات عرفت مؤقتة بأوقاتها بالدلائل المقطوع بها من الكتاب والسنة والإجماع، فلا يجوز تغييرها عن أوقاتها بخبر الواحد؛ لأن خبر الواحد لا يقبل في معارضة الدليل المقطوع به؛ لأن أحاديث الأوقات عامة وأحاديث الجمع خاصة بالسفر، ولا تعارض بين العام والخاص، فتحمل أحاديث الأوقات على ما عدا حالة السفر. (رواه البخاري) من طريق عكرمة عن ابن عباس. قال ميرك: ورواه مسلم بمعناه. قلت: روى مسلم من طريق أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله ? جمع بين الصلاتين في سفرة سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء قال سعيد: فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: أرادا أن لا يحرج أمته. وأخرج البيهقي الرواية الأولى (ج3 ص164).
(6/241)
1349- قوله: (على راحلته)
الراحلة من الإبل ما كان منها صالحا؛ لأن يرتحل أي يشد عليه الرحل والقوي منها على
الأحمال والأسفار للذكر والأنثى، والتاء للمبالغة. (حيث توجهت به) أي ولو إلى غير
القبلة. قيل الضمير عائد إلى حيث أو إلى النبي ? ، والباء للتعدية، والعائد إلى
حيث محذوف أي إليه. وقوله: "حيث توجهت به" متعلق بقوله:
"يصلي". ففي حديث عامر بن ربيعة عند البخاري: رأيت رسول الله ? ، وهو
على الراحلة، يسبح يومئ برأسه قبل أي وجه توجه. قيل: وهو قيد احتراز, فصوب أي جهة
سفره قبلته، فلو صلى إلى غير ما توجهت به دابته لا يجوز. قال الحافظ: واستدل به
على أن جهة الطريق تكون بدلا عن القبلة، حتى يجوز الانحراف عنها عامدا قاصدا لغير
حاجة المسير إلا إن كان سائرا في غير جهة القبلة فانحرف إلى جهة
يومئ إيماء صلاة الليل إلا الفرائض، ويوتر على راحلته))
(6/242)
القبلة فإن ذلك لا يضره على الصحيح. وقال ابن قدامة: وقبلة هذا المصلي حيث كانت وجهته، فإن عدل عنها نظرت فإن كان عدوله إلى جهة الكعبة جاز؛ لأنها الأصل، وإنما جاز تركها للعذر، فإذا عدل إليها أتى بالأصل، وإن عدل إلى غيرها عمدا فسدت صلاته؛ لأنه ترك قبلته عمدا. (يومئ) بياء مبدلة من همزة من أومأ. قال الطيبي: حال من فاعل يصلي، وكذا على راحلته. (إيماء) نصب على المصدرية أي يشير برأسه إلى الركوع والسجود من غير أن يضع جبهته على ظهر الراحلة، وكان يومئ للسجود أخفض من الركوع تمييزا بينهما، وليكون البدل على وفق الأصل، وقد وقع ذلك صريحا في حديث جابر الآتي في الفصل الثاني. (صلاة الليل) مفعول يصلي.وفيه أن المراد بقوله: ?وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره? [144:2] الفرائض. (إلا الفرائض) مستثنى من صلاة الليل أي لكن الفرائض. فلم يكن يصليها على الراحلة، فالاستثناء منقطع لا متصل؛ لأن المراد خروج الفرائض من الحكم ليلية أو نهارية. (ويوتر) بعد فراغه من صلاة الليل. (على راحلته) قال ابن الملك: يدل على عدم وجوب الوتر يعني؛ لأنه لو كان واجبا لما جازت صلاته على الدابة. قلت: الحديث نص في جواز الوتر على الدابة في السفر وهو من علامات عدم وجوب الوتر. واختلف فيه أهل العلم، فقال مالك والشافعي وأحمد بجوازه، وهو مروي عن على وابن عمر وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري. وقولهم هو الحق. وقال أبوحنيفة وصاحباه: لا يجوز الوتر إلا على الأرض، كما في الفرائض وهو خلاف السنة الثابتة. قال محمد بن نصر المروزي في كتاب الوتر بعد رواية الأحاديث والآثار الدالة على جواز الوتر على الدابة ما لفظه: وزعم النعمان يعني أبا حنيفة أن الوتر على الدابة لا يجوز خلافا لما روينا. واحتج له بعضهم بحديث رواه عن ابن عمر أنه نزل عن دابته فأوتر بالأرض. فيقال لمن احتج بذلك: هذا ضرب من الغفلة، هل قال أحد لا يحل للرجل أن يوتر بالأرض؟ إنما قال العلماء:
(6/243)
لا بأس أن يوتر على الدابة،
وإن شاء أوتر بالأرض, وكذلك كان ابن عمر يفعل ربما أوتر على الدابة، وربما أوتر
على الأرض. (أي طلبا للأفضل). وعن نافع أن ابن عمر كان ربما أوتر على راحلته،
وربما نزل. وفي رواية: كان يوتر على راحلته، وكان ربما نزل- انتهى. وقال الشيخ
عبدالحي اللكنوي في التعليق الممجد (ص131): أخذ أصحابنا يعني الحنفية بالآثار
الواردة بنزول ابن عمر للوتر، وشيدوه بالأحاديث المرفوعة في نزوله ? للوتر. وقال
المجوزون لأدائه على الدابة: إنه لا تعارض ههنا إذ يجوز أن يكون النبي ? فعل
الأمرين، فأحيانا أدى الوتر على الدابة وأحيانا على الأرض واقتدى به ابن عمر.
ويؤيده ما أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار عن مجاهد عن محمد ابن إسحاق عن نافع
قال: كان ابن عمر يوتر على الراحلة، وربما نزل فأوتر على الأرض. وذكر الطحاوي بعد
ما أخرج آثار الطرفين الوجه في ذلك عندنا أنه قد يجوز أن يكون رسول الله ? كان
يوتر على الراحلة قبل أن
متفق عليه.
(6/244)
يحكم بالوتر، ويغلظ أمره، ثم أحكم بعد ولم يرخص في تركه، ثم أخرج حديث: إن الله أمدكم بصلاة هي خر لكم من حمر النعم الخ من حديث خارجة وأبي بصرة، ثم قال: فيجوز أن يكون ما روى ابن عمر عن رسول الله ? من وتره على الراحلة كان منه قبل تأكيده إياه، ثم نسخ ذلك- انتهى. وفيه نظر لا يخفى إذ لا سبيل إلى إثبات النسخ بالاحتمال ما لم يعلم ذلك بنص وارد في ذلك- انتهى كلام الشيخ اللكنوي. وفي الحديث جواز التنفل على الراحلة في السفر، وهو مما أجمع عليه المسلمون. قال الشوكاني: جواز التطوع على الراحلة للمسافر قبل جهة مقصده إجماع كما قال النووي والعراقي والحافظ وغيرهم، وإنا الخلاف في جواز ذلك في الحضر، فجوزه أبويوسف وأبوسعيد الأصطخري من أصحاب الشافعي وأهل الظاهر. وقال ابن حزم: وقد روينا عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يصلون على رحالهم ودوابهم حيثما توجهت، قال: وهذه حكاية عن الصحابة والتابعين عموما في الحضر والسفر. قال النووي: وهو محكي عن أنس بن مالك. قال العراقي: استدل من ذهب إلى ذلك بعموم الأحاديث التي لم يصرح بذكر السفر، وهو ماش على قاعدتهم أنه لا يحمل المطلق على المقيد، بل يعمل على كل منهما. فأما من يحمل المطلق على المقيد، وهم الجمهور فحملوا الروايات المطلقة على المقيدة. وظاهر الأحاديث عدم الفرق بين السفر الطويل والقصير. (لأن الروايات ليس فيها شيء من التحديد فوجب الامتثال بالعموم) وإليه ذهب الشافعي وجمهور العلماء. (أبوحنيفة وصاحباه وأحمد وداود وغيرهم) وذهب مالك إلى أنه لا يجوز إلا في سفر يقصر في مثله الصلاة. (لأن الروايات التي حكاها ابن عمر وغيره وردت فيما يقصر فيه الصلاة)، وهو محكي عن الشافعي لكنها حكاية غريبة- انتهى. وقال الحافظ: قد أخذ بمضمون هذه الأحاديث فقهاء الأمصار، إلا أن أحمد وأبا ثور كانا يستحبان أن يستقبل القبلة بالتكبير حال ابتداء الصلاة. والحجة لذلك حديث الجارود بن أبي سبرة عن أنس أن
(6/245)
النبي ? كان إذا أراد أن يتطوع
في السفر استقبل بناقته القبلة، ثم صلى حيث وجهت ركابه، أخرجه أبوداود وأحمد
والدارقطني- انتهى. وقال ابن قدامة في المغني (ج1 ص436): وإن كان يعجز عن استقبال
القبلة في ابتداء الصلاة كراكب راحلته لا تطيعه أو كان في قطار أي جماعة الإبل
التي تربط بعضها ببعض فليس عليه استقبال القبلة في شيء من الصلاة، وإن أمكنه
افتتاحها إلى القبلة تخرج فيه روايتان: إحداهما يلزمه لرواية أنس عند أحمد وأبي
داود أنه عليه السلام استقبل بناقته القبلة، فكبر، والثانية: لا يلزمه؛ لأنه جزء
من أجزاء الصلاة أشبه سائر أجزائها والحديث يحمل على الفضيلة والندب- انتهى. وكان
السر فيما ذكر من جواز التطوع على الدابة في السفر تحصيل النوافل على العباد
وتكثيرها تعظيما لأجورهم رحمة من الله بهم. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب
الوتر في السفر، وأخرجه أيضا مالك وأحمد وأبوداود والنسائي والطحاوي والبيهقي (ج2
ص5، 491).
?الفصل الثاني?
1350- (9) عن عائشة، قالت: ((كل ذلك قد فعل رسول الله ?: قصر الصلاة وأتم))
(6/246)
1350- قوله: (كل ذلك) إشارة إلى ما ذكر بعده من القصر والإتمام "وكل" مفعول قوله. (قد فعل) أو مبتدأ على حذف العائد أي كل ذلك فعله. قال الطيبي: ذلك إشارة إلى أمر مبهم له شأن لا يدري إلا بتفسيره. وتفسيره قولها رضي الله عنها: (قصر الصلاة وأتم) ونظيره قوله تعالى: ?وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين? [ 15: 66]، تعني كان رسول الله ? يقصر الرباعية في السفر ويتمها. والحديث قد احتج به القائلون بعدم وجوب القصر في السفر، لكنه ضعيف جدا؛ لأن في سنده طلحة بن عمرو بن عثمان الحضرمي المكي، وهو متروك ليس بشيء، واحتجوا أيضا بما روى الدارقطني (ص242) والبيهقي (ج3: ص141) من طريقه عن عائشة أن النبي الله? كان يقصر ويتم ويفطر ويصوم. قال الدارقطني: إسناده صحيح. وأجيب عنه بأنه حديث فيه كلام لا يصح للاحتجاج. قال الحافظ في التلخيص (ص128): قد استنكره أحمد، وصحته بعيدة، فإن عائشة كانت تتم ،وذكر عروة أنها تأولت ما تأول عثمان، كما في الصحيح، فلو كان عندها من النبي ? رواية لم يقل عروة: إنها تأولت، وقد ثبت في الصحيحين خلاف ذلك- انتهى. وقال ابن القيم في الهدي (ج1: ص121) بعد ذكر هذا الحديث: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هو كذب على رسول الله ? - انتهى. واحتجوا أيضا بما روى النسائي والدارقطني (ص242) والبيهقي (ج3 ص142) عن عائشة أيضا قالت: خرجت مع النبي ? في عمرة في رمضان، فأفطر وصمت، وقصر وأتممت، فقالت: - بأبي وأمي- أفطرت وصمت، وقصرت وأتممت! فقال أحسنت يا عائشة! قال الدارقطني: إسناده حسن. وأجيب عنه بأنه أيضا لا يصلح للاحتجاج. قال في البدر المنير: إن في متن هذا الحديث نكارة، وهو كون عائشة خرجت معه في عمرة في رمضان، والمشهور أنه ? لم يعتمر إلا أربع عمر ليس منهن شيء في رمضان، بل كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته، فكان إحرامها في ذي القعدة، وفعلها في ذي الحجة، قال: هذا هو المعروف في الصحيحين
(6/247)
وغيرهما. وقد تمحل بعض الحفاظ
في الجواب عن هذا الإشكال، واعتراض عليه الحافظ أبوعبدالله بن محمد بن عبدالأحد
المقدسي في كلام له على هذا الحديث، وقال: وهم في هذا غير موضع، وذكر أحاديث في
الرد عليه. وقال ابن حزم: هذا حديث لا خير فيه، وطعن فيه. وقال ابن القيم في الهدي
(ج1 ص133) بعد ذكر هذا الحديث: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذا الحديث كذب
على عائشة، ولم تكن عائشة تصلي بخلاف صلاة رسول الله ? وسائر الصحابة، وهي تشاهدهم
يقصرون ثم تتم هي وحدها بلا موجب. كيف وهي القائلة: فرضت الصلاة ركعتين، فزيد في
الصلاة الحضر،
رواه في شرح السنة.
1351-(10) وعن عمران بن حصين، قال: ((غزوت مع النبي ? وشهدت معه الفتح، فقام بمكة
ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، يقول: يا أهل البلد! صلوا أربعا، فإنا سفر)).
وأقرت صلاة السفر، فكيف يظن أنها تريد على ما فرض الله وتخالف رسول الله ?
وأصحابه، وإذا كان النبي ? قد حسن فعلها وأقرها عليه فما للتأويل. (يعني ما تقدم
ذكره في كلام الحافظ في التلخيص) حينئذ وجه، ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل
على هذا التقدير، وقد أخبر ابن عمر أن رسول الله ? لم يكن يزيد في السفر على
ركعتين ولا أبوبكر ولا عمر، أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم وهم تراهم يقصرون؟
وأما بعد موته ? فإنها أتمت كما أتم عثمان، وكلاهما تأول تأويلا، والحجة في
روايتهم لا في تأويل الواحد منهم مع مخالفة غيره له- انتهى. وبالجملة فلم يثبت عنه
? أنه أتم الرباعية في سفره البتة، بل لازم القصر في جميع أسفاره، فعلى المسلم أن
يلازم القصر في السفر، كما لازمه ?. (رواه) أي صاحب المصابيح. (في شرح
السنة") وأخرجه أيضا الشافعي والدارقطني (ص242) والبيهقي (ج3 ص142)، وفي سنده
طلحة بن عمرو، وهو مترك، فالحديث ضعيف جدا.
(6/248)
1351- قوله: (غزوت مع النبي ?)
أي غزوات. (الفتح) أي فتح مكة. (فأقام) أي مكث. (ثماني عشرة ليله) أي مع أيامها،
وما كان نوى الإقامة هذه المدة من أول الأمر بل كان مترددا متى تهيأ فراغ حاجته
ارتحل كما تقدم، فامتد مكثه بمكة لذلك. (لا يصلي إلا ركعتين) في الرباعية. ( يقول)
بعد تسليمة خطابا لمن اقتدى به من أهل مكة: (يا أهل البلد صلوا أربعا) أي لا
تقصروا صلاتكم بل أتموها أربعا. (فإنا) قوم. (سفر) بفتح السين وسكون الفاء. جمع
سافر، كركب وراكب وصحب وصاحب، أي إني وأصحابي مسافرون فنقصر الصلاة الرباعية من
أجل السفر، وأنتم مقيمون فلا تقصروها بل أتموها. قال الطيبي: الفاء هي الفصيحة
لدلالتها على محذوف هو سبب لما بعد الفاء، أي صلوا أربعا ولا تقتدوا بنا فإنا سفر،
كقوله تعالى: ?فانفجرت? أي فضرب فانفجرت- انتهى. وفي الحديث دليل على أن المسافر
إذا كان إماما للمقيمين وسلم على ركعتين في الرباعية يتم المقيمون صلاتهم كإتمام
أهل مكة، وهذا إجماع، ويستحب له أن يقول بعد التسليم به أتموا صلاتكم إتباعا
لفعله?. قال ابن عبدالبر: لا خلاف علمته فيما بينهم أن المسافر إذا صلى بمقيمين
ركعتين وسلم فأتموا لأنفسهم. وقال الشوكاني: جواز ائتمام المقيمين بالمسافر مجمع
عليه. واختلف في العكس، فذهب طاووس وداود والشعبي وغيرهم إلى عدم الصحة لقوله ?:
لا تختلفوا على إمامكم، وقد خالف في العدد والنية، وذهب الحنفية والشافعية إلى
الصحة إذ لم تفصل أدلة الجماعة، ويدل للجواز ما أخرجه أحمد في مسنده عن ابن عباس
أنه سئل ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد وأربعا
رواه أبوداود.
(6/249)
1352-(11) وعن ابن عمر، قال:
((صليت مع النبي ? الظهر في السفر ركعتين، وبعدها ركعتين. وفي رواية قال: صليت مع
النبي ? في الحضر والسفر، فصليت معه في الحضر الظهر أربعا، وبعدها ركعتين. وصليت
معه في السفر الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين، والعصر ركعتين، ولم يصل بعدها شيئا،
والمغرب في الحضر والسفر سواء ثلاث ركعات، ولا ينقص في حضر ولا سفر،
إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة. وفي لفظ قال له موسى بن سلمة: إنا إذا كنا معكم
صلينا أربعا، وإذا رجعنا صلينا ركعتين! فقال: تلك سنة أبي القاسم ? . وقد أورد
الحافظ هذا الحديث في التلخيص(ص130) ولم يتكلم عليه-انتهى. وقال ابن عبدالبر في
الاستذكار: اختلفوا... في المسافر يصلي وراء مقيم، فقال مالك وأصحابه: إذا لم يدرك
معه تامة صلى ركعتين، فإن أدرك معه ركعة بسجدتيها صلى أربعا. وذكر الطحاوي أن أبا
حنيفة وأبا يوسف ومحمدا قالوا: يصلي صلاة المقيم وإن أدركه في التشهد وهو قول
الثوري والشافعي-انتهى. قلت: وهو مذهب الإمام أحمد كما في المغني (ج1ص284) وغيره
من كتب فروع الحنابلة. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا البيهقي (ج3ص157) من طريق أبي
داود وأخرجه أيضا هو (ج3ص135، 136، 153) والترمذي بنحوه مطولا، وقال الترمذي: حديث
حسن صحيح. وقال الحافظ في التلخيص (ص129): إن الترمذي حسن هذا الحديث، ولكن نقل
المنذري والزيلعي (ج2ص187) أنه قال: حسن صحيح. والحديث نسبه أيضا الزيلعي إلى
الطبراني وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه وأبي داود الطيالسي. وفي إسناده علي بن
زيد بن جدعان، وقد تكلم فيه جماعة من الأئمة، وقال الحافظ: هو ضعيف، وإنما حسن
الترمذي حديثه لشواهده، ولم يعتبر الاختلاف في المدة، كما عرف من عادة المحدثين من
اعتبارهم الاتفاق على الأسانيد دون السياق-انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: علي
بن زيد عند الترمذي صدوق، كما في الميزان وغيره، فلأجل ذلك حسنه وصححه، على أن
لهذا الحديث شواهد،
(6/250)
وكم من حديث ضعيف قد حسنه
الترمذي لشواهده-انتهى.
1352- قوله: (الظهر) أي صلاته. (في السفر ركعتين) أي فرضا. (وبعدها) أي بعد صلاة
الظهر. (ركعتين) أي سنة الظهر. (وفي رواية) أي عن ابن عمر. (الظهر) أي فرضه.
(أربعا) أي أربع ركعات. (ولم يصل بعدها) أي بعد صلاة العصر. (شيئا) لكراهة التطوع
بعدها. (والمغرب في الحضر والسفر سواء) حال أي مستويا عددها فيهما وقوله. (ثلاث
ركعات) بيان لها. (لا ينقص في حضر ولا سفر) على البناء للفاعل
وهي وتر النهار، وبعدها ركعتين))، رواه الترمذي.
1353-(12) وعن معاذ بن جبل، قال: ((كان النبي ? في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل
أن يرتحل، جمع بين الظهر والعصر، وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل
للعصر، في المغرب مثل ذلك، إذا غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء،
وإن ارتحل قبل أن تغيب الشمس أخر المغرب حتى ينزل للعشاء، ثم يجمع بينهما))
(6/251)
أي شيء منها، يعني لا ينقص رسول الله ? المغرب عن ثلاث ركعات في الحضر ولا في السفر؛ لأن القصر منحصر في الرباعية. (وهي وتر النهار) جملة حالية كالتعليل لعدم جواز النقصان، قاله الطيبي. (وبعدها) أي بعد صلاة المغرب. (ركعتين) أي سنة المغرب. والروايتان تدلان على جواز الإتيان بالرواتب في السفر، وقد تقدم الكلام فيه مفصلا. (رواه الترمذي) الرواية الأولى من طريق حجاج بن أرطاة عن عطية عن ابن عمر. والثانية المطولة من طريق محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن عطية ونافع عن ابن عمر، وقد حسن الترمذي الروايتين جميعا، وإنما حسن الرواية الأولى أي المختصرة مع أن في سندها حجاج بن أرطاة وعطية، وكلاهما مدلسان، وروياه بالعنعنة. وقال في الميزان: عطية تابعي شهير ضعيف؛ لأنه قد تابع حجاجا ابن أبي ليلى في طريق الرواية الثانية، وكذلك تابع عطية نافع فيها، ومحمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى صدوق فقيه تكلم فيه من قبل حفظه، وحديثه مما يحتج به إذا تابعه غيره.
(6/252)
1353- قوله: (كان النبي ? في
غزوة تبوك) غير منصرف على المشهور، وهو موضع قريب من الشام. (إذا زاغت الشمس) أي
مالت عن وسط السماء إلى جانب المغرب أراد به الزوال. (قبل أن يرتحل) ظرف لما قبله
أو ما بعده. (جمع بين الظهر والعصر) أي في المنزل جمع تقديم، بأن قدم العصر فصلاها
في وقت الظهر. (قبل أن تزيغ الشمس) أي تزول. (آخر الظهر) أي إلى وقت العصر. (حتى
ينزل للعصر) أي لوقته فجمع بينهما جمع تأخير بأن صلى الظهر في وقت العصر ثم صلى
العصر. (وفي المغرب مثل ذلك) أي مثل ما فعل في الظهر والعصر. (إذا غابت) وفي
المصابيح: إن غابت، كما في أبي داود، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج6ص451)
(جمع بين المغرب والعشاء) في المنزل جمع تقديم. (آخر المغرب حتى ينزل للعشاء) أي
لوقته. (ثم يجمع) وفي المصابيح: ثم جمع موافقا، لما في أبي داود، ووقع في جامع
الأصول، كما في المشكاة. (بينهما) أي جمع تأخير. وفي الحديث دليل لما ذهب إليه
الشافعي وغيره من جواز الجمع الحقيقي تقديما وتأخيرا. قال ابن حجر
رواه أبوداود والترمذي
(6/253)
المكي: إنه حديث صحيح، وإنه جملة الأحاديث التي هي نص لا يحتمل تأويلا في جواز جمعي التقديم والتأخير-انتهى. قلت: وفي الباب أحاديث أخرى، وهي صريحة في الجمع الحقيقي، وسنذكرها. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا النسائي والدارقطني (ص150) والبيهقي (ج3ص162، 163) كلهم من طريق هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ. قال الحافظ في التلخيص (ص130): وهشام لين الحديث، وقد خالف أوثق الناس في أبي الزبير، وهو الليث بن سعد. وقال في الفتح (ج5ص588): وهشام مختلف فيه، وقد خالفه الحفاظ من أصحاب أبي الزبير، كمالك والثوري وقرة بن خالد وغيرهم-انتهى. قلت: هشام بن سعد المدني أبوعباد صاحب زيد بن أسلم، قد استشهد به مسلم في الصحيح، وعلق له البخاري في جامعه الصحيح، وضعفه ابن معين والنسائي وابن عدي. وقال الساجي: صدوق. وقال: أبوزرعة محله الصدق، وهو أحب إلي من ابن إسحاق. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين صالح، وليس بمتروك الحديث. وقال أبوداود: هشام بن سعد أثبت الناس في زيد بن أسلم. وقال الحاكم: أخرج له مسلم في الشواهد، كذا في التهذيب. وقال في البدر المنير: قال عبدالحق عن البزار: لم أر أحدا توقف عن حديثه- انتهى. فحديثه لا ينحط عن درجة الحسن، وعلى هذا فالحديث المذكور ليس بضعيف، كما تفوه النيموي، بل هو حسن بلا شك. وأما ما ذكر الحافظ من مخالفته لأصحاب أبي الزبير، وكأنه يشير إلى أن روايته بجمع التقديم شاذة، ففيه أنه ليس بين روايته وبين رواياتهم مخالفة ومعارضة أصلا، فإن رواياتهم مجملة ساكتة عن بيان كيفية الجمع، ورواية هشام هذه مفصلة مفسرة، والمفسرة قاض على المجمل، فيحمل هذا على ذاك، وللحديث طريق أخرى عن معاذ بن جبل أخرجها أحمد (ج5 ص241، 242) والترمذي وأبوداود وابن حبان والدارقطني (ص150) والبيهقي (ج3 ص163) والحاكم في علوم الحديث (ص119) بنحوه من رواية قتيبة عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن
(6/254)
معاذ بن جبل، وهذا الطريق قد اضطربت فيه أقوال العلماء، قال في البدر المنير: للحفاظ في هذا الحديث خمسة أقوال: أحدها أنه حسن غريب، قاله الترمذي. ثانيها: أنه محفوظ صحيح، قاله ابن حبان. ثالثها: أنه منكر، قاله أبوداود. (حكاه الحافظ في التلخيص ص130) والمنذري في مختصر السنن). رابعها: أنه منقطع، قاله ابن حزم. خامسها: أنه موضوع، قاله الحاكم. (في علوم الحديث ص120) وأصل حديث أبي الطفيل في صحيح مسلم، وأبوطفيل ثقة مأمون- انتهى. وقال الحافظ في الفتح (ج5 ص588): وقد أعله جماعة من أئمة الحديث بتفرد قتيبة عن الليث. وقال في التلخيص (ص130) بعد ذكر هذا الحديث: قال الترمذي حسن غريب، تفرد به قتيبة، والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ من حديث أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ،
(6/255)
وليس فيه جمع تقديم. يعني الذي أخرجه مسلم. وقال أبوداود: هذا حديث منكر، وليس في جمع التقديم حديث قائم. وقال أبوسعيد بن يونس: لم يحدث بهذا الحديث إلا قتيبة، ويقال: إنه غلط فيه فغير بعض الأسماء، وأن موضع يزيد بن أبي حبيب أبوالزبير. وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه: لا أعرفه من حديث يزيد، والذي عندي أنه دخل له حديث في حديث، وأطنب الحاكم في علوم الحديث في بيان علة هذا الخبر، فليراجع منه، وحاصله أن البخاري سأل مع من كتبته؟ فقال: مع خالد المدائني قال البخاري: كان خالد المدائني يدخل على الشيوخ، يعني يدخل في روايتهم ما ليس منها، وأعله ابن حزم بأنه معنعن ليزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل ولا يعرف له عنه رواية- انتهى كلام الحافظ. قلت: الكلام الذي عزاه الحافظ لأبي داود ليس في سننه، بل الذي فيها "لم يرو هذا الحديث إلا قتيبة وحده، ولم يقم دليل على ما قيل من أن قتيبة أو غيره من الرواة غلط في هذا الحديث فغير بعض الأسماء، وقد راجعنا علوم الحديث للحاكم فوجدنا أنه قد أفرط في الكلام على هذا الحديث فحكم بكونه موضوعا، ولم يأت بشيء يؤيد قوله، والحق أن الحديث على شرط صحيح. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: وما أحسن ما قال، وقد أسرف الحاكم أبوعبدالله في علوم الحديث فزعم أنه موضوع، مع أنه اعترف بأن رواته أئمة ثقات وعلل ذلك بأنه "شاذ الإسناد والمتن، لا نعرف له علة نعلله بها" وأطال القول في ذلك بما لا طائل تحته، والحديث حديث صحيح ليست له علة، وقد صححه أيضا ابن حبان. (كما تقدم) وليس الشاذ ما انفرد به الثقة، إنما الشاذ أن يخالف الراوي غيره ممن هو أحفظ منه وأقوى- انتهى. ويؤيد ذلك ما روى الحاكم (ص119) عن الشافعي أنه قال: ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يرويه غيره، هذا ليس بشاذ إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثا يخالف فيه الناس، هذا الشاذ من الحديث- انتهى. وقد رد أيضا على الحاكم ابن القيم
(6/256)
في الهدي (ج1 ص136) فقال: حكمه بالوضع على هذا الحديث غير مسلم، قال: وإسناده على شرط الصحيح وفي جمع التقديم أحاديث أخرى فمنها حديث ابن عباس، أخرجه أحمد (ج1 ص368، 369) والدارقطني (ص149) والبيهقي (ج3 ص163) من طريق حسين بن عبدالله عن عكرمة وكريب عن ابن عباس مرفوعا، وذكره أبوداود تعليقا، والترمذي في بعض الروايات عنه، وحسين بن عبدالله الهاشمي ضعفه جماعة. وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: ليس به بأس يكتب حديثه. وقال ابن عدي: أحاديثه يشبه بعضها بعضا، وهو ممن يكتب حديثه، فإني لم أجد في حديثه منكرا، قد جاوز المقدار. قال الحافظ في التلخيص (ص130): يقال إن الترمذي حسن هذا الحديث، وكأنه باعتبار المتابعة، وغفل ابن العربي فصحح إسناده‘ لكن له طريق أخرى أخرجها يحيى بن عبدالحميد الحماني في مسنده عن أبي خالد الأحمر عن الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس، وله طريق أخرى أيضا أخرجها إسماعيل القاضي في الأحكام
(6/257)
عن إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه عن سليمان بن بلال عن هشام بن عروة عن كريب عن ابن عباس بنحوه، وله طريق أخرى أيضا أخرجها أحمد (ج1 ص242) من رواية حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس قال: لا أعلمه إلا قد رفعه، قال: كان إذا نزل منزلا- الحديث. ونسبه الحافظ في الفتح للبيهقي وقال: رجاله ثقات، إلا أنه مشكوك في رفعه. (حيث قال: ولا أعلمه مرفوعا) والمحفوظ أنه موقوف. وقد أخرجه البيهقي من وجه آخر مجزوما بوقفه، ولا ابن عباس حديث آخر، ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص160، 159) وعزاه للطبراني في الأوسط وقال: فيه أبومعشر نجيح، وفيه كلام كثير، وقد وثقه بعضهم- انتهى. ومنها حديث علي أخرجه الدارقطني (ص150) وفي إسناده، كما قال الحافظ: من لا يعرف، وفيه أيضا المنذر بن محمد القابوسي، وهو ضعيف. وقال الدارقطني: مجهول، وأخرج عبدالله بن أحمد في زيادات المسند (ج1 ص136) بإسناد آخر أن عليا كان يسير حتى إذا غربت الشمس وأظلم نزل فصلى المغرب ثم صلى العشاء على أثرها ثم يقول: هكذا رأيت رسول الله ? يصنع. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند: إسناده صحيح. ومنها حديث أنس أخرجه جعفر الفريابي والبيهقي في كتاب المعرفة، وفي السنن الكبرى (ج3 ص162) والإسماعيلي وأبونعيم في مستخرجه على مسلم كلهم من طريق إسحاق بن راهويه عن شبابة عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس قال: كان رسول الله ? إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم ارتحل، وأعل بتفرد إسحاق ابن راهويه، وليس ذلك بقادح فإنه إمام حافظ قاله الحافظ في الفتح، وقال في التلخيص (ص130) بعد ذكر الحديث: وإسناده صحيح، قاله النووي، وفي ذهني أن أبا داود أنكره على إسحاق ولكن له متابع، رواه الحاكم في الأربعين له عن أبي العباس محمد بن يعقوب عن محمد بن إسحاق الصغاني عن حسان بن عبدالله عن المفضل بن فضالة عن عقيل عن ابن شهاب، وهو في الصحيحين من هذا الوجه، وليس
(6/258)
فيه: والعصر، وهي زيادة غريبة
صحيحة الإسناد، وقد صححه المنذري من هذا الوجه والعلائي، وتعجب من الحاكم كونه لم
يورده في المستدرك- انتهى. وقال في الفتح: قال الحافظ صلاح الدين العلائي: هكذا
وجدته بعد التتبع في نسخ كثيرة من الأربعين بزيادة العصر، وسند هذه الزيادة جيد-
انتهى. قلت. (قائله الحافظ): وهي متابعة قوية لرواية إسحاق بن راهويه أن كانت
ثابتة لكن في ثبوتها نظر؛ لأن البيهقي أخرج في السنن الكبرى (ج3 ص161) هذا الحديث
عن الحاكم بهذا الإسناد مقرونا برواية أبي داود عن قتيبة. وقال: إن لفظهما سواء
إلا أن في رواية قتيبة كان رسول الله ?. وفي رواية حسان: أن رسول الله ? كان، وله
طريق أخرى رواها الطبراني في الأوسط، ذكرها الحافظ في التلخيص (ص130، 131) بسندها
ومتنها ثم نقل عن الطبراني أنه قال: تفرد به يعقوب بن محمد. وقال
1354- (13) وعن أنس، قال: ((كان رسول الله ? إذا سافر وأراد أن يتطوع، استقبل
القبلة
بناقته، فكبر، ثم صلى حيث كان وجهه ركابه))
(6/259)
الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص160) بعد عزوه إلى الطبراني: ورجاله موثقون- انتهى. هذا وقد ظهر بما ذكرنا من أحاديث جمع التقديم ومتابعاتها، وهن ما حكي عن أبي داود أنه قال: ليس في جمع التقديم حديث قائم، وتحقق قوة وصحة ما قاله الشوكاني في النيل من أن بعضها صحيح وبعضها حسن، وذلك يرد قول أبي داود ليس في جمع التقديم حديث قائم- انتهى. وأما جمع التأخير فقد ورد فيه أحاديث كثيرة صحيحة صريحة مخرجة في الصحيحين وغيرهما. فمنها حديث أنس قال: كان النبي ? إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل يجمع بينهما، فإن زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب. متفق عليه. وفي رواية لمسلم: حتى يدخل أول وقت العصر ثم يجمع بينهما. ومنها حديث أنس أيضا عن النبي ? إذا عجل عليه السفر يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع بينهما ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق، رواه مسلم، ومنها ما روي عن نافع أن ابن عمر كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق، ويقول: أن رسول الله ? كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء. رواه مسلم. ومنها حديث جابر أن رسول الله ? غابت له الشمس بمكة، فجمع بينهما بسرف. رواه أبوداود والنسائي. وهذه الروايات صريحة في الجمع في وقت إحدى الصلاتين، وفيها إبطال تأويل الحنفية في قولهم: إن المراد بالجمع الجمع الصوري، أي الفعلي يعني تأخير الأولى إلى آخر وقتها وتقديم الثانية إلى أول وقتها، وأما ما يذكر من الروايات المخرجة في غير الصحيحين الدالة على الجمع الصوري، فهي لا توازي روايات الصحيحين.
(6/260)
1354- قوله: (إذا سافر) سفرا
قصيرا أو طويلا، وقيل: المراد السفر الشرعي. (وأراد) وفي أبي داود فأراد. (أن
يتطوع) أي يتنفل راكبا والدابة تسير. (استقبل القبلة بناقته) وفي أبي داود: استقبل
بناقته القبلة أي ليحصل استقبال القبلة وقت افتتاح الصلاة. (فكبر) أي للتحريمة عقب
الاستقبال. (ثم صلى) أي ثم استمر في صلاته، قاله ابن حجر. وقال الطيبي: ثم ههنا
للتراخي في الرتبة، ولما كان الاهتمام بالتكبير أشد لكونه مقارنا بالنية خص
بالتوجه إلى القبلة. (حيث وجهه ركابه) أي ذهب به مركوبه. مستقبل القبلة أو غير
مستقبلها، وفي دليل على مشروعية استقبال القبلة بالتكبير حال ابتداء الصلاة، وقد
تقدم الكلام فيه. قال ابن القيم بعد ذكر هذا الحديث: وفي هذا الحديث نظر، وسائر من
وصف صلاته صلى الله عليه وسلم على راحلته أطلقوا أنها كان يصلي عليها قبل أي جهة
توجهت به، ولم يستثنوا من ذلك تكبيرة الإحرام ولا غيرها كعامر
رواه أبوداود.
1355- (14) وعن جابر، قال: ((بعثني رسول الله ? في حاجته، فجئت وهو يصلي على راحلته
نحو المشرق، ويجعل السجود أخفض من الركوع)) رواه أبوداود.
ابن ربيعة وعبدالله بن عمر وجابر بن عبدالله، وأحاديثهم أصح من حديث أنس هذا-
انتهى. قلت: حديث أنس هذا ليس فيه دليل على وجوب استقبال القبلة بالتكبير وقت
افتتاح صلاة التطوع على الراحلة، فيحمل على الندب والفضيلة، كما قال ابن قدامة،
وحينئذ فلا مخالفة بينه وبين أحاديث غيره ممن ذكرهم ابن القيم. (رواه أبوداود)
وأخرجه أيضا أحمد والدارقطني (152) والبيهقي (ج2 ص5). والحديث قد سكت عنه أبوداود
والمنذري. وقال في التعليق المغني: الحديث صحيح الإسناد. قلت: الأمر كما قال صاحب
التعليق.
(6/261)
1355- قوله: (في حاجته) وفي
المصابيح: في حاجة. وكذا في سنن أبي داود والترمذي، وكذا نقله الجزري في جامع
الأصول (ج6 ص317) وللبيهقي: لحاجة. (فجئت) أي إليه بعد قضاء الحاجة. (وهو يصلي)
حال. (نحو المشرق) ظرف، أي يصلي إلى جانب المشرق، أو حال أي متوجها نحو المشرق أو
كانت متوجهة إلى جانب المشرق. قال الحافظ في الفتح: وبين في المغازي أن ذلك كان في
غزوة أنمار، وكانت أراضهم قبل المشرق لمن يخرج من المدينة، فتكون القبلة على يسار
القاصد إليهم. (ويجعل السجود) أي إيماء إليه، كذا وقع في المصابيح، ويجعل السجود.
وفي سنن أبي داود وجامع الترمذي: والسجود أي بالرفع، وبدون لفظ يجعل، وكذا نقله
الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص152) عنهما، وكذا حكاه المنذري في مختصر السنن، وكذا
ذكره المجد بن تيمية في المنتقى، والجزري في جامع الأصول. (أخفض من الركوع) أي
أسفل من إيماء إلى الركوع، وفيه مشروعية التطوع على الدابة في السفر، والإيماء
للركوع والسجود على الدابة، وكون الإيماء للسجود أخفض من الركوع بحيث يفترق به
السجود عن الركوع، وبهذا قال الجمهور. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد والشيخان
والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارقطني وابن حبان والبيهقي (ج2 ص5) من طرق مختلفة
بألفاظ بعضها مطول وبعضها مختصر. وقال المنذري: وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي
وابن ماجه بنحوه أتم منه. وفي حديث الترمذي وحده: والسجود أخفض من الركوع. وقال
حسن صحيح. قلت: أصل الحديث عند البخاري، ولفظ ابن حبان: رأيت النبي صلى الله عليه
وسلم يصلي النوافل على راحلته في كل وجه يومئ إيماء، ولكنه يخفض السجدتين من
الركعتين، وبنحوه أخرج أحمد في مسنده.
?الفصل الثالث?
1356- (15) عن ابن عمر، قال: ((صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين،
وأبوبكر
بعده، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان صدرا من خلافته. ثم إن عثمان صلى بعد أربعا،
(6/262)
1356- قوله: (بمنى) أي في حجة الوداع. وزاد مسلم في رواية سالم عن أبيه بمنى وغيره. (ركعتين) أي في الفرائض الرباعية للسفر. (وأبو بكر بعده) أي كذلك. (وعمر بعد أبي بكر) كذلك. (وعثمان) كذلك (صدرا من خلافته) أي زمانا أولا منها نحو ست سنين. قال النووي: هذا هو المشهور أن عثمان أتم بعد ست سنين من خلافته. (ثم إن عثمان صلى بعد) أي بعد مضى الصدر الأول من خلافته. (أربعا) اعلم أنه اختلف في ذكر السبب لإتمام عثمان بمنى على أقوال: فقيل: لأنه تأهل بمكة على ما روى أحمد (ج1 ص62) من حديثه أنه صلى بمنى أربع ركعات، فأنكره الناس عليه، فقال: يا أيها الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت، وإني سمعت رسول الله ? يقول: من تأهل في بلد فليصل صلاة المقيم، لكن إسناد هذا الحديث ضعيف؛ لأن في سنده عكرمة بن إبراهيم الباهلي، وهو مجهول الحال. فقد نقل الحافظ في التعجيل (ص290) في ترجمته عن الحسيني أنه قال: "ليس بالمشهور". ونقل عن ابن شيخه أنه قال: "لا أعرف حاله". وقيل: رأى عثمان القصر والإتمام جائزين، فأخذ بأحد الجائزين، ورأى ترجيح طرف الإتمام لما فيه من المشقة. قال ابن بطال: الوجه الصحيح في ذلك أن عثمان وعائشة كانا يريان أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصر لأنه أخذ بالأيسر من ذلك على أمته، فأخذا لأنفسهما بالشدة- انتهى. وهذا رجحه جماعة من آخرهم القرطبي. وقيل: إن عثمان يرى القصر مختصا بمن كان شاخصا سائرا. وأما من كان قائما في مكان في أثناء السفر فله حكم المقيم. قال الحافظ: والمنقول أن سبب إتمام عثمان أنه كان يرى القصر مختصا بمن كان شاخصا سائرا. وأما من أقام بمكان في أثناء سفره فله حكم المقيم فيتم، والحجة فيه ما رواه أحمد بإسناد حسن عن عباد بن عبدالله بن الزبير قال: لما قدم علينا معاوية حاجا صلى بنا الظهر ركعتين بمكة ثن انصرف إلى دار الندوة، فدخل عليه مروان وعمرو بن عثمان فقالا: لقد عبت أمر ابن عمك؛ لأنه كان قد
(6/263)
أتم الصلاة، قال: وكان عثمان
حيث أتم الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء أربعا أربعا، ثم إذا خرج
إلى منى وعرفة قصر الصلاة، فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة، قال الحافظ:
وهذا الوجه أولى. (أي من الوجه الثاني) لتصريح الراوي بالسبب وإن رجح الوجه الثاني
جماعة. وقيل: إنما صلى عثمان بمنى أربعا؛ لأن الأعراب كانوا كثروا في ذلك العام،
فأحب أن يعلمهم أن الصلاة أربع، ذكره الطحاوي عن أيوب عن الزهري. وروى البيهقي من
طريق عبدالرحمن بن حميد بن
فكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعا، وإذا صلاها وحده صلى ركعتين)) متفق
عليه.
1357- (16) وعن عائشة، قالت: ((فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر رسول الله ? ، ففرضت
أربعا، وتركت صلاة السفر على الفريضة الأولى،
(6/264)
عوف عن أبيه عن عثمان أنه أتم بمنى، ثم خطب، فقال: إن القصر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ولكنه حدث طعام يعني بفتح الطاء والمعجمة، فخفت أن يستنوا. وعن ابن جريج: أن أعرابيا ناداه في منى يا أمير المؤمنين ما زلت أصليها منذ رأيتك عام أول ركعتين. قال الحافظ: وهذه طرق يقوي بعضها بعضا، ولا مانع أن يكون هذا أصل سبب الإتمام، وليس بمعارض للوجه الذي اخترنه، بل يقويه من حيث أن حالة الإقامة في أثناء السفر أقرب إلى قياس الإقامة المطلقة عليها بخلاف السائر، وهذا ما أدى إليه اجتهاد عثمان- انتهى. وههنا أقوال أخرى في بيان السبب في إتمام عثمان بمنى، لكنها لا دليل عليها، بل هي ظنون ممن قالها، فلا حاجة إلى ذكرها. (فكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام) الظاهر أنه عثمان، ويحتمل أنه أراد إماما يتم (صلى أربعا)؛ لأنه يجب على المسافر المقتدي أن يتبع إمامه قصر أو أتم، كما تقدم. (وإذا صلاها وحده صلى ركعتين) أي قصر الرباعية؛ لأنه مسافر، والقصر أفضل وأحوط بلا خلاف. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، بل ما ذكر من فعل ابن عمر أي قوله فكان ابن عمر إذا صلى الخ لم يروه البخاري أصلا، والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج2 ص55-58) والترمذي والنسائي كلهم من طريق عبيدالله بن عمر العمري عن نافع عن عبدالله بن عمر. وأخرجه مسلم أيضا من طريق سالم عن أبيه عبدالله بن عمر، وأخرجه البخاري والنسائي أيضا من طريق عبيدالله بن عبدالله بن عمر عن أبيه.
(6/265)
1357- قوله: (فرضت الصلاة) أي أولا بمكة ليلة الإسراء. (ركعتين) وفي رواية: ركعتين ركعتين بالتكرير لإرادة عموم التثنية لكل صلاة في الحضر والسفر. زاد أحمد في مسنده: إلا المغرب فإنها كانت ثلاثا. (ثم هاجر رسول الله ?) أي إلى المدينة. وفي البخاري: "النبي " يدل "رسول الله". (ففرضت أربعا) أربعا أي في الحضر إلا الصبح. (قال الدولابي: نزل إتمام صلاة المقيم في الظهر يوم الثلاثاء اثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر بعد مقدمه صلى الله عليه وسلم بشهر، وأقرت صلاة السفر، ذكره العيني. وقال السهيلي: بعد الهجرة بعام أو نحوه، زيد في صلاة الحضر. (وتركت صلاة السفر) ركعتين ركعتين. (على الفريضة الأولى) ليس في البخاري لفظ: الفريضة، وإنما وقع ذلك في رواية مسلم من طريق يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ،ثم أتمها في الحضر، فأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى.
(6/266)
قال القسطلاني: الأولى بضم الهمزة، لأبي ذر على الأول أي من عدم الزيادة بخلاف صلاة الحضر، فإنه زيد في ثلاث منها ركعتان. وفي رواية للبخاري: فرض الله الصلاة حين فرضها في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر، أي لما قدم رسول الله ? المدينة، وقد تمسك بظاهر الحديث الحنفية على أن القصر في السفر عزيمة لا رخصة، فلا يجوز الإتمام إذ ظاهر قولها: أقرت يقتضيه. وأجيب عنه بوجوه: منها المعارضة بقوله تعالى: ?فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة? [101:4]؛ لأنه يدل على أن الأصل الإتمام؛ لأن القصر إنما يكون عن تمام سابق، ونفي الجناح يدل على جوازه دون وجوبه. وأجاب الحنفية عن هذه الآية بوجوه، كما تقدم في شرح حديث يعلى بن أمية في الفصل الأول من هذا الباب. وقال بعضهم: إن إطلاق القصر عليه باعتبار ما زيد في الصلاة لا باعتبار أصل الصلاة، فإنها تدل على أن إطلاق القصر عليه باعتبار ما زيد فيها في الحضر لا باعتبار مطلق الصلاة، فإنه كان زيد فيه بإطلاق اللفظ لا بخصوصية الحضر، وكان في علم الله مخصوصة بالحضر فأطلق القصر عليه باعتبار إطلاق ظاهر اللفظ- انتهى. وزاد بعضهم موضحا ومبينا لهذا الجواب يعني فإطلاق القصر مجاز باعتبار الزيادة- انتهى. ولا يخفى ما في هذا الجواب من التكلف والتعسف. ومنها أن حديث عائشة من قولها غير مرفوع، وأنها لم تشهد زمان فرض الصلاة. وتعقب بأنه مما لا مجال للرأي فيه، فله حكم الرفع، وعلى تقدير تسليم أنها لم تشهد فرض الصلاة يكون مرسل صحابي، وهو حجة؛ لأنه يحتمل أن تكون أخذته عن النبي ? ، أو عن صحابي آخر أدرك ذلك. ومنها أن عائشة أتمت في السفر، والعبرة عند الحنفية برأي الصحابي لا بمرويه. قال الحافظ: الزموا الحنفية على قاعدتهم فيما إذا عارض رأي الصحابي روايته بأنهم يقولون العبرة بما رأى لا بما روى، وخالفوا ذلك هنا، فقد ثبت عن عائشة أنها كانت تتم في السفر، فدل ذلك على أن المروي عنها
(6/267)
غير ثابت. وأجيب بأن هذا
الإلزام مدفوع بما في آخر هذا الحديث من قول عروة: تأولت أي عائشة، كما تأول
عثمان، فإنه يدل على أن الأصل في السفر ركعتان عندها أيضا، ولكنها أتممت بالتأويل.
كما أتم عثمان بالتأويل. قال الحافظ: والجواب عن الحنفية أن عروة الراوي عنها قد
قال لما سئل عن إتمامها في السفر: أنها تأولت، كما تأول عثمان، فعلى هذا لا تعارض
بين روايتها وبين رأيها، فروايتها صحيحة, ورأيها مبني على ما تأولت- انتهى. ومنها
المعارضة بحديث ابن عباس الذي بعد هذا: فرض الله الصلاة في الحضر أربعا، وفي السفر
ركعتين، وأجاب عنه الحافظ: بأنه يمكن الجمع بين حديث عائشة وابن عباس بأن يقال: إن
الصلوات فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين إلا المغرب، ثم زيدت بعد الهجرة عقب
الهجرة إلا الصبح، كما روى ابن خزيمة
قال الزهري: قلت لعروة: ما بال عائشة تتم؟ قال تأولت كما تأول عثمان)) متفق عليه.
1358- (17) وعن ابن عباس، قال: ((فرض الله الصلاة على لسان نبيكم ? في الحضر
أربعا،
(6/268)
وابن حبان والبيهقي من طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتين ركعتين، فلما قدم رسول الله ? المدينة واطمأن زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة، وصلاة المغرب لأنها وتر النهار- انتهى. ثم بعد أن استقر فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول الآية السابقة، ويؤيده ذلك ما ذكره ابن الأثير في شرح المسند أن قصر الصلاة كان في السنة الرابعة من الهجرة، وهو مأخوذ مما ذكره غيره أن نزول آية الخوف كان فيها. وقيل: كان قصر الصلاة في السفر في الربيع الآخر من السنة الثانية. وقيل: بعد الهجرة بعام أو نحوه. وقيل: بعد الهجرة بأربعين يوما، فعلى هذا فالمراد بقول عائشة: فأقرت صلاة السفر أي باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف، لا أنها استمرت منذ فرضت فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة- انتهى. وقال السندي: قوله: فأقرت أي رجعت بعد نزول القصر في السفر إلى الحالة الأولى بحيث كأنها كانت مقررة على الحالة الأصلية، وما ظهرت الزيادة فيها أصلا- انتهى. (قال الزهري: قلت لعروة) بن الزبير. (تتم) بضم أوله الصلاة. (قال) عروة: (تأولت كما تأول عثمان) كذا في رواية مسلم، وفي رواية البخاري: تأولت ما تأول عثمان. قال الحافظ: يمكن أن يكون مراد عروة التشبيه بعثمان في الإتمام بتأويل لا اتحاد تأويلهما، ويقويه أن الأسباب اختلفت في تأويل عثمان، فتكاثرت بخلاف تأويل عائشة- انتهى. وقد سبق الكلام في تأويل عثمان. وأما عائشة فقد جاء عنها سبب الإتمام صريحا، وهو فيما أخرجه البيهقي (ج3 ص143) من طريق هشام بن عروة عن أبيه أنها كانت تصلي في السفر أربعا، فقلت لها: لو صليت ركعتين، فقالت: با ابن أختي أنه لا يشق على، إسناده صحيح، وهو دال على أنها تأولت أن القصر رخصة وان الإتمام لمن لا يشق عليه أفضل، ويدل على اختيار الجمهور ما رواه أبويعلى والطبراني بإسناد جيد عن أبي هريرة أنه سافر مع النبي ?
(6/269)
ومع أبي بكر وعمر، فكلهم كان
يصلي ركعتين من حين يخرج من المدينة إلى مكة حتى يرجع إلى المدينة في السير، وفي
المقام بمكة، كذا في الفتح. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب التأريخ من كتاب
الهجرة إلا لفظ الفريضة، فإنه ليس للبخاري، بل هو لمسلم وحده، كما تقدم، وإلا قوله
قال الزهري الخ. فإن هذه الزيادة عند البخاري إنما هي في آخر حديث عائشة في أبواب
تقصير الصلاة. والحديث أخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص135، 143)
بألفاظ متقاربة.
1358- قوله: (فرض الله الصلاة) أي الرباعية. (على لسان نبيكم ? ) قال الطيبي: هو
مثل قوله تعالى: ?وما ينطق عن الهوى? [3:53]. (في الحضر أربعا) أي بعد ما كانت
ركعتين، ثم قصرت في السفر، فكانت صلاة
وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة)) رواه مسلم.
1359- 1360- (18-19) وعنه، وعن ابن عمر، قالا: ((سن رسول الله ? صلاة السفر
ركعتين، وهما تمام غير قصر، والوتر في السفر سنة))
(6/270)
السفر، كأنها ما زيد فيها، وهذا معنى قوله. (وفي السفر ركعتين) فلا يعارض هذا الحديث ما روى عن عائشة: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين في الحضر والسفر، وقد تقدم وجه الجمع مفصلا في كلام الحافظ. (وفي الخوف ركعة) فيه أن اللازم في الخوف ركعة ولو اقتصر عليها جاز. قال النووي: هذا الحديث قد عمل بظاهره طائفة من السلف، منهم الحسن البصري والضحاك وإسحاق بن راهويه. (وعطاء وطاووس ومجاهد والحكم بن عتيبة وقتادة والثوري من التابعين وابن عباس وأبوهريرة وأبوموسى الأشعري من الصحابة). وقال الشافعي ومالك والجمهور. (وفيهم أبوحنيفة وأحمد): إن صلاة الخوف كصلاة الأمن في عدد الركعات، فإن كانت في الحضر وجب أربع ركعات، وإن كانت في السفر وجب ركعتان. ولا يجوز الاقتصار على ركعة واحدة في حال من الأحوال، وتأولوا حديث ابن عباس هذا على أن المراد ركعة مع الإمام وركعة أخرى يأتي بها منفردا، كما جاءت الأحاديث الصحيحة في صلاة النبي ? وأصحابه في الخوف، وهذا التأويل لا بد منه للجمع بين الأدلة-انتهى. قال السندي: لا منافاة بين وجوب واحد والعمل باثنتين حتى يحتاج إلى التأويل للتوفيق، لجواز أنهم عملوا بالأحب والأولى- انتهى. وسيأتي مزيد الكلام في ذلك في صلاة الخوف. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج1 ص237، 355) وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج4 ص135) وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه أحمد.
(6/271)
1359- 1360- قوله: (سن) أي شرع
رسول الله ? (صلاة السفر ركعتين) أي ثبت على لسانه، وإلا فالقصر ثابت بالكتاب، أو
المراد أنه بين بالقول والفعل ما في الكتاب، قاله القاري. وقال ابن حجر: أي بين
أنها كذلك لمن أراد القصر. (وهما تمام غير قصر) أي في الثواب، أو المراد أنهما
المشروع في السفر، كما نطق به حديث عائشة وإن أطلق القصر في كتاب الله تعالى، قاله
في اللمعات. وقال القاري: وهما تمام أي تمام المفروض غير قصر أي غير نقصان عن أصل
الفرض، فإطلاق القصر في الآية مجاز أو إضافي- انتهى. وقال السندي: تمام غير قصر،
أي لا ينبغي الزيادة فيها فصارت كالتمام، فلا يرد أن قوله تعالى: ?فليس عليكم جناح
أن تقصروا من الصلاة? [101:4] ظاهر في القصر فكيف يصح القول بأنها تمام غير قصر.
وقال ابن حجر: أي تمام بالنسبة للثواب، فثواب القصر يقارب ثواب الإتمام. (والوتر
في السفر سنة) أي مشروع بالسنة أو المراد بالسنة الطريقة المسلوكة في الدين أعم من
السنة المصطلح عليها عند الفقهاء، كما يدل عليه السوق أي الوتر في السفر طريقة
مسلوكة
رواه ابن ماجه.
1361- (20) وعن مالك، بلغه ((أن ابن عباس كان يقصر الصلاة في مثل ما يكون بين مكة
والطائف، وفي مثل ما بين مكة وعسفان، وفي مثل ما بين مكة وجدة، قال مالك: وذلك
أربعة برد)).
مستمرة لا تترك في السفر، كما تترك النوافل والرواتب وإلا فالوتر إن كان واجبا
فليس سنة، وإن كان سنة فهو سنة في الحضر والسفر كليهما، فما وجه التخصيص بالسفر.
(رواه ابن ماجه) في باب الوتر في السفر. وأخرجه أيضا أحمد (ج1 ص241) وفي سنده
عندهما جابر الجعفي، وهو ضعيف، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص155) وقال:
"رواه البزار، وفيه جابر الجعفي، وثقه شعبة والثوري، وضعفه آخرون"، فنسي
أن ينسبه إلى مسند الإمام أحمد، وأنه في سنن ابن ماجه.
(6/272)
1361- قوله: (وعن مالك) أنه. (بلغه أن ابن عباس) قال ابن عبدالبر: وما رواه مالك عن ابن عباس هذا معروف من نقل الثقات متصل الإسناد عنهم من وجوه، ثم رواها في الاستذكار عن عبدالرزاق وغيره. (كان يقصر الصلاة) الرباعية. (في مثل ما يكون بين مكة والطائف) وفي الموطأ في مثل ما بين مكة والطائف بالهمزة بعد الألف، وبينهما ثلاثة مراحل أو اثنان، قاله الزرقاني. وقال ياقوت في معجمه: هي مسيرة يوم للطالع من مكة ونصف يوم للهابط إلى مكة، وقال: أيضا الطائف هو وادي وج، وهو بلاد ثقيف بينها وبين مكة اثنا عشر فرسخا- انتهى. وقيل: بينهما من طريق السيل مائة وخمسة وثلاثون كيلو مترا، أي نحو خمسة وثمانين ميلا، ومن طريق عرفة تسعة وتسعون كيلو مترا، أي نحو اثنين وستين ميلا. (وفي مثل ما بين مكة وعسفان) بضم العين كعثمان، والنون زائدة. موضع على مرحلتين من مكة، قاله المجد. وقال الزرقاني: بين مكة وعسفان ثلاثة مراحل. وفي المعجم لياقوت الحموي: قال أبومنصور منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة ومكة. وقيل: قرية جامعة بها منبر ونخيل ومزارع على ستة وثلاثين ميلا من مكة، وهي حد تهامة. (وفي مثل ما بين مكة وجدة) بضم الجيم وتشديد الدال، بلد على الساحل بحر اليمن، وهي فرضة مكة، بينها وبين مكة ثلاث ليال. وقيل: بينهما يوم وليلة. وقيل: هي على مرحلتين شاقتين من مكة. وقيل: بينهما ثلاثة وسبعون كيلو مترا، أي نحو ستة وأربعين ميلا. (قال مالك وذلك) أي أقل ما بين ما ذكر من المواضع، أو كل واحد من هذه الأماكن. (أربعة برد) بضمتين جمع بريد، وكل بريد أربعة فراسخ، وكل فرسخ ثلاثة أميال، فهي ثمانية وأربعون ميلا. قال مالك: وذلك أحب ما يقصر فيه الصلاة إلي. وقد سبق بيان اختلاف العلماء في قدر المسافة التي يجوز فيها القصر وتعيين القول الراجح في ذلك. وقد روى مالك في الموطأ عن ابن عمر أنه ركب من المدينة إلى ريم فقصر الصلاة في مسيره ذلك، قال مالك:
(6/273)
وذلك نحو من أربعة برد، وروى
عنه أيضا أنه ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة، قال مالك:
رواه في الموطأ.
1362- (21) وعن البراء، قال: ((صحبت رسول الله ? ثمانية عشر سفرا، فما رأيته ترك
ركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر)) رواه أبوداود، والترمذي،
بين ذات النصب والمدينة أربعة برد، وروي عنه أيضا كان يقصر الصلاة في مسيرة اليوم
التام. قال ابن عبدالبر في الاستذكار: مسيرة اليوم التام باليسير أربعة برد أو
نحوها. قال الباجي: أكثر مالك من ذكر أفعال الصحابة لما لم يصح عنده في ذلك توقيف
عن النبي ?-انتهى. قلت: وروى البيهقي (ج3ص137) عن عطاء بن أبي رباح أن عبدالله بن
عمرو وعبدالله بن عباس كانا يصليان ركعتين ويفطران في أربعة برد فما فوق ذلك. قال
ابن حجر: ومثل ذلك لا يكون إلا بتوقيف، وروى عبدالرزاق عن ابن جريح عن عطاء عن ابن
عباس قال: لا تقصروا الصلاة إلا في اليوم ولا تقصر فيما دون اليوم، ولابن أبي شيبة
من وجه آخر صحيح عنه، قال: تقصر الصلاة في مسيرة يوم وليلة. (رواه) أي مالك (في
الموطأ) أي عن مالك أنه بلغه، وهذا كما ترى غير ملائم، فكان على المؤلف أن يقول:
وعن ابن عباس أنه كان يقصر الصلاة الخ. ثم يقول: رواه مالك في الموطأ بلاغا، ثم
يقول: وقال وذلك الخ. على طبق سائر الأحاديث، حيث يبدأ بالصحابي ويختم بالمخرج،
كذا في المرقاة، وقد تقدم أن هذا البلاغ رواه ابن عبدالبر في الاستذكار موصولا،
ووصله الشافعي أيضا، قال: أنا سفيان عن عمرو عن عطاء عن ابن عباس أنه سئل أنقصر
الصلاة إلى عرفة؟ قال: لان ولكن إلى عسفان وإلى جدة وإلى الطائف. قال الحافظ في
التلخيص (ص129) وإسناده صحيح، وذكره مالك في الموطأ عن ابن عباس بلاغا-انتهى.
وأخرج ابن أبي شيبة بسنده عن عطاء بن أبي رباح، قلت لابن عباس: أقصر إلى عرفة؟ قال
لا، قلت: أقصر إلى الطائف وإلى عسفان؟ قال: نعم، وذلك ثمانية وأربعون ميلا، وعقد
بيده. وقد روي عن ابن عباس
(6/274)
مرفوعا، أخرجه الدارقطني
(ص148) والبيهقي (ج3ص137- 138)، وابن أبي شيبة والطبراني في الكبير من طريق
عبدالوهاب بن مجاهد عن أبيه وعطاء عن ابن عباس أن رسول الله ? قال: يا أهل مكة لا
تقصروا الصلاة في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان. قال الحافظ: وإسناده ضعيف
من أجل عبدالوهاب فإنه متروك رواه عنه إسماعيل بن عياش، وروايته عن الحجازيين
ضعيفة، والصحيح عن ابن عباس من قوله، كما سبق ذكره.
1362- قوله: (وعن..... البراء) أي ابن عازب. (ثمانية عشر سفرا) بفتح السين المهملة
والفاء. (فما رأيته ترك ركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر) ظرف لترك، الظاهر أن
هاتين الركعتين هما سنة الظهر القبلية. فهذا الحديث دليل لمن قال بجواز الإتيان
بالرواتب في السفر، وقد حمله من لم يقل بذلك على سنة الزوال لا على الراتبة قبل
الظهر، وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلا. (رواه أبوداود، والترمذي) كلاهما عن قتيبة
عن
وقال: هذا حديث غريب.
1363-(22) وعن نافع، قال: إن عبدالله بن عمر كان يرى ابنه عبيدالله ينتفل في السفر
فلا ينكر عليه. رواه مالك.
(42) باب الجمعة
الليث بن سعد عن صفوان بن سليم عن أبي بسرة الغفاري عن البراء بن عازب. (وقال) أي
الترمذي. (هذا حديث غريب) وقال أيضا: سألت محمدا عنه فلم يعرفه إلا من حديث الليث
بن سعد، ولم يعرف اسم أبي بسرة الغفاري ورآه حسنا-انتهى. وسكت عنه أبوداود، ونقل
المنذري كلام الترمذي وأقره. وأخرجه البيهقي (ج3ص158) من طريق ابن وهب عن الليث بن
سعد وأبي يحيى بن سليمان عن صفوان بن سليم عن أبي بسرة عن البراء.
(6/275)
1363- قوله: (كان يرى ابنه
عبيد الله) بضم العين المهملة ابن عبدالله بن عمر بن الخطاب. (ينتفل في السفر فلا
ينكر عليه) هذا بظاهره مشكل، لما سبق في حديث حفص بن عاصم من إنكاره على المسبحين،
أي المنتفلين، فقيل: مذهب ابن عمر الفرق بين الرواتب والمطلقة كالتهجد والوتر
والضحى وغير ذلك، فيحمل إنكاره على الأول وسكوته على الثاني، فلعله رأى ابنه
عبيدالله ينتفل بغير الرواتب فسكت ولم ينكر عليه، وقيل غير ذلك، كما تقدم. (رواه
مالك) في الموطأ قال: بلغني عن نافع أن عبدالله بن عمر كان يرى ابنه الخ، كذا وقع
في نسخ الموطأ المطبوعة بالهند، وكذا ذكره الجزري في جامع الأصول (ج6ص463). ووقع
في النسخ المصرية، قال: بلغني أن عبدالله بن عمر كان يرى ابنه الخ أي بدون قوله:
عن نافع. قال الزرقاني: زاد ابن وضاح: عن نافع-انتهى. وهذه الزيادة موجودة في جميع
النسخ الهندية الموجودة عندنا، وقوله: بلغني عن نافع يدل على أن مالكا لم يأخذه عن
نافع مباشرة، والله أعلم.
(باب الجمعة) بضم الميم على المشهور إتباعا لضمه الجيم، كعسر في عسر، اسم من
الاجتماع، أضيف إليه اليوم والصلاة، ثم كثر الاستعمال حتى حذف منه الصلاة، وهي لغة
الحجاز، وجوز إسكان الميم على الأصل لمفعول كهزأة، وهي لغة تميم أي اليوم المجموع
فيه، وفتحها بمعنى فاعل أي اليوم الجامع، فهو كهزة، فتاءها للمبالغة كضحكة للمكثر
من ذلك لا للتأنيث، وإلا لما وصف بها اليوم. والمراد هنا بيان فضل يوم الجمعة
وشرفه. قال النووي: يقال بضم الجيم والميم وإسكانها وفتحها، حكاهن الفراء والواحدي
وغيرهما، ووجهوا الفتح بأنها تجمع الناس ويكثرون فيها، كما يقال: همزة ولمزة لكثرة
الهمز واللمز، ونحو ذلك، سميت بذلك
?الفصل الأول?
1364-(1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نحن الآخرون
السابقون يوم القيامة، بيد أنهم
(6/276)
لاجتماع الناس فيها أي للصلاة، وكان يوم الجمعة في الجاهلية يسمى العروبة-انتهى. وبهذا جزم ابن حزم فقال: إنه اسم إسلامي لم يكن في الجاهلية، وإنما كان يسمى في الجاهلية العروبة، فسميت في الإسلام الجمعة للاجتماع إلى الصلاة، ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد بن حميد في تفسيره عن ابن سيرين بسند صحيح إليه في قصة تجميع الأنصار مع أسعد بن زرارة، وكانوا يسمون يوم الجمعة يوم العروبة فصلى بهم وذكرهم، فسموه الجمعة حين اجتمعوا إليه-انتهى. وقيل: سميت بذلك لأن كما الخلائق جمع فيها. وقيل: لأن خلق آدم جمع فبها، ورد ذلك من حديث سلمان. أخرجه أحمد وابن خزيمة وغيرهما في أثناء حديث، وله شاهد عن أبي هريرة، ذكره ابن أبي حاتم موقوفا بإسناد قوي، وأحمد مرفوعا بإسناد ضعيف. قال الحافظ: وهذا أصح الأقوال: وقيل: لأن كعب بن لؤي كان يجمع فيه قومه فيذكرهم ويأمرهم بتعظيم الحرم. وقيل: إن قصيا هو الذي كان يجمع في دار الندوة. وذكر ابن القيم في الهدي (ج1ص102- 118) ليوم الجمعة ثلاثا وثلاثين خصوصية ذكر بعضها الحافظ في الفتح ملخصا من أحب الوقوف عليها رجع إليهما.
(6/277)
1364- قوله: (نحن) أي أنا
وأمتي. (الآخرون) أي زمانا في الدنيا. (السابقون) أي أهل الكتاب وغيرهم منزلة
وكرامة. (يوم القيامة) في الحشر والحساب والقضاء لهم قبل الخلائق وفي دخول الجنة.
قال الحافظ: أي الآخرون زمانا الأولون منزلة يوم القيامة، والمراد أن هذه الأمة
وإن تأخر وجودها في الدنيا عن الأمم الماضية، فهي سابقة لهم في الآخرة، وبأنهم أول
من يحشر، وأول من يحاسب، وأول من يقضى بينهم، وأول من يدخل الجنة. وقيل: المراد
بالسبق هنا إحراز فضيلة اليوم السابق بالفضل، وهو يوم الجمعة. ويوم الجمعة وإن كان
مسبوقا بسبت قبله أو أحد لكن لا يتصور اجتماع الأيام الثلاثة متوالية إلا ويكون
يوم الجمعة سابقا. وقيل: المراد بالسبق أي القبول والطاعة التي حرمها أهل الكتاب
فقالوا سمعنا وعصينا، والأول أقوى-انتهى. (بيد) بموحدة مفتوحة ثم تحتية ساكنة مثل
غير وزنا ومعنى وإعرابا. وبه جزم الخليل والكسائي، ورجحه ابن سيدة. وروى عن
الشافعي أن معنى بيد من أجل واستبعده عياض ولا بعد فيه، والمعنى إنا سبقنا بالفضل
إذ هدينا للجمعة مع تأخرنا في الزمان بسبب أنهم ضلوا عنها مع تقدمهم، ويشهد له ما
في فوائد ابن المقري بلفظ: نحن الآخرون في الدنيا ونحن السابقون أول من يدخل
الجنة؛ لأنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وفي موطأ سعيد بن عفير عن مالك
أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناهم من بعدهم، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم- يعني
يوم الجمعة-
(6/278)
عن أبي الزناد بلفظ: ذلك بأنهم أوتوا الكتاب. وقيل: في معناه على أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا. وقيل: مع أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا. قال القرطبي: إن كانت بمعنى "غير" فنصب على الاستثناء، وإن كانت بمعنى "مع" فنصب على الظرف. وقال الطيبي: هي للاستثناء، وهو من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم، فإنه يؤكد مدح السابقين بما عقب من قوله: وأوتيناه من بعدهم؛ لأنه أدمج فيه معنى النسخ لكتابهم، فالناسخ هو السابق في الفضل، وإن كان متأخرا في الوجود، وبهذا التقرير يظهر موقع قوله: نحن الآخرون مع كونه أمرا واضحا، والمعنى نحن السابقون في الفضل غير أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا الخ. فهو من باب: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب. وأرجع لمزيد التفصيل في تفسير لفظ: بيد، وضبطه إلى تعليق مسند الإمام أحمد (ج3ص34) للعلامة الشيخ أحمد شاكر. (أوتوا الكتاب) اللام للجنس، والمراد التوراة والإنجيل. والضمير في أوتيناه للقرآن، قاله الحافظ. وقال السندي: اللام للجنس، فيحمل بالنسبة إليهم على كتابهم، وبالنسبة إلينا على كتابنا، وهذا بيان زيادة شرف آخر لنا، أي فصار كتابنا ناسخا لكتابهم وشريعتنا ناسخة لشريعتهم، وللناسخ فضل على المنسوخ، أو المراد بيان أن هذا يرجع إلى مجرد تقدمهم علينا في الوجود، وتأخرنا عنهم فيه، ولا شرف لهم فيه، أو شرف لنا أيضا من حيث قلة انتظارنا أمواتا في البرزخ، ومن حيث حيازة المتأخر علوم المتقدم دون العكس، فقولهم الفضل للمتقدم ليس بكلي-انتهى. (ثم) أتى بها إشعارا بأن ما قبلها كالتوطئة والتأسيس لما بعدها. (هذا) أي هذا اليوم، وهو يوم الجمعة. (يومهم الذي فرض) بصيغة المجهول. قال الحافظ: كذا للأكثر، وللحموي: فرض الله. (عليهم) أي وعلينا تعظيمه بعينه أو الاجتماع فيه. قال الحافظ: المراد باليوم يوم الجمعة، والمراد بفرضه فرض تعظيمه. وأشير إليه بهذا لكونه ذكر في أول الكلام كما عند مسلم من طريق
(6/279)
آخر عن أبي هريرة، ومن حديث
حذيفة قالا: قال رسول الله ? أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا-الحديث. (يعني يوم
الجمعة) كذا في جميع النسخ من طبعات الهند. ووقع متن المرقاة يعني الجمعة أي بحذف
بلفظ يوم. قال القاري: تفسير من الراوي لهذا يومهم. وفي نسخة صحيحة: يعني يوم
الجمعة أي يريد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اليوم يوم الجمعة-انتهى. قلت: ليس
هذا التفسير في الصحيحين ولا عند النسائي، فالله أعلم من أين أخذه البغوي أو هو
الذي فسره بذلك. قال القسطلاني: روى ابن أبي حاتم عن السدي: أن الله فرض على اليهود
الجمعة فأبوا وقالوا يا موسى! إن الله لم يخلق يوم السبت شيئا فاجعله لنا فجعل
عليهم. وفي بعض الآثار مما نقله أبوعبدالله الآبي أن موسى عليه الصلاة والسلام عين
لهم يوم الجمعة وأخبرهم بفضيلته، فناظروه
فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، والناس لنا فيه
(6/280)
بأن السبت أفضل، فأوحى الله تعالى إليهم: دعهم وما اختاروا، والظاهر أنه عينه لهم؛ لأن السياق دل على ذمهم في العدول عنه، فيجب أن يكون قد عينه لهم؛ لأنه لو لم يعينه لهم ووكل التعيين إلى اجتهادهم لكان الواجب عليهم تعظيم يوم لا بعينه، فإذا أدى الاجتهاد إلى أنه السبت أو الأحد لزم المجتهد ما أدى الاجتهاد إليه ولا يأثم، ويشهد له قوله هذا: يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فإنه ظاهر أو نص في التعيين، وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم، كما وقع لهم في قوله تعالى: ?ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة? [58:2] وغير ذلك، وكيف لا وهم القائلون سمعنا وعصينا- انتهى. (فاختلفوا فيه) هل يلزم تعيينه أم يسوغ لهم أبدا له بغيره من الأيام وأبدلوه وغلطوا في إبداله، قاله النووي. وقال القسطلاني: اختلفوا فيه بعد أن عين لهم وأمروا بتعظيمه فتركوه وغلبوا القياس، فعظمت اليهود السبت للفراغ فيه من الخلق، وظنت ذلك فضيلة توجب عظم اليوم وقالت: نحن نستريح فيه من العمل ونشتغل بالعبادة والشكر، وعظمت النصارى الأحد؛ لأنه أول يوم بدأ الله فيه بخلق الخلق فاستحق التعظيم. (فهدانا الله له) أي لهذا اليوم بالوحي الوارد في تعظيمه بأن نص لنا ولم يكلنا إلى اجتهادنا ثم ثبتنا على قوله والقيام بحقوقه أو هدانا الله له بالاجتهاد الموافق للمراد، يعني وفقنا للإصابة حتى عينا الجمعة، ويشهد للثاني ما رواه عبدالرزاق بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة فقالت الأنصار: إن لليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى كذلك، فهلم فلنجعل يوما نجتمع فيه فنذكر الله تعالى ونصلي ونشكره، فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ، وأنزل الله تعالى: بعد ذلك. ?إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة? [9:62] الآية، وهذا وإن كان مرسلا، فله شاهد بإسناد حسن. أخرجه أحمد وأبوداود
(6/281)
وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة
وغير واحد من حديث كعب بن مالك قال: كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم رسول الله
? المدينة أسعد بن زرارة- الحديث. فمرسل ابن سيرين يدل على أن أولئك الصحابة
اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد. ولا يمنع ذلك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم
علمه بالوحي، وهو بمكة فلم يتمكن من إقامتها ثم، فقد ورد فيه حديث عن ابن عباس عند
الدارقطني. ولذلك جمع بهم أول ما قدم المدينة. كما حكاه ابن إسحاق وغيره، وعلى هذا
فقد حصلت الهداية للجمعة بجهتي البيان والتوفيق. وقيل: في الحكمة في اختيارهم
الجمعة وقوع خلق آدم فيه، والإنسان إنما خلق للعبادة فناسب أن يشتغل بالعبادة فيه،
ولأن الله تعالى أكمل فيه الموجودات وأوجد فيه الإنسان الذي ينتفع بها فناسب أن
يشكر على ذلك بالعبادة فيه، كذا في الفتح. (والناس) وفي الصحيحين فالناس أي أهل
الكتابين. (لنا) متعلق بتبع. وقيل: متعلقة محذوف، واللام تعليلية مشيرة إلى النفع.
(فيه) أي في
تبع، اليهود غدا، والنصارى بعد غد)) متفق عليه. وفي رواية لمسلم، قال: ((نحن
الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة، بيد أنهم))، وذكر نحوه إلى
آخره.
1365- (2) وفي أخرى له عنه، وعن حذيفة، قالا: قال رسول الله ? في آخر الحديث:
(6/282)
اختيار هذا اليوم للعبادة. (تبع) فإنهم إنما اختاروا ما يعقبه؛ لأنه لما كان يوم الجمعة مبدأ خلق الإنسان وأول أيامه كان المتعبد فيه باعتبار العادة متبوعا، والمتعبد فيه في اليومين الذين بعده تابعا، ويحتمل أن يقال إن الأيام الثلاثة بتواليها، مع قطع النظر عن اعتبار الأسبوع لا شك في تقديم يوم الجمعة وجودا فضلا عن الرتبة، وتبع بفتح التاء المثناة والباء الموحدة جمع تابع. (اليهود غدا) أي يوم السبت. (والنصارى بعد غد) أي يوم الأحد. قيل: التقدير تعييد اليهود غدا، وتعييد النصارى بعد غد، كذا قدره ابن مالك ليسلم من الإخبار بظرف الزمان عن الجثة. وقال القرطبي: غدا هنا منصوب على الظرف، وهو متعلق بمحذوف، وتقديره اليهود يعظمون غدا، وكذا قوله بعد غد ولابد من هذا التقدير؛ لأن ظرف الزمان لا يكون خبرا عن الجثة. وفي الحديث دليل على فريضة الجمعة، كما قاله النووي لقوله: فرض عليهم فهدانا الله له، فإن التقدير فرض عليهم فضلوا وهدينا. وفي رواية لمسلم: كتب علينا، وفيه أن القياس مع وجود النص ساقط، وذلك أن كلا منهما قال بالقياس مع وجود النص على قول التعيين فضلا وأن الجمعة أول الأسبوع شرعا، ويدل على ذلك تسمية الأسبوع كله جمعة، وكانوا يسمون الأسبوع سبتا، كما وقع في حديث أنس عند البخاري في الاستسقاء، وذلك أنهم كانوا مجاورين لليهود فتبعوهم في ذلك، وفيه بيان واضح لمزيد فضل هذه الأمة على الأمم السالفة. (متفق عليه) واللفظ لبخاري وأخرجه أيضا أحمد (ج2 ص243، 249، 274) والنسائي والبيهقي (ج3 ص170-171). (وفي رواية لمسلم نحن الآخرون) أي وجودا وخلقة في الدنيا. (الأولون) أي بعثا ومرتبة. (يوم القيامة) والعبرة بذلك اليوم ومواقفه. (ونحن أول من يدخل الجنة) يعني نبينا قبل سائر الأنبياء وأمته قبل سائر الأمم. (بيد أنهم) قال العيني: هو مثل غير وزنا ومعنى وإعرابا، ويقال ميد بالميم، وهو اسم ملازم للإضافة إلى أن
(6/283)
وصلتها، وله معنيان أحدهما غير
إلا أنه لا يقع مرفوعا ولا مجرورا بل منصوبا ولا يقع صفة ولا استثناء متصلا، وغنما
يستثنى به في الانقطاع خاصة. (وذكر) أي مسلم. (نحوه) أي معنى ما تقدم من المتفق
عليه. (إلى آخره) يعني أن الخلاف إنما هو في صدر الحديث بوضع الأولون موضع
السابقون ويكون أحدهما نقلا بالمعنى وبزيادة: ونحن أول من يدخل الجنة في رواية
مسلم هذه.
1365- قوله: (وفي أخرى له عنه) أي وفي رواية أخرى لمسلم عن أبي هريرة. (وعن حذيفة)
عطف على
((نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق)).
1366- (3) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ? : ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم
الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها،
عنه أي عنهما جميعا. (نحن الآخرون) أي الذين تأخروا عنهم في حال كوننا وإياهم. (من
أهل الدنيا والأولون يوم القيامة) أي من أهل الآخرة في السبق لهم. قال الطيبي:
اللام في "الآخرين" موصولة و"من أهل الدنيا" حال من الضمير في
الصلة وقوله. (المقضي لهم قبل الخلائق) صفة "الآخرون"، أي الذين يقضى
لهم قبل الناس ليدخلوا الجنة أولا كأنه قيل الآخرون السابقون- انتهى. وهذه الرواية
أخرجها النسائي وابن ماجه أيضا.
(6/284)
1366- قوله: (خير يوم) قال صاحب المفهم: خير وشر يستعملان للمفاضلة ولغيرها، فإذا كانا للمفاضلة فأصلهما أخير وأشر على وزن أفعل، وأما إذا لم يكونا للمفاضلة، فهما من جملة الأسماء، كما قال تعالى: ?إن ترك خيرا?. (180:2)، ?ويجعل الله فيه خيرا كثيرا? [6:38] وهو في هذا الحديث للمفاضلة، ومعناه أن يوم الجمعة أفضل من كل يوم طلعت شمسه. (طلعت عليه) أي ما فيه. (الشمس) جملة "طلعت" صفة "يوم" للتنصيص على التعميم، كما قالوا في قوله تعالى: ?ولا طائر يطير بجناحيه? [6:38] فإن الشيء إذا وصف بصفة تعم جنسه يكون تنصيصا على اعتبار استغراقه إفراد الجنس. (يوم الجمعة) فيه أن أفضل الأيام يوم الجمعة، فيكون أفضل من يوم عرفة، وبه جزم ابن العربي، ويشكل على ذلك ما أخرجه ابن حبان في صحيحه عن جابر مرفوعا: ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة- الحديث. وقد جمع العراقي فقال: المراد بتفضيل الجمعة بالنسبة إلى أيام الجمعة أي أيام الأسبوع، وتفضيل يوم عرفة بالنسبة إلى أيام السنة، وصرح بأن حديث أفضلية الجمعة أصح، وفي حاشية الموطأ نقلا عن المحلى ظاهر الحديث أن الجمعة أفضل من عرفة، وبه قال أحمد، وهو وجه للشافعية، والأصح عندهم أن عرفة أفضل ويتأول الحديث بأنها أفضل أيام الأسبوع، ويظهر فائدة الاختلاف فيمن نذر الصيام أو علق عملا من الأعمال بأفضل الأيام مثلا قال لزوجته: أنت طالق في أفضل الأيام فتطلق يوم عرفة على أصح الوجهين عند الشافعية ويوم الجمعة على الوجه الثاني، وهذا إذا لم يكن له نية فأما إن أراد أفضل أيام السنة فتعيين يوم عرفة، وإن أراد أفضل أيام الأسبوع فتعيين الجمعة. (وفيه أدخل الجنة) فيه دليل على أن آدم لم يخلق في الجنة بل خلق خارجها ثم أدخل إليها. قيل: إن خلقه وإدخاله كانا في يوم واحد، ويحتمل أنه خلق يوم الجمعة ثم أمهل إلى يوم جمعة أخرى فأدخل فيه الجنة، وكذا الاحتمال في يوم الإخراج. (وفيه أخرج منها) قال ابن
(6/285)
كثير: إن كان يوم خلقه يوم
إخراجه وقلنا الأيام الستة، كهذه الأيام فقد أقام في الجنة بعض يوم من أيام
الدنيا، وفيه نظر وإن كان إخراجه في غير يوم الذي
ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة)) رواه مسلم.
1367- (4) وعنه، قال: قال رسول الله ? : ((إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم
يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه)) متفق عليه.
خلق فيه، وقلنا إن كل يوم بألف سنة، كما قال ابن عباس والضحاك واختاره ابن جرير
فقد لبث هناك مدة طويلة- انتهى. وقيل: كان إخراجه في اليوم الذي خلق فيه، لكن
المراد من اليوم الإطلاق الثاني أي ما مقداره كألف سنة فيكون مكثه فيها زمانا
طويلا. (ولا تقوم الساعة) أي القيامة. (إلا في يوم الجمعة) قيل: هذه القضايا ليست
لذكر فضيلته؛ لأن إخراج آدم وقيام الساعة لا يعد فضيلة، وإنما هو لبيان ما وقع فيه
من الأمور العظام. وقيل: بل جميعها فضائل وخروج آدم سبب وجود الذرية من الرسل والأنبياء
والأولياء، والساعة سبب تعجيل جزاء الصالحين، وموت آدم سبب لنيله إلى ما أعد له من
الكرامات. قال ابن العربي في شرح الترمذي: أما إخراجه منها فلأفضل فيه ابتداء إلا
أن يكون لما بعده من الخيرات والأنبياء والطاعات، وأن خروجه منها لم يكن طردا، كما
كان خروج إبليس وإنما كان خروجه منها مسافرا لقضاء أوطار ويعود إلى تلك الدار،
وقال أيضا: وذلك أي قيام أعظم لفضله لما يظهر الله رحمته وينجز من وعده. (رواه
مسلم) وأخرجه أيضا الترمذي والنسائي والبيهقي (ج3 ص251).
(6/286)
1367- قوله: (إن في الجمعة
لساعة) كذا فيه مبهمة، وقد عينت في أحاديث أخر، كما سيأتي. وأصل الساعة وحقيقتها
جزء مخصوص من الزمان، وقد يطلق على جزء من أربعة وعشرين جزء هي مجموع اليوم
والليلة، ويطلق على جزء ما غير مقدر من الزمان، ويطلق على الوقت الحاضر أيضا. (لا
يوافقها) أي لا يصادفها، وهو أعم من أن يقصد لها، أو يتفق له وقوع الدعاء فيها.
(عبد مسلم) فيه تخصيص لدعاء المسلمين بالإجابة في تلك الساعة. (يسأل الله عليها)
بلسان الحال باستحضاره بقلبه أو بلسان القال. (خيرا) أي يليق السؤال فيه. (إلا
أعطاه) أي ذلك المسلم. (إياه) أي ذلك الخير، يعني إما يعجله له، وإما أن يدخره له،
كما ورد في الحديث. وفي حديث أبي لبابة الآتي: ما لم يسأل حراما. وفي حديث سعد بن
عبادة عند أحمد: ما لم يسأل إثما أو قطيعة رحم. وقطيعة الرحم من جملة الإثم، فهو
من عطف الخاص على العام للاهتمام به. وفي الحديث بيان فضل يوم الجمعة لاختصاصه
بساعة الإجابة، وسيأتي ذكر الاختلاف في تعيين هذه الساعة، وبيان القول الراجح فيه.
(متفق عليه) أخرجه البخاري في الجمعة والطلاق والدعوات، والسياق المذكور لمسلم إلا
قوله: "عبد" فإنه ليس عنده في هذه الرواية. والحديث أخرجه أحمد ومالك
والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص249، 250).
وزاد مسلم، قال: وهي ساعة خفيفة. وفي رواية لهما، قال: ((إن في الجمعة لساعة لا
يوافقها مسلم قائم يصلي يسأل الله خيرا إلا أعطاه إياه)).
(6/287)
(وزاد مسلم قال) أي رسول الله ?. (وهي ساعة خفيفة) أي لطيفة. وفي رواية لهما: وأشار أي رسول الله ? بيده ليقللها. فإن قلت قد روى أبوداود والحاكم عن جابر مرفوعا: يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة لا يوجد عبدمسلم يسأل الله شيئا إلا أعطاه الله عزوجل فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر- انتهى. ومقتضاه أنها غير خفيفة، أجيب بأنه ليس المراد أنها مستغرقة للوقت المذكور، بل المراد أنها لا تخرج عنه؛ لأنها لحظة خفيفة. (وفي رواية لهما) أي للبخاري ومسلم. (قال) النبي ?. (إن في الجمعة لساعة) قال الجزري: هي أرجح أوقات الإجابة. (لا يوافقها) أي لا يجدها. (مسلم قائم) أي ثابت في مكانه أو ملازم مواظب على حد قوله: ?ما دمت عليه قائما?. (يصلي) أي ينتظر الصلاة أو يدعوا. وإنما أولنا بذلك ليتوافق جميع الروايات. (يسأل الله) فيها. (خيرا إلا أعطاه إياه) قال الطيبي قوله: قائم يصلي الخ. كلها صفات لمسلم. ويجوز أن يكون يصلي حالا لاتصافه بقائم، ويسأل إما حال مترادفة أو متداخلة. زاد النووي: إذ معنى يصلي يدعو، كذا في المرقاة، واعلم أنه اختلفت الأحاديث في تعيين ساعة الإجابة، وبحسب ذلك اختلف أقوال الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم. قال الحافظ في الفتح: قد اختلف أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في هذه الساعة هل هي باقية أو رفعت؟ وعلى البقاء هل هي في كل جمعة أو في جمعة واحدة من كل سنة؟ وعلى الأول هل هي وقت من اليوم معين أو مبهم؟ وعلى التعيين هل تستوعب الوقت أو تبهم فيه؟ وعلى الإبهام ما ابتداءه وما انتهاءه؟ وعلى كل ذلك هل تستمر أو تتنقل؟ وعلى الانتقال هل تستغرق اليوم أو بعضه؟ ثم ذكر رحمه الله تلخيص ما اتصل إليه من الأقوال مع أدلتها وبيان حالها في الصحة والضعف والرفع والوقف والإشارة إلى مأخذ بعضها، وقد بلغت هذه الأقوال إلى أكثر من الأربعين قولا، وليست كلها متغايرة من كل جهة، بل كثير منها يمكن اتحاده مع غيره. ورجح الحافظ
(6/288)
منها قولين حيث قال بعد ذكرها:
ولا شك أن أرجح الأقوال المذكورة حديث أبي موسى. (يعني الذي ذكره المصنف بعد هذا
أنها ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تقضى الصلاة) وحديث عبدالله بن
سلام. (يريد به ما يأتي في حديث أبي هريرة الطويل في الفصل الثاني من قوله: إنها
في آخر ساعة بعد العصر في يوم الجمعة) قال المحب الطبري: اصح الأحاديث فيها حديث
أبي موسى، وأشهر الأقوال فيها قول عبدالله بن سلام- انتهى. قال الحافظ وما عداها
إما موافق لهما أو لأحدهما أو ضعيف الإسناد أو موقوف، استند قائله إلى اجتهاد دون
توقيف. ولا يعارضهما حديث أبي سعيد في كونه ? أنسيهما بعد أن علمها، لاحتمال أن
يكونا سمعا ذلك منه قبل أن أنسي، أشار إلى ذلك
1368- (5) وعن أبي بردة بن أبي موسى، قال: سمعت أبي يقول، سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول،
(6/289)
البيهقي وغيره، وقد اختلف السلف في أيهما أرجح؟ فرجح مسلم فيما روى البيهقي حديث أبي موسى، وبه قال جماعة منهم البيهقي وابن العربي والقرطبي. قال القرطبي: هو نص في موضع الخلاف فلا يلتفت إلى غيره. وقال النووي: هو الصحيح بل الصواب، وجزم في الروضة بأنه الصواب، ورجحه أيضا بكونه مرفوعا صريحا، وبأنه في أحد الصحيحين. وذهب آخرون إلى ترجيح قول عبدالله بن سلام، فحكى الترمذي عن أحمد أنه قال: أكثر الأحاديث على ذلك. وقال ابن عبدالبر: أنه أثبت شيء في هذا الباب، وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح على أبي سلمة بن عبدالرحمن أن أناسا من الصحابة اجتمعوا فتذاكروا ساعة الجمعة ثم افترقوا فلم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة، ورجحه كثير من الأئمة أيضا كأحمد وإسحاق ومن المالكية الطرطوشي، واختاره ابن الزملكاني شيخ الشافعية في وقته، وحكاه عن نص الشافعي وهو الذي اختاره ابن القيم ورجحه في زاد المعاد (ج1 ص107) في بحث نفيس يرجع إليه ويستفاد، واحتج فيه بما سنذكره من حديث أبي سعيد وأبي هريرة عند أحمد، وقد استشكل هذا، فإنه ترجيح لغير ما في الصحيح على ما هو فيه، والمعروف من علوم الحديث وغيرها أن ما في الصحيحين أو ما في أحدهما مقدم على غيره. والجواب أن ذلك حيث لم يكن حديث الصحيحين أو أحدهما مما انتقده الحفاظ، كحديث أبي موسى هذا الذي في مسلم فإنه قد أعل بالانقطاع والاضطراب، وسيأتي ذكرهما في شرحه، وسلك بعضهم مسلكا آخر وهو الجمع بين الحديثين بأن ساعة الإجابة تنتقل فتكون في جمعة في ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تقضى الصلاة. وفي أخرى في آخر ساعة من اليوم. قال ابن عبدالبر: الذي ينبغي الاجتهاد في الدعاء في الوقتين المذكورين، وسبق على ذلك الإمام أحمد. قال الحافظ: وهو أولى في طريق الجمع. واستشكل حصول الإجابة لكل داع بالشرط المتقدم مع اختلاف الزمان باختلاف البلاد والمصلي، فيتقدم بعض على بعض وساعة الإجابة
(6/290)
متعلقة بالوقت فكيف تتفق مع الاختلاف
وأجيب باحتمال أن تكون ساعة الإجابة متعلقة بفعل كل مصل، كما قيل نظيره في ساعة
الكراهة، ولعل هذا فائدة جعل الوقت الممتد مظنة لها، وإن كانت هي خفيفة، ويحتمل أن
يكون عبر عن الوقت بالفعل فيكون التقدير وقت جواز الخطبة أو الصلاة أو نحو ذلك.
1368- قوله: (وعن أبي بردة) بضم الموحدة وسكون الراء ودال مهملة، اسمه عامر. وقيل:
الحارث، ثقة من أوساط التابعين المشهورين، مات سنة أربع ومائة. وقيل: غير ذلك. وقد
جاوز الثمانين. (بن أبي موسى)
في شأن ساعة الجمعة: ((هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة)) رواه مسلم.
(6/291)
الأشعري، عبدالله بن قيس الصحابي. (في شأن ساعة الجمعة) أي في بيان وقتها. (هي) أي ساعة الجمعة، يعني ساعة الإجابة في يوم الجمعة. (ما بين أن يجلس الإمام) أي جلوس الإمام للخطبة. (إلى أن تقضى الصلاة) أي إلى تمام الصلاة وانقضائها. قال أبوداود: يعني على المنبر، أي المراد بجلوس الإمام في الحديث جلوسه عقب صعوده على المنبر للخطبة. والحديث نص في أن ساعة الإجابة في ما بين جلوس الإمام على المنبر للخطبة إلى تمام الصلاة، وليس المراد أنها تستوعب جميع الوقت الذي عين، بل المعنى أنها تكون في أثنائه لقوله فيما مضى: يقللها وقوله: وهي ساعة خفيفة. وفائدة ذكر الوقت أنها تنتقل فيه فيكون ابتداء مظنتها ابتداء الخطبة وانتهائها انتهاء الصلاة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أبوداود والبيهقي (ج3ص350). والحديث مع كونه في صحيح مسلم قد أعل بالانقطاع والاضطراب. أما الانقطاع فلأن مخرمة بن بكير رواه عن أبيه بكير بن عبدالله بن الأشج، وهو لم يسمع من أبيه، قاله أحمد عن حماد بن خالد عن مخرمة نفسه، وكذا قال سعيد بن أبي مريم عن موسى بن سلمة عن مخرمة، وزاد: إنما هي كتب كانت عندنا. وقال علي بن المديني: لم أسمع أحدا من أهل المدينة يقول عن مخرمة أنه قال في شيء من حديثه سمعت أبي. ولا يقال مسلم يكتفي في المعنعن بإمكان اللقاء مع المعاصرة، وهو كذلك؛ لأنا نقول وجود التصريح عن مخرمة بأنه لم يسمع من أبيه كاف في دعوى الانقطاع. وأجيب عن هذا بأنه اختلف في سماع مخرمة من أبيه: فقال أحمد وابن معين وابن حبان: لم يسمع من أبيه أي شيئا. وقال أبوداود: لم يسمع من أبيه إلا حديثا واحدا وهو حديث الوتر. وقال علي بن المديني: سمعت معن بن عيسى يقول: مخرمة سمع من أبيه، وعرض عليه ربيعة أشياء من رأي سليمان بن يسار، قال علي: ولا أظن مخرمة سمع من أبيه كتاب سليمان لعله سمع الشيء اليسير، ولم أجد أحدا بالمدينة يخبرني عن مخرمة أنه كان يقول في شيء من حديثه:
(6/292)
سمعت أبي. وقال ابن أبي أويس:
وجدت في ظهر كتاب مالك سألت مخرمة عما يحدث به عن أبيه سمعها من أبيه فحلف لي، ورب
هذه البنية سمعت من أبي، كذا في تهذيب التهذيب، فلعل مسلما ممن صح وثبت عندهم سماع
مخرمة من أبيه، ويدل على ذلك ما رواه البيهقي من طريق أحمد بن سلمة أن مسلما قال:
حديث أبي موسى أجود شيء في هذا الباب وأصحه. ولو سلمنا أن مخرمة لم يسمع من أبيه
لا يضر؛ لأنه يروي من كتب أبيه، والعمل بالوجادة جائز. قال النووي: أما العمل
بالوجادة، فعن المعظم أنه لا يجوز. وعن الشافعي ونظار أصحابه جوازه. وقطع البعض
بوجوب العمل بها عند حصول الثقة به، قال: وهذا هو الصحيح الذي لا يتجه في هذه
الأزمان غيره-انتهى. وأما الاضطراب، فقال العراقي: إن أكثر الرواة
?الفصل الثاني?
1369-(6) عن أبي هريرة، قال: خرجت إلى الطور، فلقيت كعب الأحبار، فجلست معه،
فحدثني عن التوراة، وحدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان فيما حدثته أن
قلت: قال رسول الله ?: ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه
أهبط،
(6/293)
جعلوه من قول أبي بردة مقطوعا به وأنه لم يرفعه غير مخرمة عن أبيه. وقال الحافظ: رواه أبوإسحاق وواصل الأحدب ومعاوية بن قرة وغيرهم عن أبي بردة من قوله، وهؤلاء من أهل الكوفة، وأبوبردة كوفي، فهم أعلم بحديثه من بكير المدني، وهم عدد وهو واحد أيضا، فلو كان عند أبي بردة مرفوعا لم يقفوه عليه، ولهذا جزم الدارقطني فيما استدركه على مسلم بأن الموقوف هو الصواب. وأجاب النووي عن ذلك بقوله: وهذا الذي استدركه بناه على القاعدة المعروفة له، ولأكثر المحدثين أنه إذا تعارض في رواية الحديث وقف ورفع أو إرسال واتصال حكموا بالوقف والإرسال، وهي قاعدة ضعيفة ممنوعة، والصحيح طريقة الأصوليين والفقهاء والبخاري ومسلم ومحققي المحدثين أنه يحكم بالرفع والاتصال؛ لأنها زيادة ثقة-انتهى. وأجاب بعضهم عن قول الدارقطني: والصواب أنه من قول أبي بردة، بأنه لا يكون إلا مرفوعا فإنه لا مسرح للاجتهاد في تعيين أوقات العبادة.
(6/294)
1369- قوله: (خرجت إلى الطور)
أي حيث كلم الله موسى عليه السلام. قال القاري: الطور محل معروف المتبادر طور
سيناء. وقال الباجي: الطور في كلام العرب واقع على كل جبل، إلا أنه في الشرع يطلق
على جبل بعينه، وهو الذي كلم فيه موسى عليه السلام، وهو الذي عناه أبوهريرة-انتهى.
وقال ياقوت في معجمه: وبالقرب من مصر عند موضع يسمى مدين، جبل يسمى الطور. وعليه
كان الخطاب الثاني لموسى عليه السلام عند خروجه من مصر ببني إسرائيل-انتهى. (فلقيت
كعب الأحبار) جمع حبر بالفتح والكسر والإضافة، كما في زيد الخيل، وهو كعب بن ماتع
تقدم ترجمته. (فحدثني عن التوراة) يعني أخبرني بما في التوراة التي بأيديهم على
وجه القصص والإخبار واعتبار ما يوافق منها ما عند أبي هريرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم، قاله الباجي. (حدثته) أي كعبا الأحاديث. (عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فكان فيما حدثته) خبر كان. (أن قلت) اسم كان ومقوله. (قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم) وهذا لفظ مالك، وسياق النسائي قال: أي أبوهريرة أتيت الطور فوجدت
ثم كعبا فمكثت أنا وهو يوما أحدثه عن رسول الله ? ويحدثني عن التوراة فقلت له: قال
رسول الله ?. (وفيه أهبط) قال القاري: الظاهر أن أهبط هنا بمعنى أخرج في الرواية
السابقة. وقيل: كان
وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة
من حين تصبح حتى تطلع الشمس، شفقا من الساعة، إلا الجن والإنس. وفيه ساعة لا
يصادفها عبد مسلم وهو يصلي
(6/295)
الإخراج من الجنة إلى السماء، والإهباط أي إنزال منها إلى الأرض، فيفيد أن كلا منهما كان في يوم الجمعة: أما في يوم واحد: وإما في يومين، قيل: كان هبوط آدم على جبل بسرنديب في أرض الهند، يقال له نود. وقد أورد السيوطي في ذلك أحاديث في الدر المنثور. (وفيه تيب عليه) على بناء المفعول من التوبة أي وفق للتوبة وقبلت التوبة منه قال تعالى: ?ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى? [20: 122]. (وفيه) أي في نحوه من أيام الجمعة. (مات) وله ألف سنة، كما في حديث أبي هريرة وابن عباس مرفوعا. وقيل: إلا سبعين. وقيل: إلا ستين. وقيل: إلا الأربعين، قاله الزرقاني. واختلف أيضا في موضع موته ومحل دفنه على أقوال، وصحح ابن كثير أنه مات على جبل نود بسرنديب في الهند، ودفن فيه موضع الذي أهبط عليه، والله أعلم. (وما من دابة) زيادة "من" لإفادة الاستغراق في النفي. (إلا وهي مصيخة) بالصاد المهملة والخاء المعجمة، من أصاخ أي مصغية مستمعة تتوقع قيام الساعة. وروى بسين بدل الصاد، وهما لغتان بمعنى. قال الجزري: والأصل الصاد، قال القاري: وفي أكثر نسخ المصابيح بالسين. (يوم الجمعة) ظرف لمصيخة. (من حين تصبح) قال الطيبي: بني على الفتح لإضافته إلى الجملة، ويجوز إعرابه إلا أن الرواية بالفتح. (حتى تطلع الشمس)؛ لأن بطلوعها يتميز يوم الساعة عن غيره، فإنها تطلع في يوم الساعة من المغرب. (شفقا من الساعة) أي خوفا من قيامها فيه أن البهائم تعلم الأيام بعينها، وأنها تعلم أن القيام تقوم يوم الجمعة، ولا تعلم وقائع التي بين زمانها وبين القيامة، أو ما تعلم أن تلك الوقائع ما وجدت الآن. (إلا الجن والإنس) استثناء من الجنس؛ لأن اسم الدابة يقع على كل ما دب. قال الباجي: وجه عدم إشفاقهم أنهم علموا أن بين يدي الساعة شروطا ينتظرونها، وليس بالبين؛ لأنا نجد منهم من لا يصيخ وليس له علم بالشروط. وقال ابن عبدالبر: فيه أن الجن والإنس لا يعلمون من أمر الساعة ما
(6/296)
يعرفه غيرهم من الدواب، وهذا
أمر يقصر عنه الفهم. وقال التوربشتي في شرح المصابيح: وجه إساخة كل دابة يوم
الجمعة، وهي مما لا تعقل أن نقول: إن الله تعالى يجعلها ملهمة بذلك مستشعرة منه
وغير مستنكر أمثال ذلك وما هو فوقه في العجب من قدرة الله سبحانه، والحكمة في
إخفاء ذلك من الجن والإنس أنهم مكلفون، ولا سيما بالإيمان بالغيب، فإذا كوشفوا
بشيء من ذلك أخلت قاعدة الابتلاء وحق القول عليهم بالاعتداء، ثم أنهم لا يستطيعون
به سمعا إن أظهر لهم، ويجوز أن يكون وجه إساخة كل دابة يوم الجمعة أن الله تعالى
يظهر يوم الجمعة في أرضه من عظائم الأمور وجلائل الشيءون ما تكاد الأرض تميد بها،
فتبقى كل دابة ذاهلة دهشة كأنها مسيخة للرعب الذي تداخلها وللحالة التي تشاهدها،
حتى كأنها تشفق شفقتها من قيام الساعة. (وفيه ساعة) خفيفة. (لا يصادفها) أي لا
يوافقها. (وهو يصلي)
يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه. قال كعب: ذلك في كل سنة يوم؟ فقلت: بل في كل جمعة
فقرأ كعب التوراة، فقال: صدق رسول الله ?. قال أبوهريرة: لقيت عبدالله بن سلام،
فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته في يوم الجمعة، فقلت له: قال كعب: ذلك في
سنة يوم؟ قال عبدالله بن سلام: كذب كعب، فقلت له: ثم قرأ كعب التوراة، فقال: بل هي
في كل جمعة، فقال عبدالله بن سلام: صدق كعب، ثم قال عبدالله بن سلام: قد علمت أي
ساعة هي؟
(6/297)
حقيقة أو حكما بالانتظار، كما تقدم يدعو. ولفظ النسائي وفيه: ساعة لا يوافقها مؤمن، وهو في الصلاة. (يسأل الله) حال أو بدل. (شيئا) من أمر الدنيا والآخرة بشروطه. (إلا أعطاه إياه) ما لم يسأل إثما أو قطيعة رحم، كما تقدم. (ذلك) أي اليوم. (في كل سنة يوم) واحد. قال الطيبي: الإشارة إلى اليوم المذكور المشتمل على تلك الساعة الشريفة ويوم خبره. قال الباجي: يحتمل أن يكون ذلك على سبيل السهو في الإخبار عن التوراة أو التأويل للفظها. (بل في كل جمعة) أي هي في كل جمعة أو في كل أسبوع يوم، يعني ذلك اليوم المشتمل على ما ذكر كائن في كل أسبوع، وهذا أظهر مطابقة للجواب. (فقرأ كعب التوراة) بالحفظ أو بالنظر. (فقال) كعب (صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم) زاد النسائي هو في كل جمعة، وفي هذا معجزة عظيمة دالة على كمال علمه عليه السلام، حيث أخبر بما خفي على أعلم أهل الكتاب مع كونه أميا. (لقيت عبدالله بن سلام) بتخفيف اللام ابن الحارث. من بني قينقاع الإسرائيلي أبويوسف، حليف بني عوف بن الخزرج، أسلم عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، شهد له النبي ? بالجنة، ونزل فيه: ?وشهد شاهد من بني إسرائيل? وقوله تعالى: ?ومن عنده علم الكتاب? [13: 43]، وشهد مع عمر فتح بيت المقدس والجابية، قيل: كان اسمه الحصين، فسماه النبي ? عبدالله، روى خمسة وعشرين حديثا، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بآخر، مات بالمدينة سنة. (43). (فحدثته بمجلسي) أي بجلوسي. (وما حدثته) أي وأخبرته بالحديث الذي حدثت به كعبا. (في يوم الجمعة) أي في شأنه أو فضله. (فقلت له) أي لعبد الله بن سلام. (كذب كعب) أي أخطأ وغلط: قال الباجي: والكذب إخبار بالشيء على غير ما هو به سواء تعمد ذلك أو لم يتعمد. (بل هي) أي ساعة الإجابة. (في كل جمعة) كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. (قد علمت) بصيغة المتكلم. (أية ساعة هي) بنصب "أية" على أنها مفعول علمت، أي عرفت تلك
(6/298)
الساعة. وفي بعض النسخ برفعها،
كقوله تعالى: ?لنعلم أي الحزبين أحصى? [18: 12] قال ابن عبدالبر: وفيه إظهار
العالم لعلمه بأن يقول أنا عالم
قال أبوهريرة: فقلت: أخبرني بها ولا تضن علي، فقال عبدالله بن سلام هي آخر ساعة في
يوم الجمعة.
لكذا وكذا إذا لم يكن على وجه الفخر والرياء والسمعة. (قال أبوهريرة فقلت) أي لعبد
الله بن سلام. (أخبرني بها) أي بتلك الساعة. (ولا تضن علي) بكسر الضاد وفتحها
وبفتح النون المشددة من باب تعب وضرب، أي لا تبخل علي، قلت: وضبط في جامع الترمذي:
لا تضنن بسكون الضاد وفتح النون الأولى، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول
(ج10ص172) عن الترمذي، ونقل عن الموطأ والنسائي لا تضنن. قال العراقي: يجوز في
ضبطه ستة أوجه: أحدها فتح الضاد وتشديد النونين وفتحهما، والثاني بكسر الضاد
والباقي مثل الأول، والثالث فتح الضاد وتشديد النون الأولى وفتحها وتخفيف الثانية،
والرابع كسر الضاد والباقي مثل الذي قبله، والخامس إسكان الضاد وفتح النون الأولى
وإسكان الثانية، والسادس كسر النون الأولى والباقي مثل الذي قبله-انتهى. قال
أبوالطيب المدني: حاصل جميع الوجوه أنه من باب التأكيد بالنون الثقيلة أو الخفيفة،
أو من باب الفك، وعلى التقديرين فالباب يحتمل فتح العين في المضارع وكسرها فتصير
الوجوه ستة-انتهى. (هي آخر ساعة في يوم الجمعة) ولفظ الترمذي: هي بعد العصر إلى أن
تغرب الشمس، وسياق الحديث صريح في أن ذلك من قول عبدالله بن سلام حيث لم يصرح
بسماعه منه صلى الله عليه وسلم، لكن قول الصحابي فيما لا مسرح للاجتهاد فيه مرفوع
حكما، ويدل على كونه مرفوعا صريحا ما رواه ابن ماجه من طريق أبي النضر عن أبي سلمة
عن عبدالله بن سلام قال: قلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس: إنا لنجد في
كتاب الله في يوم الجمعة ساعة-انتهى. وفيه قال عبدالله: فأشار إلي رسول الله صلى
الله عليه وسلم أو بعض ساعة، فقلت: صدقت أو بعض ساعة،
(6/299)
قلت: أية ساعة هي؟ قال: هي آخر
ساعات النهار، قلت: انها ليست ساعة الصلاة، قال: بلى إن العبد المؤمن إذا صلى ثم
جلس لا يحبسه إلا الصلاة فهو في الصلاة. قال الحافظ: وهذا يحتمل أن يكون قائل قلت:
أية ساعة هي عبدالله بن سلام، فيكون مرفوعا، ويحتمل أن يكون أبا سلمة، فيكون
موقوفا، وهو الأرجح لتصريحه في رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بأن عبدالله بن
سلام لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الجواب. أخرجه ابن أبي خيثمة، نعم رواه
ابن جرير من طريق العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا أنها آخر ساعة
بعد العصر يوم الجمعة، ولم يذكر عبدالله بن سلام قوله ولا القصة. وروى أبوداود
والنسائي والحاكم بإسناد حسن عن جابر مرفوعا: يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة لا يوجد
مسلم يسأل الله شيئا إلا آتاه الله عزوجل فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر، وروى أحمد
(ج2ص272) عن أبي سعيد وأبي هريرة مرفوعا: إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد
مسلم-الحديث. وفيه وهي بعد العصر، وفي سنده محمد بن مسلمة الأنصاري روى عنه رجل
اسمه عباس. قال الذهبي: لا يعرفان، وتعقبه الحافظ في اللسان (ج5ص318) فقال: عباس
معروف، وهو عباس بن عبدالرحمن بن
قال أبوهريرة، فقلت: وكيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة وقد قال رسول الله ?: لا
يصادفها عبد مسلم وهو يصلي فيها؟ فقال عبدالله بن سلام: ألم يقل رسول الله ?: من
جلس مجلسا ينتظر الصلاة، فهو في صلاة حتى يصلي؟ قال أبوهريرة: فقلت بلى، قال: فهو
كذلك)) رواه مالك، وأبوداود، والترمذي، والنسائي، وروى أحمد إلى قوله:صدق كعب
(6/300)
ميناء. وقال في التقريب في ترجمته: أنه مقبول. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص165): وثقه ابن حبان، ولم يضعفه أحد-انتهى. ومحمد بن مسلمة المذكور تابعي، ذكره ابن حبان في الثقات. والحديث صحح إسناده الشيخ أحمد شاكر، لكن قال: إن العباس راوي هذا الحديث ليس هو ابن ميناء، بل هو رجل آخر، وهو عباس ابن عبدالرحمن بن حميد القرشي من بني أسد بن عبدالعزى المكي، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل. قلت: ويؤيد حديث أبي هريرة هذا حديث أنس الآتي، والحديثان وإن كانا مطلقين غير مقيدين بآخر ساعة إلا أنهما يحملان على الأحاديث المقيدة بأنها آخر ساعة بعد العصر، فإن حمل المطلق على المقيد متعين، كما تقرر في الأصول. (قال أبوهريرة فقلت) لعبد الله بن سلام. (وكيف تكون) أي تلك الساعة. (وقد قال) الواو حالية. (رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي شأنها. (وهو يصلي فيها) قال القاري: وفي نسخة: وهو يصلي، وتلك الساعة لا يصلى فيها. قلت هكذا وقع في الموطأ وسنن أبي داود وجامع الترمذي، وكذا نقله الجزري (ج10ص172) ولفظ النسائي: وهو في الصلاة، وليست تلك الساعة صلاة. (فقال عبدالله بن سلام) في تأويل قوله صلى الله عليه وسلم. (من جلس مجلسا) أي جلوسا أو مكان الجلوس. (ينتظر الصلاة) أي في هذا المجلس. (فهو في صلاة) أي حكما. (حتى يصلي) أي حقيقة يعني يفرغ من الصلاة، ولفظ النسائي: من صلى وجلس ينتظر الصلاة، فهو في صلاة حتى تأتيه الصلاة التي تليها. (فقلت: بلى) أي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. (قال) أي عبدالله بن سلام. (فهو ذلك) أي هذا هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي. وقال القاري: فهو أي المراد بالصلاة ذلك أي الانتظار. ولفظ النسائي: فهو كذلك أي فالجالس في تلك الساعة منتظرا كذلك أي مصل. قال السيوطي في التنوير: هذا أي تأويل عبدالله بن سلام مجاز بعيد، ورد عليه الزرقاني بأنه بعد الثبوت وبعد قبول الصحابي إياه لا بعد
(6/301)
فيه ولا ريب أن الداعي آخر
ساعة بعد العصر عازم على المغرب. (رواه مالك وأبوداود) وسكت عنه. (والترمذي) وقال:
هذا حديث حسن صحيح، ونقل المنذري كلامه هذا وأقره. (والنسائي الخ) وأخرجه أيضا ابن
خزيمة وابن حبان والحاكم (ج1ص278) والبيهقي (ج3ص250، 251).
1370-(7) وعن أنس، قال: قال رسول الله ?: ((التمسوا الساعة التي ترجى في يوم
الجمعة بعد العصر إلى غيبوبة الشمس)). رواه الترمذي.
1371-(8) وعن أوس بن أوس، قال: قال رسول الله ?: ((إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة،
فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة،
(6/302)
1370- قوله: (التمسوا) أي أطلبوا، ورواه الطبراني بلفظ: ابتغوا. (الساعة التي ترجى) بصيغة المجهول أي تطمع إجابة الدعاء فيها. (بعد العصر إلى غيبوبة الشمس) هذا يؤيد قول عبدالله بن سلام، وهو محمول على أن المراد بها آخر ساعة بعد العصر، كما تقدم. وقد اقتصر المصنف على ذكر قولين في تعيين ساعة الجمعة، كالبغوي كأنهما رأيا هذين القولين أرجح وأقوى من غيرهما دليلا. (رواه الترمذي) أي من طريق محمد بن أبي حميد عن موسى بن وردان عن أنس، قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وقد روي عن النبي ? من غير هذا الوجه، ثم تكلم في محمد بن أبي حميد بأنه ضعف من قبل حفظه، وقال: هو منكر الحديث. قلت: ورواه الطبراني في الأوسط من طريق ابن لهيعة، كما في الترغيب (ج1ص216) ومجمع الزوائد (ج2ص166) وزاد في آخره: وهي قدر هذا يعني قبضة. قال المنذري: وإسناده أصلح من إسناد الترمذي-انتهى. ورواه ابن جرير من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفا، ومن طريق صفوان بن سليم عن أبي سلمة عن أبي سعيد مرفوعا بلفظ: فالتمسوها بعد العصر. وذكر ابن عبدالبر: إن قوله: "فالتمسوها" إلى آخره، مدرج في الخبر من قول أبي سلمة. ورواه ابن مندة من هذا الوجه وزاد: أغفل ما يكون الناس. ورواه أبونعيم في الحلية من طريق الشيباني عن عون بن عبدالله عن أخيه عبيدالله، كقول ابن عباس، كذا في الفتح.
(6/303)
1371- قوله: (وعن أوس بن أوس)
الثقفي، صحابي، سكن دمشق، ومات بها، له حديثان أحدهما في الصيام والآخر في الجمعة.
(إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة) فيه إشارة إلى أن يوم عرفة أفضل أو مساو؛ لأن
زيادة "من" تدل على أن يوم الجمعة من جملة الأفاضل من الأيام، وليس هو
أفضل الأيام مطلقا. (فيه خلق آدم) أي طينته. (وفيه) أي في جنسه. (قبض) أي روحه.
(وفيه النفخة) قال الطيبي: أي النفخة الأولى، فإنها مبدأ قيام الساعة، ومقدم
النشأة الثانية. (وفيه الصعقة) أي الصيحة. والمراد بها الصوت الهائل الذي يموت
الإنسان من هوله، وهي النفخة الأولى. قال تعالى: ?ونفخ في الصور فصعق من في
السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله? [39: 68] فالتكرار باعتبار تغاير الوصفين.
وقال القاري: المراد بالنفخة الثانية، وبالصعقة النفخة الأولى، قال: وهذا أولى لما
فيه من التغاير الحقيقي، وإنما سميت النفخة الأولى بالصعقة؛ لأنها تترتب عليها، وبهذا
فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي. قالوا: يا رسول الله ! وكيف
تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟
(6/304)
الوصف تتميز عن الثانية. وقيل: إشارة إلى صعقة موسى عليه السلام. (فأكثروا علي من الصلاة فيه) أي في يوم الجمعة، وهو تفريع على كون الجمعة من أفضل الأيام. (فإن صلاتكم معروضة علي) يعني على وجه القبول فيه وإلا فهي دائما تعرض عليه بواسطة الملائكة، قاله القاري. وقال السندي: هذا تعليل للتفريع أي هي معروضة علي كعرض الهدايا على من أهديت إليه، فهي من الأعمال الفاضلة ومقربة لكم إلي، كما يقرب الهدية المهدي إليه، وإذا كانت بهذه المثابة، فينبغي إكثار باقي الأوقات الفاضلة، فإن العمل الصالح يزيد فضلا بواسطة فضل الوقت، وعلى هذا لا حاجة إلى تقييد العرض بيوم الجمعة، كما قيل. وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين بعد ذكر أحاديث إبلاغ السلام إليه ? وعرض الصلاة عليه ما لفظه: وظاهر الجميع أن كل صلاة وسلام تبلغه ?، وسواء كان ذلك في يوم الجمعة أو في غيره من الأيام والليالي، فلعل في العرض عليه زيادة على مجرد الإبلاغ إليه، ويكون ذلك من خصائص الصلاة عليه ? في يوم الجمعة. (وقد أرمت) جملة حالية بفتح الراء وسكون الميم وفتح التاء المخففة على وزن ضربت، ويروى بكسر الراء أي بليت. وقيل: أرمت على البناء للمفعول من الأرم، وهو الأكل أي صرت مأكولا للأرض. وقيل: أرمت بالميم المشددة والتاء الساكنة أي أرمت العظام وصارت رميما من رم الميت وأرم إذا بلى، ويروي أرممت بالميمين أي صرت رميما، فعلى هذا يجوز أن يكون أرمت بحذف إحدى الميمين، كظلت ثم كسرت الراء لالتقاء الساكنين أو فتحت بالأخفية أو بالنقلية، وفي ضبطه أقوال أخر. قال السندي: لا بد ههنا أولا من تحقيق لفظ أرمت، ثم النظر في السؤال والجواب وبيان انطباقها، فأما أرمت بفتح الراء كضربت أصله أرممت من أرم بتشديد الميم إذا صار رميما، فحذفوا إحدى الميمين، كما في ظلت، ولفظه: إما على الخطاب أو الغيبة على أنه مستند إلى العظام. وقيل: من أرم بتخفيف
(6/305)
الميم أي فني، وكثيرا ما يروى
بتشديد الميم والخطاب، فقيل هي لغة ناس من العرب. وقيل: بل خطأ والصواب سكون التاء
لتأنيث العظام، أو أرممت بفك الإدغام. وأما تحقيق السؤال فوجهه أنهم فهموا عموم
الخطاب في قوله: فإن صلاتكم معروضة للحاضرين ولمن يأتي بعده ?، ورأوا أن الموت في
الظاهر مانع عن السماع والعرض، فسألوا عن كيفية عرض صلاة من يصلي بعد الموت، وعلى
هذا فقولهم: وقد أرمت كناية عن الموت، والجواب بقوله ?: إن الله حرم الخ. كناية عن
كون الأنبياء أحياء في قبورهم، أو بيان لما هو خرق للعبادة المستمرة بطريق التمثيل
أي ليجعلوه مقيسا عليه للعرض بعد الموت الذي هو خلاف العادة المستمرة، ويحتمل أن
المانع من العرض عندهم فناء البدن لا مجرد الموت ومفارقة الروح، لجواز عود الروح
إلى البدن ما دام سالما عن التغير الكثير، فأشار ? إلى
قال: يقولون: بليت، قال: إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء)). رواه أبوداود،
والنسائي، وابن ماجه، والدارمي، والبيهقي في الدعوات الكبير.
(6/306)
بقاء بدون الأنبياء عليهم السلام، وهذا هو ظاهر السؤال والجواب، بقي أن السؤال منهم على هذا الوجه يشعر بأنهم ما علموا أن العرض على الروح المجرد ممكن، فينبغي أن يبين لهم النبي ? أنه يمكن العرض على الروح المجرد ليعلموا ذلك، ويمكن الجواب عن ذلك بأن سؤالهم يقتضي أمرين مساواة الأنبياء عليهم السلام وغيرهم بعد الموت، وأن العرض على الروح المجرد لا يمكن والاعتقاد الأول أسوء فأرشدهم ? بالجواب إلى ما يزيله وآخر ما يزيل الثاني إلى وقت يناسبه تدريجا في التعليم. والله أعلم. (قال) أي أوس. (يقولون) أي الصحابة أي يريدون بهذا القول. (بليت) بفتح الباء وكسر اللام أي صرت باليا. (قال) أي رسول الله ?. (إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء) أي منعها من أن تأكل أجسادهم، فإن الأنبياء أحياء في قبورهم، لكن بحياة برزخية ليست نظير الحياة المعهودة، وهي أقوى وأكمل من حياة الشهداء. والحديث يدل على مشروعية الإكثار من الصلاة على النبي ? يوم الجمعة، وأنها تعرض عليه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته. (رواه أبوداود والنسائي) في الجمعة. (وابن ماجه) في الجنائز، وروى هو في الجمعة عن شداد بن أوس بمثل حديث أوس بن أوس وهو خطأ، والصواب ما وقع في الجنائز أي عن أوس بن أوس. (والدارمي والبيهقي في الدعوات الكبير) وأخرجه أيضا أحمد (ج4ص8) وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم في مستدركه (ج1ص278) وقال: صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي. وقال النووي: إسناده صحيح، وأخرجه البيهقي (ج3ص248) في السنن من طريق الحاكم، وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: له علة دقيقة، أشار إليها البخاري وغيره، وقد جمعت طرقه في جزء-انتهى. وقال الشوكاني في النيل: ذكره ابن أبي حاتم في العلل وحكى عن أبيه أنه حديث منكر؛ لأن في إسناده عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، وهو منكر الحديث. وذكر البخاري في تأريخه: أنه عبدالرحمن بن يزيد بن تميم. وقال ابن العربي: إن الحديث لم
(6/307)
يثبت-انتهى. قلت: هذا الحديث
من رواية عبدالرحمن بن يزيد بن جابر لا من رواية عبدالرحمن بن يزيد بن تميم،
والأول ثقة، وثقه أحمد وابن معين والعجلي وابن سعد والنسائي ويعقوب بن سفيان
وأبوداود وابنه أبوبكر بن أبي داود وابن حبان وأبوحاتم والذهبي والحافظ. والثاني
أي ابن تميم ضعيف منكر الحديث، فالحق أن الحديث صحيح، ومن قال أنه ضعيف أو منكر،
فكأنه اشتبه الأمر عليه لظنه أن الحديث من رواية ابن تميم. وقال ابن دحية: أنه
صحيح بنقل العدل عن العدل، ومن قال: إنه منكر أو غريب لعله خفية به، فقد استروح؛
لأن الدارقطني ردها.
1372-(9) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ?: اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم
المشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة، وما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل منه،
فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعوا الله بخير إلا استجاب الله له، ولا يستعيذ من
شيء إلا أعاذه منه)). رواه أحمد، والترمذي،
(6/308)
1372- قوله: (اليوم الموعود) أي الذي ذكره الله في سورة البروج. (يوم القيامة)؛ لأن الله وعد الناس بإتيانه، أو لأنه وعد المؤمنين بعد إتيانه بنعيم الجنة. (واليوم المشهود يوم عرفة)؛ لأن المؤمنين يشهدونه أي يحضرونه ويجتمعون فيه. (والشاهد يوم الجمعة)؛ لأنه يشهد لمن حضر صلاته، أو لأنه يشهد على كل عامل بما عمل فيه. قال في اللمعات: إنما سمي يوم عرفة مشهودا ويوم الجمعة شاهدا؛ لأن الخلائق يذهبون إلى عرفة ويشهدون فيها فكان مشهودا، وفي يوم الجمعة هم على مكانهم فكان اليوم جاءهم وحضر فكان شاهدا. واعلم أنه وقع الإجماع على أن المراد باليوم الموعود المذكور في سورة البروج، هو يوم القيامة، واختلفوا في تفسير الشاهد والمشهود على أقوال، والراجح ما ذهب إليه الجمهور من الصحابة والتابعين. ومن بعدهم أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة لحديث الباب، وهو وإن كان ضعيفا فله شاهد من حديث أبي مالك الأشعري عند ابن جرير والطبراني وابن مردويه، وفيه إسماعيل بن عياش روى عن ضمضم بن زرعة الحمصي، وإسماعيل صدوق في روايته عن أهل بلده، ومن حديث جبير بن مطعم عند ابن عساكر وابن مردويه، ومن مرسل سعيد بن المسيب عند سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه. (وما طلعت الشمس ولا غربت) في الثاني زيادة تأكيد للأول. (على يوم) أي في يوم أو على موجود يوم وساكنه. (أفضل منه) أي من يوم الجمعة. (عبد مؤمن) قال القاري: من باب التفنن في العبارة فبالحديثين علم أن المؤمن والمسلم واحد في الشريعة، كقوله تعالى: ?فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين? [51: 36]. (يدعو الله بخير) فيه تفسير لقوله: "يصلي" مع زيادة التقييد بالخير. (إلا استجاب الله له) أي بنوع من الإجابة. (ولا يستعيذ من شيء) أي من شر نفس أو شيطان أو إنسان أو معصية أو بلية أو عار أو نار. (إلا أعاذه منه) أي أجاره بنوع من الإعاذة. والحديث
(6/309)
من أدلة فضل يوم الجمعة. (رواه
أحمد) (ج2ص298) مقتصرا على تفسير الآية موقوفا من طريق يونس بن عبيد عن عمار مولى
بني هاشم عن أبي هريرة من قوله، ومرفوعا من طريق ابن جدعان عن عمار عن أبي هريرة،
وكذا أخرجه البيهقي (ج3ص170). قال ابن كثير: والموقوف أشبه. (والترمذي) في التفسير
من طريق موسى بن عبيدة الربذي عن أيوب بن خالد عن عبدالله بن رافع عن أبي هريرة،
أخرجه أيضا من هذا الطريق ابن أبي حاتم
وقال: هذا حديث غريب لا يعرف إلا من حديث موسى بن عبيدة، وهو يضعف.
?الفصل الثالث?
1373-(10) عن أبي لبابة بن عبدالمنذر، قال: قال النبي ?: ((إن يوم الجمعة سيد
الأيام وأعظمها عند الله، وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر، فيه خمس خلال:
خلق الله فيه آدم، وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفى الله آدم، وفيه ساعة
لا يسأل العبد فيها شيئا
(6/310)
وابن خزيمة. (وقال هذا حديث غريب لا يعرف) وفي نسخ الترمذي الحاضرة عندنا: هذا حديث لا نعرفه. (إلا من حديث موسى بن عبيدة) بضم العين المهملة وفتح الموحدة. (وهو يضعف) بصيغة المجهول أي في الحديث. قال الترمذي: ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره من قبل حفظه-انتهى. قلت: ضعفه أيضا أحمد وابن معين والنسائي وابن المديني وابن حبان وغيرهم. وقال الساجي وأبوحاتم: منكر الحديث. وقال أبوزرعة: ليس بقوي الأحاديث وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث وليس بحجة. وقال وكيع: كان ثقة وقد حدث عن عبدالله بن دينار أحاديث لم يتابع عليها. وقال أبوبكر البزار: موسى بن عبيدة رجل مفيد، وليس بالحافظ، إنما قصر به عن حفظ الحديث شغله بالعبادة. وقال الآجري عن أبي داود: أحاديثه مستوية إلا عن عبدالله بن دينار. وقال ابن معين: ليس بالكذوب، ولكنه روى عن ابن دينار أحاديث مناكير، كذا في تهذيب التهذيب. والظاهر أن موسى هذا ضعيف من قبل حفظه لا سيما في عبدالله بن دينار ومع ذلك فهو صدوق، وقد تأيد حديثه هذا بحديث أبي مالك الأشعري وجبير بن مطعم ومرسل ابن المسيب، وبالأحاديث التي رويت في فضل الجمعة وساعة الإجابة.
(6/311)
1373- قوله: (وعن أبي لبابة)
بضم اللام وخفة موحدة أولى، الأوسي الأنصاري المدني، اسمه بشير، أو رفاعة بن
عبدالمنذر، صحابي مشهور. قال أبوأحمد الحاكم: يقال شهد بدرا، ويقال رده النبي ?
حين خرج إلى بدر من الروحاء، واستعمله على المدينة، وضرب له بسهمه وأجره، فكان كمن
شهدها ثم شهد أحدا وما بعدها وكانت معه رواية بني عمرو بن عوف في الفتح، وكان أحد
النقباء شهد العقبة، له خمسة عشر حديثا، اتفقا على حديث، مات في خلافة علي. وقيل:
بعد الخمسين. (إن يوم الجمعة سيد الأيام) أي أفضل أيام الأسبوع، أو أريد بالسيد
المتبوع، كما قال: والناس لنا تبع. (وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر)
قيل: أي باعتبار كونه يوم عبادة صرف، وهما يوم فرح وسرور، وفيه إشارة إلى تساوي
يومي الجمعة وعرفة أو أفضلية عرفة. (فيه) أي في نفس يوم الجمعة. (خمس خلال) بكسر
الخاء المعجمة أي خصال مختصة به. (خلق الله فيه آدم) أي طينته. (وأهبط الله فيه
آدم إلى الأرض) أي أنزله من الجنة إلى الأرض. (لا يسأل العبد) اللام للعهد أي
العبد المسلم. (فيها شيئا)
إلا أعطاه، ما لم يسأل حراما، وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض
ولا رياح ولا جبال ولا بحر إلا هو مشفق من يوم الجمعة). رواه ابن ماجه.
1374-(11) وروى أحمد عن سعد بن معاذ. ((أن رجلا من الأنصار أتى النبي ? فقال:
(6/312)
أي مما يليق أن يدعو به المسلم، ويسأل فيه ربه تعالى. (إلا أعطاه) أي الله إياه. (ما لم يسأل حراما) أي ما لم يكن مسؤله ممنوعا. (ما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا بحر) أي ولا من دابة، كما تقدم. (إلا هو مشفق) أي خائف من الإشفاق بمعنى الخوف، ولفظ ابن ماجه وأحمد: إلا وهن يشفقن. (من يوم الجمعة) أي خوفا من فجأة الساعة، وفيه أن سائر المخلوقات تعلم الأيام بعينها، وأنها تعلم أن القيامة تقوم يوم الجمعة، ولا تعلم الوقائع التي بينها وبين القيامة، أو ما تعلم أن تلك الوقائع ما وجدت إلى الآن، لكن هذا بالنظر إلى الملك المقرب لا يخلو عن خفاء. والأقرب أن غلبة الخوف والخشية تنسيهم ذلك. (رواه ابن ماجه) وكذا أحمد (ج3ص430) بلفظ واحد. قال في الزوائد: إسناده حسن، وكذا قال العراقي، كما في النيل. وقال المنذري في الترغيب: في إسنادهما (أي أحمد وابن ماجه) عبدالله بن محمد بن عقيل، وهو ممن احتج به أحمد وغيره.
(6/313)
1374- قوله: (وروى أحمد عن سعد
بن معاذ) كذا وقع في متن المرقاة وغيره، ووقع في بعض النسخ: سعيد بن معاذ، وكلاهما
خطأ من النساخ؛ لأنه ليس في الرواة أحد اسمه سعيد بن معاذ، ولأن هذا الحديث من
مرويات سعد بن معاذ، بل هو من مسانيد سعد بن عبادة، فالصواب سعد بن عبادة، كما وقع
في مسند الإمام أحمد (ج5ص284) ومجمع الزوائد (ج2ص163) والترغيب للمنذري (ج1ص214)
والفتح (ج4ص503) قال المنذري بعد ذكر حديث أبي لبابة عن المسند وسنن ابن ماجه:
ورواه أحمد أيضا والبزار من طريق عبدالله بن محمد بن عقيل أيضا من حديث سعد بن
عبادة، وبقية رواته ثقات مشهورون-انتهى. وسعد بن عبادة بعين مضمومة وخفة موحدة،
ابن دليم بن حارثة أبوثابت الأنصاري الساعدي الخزرجي، سيدهم، وصاحب رأية الأنصار
في المشاهد كلها. اختلف في شهوده بدرا فوقع في صحيح مسلم أنه شهدها، وكذا قاله ابن
عيينة والبخاري وأبوحاتم وأبوأحمد الحاكم وابن حبان، والمعروف عند أهل المغازي أنه
تهيأ للخروج إلى بدر فنهش فأقام، وهو من نقباء العقبة الاثني عشر، وكان أحد
الأجواد، يكتب بالعربية ويحسن العوم والرمي، وكان من أحسن ذلك يسمى الكامل، وكان
كثير الصدقات جدا، حكايات جوده كثيرة مشهورة، تخلف عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه
وخرج عن المدينة، ولم يرجع إليها حتى مات بحوران من أرض الشام لسنتين ونصف من
خلافة عمر سنة (15) وقيل: (14) وقيل: (11) ولم يختلفوا أنه وجد ميتا في مغتسلة،
وقد أخضر جسده ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلا يقول ولا يرونه:
أخبرنا عن يوم الجمعة ماذا فيه من الخير؟ قال: فيه خمس خلال)). وساق إلى آخر
الحديث.
1375-(12) وعن أبي هريرة، قال: ((قيل للنبي ?: لأي شيء سمي يوم الجمعة؟ قال: لأن
فيها طبعت طينة أبيك آدم، وفيها الصعقة والبعثة وفيها البطشة، وفي آخر ثلاث ساعات
منها ساعة من دعا الله فيها استجيب له)).
(6/314)
نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن
عبادة، ورمينا بسهمين فلم نخط فؤاده، فيقال: إن الجن قتلته. (أخبرنا عن يوم الجعة)
أي عن خواصه. ( ماذا فيه من الخير قال: فيه خمس خلال) قال الطيبي: يدل على أن هذه
الخلال خيرات توجب فضيلة اليوم. (وساق) أي ذكرها مرتبا. (إلى آخر الحديث) والظاهر
أنه ليس المراد بخمس خلال الحصر لما تقدم أن ابن القيم ذكر في الهدي ثلاثا وثلاثين
خصوصية للجمعة.
1375- قوله: (لأي شيء سمي) أي يوم الجمعة بالرفع. (يوم الجمعة) بالنصب على أنه
مفعول ثان، وذكره المنذري في الترغيب، والهيثمي في الزوائد عن المسند بلفظ: أي شيء
يوم الجمعة. (لأن فيها) أنثه نظرا للمضاف إليه. (طبعت) أي خمرت وجمعت. وقيل: جعلت
صلصالا كالفخار. (طينة أبيك) الطين بالكسر معروف وبالهاء قطعة منه. (آدم) أي الذي
هو مجموعة العالم، والخطاب للقائل السائل. (وفيها الصعقة) أي الصيحة الأولى التي
يموت بها جميع أهل الدنيا. (والبعثة) بكسر الباء وتفتح أي النفخة الثانية التي بها
تحيا جميع الأجساد الفانية. (وفيها البطشة) أي الأخذة الشديدة يوم القيامة الطامة
التي للخلائق عامة، والمراد بها المؤاخذة بعد البعث والحشر. قال القاري: وما قيل
إنها يوم القيامة، فهو ضعيف؛ لأن التأسيس أولى من التأكيد. قال الطيبي: سئل ? عن
علة تسمية الجمعة، فأجاب بأنه إنما سمي بها لاجتماع الأمور العظام وجلائل الشؤون
فيها-انتهى. ولا يخفى أن فيما قدمناه إشارة إلى أن معنى الجمعية موجودة في كل من
الأمور المذكورة مع قطع النظر عن الهيئة المجموعية. (وفي آخر ثلاث ساعات منها) أي
من يوم الجمعة. (ساعة) قال الطيبي: وفي هذه تجريدية، إذا الساعة هي نفس آخر ثلاث
ساعات، كما في قولك: في البيضة عشرون منا من حديد والبيضة نفس الأرطال-انتهى. قال
القاري: ولعل العدول عن أن يقول: وفي آخرها ساعة إشارة إلى المحافظة على الساعتين
قبل تلك الساعة لقربها-انتهى. وعلى هذا حديث أبي هريرة هذا
(6/315)
يكون موافقا للأحاديث المصرحة
بأنها آخر ساعة بعد العصر، وهو الظاهر عندي، ويظهر من كلام الحافظ أنه فهم أن
المراد منه آخر الساعة الثالثة من أول النهار حيث قال: القول الحادي عشر أنها آخر
الساعة الثالثة من النهار، حكاه صاحب المغني (ج2ص355)، وهو في مسند الإمام أحمد من
طريق علي بن طلحة عن أبي هريرة مرفوعا، فذكر حديث الباب ثم نقل عن المحب الطبري
أنه قال: قوله في آخر ثلاث ساعات
رواه أحمد.
1376-(13) وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله ?: ((أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة،
فإنه مشهود يشهده الملائكة، وإن أحدا لم يصل علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ
منها. قال قلت: وبعد الموت؟ قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء،
فنبي الله حي يرزق))
يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون المراد الساعة الأخيرة من الثلاثة الأول. ثانيهما أن
يكون المراد أن في آخر كل من الثلاثة ساعة إجابة، فيكون فيه تجوز لإطلاق الساعة
على بعض الساعة-انتهى. (رواه أحمد) من طريق علي بن أبي طلحة عن أبي هريرة، وفي
إسناده فرج بن فضالة، وهو ضعيف، وعلي لم يسمع من أبي هريرة، قاله الحافظ، ووهم
الهيثمي إذ قال: رجاله رجال الصحيح، ووهم المنذري أيضا حيث قال: رجاله محتج بهم في
الصحيح.
(6/316)
1376- قوله: (فإنه) أي يوم الجمعة. (مشهود يشهده) قال القاري: بالياء والتاء. وفي ابن ماجه: تشهده بالتاء، وكذا نقله المجد بن تيمية والمنذري. (الملائكة) هذا لا ينافي ما تقدم من أن يوم الجمعة شاهد؛ لأن إطلاق المشهود عليه هنا باعتبار آخر، فهو شاهد ومشهود، كما قيل في حقه تعالى: هو الحامد، وهو المحمود، مع أنه يحتمل أن يكون ضمير فإنه في هذا الحديث راجعا إلى إكثار الصلاة المفهوم من "أكثروا"، ويؤيده السياق المكتنف بالسباق واللحاق. (إلا عرضت) بصيغة المجهول. (على صلاته) بواسطة الملائكة أي في كل وقت، فعرضها في يوم الجمعة الذي هو أفضل الأيام أولى، ويحتمل أن يكون ذلك العرض مخصوصا بيوم الجمعة أي وجوبا والبتة على وجه الكمال كذا في اللمعات. (حتى يفرغ منها) أي من الصلاة يعني الصلوات كلها معروضة على وإن طالت المدة من ابتداء شروعه فيها إلى الفراغ منها. (قلت وبعد الموت) أي أيضا، والاستفهام مقدر "أو" وبعد الموت ما الحكم فيه. (إن الله حرم على الأرض) أي منعها منعا كليا. (أن تأكل أجساد الأنبياء) فلا فرق لهم في الحالين. وفيه إشارة إلى أن العرض على مجموع الروح والجسد منهم بخلاف غيرهم. (فنبي الله) يحتمل الإضافة الاستغراق، ويحتمل أنها للعهد، والمراد نفسه، وهو الظاهر. وقال القاري: يحتمل الجنس والاختصاص بالفرد الأكمل، والظاهر هو الأول؛ لأنه رأى موسى قائما يصلي في قبره، وكذلك إبراهيم، كما في حديث مسلم. (حي يرزق) رزقا معنويا فإن الله تعالى قال في حق الشهداء من أمته: ?بل أحياء عند ربهم يرزقون? فكيف سيدهم بل رئيسهم؛ لأنه حصل له أيضا مرتبة الشهادة مع مزيد السعادة بأكل الشأة المسمومة وعود سمها، وإنما عصمة الله من الشهادة الحقيقية للبشاعة الصورية ولإظهار القدرة الكاملة بحفظ فرد من بين أعداءه من شر البرية، ولا ينافيه أن يكون هناك رزق حسي أيضا، وهو الظاهر المتبادر، قاله القاري. ثم هذه الجملة يحتمل أن
(6/317)
تكون من قول النبي ?
رواه ابن ماجه.
1377-(14) وعن عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله ?: ((ما من مسلم يموت يوم
الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر)). رواه أحمد، والترمذي، وقال:
هذا حديث غريب، وليس إسناده بمتصل.
نتيجة للكلام، ويحتمل أن تكون من قول أبي الدرداء استفادة من كلامه وتفريعا عليه ?
، وهذا هو الظاهر. وفي الحديث مشروعية الإكثار من الصلاة على النبي ?يوم الجمعة، وأنها
تعرض عليه ?، وأنه حي في قبره. وقد ذهب جماعة من العلماء ومنهم البيهقي والسيوطي
إلى أن رسول الله ? حي بعد وفاته، وأنه يسير بطاعات أمته، وعندنا حياته هذه هي نوع
حياة برزخية وليست نظير الحياة الدنيوية المعهودة، فإن روحه ? في مستقرها في عليين
مع الرفيق الأعلى، ولها تعلق ببدنه الطيب قوي فوق تعلق روح الشهيد بجسده، فلا يثبت
لها أحكام الحياة الدنيوية إلا ما وقع ذكره في الأحاديث الصحيحة، وارجع للبسط
والتحقيق إلى الصارم المنكى (ص196- 204) واقتضاء الصراط المستقيم، وصيانة الإنسان.
(رواه ابن ماجه) في آخر الجنائز. قال العراقي في شرح الترمذي، والحافظ في تهذيب
التهذيب (ج3ص398): رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعا؛ لأن في إسناده زيد بن أيمن عن
عبادة بن نسي عن أبي الدرداء. قال البخاري: زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي مرسل،
ونقل السندي عن البوصيري أنه قال في الزوائد: هذا الحديث صحيح إلا أنه منقطع في
موضعين؛ لأن عبادة روايته عن أبي الدرداء مرسلة، قاله العلاء وزيد بن أيمن عن
عبادة مرسلة، قاله البخاري-انتهى.
(6/318)
1377- قوله: (ما من مسلم) قال
القاري: زيادة "من" لإفادة العموم، فيشمل الفاسق إلا أن يقال إن التنوين
للتعظيم. (يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة) الظاهر أن "أو" للتنويع لا
للشك. (إلا وقاه الله) أي حفظه. (فتنة القبر) أي عذابه وسؤاله، وهو يحتمل الإطلاق
والتقييد، والأول هو الأولى بالنسبة إلى فضل المولى، وهذا يدل على أن شرف الزمان
له تأثير عظيم، كما أن فضل المكان له أثر جسيم. (رواه أحمد) (ج2ص169). (والترمذي)
في الجنائز، كلاهما من طريق سعيد بن أبي هلال عن ربيعة بن سيف عن عبدالله بن عمرو.
(وقال) أي الترمذي. (هذا حديث غريب وليس إسناده بمتصل)؛ لأن ربيعة بن سيف إنما
يروي عن أبي عبدالرحمن الحبلى عن عبدالله بن عمرو. قال الترمذي: ولا نعرف لربيعة
بن سيف سماعا من عبدالله بن عمرو-انتهى. وذكر الحافظ كلام الترمذي هذا في التهذيب
وأقره، قال شيخنا في شرح الترمذي: فالحديث ضعيف؛ لانقطاعه، لكن له شواهد. قال
الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: في إسناده ضعف. وأخرجه أبويعلى من حديث أنس
نحوه،
1378-(15) وعن ابن عباس، أنه قرأ: ?اليوم أكملت لكم دينكم? الآية،
(6/319)
وإسناده أضعف-انتهى. وقال الهيثمي: في سند حديث أنس يزيد الرقاشى، وفيه كلام-انتهى. وقال القاري: ذكره السيوطي في باب من لا يسأل في القبر، وقال: أخرجه أحمد والترمذي وحسنه، وابن أبي الدنيا عن ابن عمرو، ثم قال: وأخرجه ابن وهب في جامعه والبيهقي أيضا من طريق آخر عنه بلفظ: إلا برئ من فتنة القبر. وأخرجه البيهقي أيضا من طريق ثالثة عنه موقوفا بلفظ: وقي الفتان-انتهى. قلت: لم أجد عند الترمذي تحسينه فلعله وهم وقع في النسخة التي كانت بيد السيوطي، لكن الحديث رواه أحمد من طريق آخر صحيح (ج2ص176، 219) وجاء نحوه أيضا من حديث جابر رواه أبونعيم في الحلية (ج3ص155، 156) بإسناد فيه ضعف. قال ابن القيم: حديث جابر تفرد به عمرو بن موسى الوجيهي، وهو مدني ضعيف-انتهى. قال السيوطي: قال القرطبي هذه الأحاديث أي التي تدل على نفي سؤال القبر لا تعارض أحاديث السؤال السابقة أي لا تعارضها بل تخصها وتبين من لا يسئل في قبره ولا يفتن فيه ممن يجري عليه السؤال ويقاسي تلك الأهوال، وهذا كله ليس فيه مدخل للقياس ولا مجال للنظر فيه، وإنما فيه التسليم والإنقياد لقول الصادق المصدوق. قال الحكيم الترمذي: ومن مات يوم الجمعة فقد انكشف له الغطاء عما له عند الله؛ لأن يوم الجمعة لا تسجر فيه جهنم وتغلق أبوابها، ولا يعمل سلطان النار فيه ما يعمل في سائر الأيام، فإذا قبض الله عبدا من عبيده فوافق قبضه يوم الجمعة كان ذلك دليلا لسعادته وحسن مآبه، وأنه لا يقبض في ذلك اليوم إلا من كتب له السعادة عنده، فلذلك يقيه فتنة القبر؛ لأن سببها إنما هو تمييز المنافق من المؤمن. قلت: ومن تتمة ذلك أن من مات يوم الجمعة له أجر شهيد، فكان على قاعدة الشهداء في عدم السؤال، كما أخرجه أبونعيم في الحلية عن جابر قال: قال رسول الله ?: من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة أجير من عذاب القبر، وجاء يوم القيامة وعليه طابع الشهداء. وأخرج حميد في ترغيبه عن إياس بن بكير:
(6/320)
أن رسول الله ? قال: من مات
يوم الجمعة كتب له أجر شهيد ووقي فتنة القبر. وأخرج من طريق ابن جريج عن عطاء قال:
قال رسول الله ? ما من مسلم أو مسلمة يموت في يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقي
عذاب القبر وفتنة القبر، ولقي الله ولا حساب عليه، وجاء يوم القيامة ومعه شهود
يشهدون له أو طابع، وهذا الحديث لطيف صرح فيه بنفي الفتنة والعذاب معا-انتهى كلام
السيوطي. قال ابن القيم في حديث جابر: تفرد بع عمر بن موسى الوجيهي، وهو مدني،
ضعيف.
1378- قوله: (اليوم أكملت لكم دينكم) أي ما تحتاجون إليه في تكليفكم من تعليم
الحلال والحرام وقواعد العقائد وقوانين القياس وأصول الاجتهاد. وقيل: أي أحكامه
وفرائضه وشرائعه، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام. (الآية) وهي قوله. ?وأتممت عليكم
نعمتي? أي بالهداية والتوفيق، أو بإكمال الدين، أو بفتح مكة
وعنده يهودي، فقال: لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذناها عيدا، فقال ابن عباس: فإنها
نزلت في يوم عيدين، في يوم جمعة، ويوم عرفة)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن
غريب.
(6/321)
ودخولها آمنين. وقيل: أي أمور دنياكم. ?ورضيت? أي اخترت. ?لكم الإسلام دينا? حال أي اخترته لكم من بين الأديان وآذنتكم بأنه هو الدين المرضى وحده. (وعنده) أي وعند ابن عباس. (يهودي) أي حاضر. وفي حديث عمر بن الخطاب عند البخاري في كتاب الإيمان: أن رجلا من اليهود قال له أي لعمر. قال الحافظ: هذا الرجل، هو كعب الأحبار، بين ذلك مسدد في مسنده، والطبري في تفسيره، والطبراني في الأوسط، وللبخاري في المغازى: أن ناسا من اليهود، وله في التفسير: قالت اليهود، فيحمل على أن أنهم كانوا حين سؤال كعب عن ذلك جماعة، وتكلم كعب على لسانهم وأطلق على كعب هذه الصفة إشارة إلى أن سؤاله عن ذلك وقع قبل إسلامه؛ لأن إسلامه كان في خلافة عمر على المشهور، وأطلق عليه ذلك باعتبار ما مضى. (فقال) أي اليهودي. (لاتخذناها) أي جعلنا يوم نزولها. (عيدا) نعظمه في كل سنة ونسر فيه لعظم ما حصل فيه من كمال الدين. (فإنها) أي الآية. (نزلت) أي علينا. (في يوم عيدين) أي وقت عيدين لنا. (في يوم جمعة ويوم عرفة) وفي بعض نسخ المشكاة وجامع الترمذي: في يوم الجمعة أي معرفا باللام، وهو بدل مما قبله بإعادة الجار، يعني أنزلها الله في يومي عيد لنا فضلا وإحسانا من غير أن نجعلهما عيدين بأنفسنا، أو قد تضاعف السرور لنا بإنزالها فإنا نعظم الوقت الذي نزلت فيه مرتين وإن كان نزولها في الوقت المشتمل على اليومين، فإنها نزلت على النبي ? بعرفة يوم الجمعة. وفي حديث عمر عند الطبري: نزلت يوم جمعة يوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد. والطبراني: وهما لنا عيدان. قال الطيبي: في جواب ابن عباس لليهودي إشارة إلى الزيادة في الجواب، يعني ما اتخذنا عيدا واحدا، بل عيدين، وتكرير اليوم تقرير لاستقلال كل يوم بما سمي به وإضافة يوم إلى عيدين كإضافة اليوم إلى الجمعة أي يوم الفرح المجموع، والمعنى يوم الفرح الذي يعودون مرة بعد أخرى فيه إلى السرور. قال الراغب: العيد ما
(6/322)
يعاود مرة بعد أخرى، وخص في
الشريعة بيوم الفطر ويوم النحر، ولما كان ذلك اليوم مجعولا للسرور في الشريعة، كما
نبه النبي ? بقوله: أيام منى أيام أكل وشرب وبعال صار يستعمل العيد في كل يوم فيه
مسرة. والحديث من أدلة فضل الجمعة؛ لأن فيه أخبر الله نبيه ? والمؤمنين أنه قد
أكمل لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا. فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم
النعمة، وفي يوم وقع ذلك له فضل عظيم. (رواه الترمذي) في تفسير سورة المائدة
وحسنه. وأخرجه أيضا ابن جرير في تفسيره، وأصل الحديث عند الشيخين وغيرهما عن عمر
بن الخطاب أن رجلا من اليهود قال له الخ.
1379-(16) وعن أنس، قال: ((كان رسول الله ? إذا دخل رجب قال: اللهم بارك لنا في
رجب وشعبان وبلغنا رمضان. قال: وكان يقول: ليلة الجمعة ليلة أغر، ويوم الجمعة
أزهر)). رواه البيهقي في الدعوات الكبير.
(43) باب وجوبها
(6/323)
1379- قوله: (إذا دخل رجب) أي الشهر الذي هو فرد من الأشهر الحرم منون. وقيل: غير منصرف. (اللهم بارك لنا) أي في طاعتنا وعبادتنا. (في رجب وشعبان) يعني وفقنا للإكثار من الأعمال الصالحة فيهما. (وبلغنا رمضان) أي إدراكه بتمامه والتوفيق لصيامه وقيامه. قيل: ولم يقل ورمضان لبعده عن أول رجب. (قال) أي أنس. (وكان يقول) ?. (ليلة الجمعة ليلة أغر) قال الطيبي: أي أنور من الغرة- انتهى. وكان الظاهر أن يقال غراء، وإنما قال: أغر بحذف الموصوف أي زمان أو وقت أغر. وقال القاري: نزل ليلته منزلة يومه فوصف بأغر على طريق المشاكلة، أو ذكره باعتبار أن ليلة بمعنى الليل، إذ التاء لوحدة الجنس لا للتأنيث. قلت: وذكره السيوطي في الجامع الصغير عن البيهقي وابن عساكر وابن السني في عمل اليوم والليلة والهيثمي في مجمع الزوائد عن البزار بلفظ: ليلة غراء. (ويوم الجمعة يوم أزهر) قال الطيبي: الأزهر الأبيض، ومنه أكثروا الصلاة علي في الليلة الغراء، واليوم الأزهر أي ليلة الجمعة ويومها- انتهى. والنورانية فيهما معنوية لذاتهما، فالنسبة حقيقية أو للعبادة الواقعة فيهما، فالنسبة مجازية، قاله القاري. (رواه البيهقي) وأخرجه أيضا ابن عساكر، وابن السني (ص165) قال العزيزي: وفيه ضعف، كما في الأذكار (ص143) ونسبه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص165) للبزار، وقال: فيه زائدة بن أبي الرقاد. قال البخاري: منكر الحديث، وجهله جماعة- انتهى. قلت: وقال البزار. لا بأس به، وإنما نكتب من حديثه ما لم نجد عند غيره، كذا في التهذيب، وفيه أيضا زيادة النميري، وهو ضعيف.
(6/324)
(باب وجوبها) أي الأحاديث
الدالة على وجوبها وفرضيتها. قال في شرح السنة: الجمعة من فروض الأعيان عند أكثر
أهل العلم، وذهب بعضهم إلى أنها من فروض الكفايات. وقال ابن الهمام: الجمعة فريضة
محكمة بالكتاب والسنة والإجماع، وقد صرح أصحابنا بأنه فرض آكد من الظهر وبإكفار
جاحدها- انتهى. وفي كتاب الرحمة في اختلاف الأمة: اتفق العلماء على أن الجمعة فرض
على الأعيان، وغلطوا من قال هي فرض كفاية. وقال العراقي: مذاهب الأئمة الأربعة
متفقة، على أنها فرض عين، لكن بشروط يشترطها أهل كل مذهب. وحكى ابن
?الفصل الأول?
1380-1381. (1-2) عن أبي عمر، وأبي هريرة، أنهما قالا: سمعنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول على أعواد منبره: ((لينتهين أقوام
(6/325)
المنذر الإجماع على أنها فرض عين. وقال الإمام البخاري في صحيحه: باب فرض الجمعة لقوله تعالى: ?إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون? [9:62] ثم ذكر حديث أبي هريرة السابق في الفصل الأول من باب الجمعة بلفظ: هذا يومهم الذي فرض عليهم. قال الحافظ: استدلال البخاري بهذه الآية على فرضية الجمعة سبقه إليه الشافعي في الأم وكذا حديث أبي هريرة ثم قال: فالتزيل والسنة يدلان على إيجابها قال: وعلم بالإجماع أن يوم الجمعة، هو الذي بين الخميس والسبت. وقال الشيخ الموفق في المغني (ج2 ص295): الأمر بالسعي يدل على الوجوب إذ لا يجب السعي إلا إلى واجب. وقال الزين بن المنير وجه الدلالة من الآية مشروعية النداء لها إذ الأذان من خواص الفرائض، وكذا النهي عن البيع؛ لأنه لا ينهى عن المباح، يعني نهى التحريم إلا إذا أفضى إلى ترك واجب، ويضاف إلى ذلك التوبيخ على قطعها قال: وأما وجه الدلالة من الحديث، فهو من التعبير بالفرض لأنه للإلزام، وإن أطلق على غير الإلزام كالتقدير، لكنه متعين له لاشتماله على ذكر الصرف لأهل الكتاب عن اختياره وتعيينه لهذه الأمة، سواء كان ذلك وقع لهم بالتنصيص أم بالاجتهاد. وفي سياق القصة إشعار بأن فرضيتها على الأعيان لا على الكفاية، وهو من جهة إطلاق الفرضية ومن التعميم في قوله: فهدانا الله له والناس لنا فيه تبع. واختلف في وقت فرضيتها، فالأكثر أنها فرضت بالمدينة، وهو مقتضى ما تقدم أن فرضيتها بالآية المذكورة، وهي مدنية، ويدل عليه أيضا ما روى ابن ماجه بسند ضعيف من حديث جابر قال: خطبنا رسول الله ? فقال: يا أيها الناس توبوا إلى ربكم- الحديث، وفيه: واعلموا أن الله كتب عليكم الجمعة في يومي هذا في مقامي هذا في شهري هذا إلى يوم القيامة. وقال الشيخ أبوحامد: فرضت بمكة، وهو غريب، واستدل بعضهم لذلك بما أخرجه الدارقطني عن ابن عباس قال: أذن النبي ? في
(6/326)
الجمعة قبل أن يهاجر، ولم
يستطع أن يجمع بمكة، فكتب إلى مصعب بن عمير الخ. ذكره الحافظ في التلخيص: ولم يبين
أن هذه الرواية أي كتاب للدار قطني، وكيف حالها من حيث الصحة والضعف.
1380-1381- قوله: (على أعواد منبره) أي على درجاته، وذكره للدلالة على كمال
التذكير وللإشارة إلى اشتهار هذا الحديث. وقال الأمير اليماني: أي منبره الذي من
عود لا على الذي كان من الطين ولا على الجذع الذي كان يستند إليه. (لينتهين أقوام)
قيل: أيهم خوف كسر قلب من يعينه؛ لأن النصيحة في الملأ فضيحة.
عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين)) رواه مسلم
?الفصل الثاني?
1382- (3) عن أبي الجعد الضمري،
(6/327)
(عن ودعهم) بفتح الواو وسكون الدال. (الجمعات) أي عن تركهم إياها والتخلف عنها تهاونا من غير عذر، من ودع الشيء يدعه إذا تركه. وقول النحاة: أن العرب أماتوا ماضي يدع ومصدره أعني، ودع ودعا استغناء يترك تركا معناه أن الغالب عدم استعمالها، أي يحمل على قلة استعمالها استغناء بما هو أخف منهما، لا أم معناه عدم استعمالهما أصلا، وإلا نافاه استعمال الودع في هذا الحديث الفصيح. فالحق ثبوت استعمالهما في فصيح الكلام، وحمل كلام النحاة على ما مر. وقيل: قولهم مردود، والحديث حجة عليهم قال التوربشتي: لا عبرة بما قال النحاة، فإن قول النبي ? هو الحجة القاضية على كل ذي فصاحة. وقال السيوطي: والظاهر أن استعماله ههنا من الرواة المولدين الذين لا يحسنون العربية، ورده السندي بأنه لا يخفى على من تتبع كتب العربية أن قواعد العربية مبنية على الاستقراء الناقص دون التام عادة، وهي مع ذلك أكثريات لا كليات فلا يناسب تغليط الرواة. (أو ليختمن الله على قلوبهم) أي يطبع عليها ويغطيها بالرين كناية عن إعدام اللطف وأسباب الخير، يعني لينعنهم لطفه وفضله. وقال القرطبي: الختم عبارة عما يخلقه الله تعالى في قلوبهم من الجهل والجفاء والقسوة. وقال العراقي: المراد بالطبع على قلبه أنه يصير قلبه قلب منافق، كما روى الطبراني من حديث عبدالله ابن أبي أوفى مرفوعا بإسناد جيد: من سمع النداء يوم الجمعة ولم يأتها ثم سمع النداء ولم يأتها ثلاثا طبع على قلبه، فجعله قلب منافق. قال الهيثمي: وفيه من لم يعرف. قيل: ومن ختم على قلبه بالرين قد يتيقظ للخير في بعض الأوقات بخلاف الغافل عن مولاه، فلا يتفطن للخير أصلا، فلهذا ترقى فقال (ثم ليكونن) بضم النون الأولى. (من الغافلين) أي ثم يترقى بهم في الشر إلى هذه المرتبة. قال الطيبي: ثم لتراخى الرتبة، فإن كونهم من جملة الغافلين المشهود عليهم بالغفلة ادعى لشقائهم وأنطق لخسرانهم من مطلق كونهم مختوما عليهم.
(6/328)
وقيل: المراد الدائمين في
الغفلة. قال القاضي: والمعنى أن أحد الأمرين كائن لا محالة، أما الانتهاء عن ترك
الجمعات أو ختم الله على قلوبهم فإن اعتياد ترك الجمعة يغلب الرين على القلب ويزهد
النفوس في الطاعة، وذلك يؤدي بهم إلى أن يكونوا من الغافلين، أي عن اكتساب ما
ينفعهم من الأعمال وعن ترك ما يضرهم منها. والحديث من أعظم الزواجر عن ترك الجمعة
والتساهل فيها ومن أدلة أنها من فروض الأعيان. (رواه مسلم) وكذا البيهقي (ج3 ص171)
وأخرجه أحمد والنسائي والبيهقي أيضا (ج3 ص171-172) من حديث ابن عمر، وابن عباس.
1382- قوله: (عن أبي الجعد) بفتح الجيم وسكون العين المهملة. (الضمرى) بفتح الضاد
المعجمة وسكون
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ترك ثلاث جمع تهاونا بها، طبع الله
على قلبه)) رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي.
1383- (4) ورواه مالك عن صفوان بن سليم.
(6/329)
الميم، نسبة إلى ضمرة بن بكر بن عبد مناة، قاله في جامع الأصول، وكذا في المغني لمحمد طاهر الفتني، ووقع في بعض نسخ المشكاة: الضميري، بضم الضاد وفتح الميم، وهو خطأ، وأبوالجعد الضمري، لا يعرف اسمه. قال الترمذي: سألت محمدا عن اسم أبي الجعد، فلم يعرف اسمه. وقيل: اسمه كنيته. وقيل: اسمه أدرع. وقيل: عمرو بن بكر. وقيل: جنادة، صحابي، قال الخزرجي: له أربعة أحاديث، وعند الأربعة حديث، قال ابن سعد: بعثه النبي ? بجيش قومه لغزوة الفتح، ولغزوة تبوك. ويقال: إن عثمان استقضاه، قتل مع عائشة يوم الجمل. (من ترك) أي ممن تجب عليه. (ثلاث جمع) بضم الجيم وفتح الميم. قال الباجي: وأما اعتبار العدد في الحديث فانتظار للفيئة وإمهال منه تعالى عبده للتوبة. قال الشوكاني: يحتمل أن يراد حصول الترك مطلقا سواء توالت الجمعات أو تفرقت، حتى لو ترك في كل سنة جمعة لطبع الله على قلبه بعد الثالثة، وهو ظاهر الحديث. ويحتمل أن يراد ثلاث جمع متوالية، كما في حديث أنس عند الديلمي في مسند الفردوس؛ لأن موالاة الذنب ومتابعته مشعرة بقلة المبالاة به-انتهى. قلت: الاحتمال الثاني هو المتعين لما تقرر في الأصول من حمل الروايات المطلقة على المقيدة، ويؤيد حديث أنس ما رواه أبويعلى برجال الصحيح عن ابن عباس: من ترك الجمعة ثلاث جمع متواليات فقد نبذ الإسلام وراء ظهره. قال الشوكاني: هكذا ذكره موقوفا، وله حكم الرفع؛ لأن مثله لا يقال من قبل الرأي، كما قال العراقي. (تهاونا بها) قيل: المراد بالتهاون الترك من غير عذر، فيكون مفعولا مطلقا للنوع، وقيل: هو مفعول له. وقيل: هو مصدر في موضع الحال أي متهاونا. قال في اللمعات: الظاهر أن المراد بالتهاون التكاسل وعدم الجد في أدائه وقلة الاهتمام به، لا الإهانة والاستخفاف، فإن الاستخفاف بفرائض الله كفر، وفيه أن الطبع المذكور إنما يكون على قلب من ترك ذلك تهاونا، فينبغي أن تحمل الأحاديث المطلقة على هذا
(6/330)
الحديث المقيد بالتهاون، وكذلك
تحمل الأحاديث المطلقة على المقيدة بعدم العذر. (طبع الله على قلبه) أي ختم عليه
وغشاه ومنعه الألطاف أو صير قلبه قلب منافق. (رواه أبوداود الخ) وأخرجه أيضا
الشافعي وأحمد (ج3ص424) وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والبغوي والدولابي في
الكنى (ج1ص21- 22) والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. والبيهقي (ج3ص172، 247) وفي
رواية لابن خزيمة وابن حبان: من ترك الجمعة ثلاثا من غير عذر فهو منافق. والحديث
قد حسنه الترمذي، وصححه وابن السكن، وسكت عنه أبوداود.
1383- قوله: (ورواه مالك) في الموطأ. (عن صفوان بن سليم) قال مالك: لا أدري أعن
النبي ? أم
1384-(5) وأحمد عن أبي قتادة.
1385-(6) وعن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله ?: ((من ترك الجمعة من غير عذر
فليصدق بدينار، فإن لم يجد فبنصف دينار)). رواه أحمد، وأبوداود، وابن ماجه.
لا أنه قال: من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير عذر ولا علة طبع الله على قلبه.
وصفوان بن سليم بضم السين وفتح اللام، المدني أبوعبدالله القرشي الزهري، مولاهم
ثقة، فقيه، تابعي، عابد، زاهد، مات سنة. (132) وهو ابن (72) سنة، فالحديث مرسل ومع
ذلك قد تردد الإمام مالك في رفعه. قال ابن عبدالبر: هذا يسند من وجوه أحسنها حديث
أبي الجعد الضمري. أخرجه الشافعي وأصحاب السنن الأربعة-انتهى. ذكره السيوطي.
1384- (وأحمد) (ج5ص300). (وعن أبي قتادة) مرفوعا: من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير
ضرورة طبع على قلبه، وإسناده حسن، كما قال المنذري في الترغيب، والهيثمي في مجمع
الزوائد (ج2ص192) والدارقطني في العلل. وأخرجه أيضا الحاكم وقال: صحيح الإسناد.
وفي الباب عن جماعة من الصحابة، ذكرهم الشوكاني في النيل والهيثمي في مجمع
الزوائد.
(6/331)
1385- قوله: (من ترك الجمعة)
أي صلاتها ممن تلزمه. (فليتصدق بدينار) قال في المفاتيح: الأمر للندب لدفع إثم
الترك. (بدينار) أي كفارة. (فإن لم يجد) أي الدينار. (فبنصف دينار) أي فليتصدق
بنصفه. قال ابن حجر: وهذا التصدق لا يرفع إثم الترك أي بالكلية حتى ينافي خبر من
ترك الجمعة من غير عذر لم يكن لها كفارة دون يوم القيامة، وإنما يرجى بهذا التصدق
تخفيف الإثم. وذكر الدينار ونصفه لبيان الأكمل، فلا ينافي ذكر الدرهم أو نصفه،
وصاع حنطة أو نصفه في رواية لأبي داود؛ لأن هذا البيان أدنى ما يحصل به الندب،
ذكره القاري. يعني أن الأمر بالتصدق بدينار للواجد وبنصفه لغير الواجد بيان
للأكمل، وإلا فيحصل أصل السنة بالتصدق بالدرهم ونصفه الخ. وقيل: الأولى أن يقال إن
التصدق بالدرهم أو نصفه لمن لم يجد الدينار ونصفه. قال السندي: والظاهر أن الأمر
للاستحباب، ولا بد من التوبة بعد ذلك، فإنها الماحية للذنب. (رواه أحمد) (ج5ص8،
14). (وأبوداود وابن ماجه) والنسائي والبيهقي (ج3ص248) أيضا. أما أحمد وأبوداود
فأخرجاه من طريق همام عن قتادة عن قدامة بن وبرة عن سمرة. وأما ابن ماجه فأخرجه من
طريق نوح بن قيس عن أخيه عن قتادة عن الحسن عن سمرة. وأخرجه النسائي من الطريقين،
وكذا البيهقي. وقدامة بن وبرة قال الحافظ: مجهول. وقال الذهبي: لا يعرف. وقال
أبوحاتم عن أحمد: لا يعرف. وقال مسلم: قيل لأحمد: يصح حديث سمرة من ترك الجمعة؟
فقال قدامة يرويه لا نعرفه. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال
1386-(7) وعن عبدالله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((الجمعة على من
سمع النداء)) رواه أبوداود.
(6/332)
البخاري: لم يصح سماعه من
سمرة. وقال ابن خزيمة في صحيحه: لا أقف على سماع قدامة من سمرة، ولست أعرف قدامة
بن وبرة بعدالة ولا جرح، كذا في التهذيب. فطريق قدامة ضعيف لجهالته ولعدم سماعه من
قتادة وأما طريق الحسن عن سمرة فقد تقدم ما فيه من الكلام.
1386- قوله: (الجمعة على من سمع النداء) وفي أبي داود: الجمعة على كل من سمع
النداء. ورواه الدارقطني، ومن طريقه البيهقي بلفظ: إنما الجمعة على من سمع النداء
أي حقيقة أو حكما. قال الشوكاني: ظاهر الحديث عدم وجوب الجمعة على من لم يسمع
النداء، سواء كان في البلد الذي تقام فيه الجمعة أو في خارجه، وقد ادعى في البحر
الإجماع على عدم اعتبار سماع النداء في موضعها، واستدل لذلك بقوله: إذا لم تعتبره
الآية، وأنت تعلم أن الآية قد قيد الأمر بالسعي فيها بالنداء لما تقرر عند أئمة
البيان من أن الشرط قيد لحكم الجزاء والنداء المذكور فيها يستوي فيه من في المصر
الذي تقام فيه الجمعة ومن خارجه، نعم إن صح الإجماع كان هو الدليل على عدم اعتبار
سماع النداء لمن في موضع إقامة الجمعة عند من قال بحجية الإجماع. وقد حكى العراقي
في شرح الترمذي عن الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل أنهم يوجبون الجمعة على أهل المصر
وإن لم يسمعوا النداء. وقد اختلف أهل العلم فيمن كان خارجا عن البلد الذي تقام فيه
الجمعة، ثم بسط الأقوال فيه مع العزو إلى قائليها، قال: والمراد بالنداء المذكور
في الحديث هو النداء الواقع بين يدي الإمام في المسجد؛ لأنه الذي كان في زمن
النبوة لا الواقع على المنارات، فانه محدث، كما سيأتي، وقال ابن الملك: المراد به
الأذان أول الوقت كما هو الآن في زماننا ليعلم الناس وقت الجمعة ليحضروا ويسعوا
إلى ذكر الله، وإنما زاده عثمان لينتهي الصوت إلى نواحي المدينة. والظاهر عندي ما
قاله الشوكاني. (رواه أبوداود) والدارقطني والبيهقي أيضا من طريق قبيصة بن عقبة
السوائي عن سفيان الثوري عن محمد بن
(6/333)
سعيد الطائفي عن أبي سلمة بن
نبيه عن عبدالله بن هارون عن عبدالله بن عمرو. قال أبوداود: روى هذا الحديث جماعة
عن سفيان مقصورا. (أي موقوفا) على عبدالله بن عمرو، وإنما أسنده قبيصة –انتهى. وقد
تفرد به محمد بن سعيد عن أبي سلمة، وتفرد به أبوسلمة عن عبدالله بن هارون.
وأبوسلمة وعبدالله بن هارون كلاهما مجهولان، كما في التقريب. وقد ورد من وجه آخر
أخرجه الدارقطني من رواية الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده مرفوعا. وزهير بن محمد روى عن أهل الشام مناكير. والوليد مدلس، وقد رواه
بالعنعنة. وأخرجه الدارقطني من وجه آخر من رواية محمد بن الفضل عن حجاج بن أرطاة
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا. ومحمد بن الفضل
187- (8) وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((الجمعة على من آواه
الليل إلى أهله)) رواه الترمذي: وقال: هذا حديث إسناده ضعيف.
ضعيف جدا نسبوه إلى الكذب. والحجاج مدلس مختلف في الاحتجاج به. وقد ظهر بذلك أن
جميع طرق هذا الحديث متكلم فيه، ففي الاستدلال به على اعتبار سماع النداء حقيقة أو
حكما لمن في وضع إقامة الجمعة نظر لا يخفى على المتأمل. فالحق عدم اعتبار ذلك،
والقول بوجوب شهود الجمعة على كل من في موضع إقامة الجمعة لإطلاق الآية
وعمومها.والله أعلم.
(6/334)
1387- قوله: (الجمعة من آواه الليل إلى أهله) قال الجزري: يقال أويت إلى المنزل وآويت غيري، وأويئته. وفي الحديث من المتعدي. قال المظهر: أي للجمعة واجبة على من كان بين وطنه وبين الموضع الذي يصلي فيه الجمعة مسافة يمكنه الرجوع بعد أداء الجمعة إلى وطنه قبل الليل، ذكره القاري. وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث ما نصه: والمعنى أنها تجب على من يمكنه الرجوع إلى أهله قبل دخول الليل. واستشكل بأنه يلزم منه أنه يجب السعي من أول النهار، وهو بخلاف الآية-انتهى. وقيل: معناه أن الجمعة على من كان آويا إلى أهله أي مقيما في وطنه غير مسافر. وحاصله أن الجمعة واجبة على المقيم لا على المسافر. قلت: الحديث قد استدل به من قال من السلف: أنها تجب على من يؤويه الليل إلى أهله، لكنه حديث ضعيف غير صالح للاحتجاج، كما ستعرف. (رواه الترمذي) من طريق الحجاج بن نصير عن معارك بن عباد عن عبدالله بن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة. وروى البيهقي (ج3:ص176) نحوه من طريق مسلم عن معارك. (وقال هذا حديث إسناده ضعيف) ونقل عن أحمد أنه لم يعده شيئا، وضعفه لحال إسناده، وقال لمن ذكره له: استغفر ربك. وهذا لأن في سنده ثلاثة ضعفاء، الأول الحجاج بن نصير قال الحافظ: ضعيف كان يقبل التلقين. ضعفه ابن معين والنسائي وابن سعد والدارقطني والأزدي وغيرهم. وقال أبوداود: تركوا حديثه. والثاني معارك بن عباد ضعفه الدارقطني. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبوزرعة: واهي الحديث. والثالث عبدالله بن سعيد المقبري، وهو متروك الحديث. واعلم أنهم اتفقوا على أنه يشترط للجمعة الجماعة والوقت والخطبة والعقل البلوغ والذكورة والحرية والسلامة من المرض والإقامة والاستيطان. واختلفوا في أنه هل يشترط العدد المخصوص المعين أم لا، وفيه أقوال كثيرة ذكرها الحافظ في الفتح (ج4ص507) وابن حزم في المحلى (ج5ص46- 49) والشوكاني في النيل (ج3ص108- 109) منها أنه اثنان
(6/335)
كالجماعة، وهو قول النخعي وأهل
الظاهر. ومنها اثنان مع الإمام، وهو قول أبي يوسف ومحمد. ومنها أنه ثلاثة معه، وهو
مذهب أبي حنيفة.
ومنها أنه اثنا عشر، ومنها أربعون بالإمام، وهو قول الشافعي، وإليه ذهب أحمد في
إحدى الروايتين عنه. ومنها خمسون في رواية عن أحمد. والراجح عندي ما ذهب إليه أهل
الظاهر أنه تصح الجمعة باثنين؛ لأنه لم يقم دليل على اشتراط عدد مخصوص، وقد صحت
الجماعة في سائر الصلوات باثنين، ولا فرق بينها وبين الجمعة في ذلك، ولم يأت نص من
رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الجمعة لا تنعقد إلا بكذا. قال الشوكاني: الجمعة
يعتبر فيها الاجتماع، وهو لا يحصل بواحد. وأما الاثنان فبإنضمام أحدهما إلى الآخر يحصل
الاجتماع. وقد أطلق الشارع اسم الجماعة عليهما، فقال: الاثنان فما فوقهما جماعة
كما تقدم، وقد انعقدت سائر الصلوات بهما بالإجماع. والجمعة صلاة فلا تختص بحكم
يخالف غيرها إلا بدليل، ولا دليل على اعتبار عدد فيها زائد على المعتبر في غيرها.
وقد قال عبدالحق: إنه لا يثبت في عدد الجمعة حديث، وكذلك قال السيوطي: لم يثبت في
شيء من الأحاديث تعيين عدد مخصوص-انتهى. واختلفوا أيضا في محل إقامة الجمعة، فقال
أبوحنيفة وأصحابه: لا تصح إلا في مصر جامع، وذهب الأئمة الثلاثة إلى جوازها وصحتها
في المدن والقرى جميعا. واستدل لأبي حنيفة بما روي عن علي مرفوعا: لا جمعة ولا
تشريق إلا في مصر جامع. وقد ضعف أحمد، وغيره رفعه، وصحح ابن حزم، وغيره وقفه،
وللاجتهاد فيه مسرح، فلا ينتهض للاحتجاج به فضلا عن أن يخصص به عموم الآية أو يقيد
به إطلاقها، مع أن الحنفية قد تخبطوا في تحديد المصر الجامع وضبطه على أقوال كثيرة
متباينة متناقضة متخالفة جدا، كما لا يخفى على من طالع كتب فروعهم. وهذا يدل على
أنه لم يتعين عندهم معنى الحديث. والراجح عندنا ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة من عدم
اشتراط المصر، وجوازها في القرى لعموم الآية وإطلاقها،
(6/336)
وعدم وجود ما يدل على تخصيصها، ولا بد لمن يقيد ذلك بالمصر الجامع أن يأتي بدليل قاطع من كتاب أو سنة متواترة أو خبر مشهور بالمعنى المصطلح عند المحدثين، وعلى التنزل بخبر واحد مرفوع صريح صحيح يدل على التخصيص بالمصر الجامع. ويدل أيضا على شرعيتها في القرى ما روى البخاري وغيره عن ابن عباس: أن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبدالقيس بجواثي قرية من قرى البحرين. كذا في رواية وكيع عند أبي داود، وكذا للإسماعيلي. وهذا أولى من قول البكري وغيره: إنها مدينة؛ لأن ما ثبت في نفس الحديث أصح مع احتمال أن تكون في أول قرية ثم صارت مدينة. وأما ما حكى الجوهري والزمخشري والجزري أن جواثي اسم حصن بالبحرين فلا ينافي كونها قرية. والظاهر أن عبدالقيس لم يجمعوا إلا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لما عرف من عادة الصحابة من عدم الاستبداد بالأمور الشرعية في زمن نزول الوحي، ولأنه لو كان ذلك لا يجوز لنزل فيه القرآن، كما استدل جابر وأبوسعيد على جواز العزل، فإنهم
(6/337)
فعلوه، والقرآن ينزل، فلم ينبهوا عنه، ولم يثبت برواية قوية أو ضعيفة أنه أسلم أهل قرية قبل عبدالقيس. ومن ادعى ذلك فعلية البيان. قال الحافظ في شرح حديث ابن عباس المذكور: فيه إشعار بتقدم إسلام عبدالقيس على غيرهم من أهل القرى وهو كذلك، كما قررته في أواخر كتاب الإيمان، وقال في شرح حديث عبدالقيس، ما لفظه: فيه دليل على تقدم إسلام عبدالقيس على قبائل مضر الذين كانوا بينهم وبين المدينة، وكانت مساكن عبدالقيس بالبحرين وما والاها من أطراف العراق. ويدل على سبقهم إلى الإسلام أيضا ما رواه المصنف (يعني البخاري) في الجمعة عن ابن عباس قال: إن أول جمعة جمعت الخ، قال: وإنما جمعوا بعد رجوع وفدهم إليهم، فدل على أنهم سبقوا جميع القرى إلى الإسلام-انتهى مختصرا. ويدل عليه أيضا ما روى البيهقي في المعرفة أن النبي صلى الله عليه وسلم حين ركب من بني عمرو بن عوف في هجرته إلى المدينة مر على بني سالم، وهي قرية بين قباء والمدينة، فأدركته الجمعة فصلى فيهم الجمعة، وكانت أول جمعة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم، وما روى ابن أبي شيبة وابن حزم عن عمر أنه كتب إلى أهل البحرين أن جمعوا حيثما كنتم. قال الحافظ: وهذا يشمل المدن والقرى، وما روى عبدالرزاق عن ابن عمر أنه كان يرى أهل المياه بين مكة والمدينة يجمعون فلا يعيب عليهم. وذكره ابن حزم بلفظ: فلا ينهاهم عن ذلك. وروى البيهقي (ج3ص178) من طريق الوليد بن مسلم سألت الليث بن سعد فقال: كل مدينة أو قرية فيها جماعة أمروا بالجمعة، فإن أهل مصر وسواحلها كانوا يجمعون الجمعة على عهد عمر وعثمان بأمرهما، وفيهما رجال من الصحابة. واختلفوا أيضا أنه إذا وجبت الجمعة في موضع بشرائطها فعلى من يجب شهودها من أهل ذلك الموضع، وممن كان في حواليه، فقالت طائفة: تجب الجمعة على من آواه الليل إلى أهله، واستدلوا لذلك بحديث أبي هريرة، الذي فرغنا من شرحه، وقد عرفت أنه ضعيف جدا. وقالت
(6/338)
طائفة: إنها تجب على من سمع
النداء حقيقة أو حكما. واستدلوا لذلك بحديث عبدالله بن عمرو بن العاص المتقدم، وقد
تقدم أنه أيضا ضعيف. وقالت طائفة: تجب على من بينه وبين المنار ثلاثة أميال. أما
من هو في البلد فتجب عليه ولو كان من المنار على ستة أميال. وقالت طائفة: تجب على
أهل المصر، ولا تجب على من كان خارج المصر، سمع النداء أو لم يسمع. وقال أبوحنيفة:
لا تجب إلا في مصر جامع أو فيما هو في حكمه كمصلى العيد. قال ابن الهمام: ومن كان
من توابع المصر فحكمه حكم أهل المصر في وجوب الجمعة عليه. واختلفوا فيه، فعن أبي
يوسف إن كان الموضع يسمع فيه النداء من المصر فهو من توابع المصر، وإلا فلا. وعنه
أنها تجب في ثلاثة فراسخ. وقال بعضهم: قدر ميل. وقيل: قدر ميلين. وقيل: ستة أميال.
وقيل: إن أمكنه أن يحضر الجمعة ويبيت بأهله من غير تكلف تجب عليه الجمعة، وإلا
فلا. قال في البدائع: وهذا أحسن-انتهى. والراجح عندي: أنه لا يشترط سماع الأذان في
المصر، وكذا في القرية
1388-(9) وعن طارق بن شهاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجمعة حق
واجب على كل مسلم في جماعة، إلا على أربعة: عبد مملوك
الكبيرة. وأما من كان خارج المصر والقرية الكبيرة من أهالي القرى الصغيرة القريبة
أو البعيدة فلا يجب عليهم الشهود في المصر أو القرية الكبيرة للجمعة، بل لهم أن
يقيموا الجمعة في مساكنهم لوجوب الجمعة عليهم لعموم قوله تعالى: ?إذا نودي للصلاة
من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله? [62: 9]، ولعدم ما يدل على وجوب الإتيان إلى
المصر للجمعة على من كان في حواليه. وارجع لمزيد التفصيل إلى عون المعبود (ج1ص413-
416) وقد ألف علماؤنا رسائل عديدة في مسئلة إقامة الجمعة في القرى، وبسطوا الكلام
فيها على الرد على الحنفية، فعليك أن تراجع هذه الرسائل.
(6/339)
1388-قوله: (وعن طارق بن شهاب) بن عبد شمس البجلي الأحمسى أبوعبدالله الكوفي أدرك الجاهلية، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه شيئا. قال أبوحاتم: ليست له صحبة، والحديث الذي رواه مرسل. قال الحافظ في الإصابة: إذا ثبت أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي على الراجح، وإذا ثبت أنه لم يسمع منه فروايته عنه مرسل صحابي، وهو مقبول على الراجح. وقد أخرج له النسائي عدة أحاديث. وذلك مصير منه إلى إثبات صحبته. وأخرج له أبوداود حديثا واحدا، وقال: طارق رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه شيئا-انتهى. وقال ابن الأثير في جامع الأصول: رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وليس له سماع منه إلا شاذا، ذكره ابن التركماني في الجوهر النقي، والمصنف في رجال المشكاة. غزا طارق في خلافة أبي بكر وعمر ثلاثا وثلاثين أو أربعا وثلاثين غزوة، ومات سنة (82 أو83أو 84). (الجمعة) أي صلاتها. (حق واجب) أي فرض مؤكد. (على كل مسلم) فيه دليل على أن صلاة الجمعة من فروض الأعيان، ورد على من قال بأنها فرض كفاية. (في جماعة)؛ لأنها لا تصح إلا بجماعة بالإجماع، وإنما اختلفوا في العدد المخصوص الذي تحصل به، كما تقدم. (إلا على أربعة عبد مملوك) بالجر على أنه عطف بيان للأربعة، قال القاري: وفي بعض النسخ برفع عبد، وما بعده على أنه خبر مبتدأ محذوف، وهو هم. و"أو" بمعنى الواو. قال الطيبي: "إلا" بمعنى غير، وما بعده مجرور صفة لمسلم أي على كل مسلم غير عبد مملوك الخ وقال ابن حجر: الأحسن جعله استثناء من واجب على كل مسلم. والتقدير إلا أنها لا تجب على أربعة. ولفظ أبي داود: إلا أربعة عبد مملوك أي بإسقاط لفظ "على". قال السيوطي: وقد يستشكل. (أي قوله عبد مملوك بصورة المرفوع) بأن المذكورات عطف بيان لأربعة، وهو منصوب؛ لأنه استثناء من موجب. والجواب أنها منصوبة لا مرفوعة، وكانت عادة المتقدمين أن يكتبوا المنصوب
(6/340)
أو امرأة، أو صبي، أو مريض)).
رواه أبوداود.
بغير (ألف) ويكتبوا عليه تنوين النصب، ذكره النووي في شرح مسلم. قال السيوطي
ورأيته أنا في كثير من كتب المتقدمين المعتمدة، ورأيته في خط الذهبي في مختصر
المستدرك. وعلى تقدير أن تكون مرفوعة تعرب خبر مبتدأ-انتهى. وقوله: "عبد
مملوك" فيه دليل على أن الحرية شرط لوجوب الجمعة، وأن الجمعة غير واجبة على
العبد، وهو متفق عليه إلا عند داود، فقال بوجوبها عليه لدخوله تحت عموم الخطاب في
قوله: ?يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة? [62: 9] الخ، وأجيب عنه بأنه خصصته
الأحاديث وإن كان فيها مقال، فإنه يقوي بعضها بعضا. (أو امرأة) فيه أن الذكورة من
شرائط وجوب الجمعة، وأن الجمعة لا تجب على المرأة، وهو مجمع عليه. وقال الشافعي:
يستحب للعجائز حضورها بإذن الزوج. (أو صبي) فيه أن البلوغ شرط لوجوب الجمعة، وهو
متفق على أن لا جمعة على الصبي، وفي معناه المجنون. (أو مريض) أي مرضا يشق معه
الحضور عادة فيه أن المريض لا تجب عليه الجمعة إذا كان الحضور يجلب عليه مشقة، وهو
يدل على أن صحة البدن من شرائط وجوب الجمعة. قال البيهقي في المعرفة: وعند الشافعي
لا جمعة على المريض الذي لا يقدر على شهود الجمعة إلا بأن يزيد في مرضه...... أو
يبلغ به مشقة غير محتملة، وكذلك من كان في معناه من أهل الأعذار-انتهى. وقال ابن
الهمام: الشيخ الكبير الذي ضعف يلحق بالمريض، فلا يجب عليه-انتهى. وقد ألحق
أبوحنيفة الأعمى بالمريض وإن وجد قائدا لما في ذلك من المشقة، ولأن القادر بقدرة
الغير غير قادر عنده، وقال الشافعي وأبويوسف ومحمد: إنه غير معذور إن وجد قائدا،
فيجب عليه عندهم عند تيسر القائد. (رواه أبوداود) وقال طارق: قد رأى النبي صلى
الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئا، قال ابن الهمام: وليس هذا قدحا في صحبته ولا في
الحديث، بل بيان للواقع-انتهى. والحديث أخرجه أيضا البيهقي في السنن (ج3ص172، 183)
(6/341)
والدارقطني (ص164) وأخرجه الحاكم
(ج1ص288) والبيهقي في المعرفة من حديث طارق المذكور عن أبي موسى. قال الحاكم: صحيح
على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في التلخيص: وصححه غير واحد. وقال
الخطابي في المعالم (ج1ص244): ليس إسناد هذا الحديث بذلك، وطارق بن شهاب لا يصح له
سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه قد لقي النبي صلى الله عليه
وسلم-انتهى. قال العراقي: فإذا قد ثبتت صحبته فالحديث صحيح. وغايته أن يكون مرسل
صحابي، وهو حجة عند الجمهور، إنما خالف فيه أبوإسحاق الاسفرايني، بل ادعى بعض
الحنفية الإجماع على أن مرسل الصحابي حجة-انتهى. وبنحو هذا قال النووي في شرح
المهذب (ج4ص483)، وفي الخلاصة، قلت: وقد اندفع الإعلال بالإرسال بما في رواية
الحاكم من ذكر أبي موسى، على أن للحديث شواهد ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد
(ج2ص170) والشوكاني في النيل (ج3ص103) والزيلعي في نصب الراية (ج2ص199)، فمنها حديث
جابر عند الدارقطني (ص164)، والبيهقي (ج3ص184)
1389-(10) وفي شرح السنة بلفظ المصابيح عن رجل من بني وائل.
?الفصل الثالث?
1390-(11) عن ابن مسعود. أن النبي ? قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: ((لقد هممت أن
آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم)).
(6/342)
وهو آخر حديث الباب، وسيأتي
الكلام فيه. ومنها حديث تميم الداري عند العقيلي والحاكم أبي أحمد والبيهقي
(ج3ص183) والطبراني وابن أبي حاتم في العلل (ج1ص212). قال ابن القطان: فيه أربعة
ضعفاء على الولاء. قلت فيه الحكم بن عمرو، وقد ضعفه النسائي وغيره، وضرار بن عمرو
المطلي، وهو متروك، وأبوعبدالله الشامي ضعفه الأزدي. ومنها حديث ابن عمر عند
الطبراني في الأوسط والبيهقي (ج3ص184) وفيه أبوالبلاد، قال أبوحاتم: لا يحتج به.
ومنها حديث أبي هريرة، أخرجه الطبراني في الأوسط بلفظ: خمسة لا جمعة عليهم: المرأة
والمسافر والعبد والصبي وأهل البادية. وفيه إبراهيم بن حماد ضعفه الدارقطني. قال
في النهاية: إن البادية تختص بأهل العمد والخيام دون أهل القرى والمدن. ومنها حديث
مولى لآل الزبير، أخرجه البيهقي (ج3ص184). ومنها حديث أم عطية، أخرجه البيهقي وابن
خزيمة بلفظ: نهينا عن إتباع الجنائز، ولا جمعة علينا.
1389- (وفي شرح السنة) أي للبغوي. (بلفظ المصابيح عن رجل) متعلق بلفظ المصابيح،
قاله الطيبي. (من بني وائل) لفظ المصابيح هكذا: "تجب الجمعة على كل مسلم إلا
امرأة أو صبيا أو مملوكا أو مريضا". ولفظ شرح السنة على ما ذكره القاري:
"عن محمد بن كعب أنه سمع رجلا من بني وائل يقول قال النبي صلى الله عليه
وسلم: تجب الجمعة على كل مسلم إلا امرأة أو صبي أو مملوك" ورواه طارق بن شهاب
عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد: أو مريض-انتهى. والحديث أخرجه البيهقي في السنن
(ج3ص173) قال: أخبرنا أبوبكر بن الحسن القاضي وأبوزكريا بن أبي إسحاق قالا: ثنا
أبوالعباس الأصم أنبأ الربيع بن سليمان أنبأ الشافعي أنبأ إبراهيم بن محمد حدثني
سلمة بنت عبدالله الخطمى عن محمد بن كعب أنه سمع رجلا من بني وائل يقول قال النبي
صلى الله عليه وسلم:.. فذكر بلفظ شرح السنة سواء. وفيه إبراهيم بن محمد بن أبي
يحيى الأسلمي، وقد تقدم الكلام فيه.
(6/343)
1390- قوله: (قال لقوم) أي في
شأنهم. (ثم أحرق) بالنصب من الإحراق أو من التحريق. (على رجال يتخلفون) أي من غير
عذر. (عن الجمعة) أي عن إتيان صلاة الجمعة. (بيوتهم) مفعول "لأحرق".
والمعنى لقد قصدت أن استخلف رجلا ليؤم الناس، ثم أذهب أنا إلى المتخلفين من غير
علة، فأحرق بيوتهم أي ما في
رواه مسلم.
1391-(12) وعن ابن عباس، أن النبي ? قال: ((من ترك الجمعة من غير ضرورة، كتب
منافقا في كتاب لا يمحى ولا يبدل)) -وفي بعض الروايات-ثلاثا. رواه الشافعي.
1392-(13) وعن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((من كان يؤمن بالله
واليوم الآخر، فعليه الجمعة، إلا مريض، أو مسافر، أو امرأة، أو صبي، أو مملوك. فمن
استغنى بلهو أو تجارة استغنى الله عنه،
بيوتهم من أنفسهم ومتاعهم عليهم. وفي هذا من الوعيد ما لا يوصف. فإن قلت: كيف يترك
الفرض ويشتغل بهم؟ قلت: لا يلزم من الاستخلاف ترك فرض الجمعة مطلقا، فإنه يتصور
تكرارها. قال ابن الهمام: قال السرخسي: الصحيح من مهذب أبي حنيفة جواز إقامتها في
مصر واحد في مسجدين وأكثر. وبه نأخذ لإطلاق لا جمعة إلا في مصر، فإذا تحقق تحقق في
كل واحد منها. قال ابن الهمام: وهو الأصح فارتفع الأشكال من أصله، كذا في المرقاة.
والحديث دليل على أن الجمعة من فروض الأعيان. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد
والبيهقي (ج3ص172) والحاكم (ج1ص292) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه هكذا
إنما خرجا بذكر العتمة وسائر الصلوات-انتهى. وهذا وهم من الحاكم، فإن الحديث أخرجه
مسلم بذكر الجمعة صريحا.
(6/344)
1391- قوله(من ترك الجمعة) أي
صلاتها. (من غير ضرورة) بفتح الضاد أي من غير علة وعذر كالمطر والمرض والوحل
ونحوها. (كتب منافقا) وعيد شديد. (في كتاب لا يمحى) أي ما فيه. (ولا يبدل) بالتشديد
ويخفف، أي لا يغير بغيره ما لم يتب. وقيل: أو ما لم يتصدق. (وفي بعض الروايات
ثلاثا) أي قال من ترك الجمعة ثلاثا. (رواه الشافعي) في كتاب الأم (ج184).
1392- قوله: (فعليه الجمعة) أي يجب عليه صلاة الجمعة. (يوم الجمعة) ظرف للجمعة.
(أو مسافر) فلا يجب عليه حضورها، وهو يحتمل أن يراد به مباشر السفر أي السائر.
وأما النازل فيجب عليه ولو نزل بمقدار الصلاة. وإليه ذهب جماعة، منهم الزهري
والنخعي، وقيل: لا تجب عليه؛ لأنه داخل في لفظ المسافر. وإليه ذهب الجمهور، وهو
الأقرب والأشبه؛ لأن أحكام السفر باقية له من القصر ونحوه. (أو امرأة أو صبي
مملوك) قال الطيبي: رفع على الاستثناء من الكلام الموجب على التأويل، أي من كان
يؤمن فلا يترك الجمعة إلا مريض، فهو بدل من الضمير المستكن في يترك الراجع إلى من.
(فمن استغنى بلهو أو تجارة) أي عن طاعة الله. (استغنى الله عنه)
والله غني حميد)). رواه الدارقطني.
(44) باب التنظيف والتبكير
?الفصل الأول?
1393-(1) عن سلمان، قال: قال رسول الله ?: ((لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما
استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته،
(6/345)
أي فليعلم أن الله مستغن عنه
وعن عبادته وعن جميع عباده، وإنما أمرهم بالعبادة ليتشرفوا بالطاعة. (والله غني)
بذاته. (حميد) محمود في جميع صفاته، سواء حمد أو لم يحمد، أو غني عن العباد
وطاعتهم. لا يعود نفعها إليه، حميد أي حامد لمن أطاعه يثنى عليه ويشكره بإعطاء
الجزيل على العمل القليل. وفي الحديث إشارة إلى قوله تعالى: ?وإذا رأوا تجارة أو
لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما, قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله
خير الرازقين? [62: 11). (رواه الدارقطني) (ص164) وأخرجه أيضا البيهقي (ج3ص184)
وفيه ابن لهيعة، وهو متكلم فيه، ومعاذ بن محمد الأنصاري شيخ لابن لهيعة لا يعرف.
كذا ذكر الذهبي، قاله في الجوهر النقي. وقال الحافظ في اللسان: ذكره ابن حبان في
الثقات. وقال ابن عدي: منكر الحديث، ثم أخرج له من رواية ابن لهيعة عنه عن أبي
الزبير عن جابر رفعه في الجمعة، وقال معاذ: غير معروف. وروى الطبراني في الأوسط من
حديث أبي سعيد الخدري بمعناه. وفيه علي بن يزيد الألهاني.
(باب التنظيف) أي تطهير الثوب والبدن من الوسخ والدرن، ومن كماله التدهين والتطيب.
(والتبكير) في النهاية: بكر بالتشديد، أتى الصلاة في أول وقتها، وكل من أسرع إلى
شيء فقد بكر إليه.
(6/346)
1393- قوله: (لا يغتسل)
بالرفع. (ويتطهر ما استطاع من طهر) بالتنكير للمبالغة في التنظيف، أو المراد به
التنظيف بأخذ الشارب والظفر والعانة والإبط، أو المراد بالغسل غسل الجسد،
وبالتطهير غسل الرأس وتنظيف الثياب. (ويدهن من دهنه) بتشديد الدال بعد المثناة
التحتية من باب الافتعال أي يطلى بالدهن ليزيل شعث رأسه ولحيته به. وفيه إشارة إلى
التزين يوم الجمعة. (أو يمس) بفتح الياء والميم. (من طيب بيته) أي إن لم يجد دهنا.
أو "أو" بمعنى الواو، فلا ينافي الجمع بينهما. وأضاف الطيب إلى البيت
إشارة إلى أن السنة أن يتخذ المرء لنفسه طيبا، ويجعل استعماله له عادة، فيدخره في
البيت. كذا قال الطيبي بناء على أن المراد بالبيت حقيقته، لكن في
ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر
له ما بينه وبين الجمعة الأخرى))
(6/347)
حديث عبدالله بن عمرو عند أبي داود: أو يمس من طيب امرأته، فعلى هذا فالمعنى إن لم يتخذ لنفسه طيبا فليستعمل من طيب امرأته، وهو موافق لحديث أبي سعيد عند مسلم: ولو من طيب المرأة. وفيه أن بيت الرجل يطلق، ويراد به امرأته، ذكره الحافظ في الفتح. وقال القاري: المراد بقوله من طيب بيته حقيقة بيت الرجل، وهو أعم من أن يكون متزوجا أو عزبا، ولا ينافيه من طيب امرأته؛ لأن طيبها غالبا من عنده. ويطلق عليه..... أنه من طيب بيته، فإن الإضافة تصح لأدنى ملابسة. ولما كان طيبها غالبا متميزا عن طيب الرجل متعينا متبينا لها أشار عليه السلام أنه ينبغي أن يكون للرجل طيب مختص لاستعماله، وأكد في التطيب يوم الجمعة وبالغ حتى قال: ولو من طيب المرأة. (ثم يخرج) أي إلى المسجد، كما في حديث أبي أيوب عند ابن خزيمة. ولأحمد من حديث أبي الدرداء: ثم يمشي وعليه السكينة. (فلا يفرق) بتشديد الراء المكسورة. (بين اثنين) بالتخطي أو بالجلوس بينهما، ففي حديث عبدالله بن عمرو المذكور: ثم لم يتخط رقاب الناس. وفي حديث أبي الدرداء: ولم يتخط أحدا ولم يؤذه، وهو كناية عن التبكير أي عليه أن يبكر، فلا يتخطى رقاب الناس ولا يزاحم رجلين فيدخل بينهما؛ لأنه ربما ضيق عليهما خصوصا في شدة الحر واجتماع الأنفاس. قال الزين بن المنير: التفرقة بين اثنين تتناول القعود بينهما، وإخراج أحدهما والقعود مكانه. وقد يطلق على مجرد التخطي، وفي التخطي زيادة رفع رجليه على رؤسهما أو أكتافهما، وربما تعلق بثيابهما شيء مما برجليه. وفي الحديث كراهة التفرقة بين الاثنين. والأكثر على أنها كراهة تنزيه، واختار ابن المنذر التحريم، وبه جزم النووي في زوائد الروضة. (ثم يصلي ما كتب له) أي قدر وقضي له من سنة الجمعة. فيه أن الصلاة قبل الجمعة لا حد لها، وأقله ركعتان تحية المسجد. (ثم ينصت) بضم أوله من أنصت إذا سكت سكوت مستمع. (إذا تكلم الإمام) أي شرع في الخطبة. فيه أن من
(6/348)
تكلم حال تكلم الإمام لم يحصل
له من الأجر ما في الحديث. وفيه دليل على جواز الكلام قبل تكلم الإمام. (إلا غفر
له ما بينه وبين الجمعة الأخرى) وفي رواية: ما بين الجمعة إلى الجمعة الأخرى. وفي
رواية: حط عنه ذنوب ما بينه وبين الجمعة الأخرى. تأنيث الآخر بفتح الخاء لا
بكسرها. والمراد بها الجمعة التي مضت لما في حديث أبي ذر عند ابن خزيمة: غفر له ما
بينه وبين الجمعة التي قبلها، ولابن حبان من حديث أبي هريرة: غفر له ما بينه وبين
الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام من التي بعدها، ولأبي داود من حديث أبي سعيد وأبي
هريرة: كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها. والمراد غفران الصغائر لما
زاده في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه: ما لم تغش الكبائر. وذلك أن معنى هذه
الزيادة أي فإنها إذا غشيت لا تكفر، وليس المراد أن تكفير الصغائر شرطه اجتناب
الكبائر، إذ اجتناب الكبائر بمجرده يكفر الصغائر كما
رواه البخاري.
1394-(2) وعن أبي هريرة: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من اغتسل، ثم أتى
الجمعة فصلى ما قدر له،
(6/349)
نطق به القرآن في قوله: ?إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم? [4: 31]، أي نمح عنكم صغائركم. ولا يلزم من ذلك أن لا يكفر الصغائر إلا اجتناب الكبائر، وإذا لم يكن للمرء صغائر تكفر رجي له أن يكفر عنه بمقدار ذلك من الكبائر، وإلا أعطي من الثواب بمقدار ذلك، وقد تبين بمجموع ما ذكر من الغسل والتنظيف إلى آخره أن تكفير الذنوب من الجمعة إلى الجمعة مشروط بوجود جميع ما تقدم من غسل وتنظف وتطيب أو دهن ولبس أحسن الثياب والمشي بالسكينة وترك التخطي والتفرقة بين الاثنين وترك الأذى والتنفل والإنصات وترك اللغو. وفي حديث عبدالله بن عمرو: فمن تخطى أو لغا كانت له ظهرا. وفي الحديث مشروعية النافلة قبل صلاة الجمعة لقوله: يصلي ما كتب له، ثم قال: ثم ينصت إذا تكلم الإمام. فدل على تقدم ذلك على الخطبة، وقد بينه أحمد من حديث نبيشة الهذلي بلفظ: فإن لم يجد الإمام خرج صلى ما بدا له. واستدل به على أن التبكير ليس من ابتداء الزوال؛ لأن خروج الإمام يعقب الزوال، فلا يسع وقتا يتنفل فيه. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا أحمد والنسائي والدارمي والبيهقي (ج3ص242، 243) ولفظ النسائي: ما من رجل يتطهر يوم الجمعة كما أمر، ثم يخرج من بيته حتى يأتي الجمعة، وينصت حتى يقضي صلاته إلا كان كفارة لما قبله من الجمعة. ورواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن نحو رواية النسائي. وقال في آخره: إلا كان كفارة لما بينه وبين الجمعة الأخرى ما اجتنبت المقتلة، وذلك الدهر كله.
(6/350)
1394- قوله: (من اغتسل) أي
للجمعة لحديث: إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل، أو مطلقا. وفيه دلالة على أنه لا بد
في إحرازه لما ذكر من الأجر من الاغتسال، إلا أن في الرواية الآتية بيان أن غسل الجمعة
سنة وليس بواجب. وقيل: ليس فيها نفي الغسل، وقد ذكر الغسل في الرواية الأولى،
فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء في الرواية الثانية لمن تقدم غسله على الذهاب فاحتاج
إلى إعادة الوضوء. (ثم أتى الجمعة) أي الموضع الذي تقام فيه الجمعة، كما يدل عليه
قوله: (فصلى) أي من سنة الجمعة أو النوافل. (ما قدر له) بتشديد الدال. فيه دليل
على مشروعية الصلاة قبل الجمعة، وأنه لا حد لها. وقد ورد في سنة الجمعة التي قبلها
أحاديث أخرى ضعيفة. ذكرها الحافظ في الفتح (ج4ص509)، والزيلعي في نصب الراية
(ج2ص206، 207). قال الحافظ: وأقوى ما يتمسك به في مشروعية ركعتين قبل الجمعة عموم
ما صححه ابن حبان من حديث عبدالله بن الزبير مرفوعا:
ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته، ثم يصلي معه، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضل
ثلاثة أيام)). رواه مسلم.
1395-(3) وعنه، قال: قال رسول الله ?: ((من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة
فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام.
(6/351)
ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان. ومثله حديث عبدالله بن مغفل: بين كل أذانين صلاة. (ثم أنصت حتى يفرغ) أي الإمام. (من خطبته) قال النووي: قوله: "حتى يفرغ من خطبته" هكذا هو في الأصول من غير ذكر الإمام، وعاد الضمير إليه للعلم به وإن لم يكن مذكورا. (ثم يصلي معه) بالرفع عطفا على "ثم أنصت". وفيه دليل على أن النهي عن الكلام إنما هو حال الخطبة لا بعد الفراغ منها ولو قبل الصلاة، فإنه لا نهي عنه، كما دلت عليه "حتى". (غفر له ما بينه) أي ذنوب ما بينه. (وبين الجمعة الأخرى) أي الماضية لا المستقبلة. (وفضل ثلاثة أيام) أي من التي تلي بعدها، و"فضل" مرفوع عطفا بالواو بمعنى مع على ما في ما بينه، أي بين يوم الجمعة الذي فعل فيه ما ذكر مع زيادة ثلاثة أيام على السبعة، أي وغفرت له ذنوب ثلاثة أيام مع السبع لتكون الحسنة بعشر أمثالها. وجوز الجر في "فضل" للعطف على الجمعة، والنصب على المفعول معه. قال النووي: معنى المغفرة له ما بين الجمعتين وثلاثة أيام أن الحسنة بعشر أمثالها، وصار يوم الجمعة الذي فعل فيه هذه الأفعال الجميلة في معنى الحسنة التي تجعل بعشر أمثالها. والمراد بما بين الجمعتين من صلاة الجمعة وخطبتها إلى مثل ذلك الوقت من الجمعة الثانية حتى تكون سبعة أيام بلا زيادة ولا نقصان، ويضم إليها ثلاثة، فتصير عشرة. قال ابن حجر: لا ينافي ما قبله؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان أخبر بأن المغفور ذنوب سبعة أيام ثم زيد له ثلاثة أيام، فأخبر به إعلاما بأن الحسنة بعشر أمثالها. (رواه مسلم) وأخرج البيهقي (ج3ص243) نحوه.
(6/352)
1395- قوله: (من توضأ) قد
استدل به على أن غسل الجمعة سنة. قال القرطبي: ذكر الوضوء وما معه مرتبا عليه
الثواب المقتضى للصحة، فدل على أن الوضوء كاف، وقد تقدم الجواب عنه آنفا. (فأحسن
الوضوء) أي أتى بمكملاته من سننه ومستحباته. قال النووي: معنى إحسان الوضوء
الإتيان به ثلاثا ثلاثا. وذلك الأعضاء وإطالة الغرة، والتحجيل، وتقديم الميامن،
والإتيان بسننه المشهورة. (ثم أتى الجمعة) أي أتى المسجد لصلاة الجمعة. وقال
القاري: أي حضر خطبتها وصلاتها. (فاستمع وأنصت) أي سكت للاستماع، قاله السندي.
وقال الرازي في تفسيره: الإنصات سكوت مع استماع. ومتى انفك أحدهما عن الآخر لا
يقال له إنصات. وقال العيني في شرح البخاري: الإنصات هو السكوت مع الإصغاء-انتهى.
(غفر له ما بينه وبين الجمعة) السابقة وهي سبعة أيام
ومن مس الحصا فقد لغا)). رواه مسلم.
1396-(4) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان يوم الجمعة،
وقفت الملائكة على باب المسجد، يكتبون الأول، فالأول، ومثل المهجر
بناء على أن الحساب من وقت الصلاة إلى مثله من الثانية فبزيادة ثلاثة أيام تتم
عشرة. (ومن مس الحصى) أي لتسويتها سواء مسها في الصلاة أو قبلها بطريق اللعب في
حال الخطبة. (فقد لغا) أي ومن لغا فلا جمعة له، كما جاء والمراد أنه يصير محروما
من الأجر الزائد. قال النووي: فيه النهي عن مس الحصى وغيره من العبث في حال الخطبة.
وفيه إشارة إلى إقبال القلب والجوارح على الخطبة. والمراد باللغو ههنا الباطل
المذموم المردود-انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود وابن ماجه
والبيهقي (ج3ص223).
(6/353)
1396- قوله: (إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة) هم غير الحفظة، كما يدل عليه الأحاديث الواردة في فضل التبكير. والمعنى أنهم يستمرون من طلوع الفجر وهو أول اليوم شرعا أو من طلوع الشمس، وهو أول النهار العرفي، أو من ارتفاع النهار، أو من حين الزوال. قال القاري: وهو أقرب، ورجحه أيضا الشاه ولي الله الدهلوي في المسوى شرح الموطأ (ج1ص150) وإليه مال الشوكاني، وبه قالت المالكية، وهو وجه للشافعية والأول هو ظاهر كلام الشافعي، وصححه النووي والرافعي وغيرهما. والثاني أيضا وجه للشافعية. والراجح عندي هو الثالث، وقد اختاره ابن رشد في البداية، وسيأتي بسط الكلام في ذلك. (على باب المسجد) وعند ابن خزيمة على كل باب من أبواب المسجد ملكان يكتبان الأول فالأول. قال الحافظ: فكان المراد بقوله "على باب المسجد" ههنا جنس الباب، ويكون من مقابلة المجموع بالمجموع. قلت: وفي رواية للشيخين، إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة. وفي أخرى لمسلم: على كل باب من أبواب المسجد ملك يكتب. وفي رواية للنسائي: تقعد الملائكة على أبواب المسجد. وكذا في حديث أبي أمامة عند أحمد والطبراني، وحديث علي وأبي سعيد عند أحمد. (يكتبون الأول فالأول) قال الطيبي: أي الداخل الأول. والفاء فيه، و"ثم" في قوله: "ثم كالذي يهدي بقرة" كلتاهما لترتيب النزول من الأعلى إلى الأدنى، لكن في الثانية تراخ ليس في الأولى-انتهى. قال القسطلاني قال في المصابيح نصب. (أي الأول) على الحال، وجاءت معرفة، وهو قليل. (ومثل المهجر) بضم الميم وتشديد الجيم المكسورة، اسم فاعل من التهجير أي صفة المبكر إلى الجمعة. فالمراد بالتهجير التبكير أي المبادرة إلى الجمعة بعد الصبح. وقيل: المراد الذي يأتي في المهاجرة أي عند شدة الحر قرب نصف النهار، فيكون دليلا للمالكية في قولهم: إن الساعات من حين الزوال، وإن الذهاب إلى الجمعة بعد الزوال لا قبله؛ لأن التهجير هو
(6/354)
كمثل الذي يهدي بدنه، ثم كالذي
يهدي بقرة، ثم كبشا، ثم دجاجة، ثم بيضة،
السير في الهاجرة أي نصف النهار. قال الحافظ: وأجيب بأن المراد بالتهجير هنا
التبكير كما تقدم نقله عن الخليل في المواقيت. وقال القرطبي: الحق أن التهجير هنا
من الهاجرة، وهو السير في وقت الحر، وهو صالح لما قبل الزوال وبعده، فلا حجة فيه
لمالك. وقال التوربشتي: من ذهب في معناه إلى التبكير فإنه أصاب وسلك طريقا حسنا من
طريق الاتساع، وذلك أنه جعل الوقت الذي يرتفع فيه النهار ويأخذ الحر في الازدياد
من الهاجرة تغليبا، بخلاف ما بعد الزوال، فإن الحر يأخذ في الانحطاط، وهذا كما
يسمى النصف الأول من النهار غدوة، والآخر عشية. ومما يدل على استعمالهم التهجير في
أول النهار ما أنشد ابن الأعرابي في نوادره لبعض العرب: يهجرون تهجير الفجر. (كمثل
الذي يهدي) بضم أوله وكسر ثالثه أي يقرب. (بدنة) بفتحتين أي بعيرا ذكرا كان أو
أنثى. والتاء للوحدة لا للتأنيث، وهو خبر عن قوله: "مثل المهجر"، والكاف
لتشبيه صفة بصفة. والمعنى صفة المبكر إلى الجمعة مثل صفة الذي يتصدق بإبل متقربا
إلى الله تعالى. وقيل: المراد كالذي يهديها إلى مكة، ولا يناسبه الدجاجة والبيضة.
قال الطيبي: سميت بدنة لعظم بدنها، وهي الإبل خاصة، وفي اختصاص ذكر الهدي، وهو
مختص بما يهدى إلى الكعبة، إدماج لمعنى التعظيم في إنشاء الجمعات، وأن المبادر
إليها كمن ساق الهدى، وأنه بمثابة الحضور في عرفات. (ثم) الثاني (كالذي يهدي بقرة)
ذكرا أو أنثى. والتاء للوحدة لا للتأنيث. وفيه دليل على أن البدنة لا تشمل البقرة
لتقابلها بها وإليه ذهب الشافعي، وقال أبوحنيفة: البدنة تطلق على البقر أيضا،
وإنما أريد هنا البعير خاصة لقرينة المقابلة، وهذا لا ينفي عموم الإطلاق. (ثم)
الثالث كالذي يهدي. (كبشا) بفتح الكاف وسكون الموحدة، وهو الفحل الذي يناطح، قاله
في المجمع. وقال في القاموس: الكبش الحمل إذا أثنى أو
(6/355)
إذا خرجت رباعيته. وفي ذكر
الكبش، وهو الذكر، إشارة إلى أنه أفضل من الأنثى. وفي رواية: كبشا أقرن. قال
النووي: وصفه به؛ لأنه أكمل وأحسن صورة. ولأن قرنه ينتفع به. وفي رواية النسائي:
ثم كالمهدي شاة، واستدل بالترتيب المذكور على أن التقرب بالإبل أفضل من التقرب
بالبقر، والتقرب بالبقر أفضل من التقرب بالشاة، وهو متفق عليه في الهدي، مختلف فيه
في الأضحية، والجمهور على أنها كذلك. وقال مالك: الأفضل في الضحايا الغنم ثم البقر
ثم الإبل. ثم إنه وقع في رواية النسائي زيادة البطة بين الشاة والدجاجة، وهي زيادة
شاذة، كما صرح به النووي في الخلاصة. (ثم) الرابع كالذي يهدي. (دجاجة) بفتح الدال
في الأفصح ويجوز الكسر والضم، ودخلت الهاء فيها لأنه واحد من جنس مثل حمامة وبطة
ونحوهما، ووقع في رواية أخرى للنسائي: زيادة مرتبة بين الدجاجة والبيضة، وهي
العصفور وهي أيضا زيادة شاذة. (ثم) الخامس كالذي يهدي. (بيضة) هي واحدة من البيض،
والجمع بيوض، وجاء في الشعر بيضات، وإنما
فإذا خرج الإمام طووا صحفهم ويستمعون الذكر.
(6/356)
قدرنا الثاني، لأنه-كما قال في المصابيح-لا يصح العطف على الخبر لئلا يقعا معا خبرا عن واحد، وهو مستحيل، وحينئذ فهو خبر مبتدأ محذوف مقدر بما مر. وكذا قوله: "ثم كبشا" لا يكون معطوفا على بقرة؛ لأن المعنى يأباه، بل هو معمول فعل محذوف دل عليه المتقدم. والتقدير-كما مر-، ثم الثالث كالذي يهدي كبشا وكذا ما بعده، واستشكل ذكر الدجاجة والبيضة؛ لأن الهدي لا يكون منهما. وأجيب بأنه من باب المشاكلة أي من تسمية الشيء باسم قرينه. والمراد بالإهداء هنا التصدق، كما دل عليه لفظ: قرب في رواية أخرى وهو يجوز بهما. (فإذا خرج الإمام) أي من الصف إلى المنبر يعني ظهر بطلوعه على المنبر. (طووا) أي الملائكة (صحفهم) التي كتبوا فيها درجات السابقين على من يليهم في الفضيلة، قال الحافظ: وقع في حديث عمر صفة الصحف المذكورة، أخرجه أبونعيم في الحلية مرفوعا بلفظ: إذا كان يوم الجمعة بعث الله ملائكة بصحف من نور، وأقلام من نور-الحديث. وهو دال على أن الملائكة المذكورين غير الحفظة، وظيفتهم كتابة حاضري الجمعة خاصة. والمراد بطي الصحف طي صحف الفضائل المتعلقة بالمبادرة إلى الجمعة دون غيرها من سماع الخطبة. وإدراك الصلاة والذكر والدعاء والخشوع ونحو ذلك، فإنه يكتبه الحافظان قطعا. ووقع في آخر الحديث عند ابن ماجه فمن جاء بعد ذلك فإنما يجيء لحق الصلاة يعني فله أجر الصلاة، وليس له شيء من الزيادة في الأجر. فإن قلت: وقع في رواية للشيخين: فإذا جلس الإمام طووا الصحف فما الفرق بين الروايتين؟ قلت: بخروج الإمام يحضرون إلى المنبر من غير طي، فإذا جلس الإمام على المنبر طووها. ويقال: ابتداء طيهم الصحف عند ابتداء خروج الإمام، وانتهاؤه بجلوسه على المنبر، وهو أول سماعهم للذكر. (ويستمعون) أي الملائكة. (الذكر) أي الخطبة. قال العيني والحافظ: المراد بالذكر ما في الخطبة من المواعظ وغيرها-انتهى. وأتى بصيغة المضارع لاستحضار صورة الحال اعتناء
(6/357)
بهذه المرتبة، وحملا على الإقتداء بالملائكة. قال التيمي في استماع الملائكة حض على استماعها والإنصات إليها. وفي الحديث فوائد كثيرة لا تخفي على المتأمل. وقد رواه أيضا الشيخان بلفظ: من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا أخرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر. قال الحافظ: في هذا الحديث الحض على الإغتسال يوم الجمعة وفضله وفضل التبكير إليها، وأن الفضل المذكور إنما يحصل لمن جمعهما، وعليه ما أطلق في باقي الروايات من ترتب الفضل على التبكير من غير تقييد بالغسل. وفيه أن مراتب الناس في الفضل بحسب أعمالهم. وأن القليل من الصدقة غير محتقر في الشرع. واعلم أنه اختلف العلماء في الساعات المذكورة في هذه الرواية ما المراد منها؟ واختلفوا أيضا في أن ابتداء هذه الساعات من حين الزوال أو من قبله، فقال مالك والقاضي حسين وإمام الحرمين من الشافعية،
(6/358)
المراد بالساعات الخمس لحظات خفيفة لطيفة أولها زوال الشمس، وآخرها قعود الخطيب على المنبر، فالساعات الخمس المذكورة كلها في ساعة واحدة أي هي أجزاء من الساعة السادسة الزمانية بعد الزوال، ولم ير هؤلاء التبكير إلى الجمعة قبل الزوال لا من طلوع الفجر، ولا من طلوع الشمس، ولا من ارتفاع النهار. واختار هذا القول الشاه ولي الله في المسوي. ومال إليه الشوكاني في النيل. واستدل لهم بوجوه: منها لفظ: الرواح في الرواية المتقدمة، فإنه يدل على أن أول الذهاب إلى الجمعة من الزوال؛ لأن حقيقة الرواح من الزوال إلى آخر النهار، والغدو من أوله إلى الزوال. قال المازرى: تمسك مالك بحقيقة الرواح، وتجوز في الساعة، وعكس غيره. وأجيب بأن الرواح-كما قال الأزهري -: يطلق لغة على الذهاب سواء كان أول النهار أو آخره أو في الليل. قال الأزهري: وهي لغة أهل الحجاز. ونقل أبوعبيد في الغريبين نحوه. ثم إنه لم يقع التعبير بالرواح-كما قال الحافظ-إلا في رواية مالك عن سمي، ورواه ابن جريج عن سمي بلفظ: غدا. ورواه أبوسلمة عن أبي هريرة بلفظ: المتعجل إلى الجمعة. صححه ابن خزيمة، وفي حديث سمرة عند ابن ماجه: ضرب رسول الله ? مثل الجمعة في التبكير كناحر البدنة الخ. وفي حديث علي عند أبي داود: إذا كانت الجمعة غدت الشياطين براياتها إلى الأسواق، وتغدو الملائكة فتجلس على باب المسجد، فتكتب الرجل من ساعة... الحديث، فدل مجموع هذه الأحاديث على أن المراد بالرواح الذهاب. وقيل: النكتة في التعبير بالرواح الإشارة إلى أن الفعل المقصود إنما يكون بعد الزوال، فيسمى الذاهب إلى الجمعة رائحا وإن لم يجيء وقت الرواح، كما سمى القاصد إلى مكة حاجا. ومنها لفظ المهجر فإنه مشتق من التهجير، وهو السير في وقت الهاجرة، وهي نصف النهار عند اشتداد الحر، تقول منه هجر النهار، وقد ذكر المراتب الباقية بلفظ: "ثم" من غير ذكر الساعات. وقد تقدم الجواب عن هذا. ومنها أن الساعة في
(6/359)
اللغة الجزء من الزمان، وحملها-كما ذهب إليه الجمهور- على الزمانية التي يقسم النهار فيها إلى اثنا عشر جزء يبعد إحالة الشرع عليه لاحتياجه إلى حساب ومراجعة آلات تدل عليه. وأجيب بأن الساعة قد يطلق على جزء من أربعة وعشرين جزءا هي مجموع اليوم والليلة. ويدل على اعتبارها في عرف الشرع ما روى أبوداود والنسائي، وصححه الحاكم من حديث جابر مرفوعا: يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة. وهذا وإن لم يرد في حديث التبكير فيستأنس به في المراد بالساعات. ومنها أن الساعة لو طلعت للزم تساوى الآتين فيها، والأدلة تقتضى رجحان السابق بخلاف ما إذا قيل: إنها لحظة خفيفة لطيفة. وأجيب بأن التساوي وقع مسمى البدنة، والتفاوت
(6/360)
صفاتها يعني أن بدنة الأول مثلا أكمل من بدنة الأخير، وبدنة المتوسط متوسطة، فمراتبهم متفاوتة، وإن اشتركوا في البدنة مثلا. ومنها عمل أهل المدينة، فإنهم لم يكونوا يأتون من أول النهار، وأيضا لم يعرف أن أحدا من الصحابة كان يأتي المسجد لصلاة الجمعة عند طلوع الشمس وصفائها، ولا يمكن حمل حالهم على ترك هذه الفضيلة العظيمة. وهذا يدل على أن المراد من الساعات لحظات خفيفة بعد الزوال، لا الساعات الزمانية المعروفة عند أهل الفلك وعلم الميقات. وأجيب بأن عمل أهل المدينة ليس بحجة، كما تقرر في موضعه، وأيضا ليس في عمل أهل المدينة هذا إلا ترك الرواح إلى الجمعة من أول النهار، وهذا جائز بالضرورة. وقد يكون اشتغال الرجل بمصالحه ومصالح أهله ومعاشه وغير ذلك من أمور دينه ودنياه أفضل من رواحه إلى الجمعة من أول النهار. وترك أهل المدينة وغيرهم ذلك لا يدل على أنه مكروه. وقال القاري: وقد كان السلف يمشون على السرج يوم الجمعة إلى الجامع. وفي الإحياء وأول بدعة حدثت في الإسلام ترك التبكير إلى المساجد-انتهى. وقد أنكر عمر على عثمان ترك التبكير بمحضر من الصحابة، وكبار التابعين من أهل المدينة. وهذا يرد على من ادعى إجماع أهل المدينة على ترك التبكير. ومنها أن حملها على الساعات الفلكية يستلزم صحة صلاة الجمعة قبل الزوال؛ لأن تقسيم الساعات إلى خمس، ثم تعقيبها بخروج الإمام وخروجه عند أول الزوال يقتضي أنه يخرج في أول الساعة السادسة، وهي قبل الزوال. وقد أجاب عنه الحافظ بأنه ليس في شيء من طرق هذا الحديث ذكر الإتيان من أول النهار، فلعل الساعة الأولى منه جعلت للتأهب بالاغتسال وغيره، ويكون مبدأ المجيء من أول الثانية، فهي أولى بالنسبة إلى المجيء ثانية بالنسبة للنهار. وعلى هذا فآخر الخامسة أول الزوال. وإلى هذا أشار الصيدلاني شارح المختصر حيث قال: إن أول التبكير يكون من ارتفاع النهار، وهو أول الضحى، وهو أول الهاجرة. ويؤيده
(6/361)
الحث على التهجير إلى الجمعة.
وحمل الجمهور الساعات المذكورة في الحديث على الساعات الزمانية. كما في سائر
الأيام. وقد تقدم حديث جابر مرفوعا: يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة. والمراد بها
الساعات الآفاقية التي لا يختلف عددها بطول النهار وقصره، فالنهار اثنتا عشرة
ساعة، لكن يزيد كل منها وينقص، والليل كذلك. ثم اختلفوا فقالت طائفة منهم: ابتداء
هذه الساعات من طلوع الشمس، والأفضل عندهم التبكير في ذلك الوقت إلى الجمعة، وهو
قول الثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد. قال الماوردي: إنه الأصح ليكون قبل ذلك من
طلوع الفجر زمان غسل وتأهب. وقال الروياني: إن ظاهر كلام الشافعي أن التبكير يكون
من طلوع الفجر، وصححه الروياني، وكذلك صاحب المهذب قبله، ثم الرافعي والنووي. وحكى
الصيدلاني أن أول التبكير من ارتفاع
متفق عليه.
1397-(5) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قلت لصاحبك يوم
الجمعة: أنصت، والإمام يخطب،
(6/362)
النهار، وهو أول الضحى، وهو أول الهاجرة.قلت: وهذا القول هو الراجح عندي، وبه تجتمع الأحاديث، وبه يرتفع الإشكال الذي يرد على مذهب مالك. وسيأتي ذكره في كلام النووي. ويؤيد هذا القول الحث على التهجير إلى الجمعة، فقد تقدم في كلام القرطبي أن التهجير هنا من الهاجرة، وهو السير في وقت الحر، وهو صالح لما قبل الزوال وبعده-انتهى. ومن المعلوم أن اشتداد الحر يكون من ربع النهار غالبا، فمن راح إلى الجمعة في هذا الوقت أي عند ارتفاع النهار يعني في أول الضحى وأول الهاجرة صدق عليه الألفاظ الواردة في الأحاديث التي أشرنا إليها، وهي المتعجل والتبكير والغدو والرواح والتهجير. قال النووي: إن النبي ? أخبر أن الملائكة تكتب من جاء في الساعة الأولى، وهو كالمهدي بدنة، ثم من جاء في الساعة الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، فإذا خرج الإمام طووا الصحف، ولم يكتبوا بعد ذلك أحدا. ومعلوم أن النبي ? كان يخرج إلى الجمعة متصلا بعد الزوال، فدل على أنه لا شيء من الهدي والفضيلة لمن جاء بعد الزوال، وكذا ذكر الساعات إنما كان للحث على التبكير إليها، والترغيب في فضيلة السبق، وتحصيل الصف الأول، وانتظارها بالاشتغال بالتنفل والذكر ونحوه. وهذا كله لا يحصل بالذهاب بعد الزوال، ولا فضيلة لمن أتى بعد الزوال؛ لأن النداء يكون حينئذ، ويحرم التخلف بعد النداء-انتهى. هذا. وقد بسط ابن القيم الكلام على ذلك في الهدي (ج1ص110- 112) ورجح قول من قال: إن ابتداء الساعات من أول النهار. من شاء البسط رجع إليه. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب الاستماع إلى الخطبة من كتاب الجمعة. وأخرجه أيضا أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي وغيرهم.
(6/363)
1397- قوله: (إذا قلت) بلفظ
الخطاب. (لصاحبك) الذي تخاطبه إذ ذاك أو جليسك. وإنما ذكر الصاحب لكونه الغالب.
(يوم الجمعة) فيه دلالة على أن الخطبة غير الجمعة ليست مثلها ينهى عن الكلام
حالها. قال الحافظ: قوله. (يوم الجمعة) مفهومة أن غير يوم الجمعة بخلاف ذلك، وفيه
بحث-انتهى. (أنصت) أي أسكت عن الكلام مطلقا واستمع للخطبة. وقال ابن خزيمة: المراد
بالإنصات السكوت عن مكالمة الناس دون ذكر الله. قال الحافظ: وتعقب بأنه منه جواز
القراءة والذكر حال الخطبة، فالظاهر أن المراد السكوت مطلقا، ومن فرق احتاج إلى
دليل. ولا يلزم من تجويز التحية لدليلها الخاص جواز الذكر مطلقا. (والإمام يخطب)
جملة
فقد لغوت)).
(6/364)
حالية مشعرة بأن ابتداء الإنصات من الشروع في الخطبة. ففيه دليل على أنه يختص النهي بحال الخطبة، ورد على من جعل وجوب الإنصات، والنهي عن الكلام من حال خروج الإمام. نعم الأولى والأحسن الإنصات. (فقد لغوت) أي ومن لغا فلا أجر له، فإذا كان هذا القدر مبطلا للأجر مع أنه أمر بالمعروف، فكيف ما فوقه، واختلفوا في معنى قوله: "لغوت" فقال الأخفش: اللغو الكلام الذي لا أصل له من الباطل وشبهه. وقال ابن عرفة: اللغو السقط من القول. وقيل: الميل عن الصواب. وقيل: اللغو الإثم، كقوله تعالى: ?وإذا مروا باللغو مروا كراما? [72:25]. وقال الباجي: اللغو رديء الكلام وما لا خير فيه. وقال المجد: اللغو واللغى، كالفتي، السقط وما لا يعتد به من كلام وغيره. وقال الزين بن المنير: اتفقت أقوال المفسرين على أن اللغو ما لا يحسن من الكلام. وقال النضر بن شميل: معنى لغوت خبت من الأجر. وقيل: بطلت فضيلة جمعتك. وقيل: صارت جمعتك ظهرا. قال الحافظ: أقوال أهل اللغة متقاربة المعنى. ويشهد للقول الأخير ما رواه أبوداود وابن خزيمة والبيهقي (ج3:ص231) من حديث عبدالله بن عمرو مرفوعا: ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرا. قال ابن وهب أحد رواته: أجزأت عنه الصلاة، وحرم فضيلة الجمعة. ولأحمد من حديث علي مرفوعا: من قال صه فقد تكلم، ومن تكلم فلا جمعة له. ولأبي داود ونحوه. ولأحمد والبزار من حديث ابن عباس مرفوعا: من تكلم يوم الجمعة، والإمام يخطب، فهو كالحمار يحمل أسفارا. والذي يقول له أنصت ليست له جمعة. وله شاهد قوي في جامع حماد بن سلمة عن ابن عمر موقوفا. قال العلماء: معناه لا جمعة له كاملة للإجماع على إسقاط فرض الوقت عنه-انتهى. واستدل بالحديث على منع جميع أنواع الكلام حال الخطبة؛ لأنه إذا جعل قوله: "أنصت" مع كونه أمرا بمعروف لغوا فغيره من الكلام أولى أن يسمى لغوا، ويؤيده حديثا علي وابن عباس المتقدمان في كلام الحافظ لإطلاق الكلام
(6/365)
فيهما، وعدم الفرق بين ما لا فائدة فيه وغيره. والمسألة مختلف فيها عند الأئمة، فقال الشافعية: يكره الكلام حال الخطبة من إبتدائها لقوله تعالى: ?وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا? [204:7]. وقد ذكر كثير من المفسرين أنه نزل في الخطبة، وسميت قرآنا لاشتمالها عليه، ولحديث أبي هريرة الذي نحن بصدد شرحه. ولا يحرم للأحاديث الدالة على ذلك كحديث أنس المروي في الصحيحين في قصة السائل في الاستسقاء، وكحديث أنس أيضا المروي بسند صحيح عند البيهقي في قصة السائل عن وقت الساعة. وجه الدلالة أنه لم ينكر عليهما الكلام، ولم يبين لهما وجه السكوت، والأمر في الآية للندب، ومعنى "لغوت" تركت الأدب جمعا بين الأدلة. قال العيني: وفي التوضيح والجديد الصحيح من مذهب الشافعي أنه لا يحرم الكلام، ويسن الإنصات، وبه قال الثوري وداود. والقديم أنه يحرم، وبه قال مالك والأوزاعي
(6/366)
وأبوحنيفة وأحمد-انتهى. وقال الحافظ: للشافعي في المسألة قولان مشهوران، وبناهما بعض الأصحاب على الخلاف في أن الخطبتين بدل عن الركعتين أم لا؟ فعلى الأول يحرم لا على الثاني، والثاني هو الأصح. فمن ثم أطلق من أطلق إباحة الكلام. وعن أحمد أيضا روايتان. واختلفوا فيمن كان به صمم أو بعد عن الإمام بحيث لا يسمع، فقال المالكية: يحرم الكلام عليه أيضا لعموم وجوب الإنصات، وعن أحمد والشافعي التفرقة بين من يسمع الخطبة ومن لا يسمعها، قال العيني: نقل ابن بطال: أن أكثر العلماء أن الإنصات واجب على من سمعها ومن لم يسمعها وأنه قول مالك، وكان عروة لا يرى بأسا بالكلام إذا لم يسمع الخطبة. وقال أحمد: لا بأس أن يذكر الله ويقرأ من لم يسمع الخطبة. قال العيني: واختلف المتأخرون. (أي من الحنفية) فيمن كان بعيد لا يسمع الخطبة، فقال محمد بن سلمة: المختار السكوت، وهو الأفضل. وقال نصر بن يحيى: يسبح ويقرأ القرآن، وهو قول الشافعي. وأجمعوا أنه لا يتكلم. وقيل: الاشتغال بالذكر وقراءة القرآن أفضل من السكوت-انتهى. قال الحافظ: ويدل على الوجوب في السامع أن في حديث علي المشار إليه: ومن دنا فلم ينصت كان عليه كفلان من الوزر، ولأن الوزر لا يترتب على من فعل مباحا ولو كان مكروها كراهة تنزيه. وأما ما استبدل به من أجاز مطلق من قصة السائل في الاستسقاء ونحو ففيه نظر؛ لأنه استدل بالأخص على الأعم، فيمكن أن يخص عموم الأمر بالإنصات بمثل ذلك كأمر عارض في مصلحة عامة كما خص بعضهم منه رد السلام بوجوبه. ونقل صاحب المغني الإتفاق على أن الكلام الذي يجوز في الصلاة يجوز في الخطبة كتحذير الضرير من البئر. وعبارة الشافعي: وإذا خاف على أحد لم أر بأسا إذا لم يفهم عنه بالإشارة أن يتكلم-انتهى. وأجيب أيضا عن حديث أنس في قصة الاستسقاء وما في معناه بأنه غير محل النزاع؛ لأن محل النزاع الإنصات والإمام يخطب. وأما سؤال الإمام وجوابه فهو قاطع لكلامه،
(6/367)
فيخرج عن ذلك. واختلف في رد
السلام وتشميت العاطس، وتحميد العاطس، فرخص فيه أحمد والشافعي وإسحاق. قال الشافعي
في الأم: ولو سلم رجل على رجل يوم الجمعة كرهت ذلك له، ورأيت أن يرد عليه بعضهم؛
لأن رد السلام فرض، وقال أيضا ولو عطس رجل يوم الجمعة فشمته رجل رجوت أن يسعه؛ لأن
التشميت سنة-انتهى. وقال ابن الهمام: يكره تشميت العاطس ورد السلام، وهل يحمد إذا
عطس؟ الصحيح نعم في نفسه، وذكر العيني عن أبي حنيفة إذا سلم عليه يرده بقلبه، وعن
أبي يوسف: يرد السلام، ويشمت العاطس فيها، وعن محمد: يرد ويشمت بعد الخطبة ويصلي
على النبي ? في قلبه-انتهى. وفي المدونة قال مالك فيمن عطس والإمام يخطب. فقال:
يحمد الله في نفسه سرا ولا يشمت أحد العاطس-انتهى. واختلفوا في وقت الإنصات، فقال
أبوحنيفة: خروج الإمام يقطع الصلاة والكلام جميعا لما روى الطبراني
متفق عليه.
1398- (6) وعن جابر، قال: قال رسول الله ?: ((لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة، ثم
يخالف
(6/368)
في الكبير من حديث ابن عمر رفعه. إذا دخل أحدكم المسجد، والإمام على المنبر، فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام، وهو حديث ضعيف فيه أيوب بن نهيك، وهو منكر الحديث، قاله أبوزرعة وأبوحاتم، ذكره الحافظ. وقال الهيثمي: هو متروك ضعفه جماعة. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ. وقال طائفةك لا يجب الإنصات إلا عند إبتداء الخطبة، ولا بأس بالكلام قبلها، وهو قول مالك والثوري وأبي يوسف ومحمد والشافعي. قلت: والراجح عندي في المسائل المذكورة أن السكوت في حال الخطبة واجب والكلام حرام، هذا فيمن يدنو من الإمام ويسمع الخطبة. وأما من كان بعيدا عنه، ولا يسمع الخطبة، أو كان به صمم، فالسكوت في حقه أحوط، ويجوز تشميت العاطس ورد السلام سرا في النفس، وكذا الحمد عن العطسة، والصلاة على النبي ? ولا يكره الإشارة بالرأس أو باليد أو بالعين لإزالة منكر أو جواب سائل. ووقت الإنصات هو ابتداء الخطبة والشروع فيها لا خروج الإمام. هذا ما عندي. والله تعالى أعلم. (متفق عليه) وأخرجه أيضا مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص218، 219) وغيرهم في الباب عن جماعة من الصحابة ذكرهم العيني (ج6:ص240).
(6/369)
1398- قوله: (لا يقيمن أحدكم
أخاه) قال الحافظ: هذا لا مفهوم له، بل ذكر لمزيد التنفير عن ذلك لقبحه؛ لأنه إن
فعله من جهة الكبر كان قبيحا، فإن فعله من جهة الأشرة كان أقبح. (يوم الجمعة) فيه
أن النهي المذكور مقيد بيوم الجمعة، وقد ورد ذلك بلفظ العموم، كما في حديث ابن عمر
الآتي في الفصل الثالث من هذا الباب. قال الشوكاني: ذكر يوم الجمعة في حديث جابر
من باب التنصيص على بعض أفراد العام، لا من باب التقييد للأحاديث المطلقة، ولا من
باب التخصيص للمعلومات، فمن سبق إلى موضع مباح، سواء كان مسجدا أو غيره في يوم
جمعة، أو غيرها، لصلاة أو لغيرها من الطاعات، فهو أحق به، ويحرم على غيره إقامته
منه، والقعود فيه، إلا أنه يستثنى من ذلك الموضع الذي قد سبق لغيره فيه حق كان
يقعد رجل في موضع، ثم يقوم منه لقضاء حاجة من الحاجات، ثم يعود إليه، فإنه أحق به
ممن قعد فيه بعد قيامه؛ لحديث أبي هريرة عند أحمد ومسلم مرفوعا بلفظ: إذا قام
أحدكم من مجلسه، ثم رجع إليه، فهو أحق به، ولحديث وهب بن حذيفة عند أحمد والترمذي
رفعه: الرجل أحق بمجلسه وإن خرج لحاجته ثم عاد فهو أحق بمجلسه. قال الشوكاني:
وظاهرهما عدم الفرق بين المسجد وغيره. ويجوز له إقامة من قعد فيه، وقد ذهب إلى ذلك
الشافعية (ثم يخالف) قال القاري بالرفع.
إلى مقعده، فيقعد فيه، ولكن يقول: افسحوا)) رواه مسلم.
?الفصل الثاني?
1399، 1400-(7، 8) عن أبي سعيد، وأبي هريرة، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ((من اغتسل يوم الجمعة، لبس من أحسن ثيابه،
(6/370)
وقيل بالجزم أي يقصد ويذهب. (إلى مقعده) أي إلى موضع قعوده. (فيقعد فيه) قال الزمخشري: خالفني فلان إلى كذا إذا قصده، وأنت مول عنه، وخالفني عنه إذا ولى عنه، وأنت قاصده، ويلقاك الرجل صادرا عن الماء، فتسأله عن صاحبه، فيقول لك: خالفني إلى الماء، يريد أنه ذاهب إليه واردا، وأنا ذاهب عنه صادرا. ومنه قوله تعالى: ?وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه? [11: 88]، يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم-انتهى. وقال الطيبي: المخالفة أن يقيم صاحبه من مقامه فيخالف، فينتهي إلى مقعده فيقعد فيه. قال تعالى: ?ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه?. وفيه إدماج وزجر للمتكبرين، أي كيف تقيم أخاك المسلم، وهو مثلك في الدين لا مزية لك عليه. زاد ابن حجر: فيحرم ذلك بغير رضا الجالس رضا حقيقيا لا عن خوف أو أحياء، ذكره القاري. قال الشوكاني: وظاهر حديث جابر وحديث ابن عمر أنه يجوز للرجل أن يقعد في مكان غيره إذا أقعده برضاه، قال: ويكره الإيثار بمحل الفضيلة كالقيام من الصف الأول إلى الثاني؛ لأن الإيثار وسلوك طرائق الآداب لا يليق أن يكون في العبادات والفضائل، بل المعهود أنه في حظوظ النفس وأمور الدنيا، فمن آثر بحظه في أمر من أمور الآخرة فهو من الزاهدين في الثواب-انتهى. وقال ابن حجر: الإيثار بالقرب بلا عذر مكروه، وأما قوله تعالى: ?ويؤثرون على أنفسهم? [59: 9] فالمراد به الإيثار في حظوظ النفس، كما بينه قوله: ?ولو كان بهم خصاصة? [59: 9]-انتهى. (ولكن يقول) أي أحدكم للقاعدين. (افسحوا) أي وسعوا في المجلس. وفي حديث ابن عمر: تفسحوا وتوسعوا، يقال فسح له في المجلس أي وسع له وتفسحوا في المجلس وتفاسحوا أي توسعوا. فإن زاد ?يفسح الله لكم? كما أشارت إليه آيته فلا بأس. وفيه إشارة إلى قوله تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم? [58: 11] لكن هذا إن
(6/371)