الخميس، 1 سبتمبر 2022

ج15.وج16.مرعاة المفاتيح

 

15. مرعاة المفاتيح

الشمس، وكذلك إدبار النهار. فمن ثم قيد بقوله "وغربت الشمس" إشارة إلى تحقق الإقبال والابادر وإنهما بواسطة غروب الشمس لا بسبب آخر (فقد أفطر الصائم) أي أنقضى صومه شرعا وتم ولا يوصف الآن بأنه صائم فإن بغروب الشمس خرج النهار ودخل الليل والليل ليس محلا للصوم قاله النووي. وقال الحافظ: أي دخل في وقت الفطر وجاز له أن يفطر كما يقال أنجد إذا أقام بنجد وأتهم إذا أقام بتهامة (وأصبح إذا دخل في وقت الصبح وأمسى وأظهر كذلك). ويحتمل أن يكون معناه فقد صار مفطرا في الحكم (وإن لم يفطر حسا) لكون الليل ليس ظرفا للصيام الشرعي. وقد رد هذا الإحتمال ابن خزيمة. وأومأ إلى ترجيح الأول (من المعنيين اللذين ذكرهما الحافظ) فقال قوله فقد "أفطر الصائم" لفظ خبر ومعناه الأمر أي فليفطر الصائم ولو كان المراد فقد صار مفطرا كان فطر جميع الصوام واحدا ولم يكن للترغيب في تعجيل الافطار معنى - انتهى.و رجح الحافظ المعنى الأول بما وقع في حديث عبدالله بن أبي أوفى عند أحمد (ج4:ص382) من طريق شعبة عن سليمان الشيباني بلفظ: إذا جاء الليل من ههنا فقد حل الافطار. وقال الطيبي: ويمكن أن يحمل الأخبار على الإنشاء إظهارا للحرص على وقوع المأمور به. قال ابن حجر: أي إذا أقبل الليل فليفطر الصائم وذلك إن الخيرية منوطة بتعجيل الافطار فكأنه قد وقع وحصل وهو يخبر عنه (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد (ج1:ص28-35-48-54) والترمذي وأبوداود والدارمي وابن خزيمة والبيهقي (ج4:ص216-237).

(12/355)


2006- قوله: (نهى عن الوصال في الصوم) هو تتابع الصوم من غير فطر بالليل. وقال الحافظ: هو الترك في ليالي الصيام لما يفطر بالنهار بالقصد فيخرج من أمسك اتفاقا ويدخل من أمسك جميع الليل أو بعضه- انتهى. وقال الطحاوي: هو أن يصوم ولا يفطر بعد الغروب أصلا حتى يتصل صوم الغد بالأمس والفرق بين صيام الوصال وصيام الدهر، إن من صام يومين أو أكثر ولم يفطر ليلتهما فهو مواصل، وليس هذا صوم الدهر ومن صام عمره وأفطر جميع لياله هو صائم الدهر، وليس بمواصل. فهما حقيقتان مختلفان متغائرتان. والحديث دليل على تحريم الوصال لأنه الأصل في النهى. واختلف العلماء في ذلك على أقوال كما ستعرف، وقد أبيح الوصال إلى السحر لحديث أبي سعيد عند البخاري ومسلم لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر، وفي حديث أبي سعيد هذا دليل على أن إمساك بعض الليل مواصلة واختلف العلماء في حكم الوصال بترك الافطار مطلقا
...................................

(12/356)


فذهب أهل الظاهر إلى القول بتحريمه صرح به ابن حزم وصححه ابن العربي من المالكية، وللشافعية فيه وجهان، التحريم والكراهة التنزيهه، والراجح الأصح عندهم التحريم. قال ابن قدامة: ظاهر قول الشافعي أنه محرم تقريرا لظاهر النهى - انتهى. وذهب مالك وأحمد وأبوحنيفة وإتباعهم إلى أنه غير محرم بل مكروه تنزيها وذهب جماعة من السلف إلى جوازه مطلقا وقيل محرم في حق من يشق عليه ويباح لمن لا يشق عليه. قال الحافظ: اختلف في المنع المذكور في أحاديث النهى عن الوصال. فقيل على سبيل التحريم. وقيل: على سبيل الكراهة. وقيل: يحرم على من شق عليه ويباح لمن لا يشق عليه، وقد اختلف السلف (أي الصحابة والتابعون) في ذلك فنقل التفصيل عن عبدالله بن الزبير وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عنه أنه كان يواصل خمسة عشر يوما، وذهب إليه من الصحابة أيضا أخت أبي سعيد الخدري، ومن التابعين عبدالرحمن بن أبي نعم وعامر بن الزبير وإبراهيم بن يزيد التيمي وأبوالجوزاء كما نقله أبونعيم في ترجمته في الحلية وغيرهم رواه الطبري وغيره من حجتهم في ذلك ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه واصل بأصحابه بعد النهى لما أبو أن ينتهوا عن الوصال فواصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال. فقال: لو تأخر لزدتكم كالتنكيل لهم حين أبو أن ينتهوا، فلو كان النهى للتحريم لما أقرهم على فعله، فعلم أنه أراد بالنهى الرحمة لهم والتخفيف عنهم كما صرحت به عائشة في حديثها عند الشيخين، حيث قالت نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال رحمة لهم، وهذا مثل ما نهاهم عن قيام الليل خشية أن يفرض عليهم ولم ينكر على من بلغه أنه فعله ممن لم يشق عليه فمن لم يشق عليه ولم يقصد موافقة أهل الكتاب ولا رغب عن السنة في تعجيل الفطر لم يمنع من الوصال ويدل على أنه ليس بمحرم حديث أبي داود عن رجل من الصحابة، قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة والمواصلة ولم يحرمهما أبقاء على

(12/357)


أصحابه إسناده صحيح كما قال الحافظ: وأبقاءه متعلق بقوله نهى وروى البزار والطبراني من حديث سمرة نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال وليس بالعزيمة وإسناده ضعيف كما قال الهيثمي: لكنه يصلح شاهدا للحديث السابق ومن أدلة الجواز إقدام الصحابة على الوصال بعد النهى فإن ذلك يدل على أنهم فهموا أن النهى للتنزيه لا للتحريم وإلا لما لقدموا عليه ويؤيد أنه ليس بمحرم أيضا ما روى أحمد والطبراني وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم في تفسيريهما بإسناد صحيح إلى ليلى امرأة بشير بن الخصاصية، قالت أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعني بشير. وقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هذا، وقال يفعل ذلك النصارى ولكن صوموا كما أمركم الله تعالى:?أتموا الصيام إلى الليل?[البقرة: 187] فإذا كان الليل فأفطروا لفظ ابن أبي حاتم قال الحافظ: فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - سوى في علة النهى بين الوصال وبين تأخير الفطر حيث قال في كل منهما أنه فعل أهل الكتاب ولم يقل أحد بتحريم تأخير الفطر سوى بعض من لا يعتد به من أهل
...................................

(12/358)


الظاهر- انتهى. قال الشوكاني: فلا أقل من أن تكون هذه الأدلة التي ذكروها صارفة للنهى عن الوصال عن حقيقته- انتهى. قال الحافظ: ويدل على أنه ليس بمحرم من حيث المعنى ما فيه من فطم النفس عن شهواتها وقمعها عن ملذاتها فلهذا استمر على القول بجوازه مطلقا أو مقيدا بمن لم يشق عليه من تقدم ذكره - انتهى. واحتج من ذهب إلى تحريم الوصال بما ثبت من النهى عنه في حديث أبي هريرة وحديث أنس وحديث ابن عمر وحديث عائشة متفق عليهن، فإن النهى حقيقة في التحريم. وقد تقدم الجواب عن هذا في كلام الشوكاني فتفكر. واحتجوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمر المتقدم إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم إذ لم يجعل الليل محلا لسوى الفطر، فالصوم فيه مخالفة لوضعه كيوم الفطر وأجاب هؤلاء عن قول عائشة رحمة لهم بأن هذا لا يمنع التحريم فإن من رحمته لهم إن حرمه عليهم. وأما مواصلته بأصحابه بعد نهيه فلم يكن تقريرا بل تقريعا وتنكيلا فاحتمل منهم ذلك لأجل مصلحة النهى في تأكيد زجرهم، لأنهم إذا باشروه ظهرت لهم حكمة النهى. وكان ذلك ادعى إلى قلوبهم لما يترتب عليهم من الملل في العبادة، والتقصير فيما هو أهم منه وأرجح من وظائف الصلاة والقراءة وغير ذلك والجوع الشديد ينافي ذلك، وقد صرح بأن الوصال يختص به لقوله: "لست في ذلك مثلكم" وقوله:"لست كهيئتكم" هذا مع ما انضم إلى ذلك من استحباب تعجيل الفطر كما تقدم كذا في الفتح والأقرب من الأقوال المذكورة عندي هو التفصيل والله تعالى أعلم. وأما الوصال إلى السحر فاختلفوا فيه أيضا. قال مالك: أنه مكروه لعموم النهى. وقال أحمد: لا يكره بل يجوز لكن تعجيل الفطر أفضل أي ترك الوصال إلى السحر أولى ولم يتعرض له فقهاء الحنفية، والذي يظهر من كلامهم وكلام الشافعية أن الوصال إلى السحر ليس بشيء. قال الحافظ: ذهب أحمد وإسحاق وابن المنذر وابن خزيمة وجماعة من المالكية (والبخاري

(12/359)


وطائفة من أهل الحديث) إلى جواز الوصال إلى السحر لحديث أبي سعيد المذكور، وهذا الوصال لا يترتب عليه شيء مما يترتب على غيره (أي الوصال بعدم الافطار مطلقا) لأنه في الحقيقة بمنزلة عشاءه إلا أنه يؤخره لأن الصائم له في اليوم والليلة، أكلة فإذا أكلها في السحر كان قد نقلها من أول الليل إلى آخره وكان أخف لجسمه في قيام الليل، ولا يخفى إن محل ذلك ما لم يشق على الصائم وإلا فلا يكون قربة وانفصل أكثر الشافعية عن ذلك بأن الإمساك إلى السحر ليس وصالا بل الوصال أن يمسك في الليل جميعه كما يمسك في النهار، وإنما أطلق على الإمساك إلى السحر وصالا لمشابهته الوصال في الصورة. ويحتاج إلى ثبوت الدعوى بأن الوصال إنما هو حقيقة في إمساك جميع الليل. وقد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يواصل من سحر إلى سحر أخرجه أحمد وعبدالرزاق من حديث علي، والطبراني من حديث جابر، وأخرجه سعيد بن منصور مرسلا - انتهى. والقول الراجح عندي هو
فقال له رجل إنك تواصل يا رسول الله! قال: وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني)).

(12/360)


ما ذهب إليه أحمد والله تعالى أعلم (فقال له رجل) كذا في هذه الرواية وفي أكثر الأحاديث قالوا: بالجمع. قال الحافظ: وكأن القائل واحد، ونسب القول إلى الجميع لرضاهم به ولم أقف على تسمية القائل في شيء من الطرق (إنك تواصل يا رسول الله) أي ووصلك دال على إباحته فأجابهم صلى الله عليه وسلم بأن ذ لك من خصائصه حيث (قال وأيكم مثلي) بكسر الميم، وفي رواية لمسلم لستم في ذلك مثلي، وفي حديث أنس لست كأحد منكم، وفي حديث ابن عمر لست مثلكم، وفي حديث أبي سعيد لست كهيئتكم، قال الحافظ: بعد ذكر رواية الكتاب وهذا الاستفهام يفيد التوبيخ المشعر بالاستبعاد وقوله: "مثلي" أي على صفتي أو منزلتي من ربي (إني) استيناف مبين لنفي المساواة بعد نفيها بالاستفهام الإنكاري (أبيت) وفي حديث أنس عند البخاري في التمنى إني أظل، وهو محمول على مطلق الكون لا على حقيقة اللفظ، لأن المتحدث عنه هو الإمساك ليلا لا، نهارا، وأكثر الروايات إنما هو بلفظ: أبيت فكأن بعض الرواة عبر عنها بلفظ: أظل نظرا إلى اشتراكهما في مطلق الكون يقولون كثيرا أضحى فلان كذا مثلا، ولا يريدون تخصيص ذلك بوقت الضحى ومنه قوله تعالى: ?وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا?[النحل:58] فإن المراد به مطلق الوقت ولا اختصاص لذلك بنهار دون ليل (يطعمني ربي) قال الطيبي: إما خبر وإما حال إن كان تامة وفي التعبير بالرب إشارة إلى خصيصة المقام بشأن الربوبية (ويسقيني) بفتح الياء ويضم، واختلف في معنى قوله: "يطعمني ويسقيني" على قولين الأول أنه على ظاهره وحقيقته وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يؤتى بطعام وشراب من عند الله كرامة له يتناولهما في ليالي صيامه وتعقبه ابن بطال والقرطبي وابن قدامة ومن تبعهم بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلا لأنه حينئذ يكون مفطرا وقد أقرهم على قولهم إنك تواصل وأجيب بأن ما يؤتى به الرسول على سبيل الكرامة من طعام الجنة وشرابها لا تجري عليه أحكام

(12/361)


المكلفين فيه كما غسل صدره - صلى الله عليه وسلم - في طست الذهب، مع أن استعمال أواني الذهب الدينيوية حرام. وقال ابن المنير: الذي يفطر شرعا إنما هو الطعام المعتاد وأما الخارق للعادة كالمحضر من الجنة فعلى غير هذا المعنى وليس تعاطيه من جنس الأعمال،و إنما هو من جنس الثواب كأكل أهل الجنة، والكرامة لا تبطل العبادة وثانيهما وهو قول الجمهور إنه مجاز واختلفوا في توجيهه على أقوال. أحدها أنه مجاز عن لازم الطعام والشراب وهو القوة فكأنه قال يعطيني قوة الآكل والشارب ويفيض علي ما يسد مسد الطعام والشراب ويقوي على أنواع الطاعات من غير ضعف في القوة ولإكلال في الأعضاء والثاني إن الله يخلق فيه من الشبع والرى ما يغنيه عن الطعام والشراب فلا يحس بجوع ولا عطش والفرق بينه وبين الأول أنه على الأول يعطى القوة من غير شبع ولا ري مع الجوع
متفق عليه.
?الفصل الثاني?
2007- (6) عن حفصة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يجمع الصيام
والظمأ. وعلى الثاني يعطي القوة مع الشبع والري، ورجح الأول بأن الثاني ينافي حال الصائم ويفوت المقصود من الصيام والوصال لأن الجوع هو روح هذه العبادة بخصوصها. قال القرطبي: ويبعده أيضا النظر إلى حاله - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان يجوع أكثر مما يشبع ويربط على بطنه الحجارة من الجوع والثالث إن المراد أنه يشغلني بالتفكر في عظمته والتملى بمشاهدته والتغذى بمعارفه وقرة العين بمحبته والاستغراق في مناجاته والإقبال عليه عن الطعام والشراب وإلى هذا جنح ابن القيم حيث قال المراد به ما يغذيه الله به من المعارف وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه وتنعمه بحبه والشوق إليه وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح وقرة العين وبهجة النفوس وللروح والقلب بها أعظم غذاء وأجوده وأنفعه. وقد يقوى هذا الغذاء حتى يغنى عن غذاء الأجسام مرة من الزمان كما قيل:

(12/362)


لها أحاديث من ذكراك تشغلها…عن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور يستضاء به…ومن حديثك في أعقابها حاد
إذا اشتكت من كلال السير أوعدها…روح القدوم فتحيا عند ميعاد
ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيواني، ولاسيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قد قرت عينه بمحبوبه وتنعم بقربه والرضا عنه وألطف محبوبه وهداياه وتحفه تصل إليه كل وقت ومحبوبه حفى به معتز بأمره مكرم له غاية الإكرام مع المحبة التامة له أفليس في هذا أعظم غذاء لهذا المحب فكيف بالحبيب الذي لا شيء أجل منه ولا أعظم ولا أجمل ولا أكمل ولا أعظم إحسانا إذا امتلأ قلب المحب بحبه وملك حبه جميع أجزاء قلبه وجوارحه وتمكن منه حبه أعظم تمكن وهذا حاله مع حبيبه أفليس هذا المحب عند حبيبه يطعمه ويسقيه ليلا ونهارا- انتهى. وفي الحديث دليل على أن الوصال من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - وعلى أن غيره ممنوع منه إلا ما وقع فيه الترخيص من الإذن فيه إلى السحر. واختلف في المنع المذكور على أقوال تقدم ذكرها وبيان ما هو الراجح منها (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصيام وفي التغرير من كتاب المحاربين وفي التمنى والاعتصام ومسلم في الصيام، وأخرجه أيضا أحمد ومالك والدارمي والبيهقي (ج4:ص282).
2007- قوله: (من لم يجمع الصيام) بضم الياء وسكون الجيم من الإجماع. قال الخطابي، والمنذري
قبل الفجر فلا صيام له)).

(12/363)


والجزري: الإجماع أحكام النية والعزيمة يقال أجمعت الرأي وأزمعته وعزمت عليه بمعنى- انتهى. وهذا يدل على أن الإجماع والإزماع والعزم بمعنى واحد وهو أحكام النية. قال القاري: وقيل: الإجماع هو العزم التام وحقيقته جمع رأيه عليه- انتهى. وقال الطيبي: يقال أجمع الأمر وعلى الأمر وأزمع على الأمر وأزمعه أيضا إذا صمم عزمه ومنه قوله تعالى: ?وما كنت لديهم إذا أجمعوا أمرهم?[يوسف:112] أي أحكموه بالعزيمة حتى اجتعمت أراءهم عليه. والمعنى من لم يصمم العزم على الصوم (قبل الفجر) أي قبل الصبح الصادق وفي رواية من لم يبيت الصيام من الليل من التبييت وهو أن ينوي الصيام من الليل (فلا صيام له) فيه دليل على عدم صحة صوم من لا يبيت النية لأن الظاهر إن النفي متوجه إلى الصحة لأنها أقرب المجازين إلى الذات أو متوجه إلى نفي الذات الشرعية. قال الأمير اليماني: الحديث يدل على أنه لا يصح الصيام، إلا بتبييت النية وهو أن ينوي الصيام في أي جزء من الليل وأول وقتها الغروب وذلك لأن الصوم عمل والأعمال بالنيات وأجزاء النهار غير منفصلة من الليل بفاصل يتحقق فلا يتحقق إلا إذا كانت النية واقعة في جزء من الليل- انتهى. والحديث عام للفرض والنفل والقضاء والكفارة والنذر معينا ومطلقا: وفيه خلاف وتفاصيل. قال القاري: ظاهر الحديث أنه لا يصح الصوم بلا نية قبل الفجر فرضا كان أو نفلا، وإليه ذهب ابن عمر وجابر بن زيد ومالك والمزني وداود. وذهب الباقون إلى جواز النفل بنية من النهار وخصصوا هذا الحديث بما روى عن عائشة أنها قالت كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتيني فيقول أعندك غداء؟ فأقول لا فيقول إني صائم. وفي رواية إني أذن لصائم وإذن للاستقبال وهو جواب وجزاء- انتهى. والغداء اسم لما يؤكل قبل الزوال ومن ثمة لم تجز النية بعد الزوال ولا معه. والصحيح أن توجد النية في أكثر النهار الشرعي فيكون قبل الضحوة الكبرى. قال ابن حجر: وفي قول الشافعي

(12/364)


وغيره إن نية صوم النفل تصح قبل الغروب لما صح عن فعل حذيفة- انتهى. قلت: هذا أحد القولين للشافعي والذي نص عليه في معظم كتبه التفرقة بين أن ينوي قبل منتصف النهار فيجزئه وبين أن ينوي بعد الزوال فلا يجزئه، وهذا هو الأصح عند الشافعية. قاله الحافظ: واتفقوا على اشتراط التبييت في فرض لم يتعلق بزمان معين كالقضاء والكفارة والنذر المطلق واختلفوا فيما له زمان معين كرمضان والنذر المعين فكذا عند الشافعي وأحمد، وعند أبي حنيفة يجوز بنية قبل نصف النهار الشرعي كذا في المرقاة. وقال ابن رشد في البداية (ج1 ص201- 202) أما اختلافهم في وقت النية فإن مالكا رآى أنه لا يجزي الصيام إلا بنية قبل الفجر وذلك في جميع أنواع الصوم وقال الشافعي (وأحمد): تجزي النية بعد الفجر في النافلة ولا تجزي في الفروض وقال أبوحنيفة: تجزي النية بعد الفجر في الصيام المتعلق وجوبه بوقت معين كرمضان ونذر أيام محدودة وكذلك في النافلة ولا تجزي في الواجب من الذمة. والسبب في
...................................

(12/365)


اختلافهم تعارض الآثار. أحدها: ما روى عن حفصة أنه قال عليه الصلاة والسلام: من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له، ورواه مالك موقوفا. قال أبوعمر بن عبدالبر: حديث حفصة في إسناده اضطراب. والثاني: ما رواه مسلم عن عائشة قالت: قال لي: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم يا عائشة! هل عندكم شيء قلت: يا رسول الله! ما عندنا شيء قال فإني صائم. فمن ذهب مذهب الترجيح أخذ بحديث حفصة ومن ذهب مذهب الجمع فرق بين الفرض والنفل أعنى حمل حديث حفصة على الفرض وحديث عائشة على النفل وإنما فرق أبوحنيفة بين الواجب المعين والواجب في الذمة لأن الواجب المعين له وقت مخصوص يقوم مقام النية في التعيين بخلاف ما ليس له وقت مخصوص فوجب التعيين بالنية - انتهى. بتغيير يسير. قلت: احتج مالك ومن وافقه بحديث حفصة فإنه عام يشمل الفرض والنافلة ورجحه المالكية بحديث إنما الأعمال بالنيات، وبالقياس على الصلاة إذ فرضها ونفلها في وقت النية سواء واحتج الجمهور لعدم وجوب التثبييت في التطوع أي لجواز النافلة بنية من النهار بحديث عائشة المتقدم، وبما روى في ذلك من آثار الصحابة والتابعين كعائشة وابن عمر وابن عباس وأنس وأبي طلحة وأبي أيوب ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وابن مسعود وحذيفة وابن المسيب وعطاء بن أبي باح ومجاهد والشعبي والحسن البصري. قالوا: فحديث حفصة يحمل على الفرض ويخص عموم فلا صيام له بحديث عائشة. قال ابن قدامة (ج3 ص96) صوم التطوع يجوز بنية من النهار عند إمامنا (الإمام أحمد) وأبي حنيفة والشافعي. وروى ذلك عن أبي الدرداء وأبي طلحة وابن مسعود وحذيفة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وأصحاب الرأي. وقال مالك وداود: لا يجوز إلا بنية من الليل لحديث حفصة. ولأن الصلاة يتفق وقت النية لفرضها ونفلها وكذلك الصوم ولنا حديث عائشة (المتقدم ذكره في كلام القاري وابن رشد) وحديثهم نخصه بحديثنا على أن حديثنا أصح من حديثهم. والصلاة يتفق وقت

(12/366)


النية لنفلها وفرضها لأن اشتراط النية في أول الصلاة لا يفضي إلى تقليلها بخلاف الصوم فإنه يعين له الصوم في النهار فعفي عنه كما لو جوزنا التنفل قاعدا وعلى الراحلة لهذه العلة - انتهى مختصرا. وأجاب المالكية ومن وافقهم عن حديث عائشة بأنه - صلى الله عليه وسلم - قد كان نوى الصوم من الليل. وإنما أراد الفطر لما ضعف عن الصوم وهو محتمل لاسيما على رواية فلقد أصبحت صائما. وقال الأمير اليماني: حديث عائشة أعم من أن يكون بيت الصوم أولا فيحمل على التبييت لأن المحتمل يرد إلى العام ونحوه على أن في روايات حديثها إني كنت قد أصبحت صائما. وقال ابن حزم (ج6 ص172) ليس في هذا الحديث أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن نوى الصيام من الليل وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام لا صيام لمن لم يبيته من الليل فلم يجز أن نترك هذا اليقين لظن كاذب وأما ما روى الدارقطني (ص236) عن عائشة قالت: ربما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغدائه فلا يجده فيفرض
...........................

(12/367)


عليه صوم ذلك اليوم وما روى الجصاص في أحكام القرآن (ج1 ص199) عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصبح ولم يجمع الصوم ثم يبدو له فيصوم ففيه إن في حديث عائشة ليث بن أبي سليم عن عبدالله وليث هذا اختلط بآخره ولم يتميز حديثه وعبدالله. قال الدارقطني: ليس بمعروف وفي حديث ابن عباس عمر بن هارون وهو ضعيف جدا هذا.وقال ابن قدامة: وأي وقت من النهار نوى أجزأه سواء في ذلك ما قبل الزوال وبعده هذا ظاهر كلام أحمد والخرقي وهو ظاهر قول ابن مسعود. وروى عن ابن عباس عند الطحاوي وعن حذيفة عند عبدالرزاق وابن أبي شيبة والطحاوي. واختار القاضي في المحرر أنه لا تجزئه النية بعد الزوال وهذا مذهب أبي حنيفة والمشهور من قولي الشافعي لأن معظم النهار مضى من غير نية بخلاف الناوي قبل الزوال فإنه قد أدرك معظم العبادة ولهذا تأثير في الأصول. ولنا أنه نوى في جزء من النهار فأشبه ما لو نوى في أوله إذا ثبت هذا فإنه يحكم له بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية في المنصوص عن أحمد وهو قول بعض أصحاب الشافعي. وقال أبوالخطاب في الهداية: يحكم له بذلك من أول النهار لأن الصوم لا يتبعض في اليوم - انتهى مختصرا. واحتج الحنفية لما ذهبوا إليه من أن الصوم الواجب المتعين يكفي فيه النية نهارا بقوله تعالى: ?أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نساءكم? إلى قوله: ?ثم أتموا الصيام إلى الليل?[البقرة:187] قال الكاساني: أباح للمؤمنين الأكل والشرب والجماع في ليالي رمضان إلى طلوع الفجر وأمر بالصيام عنها بعد طلوع الفجر متأخرا عنه، لأن كلمة ثم للتعقيب مع التراخي فكان هذا أمرا بالصوم متراخيا عن أول النهار. والأمر بالصوم أمر بالنية إذ لا قيمة للصوم شرعا بدون النية فكان هذا أمرا بالصوم بنية متأخرة عن أول النهار وقد أتى به فقد أتى بالمأمور به فيخرج عن العهدة - انتهى. وقال في التلويح: (ص187) في بحث إشارة النص ومن أمثلة الإشارة قوله

(12/368)


تعالى: ?ثم أتموا الصيام إلى الليل? قالوا: فيه إشارة إلى جواز النية بالنهار لأن كلمة "ثم" للتراخي فإذا ابتديء الصوم بعد تبين الفجر حصلت النية بعد مضى جزء من النهار، لأن الأصل اقتران النية بالعبادة فكان موجب ذلك وجوب النية بالنهار إلا أنه جاز بالليل إجماعا عملا بالسنة، وصار أفضل لما فيه من المسارعة والأخذ بالاحتياط. قال الشيخ أبوالمعين إن أبا جعفر الخباز السمرقندي هو الذي استدل بالآية على الوجه المذكور أي على جواز النية بالنهار: لكن للخصم أن يقول أمر الله تعالى بالصيام بعد الانفجار، وهو أي الصوم اسم للركن لا لشرط (وهو النية فينبغي كون الركن بعد الانفجار والشرط يكون متقدما على المشروط) وأيضا ينبغي أن يوجد الإمساك الذي هو الصوم الشرعي عقيب آخر جزء من الليل متصلا ليصير المأمور ممتثلا ولا يكون الإمساك صوما شرعيا بدون النية فلا بد منها في أول جزء من أجزاء النهار حقيقة بأن تتصل به، أو حكما بأن تحصل في الليل وتجعل باقية إلى الآن
.......................

(12/369)


واحتجوا أيضا بحديث سلمة بن الأكوع والربيع عند الشيخين إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر رجلا، من أسلم يوم عاشوراء إن أذن في الناس من أكل فليمسك أو فليصم بقية يومه ومن لم يأكل فليصم. قالوا: فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بصوم عاشوراء في أثناء النهار وكان فرضا في يوم بعينه فدل على أن النية لا تشترط في الليل في الصوم المفروض في يوم معين، وإن من تعين عليه صوم يوم ولم ينوه ليلا أنه يجزيه نهارا. ومن ذلك شهر رمضان فهو فرض في أيام معينة كصوم عاشوراء إذ كان فرضا في يوم بعينه، ومن ذلك أيضا صوم النذر في أيام معينة. قالوا: ونسخ وجوب صوم عاشوراء لا يرفع سائر الأحكام، فبقي حكم الأجزاء بنية من النهار غير منسوخ لأن الحديث دل على شيئين. أحدهما: وجوب صوم عاشوراء. والثاني: إن الصوم الواجب في يوم بعينه يصح بنية من نهار، والمنسوخ هو الأول ولا يلزم من نسخه نسخ الثاني ولا دليل على نسخه أيضا. وأجيب عن هذا بأنه إنما صحت النية في نهار عاشوراء لكون الرجوع إلى الليل غير مقدور. والنزاع فيما كان مقدورا، فيخص الجواز بمثل هذه الصورة أعنى من أنكشف له في النهار إن ذلك اليوم من رمضان وكمن ظهر له وجوب الصوم عليه من النهار كالمجنون يفيق والصبي يحتلم والكافر يسلم قاله الشوكاني، وقال السندي: الحديث يقتضي أن وجوب الصوم عليهم ما كان معلوما من الليل، وإنما علم من النهار وحينئذ صار إعتبار النية من النهار في حقهم ضروريا كما إذا شهد الشهود بالهلال يوم الشك فلا يلزم جواز الصوم بنية من النهار بلا ضرورة وهو المطلوب - انتهى. قلت: وأصل هذا الجواب لابن حزم ذكره في المحلى (ج6 ص164، 166) ولابن القيم ذكره في زاد المعاد (ج1 ص171) وقيل في الجواب أيضا إن أجزاء صوم عاشوراء بنية من النهار كان قبل فرض رمضان وقبل فرض التبييت من الليل ثم نسخ وجوب صومه برمضان وتجدد حكم وجوب التبييت وأجاب الحنفية عن حديث حفصة

(12/370)


بوجوه أحدها: أنه اختلف في رفعه ووقفه واضطراب إسناده إضطرابا شديدا وفيه إن الرفع زيادة والزيادة من الثقة مقبولة ومجرد الاختلاف لا يوجب الاضطراب القادح كما لا يخفي. ثانيها: أنه مخصوص بالصوم الواجب الغير المتعين كقضاء رمضان والكفارة والنذر المطلق لحديث سلمة والربيع المتقدم، ولأنه لو لم يخص بذلك يلزم منه النسخ لمطلق الكتاب بخبر الواحد، فلا يجوز ذلك وقد تقدم بيانه. ثالثها: أنه محمول على نفي الكمال. قال الكاساني: أما حديث حفصة فهو من الآحاد فلا يصلح ناسخا للكتاب لكنه يصلح مكملا له فيحمل على نفي الكمال ليكون عملا بالدليلين بقدر الإمكان وفيه أن حمله على نفي الكمال خلاف الظاهر فإن الظاهر أن النفي متوجه إلى نفي الصحة أو إلى نفي الذات الشرعية، ولا دليل في قوله تعالى: ?أحل لكم ليلة الصيام الرفث? [البقرة:187] الآية، على أجزاء صوم رمضان بنية من النهار كما تقدم. وأما حديث سلمة والربيع في صوم عاشوراء
رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، والدارمي، وقال: أبوداود وقفه على حفصة معمر،

(12/371)


فهو وارد في صورة خاصة، أي فيمن لم ينكشف له أن اليوم يوم صوم واجب إلا في النهار فلا معارضة بين الحديثين، وقد أتضح بهذا أنه لا دليل في حديث عاشوراء على كون حديث حفصة خاصا بالصوم الواجب الغير المتعين ولا وجه لتخصيص القضاء والنذر المطلق والكفارات بوجوب التبييت بل هو واجب في كل صوم إلا في تلك الصورة التي ذكرناها، أعنى فيمن لم ينكشف له أن اليوم من رمضان إلا في النهار وفي صوم التطوع لحديث عائشة المتقدم وهذا هو القول الراجح عندنا. ورابعها: إن معناه لا صيام لمن لم ينو أنه صائم من الليل يعني أنه نفي لصوم من نوى أنه صائم نصف اليوم مثلا. قال صاحب الهداية: ما رواه محمول على نفي الفضيلة والكمال أو معناه لم ينو أنه صوم من الليل - انتهى. وهذا تأويل فاسد وتكلف بعيد يرده ألفاظ الحديث. وأعلم أنه في أي جزء من الليل نوى أجزأه وسواء فعل بعد النية ما ينافي الصوم من الأكل والشرب والجماع أم لم يفعل لعموم حديث حفصة وإطلاقه. واشترط بعض أصحاب الشافعي أن لا يأتي بعد النية بمناف للصوم. واشترط بعضهم وجود النية في النصف الأخير من الليل وهذا كله تحكم من غير دليل، وإن نوى من النهار صوم الغد لم تجزئه تلك النية إلا أن يستصحبها إلى جزء من الليل لظاهر حديث حفصة. ولا بد من التبييت لكل يوم لظاهر حديثها أيضا ولأن صوم كل يوم عبادة مستقلة مسقطة لفرض يومها ويتخلل بين يومين ما ينافي الصوم ويناقضه. وبه قال أحمد والشافعي وأبوحنيفة. وقال مالك وإسحاق. تجزئه نية واحدة في أول ليلة من رمضان لجميع الشهر في حق الحاضر الصحيح ولا بدمن كون النية جازمة معينة في كل صوم واجب، وهو أن يعتقد أنه يصوم غدا من رمضان أو من قضاءه أو من كفارة أو نذر وإليه ذهب أحمد ومالك والشافعي. وقال الحنفية: لا يشترط التعيين. (رواه الترمذي وأبوداود والنسائي والدارمي) واللفظ للترمذي وأبي داود ولفظ النسائي والدارمي من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام

(12/372)


له، وفي رواية للنسائي من لم يجمع الصيام قبل طلوع الفجر فلا يصوم والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج6 ص287) وابن ماجه ولفظه لا صيام لمن لم يفرضه من الليل وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني (ص234) والبخاري في التاريخ الصغير (ص67) والطبراني والحاكم في الأربعين وابن حزم (ج6 ص162)والبيهقي (ج4 ص202) والحاوي (ج1 ص325) (وقال أبوداود) أي بعد ما رواه من طريق ابن وهب عن ابن لهيعة ويحي بن أيوب عن عبدالله بن أبي بكر بن حزم عن الزهري عن سالم عن أبيه عن حفصة مرفوعا. وبعد ما قال رواه الليث وإسحاق بن حازم أيضا جميعا عن عبدالله بن أبي بكر مثله يعني مرفوعا كما رواه عنه ابن لهيعة ويحيى بن أيوب (وقفه على حفصة معمر) بسكون العين فتحتي الميمين وهو معمر بن راشد يكنى أبا عروة البصري الأزدي مولاهم نزيل اليمن شهد جنازة الحسن البصري روى عن الزهري وقتادة وهمام بن منبه وغيرهم، وروى عنه الثوري وابن عيينة وشعبة وغيرهم. قال الحافظ في التقريب: ثقة ثبت فاضل إلا أن في
والزبيدي، وابن عيينة، ويونس الأبلي كلهم عن الزهري.

(12/373)


روايته عن ثابت البناني والأعمش وهشام بن عروة شيئا وكذا فيما حدث به بالبصرة. مات سنة (154) وهو ابن ثمان وخمسين سنة وبسط في ترجمته في تهذيب التهذيب (والزبيدي) بالزاي والموحدة مصغرا وهو محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي أبوالهذيل الحمصي القاضي ثقة ثبت من كبار أصحاب الزهري أقام معه عشر سنين حتى احتوى على علمه وهو من الطبقة الأولى من أصحاب الزهري، وكان الأوزاعي يفضله على جميع من سمع من الزهري مات سنة ست أو سبع أو تسع وأربعين ومائة (وابن عيينة) بضم العين مصغرا وهو سفيان بن عيينة وقد تقدم ترجمته (ويونس الأبلي) بفتح الهمزة وسكون التحتانية بعدها لام منسوب إلى أيلة بلد من الشام، وهو يونس بن يزيد بن أبي النجاد يكنى أبا يزيد مولى آل أبي سفيان من رواه الستة. قال في التقريب: ثقة إلا أن في روايته عن الزهري وهما قليلا، وفي غير الزهري خطأ مات سنة (159) على الصحيح وقيل: سنة (160) وبسط في ترجمته في تهذيب التهذيب. وقال في مقدمة الفتح: بعد ذكر كلمات القوم فيه. قلت: وثقه الجمهور مطلقا، وإنما ضعفوا بعض روايته حيث يخالف أقرانه ويحدث من حفظه فإذا حدث من كتابه فهو حجة. قال ابن البرقي: سمعت ابن المديني يقول أثبت الناس في الزهري مالك وابن عيينة ومعمر وزياد بن سعد ويونس من كتابه وقد وثقه أحمد مطلقا وابن معين والعجلي والنسائي ويعقوب بن شيبة والجمهور واحتج به الجماعة - انتهى. (كلهم عن الزهري) بضم الزاي هو محمد بن مسلم بن شهاب وتقدم ترجمته. قلت: رواية الليث عند الطبراني ورواية إسحاق بن حازم عند ابن ماجه والدارقطني وروايات معمر وابن عيينة ويونس عند النسائي، وروى الدارقطني أيضا من طريق ابن عيينة ولم أقف على من أخرجه من رواية الزبيدي. وقد بسط في ذكر الاختلاف في رفعه ووقفه وفي ذكر الاختلاف في إسناده الدارقطني في سننه والنسائي في الكبرى والمجتبى والبيهقي في سننه. وقد نقله الزيلعي في نصب الراية عن السنن

(12/374)


الكبرى للنسائي. قال الحافظ في الفتح: اختلف في رفعه ووقفه ورجح الترمذي والنسائي الموقوف بعد أن أطنب النسائي في تخريجه وحكى الترمذي في العلل عن البخاري ترجيح وقفه وعمل بظاهر الإسناد جماعة من الأئمة فصححوا الحديث المذكور أي مرفوعا، منهم ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن حزم - انتهى. وقال في الدراية (ص171): إسناده صحيح إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه وصوب النسائي وقفه ومنهم من لم يذكر فيه حفصة، وقد أخرجه مالك عن نافع عن ابن عمر موقوفا وعن الزهري عن حفصة (وعائشة) موقوفا. وقال أبوحاتم: روى عن حفصة قولها وهو عندي أشبه - انتهى. وقال في التلخيص (ص188) اختلف الأئمة في رفعه ووقفه، فقال ابن أبي حاتم عن أبيه: لا أدري أيهما أصح يعني رواية يحيى بن أيوب عن عبدالله بن أبي بكر عن الزهري عن سالم، أو رواية إسحاق بن حازم عن عبدالله بن أبي بكر عن الزهري بغير وساطة الزهري لكن الوقف أشبه.وقال أبوداود: لا يصح رفعه. وقال الترمذي: الموقوف أصح ونقل في العلل
2008-(7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمع النداء أحدكم
والإناء في يده،

(12/375)


عن البخاري أنه قال هو خطأ وهو حديث فيه اضطراب والصحيح عن ابن عمر موقوف. وقال النسائي: (في الكبرى) الصواب عندي موقوف ولم يصح رفعه. وقال أحمد: ماله عندي ذلك الإسناد. وقال الحاكم في الأربعين: صحيح على شرط الشيخين. وقال في المستدرك صحيح على شرط البخاري: وقال البيهقي: رواته ثقات إلا أنه روى موقوفا. وقال الخطابي في المعالم (ج2 ص133) أسنده عبدالله بن أبي بكر وزيادة الثقة مقبولة. وقال ابن حزم: الاختلاف فيه يزيد الخبر قوة. وقال الدارقطني. كلهم ثقات- انتهى. قلت: قال الدارقطني (ص234) رفعه عبد لله بن أبي بكر وهو من الثقات الرفعاء. وقال البيهقي (ج4 ص202) اختلف على الزهري في إسناده وفي رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعبدالله بن أبي بكر أقام إسناده ورفعه وهو من الثقات الإثبات - انتهى. وقال ابن حزم (ج6 ص16) بعد روايته من طريق النسائي عن أحمد بن الأزهر عبدالرزاق عن ابن جريج عن الزهري عن سالم عن أبيه عن حفصة مرفوعا ما لفظه، وهذا إسناد صحيح ولا يضر إسناد ابن جريج له، إن أوقفه معمر ومالك وعبيدالله ويونس وابن عيينة فابن جريج لا يتأخر عن أحد من هؤلاء في الثقة والحفظ والزهري واسع الرواية، فمرة يرويه عن سالم عن أبيه، ومرة عن حمزة عن أبيه وكلاهما ثقة، وابن عمر كذلك مرة رواه مسندا ومرة روى إن حفصة أفتت به، ومرة أفتى هو به وكل هذا قوة للخبر - انتهى. وقال النووي: الحديث صحيح قال: ورواه أصحاب السنن وغيرهم بأسانيد كثيرة رفعا ووقفا وصحة وضعفا لكن كثير منها صحيح معتمد عليه لأن معها زيادة علم برفعه فوجب قبوله. وقد قال الدارقطني: في بعض طرقه الموصولة رجال إسناده كلهم أجلة ثقات كذا في المرقاة. وقال الشوكاني في السيل الجرار: بعد حكاية تصحيح ابن خزيمة وابن حبان والحاكم ليس فيه علة قادحة إلا ما قيل: من الاختلاف في الرفع والوقف، والرفع زيادة. وقد صحح المرفوع هؤلاء الأئمة الثلاثة. وقال في النيل بعد

(12/376)


ذكر كلام الحافظ السابق عن التلخيص: وقد تقرر في الأصول إن الرفع من الثقة زيادة مقبولة. وفي الباب عن عائشة عند الدارقطني وفيه عبدالله بن عباد وهو مجهول وذكره ابن حبان في الضعفاء، وعن ميمونة بنت سعد عند الدارقطني أيضا، وفيه الواقدي كذا في التلخيص.
2008- قوله: (إذا سمع النداء) أي أذان الفجر (أحدكم) كذا في جميع النسخ الحاضرة وكذا وقع في المصابيح، وفي أبي داود إذا سمع أحدكم النداء، وهكذا وقع عند الدارقطني والحاكم والبيهقي وكذا نقله الخطابي في المعالم والجزري في جامع الأصول (ج7 ص244) والسيوطي في الجامع الصغير (والإناء) أي الذي يأكل منه أو يشرب منه يعني إناء الطعام أو الشراب وهو مبتدأ وخبره قوله (في يده) كذا في بعض النسخ من سنن
فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه)).

(12/377)


أبي داود وفي بعضها على يده، وهكذا عند الدارقطني والحاكم والبيهقي وكذا نقله الخطابي والسيوطي والجزري والجملة حالية (فلا يضعه) أي الإناء قيل هو بالجزم نهي ( حتى يقضي حاجته منه) أي بالأكل والشرب، وفيه إباحة الأكل والشرب من الإناء الذي في يده عند سماع الأذان للفجر وأن لا يضعه حتى يقضي حاجته قيل المراد بالنداء الأذان الأول أي أذان بلال قبل الفجر لقوله - صلى الله عليه وسلم - إن بلالا يؤذن بليل فكلوا وأشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم. قال البيهقي (ج4 ص218) هذا الحديث إن صح فهو محمول عند عوام أهل العلم على أنه - صلى الله عليه وسلم - علم أن المنادي كان ينادي قبل طلوع الفجر بحيث يقع شربه قبيل طلوع الفجر وقوله هذا خبر عن النداء الأول. وقال الخطابي (ج2 ص106) هذا على قوله إن بلالا يؤذن بليل فكلوا وأشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم - انتهى. وفيه أنه لا يظهر حينئذ فائدة التقييد بقوله والإناء في يده وقيل هو محمول على من سمع الأذان وهو يشك في طلوع الفجر وبقاء الليل ويتردد فيهما فيجوز له الأكل والشرب، لأن الأصل بقاء الليل حتى يتبين له طلوع الفجر الصادق باليقين أو بالظن الغالب وهذا عند الشافعية. قال الخطابي: أو يكون معناه أن يسمع الأذان وهو يشك في الصبح مثل أن تكون السماء متغيمة فلا يقع له العلم بأذانه إن الفجر قد طلع لعلمه إن دلائل الفجر معدومة ولو ظهرت للمؤذن لظهرت له أيضا، فأما إذا علم إنفجار الصبح فلا حاجة به إلى أذان الصارخ: لأنه مأمور بأن يمسك عن الطعام والشراب إذا تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر - انتهى. وقيل المقصود من الحديث إن تحريم الأكل والشرب إنما يتعلق بالفجر لا بالأذان، فإن المؤذن قد يبادر بالأذان قبل الفجر لضعف في بصره أو لشيء آخر، فلا عبرة بالأذان إذا لم يعلم بطلوع الفجر. وإنما العبرة في تحريم الأكل بالفجر لكن هذا الحكم للخواص الذين يعرفون الفجر، وأما العوام الذين

(12/378)


لا يعرفونه فعليهم الاحتياط وقيل الحديث وارد على وفق من يقول من العلماء إن المعتبر في تحريم الأكل والشرب في الصوم هو تبين الفجر لا طلوعه، فالأذان مشروع في أول طلوع الفجر وهو ليس بمانع من الأكل والشرب. وإنما المانع تبين الفجر خلافا لجمهور العلماء فإن المعتبر عندهم أول طلوع الفجر، ولا شك إن القول الأول أوفق والحديث مبني على الرفق، قال في فتح الودود: من يتأمل في هذا الحديث، وكذا حديث "وكلوا وأشربوا حتى يؤذن" ابن أم مكتوم، وكذا ظاهر قوله تعالى: ?حتى يتبن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر?[البقرة:187] يرى أن المدار هو تبين الفجر وهو يتأخر عن أوائل الفجر بشيء والمؤذن لانتظاره يصادف أوائل الفجر أي فيؤذن، فيجوز الشرب حينئذ إلى أن يتبن لكن هذا خلاف المشهور بين العلماء فلا اعتماد عليه عندهم - انتهى.
رواه أبوداود.
2009-(8) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى أحب عبادي إلي
أعجلهم فطرا)).

(12/379)


وقيل المراد بالنداء أذان المغرب والمقصود من الحديث طلب تعجيل الفطر، أي إذا سمع أحدكم نداء المغرب، وصادف ذلك إن الإناء في يده لحاجة أخرى فليبادر بالفطر منه ولا يؤخر إلى وضعه، وبهذا يندفع قول الطيبي يشعر دليل الخطاب بأنه لا يفطر إذا لم يكن الإناء في يده، وقد سبق إن تعجيل الفطر مسنون لكن هذا من مفهوم اللقب فلا يعمل به ووجه إندفاعه إن قوله والإناء في يده ليس للتقييد بل للمبالغة في السرعة كذا نقله القاري عن ابن حجر ثم تعقبه. وقال: فالصواب إنه قيد احترازي في وقت الصبح إلى آخر ما قال وأبعد من قال إن الحديث محمول على غير حالة الصوم ولا تعلق له بالفجر ولا بالمغرب خاصة، بل هو وارد في أمر الصلاة مطلقا كقوله - صلى الله عليه وسلم -" إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤا بالعشاء" فقد وردا على نمط واحد والمرعى فيهما قطع الشغل بغير أمر الصلاة عن بال المصلي ودفع التشويش المفضي إلى ترك الخشوع. والراجح عندي هو المعنى الثالث ثم الرابع ثم الثاني والله تعالى أعلم (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد والدارقطني (ص231) والحاكم (ج1 ص426) والبيهقي (ج4 ص218) وسكت عنه أبوداود والمنذري وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وفي الباب عن أبي الزبير قال سألت جابرا عن الرجل يريد الصيام، والإناء في يده يشرب منه فيسمع النداء فقال جابر: كنا نتحدث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يشرب، رواه أحمد قال الهيثمي: إسناده حسن.

(12/380)


2009- قوله: (أحب عبادي إلي أعجلهم فطرا) أي أكثرهم تعجيلا في الإفطار وأسرعهم مبادرة إلى الفطر بعد تحقق غروب الشمس بالرؤية أو بإخبار من يجوز العمل بقوله. قال الطيبي: لعل السبب في هذه الأحبية المتابعة للسنة والمباعدة عن البدعة والمخالفة لأهل الكتاب - انتهى. قال القاري: وفيه إيماء إلى أن أفضلية هذه الأمة لأن متابعة الحديث توجب محبة الله تعالى: ?قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله?[آل عمران:31] وإليه الإشارة بالحديث الآتي: لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر الخ. وقال ابن الملك: ولأنه إذا أفطر قبل الصلاة يؤديها عن حضور القلب وطمأنينة النفس ومن كان بهذه الصفة فهو أحب إلى الله ممن لم يكن كذلك - انتهى. قال الأمير اليماني: الحديث دال على أن تعجيل الإفطار أحب إلى الله من تأخيره وإن إباحة المواصلة إلى السحر لا تكون أفضل من تعجيل الإفطار أو يراد بعبادي الذين يفطرون ولا يواصلون إلى السحر. وأما
رواه الترمذي.
2010- (9) وعن سلمان بن عامر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإنه بركة، فإن لم يجد فليفطر على ماء، فإنه طهور)).
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه خارج عن عموم هذا الحديث لتصريحه - صلى الله عليه وسلم - بأنه ليس مثلهم كما تقدم، فهو أحب الصائمين إلى الله تعالى وإن لم يكن أعجلهم فطرا لأنه قد أذن له في الوصال ولو أياما متصلة كما سبق (رواه الترمذي) وحسنه، وأخرجه أيضا أحمد، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والبيهقي (ج4 ص237).

(12/381)


2010 – قوله: (إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر) أي على تمرة اكتفاء بأصل السنة وإلا فأدنى كمالها ثلث كما روى أبويعلى عن أنس قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يفطر على ثلاث تمرات أو شيء لم تصبه النار، وفيه عبدالواحد بن ثابت وهو ضعيف. وقيل: المراد جنس التمر فيصدق بالواحدة وهذا عند فقد الرطب فإن وجد فهو أفضل كما يدل عليه حديث أنس التالي. قال الشوكاني: حديثا أنس وسلمان يدلان على مشروعية الإفطار بالتمر، فإن عدم فبالماء ولكن حديث أنس فيه دليل على أن الرطب من التمر أولى من اليابس فيقدم عليه إن وجد - انتهى. والأمر للندب. قال البخاري في صحيحه: باب يفطر بما يتسير من الماء وغيره ثم ذكر حديث عبدالله بن أبي أوفى قال سرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو صائم فلما غربت الشمس قال أنزل فاجدح لنا الخ. قال الحافظ: لعل البخاري أشار إلى أن الأمر في قوله من وجد تمرا فليفطر عليه ومن لا فليفطر على الماء ليس على الوجوب وقد شذ ابن حزم فأوجب الفطر على التمر وإلا فعلى الماء - انتهى. وإنما شرع الإفطار بالتمر لأنه حلو وقوت والنفس قد تعبت بمرارة الجوع والبصر قد ضعف بالصوم والحلاء يسرع النفوذ إلى القوى لاسيما قوة الباصرة، فأمر بإزالة هذا التعب والضعف بما هو قوت وحلو. قال الشوكاني: وإذا كانت العلة كونه حلوا والحلو له ذلك التأثير فليحق به الحلويات كلها، أما ما كان أشد منه في الحلاوة فبفحوى الخطاب وما كان مساويا له فبلحنه (فإنه بركة) أي فإن التمر ذو بركة وخير كثير أو أريد به المبالغة قاله القاري وقال الطيبي: أي فإن الإفطار على التمر فيه ثواب كثير وبركة (فإن لم يجد) أي التمر ونحوه من الحلويات (فليفطر على ماء) قراح (فإنه طهور) بفتح الطاء أي مطهر محصل للمقصود. وقال القاري: أي بالغ في الطهارة فيبتدئ به تفاؤلا بطهارة الظاهر والباطن. وقال الطيبي أي لأنه مزيل المانع من أداء العبادة ولذا من الله

(12/382)


تعالى على عباده ?وأنزلنا من السماء ماء طهورا? [الفرقان:48] قال ابن القيم: هذا أي الأمر بالإفطار بالتمر والماء من
رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود وابن ماجه، والدارمي. ولم يذكر فإنه بركة غير الترمذي. في رواية أخرى.
2011-(10) وعن أنس، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات
كمال شفقته - صلى الله عليه وسلم - على أمته ونصحهم، فإن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خلو المعدة إدعى إلى قبوله وانتفاع القوى به لاسيما قوة الباصرة فإنها تقوى به. وأما الماء فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس فإن رطبت بالماء كما انتفاعها بالغذاء بعده، هذا مع ما في التمر، والماء من الخاصية التي لها تأثير في صلاح القلب لا يعلمها إلا أطباء القلوب (رواه أحمد) (ج4 ص17- 18-213- 214) (والترمذي) في الزكاة لزيادة في آخره وهي قوله، وقال الصدقة على المسكين صدقة وهي على ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة. وقد تقدم هذا في باب أفضل الصدقة والجزء الأول أخرجه أيضا الترمذي في الصيام بدون قوله فإنه بركة (وأبوداود) الخ. وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم (ج1 ص431، 432) وابن حزم (ج7 ص31) والبيهقي (ج4 ص238، 239) وحسنه الترمذي في الزكاة وصححه في الصيام وصححه أيضا ابن خزيمة وابن حبان، وأبوحاتم الرازي، والحاكم على شرط البخاري ووافقه الذهبي وسكت عنه أبوداود. ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره، وروى ابن عدي عن عمران بن حصين بمعناه وإسناده ضعيف، وروى الترمذي والحاكم ابن خزيمة والبيهقي عن أنس مثل حديث سلمان وتكلم فيه الترمذي والبيهقي. قال الترمذي: هو حديث غير محفوظ، والصحيح حديث حفصة بنت سيرين عن الرباب عن سلمان بن عامر - انتهى. وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي (ولم يذكر) أي أحد قوله (فإنه بركة غير الترمذي) قال القاري: وفي نسخة ولم يذكروا بصيغة الجمع

(12/383)


فغير منصوب على الاستثناء (في رواية أخرى) يعني في كتاب الزكاة. وأما في الصيام فأخرجه بدون هذه الزيادة مثل الآخرين. قال القاري: وهذا أي قوله في رواية أخرى غير موجود في أكثر النسخ.
2011- قوله: (يفطر) أي من صومه (قبل أن يصلي) أي المغرب وفيه إشارة إلى كمال المبالغة في استحباب تعجيل الفطر. وأما ما صح أن عمر وعثمان رضي الله عنهما كانا برمضان يصليان المغرب حين ينظران إلى الليل الأسود ثم يفطران بعد الصلاة، فهو لبيان جواز التأخير لئلا يظن وجوب التعجيل (على رطبات) بضم الراء وفتح الطاء (فإن لم تكن رطبات) بالرفع أي موجودة أو إن لم تحصل ولم تتيسر (فتميرات) بالتصغير وبالجر أي فيفطر على تميرات وفي نسخة بالرفع أي فتميرات عوضها قاله القاري. وهذا لفظ الترمذي،
حسا حسوات من ماء)). رواه الترمذي، وأبوداود، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
2012-(11) وعن زيد بن خالد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من فطر صائما، أو جهز غازيا، فله مثل أجره)). رواه البيهقي في شعب الإيمان، ومحي السنة في شرح السنة. وقال: صحيح.

(12/384)


ولأبي داود فعلى تمرات وكذا عند الدارقطني والحاكم (حسا) أي شرب (حسوات) بفتحتين أي شربات (من ماء) قال العلقمي: حسوات، بحاء وسين مهملتين جمع حسوة بالفتح، وهي المرة من الشرب. والحسوة بالضم الجرعة من الشراب بقدر ما يحسي - انتهى. وقال في لسان العرب: الحسوة، المرة الواحدة. وقيل: الحسوة والحسوة لغتان. قال ابن السكيت: حسوت شربت حسوا وحساء والحسوة ملء الفم - انتهى. والحديث دليل على استحباب الافطار بالرطب فإن عدم فبالتمر فإن عدم فبالماء، قال: وقول من قال السنة بمكة تقديم ماء زمزم على التمر أو خلطه به فمردود بأنه خلاف الإتباع، وبأنه - صلى الله عليه وسلم - صام عام الفتح أياما كثيرة ولم ينقل أنه خالف عادته التي هي تقديم التمر على الماء. ولو كان لنقل - انتهى. (رواه الترمذي وأبوداود) وأخرجه أيضا أحمد والدارقطني (ص240) والحاكم (ج1 ص432) وابن حزم (ج7 ص31) من طريق أبي داود والبيهقي (ج4 ص239) (وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب) وسكت عليه أبوداود والحاكم والذهبي وصححه الدارقطني. وقال المنذري: بعد نقل كلام الترمذي. وقال أبوبكر البزار: وهذا حديث لا يعلم رواه عن ثابت عن أنس إلا جعفر بن سليمان وذكره ابن عدي أيضا في أفراد جعفر عن ثابت - انتهى. قلت: جعفر هذا صدوق زاهد حسن الحديث لكنه كان يتشيع.

(12/385)


2012- قوله: (وعن زيد بن خالد) أي الجهني (من فطر صائما) من التفطير وهو جعل أحد مفطرا أي من أطعم صائما عند إفطاره (أو جهز غازيا) من التجهيز أي هيأ أسباب سفره وأعطاه ما يحتاج إليه في غزوه من السلاح والفرس والنفقة. قال السندي: تجهيز الغازي تحميله وإعداد ما يحتاج إليه في غزوه (فله) أي لمن فطر أو جهز (مثل أجره) أي الصائم أو الغازي، و"أو" للتنويع وهذا الثواب لأنه من باب التعاون على البر والتقوى. قال الطيبي: نظم الصائم في سلك الغازي لانخراطهما في معنى المجاهدة مع أعداء الله. وقدم الجهاد الأكبر - انتهى. قيل: والمراد مثل أجره كما، لا كيفا وزاد في رواية غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئا (رواه البيهقي في شعب الإيمان ومحي السنة) أي صاحب المصابيح (في شرح السنة وقال صحيح) قال الجزري: ورواه النسائي بلفظه جملة والترمذي وابن ماجه مقطعا. وقال الترمذي: في كل منهما حسن صحيح كذا في المرقاة وقال المنذري في الترغيب: عن زيد بن خالد الجهني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من فطر صائما كان له مثل
2013-(12) وعن ابن عمر، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أفطر قال: ((ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله)). رواه أبوداود.

(12/386)


أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء، رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. وقال الترمذي: حديث صحيح، ولفظ ابن خزيمة والنسائي من جهز غازيا أو جهز حاجا أو خلفه في أهله أو فطر صائما كان له مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء - انتهى. قلت: الحديث أخرجه أيضا أحمد (ج4 ص114- 115- 116 وج5 ص192) والبيهقي (ج4 ص240) مطولا ومختصرا بألفاظ، وأخرجه الدارمي مقطعا في الصيام والجهاد، وكذا الترمذي وابن ماجه. وأخرج النسائي في الجهاد من المجتبى تجهيز الغازي فقط، ولم يخرج في الصيام أصلا ولعله أخرجه في الكبرى. قال ميرك: بعد نقل السياقين المذكورين عن الترغيب وكأن المصنف أي صاحب المشكاة لم يقف على هذين الطريقين فعزا الحديث إلى البيهقي وشرح السنة والعزو إلى أصحاب السنن أولى وأصوب والله أعلم - انتهى. وتعقبه القاري فقال: وفيه أنه إنما نسب إليهما لأن لفظهما مغاير للفظ الطريقين فإن الأول مختصر، والثاني مطول مع قطع النظر عن ومخالفة بقية الألفاظ - انتهى. فتأمل.

(12/387)


2013 – قوله: (إذا أفطر) من صومه (قال) أي بعد الإفطار (ذهب الظمأ) بفتحتين فهمز أي العطش أو شدته. قال النووي: في الأذكار الظمأ مهموز الآخر مقصور وهو العطش، وإنما ذكرت هذا وإن كان ظاهرا لأني رأيت من اشتبه عليه فتوهمه ممدودا - انتهى. وفيه أنه قريء لا يصيبهم ظمأ بالمد والقصر. وفي القاموس ظمى، كفرح ظمأ وظماء وظماءة عطش أو أشد العطش ولعل كلام النووي محمول على أنه خلاف الرواية لا أنه غير موجود في اللغة قاله القاري (وابتلت العروق) أي صارت رطبة بزوال اليبوسة الحاصلة بالعطش، قيل: لم يقل وذهب الجوع لأن أرض الحجاز حارة فكانوا يصبرون على قلة الطعام لا العطش (وثبت الأجر) أي زال التعب وحصل الثواب. قال الطيبي: ذكر ثبوت الأجر بعد زوال التعب استلذاذ أي استلذاذ ونظيره قوله تعالى حكاية عن أهل الجنة ?الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور?[فاطر:34] – انتهى. (إن شاء الله) ثبوته بأن تقبل الصوم وتولى جزاءه بنفسه كما وعد. وقال القاري: قوله: "إن شاء الله" متعلق بالأخير على سبيل التبرك ويصح التعليق لعدم وجوب الأجر عليه تعالى ردا على المعتزلة، ويمكن أن يكون إن بمعنى إذ فتتعلق بجميع ما سبق (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا الدارقطني (ص240) والحاكم (ج1 ص422) وابن السني (ص153) والبيهقي (ج4 ص239) وسكت عنه أبوداود والمنذري وحسنه الدارقطني وصححه الحاكم وأقره الذهبي: قال الجزري في جامع الأصول: (ج7 ص248) زاد رزين الحمد لله في أول الحديث.
2014-(13) وعن معاذ بن زهرة، قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان إذا أفطر قال: ((اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت)). رواه أبوداود مرسلا.

(12/388)


2014- قوله: (وعن معاذ) بضم الميم (بن زهرة) بضم الزاي وسكون الهاء ويقال معاذ أبوزهرة. قال في التقريب: مقبول من أوساط التابعين أرسل حديثا فوهم من ذكره في الصحابة. وقال في تهذيب التهذيب معاذ بن زهرة ويقال معاذ أبوزهرة الضبى تابعي أرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القول عند الإفطار، وعنه حصين بن عبدالرحمن وذكره ابن حبان في الثقات، قلت (قائله الحافظ) والذي ذكره بلفظ الكنية البخاري في التاريخ وتبعه ابن أبي حاتم، والذي ذكر أن زهرة اسم والده هو الذي وقع في السنن لأبي داود، وفي المراسيل لكن وقع عنده عن معاذ بن زهرة أنه بلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أخرج ابن السني - الحديث. (ص153) من وجه آخر عن حصين بلفظ آخر. ولم يقل في سياقه أنه بلغه (قال إن النبي - صلى الله عليه وسلم -) كذا في جميع النسخ الحاضرة وفي السنن لأبي داود عن معاذ بن زهرة أنه بلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان إذا أفطر قال) أي دعا. وقال ابن الملك: أي قرأ بعد الإفطار (اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت) قال المظهر. يعني لم يكن صومي رياء بل كان خالصا لك لأنك الرازق فإذا أكلت رزقك ولا رازق غيرك فلا ينبغي العبادة لغيرك. وقال الطيبي: قدم الجار والمجرور في القرينتين على العامل دلالة على الاختصاص إظهار للاختصاص في الافتتاح، وإبداء لشكر الصنيع المختص به في الاختتام (رواه أبوداود مرسلا) في السنن وفي المراسيل لكن وقع عنده هكذا عن معاذ ابن زهرة أنه بلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - الخ وتسميته مرسلا لا يخلو عن خفاء لأن قول معاذ التابعي بلغه يقتضي ثبوت مبلغ، ويحتمل أن يكون واحدا فهو حينئذ متصل في إسناده مجهول فتأمل، وأخرجه ابن السني (ص53) بلفظ كان إذا أفطر قال الحمد لله الذي أعانني فصمت ورزقني فأفطرت وليس في سياقه قوله إنه بلغه. وأخرجه البيهقي (ج4 ص239) من طريق أبي داود بسياقه سواء. قال ابن حجر: وهو مع

(12/389)


إرساله حجة في مثل ذلك على أن الدارقطني والطبراني روياه عن ابن عباس بسند متصل لكنه ضعيف وهو حجة أيضا. قال القاري: وأما ما اشتهر على الألسنة اللهم لك صمت وبك آمنت وعلى رزقك أفطرت فزيادة. "وبك آمنت" لا أصل لها وإن كان معناها صحيحا، وكذا زيادة "وعليك توكلت لصوم غد نويت" بل النية باللسان من البدعة الحسنة - انتهى. قلت لا أصل للنية باللسان للصوم وكذا للصلاة لا من كتاب ولا من سنة ولا من صحابي بل هو مجرد رأي، فهي بدعة شرعية، وكل بدعة شرعية سيئة فيتعين تركها، وحديث ابن عباس أخرجه ابن السني أيضا وفي الباب عن أنس أخرجه الطبراني في الأوسط، وهو أيضا ضعيف. ويكون هو وحديث ابن عباس شاهدا لحديث معاذ يقوى بهما.
?الفصل الثالث?
2015-(14) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر. لأن اليهود والنصارى يؤخرون)). رواه أبوداود، وابن ماجه.
2016-(15) وعن أبي عطية، قال: دخلت أنا ومسروق على عائشة، فقلنا: يا أم المؤمنين! رجلان

(12/390)


2015- قوله: (لا يزال الدين ظاهرا) أي غالبا وعاليا ولابن ماجه لا يزال الناس بخير (ما عجل الناس الفطر) أي مدة تعجيلهم الفطر. قال القاري: وسببه والله تعالى أعلم إن هذه الملة الحنيفية سمحاء سهلة ليس فيها حرج فيسهل قيامهم بها والمداومة عليها بخلاف أهل الكتاب فإنهم شدوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فغلبوا ولم يقدروا أن يقيموا الدين- انتهى. (لأن اليهود والنصارى يؤخرون) أي الفطر إلى اشتباك النجوم وتبعهم الرافضة في زماننا. قال السندي: هذا تعليل لما ذكر بأن فيه مخالفة لأعداء الله فما داموا يراعون مخالفة أعداء الله تعالى ينصرهم الله ويظهر دينهم. وقال الطيبي: في هذا التعليل دليل على أن قوام الدين الحنيف على مخالفة الأعداء من أهل الكتاب، وإن في موافقتهم تلفا للدين قال تعالى: ?يآيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم?[المائدة:51] (رواه أبوداود وابن ماجه) واللفظ لأبي داود وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم (ج1 ص431) والبيهقي (ج4 ص237) وسكت عنه أبوداود والمنذري. وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي ونقل السندي عن الزوائد إن إسناده صحيح على شرط الشيخين. وقال المنذري: وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث سهل بمن سعد بنحوه - انتهى.

(12/391)


2016- قوله: (وعن أبي عطية) بفتح العين وكسر طاء وشدة ياء، هو أبوعطية الوادعي الهمداني الكوفي واسمه مالك بن عامر أو ابن أبي عامر أو ابن عوف. وقيل: ابن حمزة. وقيل: ابن أبي حمزة. وقيل: اسمه عمرو بن جندب. ويقال: ابن أبي جندب. وقيل: إنهما اثنان روى عن ابن مسعود وأبي موسى وعائشة ومسروق بن الأجدع وعنه عمارة بن عمير والأعمش وآخرون ثقة من كبار التابعين وثقة ابن معين وأبوداود وابن سعد وابن حبان شهد مشاهد على ومات في ولاية عبدالملك. وقيل: في ولاية مصعب على الكوفة. وقال في التقريب: مات في حدود السبعين (ومسروق) أي ابن الأجدع وتقدم (رجلان) مبتدأ
من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: أحدهما: يعجل الإفطار ويعجل الصلاة، والآخر: يؤخر الإفطار ويؤخر الصلاة. قالت: أيهما يعجل الإفطار ويعجل الصلاة؟ قلنا: عبد الله بن مسعود، قالت: هكذا صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والآخر أبوموسى)). رواه مسلم.
2017-(16) وعن العرباض بن سارية، قال: دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السحور في رمضان، فقال: ((هلم إلى الغداء المبارك)). رواه أبوداود، والنسائي.

(12/392)


(من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -) صفة وهي مسوغة لكون المبتدأ نكرة والخبر جملة قوله (أحدهما يعجل الإفطار ويعجل الصلاة) أي صلاة المغرب (والآخر يؤخر الإفطار ويؤخر الصلاة) أي يختار تأخيرهما والظاهر إن الترتيب الذكرى يفيد الترتيب الفعلى في العملين (والآخر أبوموسى) قال الطيبي: الأول عمل بالعزيمة والسنة والثاني بالرخصة - انتهى. قال القاري: وهذا إنما يصح لو كان الاختلاف في الفعل فقط. أما إذا كان الاختلاف قوليا فيحمل على أن ابن مسعود اختار المبالغة في التعجيل وأبوموسى اختار عدم المبالغة فيه، وإلا فالرخصة متفق عليها عند الكل والأحسن أن يحمل عمل ابن مسعود على السنة وعمل أبي موسى على بيان الجواز كما سبق من عمل عمر وعثمان رضي الله عنهما - انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج4 ص237).

(12/393)


2017- قوله: (وعن العرباض) بكسر العين المهملة وسكون الراء وبالموحدة والضاد المعجمة (إلى السحور) بفتح السين ويجوز ضمها (فقال) عطف أو تفسير وبيان (هلم) أي تعالى وفيه لغتان فأهل الحجاز يطلقونه على الواحد. والجمع والاثنين بلفظ: واحد مبني على الفتح وبنو تميم تثني وتجمع وتؤنث فتقول هلم وهلمي وهلما وهلموا قاله الجزري في النهاية. ونزل القرآن بلغة الحجاز ?قل لهم هلم شهداءكم الذين يشهدون إن الله حرم هذا? أي أحضروهم وقال: ?والقائلين لإخوانهم هلم إلينا? (إلى الغداء المبارك) بفتح الغين المعجمة والدال المهملة والمد وهو طعام يؤكل أول النهار سمي به السحور لأنه للصائم بمنزلته للمفطر. وقال الخطابي (ج2 ص104) إنما غداء لأن الصائم يتقوى به على صيام النهار فكأنه قد تغدي. والعرب تقول غدا فلان لحاجته إذا بكر فيها وذلك من لدن وقت السحر إلى طلوع الشمس (رواه أبوداود والنسائي) واللفظ لأبي داود ولفظ النسائي عن العرباض قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يدعو إلى السحور في شهر رمضان قال: هلموا إلى الغداء المبارك والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج4 ص126) وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والبيهقي
2018-(17) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم سحور المؤمن التمر)). رواه أبوداود.
(3) باب تنزيه الصوم
((الفصل الأول))
2019-(1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يدع قول الزور

(12/394)


(ج4 ص236) كلهم عن الحارث بن زياد عن أبي رهم عن العرباض والحارث لم يرو عنه غير يونس بن سيف الكلاعي. وقال أبوعمر النمري: الحارث هذا مجهول يروي عن أبي رهم حديثه منكر كذا ذكره المنذري في مختصر السنن وفي الترغيب. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: الحارث بن زياد شامي أخرج له أبوداود والنسائي حديثا واحدا في الصوم ذكره ابن حبان في ثقات التابعين. وقال أدرك أباأمامة. قال الحافظ: وقرأت بخط الذهبي في الميزان مجهول وشرطه أن لا يطلق هذه اللفظة إلا إذا كان أبوحاتم الرازي قالها والذي قال أبوحاتم أنه مجهول آخر غيره فيما يظهر لي. نعم، قال أبوعمر بن عبدالبر: في صاحب هذه الترجمة مجهول حديثه منكر - انتهى. وقال في التقريب: الحارث بن زياد الشامي لين الحديث.
2018- قوله: (نعم سحور المؤمن) بفتح السين لا غير (التمر) أي فإن التسحر به بركة عظيمة وثوابا كثيرا فيطلب تقديمه في السحور وكذا في الفطور إن لم يوجد رطب وإلا فهو أفضل في زمنه. قال الطيبي: وإنما مدح التمر في هذا الوقت؛ لأن في نفس السحور ببركة وتخصيصه بالتمر بركة على بركة كما سبق: إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإنه بركة ليكون المبدوء به والمنتهي إليه البركة والله تعالى أعلم (رواه أبوداود) قال المزي: هذا الحديث في رواية أبي بكر بن داسة ولم يذكره أبوالقاسم ذكره في عون المعبود نقلا عن غاية المقصود. والحديث أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه والبيهقي (ج4 ص237) ورواه البزار وأبونعيم في الحلية عن جابر قال الهيثمي بعد عزوه إلى البزار: رجاله رجال الصحيح، ورواه الطبراني في الكبير بسند ضعيف عن السائب بن يزيد وزاد وقال: يرحم الله المتسحرين ذكره المنذري والهيثمي.
(باب تنزيه الصوم) أي في بيان ما يدل على ما يجب تبعيد الصوم عنه مما يبطله من أصله أو يبطل ثوابه أو ينقصه.

(12/395)


2019- قوله: (من لم يدع) بفتح التحتية والدال المهملة أي لم يترك (قول الزور) أي الباطل وهو ما فيه إثم والإضافة بيانية قاله القاري. وقال الطيبي: الزور الكذب والبهتان أي من لم يترك القول الباطل من
والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)).
قول الكفر وشهادة الزور والإفتراء والغيبة والبهتان والقذف والسب والشتم واللعن وأمثالها مما يجب على الإنسان إجتنابها ويحرم عليه ارتكابها (والعمل) بالنصب (به) أي بالزور يعني الفواحش من الأعمال لأنها في الإثم كالزور. وقال الطيبي: هو العمل بمقتضاه من الفواحش وما نهى الله عنه، وزاد في رواية البخاري في الأدب والجهل، ولابن ماجه من لم يدع قول الزور، والجهل والعمل به فالضمير في "به" يعود على الجهل لكونه أقرب مذكور أو على الزور فقط وإن بعد لإتفاق الروايات عليه أو عليهما، وأفرد الضمير لاشتراكهما في تنقيص الصوم قاله العراقي. وقال الحافظ: الضمير في رواية ابن ماجه يعود على الجهل، وفي رواية البخاري يعود على قول الزور والمعنى متقارب. والمراد بالجهل السفة. وقيل: أي صفات الجهل أو أحوال الجهل والمعاصي كلها عمل بالجهل فيدخل الغيبة فيها، وفي الأوسط للطبراني بسند رجاله ثقات من حديث أنس من لم يدع الخنى والكذب. قال السندي: قيل يحتمل أن المراد من لم يدع ذلك مطلقا غير مقيد بصوم أي من لم يترك المعاصي ماذا يصنع بطاعته، ويحتمل أن المراد من لم يترك حالة الصوم وهو الموافق لبعض الروايات - انتهى. ويشير بذلك إلى ما وقع في رواية للنسائي والجهل في الصوم (فليس لله حاجة) أي التفات ومبالاة وهو مجاز عن عدم القبول بنفي السبب وإرادة نفي المسبب وإلا فلا حاجة لله تعالى إلى عبادة أحد (في أن يدع طعامه وشرابه) فإنهما مباحان في الجملة فإذا تركهما وارتكب أمرا حراما من أصله استحق المقت وعدم القبول طاعته في وقت فإن المطلوب منه ترك المعاصي مطلقا لا تركا دون ترك. قال القاضي

(12/396)


البيضاوي: ليس المقصود من شرعية الصوم نفس الجوع والعطش بل ما يتبعه من كسر الشهوات وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة، فإذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إليه نظر القبول، فقوله "ليس لله حاجة" مجاز عن عدم قبول فنفي السبب وأرادة المسبب وإلا فالله تعالى لا يحتاج إلى شيء. وقال ابن بطال: ليس معناه يؤمر بأن يدع صيامه وإنما معناه التحذير من قول الزور، وما ذكر معه وهو مثل قوله من باع الخمر فليشقص الخنازير أي يذبحها ولم يأمره بذبحها ولكنه على التحذير والتعظيم لإثم بائع الخمر، وكذلك حذر الصائم من قول الزور والعمل به ليتم له أجر صيامه - انتهى. وأعلم أن الجمهور على أن الكذب والغيبة والنميمة لا تفسد الصوم، وعن الثوري والأوزاعي إن الغيبة تفسده والراجح الأول. نعم هذه الأفعال تنقص الصوم وقول بعضهم أنها صغائر تكفر باجتناب الكبائر أجاب عنه الشيخ تقي الدين السبكي بأن في حديث الباب والذي مضى في أول الصوم دلالة قوية لذلك أي لقول الجمهور، لأن الرفث والصخب وقول الزور والعمل به مما علم النهي عنه مطلقا. والصوم مأمور به مطلقا فلو كانت هذه الأمور إذا حصلت فيه لم يتأثر بها لم يكن لذكرها فيه مشروطة به معنى نفهمه، فلما ذكرت في هذين الحديثين نبهتنا على أمرين
رواه البخاري.
2020- (2) وعن عائشة، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم، وكان أملككم لإربه)).

(12/397)


أحدهما زيادة قبحها في الصوم على غيره، والثاني الحث على سلامة الصوم عنها، وإن سلامته منها صفة كمال فيه وقوة الكلام تقتضي أن يقبح ذلك لأجل الصوم. فمقتضى ذلك أن الصوم يكمل بالسلامة عنها فإذا لم يسلم عنها نقص. ثم قال: ولا شك إن التكاليف قد ترد بأشياء وينبه على أخرى بطريق الإشارة وليس المقصود من الصوم العدم المحض كما في المنهيات، لأنه يشترط له النية بالإجماع. ولعل القصد به في الأصل الإمساك عن جميع المخالفات، لكن لما كان ذلك يشق خفف الله وأمر بالإمساك عن المفطرات ونبه العاقل بلك على الإمساك عن المخالفات، وأرشد إلى ما تضمنته أحاديث المبين عن الله مراده فيكون اجتناب المفطرات واجبا واجتناب ما عداها من المخالفات هم المكملات كذا نقله الحافظ في الفتح (رواه البخاري) في الصوم والأدب وأخرجه أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي في الكبرى وابن ماجه، وأخرجه البيهقي (ج4ص270) من طريق أبي داود وابن حزم من طريق البخاري.

(12/398)


2020- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل) من التقبيل أي نفسها كما في بعض الروايات أو بعض أزواجه كما في روايات أخرى (ويباشر) أي بعض نسائه يعني يلصق ويمس بشرتها ببشرته كوضع الخد على الخد ونحوه. وليس المراد المباشرة الفاحشة. قال ابن الملك: أي يلمس نساءه بيده. وأصل المباشرة التقاء البشرتين سواء أولج أو لم يولج، وقد يستعمل في الجماع وليس بمراد هنا. قال الشوكاني: المراد بالمباشرة المذكورة في الحديث ما هو أعم من التقبيل ما لم يبلغ إلى حد الجماع فيكون قوله: كان يقبل ويباشر من ذكر العام بعد الخاص، لأن المباشرة في الأصل التقاء البشرتين (وهو صائم) وفي رواية عمرو بن ميمون عن عائشة: كان يقبل في شهر الصوم، أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم. وفي رواية لمسلم: كان يقبل في رمضان وهو صائم فأشارت بذلك إلى عدم التفرقة بين الصوم الفرض والنفل قاله الحافظ (وكان أملككم) أي أغلبكم وأقدركم (لإربه) أكثرهم يرويه بفتحتين بمعنى الحاجة، أي حاجة النفس ووطرها تريد حاجة الجماع، وبعضهم يرويه بكسر فسكون وهو يحتمل معنى الحاجة والعضو أي الذكر. قال الحافظ: قوله "لأربه" بفتح الهمزة والراء وبالموحدة أي حاجته، ويروى بكسر الهمزة وسكون أي عضوه والأول أشهر وإلى ترجيحه أشار البخاري بما أورده من التفسير- انتهى. قلت: قال البخاري بعد رواية هذا الحديث. قال ابن عباس: أرب حاجة وقال طاووس: غير أولى
.................................

(12/399)


الأربة الأحمق لا حاجة له في النساء. وقال الجزري في النهاية: لأربه أي لحاجته تعنى إنه كان غالبا لهواه. وأكثر المحدثين يروونه بفتح الهمزة والراء يعنون الحاجة، وبعضهم يرويه بكسر الهمزة وسكون الراء وله تأويلان، أحدهما أنه الحاجة. والثاني: أرادت به العضو وعنت به من الأعضاء الذكر خاصة - انتهى. ورد تفسيره بالعضو بأنه خارج عن سنن الأدب. قال التوربشتي: حمل الأرب ساكن الراء على العضو في هذا الحديث غير سديد لا يغتربه إلا جاهل بوجوه حسن الخطاب مائل عن سنن الأدب ونهج الصواب وأجاب الطيبي بأنها ذكرت أنواع الشهوة مترقية من الأدنى إلى الأعلى فبدأت بمقدمتها التي هي القبلة ثم ثنت بالمباشرة التي هي المداعبة والمعانقة وأرادت أن تعبر عن المجامعة فكنت عنها بالإرب وأي عبارة أحسن منها - انتهى. وفيه أن المستحسن إذا إن الأرب بمعنى الحاجة كناية عن المجامعة. وأما ذكر الذكر فغير ملائم للأنثى كما لا يخفى لاسيما في حضور الرجال قاله القاري. وفي الموطأ أيكم أملك لنفسه، وبذلك فسر الترمذي في جامعه فقال ومعنى لإربه يعني لنفسه. قال العراقي: وهو أولى الأقوال بالصواب لأن أولى ما فسر به الغريب ما ورد في بعض طرق الحديث - انتهى. وقال شيخنا بعد ذكر كلام الترمذي: المذكور هذا بيان حاصل المعنى وقد عرفت أصل معنى لإربه- انتهى. واختلف في بيان معنى قول عائشة ومقصودها. فقيل أرادت أنه مع هذه المباشرة كان يأمن من الإنزال والوقاع فليس لغيره ذلك فهذا إشارة إلى علة عدم إلحاق الغير به في ذلك وعلى هذا فيكره لغيره القبلة والمباشرة وقيل المعنى أنه كان قادرا على حفظ نفسه عن القبلة والمباشرة لأنه كان أغلب الناس على هواة، ومع ذلك كان يقبل ويباشر وغيره قلما يصبر على تركهما، لأن غيره قلما يملك هواه فكيف لا يباح لغيره ففي قولها إشارة إلى أن غيره له ذلك بالأولى فسره بذلك من يجيزها للغير، ويجعل قولها علة في إلحاق الغير به - صلى الله

(12/400)


عليه وسلم - ويؤيد هذا المعنى ما ذكره البخاري في صحيحه تعليقا قالت عائشة: يحرم عليها فرجها. قال الحافظ: وصله الطحاوي عن حكيم بن عقال، قال سألت عائشة: ما يحرم علي من امرأتي وأنا صائم قالت فرجها وإسناده إلى حكيم صحيح، ويؤدي معناه ما رواه عبدالرزاق بإسناد صحيح عن مسروق سألت عائشة ما يحل للرجل من امرأته صائما قالت كل شيء إلا الجماع - انتهى ويؤيده أيضا ما روى مالك عن أبي النضر عن عائشة بنت طلحة أخبرته أنها كانت عند عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل عليها زوجها، وهو عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي بكر وهو صائم فقالت له عائشة ما يمنعك أن تدنو من أهلك فتلاعبها وتقبلها. قال: أقبلها وأنا صائم قالت نعم. ولا يخفى أن محل هذا الأمن من الوقوع في الجماع أو الإنزال. وأما ما روى النسائي والبيهقي (ج3
...............................

(12/401)


ص232) عن الأسود قال: قلت لعائشة أيباشر الصائم قالت لا: قلت أليس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يباشر، وهو صائم قالت: أنه كان أملككم لإربه. وظاهر هذا أنها اعتقدت خصوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال القرطبي: هذا اجتهاد من عائشة، وقول أم سلمة كان يقبلها وهو صائم أولى أن يؤخذ به لأنه نص في الواقعة وقال الحافظ: قد ثبت عن عائشة صريحا إباحة ذلك فيجمع بين هذا وبين قولها المتقدم أنه يحل له كل شيء إلا الجماع بحمل النهي على كراهة التنزيه، فإنها لا تنافي الإباحة وفي كتاب الصيام ليوسف القاضي من طريق حماد بن سلمة عن حماد سألت عائشة عن المباشرة للصائم فكرهتها. قال الحافظ: ويدل على أنها كانت لا ترى بتحريمها ولا بكونها من الخصائص ما رواه مالك في الموطأ عن أبي النضر فذكر الأثر المتقدم. وقال ابن حزم: بعد ذكر هذا الأثر وقول عائشة يحل له كل شيء إلا الجماع ما لفظه فهذان الخيران يكذبان قول من يقول إنها أرادت بقولها، وأيكم أملك لإربه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النهي عن القبلة والمباشرة للصائم - انتهى. وقد اختلف في القبلة والمباشرة بغير الجماع على أقوال الأول إنها مكروهة مطلقا، وهو مشهور عند المالكية، ورواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر الثاني إنها محرمة واستدل لذلك بقوله تعالى: ?فالآن باشروهن?[البقرة:187] قيل قد منع من المباشرة في هذه الآية نهارا، وأجيب عن ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المبين عن الله تعالى، وقد أباح المباشرة نهارا بفعله كما أفاده حديث الباب فدل على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع لا ما دونه من قبله ونحوها. قال الحافظ: وممن أفتى بإفطار من قبل صائم وهو عبدالله بن شبرمة أحد فقهاء الكوفة ونقله الطحاوي عن قوم لم يسمهم - انتهى. قلت: وروى ذلك أيضا عن ابن مسعود كما في مجمع الزوائد (ج3 ص166) والبيهقي (ج4 ص234) الثالث إنها مباحة مطلقا. قال

(12/402)


الحافظ: وهو المنقول صحيحا عن أبي هريرة وبه قال سعيد وسعد بن أبي وقاص وطائفة بل بالغ بعض أهل الظاهر (لعله أراد به ابن حزم، فإنه قال إنها حسنة مستحبة سنة من السنن وقربة من القرب إلى الله تعالى) فاستحبها - انتهى. ويدل لإباحة القبلة مطلقا، ما روى عن عمر رضي الله عنه قال هشهشت. يوما فقبلت وأنا صائم فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت صنعت اليوم أمرا عظيما قبلت وأنا صائم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم قلت: لا بأس بذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففيم. أخرجه أحمد (ج1 ص21- 52) وأبوداود والنسائي والحاكم (ج1 ص431) والدارمي وابن حزم (ج6 ص209) وسكت عنه أبوداود وابن حزم. وقال النسائي إنه منكر وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. قال المازري: فيه إشارة إلى فقه بديع وهو إن المضمضة لا تنقض الصوم وهو أول الشرب ومفتاحه كما إن القبلة من دواعي الجماع ومفتاحه والشرب يفسد
............................

(12/403)


الصوم كما يفسده الجماع وكما ثبت عندهم إن أوائل الشرب لا يفسد الصيام فكذلك أوائل الجماع كذا في الفتح. الرابع التفصيل فتكره للشاب وتباح للشيخ وهو مشهور عن ابن عباس أخرجه مالك وسعيد بن منصور وغيرهما وجاء فيه ثلاثة أحاديث مرفوعة، أخرج أحدها أبوداود من حديث أبي هريرة. وسيأتي في الفصل الثاني. والثاني أحمد (ج2 ص185) والطبراني من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص، قال كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء شاب. فقال: أقبل يا رسول الله: وأنا صائم قال لا، قال فجاء شيخ فقال أقبل وأنا صائم قال نعم فنظر بعضنا إلى بعض فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قد علمت لم نظر بعضكم إلى بعض إن الشيخ يملك نفسه، وفي إسناده ابن لهيعة مختلف في الاحتجاج. والثالث البيهقي (ج4 ص232) من حديث عائشة. قال الزرقاني والقسطلاني: بإسناد صحيح إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في القبلة للشيخ وهو صائم ونهى عنها الشاب. وقال: الشيخ يملك إربه، والشاب يفسد صومه والخامس إن ملك نفسه جازت له وإلا فلا كما أشارت إليه عائشة في حديث الباب. قال الترمذي: ورأى بعض أهل العلم إن للصائم إذا ملك نفسه أن يقبل وإلا فلا، ليسلم له صومه وهو قول سفيان الثوري والشافعي - انتهى. قلت: وهو قول أبي حنيفة. قال محمد بن الحسن في موطأه: لا بأس بالقبلة للصائم إذا ملك نفسه بالجماع فإن خاف أن لا يملك نفسه فالكف أفضل وهو قول أبي حنيفة والعامة قبلنا - انتهى. وهو قول أحمد أيضا قال ابن قدامة (ج3 ص112) المقبل إذا كان ذا شهوة مفرطة بحيث يغلب على ظنه أنه إذا قبل أنزل لم تحل له القبلة؛ لأنها مفسدة لصومه فحرمت كالأكل وإن كان ذا شهوة لكن لا يغلب على ظنه ذلك كره له التقبيل لأنه يعرض صومه للفطر ولا يأمن عليه الفساد ولا تحرم القبلة في هذه الحال لحديث عطاء بن يسار الآتي. ولأن إفضاءه إلى إفساد الصوم مشكوك فيه، ولا يثبت التحريم بالشك. فأما إن كان ممن لا تحرك

(12/404)


القبلة شهوته كالشيخ الهرم ففيه روايتان أحدهما لا يكره له ذلك وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل وهو صائم لما كان مالكا لإربه وغير ذي الشهوة في معناه. والثانية يكره لأنه لا يأمن حدوث الشهوة، فأما اللمس لغير شهوة كلمس يدها ليعرف مرضها فليس بمكروه بحال، لأن ذلك لا يكره في الإحرام فلا يكره في الصيام كلمس ثوبها - انتهى مختصرا. وفي الروض المربع تكره القبلة ودواعي الوطى لمن تحرك شهوته، لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عنها شابا. ورخص لشيخ وغير ذي الشهوة في معنى الشيخ - انتهى مختصرا. قلت: واستدل لهذا القول بما رواه مسلم من طريق عمر بن أبي سلمة وهو ربيب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيقبل الصائم؟ فقال: سل هذه لأم سلمة فأخبرته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك فقال: يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له. قال الحافظ بعد ذكره: دل ذلك على أن الشاب والشيخ سواء، لأن عمر حينئذ كان
متفق عليه.

(12/405)


شابا ولعله كان أول ما بلغ، وفيه دلالة على أنه ليس من الخصائص، وروى عبدالرزاق بإسناد صحيح عن عطاء بن يسار عن رجل من الأنصار أنه قبل امرأته وهو صائم فأمر امرأته أن تسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فسألته فقال إني أفعل ذلك فقال زوجها يرخص الله لنبيه فيما شاء فرجعت فقال أنا أعلمكم بحدود الله وأتقاكم وأخرجه مالك لكنه أرسله. قال عن عطاء إن رجلا فذكر نحوه مطولا - انتهى. السادس إنها مباحة في النفل مكروهة في الفرض وهي رواية ابن وهب عن مالك. وقد ظهر مما ذكرنا إن أعدل الأقوال وأقواها هو ما ذهب إليه الشافعي ومن وافقه من التفريق بين من يملك نفسه ومن لا يملك وبه يحصل الجمع بين الأحاديث المختلفة ويفهم من التعليل المذكور في حديثي عبدالله بن عمرو بن العاص وعائشة المذكورين في القول الرابع، إن الإباحة والكراهة دائرة مع ملك النفس وعدمه وعلى هذا فليس كبير فرق بين القول الرابع والخامس فالتعبير بالشيخ والشاب جرى على الغالب من أحوال الشيوخ في انكسار شهوتهم ومن أحوال الشباب في قوة شهوتهم فلو انعكس الأمر انعكس الحكم، لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما وروى النسائي من طريق طلحة بن عبدالله التميمي عن عائشة. قالت: أهوى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقبلني فقلت إني صائمة فقال وأنا صائم فقبلني، وهذا يؤيد ما تقدم إن النظر في ذلك لمن لا يتأثر بالمباشرة والتقبيل لا للتفرقة بين الشاب والشيخ، لأن عائشة كانت شابة. نعم لما كان الشباب مظنة لهيجان الشهوة فرق من فرق. وقال المازري: ينبغي أن يعتبر حال المقبل فإن أثارت منه القبلة الإنزال حرمت عليه؛ لأن الإنزال يمنع منه الصائم فكذلك ما أدى إليه وإن كان عنها المذي. فمن رأى القضاء منه قال يحرم في حقه، ومن رأى أن لا قضاء. قال: يكره وإن لم تؤد القبلة إلى شيء فلا معنى للمنع منها إلا على القول بسد الذريعة. وقال النووي: القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم

(12/406)


تحرك شهوته لكن الأولى له تركها، وأما من حركت شهوته فهي حرام في حقه على الأصح وقيل: مكروهة - انتهى. واختلف فيما إذا باشر أو قبل أو نظر فأنزل أو أمذى فقال الكوفيون والشافعي: يقضي إذا أنزل في غير النظر ولا قضاء في الإمذاء. وقال مالك وإسحاق: يقضي في كل ذلك ويكفر إلا في الإمذاء فيقضي فقط. وروى عيسى بن دينار عن ابن القاسم عن مالك وجوب القضاء فيمن باشر أو قبل فانعظ ولم يمذ ولا أنزل، وأنكره غيره عن مالك. وقال ابن قدامة: إن قبل فأنزل أفطر بلا خلاف كذا قال وفيه نظر. فقد حكى ابن حزم أنه لا يفطر ولو أنزل وقوى ذلك وذهب إليه كذا في الفتح (متفق عليه) وأخرجه أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي في الكبرى والدارمي والطحاوي والبيهقي والدارقطني بألفاظ. وفي الباب عن حفصة عند مسلم وأم سلمة عند الشيخين.
2021-(3) وعنها، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من غير حلم، فيغسل ويصوم)).

(12/407)


2021- قوله: (يدركه الفجر) أي الصبح (في رمضان) أي في بعض الأحيان (وهو) أي والحال أنه (جنب) بضمتين (من غير حلم) بضمتين ويجوز سكون اللام. قال القاري: وهو صفة مميزة أي من غير احتلام بل من جماع فإن الثاني أمر اختياري فيعرف حكم الأول بطريق الأولى، بل ولو وقع الاحتلام في حال الصيام لا يضر - انتهى. وهذا لفظ مسلم. وللبخاري يدركه الفجر جنبا في رمضان من غير حلم. قال القسطلاني: أي من جنابة غير حلم فاسقط الموصوف وهو جنابة اكتفاء بالصفة عند لظهوره - انتهى. وفي رواية لمسلم والموطأ كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام في رمضان. وفي حديث أم سلمة عند النسائي كان يصبح جنبا منى فيصوم ويأمرني بالصيام. قال الحافظ: أرادت بالتقييد بالجماع المبالغة في الرد على من زعم أن فاعل ذلك عمدا يفطر. وإذا كان فاعل ذلك عمدا لا يفطر، فالذي ينسي الاغتسال أو ينام عنه أولى بذلك. قال ابن دقيق العيد: لما كان الاحتلام يأتي للمرأ على غير اختياره فقد يتمسك به من يرخص لغير المتعمد الجماع، فيبن في هذا الحديث إن ذلك كان من جماع لإزالة هذا الاحتمال. وقال القرطبي: في هذا فائدتان: إحداهما: أنه كان يجامع في رمضان ويؤخر الغسل إلى بعد طلوع الفجر بيانا للجواز. والثاني: إن ذلك كان من جماع لا من احتلام، لأنه كان لا يحتلم إذا الاحتلام من الشيطان وهو معصوم منه. وقال غيره: في قولها من غير احتلام إشارة إلى جواز الاحتلام عليه وإلا لما كان للاستثناء معنى ورد بأن الاحتلام من الشيطان وهو معصوم منه. وأجيب بأن الاحتلام يطلق على الإنزال، وقد يقع الإنزال بغير رؤية شيء في المنام - انتهى. وقال النووي: احتج به من أجاز الاحتلام على الأنبياء، وفيه خلاف والأشهر امتناعه؛ لأنه من تلاعب الشيطان. وتألوا الحديث على أن المعنى يصبح جنبا من جماع ولا يجنب من احتلام لإمتناعه منه وهو قريب من قوله تعالى: ?ويقتلون النبيين بغير حق?[آل عمران:21] ومعلوم إن

(12/408)


قتلهم لا يكون بحق - انتهى. وقال ابن حجر: النفي في قولهم الأنبياء لا يحتلمون ليس على إطلاقه، بل المراد أنهم لا يحتلمون برؤية جماع؛ لأن ذلك من تلاعب الشيطان بالنائم وهم معصومون عن ذلك. وأما الاحتلام بمعنى نزول المني في النوم من غير رؤية وقاع فهو غير مستجيل عليهم لأنه ينشأ عن نحو امتلاء البدن فهو من الأمور الخلقية والعادية التي يستوي فيها الأنبياء وغيرهم - انتهى. (فيغتسل) أي بعد طلوع الفجر (ويصوم) أي يتم صومه. وفيه دليل على صحة صوم من دخل في الصباح وهو جنب من احتلام أو من جماع أهله وإلى هذا ذهب الجمهور. قال ابن عبدالبر: عليه جماعة فقهاء الأمصار بالعراق والحجاز وأئمة الفتوى بالأمصار مالك وأبوحنيفة والشافعي والثوري والأوزاعي والليث وأصحابهم وأحمد وإسحاق وأبوثور وابن علية وأبوعبيد وداود وابن جرير الطبري وجماعة
.......................

(12/409)


من أهل الحديث. وقال ابن قدامة: هو قول عامة أهل العلم، منهم علي وابن مسعود وزيد وأبوالدرداء وأبوذر وابن عمر وابن عباس وعائشة وأم سلمة، وبه قال مالك والشافعي في أهل الحجاز، وأبوحنيفة والثوري في أهل العراق، والأوزاعي في أهل الشام، في أهل الشام، والليث في أهل مصر، وإسحاق وأبوعبيد في أهل الحديث، وداود في أهل الظاهر، وكان أبوهريرة يقول لا صوم له. ويروي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم رجع عنه. قال سعيد بن المسيب: رجع أبوهريرة عن فتياه، وحكى عن حسن وسالم بن عبدالله قالا يتم صومه ويقضي. وعن النخعي في رواية يقضي في الفرض دون التطوع، وعن عروة وطاووس إن علم بجنابته في رمضان فلم يغتسل حتى أصبح فهو مفطر، وإن لم يعلم فهو صائم - انتهى. وقال الحافظ: قد بقي على مقالة أبي هريرة بعض التابعين كما نقله الترمذي (من غير ذكر أسماءهم) ثم ارتفع ذلك الخلاف واستقر الإجماع على خلافه كما جزم به النووي. (والأبي في شرح مسلم) وأما ابن دقيق العيد فقال صار ذلك إجماعا أو كالإجماع - انتهى. قلت: وذهب ابن حزم إلى أنه لا يبطل صومه إلا أن تطلع عليه الشمس. وقيل: أن يغتسل ويصلي فيبطل صومه. قال: ذلك بناء على مذهبه في أن المعصية عمدا تبطل الصوم واحتج من قال بفساد صيام الجنب، بما روى أحمد وابن حبان عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا نودي للصلاة صلاة الصبح، وأحدكم جنب، فلا يصم حينئذ. وأخرجه النسائي والطبراني وعبدالرزاق بلفظ: قال أبوهريرة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بالفطر إذا أصبح الرجل جنبا، وقد بين أبوهريرة كما فغي رواية البخاري والنسائي وغيرهما أنه لم يسمع ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما سمعه بواسطة الفضل بن عباس وأسامة وكأنه كان لشدة وثوقه بخبرهما يرويه من غير واسطة. وحمل هؤلاء حديث عائشة وأم سلمة على أنه من الخصائص النبوية، وإن حكم النبي - صلى الله

(12/410)


عليه وسلم - على ما ذكرت عائشة وأم سلمة، وحكم الناس على ما حكى أبوهريرة. ورد هذا بأن الخصائص لا تثبت إلا بدليل، وبأنه قد ورد صريحا ما يدل على عدمها، وهو ما أخرجه مالك ومسلم وأبوداود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم عن عائشة، إن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، يستفتيه، وهي تسمع من وراء الباب فقال: يا رسول الله! تدركني الصلاة أي صلاة الصبح وأنا جنب أفأصوم؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم فقال: لست مثلنا يا رسول الله! قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلم بما أتقى. وأجاب الجمهور عن حديث أبي هريرة بأنه منسوخ وإن أباهريرة رجع عنه لما روى له حديث عائشة وأم سلمة وأفتى بقولهما، قال ابن خزيمة إن الخبر منسوخ، لأن الله تعالى عند ابتداء فرض الصوم كان منع في ليل الصوم من الأكل والشرب والجماع بعد النوم. قال فيحتمل أن يكون خبر الفضل حينئذ، ثم أباح الله ذلك
....................................

(12/411)


كله إلى طلوع الفجر، فكان للمجامع أن يستمر إلى طلوعه فيلزم أن يقع اغتساله بعد طلوع الفجر. فدل على أن حديث عائشة ناسخ لحديث الفضل، ولم يبلغ الفضل ولا أباهريرة الناسخ فاستمر أبوهريرة على الفتيا به، ثم رجع عند بعد ذلك لما بلغه. قال الحافظ: ويقويه إن في حديث عائشة المتقدم في الرد على دعوى الخصوصية ما يشعر بأن ذلك كان بعد الحديبية، لقوله فيها: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وأشار إلى آية الفتح، وهي إنما نزلت بعد عام الحديبية سنة ست، وابتداء فرض الصيام كان في السنة الثانية. وإلى دعوى النسخ فيه ذهب ابن المنذر والخطابي وغير واحد، وقرره ابن دقيق العيد بأن قوله تعالى: ?أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نساءكم?[البقرة:187] يقتضى إباحة الوطى في ليلة الصوم، ومن جملتها الوقت المقارن لطلوع الفجر فيلزم إباحة الجماع فيه. ومن ضرورته أن يصبح فاعل ذلك جنبا ولا يفسد صومه، فإن إباحة التسبب للشيء إباحة لذلك الشيء، ورد البخاري حديث أبي هريرة بأن حديث عائشة أقوى إسنادا. قال الحافظ: وهو من حديث الرجحان كذلك، لأن حديث عائشة وأم سلمة في ذلك جاءا عنهما من طرق كثيرة جدا بمعنى واحد،حتى قال ابن عبدالبر أنه صح وتواتر. وأما حديث أبي هريرة فأكثر الروايات أنه كان يفتى به، ورواية الرفع أقل، وعند تعارض الترجيح بكثرة الطرق وقوتها. وقال بعضهم: إن حديث عائشة أرجح لموافقة أم سلمة لها على ذلك، ورواية اثنين تقدم على رواية واحد، ولاسيما وهما زوجتان وهما أعلم بذلك من الرجال، ولأنهما ترويان ذلك عن مشاهدة بخلاف غيرهما، ولأن روايتهما توافق المنقول وهو ما تقدم من مدلول الآية والمعقول، وهو أن الغسل شيء وجب بالإنزال، وليس في فعله شيء يحرم على صائم فقد يحتلم بالنهار فيجب عليه الغسل ولا يحرم عليه بل يتم صومه إجماعا، فكذلك إذا احتلم ليلا بل هو من باب الأولى. وإنما يمنع الصائم من تعمد الجماع نهارا. قال الحافظ:

(12/412)


القول بالنسخ أولى من سلوك الترجيح بين الخبرين. وجمع بعضهم بينهما بأن الأمر في حديث أبي هريرة إرشاد إلى الأفضل، فإن الأفضل أن يغتسل قبل الفجر، فلو خالف جاز ويحمل حديث عائشة على بيان الجواز. ويعكر عليه التصريح في كثير من طرق حديث أبي هريرة بالأمر بالفطر وبالنهي عن الصيام فكيف يصح الحمل على الإرشاد إذا وقع ذلك في رمضان. وقيل: هو محمول على من أدركه الفجر مجامعا فاستدام بعد طلوعه عالما بذلك ويعكر عليه ما رواه النسائي إن أباهريرة كان يقول: من احتلم وعلم باحتلامه ولم يغتسل حتى أصبح فلا يصوم. فائدة في معنى الجنب الحائض والنفساء إذا انقطع دمها ليلا ثم طلع الفجر قبل اغتسالها. وهو مذهب العلماء كافة، إلا ما حكى عن بعض السلف أنه لا يصح صومها. قال ابن قدامة (ج3 ص138) الحكم في المرأة إذا انقطع حيضها من الليل كالحكم في الجنب سواء، ويشترط أن ينقطع حيضها قبل طلوع الفجر؛ لأنه إن وجد جزء منه في النهار
متفق عليه.
2022 -(4) وعن ابن عباس، قال: ((إن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم)). متفق عليه.
أفسد الصوم، ويشترط أن تنوى الصوم أيضا من الليل بعد انقطاعه؛ لأنه لا صيام لمن يبيت الصيام من الليل. وقال الأوزاعي والحسن بن حي وعبدالملك بن الماجشون والعنبري: تقضي فرطت في الاغتسال أو لم تفرط، لأن حدث الحيض يمنع الصوم بخلاف الجنابة. ولنا أنه حديث يوجب الغسل فتأخير الغسل منه إلى أن يصبح لا يمنع صحة الصوم كالجنابة وما ذكروه لا يصح، فإن من طهرت من الحيض ليست حائضا. وإنما عليها حدث موجب الغسل، فهي كالجنب فإن الجماع الموجب للغسل لو وجد في الصوم أفسده كالحيض، وبقاء وجوب الغسل منه كبقاء وجوب الغسل من الحيض - انتهى. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضا أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي في الكبرى والدارمي والطحاوي والبيهقي وغيرهم.

(12/413)


2022- قوله: (احتجم) أي طلب الحجامة بالكسر ككتابة من الحجم وهو المص، يقال حجم الصبي ثدي أمه أي مصه، يحجم ويحجم حجما، والحجام والحاجم من يتعاطى الحجامة، وهي المداواة والمعالجة بالمحجم بكسر الميم. قال ابن الأثير: هي الآلة التي يجمع فيها دم الحجامة عند المص، وحرفته وفعله الحجامة. وقال المجد: المحجم والمحجمة ما يحجم به، وحرفته الحجامة ككتابة واحتج طلبها (وهو محرم) جملة حالية فيه جواز الحجامة للمحرم كما سيأتى الكلام فيه إنشاء الله في باب ما يجتنبه المحرم من كتاب الحج (واحتج) أيضا (وهو صائم) حكى القاري عن الجزري أنه قال: مراد ابن عباس أنه احتجم في حال اجتماع الصوم مع الإحرام، لما رواه أبوداود حديثه أيضا أنه عليه الصلاة والسلام احتجم صائما محرما. ورواه الترمذي بلفظ: وهو محرم صائم - انتهى. وقال الأمير اليماني: قيل ظاهره أي ظاهر حديث الباب أنه وقع منه الأمران المذكوران مفترقين، وأنه احتجم وهو صائم واحتجم وهو محرم، ولكنه لم يقع ذلك في وقت واحد؛ لأنه لم يكن صائما في إحرامه إذا أريد إحرامه وهو في حجة الوداع، إذ ليس في رمضان، ولا كان محرما في سفره في رمضان عام الفتح، ولا في شيء من عمره التي اعتمرها، وإن احتمل أنه صام نفلا إلا أنه لم يعرف ذلك. قال والحديث إخبار عن كل جملة عليحدة، وإن المراد احتجم وهو محرم في وقت واحتجم وهو صائم في وقت آخر والقرينة على هذا معرفة أنه لم يتفق له اجتماع الإحرام والصيام - انتهى. قلت: حديث ابن عباس روى على أربعة أوجه كما حكاه الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص278) عن صاحب التنقيح الأول احتجم وهو محرم، الثاني احتجم وهو صائم،
..........................

(12/414)


الثالث احتجم وهو صائم واحتجم وهو محرم، الرابع احتجم وهو صائم محرم، فالأول، روى من طرق شتى عن ابن عباس عند أحمد والشيخين وغيرهم، واتفقا عليه من حديث عبدالله بن بحينة، وفي النسائي وغيره من حديث أنس وجابر. والثاني: رواه البخاري وأصحاب السنن. والثالث رواه البخاري. قال الحافظ: والظاهر إن الراوي جمع بين الحديثين. والرابع رواه أحمد وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم وصححه الترمذي، وأعله أحمد وعلي بن المديني وغيرهما. فقال أحمد: إن أصحاب ابن عباس لا يذكرون صياما يعني ليس عندهم صائم، وإنما هو محرم. وقال أبوحاتم: هذا خطأ أخطأ فيه شريك، إنما هو احتجم وأعطى الحجمام أجرته، كذلك رواه جماعة عن عاصم. وشريك حدث من حفظه وقد ساء حفظه فغلط فيه. وقال الحميدي: هذا ريح لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن صائما محرما لأنه خرج في رمضان في غزوة الفتح ولم يكن محرما. وقال الحافظ: استشكل النسائي كونه - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الصيام والإحرام لأنه لم يكن من شأنه التطوع بالصيام في السفر ولم يكن محرما إلا وهو مسافر، ولم يسافر في رمضان إلى جهة الإحرام إلا في غزاة الفتح، ولم يكن حينئذ محرما قلت (فقائله الحافظ) وفي الجملة الأولى نظر، فما المانع من ذلك فلعله فعل مرة لبيان الجواز، وبمثل هذا لا ترد الإخبار الصحيصة، ثم ظهر لي إن بعض الرواة جمع بين الأمرين في الذكر، فأولهم أنهما وقعا معا والأصوب رواية البخاري احتجم وهو صائم، واحتجم وهو محرما، فيحمل على أن كل واحد منهما وقع في حالة مستقله، وهذا لا مانع منه، فقد صح أنه - صلى الله عليه وسلم - صام في رمضان وهو مسافر، وهو في الصحيحين بلفظ: وما فينا صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبدالله بن رواحة، ويقوى ذلك إن غالب الأحاديث ورد مفصلا كما تقدم. وقد اختلف في الحجامة للصائم: فذهب الجمهور منهم مالك والشافعي وأبوحنيفة إلى أنه لا بأس بها عند

(12/415)


الأمن وإنها لا تفطر الصوم مطلقا، وحجتهم حديث ابن عباس وما وافقه. وقال: عطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبوثور وابن خزيمة وابن المنذر وأبولبيد النيسابوري وابن حبان: أنه يفطر الحاجم والمحجوم ويجب عليهما القضاء وشذ عطاء فأوجب الكفارة أيضا، واحتج هؤلاء بحديث أفطر الحاجم والمحجوم وقال قوم: منهم مسروق والحسن وابن سيرين يكره الحجامة للصائم مطلقا، ولا يفسد الصوم بها، نعم ينقص أجر صيامهما بإرتكاب هذا المكروه وأجاب القائلون بعدم الفطر عن حديث أفطر الحاجم والمحجوم بوجهين أحدهما ادعاء النسخ قال ابن عبدالبر: أنه منسوخ لحديث ابن عباس، لأن في حديث شداد وغيره أنه - صلى الله عليه وسلم - مر عام الفتح على من يحتجم لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان، فقال أفطر الحاجم والمحجوم. وابن عباس شهد معه حجة الوداع سنة عشر، وشهد حجامته حينئذ وهو محرم صائم. وحديث ابن عباس لا مدفع فيه عند أهل الحديث فهو ناسخ لا محالة
.........................

(12/416)


لأنه لم يدرك بعد ذلك رمضان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - - انتهى. وسبق إلى ذلك الشافعي كما حكاه البيهقي عنه في المعرفة وفي السنن الكبرى (ج4 ص268) واعترض بأنه قد اختلف التوقيت في حديث شداد ففي رواية عند البيهقي أنه كان عام الفتح والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان حينئذ بمكة، وفي حديثه عند أبي داود والبيهقي أيضا إن ذلك كان بالبقيع وهو بالمدينة، وكذا وقع في حديث ثوبان عند البيهقي (ج4 ص266) ففي دعوى النسخ على هذا نظر. وأيضا في حديث ابن عباس إنه احتجم صائما محرما ولم يكن محرما وهو مقيم، وإنما كان محرما وهو ومسافر وللمسافر أن يفطر على ما شاء من طعام وجماع وحجامة، وكذا للمتطوع بالصوم أن يفطر متى شاء بالحجامة وغيرها. قال ابن حبان: لا يعارض حديث ابن عباس حديث أفطر الحاجم والمحجوم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن قط محرما إلا وهو مسافر والمسافر يباح له الإفطار. وقال ابن خزيمة في هذا الحديث: أنه كان صائما محرما، قال: ولم يكن قط محرما. وهو مقيم ببلده، إنما كان محرما وهو مسافر، والمسافر إن كان ناويا للصوم فمضى عليه بعض النهار وهو صائم أبيح له الأكل والشرب على الصحيح، فإذا جاز له ذلك جاز له أن يحتجم وهو مسافر في بعض نهار الصوم. وإن كانت الحجامة تفطره - انتهى. قال الزيلعي (ج2 ص478) لفظ البخاري ربما يدفع هذا التأويل؛ لأنه فرق بين الخبرين فقال احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم فلينظر في ذلك. وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر تأويل ابن خزيمة. وتعقب بأن الحديث ما ورد هكذا لا لفائدة، فالظاهر أنه وجدت من الحجامة وهو صائم لم يتحلل من صومه واستمر. وقال الخطابي في المعالم (ج2 ص111) متعقبا على ابن خزيمة هذا التأويل غير صحيح، لأنه قد أثبته حين احتجم صائما، ولو كان يفسد صومه بالحجامة لكان يقال أنه أفطر بالحجامة، كما يقال أفطر الصائم بشرب الماء وبأكل التمر وما أشبههما، ولا يقال شرب ماء

(12/417)


صائما ولا أكل تمرا وهو صائم - انتهى وحاصله إن قوله "وهو صائم" دال على بقاء الصوم. قال الحافظ في التلخيص (ص190) بعد ذكره قلت: ولا مانع من إطلاق ذلك باعتبار ما كان حالة الاحتجام لأنه على هذا التأويل إنما أفطر بالاحتجام والله أعلم- انتهى. وقال ابن حزم في المحلى (ج6 ص204) صح حديث أفطر الحاجم والمحجوم، فوجب الأخذ به إلا أن يصح نسخة ثم رد على من ادعى نسخة بحديث ابن عباس. ثم قال لكن وجدنا من حديث أبي سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرخص في الحجامة للصائم، وإسنادة صحيح. فوجب الأخذ به لأن الرخصة لا تكون إلا بعد العزيمة، فدل على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجما أو محجوما - انتهى مختصرا. والحديث المذكور أخرجه النسائي وابن خزيمة والدارقطني والبزار والطبراني في الأوسط والبيهقي. قال الحافظ في الفتح: رجاله ثقات. ولكن اختلف في رفعه ووقفه وله شاهد من حديث أنس أخرجه الدارقطني، ولفظه أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به
.......................

(12/418)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أفطر هذان. ثم رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك في الحجامة للصائم. وكان أنس يحتجم وهو صائم، ورواته كلهم من رجال البخاري إلا أن في المتن ما ينكر، لأن فيه إن ذلك في الفتح وجعفر كان قتل قبل ذلك، ومن أحسن ما ورد في ذلك ما رواه عبد الرزاق وأبوداود عن عبدالرحمن ابن أبي ليلى عن رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحجامة للصائم، وعن المواصلة ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه إسناده صحيح. والجهالة بالصحابي لا تضر، وقوله "إبقاء على أصحابه" يتعلق بقوله نهي، وقد رواه ابن أبي شيبة بلفظ: عن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - قالوا: إنما نهى النبي عن الحجامة للصائم وكرهها للضعيف أي لئلا يضعف- انتهى كلام الحافظ. الوجه الثاني الجمع والتأويل. قال الخطابي (ج2 ص110) وتأول بعضهم حديث أفطر الحاجم والمحجوم. فقال: معناه تعرضا للإفطار. أما المحجوم فللضعف الذي يلحقه من ذلك فيؤديه إلى أن يعجز من الصوم. وأما الحاجم فلأنه لا يؤمن أن يصل إلى جوفه من طعم الدم أو من بعض إجراحه إذا ضم شفتيه على قصب الملازم، وهذا كما يقال للرجل يتعرض للمهالك قد هلك فلان وإن كان باقيا سالما. وإنما يراد أنه قد أشرف على الهلاك، وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين، يريد أنه قد تعرض للذبح - انتهى. وبنحوه قال البغوي كما سيأتي في الفصل الثاني. ورده ابن تيمية بأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: أفطر الحاجم والمحجوم له نص في حصول الفطر لهما فلا يجوز أن يعتقد بقاء صومهما، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مخبر عنهما بالفطر لاسيما، وقد أطلق هذا القول إطلاقا من غير أن يقرنه بقرينة تدل على أن ظاهره غير مراد، فلو جاز أن يريد مقاربة الفطر دون حقيقته، لكان ذلك تلبيسا لا تبيينا للحكم - انتهى. قال الأمير اليماني: بعد ذكر هذا

(12/419)


قلت: ولا ريب في أن هذا هو الذي دل له قوله في حديث أنس في قصة احتجام جعفر أفطر هذان ثم رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد في الحجامة، وتقدم أنه من أدلة نسخ حديث أفطر الحاجم والمحجوم. وقيل في تأويله بأن المراد بذلك رجلان بعينهما كان مشتغيلين بالغيبة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفطر الحاجم والمحجوم أي للغيبة لا للحجامة، أخرجه الطحاوي وعثمان الدارمي والبزار والبيهقي في المعرفة، وفي السنن وغيرهم. وفيه يزيد بن أبي ربيعة وهو متروك. وحكم علي بن المديني بأنه حديث باطل. وقال ابن خزيمة: في هذا التأويل إنه أعجوبة لأن القائل به لا يقول إن الغيبة تفطر الصائم. وقال أحمد: ومن سلم من الغيبة ولو كانت الغيبة تفطر ما كان لنا صوم، وقد وجه الشافعي هذا القول وحمل الإفطار بالغيبة على سقوط أجر الصوم مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - للمتكلم، والخطيب يخطب لا جمعة له ولم يأمره بالإعادة، فدل على أنه أراد سقوط الأجر، وحينئذ فلا وجه لجعله أحجوبة كما قال ابن خزيمة. وقيل في تأويله أيضا إن الحجامة كانت مع الغروب أي مر بهما - صلى الله عليه وسلم - مساء، فقال: أفطر الحاجم والمحجوم كأنه عذرهما
متفق عليه.
2023-(5) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نسي وهو صائم فأكل أو شرب

(12/420)


بهذا القول إذ كانا قد أمسيا ودخلا في وقت الإفطار، كما يقال أصبح الرجل وأظهر وأمسى إذا دخل في هذه الأوقات. ويدل عليه ما روى ابن حبان والطبراني في الأوسط عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أباطيبة فوضع المحاجم مع غيبوبة الشمس، ثم أمره مع إفطار الصائم فحجم- الحديث. قال الهيثمي بعد عزوه إلى الطبراني: رجاله رجال الصحيح. وقيل معنى أفطرا فعلا مكروها، وهو الحجامة فصار كأنهما غير متلبسين بالعبادة. قال الخطابي: قال بعضهم: هذا على التغليظ لهما والدعاء عليهما كقوله فيمن صام الدهر، لا صام ولا أفطر فمعنى قوله أفطر الحاجم والمحجوم على هذا التأويل أي بطل أجر صيامهما فكأنهما صارا مفطرين غير صائمين. وقيل معناه حان لهما أن يفطرا كقوله أحصد الزرع إذا حان له أن يحصد وأركب المهر إذا حان له أن يركب ذكره الخطابي أيضا. وقال الشوكاني: حديث ابن عباس لا يصلح لنسخ أحاديث الإفطار؛ لأنه لم يعلم تأخره نعم حديث ابن أبي ليلى وأنس وأبي سعيد يدل على أن الحجامة غير محرمة ولا موجبة لإفطار الحاجم ولا المحجوم، فيجمع بين الأحاديث بأن الحجامة مكروهة (بكراهة التنزيه) في حق من كان يضعف بها وتزداد الكراهة إذا كان الضعف يبلغ إلى حد يكون سببا للإفطار، ولا تكره في حق من كان لا يضعف بها وعلى كل تجنب الحجامة للصائم أولى فيتعين حمل قوله أفطر الحاجم والمحجوم على المجاز لهذه الأدلة الصارفة له عن معناه الحقيقي - انتهى. (متفق عليه) فيه نظر، فإن الحديث من أفراد البخاري وليس عند مسلم ذكر الاحتجام في حالة الصوم أصلا، ولذلك نسبة المجد في المنتقى والحافظ في بلوغ المرام والتلخيص والنابلسي في الذخائر إلى البخاري فقط. والظاهر إن المنصف قلد في ذلك ابن الأثير الجزري إذ عزاه في جامع الأصول (ج7 ص191) إلى البخاري ومسلم وكليهما ولا شك في أن هذا وهم منه. وقد تقدم ذكر من أخرجه غير البخاري. وفي جواز الحجامة للصائم أحاديث عن جماعة

(12/421)


من الصحابة ذكرها العيني في شرح البخاري (ج11 ص40) والهيثمي في مجمع الزوائد (ج3 ص170).
2023- قوله: (من نسي) أي أنه في الصوم (وهو صائم فأكل أو شرب) سواء كان قليلا أو كثيرا كما رجحه النووي لظاهر إطلاق الحديث. قال العيني: لا فرق عندنا وعند الشافعي بين القليل والكثير. وقال الرافعي فيه وجهان، كالوجهين. في بطلان الصلاة بالكلام الكثير - انتهى. وقد روى أحمد من حديث أم إسحاق إنها كانت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتى بقصعة من ثريد فأكلت معه ثم تذكرت إنما كانت صائمة. فقال: لها ذو اليدين الآن بعد ما
فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)).

(12/422)


شبعت؟ فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتمي صومك فإنما هو رزق ساقه الله إليك: قال الحافظ: بعد ذكره وفي هذا رد على من فرق بين قليل الأكل وكثيرة- انتهى. ويروي وشرب واقتصر عليهما دون باقي المفطرات؛ لأنهما الغالب في النسيان (فليتم صومه) وفي رواية الترمذي فلا يفطر، قال العراقي يجوز أن يكون "لا" في جواب الشرط للنهي ويفطر مجزوما، ويجوز أن تكون "لا" نافية ويفطر مرفوعا، وهو أولى فإنه لم يرد به النهي عن الأفطار، وإنما المراد أنه لم يحصل إفطار الناسي بالأكل ويكون تقديره من أكل أو شرب ناسيا لم يفطر - انتهى. ثم لما لم يكن أكله وشربه باختياره المقتضي لفساد صومه بل لأجل إنساءه تعالى له لطفا به وتيسيرا عليه بدفع الحرج عن نفسه علله - صلى الله عليه وسلم - بقوله (فإنما أطعمه الله وسقاه) أي ليس له فيه مدخل قال السندي: كأن المراد قطع نسبة ذلك الفعل إلى العبد بواسطة النسيان، فلا يعد فعله جناية منه على صومه مفسدا له وإلا فهذا القدر موجود في كل طعام وشراب يأكله الإنسان أكله عمدا أو سهوا وقال الخطابي: النسيان من باب الضرورة، والأفعال الضرورية غير مضافة في الحكم إلى فاعلها، ولا يؤاخذ بها. وفي رواية الترمذي فإنما هو رزق رزقه الله. قال العيني: قوله فإنما تعليل لكون الناسي لا يفطر، ووجه ذلك إلى الرزق لما كان من الله ليس فيه للعبد تحيل فلا ينسب إليه شبه الأكل ناسيا به، لأنه لا صنع للعبد فيه وإلا فالأكل متعمدا حيث جاز له الفطر رزق من الله تعالى بإجماع العلماء وكذلك هو رزق وإن لم يجز له الفطر على مذهب أهل السنة - انتهى. والحديث دليل على أن من أكل أو شرب ناسيا لصومه فإنه لا يفطره ولا يوجب القضاء، وإليه ذهب الجمهور الشافعي وأحمد وأبوحنيفة وإسحاق والأوزاعي والثوري وعطاء وطاووس. وقال مالك: يبطل صومه ويجب عليه القضاء وهو قوله شيخه ربيعة وجميع أصحاب مالك لكن فرقوا بين الفرض والنفل واحتج

(12/423)


الجمهور لقولهم بحديث الباب؛ لأنه أمر بالإتمام وسمي الذي يتمه صوما، وظاهره حمله على الحقيقة الشرعية فيتمسك به حتى يدل دليل على أن المراد بالصوم هنا حقيقته اللغوية، وإذا كان صوما وقع مجزئا ويلزم من ذلك عدم وجوب القضاء كذا قرره ابن دقيق العيد (ج2 ص212) قال وقوله "إنما أطعمه الله وسقاه" يستدل به على صحة الصوم، فإن فيه إشعارا بأن الفعل الصادر منه مسلوب الإضافة إليه، والحكم بالفطر يلزمه الإضافة إليه - انتهى. واستدل لمن ذهب إلى الفطر وإيجاب القضاء بأن ركن الصوم هو الإمساك عن المفطرات فإذا فات ركنه يفسد الصوم كيف ما كان. قال ابن دقيق العيد (ج2ص 211) ذهب مالك إلى إيجاب القضاء وهو القياس، فإن الصوم قد فات ركنه وهو من باب المأمورات. والقاعدة تقتضي أن النسيان لا يؤثر في باب المأمورات. وقال ابن العربي: تمسك جميع الفقهاء بظاهر هذا الحديث وتطلع مالك
.............................

(12/424)


إلى مسألة من طريقها فأشرف عليه، لأن الفطر ضد الصوم والإمساك ركن الصوم، فأشبه ما لو نسي ركعة من الصلاة وسيأتي الجواب عن هذا الاستدلال. واعتذر المالكية عن حديث الباب بوجوه. منها إن المراد فليتم إمساكه عن المفطرات يعني إن الصوم محمول على معناه اللغوي فيكون أمرا بالإمساك بقية يومه كالحائض إذا طهرت في أثناء اليوم وهو مدفوع أولا، بأن الاتفاق على أن الحمل على المفهوم الشرعي حيث أمكن في لفظ الشارع واجب، فإن قيل يجب ذلك الدليل على البطلان وهو القياس الذي تقدم ذكره، قلنا حقيقة النص مقدم على القياس لو تم فكيف وهو لا يتم، فإنه لا يلزم من البطلان مع النسيان فيما له هيئة مذكرة البطلان معه فيما لا مذكر له وهيئة الإحرام والاعتكاف والصلاة مذكرة فإنها تخالف الهيئة العادية ولا كذلك الصوم والنسيان غالب للإنسان، فلا يلزم من عدم عذره بالنسيان مع تلك عدم عذره به مع الصوم. وثانيا، بأن نفس اللفظ يدفعه وهو قوله "فليتم صومه" وصومه إنما كان الشرعي فإتمام ذلك إنما يكون بالشرعي. وثالثا: بما ورد من نفي القضاء صريحا كما سيأتي. ومنها إنه محمول على التطوع حكاه ابن التين عن ابن شعبان، وكذا قال ابن القصار: واعتل بأنه لم يقع في الحديث تعيين رمضان فيحمل على التطوع. ومنها أنه محمول على رفع الإثم وسقوط المؤاخذة. قال القرطبي: احتج بالحديث من أسقط القضاء، وأجيب بأنه لم يتعرض فيه للقضاء فيحمل على سقوط المؤاخذة لأن المطلوب صيام يوم لا خرم فيه. ومنها إن المراد منه سقوط الكفارة عنه. قال المهلب وغيره: لم يذكر في الحديث إسقاط القضاء فيحمل على سقوط الكفارة عنه وإثبات عذره ورفع الإثم عنه وبقاء نيته التي بيتها - انتهى. والجواب عن ذلك كله بما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم (ج1 ص430) وصححه والدارقطني (ص237) والطبراني في الأوسط والبيهقي (ج4 ص229) من طريق محمد بن عبدالله الأنصاري عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عن أبي

(12/425)


هريرة بلفظ: من أفطر في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة فعين رمضان وصرح بإسقاط القضاء، وقد انفرد بذكر إسقاط القضاء الأنصاري وهو ثقة. وأخرجه النسائي من طريق علي بن بكار عن محمد بن عمرو، ولفظه في الرجل يأكل في شهر رمضان ناسيا فقال الله أطعمه وسقاه. وقد ورد إسقاط القضاء من وجه آخر عن أبي هريرة، أخرجه الدارقطني من رواية محمد بن عيسى بن الطباع عن ابن علية عن هشام عن ابن سيرين ولفظه فإنما هو رزق ساقه الله إليه ولا قضاء عليه. وقال: بعد تخريجه هذا إسناد صحيح وكلهم ثقات. قال الحافظ: ولكن الحديث عند مسلم وغيره من طريق ابن علية وليس فيه هذه الزيادة، وروى الدارقطني أيضا إسقاط القضاء من رواية أبي رافع وأبي سعيد المقبري والوليد بن عبدالرحمن وعطاء بن يسار كلهم عن أبي هريرة وأخرج (ص237) أيضا (وكذا الطبراني في الأوسط) من حديث أبي سعيد رفعه من أكل
.............................

(12/426)


في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه، وإسناده، وإن كلن ضعيفا (لأن فيه محمد بن عبيدالله العزرمي الفزاري وهو ضعيف) لكنه صالح للمتابعة فأقل درجات الحديث بهذه الزيادة أن يكون حسنا فيصلح للاحتجاج به. وقد وقع الاحتجاج في كثير من المسائل بما دونه في القوة ويعتضد أيضا بأنه قد أفتى به جماعة من الصحابة من غير مخالفة لهم منهم، كما قاله ابن المنذر وابن حزم وغيرهما علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبوهريرة وابن عمر. ثم هو موافق لقوله تعالى: ?ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم?[البقرة:225] فالنسيان ليس من كسب القلب وموافق للقياس في إبطال الصلاة بعمد الأكل لا بنسيانه فكذلك الصيام. وأما القياس الذي ذكره ابن العربي فهو في مقابلة النص فلا يقبل – انتهى كلام الحافظ. وتأول المالكية حديث سقوط القضاء على أن معناه لا قضاء عليه الآن وهذا تعسف ظاهر وأجاب عنه ابن العربي بأن خبر الواحد إذا جاء بخلاف القواعد لم يعمل به، فلما جاء الحديث الأول الموافق للقاعدة في رفع الإثم عملنا به، وأما الثاني فلا يوافقها فلم نعمل به. وتعقبه الحافظ بأن رد الحديث مع صحته بكونه خبر واحد. خالف القاعدة ليس بمسلم. لأنه قاعدة مستقلة بالصيام، فمن عارضه بالقياس على الصلاة أدخل قاعدة في قاعدة، ولو فتح باب رد الأحاديث الصحيحة بمثل هذا لما بقي من الحديث إلا القليل ولرد من شاء ما شاء. قال الشوكاني: وأما اعتذار ابن دقيق العيد فيجاب عنه بأن غاية هذه القاعدة المدعاة أن تكون بمنزلة الدليل، فيكون حديث الباب مخصصا لها - انتهى. وفي الحديث لطف الله بعباده والتيسير عليهم ورفع المشقة والحرج عنهم واختلفوا فيما إذا جامع ناسيا في نهار رمضان فقال الثوري وأصحاب الرأي والشافعي وإسحاق: مثل قولهم فيمن أكل أو شرب ناسيا، وإليه ذهب الحسن ومجاهد، واستدل لهم بأن الحديث وإن ورد في الأكل والشرب لكنه معلول بمعنى يوجد في الكل أي الأكل والشرب والجماع، وهو أنه فعل

(12/427)


مضاف إلى الله تعالى على طريق التمحيض بقوله: فإنما أطعمه الله وسقاه قطع إضافته عن العبد بوقوعه فيه من غير قصده واختياره. وهذا المعنى يوجد في الكل والعلة إذا كانت منصوصا عليها كان الحكم منصوصا عليه، ويتعمم الحكم بعموم العلة، وكذا معنى الحرج يوجد في الكل. واستدل لهم أيضا بما تقدم في رواية ابن خزيمة وغيره من قوله "من أفطر في شهر رمضان" لأن الفطر أعم من أن يكون بأكل أو شرب أو جماع. وإنما خص الأكل والشرب بالذكر في الطريق الأخرى لكونهما أغلب وقوعا ولعدم الاستغناء عنهما غالبا. قال ابن دقيق العيد: تعليق الحكم بالأكل والشرب للغالب لأن نسيان الجماع نادر بالنسبة إليهما وذكر الغالب لا يقتضي مفهوما - انتهى. وقال عطاء والأوزاعي ومالك والليث بن سعد: عليه القضاء أي بدون الكفارة وقال أحمد عليه القضاء والكفارة، واحتج له بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسأل الذي وقع على أهله أنسيت أم
متفق عليه.
2024-(6) وعنه، قال بينما نحن جلوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله! هلكت.
عمدت، ولو افترق الحال لسأل واستفصل. وتعقبه الخطابي (ج2 ص121) بأن معناه في هذا اقتضاء العموم من الفعل، والعموم إنما يقتضي من القول دون الفعل. وإنما جاء الحديث بذكر حال وحكاية فعل فلا يجوز وقوعه على العمد والنسيان معا فبطل أن يكون له عموم. ومن مذهب أبي عبدالله يعني الإمام أحمد أنه إذا أكل ناسيا لم يفسد صومه لأن الأكل لم يحصل منه على وجه المعصية، فكذلك إذا جامع ناسيا. فإما المتعمد لذلك فقد حصل منه الفعل على وجه المعصية فلذلك وجبت عليه الكفارة - انتهى. وأجيب أيضا بأن الأصل في الأفعال أن تكون عن عمد، وإن الناسي لابد أن يذكر النسيان إذا استفتى؛ لأنه عذر ولا يحتاج إلى السؤال عنه (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي في الكبرى وابن ماجه والدارمي وغيرهم.

(12/428)


2024- قوله: (بينما) أصله بين فأشبعت فتحة النون وصار بينا ثم زيد فيه الميم فصار بي بينما ويضاف إلى جملة اسمية وفعلية، ويحتاج إلى جواب يتم به المعنى والأفصح في جوابها أن لا يكون فيه "إذ وإذا" ولكن كثير مجيئها كذلك ومنه قوله هنا (إذ جاءه رجل) قيل الرجل هو سلمة بن صخر البياضي جزم به عبدالغني في المبهمات، وتبعه ابن بشكوال واستند إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة وغيره من طريق سيلمان بن يسار عن سلمة ابن صخر أنه ظاهر من امرأته في رمضان وإنه وطئها. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: حرر رقبة - الحديث. وانتقد بأن ذلك هو المظاهر في رمضان أتى أهله في الليل رأى خلخالها في القمر، وفي تمهيد ابن عبدالبر عن سعيد بن المسيب إن الرجل الذي وقع على امرأته في رمضان سلمان بن صخر أحد بني بياضة. قال وأظن هذا وهما أتى من الراوي أي؛ لأن ذلك إنما هو في المظاهر وقع على امرأته في الليل. وأما المجامع فإعرابي فهما واقعتان فإن في قصة المجامع في حديث الباب إنه كان صائما كما سيأتي وفي قصة سلمة بن صخر أنه كان ذلك ليلا كما عند الترمذي فافترقا، ولا يلزم من اجتماعهما في كونهما من بني بياضة وفي صفة الكفارة، وكونها مرتبة، وفي كون كل منهما كان لا يقدر على شيء من خصالها إتحاد القصتين. (فقال يا رسول الله هلكت) وقع في رواية البيهقي (ج4 ص226) وأبي عوانة والجوزقي جاء رجل وهو ينتف شهره ويدق صدره ويقول هلك الأبعد. ولأحمد (ج2 ص516) والدارقطني في العلل يلطم وجه وللبيهقي (ج4 ص226) وأحمد (ج2 ص208) يدعو ويله وفي مرسل ابن المسيب عند مالك في الموطأ يضرب نحره وعند الدارقطني ويحثى على رأسه التراب. واستدل
قال: مالك؟ قال: وقعت علي امرأتي

(12/429)


بهذا على جواز هذا الفعل، والقول ممن وقعت له معصية، ويفرق بذلك بين مصيبة الدين والدنيا، فيجوز في مصيبة الدين لما يشعر به الحال من شدة الندم. وصحة الإقلاع، ويحتمل أن تكون هذه الواقعة قبل النهي عن لطم الخدود وحلق الشعر عند المصيبة قاله الحافظ. ووقع في حديث عائشة عند البخاري وغيره احترقت واستدل به على أنه كان عامدا؛ لأن الهلاك والاحتراق مجاز عن العصيان المؤدى إلى ذلك فكأنه جعل المتوقع كالواقع وبالغ فعبر عنه بلفظ الماضي، وإذا تقرر ذلك فليس فيه حجة على وجوب الكفارة على الناسي وهو مشهور قول مالك والجمهور، وعن أحمد وبعض المالكية يجب على الناسي وتمسكوا بترك استفساره عن جماعة هل كان عن عمد أو نسيان وترك الاستفصال في الفعل ينزل منزلة العموم في القول كما اشتهر. وقد تقدم جوابه عن الخطابي في شرح الحديث السابق، وأجاب الحافظ عنه بأنه قد تبين حاله بقوله هلكت واحترقت فدل على أنه كان عامدا عارفا بالتحريم، وأيضا فدخول النسيان في الجماع في نهار رمضان في غاية البعد - انتهى. قال ابن دقيق العيد (ج2 ص214) إن حالة النسيان بالنسبة إلى الجماع ومحاولة مقدماته وطول زمانه وعدم إعتياده في كل وقت مما يبعد في حالة النسيان، فلا يحتاج إلى الاستفصال على الظاهر. لاسيما وقد قال الأعرابي هلكت فإنه يشعر بتعمده ظاهرا ومعرفته بالتحريم - انتهى قال الحافظ. واستدل بهذا على أن من ارتكب معصية، لا حد فيها وجاء مستفتيا إنه لا يعزر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعاقبه مع اعترافه بالمعصية. وقد ترجم لذلك البخاري في الحدود. وأشار إلى هذه القصة وتوجيهه إن مجيئة مستفتيا يقتضي الندم والتوبة والتعزير إنما جعل الاستصلاح ولا استصلاح مع الصلاح، وأيضا فلو عوقب المستفتي لكان سببا لترك الاستفتاء وهي مفسدة عظيمة، فاقتضى ذلك أن لا يعاقب هكذا قرره ابن دقيق العيد. لكن وقع في شرح السنة للبغوي إن من جامع متعمدا في رمضان فسد

(12/430)


صومه وعليه القضاء والكفارة، ويعزر على سوء صنيعه وهو محمول على من لم يقع منه ما وقع من صاحب هذه القصة من الندم والتوبة - انتهى (قال مالك) بفتح اللام "وما" استفهامية محلها بالابتداء أي أي شيء حصل أو وقع لك ولابن خزيمة ويحك ما شأنك ولأحمد (ج2 ص516) وما الذي أهلكك وفي الأدب عند البخاري ويحك ما صنعت (وقعت على امرأتي) وعند البزار أصبت أهلي، وفي حديث عائشة وطئت امرأتي، ووقع في رواية مالك وابن جريج وغيرهما عند مسلم وغيره إن رجلا أفطر في رمضان فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - - الحديث. واستدل به على إيجاب الكفارة على من أفسد صيامه مطلقا بأي شيء كان، وهو قول المالكية والحنيفة. واختلف الأئمة فيه، فحكى عن عطاء والحسن والثوري والزهري والأوزاعي وإسحاق، إن الفطر بالأكل والشرب عمدا، يوجب ما يوجبه الجماع من القضاء والكفارة، وبه قال مالك وأبوحنيفة وأصحابهما. وذهب سعيد بن
وأنا صائم

(12/431)


جبير والنخعي وابن سيرين وحماد والشافعي وأحمد وأهل الظاهر، إلى أن الكفارة إنما تلزم في الإفطار بالجماع فقط. فحملوا قوله "أفطر" ههنا على المقيد في الرواية الأخرى، وهو قوله وقعت علي امرأتي وكأنه قال أفطر بجماع واحتج من أوجب الكفارة مطلقا بقياس الآكل على المجامع بجامع ما بينهما من انتهاك حرمة الصوم، وبأن من أكره على الأكل فسد صومه كما يفسد صوم من أكره على الجماع بجامع ما بينهما. وتعقب بأن الفرق بين الانتهاك بالجماع والأكل ظاهر فلا يصح هذا القياس. قال ابن قدامة: لا يصح قياسه على الجماع؛ لأن الحاجة إلى الزجر عنه أمس والحكم في التعدي به آكد، ولهذا يجب به الحد إذا كان محرما. ويختص بإفساد الحج دون سائر محظوراته، ووجوب البدنة. ولأنه في الغالب يفسد صوم اثنين بخلاف غيره - انتهى. وقد وقع في حديث عائشة نظير ما وقع في حديث أبي هريرة، فمعظم الروايات فيها وطئت امرأتي ونحو ذلك، وفي رواية ساق مسلم إسنادها وساق أبوعوانة في مستخرجة متنها أنه قال أفطرت في رمضان، والقصة واحدة ومخرجها متحد، فيحمل على أنه أراد أفطرت في رمضان بجماع. وقد وقع في مرسل سعيد بن المسيب عند سعيد بن منصور أصبت امرأتي ظهرا في رمضان وبتعين رمضان، يفهم الفرق في وجوب كفارة الجماع في الصوم بين رمضان وغيره من الواجبات كالنذر هذا. وقد استدل لمذهب الحنفية ابن الهمام بقوله أفطر في بعض الروايات والكاساني بالمواقعة المذكورة في أكثر الروايات وبالقياس عليها، وأطالا الكلام في تقرير ذلك من شاء الوقوف عليه رجع إلى فتح القدير والبدائع. وقال صاحب فتح الملهم: بعد ذكر تقرير ابن الهمام. والحق إن هذه الأدلة لا تخلو عن ضعف إسناد وضعف دلالة على المطلوب فلا تصلح أن تكون دعامة لإثبات المسألة وأساسا له نعم، تعتبر في معرض الاستشهاد والتأئيد بعد ثبوت أصل المسألة ثم ذكر تقرير صاحب البدائع وابن الهمام لإثبات أصل المسألة بالجماع المذكور في الروايات

(12/432)


وبالقياس عليه ثم قال: ولكن يختلج في قلب العبد الضعيف إن الوصف المؤثر الذي هو مناط الحكم في المنصوص هل هو إفساد الصوم بالجماع خاصة أو إفساده بالمفطر الكامل مطلقا والظاهر من إيجاب التكفير بكفارة الظهار هو الأول، فإن المظاهر يحرم إمراته على نفسه تحريما غليظا بإفحاش القول فيه، ثم يعود لما قاله فيجب عليه كفارة الظهار. وهكذا الصائم في رمضان لما حرم على نفسه الجماع تحريما غليظا بنيته ومصادفته ذلك الوقت الشريف المبارك، ثم وقع فيه صار مثل المظاهر وصار حكمهما واحدا، وليس كل من حرم على نفسه أكل شيء أو شربه بأغلظ الأقوال وأفحشها ثم حنث فيه يجب عليه ما يجب على المظاهر، فافترق الجماع، والأكل ضرورة فكيف يكون المفطر بالأكل ملحقا بالمظاهر في وجوب الكفارة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب - انتهى. (وأنا صائم) جملة حالية من قوله: " وقعت" فيؤخذ منه إنه لا يشترط في إطلاق اسم المشتق بقاء المعنى المشتق منه حقيقة لاستحالة كونه صائما مجامعا في حالة واحدة، فعلى هذا قوله وطئت أي شرعت في الوطء
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: هل تجد إطعام ستين مسكينا قال: لا،

(12/433)


أو أراد جامعت بعد إذ أنا صائم قاله الحافظ (هل تجد رقبة تعتقها) أي تقدر فالمراد الوجود الشرعي ليدخل فيه القدرة بالشراء ونحوه، ويخرج عنه مالك الرقبة المحتاج إليها بطريق معتبر شرعا. وفي رواية لأحمد أتستطيع أن تعتق رقبة (قال) الرجل (لا) أجد رقبة، وفي حديث ابن عمر عند أبي يعلى والطبراني. فقال: والذي بعثك بالحق ما ملكت رقبة قط. واستدل به من أجاز إعتاق الرقبة الكافرة في الكفارة لأجل الإطلاق وهم الحنفية وابن حزم، ومن يشترط الإيمان وهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، يقيد الإطلاق ههنا بالتقييد في كفارة القتل، وهو ينبني على أن السبب إذا اختلف واتحد الحكم، هل يقيد المطلق أم لا؟ وإذا قيد فهل هو بالقياس أم لا؟ والمسألة مشهورة في أصول الفقه. والأقرب أنه إن قيد فبالقياس، ويؤيده التقييد في مواضع أخرى (فهل تستطيع) أي تقوى وتقدر (أن تصوم شهرين متتابعين) وفي رواية للبخاري قال: فصم شهرين متتابعين، وفيه اشتراط التتابع، وعلى هذا جمهور الفقهاء. وقال ابن أبي ليلى: ليس التتابع بلازم في ذلك، والحديث حجة عليه (قال لا) وفي رواية لا أقدر عليه، وللبزار وهل لقيت ما لقيت إلا من الصيام. قال ابن دقيق العيد: لا إشكال في الانتقال عن الصوم إلى الإطعام، لكن رواية البزار هذه افتضت إن عدم استطاعته لشدة شبقه وعدم صبره عن الوقاع، فنشأ للشافعية نظر هل يكون ذلك أي شدة الشبق عذرا، حتى يعد صاحبه غير مستطيع للصوم أو لا؟ والصحيح عندهم اعتبار ذلك. ويلتحق به من يجد رقبة لا غنى به عنها فإنه يسوغ له الانتقال إلى الصوم مع وجودها لكونه في حكم غير الواجد كذا في الفتح (قال هل) وفي البخاري قال فهل (تجد إطعام ستين مسكينا قال لا) وفي رواية فهل تستطيع إطعام وفي أخرى فتطعم ستين مسكينا. قال: لا أجد. ولأحمد أفتستطيع أن تطعم ستين مسكينا قال لا، وذكر الحاجة. وفي حديث ابن عمر قال والذي بعثك بالحق ما أشبع أهلي، والمراد بالمسكين

(12/434)


هنا أعم من الفقير، لأن كلا منهما حيث أفرد يشمل الآخر. وإنما يفترقان عند اجتماعهما نحو ?إنما الصدقات للفقراء والمساكين?[التوبة:60] والخلاف في معناهما حينئذ معروف. قال ابن دقيق العيد: قوله: "إطعام ستين مسكينا، يدل على وجوب إطعام هذ العدد؛ لأنه أضاف الإطعام الذي هو مصدر أطعم إلى ستين، فلا يكون ذلك موجودا في حق من أطعم عشرين مسكينا ثلاثة أيام مثلا. ومن أجاز ذلك فكأنه استنبط من النص معنى يعود بالإبطال، والمشهور عن الحنفية الإجزاء حتى لو أطعم الجميع مسكينا واحدا في ستين يوما كفى. قال الحافظ: والمراد بالإطعام الإعطاء لا اشتراط حقيقة
........................

(12/435)


الإطعام من وضع المطعوم في الفم. بل يكفي الوضع بين يديه بلا خلاف، وفي إطلاق الإطعام ما يدل على الاكتفاء بوجود الإطعام من غير اشتراط مناولة بخلاف زكاة الفرض، فإن فيها النص على الإيتاء. وصدقة الفطر فإن فيها النص على الأداء، وفي ذكر الإطعام ما يدل على وجود طاعمين فيخرج الطفل الذي لم يطعم كقول الحنفية، ونظر الشافعي إلى النوع فقال: يسلم لوليه وذكر الستين ليفهم أنه لا يجب ما زاد عليها، ومن لم يقل بالمفهوم تمسك بالإجماع على ذلك. والحكمة في هذه الخصال الثلاث في الكفارة على ما ذكر إن من انتهك حرمة الصوم بالجماع فقد أهلك نفسه بالمعصية، فناسب أن يعتق رقبة فيفدى نفسه. وقد صح أن من اعتق رقبة اعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار. وأما الصيام فمناسبته ظاهرة؛ لأنه كالمقاصة بجنس الجناية. وأما كونه شهرين فلأنه لما أمر بمصابرة النفس في حفظ كل يوم من شهر رمضان على الولاء، فلما أفسد منه يوما كان كمن أفسد الشهر كله من حيث أنه عبادة واحدة بالنوع، فكلف بشهرين مضاعفة على سبيل المقابلة لنقيض قصده. وأما الإطعام فمناسبته ظاهرة؛ لأنه مقابلة كل يوم بإطعام مسكين. وفي الحديث دليل على جريان الخصال الثلاث المذكورة، في الكفارة وإليه ذهب جمهور العلماء، واختلفت الرواية عن مالك في ذلك، فالمشهور عنه الجزم في كفارة الجماع في رمضان بالإطعام دون غيره من الصيام والعتق، وعنه يكفر بالأكل بالتخيير، وفي الجماع بالإطعام فقط. وعنه التخيير مطلقا، وفي المدونة. ولا يعرف مالك غير الإطعام ولا يأخذ بعتق ولا صيام. قال ابن دقيق العيد: وهي معضلة لا يهتدي إلى توجيهها مع مصادمة الحديث الثابت غير أن بعض المحققين من أصحابه حمل هذا اللفظ وتأوله على الاستحباب في تقديم الطعام على غيره من الخصال، ووجهوا ترجيح الطعام على غيره بوجوه فذكرها ثم قال: وكل هذه الوجوه لا تقاوم ما ورد في الحديث من تقديم العتق على الصيام، ثم الإطعام سواء،

(12/436)


قلنا الكفارة على الترتيب أو التخيير فإن هذه البداءة إن لم تقتض وجوب الترتيب فلا أقل من أن تقتضي استحبابه، واحتج لمالك أيضا بأن حديث عائشة لم يقع فيه سوى الإطعام، وجوابه أنه اختصار من بعض الرواة، وقد ورد فيه من وجه آخر ذكر العتيق أيضا، ووقع في حديث أبي هريرة ذكر العتق وصيام شهرين أيضا، والقصة واحدة. ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. ومن المالكية من وافق على هذا الاستحباب، ومنهم من قال إن الكفارة تختلف باختلاف الأوقات، ففي وقت الشدة تكون بالإطعام، وفي غيرها تكون بالعتق والصوم، ونقلوه عن محققي المتأخرين. ومنهم من قال الإفطار بالجماع يكفر بالخصال الثلاث وبغيره لا يكفر إلا بالإطعام وهو قول أبي مصعب. وقال ابن جرير الطبري: هو مخير بين العتيق والصوم، ولا يطعم إلا عند العجز عنهما. وفي الحديث أنه لا مدخل لغير هذه الثلاث في الكفارة وجاء عن بعض المتقدمين إهداء البدنة عند تعذر الرقبة، وربما أيده بعضهم بإلحاق إفساد
قال "أجلس" ومكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن على ذلك، أتى النبي صلى الله عليه وسلم

(12/437)


الصيام بإفساد الحج. وورد ذكر البدنة في مرسل سعيد بن المسيب عند مالك في الموطأ وهو مع إرساله قد رده سعيد بن المسيب، وكذب من نقله عنه كما روى سعيد بن منصور. ورواه ابن عبدالبر من طريق مجاهد عن أبي هريرة موصولا، لكنه من رواية ليث بن أبي سليم عن مجاهد، وليث ضعيف، وقد اضطرب في روايته سندا ومتنا فلا حجة فيه. واختلف في أن الكفارة بالخصال الثلاث على الترتيب أو على التخيير، والمراد بالترتيب أن لا ينتقل المكلف إلى المؤخر في الذكر إلا بعد العجز عن الذي قبله، وبالتخيير أن يفعل منها ما شاء ابتداء من غير عجز، فذهب مالك إلى أنها على التخيير. وقال الشافعي وأحمد وأبوحنيفة: هي مرتبة فالعتق أولا، فإن لم يجد فالصيام، فإن لم يستطع فالإطعام، واحتجوا بحديث الباب. قال ابن العربي: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نقله من أمر بعد عدمه لأمر آخر، وليس هذا شأن التخيير، ونازع عياض في ظهور دلالة الترتيب في السؤال عن ذلك. فقال: إن مثل هذا السؤال قد يستعمل فيما هو على التخيير، وقرره ابن المنير بأن شخصا لو حنث فاستفتى. فقال المفتى: أعتق رقبة فقال: لا أجد فقال: صم ثلاثة أيام إلى آخره، لم يكن مخالفا لحقيقة التخيير بل يحمل على أن إرشاده إلى العتق لكونه أقرب لتنجيز الكفارة. وقال البيضاوي: ترتيب الثاني بالفاء على فقد الأول، ثم الثالث بالفاء على فقد الثاني، يدل على عدم التخيير مع كونها في معرض البيان، وجواب السؤال فينزل منزلة الشرط للحكم. قال الحافظ: وسلك الجمهور في ذلك مسلك الترجيح، بأن الذين رووا الترتيب عن الزهري أكثر ممن روى التخيير فإن الذين رووا الترتيب عنه هم تمام ثلاثين نفسا أو أزيد، ورجح الترتيب أيضا بأن راويه حكى لفظ القصة على وجهها فمعه زيادة علم من صورة الواقعة، وراوي التخيير حكى لفظ راوي الحديث، فدل على أنه من تصرف بعض الرواة، إما لقصد الاختصار أو لغير ذلك، ويترجح الترتيب أيضا بأنه أحوط

(12/438)


لأن الأخذ به مجزيء سواء قلنا بالتخيير أولا بخلاف العكس. وقيل: أو في الرواية الأخرى ليست للتخيير، وإنما هي للتفسير والتقدير أمر رجلا أن يعتق رقبة أو يصوم إن عجز عن العتق أو يطعم إن عجز عنهما (قال: إجلس) قيل: إنما أمره بالجلوس لانتظار الوحي في حقه أو كان عرف أنه سيؤتي بشيء يعينه به (ومكث) بضم الكاف وفتحها (النبي - صلى الله عليه وسلم -) لفظ البخاري في هذه الرواية التي ساقها في الصيام في باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر قال (أي أبوهريرة) فمكث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي بعض النسخ فمكث عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية ابن عيينة عند البخاري في النذور. قال: اجلس فجلس، فجمع المصنف هنا بين الروايتين تقليدا لما في جامع الأصول للجزري (ج7 ص278) (فبينا) بغير ميم (نحن على ذلك) أي ما ذكر من الجلوس والمكث وجواب بينا قوله (أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -) بضم الهمزة مبنيا للمفعول ولم يسم الآتي وعند البخاري في
بعرق فيه تمر- والعرق: المكتل الضخم-

(12/439)


الكفارات فجاء رجل من الأنصار (بعرق) بفتح العين والراء بعدها قاف. قال ابن التين: كذا لأكثر الرواة، وفي رواية أبي الحسن القابسي بإسكان الراء. قال عياض: والصواب الفتح. وقال ابن التين: أنكر بعضهم الإسكان لأن الذي بالإسكان هو العظم الذي عليه اللحم. قال الحافظ: إن كان الإنكار من جهة الاشتراك مع العظم فلينكر الفتح؛ لأنه يشترك مع الماء يتحلب من الجسد، نعم الراجح من حيث الرواية الفتح، ومن حيث اللغة أيضا، إلا أن الإسكان ليس بمنكر، بل أثبته بعض أهل اللغة كالقزاز - انتهى. قال الجزري في جامع الأصول (ج7 ص547) العرق بفتح الراء خوص منسوج مضفور يعمل منه الزنبيل عرقا فسمي الزنبيل؛ لأنه يعمل منه (فيه تمر) أي من تمر الصدقة ويروي فيها بالتأنيث على معنى القفة. قال عياض: المكتل والقفة والزنبيل سواء (والعرق المكتل) بكسر الميم وسكون الكاف وفتح المثناة بعدها لام الزنبيل الكبير (الضخم) بفتح الضاد وسكون الخاء أي العظيم وهذا لفظ البخاري في النذور. ووقع في الصيام في هذه الرواية، والعرق المكتل، أي بحذف لفظ الضخم، وههنا أيضا تقلد المصنف الجزري. قال الحافظ: وهو تفسير من أحد رواته وظاهر هذا الرواية إنه الصحابي لكن في رواية ابن عيينة ما يشعر بأنه الزهري، وفي رواية فأتى بمكتل يدعى العرق، وفي أخرى فأتى بعرق فيه تمر، وهو الزبيل، ولأحمد فأتى بزبيل وهو المكتل. قال الأخفش: سمي المكتل عرقا لأنه يضفر عرقه عرقة، فالعرق جمع عرقة كعلق وعلقه، والعرقة الضفيرة من الخوص، بضم الخاء ورق النخل. والزبيل بوزن رغيف هو المكتل سمي زبيلا لحمل الزبل فيه. وفيه لغة أخرى زنبيل بكسر الزاي أوله وزيادة نون ساكنة. وقد تدغم النون فتشدد الباء مع بقاء وزنه، وجمعه على اللغات الثلاث زنابيل قال الحافظ: ووقع في بعض طرق حديث عائشة عند مسلم فجاءه عرقان، والمشهور في غيرها عرق، ورجحه البيهقي (في السنن ج4 ص225) وجمع غيره بينهما بتعدد الواقعة وهو

(12/440)


جمع لا نرضاه لاتحاد مخرج الحديث، والأصل عدد التعدد. والذي يظهر أن التمر كان قدر عرق، لكنه كان في عرقين في حال التحميل على الدابة ليكون أسهل في الحمل فيتحمل أن الآتي به لما وصل أفرغ أحدهما في الآخر فمن قال عرقان أراد ابتداء الحال: ومن قال عرق أراد ما آل إليه والله أعلم. قال ولم يعين في هذه الرواية مقدار ما في المكتل من التمر بل ولا في شيء من طرق الصحيحين في حديث أبي هريرة، ووقع في رواية ابن أبي حفصة (عند أحمد ج2 ص516) والدارقطني (ص252) والبيهقي (ج4 ص222) فيه خمسة عشر صاعا، وفي رواية مؤمل عن سفيان فيه خمسة عشر أو نحو ذلك، وفي رواية مهران بن أبي عمر عن الثوري عند ابن خزيمة فيه خمسة عشر أو عشرون، وكذا هو عند مالك وعبدالرزاق في مرسل سعيد بن المسيب، وفي مرسله عند
قال: أين السائل؟

(12/441)


الدارقطني الجزم بعشرين صاعا. ووقع في حديث عائشة عند ابن خزيمة (والبيهقي ج4 ص223) فأتى بعرق فيه عشرون صاعا. قال البيهقي: قوله: عشرون صاعا بلاغ بلغ به محمد بن جعفر يعني بعض رواته وقد بين ذلك محمد بن إسحاق عنه فذكر الحديث، وقال في آخره قال محمد بن جعفر: فحدثت بعد أن تلك الصدقة كانت عشرين صاعا من تمر قلت (قائله الحافظ) ووقع في مرسل عطاء بن أبي رباح وغيره عند مسدد فأمر له ببعضه، وهذا يجمع الروايات فمن قال أنه كان عشرين أراد أصل ما كان فيه، ومن قال خمسة عشر أراد ما تقع به الكفارة ويبين ذلك حديث على عند الدارقطني (ص251) تطعم ستين مسكينا لكل مسكين مد. وفيه فأتى بخمسة عشر صاعا فقال أطعمه ستين مسكينا، وكذا في رواية حجاج عن الزهري عند الدارقطني (ص242) والبيهقي (ج4 ص226) في حديث أبي هريرة. وفيه رد على الكوفيين (أي أبوحنيفة وأصحابه) في قولهم إن واجبه من القمح ثلاثون صاعا ومن غيره ستون صاعا، ولقول عطاء إن أفطر بالأكل أطعم عشرين صاعا أو بالجماع أطعم خمسة عشر وعلى أشهب في قوله لو غداهم أو عشاهم كفى لصدق الإطعام ولقول الحسن يطعم أربعين مسكينا عشرين صاعا - انتهى. واحتج الكوفيون بما وقع في بعض طرق حديث عائشة عند مسلم والبيهقي (ج4 ص224) فجاءه عرقان فيهما طعام فأمره أن يتصدق به فإن العرق إذا كان خمسة عشر صاعا، فالعرقان ثلاثون صاعا على ستين مسكينا لكل مسكين نصف صاع، وتعقبه العيني فقال ليت شعري كيف فيه رد على الكوفيين. وهم قد احتجوا بما رواه مسلم فجاءه عرقان فيهما طعام وقد ذكرنا أن العرقيين يكون ثلاثين صاعا فيعطى لكل مسكين نصف صاع بل الرد على أئمتهم حيث احتجوا فيما ذهبوا إليه بالروايات المضطربة وفي بعضها الشك فالعجب أنه يرد على الكوفيين مع علمه إن احتجاجهم قوي صحيح – انتهى. قال صاحب فتح الملهم، بعد ذكره قلت: والإنصاف إن الاحتجاج بحديث العرقيين يتوقف على إثبات إن المراد بلفظ:

(12/442)


الطعام الوارد فيه القمح وهو غير ظاهر بل الظاهر أنه التمر، كما صرح به في حديث أبي هريرة ولا يكفي منه ثلاثون صاعا عند الكوفيين أيضا اللهم إلا أن يقال بتعدد القصة في حديثي أبي هريرة وعائشة، نعم وقع في قصة المظاهر عند أبوداود قوله - صلى الله عليه وسلم -: فأطعم وسقا من تمر بين ستين مسكينا والوسق ستون صاعا وكفارة الظهار هي كفارة الصوم، فبهذا ينتهض الاستدلال للكوفيين والله تعالى أعلم - انتهى. قلت: دعوى التعدد مخدوشة لكونها خلاف الظاهر والأصل. وأما رواية أبي داود في قصة المظاهر ففي إسنادها محمد بن إسحاق وقد عنعن وفيه أيضا سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر. قال البخاري: هو مرسل سليمان بن يسار لم يدرك سلمة بن صخر ودعوى الاضطراب في حديث أبي هريرة مدفوعة كما رأيت في كلام الحافظ (أين السائل) أطلق عليه ذلك لأن كلامه متضمن للسؤال فإن مراده هلكت فما ينجيني وما
قال: أنا، قال: خذ هذا فتصدق به،

(12/443)


يخلصني مثلا وفي حديث عائشة أين المحترق وقد سبق توجيهه (قال أنا) أي أنا هو أو أنا السائل (خذ هذا فتصدق به) أي بالتمر الذي فيه على المساكين. وفيه دليل لما ذهب إليه الجمهور من أن الإعسار لا يسقط الكفارة وسيأتي الكلام في هذه المسألة. قال الحافظ: وزاد ابن إسحاق (عند البزار) فتصدق به عن نفسك ويؤيده رواية منصور في الصيام عند البخاري بلفظ: أطعم هذا عنك ونحوه في مرسل سعيد بن المسيب عند الدارقطني. واستدل بأفراده بذلك على أن الكفارة عليه وحده دون الموطوءة، وكذا قوله في المراجعة هل تستطيع وهل تجد وغير ذلك وهو الأصح من قولي الشافعية وبه قال الأوزاعي. وقال الجمهور: (مالك وأبوحنيفة وأحمد في الروايتين عنه) وأبوثور وابن المنذر تجب الكفارة على المرأة أيضا على الاختلاف وتفاصيل لهم في الحرة والأمة والمطاوعة والمكرهة وهل هي عليها أو على الرجل عنها واستدل الشافعية بسكوته عليه الصلاة والسلام عن إعلام المرأة بوجوب الكفارة مع الحاجة. وأجيب بمنع وجود الحاجة إذ ذاك؛ لأنها لم تعترف ولم تسأل، واعتراف الزوج عليها لا يوجب عليها حكما ما لم تعترف وبأنها قضية حال فالسكوت عنها لا يدل على الحكم لاحتمال أن تكون المرأة لم تكن صائمة لعذر من الأعذار. ثم إن بيان الحكم للرجل بيان في حقها لاشتراكهما في تحريم الفطر وانتهاك حرمة الصوم كما لم يأمره بالغسل والتنصيص على الحكم في حق بعض المكلفين كاف عن ذكره في حق الباقين، ويحتمل أن يكون سبب السكوت عن حكم المرأة ما عرفه من كلام زوجها بأنها لا قدرة لها على شيء - انتهى كلام الحافظ. وبنحو هذا ذكر ابن دقيق العيد (ج2 ص219- 220) وقال الخطابي (ج2 ص117) في أمره الرجل بالكفارة لما كان منه من الجناية دليل على أن على المرأة كفارة مثلها، لأن الشريعة قد سوت بين الناس في الأحكام إلا في مواضع قام عليها دليل التخصيص وإذا لزمها القضاء؛ لأنها أفطرت بجماع متعمد كما وجب على الرجل وجبت

(12/444)


عليها الكفارة لهذه العلة كالرجل سواء وهذا مذهب أكثر العلماء. وقال الشافعي: يجزيهما كفارة واحدة وهي على الرجل دونها وكذلك قال الأوزاعي إلا أنه قال: إن كانت الكفارة بالصيام كان على كل واحد منهما صوم شهرين واحتجوا بأن قول الرجل أصبت أهلي سؤال عن حكمه وحكمها؛ لأن الإصابة معناها إنه واقعها وجامعها وإذا كان هذا الفعل قد حصل منه، ومنه معا. ثم أجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المسألة فأوجب فيها كفارة واحدة على الرجل ولم يعرض لها بذكر دل على أنه لا شيء عليها وإنها مجزئة في الأمرين معا ألا ترى أنه بعث أنيسا إلى المرأة التي رميت بالزنا وقال إن اعترفت فارجمها فلم يهمل حكمها لغيبتها عن حضرته. فدل هذا على أنه لو رأى عليها كفارة لألزمها ذلك ولم يسكت عنها قلت (قائله الخطابي) وهذا غير لازم
...................

(12/445)


لأن هذا حكاية حال لا عموم لها وقد يمكن أن تكون المرأة مفطرة بعد زمن مرض أو سفر أو تكون مكرهة أو ناسية لصومها أو نحو ذلك من الأمور وإذا كان كذلك لم يكن ما ذكروه حجة يلزم الحكم بها. واحتجوا أيضا في هذا بحرف يروونه في هذا الحديث وهو قوله: هلكت وأهلكت، قالوا: دل قوله: "وأهلكت" على مشاركة المرأة إياه في الجناية لأن الإهلاك يقتضي الهلاك ضرورة، كما أن القطع يقتضي الانقطاع قلت (قائله الخطابي) وهذه اللفظة غير محفوظة والمعلى بن منصور الذي روى هذا الحديث بهذا الحرف ليس بذاك في الحفظ والإتقان - انتهى. قلت: حكى العيني (ج11 ص30) عن شيخه العراقي أنه قال وردت هذه اللفظة مسندة من طرق ثلاثة. أحدها، ذكره الخطابي وقد رواها الدارقطني (ص251) من رواية أبي ثور. قال حدثنا معلى بن منصور حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري فذكره. قال الدارقطني: تفرد به أبوثور عن معلى بن منصور عن ابن عيينة بقوله "وأهلكت" وكلهم ثقات. الطريق الثاني، من رواية الأوزاعي عن الزهري، وقد رواها البيهقي بسنده (ج4 ص227) ثم نقل عن الحاكم إنه ضعف هذه اللفظة وحملها على أنها أدخلت على محمد بن المسيب الأرغياني، ثم استدل على ذلك. والطريق الثالث، من رواية عقيل عن الزهري رواها الدارقطني في غير السنن، قال حدثنا النيسابوري حدثنا محمد بن عزيز حدثني سلامه بن روح عن عقيل عن الزهري فذكره، وقد تكلم في سماع محمد بن عزيز من سلامة، وفي سماع سلامة من عقيل وتكلم فيهما. ثم ذكر الكلام فيهما، ثم قال وأجود طرق هذه اللفظة طريق المعلى بن منصور على أن المعلى بن منصور على أن المعلى وإن اتفق الشيخان على إخراج حديثه فقد تركه أحمد. وقال لم أكتب عنه كان يحدث بما وافق الرأي، وكان كل يوم يخطىء في حديثين أو ثلاثة - انتهى. قلت: معلى بن منصور هذا وثقة ابن معين والعجلي ويعقوب بن شيبة وابن سعد لكن قال اختلف فيه أصحاب الحديث فمنهم من يروي عنه. ومنهم من لا يروي عنه. وقال

(12/446)


أبوحاتم الرازي: كان صدوقا في الحديث. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به لأني لم أجد له حديثا منكرا وذكره ابن حبان في الثقات، وروى له البخاري حديثين. وأما محمد بن عزيز فضعفه النسائي مرة، وقال مرة: لا بأس به، ووثقه العقيلي وسعيد بن عثمان ومسلمة. وقال أبوأحمد الحاكم. فيه نظر. وقال الذهبي: صدوق إنشاء الله. وقال الحافظ في التقريب: فيه ضعف، وقد تكلموا في صحة سماعة من عمه سلامة - انتهى. وأما سلامة فقال أبوزرعة: ضعيف منكر الحديث يكتب حديثه على الاعتبار. وقال أبوحاتم: ليس بالقوى محله عندي محل الغفلة. وقال ابن قانع: ضعيف. وقال مسلمة بن قاسم: لا بأس به. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال مستقيم الحديث. وقال في التقريب: صدوق له أوهام. وقيل لم يسمع من عمه عقيل، وإنما يحدث من كتبه - انتهى. وقال الحافظ في الفتح لا يلزم من قوله "وأهلكت" إيجاب الكفارة على المرأة
فقال الرجل: أعلي أفقر مني يا رسول الله! فوالله، ما بين لابيتها- يريد الحرتين- أهل بيت أفقر من أهل بيتي،

(12/447)


بل يحتمل أن يريد بقوله "هلكت" أثمت وأهلكت أي كنت سببا في تأثيم من طاوعتني فواقعتها إذ لا ريب في حصول الإثم على المطاوعة ولا يلزم من ذلك إثبات الكفارة ولا نفيها أو المعنى هلكت، أي حيث وقعت في شيء لا أقدر على كفارته "وأهلكت" أي نفسي بفعل الذي جر علي الإثم، وهذا كله بعد ثبوت الزيادة المذكورة وقد ذكر البيهقي إن للحاكم في بطلانها ثلاثة أجزاء، ومحصل القول فيها إنها وردت من طريق الأوزاعي، ومن طريق ابن عيينة. أما الأوزاعي فتفرد بها محمد بن المسيب عن عبدالسلام بن عبدالحميد عن عمر بن عبدالواحد والوليد ابن مسلم وعن محمد بن عقبة بن علقمة عن أبيه ثلاثتهم عن الأوزاعي. قال البيهقي: رواه جميع أصحاب الأوزاعي بدونها وكذلك جميع الرواة عن الوليد وعقبة وعمرو محمد بن المسيب كان حافظا مكثرا إلا أنه كان في آخر أمره عمي فلعل هذه اللفظة أدخلت عليه وقد رواه أبوعلي النيسابوري عنه بدونها، ويدل على بطلانها ما رواه العباس بن الوليد عن أبيه. قال سئل عن رجل جامع امرأته في رمضان قال: عليهما كفارة واحدة إلا الصيام. قيل له فإن استكرهها قال: عليه الصيام وحده. وأما ابن عيينة فتفرد بها أبوثور عن معلى بن منصور عنه. قال الخطابي: المعلى ليس بذاك الحافظ، وتعقبه ابن الجوزي بأنه لا يعرف أحد طعن في المعلى، وغفل عن قول الإمام أحمد أنه كان يخطىء كل يوم في حديثين أو ثلاثة فلعله حدث من حفظه بهذا فوهم. وقد قال الحاكم: وقفت على كتاب الصيام للمعلى بحظ موثوق به وليست هذه اللفظة فيه، وزعم ابن الجوزي إن الدارقطني أخرجه من طريق عقيل أيضا وهو غلط منه، فإن الدارقطني لم يخرج طريق عقيل في السنن، وقد ساقه في العلل بالإسناد الذي ذكره عنه ابن الجوزي بدونها - انتهى. كلام الحافظ. وراجع السنن الكبرى للبيهقي (ج4 ص227) مع الجوهر النقي (أعلى أفقر مني) بهمزة الاستفهام والمجرور متعلق بمحذوف، أي أأتصدق على شخص أكثر حاجة مني. وقال الشيخ

(12/448)


زكريا الأنصاري في شرح البخاري: هو بتقدير همزة الاستفهام التعجبي الداخلة على فعل حذف للعلم به من قوله "فتصدق به" قال الحافظ: وهذا يشعر بأنه فهم الإذن له في التصدق على من يتصف بالفقر وقد بين ابن عمر في حديثه ذلك فزاد فيه إلى من ادفعه قال إلى أفقر من تعلم أخرجه البزار والطبراني في الأوسط. وفي رواية إبراهيم بن سعد أعلى أفقر من أهلي ولابن مسافر عند الطحاوي أعلى أهل بيت أفقر مني، ولمنصور أعلى أحوج منا (ما بين لابيتها) بغير همزة تثنية لابة، بالباء الموحدة المفتوحة، ثم التاء المثناة من فوق، والضمير للمدينة. قال الجزري في جامع الأصول (ج7 ص547) اللابة، الأرض ذات الحجارة السود الكثيرة، وهي الحرة ولابتا المدينة حرتاها من جانبيها - انتهى. (يريد) أي الرجل باللابتين وهذا من كلام بعض رواته (الحرتين) بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء تثنية حرة وهي الأرض ذات الحجارة السود، والمدينة بين حرتين (أهل بيت أفقر من أهل بيتي) برفع أهل اسم "ما"
فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك)).

(12/449)


النافية وأفقر بالنصب على أنه خبرها إن أجعلت "ما" حجازية، وبالرفع إن جعلتها تميمية قاله الزركشي وغيره. وقال البدر الدماميني: وكذا إن جعلتها حجازية ملغاة من عمل النصب بناء على أن قوله "ما بين لابيتها" خير مقدم، وأهل بيت مبتدأ مؤخر، وأفقر صفة له، وفي رواية عقيل: ما أحد أحق به من أهلي ما أحد أحوج إليه مني، وفي مرسل سعيد: والله ما لعيالي من طعام، وفي حديث عائشة عند ابن خزيمة: ما لنا عشاء ليلة (فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت) أي ظهرت (أنيابه) جمع ناب، وهو السن الذي بعد الرباعية، وهي أربعة. وفي رواية ابن إسحاق حتى بدت نواجذه. قيل: إن ضحكة - صلى الله عليه وسلم - كان تعجبا من تباين حال الرجال حيث جاء خائفا على نفسه، راغبا في فداءهما مهما أمكنه، فلما وجد الرخصة طمع في أن يأكل ما أعطيه من الكفارة. وقيل: ضحك من حال الرجل في مقاطع كلامه وحسن تأنيه وتلطفه في الخطاب، وحسن توسله في توصله إلى مقصوده. قيل: وقد يكون من رحمة الله تعالى وتوسعة عليه وإطعامه له هذا الطعام، وإحلاله له بعد أن كلف إخراجه، والضحك، غير التبسم. وقد ورد إن ضحكه كان تبسما أي في غالب أحواله (أطعمه) أي ما في العرق من التمر (أهلك) أي من تلزمك نفقته أو مطلق أقاربك، ولابن عيينة عند البخاري في الكفارات أطعمه عيالك، ولأبي قرة عن ابن جريج ثم قال كله. ولابن إسحاق خذها وكلها وأنفقها على عيالك، ونحوه في رواية عبدالجبار ابن عمر وحجاج بن أرطاة وهشام بن سعد كلهم عن الزهري عند البيهقي (ج4 ص226) وغيره. واستدل به على سقوط الكفارة عن المعسر وهو أحد قولي الشافعية وإحدى الروايتين عن أحمد وبه جزم عيسى بن دينار من المالكية وهو قول الأوزاعي. قال ابن قدامة (ج3 ص132) وإن عجز عن العتق والصيام والإطعام سقطت الكفارة عنه في إحدى الروايتين (عن أحمد) بدليل إن الأعرابي لما دفع إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - التمر وأخبره بحاجته إليه

(12/450)


قال أطعمه أهلك ولم يأمره بكفارة أخرى، وهذا قول الأوزاعي. وقال الزهري: لابد من التكفير وهذا خاص لذلك الأعرابي لا يتعداه بدليل أنه أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعساره قبل أن يدفع إليه العرق، ولم يسقط عنه؛ ولأنها كفارة واجبة فلم تسقط بالعجز عنها كسائر الكفارات، وهذا رواية ثانية عن أحمد، وهو قياس قول أبي حنيفة والثوري وأبي ثور وعن الشافعي كالمذهبين. ولنا الحديث المذكور ودعوى التخصيص لا تسمع بغير دليل، وقولهم إنه أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعجزه فلم يسقطها، قلنا قد أسقطها عنه بعد ذلك وهذا آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يصح القياس على سائر الكفارات. لأنه إطراح للنص بالقياس والنص أولى - انتهى. قلت آخر الحديث ليس نصا في إسقاط الكفارة عند الإعسار بل هو محتمل لوجوه أخرى كما سيأتي، وأول
......................

(12/451)


الحديث نص في عدم سقوط الكفارة بالإعسار فلا يترك بالمحتمل. وقال ابن دقيق العيد (ج2 ص218) تباينت المذاهب فيه أي في قوله أطعمه أهلك. فقيل: إنه دليل على سقوط الكفارة بالإعسار المقارن لسبب وجوبها؛ لأن الكفارة لا تصرف إلى النفس ولا إلى العيال ولم يبين النبي - صلى الله عليه وسلم - استقرارها في ذمته إلى حين يساره ويتأيد ذلك بصدقة الفطر حيث تسقط بالإعسار المقارن بسبب وجوبها وهو هلال الفطر لكن الفرق بينهما إن صدقة الفطر لها أمد تنتهي إليه، وكفارة الجماع لا أمد لها فتستقر في الذمة. وليس في الخبر ما يدل على إسقاطها بل فيه ما يدل على استمرارها على العاجز. وقيل لا تسقط الكفارة بالإعسار المقارن وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والصحيح من مذهب الشافعي أيضا، وبعد قول بهذا المذهب. ففيه طريقان، أحدهما منع أن لا تكون الكفارة أخرجت في هذه الواقعة، يعني إن الذي أذن له في التصرف فيه كان على سبيل الكفارة. ثم اختلفوا فقال بعضهم: هذا خاص بهذا الرجل أي كونه أكله من صدقة نفسه وإطعام أهله منها مجزئا عن كفارته مخصوص بهذا الرجل لا يتعداه. ورد بأن الأصل عدم الخصوصية. وقال بعضهم: هو منسوخ وهذا أيضا مردود. لأنه لا دليل على النسخ. وقال بعضهم: المراد بالأهل الذين أمر بصرفها إليهم من لا تلزمه نفقته من أقاربه، وضعف بالرواية التي فيها عيالك. وبالرواية المصرحة بالإذن له في الأكل من ذلك. وقال بعضهم: لما كان فقيرا عاجزا لا يجب عليه النفقة لغيره وكان أهله فقراء أيضا جاز أعطاء الكفارة عن نفسه لهم. وقد جوز بعض الشافعية لمن لزمته الكفارة مع الفقر أن يصرفها إلى أهله وأولاده. وضعف أيضا بالرواية التي فيها تصريح بالإذن له في الأكل من ذلك. الطريق الثاني، وهو الأقرب الأقوى أن يجعل إعطاءه إياها لا على جهة الكفارة بل على جهة التصدق عليه وعلى أهله بتلك الصدقة لما ظهر من حاجتهم. وأما الكفارة فلم تسقط بذلك ولكن ليس استقرارها في

(12/452)


ذمته مأخوذا من هذا الحديث. وأما ما اعتلوا به من تأخير البيان فلا دلالة فيه لأن العلم بالوجوب قد تقدم، ولم يرد في الحديث ما يدل على الإسقاط، لأنه لما أخبره بعجزه ثم أمره بإخراج العرق دل على أن لا سقوط عن العاجز ولعله أخر البيان إلى وقت الحاجة: وهو القدرة كذا في الفتح. وقد ورد ما يدل على إسقاط الكفارة أو على أجزاءها عنه بإنفاقه إياها على عياله وهو قوله في حديث علي، وكله أنت وعيالك فقد كفر الله عنك، ولكنه حديث ضعيف لا يحتج بما انفرد به. قال القسطلاني: ولابن إسحاق خذها وكلها وأنفقها على عيالك أي لا عن الكفارة بل هو تمليك مطلق بالنسبة إليه وإلى عياله وأخذهم إياه بصفة الفقر، وذلك لأنه لما عجز عن العتق لإعساره وعن الصيام لضعفه، فلما حضر ما يتصدق به ذكر أنه وعياله محتاجون فتصدق به عليه الصلاة والسلام عليه، وأذن له في أكله وإطعام عياله وكان من مال الصدقة. وبقيت الكفارة في ذمته - انتهى. وحكى عن الشعبي والنخعي وسعيد
متفق عليه.

(12/453)


ابن جبير أن الكفارة غير واجبة أصلا لا على موسر ولا معسر. قالوا: لأنه أباح له أن يأكل منها ولو كانت واجبة لما جاز ذلك وهو استدلال غير ناهض، لأن الحديث ظاهر في الوجوب وإباحة الأكل لا تدل على أنها كفارة، بل فيها الاحتمالات التي سلفت. وأعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره في هذه الرواية بقضاء اليوم الذي جامع فيه إلا أنه ورد الأمر بالقضاء في حديث أبي هريرة عند أبي داود والبيهقي والدارقطني وفي حديث عمرو بن شعيب عند البيهقي وابن أبي شيبة، وإليه ذهب أكثر العلماء. قال الزرقاني: إيجاب الكفارة القضاء مع الكفارة هو قول الأئمة الأربعة والجمهور، وأسقطه بعضهم. لأنه لم يرد في خبر أبي هريرة ولا خبر عائشة ولا في نقل الحفاظ لهما ذكر القضاء. وأجيب بأنه جاء من طرق يعرف بمجموعها إن لهذه الزيادة أصلا يصلح للاحتجاج وعن الأوزاعي إن كفر بعتق أو إطعام قضى اليوم، وإن صام شهرين دخل فيهما قضاء ذلك اليوم - انتهى. وقال الحافظ في الفتح: استدل بالحديث على سقوط قضاء اليوم الذي أفسده المجامع إكتفاء بالكفارة إذ لم يقع التصريح في الصحيحين بقضاءه وهو محكى في مذهب الشافعي. وعن الأوزاعي يقضي إن كفر بغير الصوم وهو وجه للشافعية أيضا. قال ابن العربي: إسقاط القضاء لا يشبه منصب الشافعي إذ لا كلام في القضاء لكونه أفسد العبادة. وأما الكفارة فإنما هي لما اقترف من الإثم. قال: وأما كلام الأوزاعي فليس بشيء. قال الحافظ: وقد ورد الأمر بالقضاء في هذا الحديث في رواية أبي أويس وعبدالجبار بن عمر وهشام بن سعد كلهم عن الزهري (عند البيهقي ج4 ص226) وأخرجه البيهقي من طريق إبراهيم بن سعد عن الليث عن الزهري. وحديث إبراهيم بن سعد في الصحيح عن الزهري نفسه بغير هذه الزيادة، وحديث الليث عن الزهري في الصحيحين بدونها، ووقعت الزيادة أيضا في مرسل سعيد بن المسيب ونافع ابن جبير، والحسن ومحمد بن كعب. وبمجموع هذه الطرق يعرف أن لهذه الزيادة

(12/454)


أصلا. ويؤخذ من قوله صم يوما عدم اشتراط الفورية للتنكير في قوله يوما - انتهى. وهذا الخلاف في الرجل، فأما المرأة فيجب عليها القضاء من غير خلاف عندهم. وأعلم أن هذا الحديث جليل كثير الفوائد. قال الحافظ في الفتح: قد اعتنى بعض المتأخرين ممن أدركه شيوخنا بهذا الحديث فتكلم عليه في مجلدين جمع فيهما ألف فائدة وفائدة - انتهى. وما ذكرناه فيه كفاية (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر من كتاب الصيام إلا قوله إجلس وقوله الضخم. وقد سبق التنبيه على هذا، والحديث أخرجه البخاري أيضا في الهبة والنفقات والأدب والنذور والمحاربين، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي في الكبرى وابن ماجه والدارمي والدارقطني وابن خزيمة وأبوعوانة والبيهقي والطحاوي والبزار وغيرهم.
?الفصل الثاني?
2025-(7) عن عائشة، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم، ويمص لسانها)). رواه أبوداود.

(12/455)


2025- قوله: (كان يقبلها وهو صائم) أي في رمضان وغيره (ويمص) بفتح الميم ويجوز ضمه (لسانها) قال ميرك: قيل إن ابتلاع ريق الغير يفطر إجماعا، وأجيب على تقدير صحة الحديث إنه واقعة حال فعلية محتملة أنه عليه الصلاة والسلام كان يبصقه ولا يبتلعه وكان يمصه ويلقي جميع ما في فمه في فمها، والواقعة فعلية إذا احتملت لا دليل فيها - انتهى. قال القاري: ولا يخفى أن الوجه الثاني مع بعده إنما يتصور فيما إذا كانت غير صائمة - انتهى. وقال الحافظ في الفتح: إسناده ضعيف ولو صح فهو محمول على من يبتلع ريقه الذي خالط ريقها والله أعلم. وقال في فتح الودود: إن صح يحمل على غير حالة الصوم (إذ ليس فيه تصريح بأنه كان يفعل ذلك وهو صائم) أو على أنه يخرج ذلك الريق. قال ابن قدامة (ج3 ص106- 107) إن بلع ريق غيره أفطر. وأما حديث عائشة إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبلها وهو صائم، ويمص لسانها. فقد روى عن أبي داود أنه قال، هذا إسناد ليس بصحيح، ويجوز أنه كان يقبل في الصوم ويمص لسانها في غيره ويجوز أن يمصه ثم لا يبتلعه، ولأنه لم يتحقق إنفصال ما على لسانها من البلل إلى فمه فأشبه ما لوترك حصاة مبلولة في فيه أو لو تمضمض بماء ثم مجه (رواه أبوداود) قال الحافظ في الفتح: رواه أبوداود وحده وإسناده ضعيف. وقال في تهذيب التهذيب: (ج9 ص156) قال النسائي: في حديث عائشة كان يقبلها ويمص لسانها هذه اللفظة لا توجد إلا في رواية محمد بن دينار - انتهى. والحديث عند أحمد وأبي داود - انتهى كلام الحافظ. وكتب على هامش عون المعبود (ج2 ص285) إنه وجدت العبارة الآتية بعد هذا الحديث في نسخة "قال ابن الأعرابي: بلغني عن أبي داود أنه قال هذا الإسناد ليس بصحيح" وقال المنذري: في إسناده محمد بن دينار الطاحي البصري. قال يحيى بن معين: ضعيف. وفي رواية ليس به بأس ولم يكن له كتاب. وقال غيره صدوق. وقال ابن عدي: قوله يمص لسانها في المتن لا يقوله إلا محمد بن

(12/456)


دينار وهو الذي رواه وفي إسناده أيضا سعد بن أوس. قال ابن معين: بصري ضعيف - انتهى. قلت: محمد بن دينار هذا. قال في التقريب ترجمته: إنه صدوق سيء الحفظ رمى بالقدر وتغير قبل موته. وأما سعد بن أوس وهو العدوي، ويقال العبدي البصري فذكره ابن حبان في الثقات. وقال الساجي: صدوق، ذكره في تهذيب التهذيب. وقال في التقريب: صدوق. له أغاليط والحديث أخرجه أيضا البيهقي (ج4 ص234).
2026-(89 وعن أبي هريرة، ((أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم، فرخص له. وأتاه آخر فسأله فنهاه، فإذا الذي رخص له شيخ، وإذا الذي نهاه شاب)). رواه أبوداود.
2027-(9) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ذرعه القيء وهو صائم، فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدا فليقض)).
2026- قوله: (عن المباشرة) قيل: هي مس الزوج المرأة فيما دون الفرج. وقيل: هي القبلة واللمس باليد (فسأله) أي عن المباشرة (فنهاه) أي عنها (فإذا الذي رخص) أي فيها (شيخ وإذا الذي نهاه) عنها (شاب) فيه إشارة إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - أجابهما بمقتضى الحكمة، إذا الغالب على الشيخ سكون الشهوة وأمن الفتنة فأجاز له بخلاف الشاب فنهاه إهتماما له، وفيه حجة لمن فرق بين الشيخ والشاب في المباشرة، والقبلة. وقد تقدم البسط في هذه المسألة (رواه أبوداود) وكذا البيهقي (ج4 ص231) وسكت عنه أبوداود والمنذري والحافظ في التلخيص (ص191) وقال في الفتح: فيه ضعف قلت: في سنده أبوالعنبس الكوفي العدوي الحارث بن عبيد ذكره ابن حبان في الثقات. وقال في التقريب: مقبول وقد أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس ولم يصرح برفعه والبيهقي من حديث عائشة وأحمد والطبراني من حديث عبدالله بن عمرو وقد تقدم لفظهما.

(12/457)


2027- قوله: (من ذرعه القيء) بالذال المعجمة أي غلب عليه القيء فخرج بغير اختيار منه (فليس عليه قضاء) لأنه لا تقصير منه (ومن استقاء عمدا) أي تسبب لخروجه قصدا يعني طلب القيء وأخرجه باختياره. قال ابن قدامة: معنى استقاء تقيأ مستدعيا للقيء وذرعه خرج من غير اختيار منه (فليقض) وفي رواية فعليه القضاء. والحديث دليل على أنه لا يبطل صوم من غلبه القيء لقوله فلا قضاء عليه إذ عدم القضاء فرع الصحة. وعلى أنه يبطل صوم من تعمد إخراجه ولم يغلبه لأمره بالقضاء وإليه ذهب الجمهور، منهم الشافعي وأحمد ومالك وإسحاق، وحكى ابن المنذر الإجماع على بطلان الصوم بتعمد القيء، لكن روى عن ابن عباس وابن مسعود وربيعة وعكرمة إن القيء لا يفطر مطلقا، سواء كان غالبا أو مستخرجا ما لم يرجع منه شيء باختياره وهي إحدى الروايتين عن مالك. ونقل ابن المنذر الإجماع على ترك القضاء على من ذرعه القيء، وذهب قوم إلى أن القيء يفطر مطلقا سواء كان غالبا أو مستخرجا واستدلوا لذلك بحديث أبي الدرداء التالي وسيأتي الكلام فيه. قال ابن قدامة (ص117) من استقاء فعليه القضاء؛ لأن صومه يفسد به ومن ذرعه فلا شيء عليه، وهذا قول عامة أهل العلم. قال الخطابي: (ج2 ص112) لا أعلم خلافا بين أهل العلم فيه، ولكن اختلفوا في الكفارة على من استقاء عامدا. فقال عامة أهل العلم ليس عليه غير
رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه، والدارمي.

(12/458)


القضاء. وقال عطاء: عليه القضاء والكفارة، وحكى عن الأوزاعي وهو قول أبي ثور. وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على إبطال صوم من استقاء عامدا، وحكى عن ابن مسعود وابن عباس إن القيء لا يفطر لما روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ثلاث لا يفطرن الصائم الحجامة والقيء والاحتلام، ولأن الفطر مما دخل لا مما خرج. ولنا ما روى أبوهريرة مرفوعا من ذرعه القيء فليس عليه قضاء - الحديث، وحديثهم غير محفوظ (كما ستعرف) والمعنى الذي ذكر لهم يبطل بالحيض والمنى - انتهى. قلت: ويجاب عن حديث الثلاث بعد تسليم صلاحيته للاستدلال بأنه محمول على من ذرعه القيء جمعا بين الأدلة وحملا للعام على الخاص. قال ابن قدامة: وقليل القيء وكثيرة سواء في ظاهر قول الخرقي وهو إحدى الروايات عن أحمد، والرواية الثانية لا يفطر إلا بملء الفم، والثالثة نصف الفم والأولى أولى لظاهر حديث أبي ظاهر، ولأن سائر المفطرات لا فرق بين قليلها وكثيرها انتهى مختصرا. وقال الباجي (ج2 ص64) من استقاء يلزمه القضاء هذا قول مالك واختلف أصحابه في ذلك فقال الأبهري: هو على الاستحباب. وقال أبويعقوب الرازي: هو على الوجوب وبه قال الشافعي وأبوحنيفة، والدليل على وجوب ذلك إن المتعمد للقيء والمكروه لنفسه عليه لا يسلم في الغالب من رجوع شيء إلى حلقة فيقع به فطره، فلما كان ذلك الغالب من حاله حمل سائره على ذلك كالنوم في الحدث فإذا قلنا بوجوب القضاء فهل تلزمه الكفارة. قال أبوبكر عن ابن الماجشون عليه الكفارة. وقال القاضي أبومحمد: من قال من أصحابنا إن القضاء على الوجوب فإنه تلزمه الكفارة. وقال أبوالفرج: لو سئل عنه مالك لأوجب عليه الكفارة. قال الباجي: وفيه نظر. ويبطل عندي من وجهين أحدهما، أننا نوجب عليه القضاء لأننا لا نتيقن سلامة صومه فلابد له من القضاء لتبرأ ذمته من الصوم الذي لزمها، ونحن لا نتيقين فساد صومه فتوجب عليه الكفارة، والكفارة لم تثبت في ذمته قبل

(12/459)


ذلك بأمر واجب. والثاني إن الكفارة إنما تجب إذا كان الفطر نفسه باختيار الصائم، فأما إذا فعل فعلا يؤدي إلى وقوع الفطر منه بغير اختيار فلا تجب به عليه الكفارة - انتهى. وقيل: الجمع بين ما روى عن ابن عباس وابن مسعود وعلى من أن الفطر مما دخل لا مما خرج، وبين حديث الباب إن في الاستقاء يتحقق رجوع شيء مما يخرج، وإن قل حتى لا يحس به فلاعتباره يفطر، وفيما إذا ذرعه إن تحقق ذلك أيضا لكن لا صنع له فيه، ولغيره من العباد فكان كالنسيان والخطأ (رواه الترمذي وأبوداود) الخ واللفظ للترمذي وأخرجه أيضا أحمد (ج2 ص498) والنسائي في الكبرى وابن حبان والدارقطني (ص240) والحاكم (ج1 ص427) والبيهقي (ج4 ص219) وابن الجارود في المنتقى (ص198) والطحاوي (ج1 ص347) وابن حزم في المحلى (ج6 ص175) وإسحاق بن راهويه في مسنده جميعا من طريق عيسى بن يونس عن هشام بن
وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عيسى بن يونس. وقال محمد- يعني البخاري- لا أراه محفوظا.

(12/460)


حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة (وقال الترمذي هذا حديث غريب) كذا في جميع النسخ الحاضرة عندنا وكذا ذكره الحافظ في الفتح. ووقع في نسخ الترمذي الموجودة عندنا حديث حسن غريب، وكذا وقع في نقل المنذري في مختصر السنن، والزيلعي في نصب الراية (ج2 ص448) والعيني في شرح البخاري (ج11 ص35) وابن الهمام في فتح القدير، وهذا يدل على اختلاف نسخ الترمذي في ذلك. ولعل الصواب وجود لفظ الحسن فإن الظاهر إن الحديث لا ينحط عن درجة الحسن كما ستعرف (لا نعرفه) أي من حديث هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (إلا من حديث عيسى بن يونس) هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الكوفي أخو إسرائيل نزل الشام مرابطا ثقة مأمون من رجال الستة وثقة أحمد، وأبوحاتم ويعقوب بن شيبة وابن خراش وابن عمار والعجلي وأبوهمام وأبوزرعة وابن سعد وابن حبان والحاكم أبوأحمد والدارقطني وآخرون مات سنة (187) وقيل سنة (191) ودعوى تفرد عيسى بن يونس بهذا الحديث خطأ، لأنه قد تابعه عن هشام حفص بن غياث عند ابن ماجه والحاكم. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المحلى: (ج1 ص175- 176) قد غلط الترمذي في دعوى انفراد عيسى به فقد رواه ابن ماجه من طريق الحكم بن موسى عن عيسى بن يونس ومن طريق أبي الشعثاء عن حفص بن غياث كلاهما عن هشام بن حسان به. وكذا رواه الحاكم (ج1 ص426 - 227) من طريق علي بن حجر عن عيسى، ومن طريق يحيى بن سليمان الجعفي عن حفص. وقال أبوداود: بعد حديث عيسى "ورواه أيضا حفص بن غياث عن هشام مثله" فسقطت دعوى تفرد عيسى بروايته بل نقل الدارمي (وكذا إسحاق بن راهويه في مسنده كما في تخريج الهداية للزيلعي (ج2 ص449) عن عيسى أنه قال "زعم أهل البصرة أن هشاما أوهم فيه فموضع الخلاف ههنا" وهشام ثقة حجة (من أثبت الناس في ابن سيرين) قال ابن أبي عروبة: ما رأيت أحفظ عن ابن سيرين من هشام. وقال أبوداود: إنما تكلموا في حديثه عن الحسن

(12/461)


وعطاء، لأنه كان يرسل عنهما والذي هنا من رواية ابن سيرين وليس الحكم بالوهم على الراوي الثقة بالهين ولذلك صححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وهو الحق - انتهى. قلت: وسكت عنه أبوداود وقواه الدارقطني وابن حزم حيث قال الدارقطني: بعد روايته طريق من عيسى بن يونس رواته ثقات كلهم. وقال ابن حزم: عيسى ابن يونس ثقة. (وقال محمد يعني البخاري: لا أراه) بضم الهمزة أي لا أظنه (محفوظا) قال الطيبي: الضمير راجع إلى الحديث وهو عبارة عن كونه منكرا - انتهى. وحكى الحافظ في الفتح عن البخاري أنه قال بعد رواية الحديث من طريق عيسى "لم يصح" وإنما يروي عن عبدالله بن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة وعبدالله ضعيف جدا
2028-(10) وعن معدان بن طلحة، أنا أباالدرداء، حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر.

(12/462)


– انتهى. وقال البيهقي (ج4 ص219) بعد روايته من طريق عيسى وحفص تفرد به هشام بن حسان، وقد أخرجه أبوداود وبعض الحفاظ لا يراه محفوظا. قال أبوداود سمعت أحمد بن حنبل يقول: ليس من ذا شيء. قال الخطابي (ج2 ص112) يريد أن الحديث غير محفوظ. وقال الحافظ في بلوغ المرام: أعله أحمد. وقال في التلخيص (ص188) وأنكره أحمد. وقال في رواية ليس من ذا شيء وقال مهنأ عن أحمد حدث به عيسى وليس هو في كتابه غلط فيه وليس هو من حديثه. وقال الحاكم: صحيح على شرطهما، وأخرجه من حديث حفص بن غياث أيضا - انتهى. وقال النسائي: وقفه عطاء عن أبي هريرة. وقال ابن عبدالبر: الأصح إنه موقوف على أبي هريرة: قلت: لم يظهر لي وجه كون الوقف أرجح ولا وجه كون رواية عيسى غلطا. وقد ثبت أنه تابعه حفص بن غياث وهما من ثقات الرواة ومن رجال الستة وكذا هشام بن حسان فلا يضر تفرده، فالظاهر إن الحديث حسن كما قال الترمذي أو صحيح كما قال الحاكم والذهبي. قال الترمذي: قد روى هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة مرفوعا ولا يصح إسناده. وقال البيهقي: قد روى من وجه آخر ضعيف عن أبي هريرة مرفوعا - انتهى. قلت يشير أن بذلك إلى ما أشار إليه البخاري من رواية عبدالله بن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة، ومن هذا الطريق أخرجه أبويعلى في مسنده وابن أبي شيبة في مصنفه كما في نصب الراية والدارقطني (ص240) ولا شك أن هذا الطريق ضعيف. وفي الباب عن ابن عمر موقوفا عند مالك في الموطأ والشافعي، وأخرجه البيهقي من طريق الشافعي وعن على موقوفا أخرجه عبدالرزاق والبيهقي.

(12/463)


2028- قوله: (وعن معدان) بفتح الميم (بن طلحة) كذا وقع في رواية أبي داود، ووقع عند الترمذي والدارمي "ابن أبي طلحة" ورجحه الترمذي ورجح ابن معين "معدان بن طلحة" (إن أباالدرداء حدثه) أي أخبره كما في رواية لأحمد (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر) قد استدل به على أن القيء يفطر مطلقا، سواء كان غالبا أو مستخرجا. ووجه الاستدلال إن "الفاء" تدل على أن الإفطار كان مرتبا على القيء، وبسببه وهو المطلوب فتكون هي للسببية وأجيب عن هذا بوجوه منها إن في سنده إضطرابا لا يصلح لذلك للاحتجاج. قال البيهقي: (ج1 ص144) إسناد هذا الحديث مضطرب، واختلفوا فيه اختلافا شديدا، وحكى الحافظ عنه في التلخيص (ص188) أنه قال إسناده مضطرب، ولا تقوم به حجة - انتهى. وتعقب بأن وجوه الاختلاف ههنا ليست بمستوية كما لا يخفى على من نظر في طرقها ولا تعذر الجمع بينهما، فدعوى الاضطراب مردودة. وقد صححه ابن منده. وقال الترمذي: هو أصح شيء في هذا الباب. وكذا قال أحمد ومنها إن قوله "قاء فأفطر" ليس نصا صريحا، في أن القيء مفطر للصوم لاحتمال أن تكون "الفاء" للتعقيب من دون أن تكون للسببية. قال
قال: ((فلقيت ثوبان في مسجد دمشق، فقلت: إن أباالدرداء حدثني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر.قال: صدق، وأنا صببت له وضوءه)).

(12/464)


الطحاوي (ص348) ليس فيه دليل على أن القيء كان مفطرا له، إنما فيه أنه قاء فأفطر بعد ذلك. قال: يجوز أن يكون قوله: "قاء فأفطر" أي قاء فضعف فأفطر. وقال الترمذي: معناه إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان صائما متطوعا فقاء فضعف، فأفطر لذلك هكذا روى في بعض الحديث مفسرا - انتهى. وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: (ج1 ص146) لو كانت الفاء للسببية لم تدل أيضا على نقض الصوم بالقيء؛ لأنه قد يفطر الإنسان لما ينوبه من الضعف والتراخي مما لا يستطيع معه إحتمال مشقة الصوم أو خشية الضرر والمرض، فالقيء سبب له. ولكنه سبب عادي طبيعي، ولا يكون سببا شرعيا إلا بنص صريح من الشارع - انتهى. وبهذا يندفع ما قال ابن المنير متعقبا على الطحاوي، من أن الحكم إذا عقب بالفاء دل على أنه العلة كقولهم سها فسجد. ومنها إن قوله قاء أي عمدا لما تقدم من أن من ذرعه ليس عليه قضاء. قال البيهقي (ج4 ص220) هذا حديث مختلف في إسناده فإن صح فهو محمول على أنه تقيأ عامدا. وكأنه - صلى الله عليه وسلم - كان متطوعا بصومه - انتهى. وقال الحافظ في التلخيص (ص188) حديث أبي درداء إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر أي استقاء. وقال في الفتح: ويمكن الجمع بين قول أبي هريرة إذا قاء لا يفطر وبين قوله أنه يفطر بما فصل في حديثه المرفوع المتقدم، فيحتمل قوله إذا قاء يفطر أنه تعمد القيء. واستدعى به وبهذا أيضا يتأول قوله في حديث أبي الدرداء الذي أخرجه أصحاب السنن مصححا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر أي استقاء عمدا وهو أولى من تأويل من أوله بأن المعنى قاء فضعف فأفطر والله أعلم - انتهى. قلت: ويؤيد حمل قوله قاء على القيء عامدا رواية أحمد (ج6 ص449) بلفظ: عن أبي الدرداء قال استقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفطر فأتى بماء فتوضأ (فلقيت ثوبان) مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (صدق) أي أبو الدرداء

(12/465)


(وأنا صببت له) أي للنبي - صلى الله عليه وسلم - (وضوءه) بالفتح أي ماء وضوءه، وهذا يدل على أن الوضوء وإن لم يذكر في اللفظ بعد قوله قاء لكنه ثابت في المعنى لأن قول ثوبان تصديقا لأبي الدرداء "صدق وأنا صببت له وضوءه" دليل على أن الوضوء مذكور في أصل الحديث، وإن اختصر في الرواية لأن ثوبان يؤكد الرواية بأنه هو الذي صب له الوضوء بعد القيء، وأما رواية الترمذي في الطهارة بلفظ: قاء فتوضأ ففي كون لفظ فتوضأ فيها محفوظا نظر، فإن حديث أبي الدرداء هذا ذكره الترمذي في الصيام بلفظ: قاء فأفطر وبهذا اللفظ رواه أحمد (ج5 ص195- 277و ج6 ص443- 449) وأبوداود والنسائي في الكبرى وابن حبان والطبراني وابن منده كما في التلخيص (ص188) والحاكم (ج1 ص226) والطحاوي (ج1 ص347- 348) والدارقطني (ص57- 58- و238) وابن الجارود (ص15) والبيهقي (ج1 ص144و ج4 ص220) واختلفت نسخ الترمذي في رواية كتاب الطهارة
رواه أبوداود، والترمذي، والدارمي.
2029-(11) وعن عامر بن ربيعة، قال: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لا أحصى يتسوك

(12/466)


كما ذكره الشيخ شاكر في تعليقه على الترمذي (ج1 ص143- 145) ففي بعضها قاء فتوضأ وفي بعضها قاء فأفطر فتوضأ، ويؤيد هذه النسخة رواية أحمد في (ج6 ص449) بلفظ: استقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفطر فأتى بماء فتوضأ وفي بعضها قاء فأفطر. ويؤيده سائر الروايات المذكورة، ويؤيده أيضا أن أصل الحديث ورد عن ثوبان من وجه آخر بلفظ: قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر أخرجه أحمد (ج5:ص276) والطيالسي والطحاوي (ج1:ص348) والبيهقي (ج4:ص220) بسند جيد. وهذا كله يورث الشك والتردد في كون لفظ فتوضأ محفوظا. واستدل الحنفية بهذا على كون القيء ناقضا للوضوء وقد ذكرنا جوابه في الطهارة وإن شئت البسط في الجواب فارجع إلى تعليق الترمذي للعلامة الشيخ أحمد شاكر وشرحه لشيخنا الأجل المباركفوري رحمهما الله تعالى. (رواه أبوداود والترمذي والدارمي) واللفظ لأبي داود ورواه الثلاثة من طريق حسين المعلم عن يحيى بن أبي كثير عن عبدالرحمن بن عمرو والأوزاعي عن يعيش بن الوليد عن أبيه عن معدان بن طلحة ومن هذا الطريق رواه أحمد (ج6:ص443) والطحاوي (ج1:ص147-148) والحاكم (ج1:ص426) والدارقطني (ص57-58-238) والبيهقي (ج1:ص144 وج4: ص220) وابن الجارود (ص15) وابن مندة وابن حبان وله طرق أخرى عند بعضهم. وقد سكت عنه أبوداود. وقال الترمذي: في كتاب الطهارة: قد جود حسين المعلم هذا الحديث وحديث حسين أصح شيء في هذا الباب. ونقل المنذري كلام الترمذي هذا وأقره وزاد. وقال الإمام أحمد بن حنبل: حسين المعلم يجوده. وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين. ولم يخرجاه لخلاف في سنده ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في التلخيص (ص188) قال ابن منده: إسناده صحيح متصل وتركه الشيخان لاختلاف في إسناده.ثم قال الحافظ بعد ذكر كلام الترمذي: المتقدم. وكذا قال أحمد، وفيه اختلاف كثير قد ذكره الطبراني وغيره. ثم ذكر كلام البيهقي السابق فيما يتعلق باضطراب إسناده. وأجاب

(12/467)


عنه ابن التركماني (ج1:ص143) بأن الترمذي قال قد جوده حسين المعلم عن يحيى بن أبي كثير وحديث حسين أصح شيء في هذا الباب. وقال ابن منده هذا إسناد متصل صحيح. قال ابن التركماني: وإذا أقام إسنادا ثقة اعتمد ولم يبال بالاختلاف، وكثير من أحاديث الصحيحين لم تسلم من مثل هذا الاختلاف، وقد فعل البيهقي مثل هذا في حديث "هو الطهور ماؤه" حيث بين الاختلاف الواقع فيه. ثم قال: إلا أن الذي أقام إسناده ثقة، أودعه مالك في الموطأ وأخرجه أبوداود في السنن - انتهى.
2029- قوله: (ما لا أحصى) أي مقدارا لا أقدر على إحصائه وعده لكثرته (يتسوك) مفعول ثان.
وهو صائم)).

(12/468)


لأنه خبر على الحقيقة و"ما" موصوفة ولا أحصى صفتها وهي ظرف ليتسوك أي يتسوك مرات لا أقدر على عدها قاله الطيبي. قال ميرك: ولعله حمل الرؤية على معنى العلم فجعل يتسوك مفعولا ثانيا، ويحتمل أن تكون بمعنى الأبصار ويتسوك حينئذ حال وقوله (وهو صائم) حال أيضا إما مترادفة وإما متداخلة كذا في المرقاة وهذا لفظ الترمذي، ولأبي داود رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك وهو صائم مالا أعد ولا أحصى. والحديث يدل بعمومه على جواز الاستياك للصائم مطلقا، سواء كان الاستياك بالسواك الرطب أو اليابس. وسواء كان صائما فرضا أو تطوعا، وسواء كان في أول النهار أو في آخره. وإليه ذهب الثوري والأوزاعي وابن علية وأبوحنيفة وأصحابه وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي، وروى عن ابن عمر كما في ابن أبي شيبة وحكاه الترمذي عن الشافعي وهو اختيار أبي شامة وابن عبدالسلام والنووي والمزني، وإليه ذهب البخاري حيث قال باب السواك الرطب اليابس للصائم، ويذكر عن عامر بن ربيعة قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك وهو صائم مالا أحصى أو أعد. وقال أبوهريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء. ويروي نحوه عن جابر وزيد بن خالد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يخص الصائم من غيره. وقالت عائشة: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - السواك مطهرة للفم مرضاة للرب. وقال عطاء وقتادة: يبتلع ريقه - انتهى. قال الحافظ: أشار بهذه الترجمة إلى الرد على من كره للصائم الاستياك بالسواك الرطب كالمالكية والشعبي، وقد تقدم في باب اغتسال الصائم قياس ابن سيرين السواك الرطب على الماء الذي يتمضمض به، ومنه تظهر النكتة في إيراد حديث عثمان في صفة الوضوء في هذا الباب فإن فيه أنه تمضمض واستنشق. وقال فيه: من توضأ وضوئي هذا، ولم يفرق بين صائم ومفطر ويتأيد ذلك بما ذكر في حديث أبي هريرة في الباب. قال ومناسبة

(12/469)


حديث عامر للترجمة إشعاره بملازمة السواك، ولم يخص رطبا من يابس، وهذا على طريقة المصنف يعني البخاري في أن المطلق يسلك به مسلك العموم أو إن العام في الأشخاص عام في الأحوال. وقد أشار إلى ذلك بقوله في أواخر الترجمة المذكورة ولم يخص صائما من غيره أي ولم يخص أيضا رطبا من يابس وبهذا التقرير يظهر مناسبة جميع ما أورده في هذا الباب للترجمة، والجامع لذلك كله قوله في حديث أبي هريرة لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء فإنه يقتضى إباحته في كل وقت وعلى كل حال. قال ابن المنير: أخذ البخاري شرعية السواك للصائم بالدليل الخاص، ثم انتزعه من الأدلة العامة التي تناولت أحوال متناول السواك وأحوال ما يستاك به، ثم انتزع ذلك من أعم من السواك وهو المضمضة إذ هي أبلغ من السواك الرطب. قال الحافظ: ومناسبة أثر عطاء وقتادة للترجمة من جهة أن أقصى ما يخشى من السواك الرطب أن يتحلل منه شيء في الفم وذلك الشيء كماء المضمضة فإذا قذفه من فيه لا يضره بعد ذلك
....................

(12/470)


أن يبتلع ريقه - انتهى. واستدل لهذا القول أيضا بما رواه ابن ماجه والدارقطني (ص248) والبيهقي (ج4:ص272) من حديث عائشة مرفوعا من خير خصال الصائم السواك . قال في التلخيص (ص24) هو ضعيف ورواه أبونعيم من طريقين آخرين عنها. قلت: في سنده عند الثلاثة مجالد بن سعيد وضعفه الجمهور، وواثقه النسائي. وروى له مسلم مقرونا بغيره، واستشهد لهذا القول بما رواه النسائي في الكنى والعقيلي وابن حبان في الضعفاء، والدارقطني (ص248) والبيهقي (ج4:ص272) من طريق عاصم الأحول عن أنس يستاك الصائم أول النهار وآخره برطب السواك ويابسه ورفعه، وفيه أبوإسحاق إبراهيم بن بيطار. قال الدارقطني: ضعيف. وقال البيهقي: تفرد به إبراهيم بن بيطار، ويقال إبراهيم بن عبدالرحمن قاضي خوارزم. وقد حدث عن عاصم بالمناكير لا يحتج به، وقد روى عنه من وجه آخر ليس فيه ذكر أول النهار وآخره ثم ساقه من طريق ابن عدي كذلك. وقال ابن حبان: لا يصح ولا أصل له من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من حديث أنس وذكره ابن الجوزي في الموضوعات. قلت وله شاهد من حديث معاذ عند الطبراني في الكبير وسيأتي. وبما روى ابن حبان في الضعفاء عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك آخر النهار وهو صائم، وأعله بأحمد بن عبدالله بن ميسرة الحراني، وقال لا يحتج به ورفعه باطل.والصحيح عن ابن عمر من فعله كذا في نصب الراية (ج2:ص460) واللسان (ج1:ص195) وبما روى أحمد بن منيع بسنده عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تسوك وهو صائم ذكره الحافظ في التلخيص (ص24) وسكت عنه. وذهب أبوثور والشافعي في المشهور من مذهبه وفي أصح قوليه أنه يكره السواك رطبا كان أو يابسا للصائم بعد الزوال، ويستحب قبله برطب أو يابس. وقد روى عن علي قال: إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشى فإنه ليس من صائم تيبس شفتاه بالعشى إلا كانت نورا بين عينيه يوم القيامة أخرجه الدارقطني

(12/471)


(ص249) والبيهقي (ج4:ص274) والطبراني والبزار. قال في التلخيص (ص193) ضعفه الدارقطني والبيهقي. وقال في (ص22) إسناده ضعيف. قلت: في سنده كيسان أبوعمر القصار ضعفه أحمد والساجي. وقال الدارقطني: ليس بالقوى. ووثقه ابن معين، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال في التقريب أنه ضعيف، وفيه أيضا يزيد بن بلال. قال البخاري: فيه نظر، وقال ابن حبان: لا يحتج به. وقال الأزدى: منكر الحديث. وقال الذهبي: حديثه منكر. وقال الدارقطني: يزيد بن بلال غير معروف، وقال في التقريب إنه ضعيف. وذهب أحمد وإسحاق بن راهويه إلى كراهة السواك للصائم بعد الزوال مطلقا، وكراهة الرطب للصائم مطلقا. قال ابن قدامة (ج3:ص110): لم ير أهل العلم بالسواك أول النهار بأسا إذا كان العود يابسا، واستحب أحمد وإسحاق ترك السواك بعد العشى. واختلفت الرواية عنه في التسوك بالعود الرطب فرويت عنه الكراهة وهو قول قتادة والشعبي والحكم وإسحاق ومالك وفي رواية، وروى عنه أنه لا يكره، وبه
......................

(12/472)


قال الثوري والأوزاعي وأبوحنيفة - انتهى مختصرا. والمشهور من مذهب مالك وأصحابه أنه يكره بالرطب دون غيره سواء كان أول النهار أو آخره، واستدل لهم بما روى البيهقي (ج4:ص272) عن زياد بن حدير قال: ما رأيت أحدا آداب سواكا وهو صائم من عمر أراه قال بعود قد ذوى. قال أبوعبيد: يعني يبس ولأنه مغرر بصومه لاحتمال أن يتحلل منه أجزاء إلى حلقه فيفطره وفيه ما قال ابن سيرين لا بأس بالسواك الرطب. قيل: له طعم قال والماء له طعم وأنت تمضمض به ذكره البخاري واستدل لكراهة السواك بعد الزوال بما رواه الدارقطني (ص249) والبيهقي (ج4:ص274) والطبراني من حديث جناب مرفوعا مثل قول علي المتقدم. قال الحافظ في التلخيص: ضعفه الدارقطني والبيهقي. قلت: فيه كيسان أبوعمر القصار المذكور وقد عرفت حاله. واستدل لذلك أيضا بحديث الخلوف المتقدم في أوائل الصوم، لأن في الاستياك بعد الزوال إزالة الخلوف المحمود. وأجيب عنه بوجوه. منها ما قاله ابن العربي من أن الخلوف تغير رائحة فم الصائم وإنما يحدث من خلو المعدة يترك الأكل ولا يذهب بالسواك؛ لأنها رائحة النفس الخارجة من المعدة. وإنما يذهب بالسواك ما كان في الأسنان من التغيير أي الوسخ: وقال ابن الهمام: إنما يزيل السواك أثره الظاهر عن السن من الاصفرار وهذا؛ لأن سبب الخلوف خلو المعدة من الطعام والسواك لا يفيد شغلها بطعام ليرتفع السبب، ولهذا روى عن معاذ مثل ما قلنا روى الطبراني في الكبير عن عبدالرحمن بن غنم قال: سألت معاذ بن جبل أتسوك وأنا صائم قال نعم قلت أي النهار أتسوك قال أي النهار شئت غدوة أو عشية، قلت إن الناس يكرهونه عشية، ويقولون إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، فقال سبحان الله لقد أمرهم بالسواك وهو يعلم أنه لابد أن يكون بقي الصائم خلوف وإن أستاك، وما كان بالذي يأمرهم أن ينتنوا أفواههم عمدا ما في ذلك من الخير شيء بل فيه شر

(12/473)


إلا من ابتلى بلاء لا يجد منه بدا - انتهى. قال الحافظ في التلخيص: (ص193) إسناده جيد وقال الهيثمي (ج3:ص165): فيه بكر بن خنيس وهو ضعيف، وقد وثقه ابن معين في رواية. قلت: ووثقه أيضا العجلي وضعفه غيرهما. وقال في التقريب: هو كوفي عابد سكن بغداد صدوق، له أغلاط - انتهى. وقد تعقب الحافظ في التلخيص (ص22) على هذا الجواب فقال في قول ابن العربي السواك لا يزيل الخلوف، وإنما يزيل وسخ الأسنان نظر، لأنه يزيل المتصعد إلى الأسنان الناشيء عن خلو المعدة ولا يخفى ما فيه؛ لأن المضمضة أيضا تزيل هذا وهم لا يكرهونها. ومنها ما قاله ابن العربي أيضا إن الحديث لم يسق لكراهية السواك، وإنما سيق لترك كراهة مخاطبة الصائم. وقال الزرقاني: إنما مدح الخلوف نهيا للناس عن تقذر مكالمة الصائم بسبب الخلوف لا نهيا للصائم عن السواك والله غني عن وصول الروائح الطيبة إليه، فعلمنا يقينا أنه
....................

(12/474)


لم يرد استبقاء الرائحة، وإنما أراد نهى الناس عن كراهتها وهذا التأويل أولى، لأن فيه إكراما للصائم ولا تعرض فيه للسواك فيذكر أو يتأول - انتهى. وقد تعقب الحافظ على هذا الجواب أيضا فقال بعد ذكر كلام ابن العربي: فيه نظر، لما رواه الدارقطني (ص248) والبيهقي (ج4:ص274) عن أبي هريرة راوي حديث الخلوف أنه قال لك السواك إلى العصر فإذا صليت العصر فالقه فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: خلوف الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وفيه إن هذا الأثر ضعيف جدا، فإن في سنده عمر بن قيس المعروف بسنده وهو واه. قال أحمد والنسائي والفلاس وغيرهم: متروك. وقال أحمد: أحاديثه بواطيل لا تساوي شيئا. وقال البيهقي: ضعيف، لا يحتج به، ومع ضعفه فقد عارضه ما هو أقوى منه من أثر معاذ بن جبل عند الطبراني وقد تقدم لفظه. ومنها إن في السواك تطهيرا وإجلالا للرب حال مناجاته في الصلاة، لأن مخاطبة العظماء مع طهارة الفم تعظيم وليس في الخلوف تعظيم ولا إجلال، وهذه المسألة من قاعدة إزدحام المصالح التي يتعذر الجمع بينها، ويدل على أن مصلحة تطهير الفم بالسواك أعظم من مصلحة الخلوف قوله - صلى الله عليه وسلم -: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، فيقدم السواك. وما ذكره الشافعي ومن وافقه هو تخصيص للعمومات بمجرد كونه مزيلا للخلوف، وهذا معارض بالمعنى الذي ذكرناه. وقال العز بن عبدالسلام في قواعده الكبرى (ج1:ص36-37) قد فضل الشافعي تحمل الصائم مشقة رائحة الخلوف على إزالته بالسواك مستدلا بأن ثوابه أطيب من ريح المسك، ولم يوافق الشافعي على ذلك، إذ لا يلزم من ذكر ثواب العمل أن يكون أفضل من غيره، لأنه لا يلزم من ذكر الفضيلة حصول الرجحان بالأفضلية. ألا ترى الوتر عند الشافعي في قوله الجديد أفضل من ركعتي الفجر، مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها، وكم من عبادة قد أثنى الشارع عليها

(12/475)


وذكر فضيلتها مع أن غيرها أفضل منها وهذا من باب تزاحم المصلحتين اللتين لا يمكن الجمع بينهما فإن السواك نوع من التطهر المشروع لإجلال الرب سبحانه وتعالى، لأن مخاطبة العظماء مع طهارة الأفواه تعظيم، لا شك فيه، ولأجله شرع السواك. وليس في الخلوف تعظيم ولا إجلال فكيف يقال إن فضيلة الخلوف تربى على تعظيم ذي الجلال بتطييب الأفواه إلى أن قال والذي ذكره الشافعي تخصيص للعام بمجرد الاستدلال المذكور المعارض لما ذكرناه كذا في النيل. وقال ابن دقيق العيد: من يكره السواك بعد الزوال يحتاج إلى دليل خاص بهذا الوقت يخص به عموم عند كل صلاة، وفي تخصيصه بحديث الخلوف بحث - انتهى. وقال القاري: إذا ورد عن الشارع أحاديث مطلقة شاملة لما قبل الزوال وما بعده، وعن الصحابة فعلهم وإفتاءهم على جوازه بعد الزوال، فكيف يصلح بعد هذا كله أن يكون حديث الخلوف دليلا للشافعي، ومن تبعه على منع السواك بعد الزوال وصرف الإطلاق إلى ما قبل الزوال من غير دليل صريح أو تعليل صحيح - انتهى. وقد ظهر بما ذكرنا أن القول الراجح المعول عليه هو ما ذهب إليه
رواه الترمذي، وأبوداود.
2030- (12) وعن أنس، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اشتكيت عيني، أفأكتحل وأنا صائم؟ قال: نعم)).

(12/476)


أبوحنيفة ومن وافقه (رواه الترمذي وأبوداود) واللفظ للترمذي وأخرجه أحمد (ج3:ص445) وابن خزيمة في صحيحه والدارقطني (ص248) والبيهقي (ج4:ص272) وإسحاق بن راهويه وأبويعلى والبزار والطبراني، وعلقه البخاري بصيغة التمريض كما تقدم. وقد سكت عنه أبوداود وحسنه الترمذي. وقال المنذري: بعد نقل تحسين الترمذي: في إسناده عاصم بن عبيدالله، وقد تكلم فيه غير واحد. وذكر البخاري هذا الحديث في صحيحه معلقا في الترجمة فقال: ويذكر عن عامر بن ربيعة. و قال الحافظ في التلخيص في (ص22) إسناده حسن وفي (ص24) فيه عاصم بن عبيدالله وهو ضعيف. فقال ابن خزيمة: أنا ابرأ من عهدته لكن حسن الحديث غيره -انتهى. وحكى في الفتح عن ابن خزيمة أنه قال كنت لا أخرج حديث عاصم ثم نظرت فإذا شعبة والثوري قد رويا عنه، وروى يحيى وعبدالرحمن عن الثوري، وروى مالك عنه خبرا في غير الموطأ. قال الحافظ: وضعفه ابن معين والذهلي والبخاري وغير واحد - انتهى. وقال ابن القطان: لم يمنع من صحة هذا الحديث إلا اختلافهم في عاصم بن عبيدالله. وقال النووي في الخلاصة: بعد أن حكى عن الترمذي أنه حسنه لكن مداره على عاصم بن عبيدالله وقد ضعفه الجمهور فلعله اعتضد - انتهى. قلت: تكلم فيه أحمد وابن معين وابن سعد وأبوحاتم والجوزجاني وابن خراش والبيهقي والساجي وابن نمير. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال الدارقطني: متروك وهو مغفل. وقال ابن خزيمة: لست احتج به لسوء حفظه. وقال ابن حبان: كان سيء الحفظ كثير الوهم فاحش الخطأ فترك من أجل كثرة خطأه. وقال المزي: وأحسن ما قيل فيه قول العجلي لا بأس به، وقول ابن عدي قد روى عنه ثقات الناس واحتملوه وهو مع ضعفه يكتب حديثه - انتهى. قلت: الظاهر أن الترمذي إنما حسن هذا الحديث لما اعتضد به من شواهده التي قدمنا ذكرها، والله تعالى أعلم.

(12/477)


2030- قوله: (اشتكيت عيني) قال القاري: بالتشديد، وفي نسخة بالتخفيف، أي أشكو من وجع عيني (قال نعم) فيه جواز الإكتحال بلا كراهة للصائم، وبه قال الأكثرون، وذكر العيني (ج11:ص15) في مسألة الكحل للصائم أقوالا، فقال لم ير الشافعي به بأسا وجد طعم الكحل في الحلق أم لا، واختلف قول مالك فيه في الجواز والكراهة، قال في المدونة: يفطر ما وصل إلى الحلق من العين. وقال أبومصعب: لا يفطر، وذهب الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق إلى كراهة الكحل للصائم، وحكى عن أحمد أنه إذا وجد طعمه في
................................

(12/478)


الحلق أفطر، وعن عطاء والحسن البصري والنخعي والأوزاعي وأبي حنيفة وأبي ثور يجوز بلا كراهة، وأنه لا يفطر به سواء وجد طعمه أم لا، وحكى ابن المنذر عن سليمان التيمي ومنصور بن المعتمر وابن شيرمة وابن أبي ليلى إنهم قالوا: يبطل صومه. وقال ابن قتادة: يجوز بالأثمد ويكره بالصبر. وفي سنن أبي داود عن الأعمش قال: ما رأيت أحدا من أصحابنا يكره الكحل للصائم - انتهى كلام العيني. وقال ابن قدامة (ج3:ص105-106) أما الكحل فما وجد طعمه في حلقه أو علم وصوله إليه فطره وإلا لم يفطره نص عليه أحمد. وقال ابن أبي موسى: ما يجد طعمه كالذرور والصبر والقطور أفطر، وإن اكتحل باليسير من الأثمد غير المطيب كالميل ونحوه لم يفطر نص عليه أحمد. وقال ابن أبي عقيل إن كان الكحل حادا فطره وإلا فلا، ونحو ما ذكرناه. قال أصحاب مالك وعن ابن أبي ليلى وابن شبرمة: إن الكحل يفطر الصائم. وقال أبوحنيفة والشافعي، لا يفطره لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اكتحل في رمضان وهو صائم، ولأن العين ليست منفذا، فلم يفطر بالداخل منها كما لو دهن رأسه- انتهى. قلت: قد استدل من ذهب إلى كراهة الكحل للصائم أو إلى كونه مفسدا للصوم بما رواه أبوداود والبخاري في تاريخه (ج4:ص398) والبيهقي (ج4:ص262) من طريق عبدالرحمن بن النعمان بن معبد بن هوذة عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالأثمد المروح عند النوم وقال ليتقه الصائم. وأجيب عن هذا الحديث بأنه ضعيف. لا يصلح للإستدلال. قال أبوداود: قال لي يحيى بن معين هو حديث منكر - انتهى. وقال الأثرم: عن أحمد هذا حديث منكر - انتهى. وعبدالرحمن بن النعمان، قال ابن المديني فيه مجهول، وقال ابن معين: ضعيف. وقال أبوحاتم صدوق. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال في التقريب صدوق، وربما غلط وأبوالنعمان بن معبد ذكره ابن حبان في الثقات. وقال في التقريب: هو مجهول. وقال صاحب التنقيح هو كالمجهول. واستدلوا

(12/479)


أيضا بما علقه البخاري ووصله البيهقي والدارقطني وابن أبي شيبة من حديث ابن عباس بلفظ: الفطر مما دخل، والوضوء مما خرج، قالوا وإذا وجد طعمه فقد دخل وأجيب بأن هذا الحديث موقوف ثم المراد بالدخول دخول شيء بعينه من منفذ إلى جوف البطن أي المعدة لا وصول أثر شيء من المسامات إلى الباطن، ولذا لا يفطر تدهين الرأس وشم العطر، وليس للعين منفذ إلى جوف البطن، كذا قيل. واحتج لأبي حنيفة والشافعي ومن وافقهما على جواز الاكتحال للصائم بحديث الباب وهو حديث ضعيف كما ستعرف، لكن له شواهد يقوي بعضها بعضا وتصلح بمجموعها للإستدل، فمنها ما رواه ابن ماجه والبيهقي (ج4:ص262) عن عائشة قالت: اكتحل النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم، وفيه سعيد بن أبي سعيد عبدالجبار الزبيدي الحمصي وهو ضعيف. قاله الحافظ في التلخيص (ص189) وقال الزيلعي (ج2:ص456) قال في
رواه الترمذي، وقال: ليس إسناده بالقوى، وأبوعاتكة الراوي يضعف.
2031 - (13) وعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بالعرج يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحر)).

(12/480)


التنقيح: هو مجمع على ضعفه - انتهى. قال صاحب الإمام: ذكر الحافظ أبوبكر الخطيب سعيد بن أبي سعيد هذا فقال إسم أبيه عبدالجبار وكان ثقة وذكره ابن حبان في الثقات كذا في الجوهر النقي (ج1:ص253 و ج4:ص262) ومنها ما رواه ابن عدي في الكامل والبيهقي من طريقه (ج4:ص262) والطبراني في الكبير من طريق محمد بن عبيدالله بن أبي رافع عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكتحل وهو صائم. قال أبوحاتم: هذا حديث منكر. وقال في محمد أنه منكر الحديث وكذا قال البخاري، ورواه ابن حبان في الضعفاء من حديث ابن عمر. قال في التلخيص وسنده مقارب. ومنها ما روى عن بريرة مولاة عائشة قالت رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يكتحل بالأثمد وهو صائم أخرجه الطبراني في الأوسط. قال الهيثمي (ج3:ص167): فيه جماعة لم أعرفهم- انتهى. فهذه الأحاديث وإن كان لا يخلو واحد منها من كلام، لكنها يقوي بعضها بعضا. وتنتهض بمجموعها للاحتجاج على جواز الاكتحال للصائم، وليس في كراهته حديث صحيح أو حسن، فالراجح هو القول بالجواز من غير كراهة والله تعالى أعلم، (رواه الترمذي وقال ليس إسناده بالقوى) وقال ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب شيء. وقال في التنقيح حديث واه جدا وأشار البيهقي (ج4:ص262) إلى هذا الحديث فقال روى عن أنس بن مالك مرفوعا بإسناد ضعيف بمرة أنه لم ير به (أي بالكحل للصائم) بأسا (وأبوعاتكة الراوي يضعف) قال في التنقيح: هو مجمع على ضعفه وإسمه طريف بن سليمان ويقال سليمان بن طريف. قال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الرازي: ذاهب الحديث- انتهى. ورواه أبوداود من فعل أنس وسكت عنه هو والمنذري. وقال في التنقيح: إسناده مقارب وكذا قال الحافظ في التلخيص (ص189).

(12/481)


2031- قوله: (وعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) إبهام الصحابي والجهالة به لا تضر لأنهم كلهم عدول بالإتفاق (بالعرج) بفتح العين وسكون الراء المهملتين، وبالجيم موضع بين مكة والمدينة. وقيل: موضع بالمدينة. وقال ابن حجر: محل قريب من المدينة كذا في المرقاة. وقال في العون: قرية جامعة من أعمال الفرع على أيام من المدينة- انتهى. وقيل: على نحو ثلاث مراحل من المدينة (يصب) بصيغة المعلوم والمجهول (على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحر) أي ليتقوى به على صومه وليدفع به ألم الحر أو العطش. و"أو" للشك من الراوي، وفي رواية للبيهقي (ج4:ص263) من العطش أو قال من الحر أي قال هذا اللفظ
..........................................

(12/482)


أو ذاك. قال الباجي: هذا أصل في استعمال ما يتقوى به الصائم على صومه مما لا يقع به الفطر من التبرد بالماء والمضمضة به، لأن ذلك يعينه على الصوم ولا يقع به الفطر. وقال ابن الملك: هذا يدل على أن لا يكره للصائم أن يصب على رأسه الماء وأن ينغمس فيه وإن ظهرت برودته في باطنه. وقال الشوكاني: فيه دليل على أنه يجوز للصائم أن يكسر الحر يصب الماء على بعض بدنه أو كله. وقد ذهب إلى ذلك الجمهور ولم يفرقوا بين الاغتسال الواجبة والمسنونة والمباحة. وقالت الحنفية: يكره الاغتسال للصائم. واستدلوا بما أخرجه عبدالرزاق عن علي من النهى عن دخول الصائم الحمام وفي إسناده ضعف. كما قال الحافظ في الفتح - انتهى. وقال ابن الهمام: ولو اكتحل لم يفطر سواء وجد طعمه في حلقه. أو لا، لأن الموجود في حلقه أثره داخلا من المسام، والمفطر الداخل من المنافذ كالمدخل والمخرج، لا من المسام الذي هو جميع البدن للاتفاق فيمن شرع في الماء يجد برده في باطنه أنه لا يفطر. وإنما كره أبوحنيفة ذلك أعنى الدخول في الماء والتلفف بالثوب المبلول، لما فيه من إظهار الضجر في إقامة العبادة لا لأنه قريب من الافطار- انتهى. قال القاري: كلام الإمام أبي حنيفة محمول على كراهة التنزيه، وخلاف الأولى، وهو عليه السلام فعل ذلك لبيان الجواز- انتهى. قلت: الكراهة حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل من الكتاب أو السنة، ولم يقم دليل على كراهة الدخول في الماء أو التلفف بالثوب المبلول، بل ثبت خلافه فالقول بكراهته مردود على قائله. وقال الكاساني في البدائع: أما الاستنشاق والاغتسال وصب الماء على الرأس والتلفف بالثوب المبلول فقد قال أبوحنيفة أنه يكره. وقال أبويوسف: لا يكره، واحتج بما روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صب على رأسه ماء من شدة الحر وهو صائم وعن ابن عمر (عند البخاري في صحيحه معلقا وفي تاريخه موصولا وكذا عند ابن أبي شيبة) أنه كان يبل الثوب ويتلفف به وهو صائم

(12/483)


ولأنه ليس فيه إلا دفع أذى الحر فلا يكره كما لو استظل، ولأبي حنيفة إن فيه إظهار الضجر من العبادة والإمتناع عن تحمل مشقتها، وفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محمول على حال مخصوصة، وهي حال خوف الافطار من شدة الحر، وكذا فعل ابن عمر محمول على مثل هذه الحالة ولا كلام في هذه الحالة - انتهى. قلت: يحتاج هذا الحمل إلى قرينة وليس شيء هنا يدل على ذلك إلا قول أبي حنيفة بالكراهة مع أنها رواية عنه غير معتبرة، والفتوى عند الحنفية على قول أبي يوسف ففي الدر المختار لا تكره حجامة وتلفف بثوب مبتل، واستنشاق واغتسال للتبرد عند الثاني. وبه يفتي شرنبلالية عن البرهان. قال ابن عابدين لرواية أبي داود (يعني التي نحن في شرحها) ولفعل ابن عمر ولأن هذه الأشياء فيها عون على العبادة ودفع الضجر الطبيعي، وكذا حكى عليه الفتوى صاحب مراقى الفلاح وغيره. وقال العيني: كراهة الاغتسال للصائم رواية عن أبي حنيفة غير معتمد عليها، والمذهب المختار أنه لا يكره ذكره الحسن عن أبي حنيفة نبه عليه صاحب الواقعات، وذكر في الروضة وجوامع الفقة لا يكره الاغتسال وبل الثوب وصب الماء
رواه مالك، وأبوداود.
2032- (14) وعن شداد بن أوس، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى رجلا بالبقيع، وهو يحتجم، وهو آخذ بيدي لثماني عشرة خلت من رمضان، فقال: أفطر الحاجم والمحجوم)). رواه أبوداود، وابن ماجه، والدارمي.

(12/484)


على الرأس بالحر، ثم ذكر العيني حديث أبي داود هذا (رواه مالك) عن سمي مولى أبي بكر بن عبدالرحمن عن أبي بكر بن عبدالرحمن عن بعض أصحاب للنبي صلى الله عليه وسلم (وأبوداود) وأخرجه أحمد (ج3:ص475) والطحاوي (ج1:ص331) والحاكم (ج1:ص432) والبيهقي (ج4: ص246-363) كلهم من طريق مالك، وهو مختصر من حديث طويل عندهم. وقد سكت عنه أبوداود والمنذري. وقال الشوكاني: رجال إسناده رجال الصحيح. وقال العيني: رواه أبوداود بسند صحيح ورواه الحاكم من طريق محمد بن نعيم السعدي عن مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعرج يصب على رأسه الماء من الحر وهو صائم. قال الحاكم: هذا حديث له أصل في الموطأ، فإن كان محمد بن نعيم السعدي حفظه هكذا فإنه صحيح على شرط الشيخين، ثم روى حديث الباب من طريق مالك ووافقه الذهبي.

(12/485)


2032- قوله: (أتى رجلا) أي مر عليه وهكذا وقع في جميع الروايات بغير تسمية الرجل، ووقع عند أحمد (ج4:ص124) من طريق داود بن أبي هند عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن أبي أسماء الرحبي عن شداد ابن أوس قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي وأنا أحتجم في ثمان عشرة خلون من رمضان فقال أفطر الحاجم والمحجوم. (بالبقيع) أي بمقبرة المدينة وفي رواية لأحمد في بعض طرق المدينة (وهو) الرجل (يحتجم وهو) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (آخذ) بصيغة الفاعل (بيدي) إشارة إلى كمال قربه منه - صلى الله عليه وسلم - (لثماني عشر خلت) أي مضت (من رمضان) وهذا يدل على كمال حفظ الراوي وضبطه بذكر المكان والزمان وحاله (أفطر الحاجم والمحجوم) استدل بظاهر هذا الحديث من قال بحرمة الحجامة للصائم. وقد تقدم ذكرهم مع بسط الكلام في هذه المسألة (رواه أبوداود وابن ماجه والدارمي) وأخرجه أيضا أحمد (ج4: ص122-123-124-125) والنسائي في السنن الكبرى وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم (ج1: ص428-429) والطحاوي (ج1: ص349) والبيهقي (ج4:ص265-268) وقد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري: روى هذا الحديث بضع عشر صحابيا إلا أن أكثر الأحاديث ضعاف. وقال إسحاق بن راهويه: حديث شداد إسناده صحيح تقوم به الحجة، وذكر أبوداود بعد هذا حديث ثوبان من طريقين، الطريق المتقدم أجود منهما. وقال أحمد أحاديث أفطر الحاجم والمحجوم يشد بعضها
...................................

(12/486)


بعضا، وأنا أذهب إليها - انتهى. وقال الزيلعي (ج2:ص473) قال الحاكم: حديث شداد ظاهر الصحة، وصححه أحمد وابن المديني وإسحاق بن راهويه واستقصى النسائي طرقه. والاختلاف فيه في سننه الكبرى. وقد روى مسلم في صحيحه بهذا الإسناد (أي من طريق أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد) حديث إن الله كتب الإحسان على كل شيء ونقل الحاكم في المستدرك (ج1:ص428) عن ابن راهويه أنه قال إسناده صحيح تقوم به الحجة- انتهى كلام الزيلعي. قلت: وصححه أيضا البخاري وابن خزيمة وابن حبان وعثمان الدارمي كما قال الحافظ في الفتح، وعقد البيهقي في السنن الكبرى (ج4:ص266) بابا ذكر فيه بعض ما بلغه عن حفاظ الحديث في تصحيح حديث أفطر الحاجم والمحجوم. وقد رواه أئمة الحديث عن ثمانية عشر من الصحابة. وقال السيوطي في الجامع الصغير: إنه متواتر، وكذا حكاه صاحب التنقيح عن بعض الحفاظ كما في نصب الراية (ج2:ص472) قال وليس ما قاله ببعيد ومن أراد ذلك فلينظر مسند أحمد ومعجم الطبراني والسنن الكبير للنسائي قال. وقال إسحاق بن راهويه: هو ثابت من خمسة أوجه - انتهى كلامه. وقد ذكر الزيلعي (ج2:ص472-473-474-475-476-477) هذه الأحاديث مع الكلام عليها، وذكرها أيضا العيني في شرح البخاري (ج11:ص37-38-39) وذكر شيئا منها الحافظ في التلخيص (ص190) من شاء الوقوف عليها فليرجع إلى هذه الكتب. قلت: وحديث شداد بن أوس وإن صححه الأئمة لكن في سنده ومتنه إضطراب شديد، ولم أر أحدا إلتفت إلى رفعه. وأما ما حكاه الترمذي في العلل عن البخاري والحاكم (ج1:ص429) والبيهقي (ج4:ص267) عن علي بن المديني من وجه الجمع لرفع الإضطراب، فهو مما لا يتعلق بالاختلاف الذي سنذكره كما لا يخفى على من تأمل في طرق هذا الحديث، ثم في كلام البخاري وابن المديني. فأما الإضطراب في سنده على ما وقفت عليه فهو أنه اختلف أصحاب أبي قلابة عليه. فقال أيوب في رواية معمر عنه عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن أبي

(12/487)


أسماء عن شداد وهي عند أحمد (ج4:ص123) وهكذا قال عاصم الأحول في رواية يزيد بن هارون عنه عن أبي قلابة عند أحمد أيضا (ج4:ص123) والدارمي والبيهقي (ج4:ص265) وفي رواية سعيد بن أبي عروبة عنه عن أبي قلابة عند أحمد (ج4:ص124) وكذا قال داود بن أبي هند عن أبي قلابة وهذه أيضا عند أحمد (ج4:ص124) وقال أيوب في رواية حماد بن زيد ووهيب عنه عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد، ورواية حماد عند أحمد (ج4:ص124) ورواية وهيب عند أبي داود والحاكم (ج1:ص428) والبيهقي (ج4:ص265) وهكذا قال خالد الخداء عن أبي قلابة عند أحمد (ج4:ص122) والبيهقي (ج4:ص268) وخالد ومنصور جميعا عند الطحاوي (ج1:ص349) وقد وافق الثلاثة أي أيوب وخالدا ومنصورا على ذلك
قال الشيخ الإمام محي السنة رحمة الله عليه: وتأوله بعض من رخص في الحجامة، أي تعرضا للإفطار المحجوم للضعف، والحاجم، لأنه لا يأمن من أن يصل شيء إلى جوفه بمص الملازم.
2033- (15) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أفطر يوما من رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يقض عنه صوم الدهر كله وإن صامه)).

(12/488)


عاصم الأحول في رواية شعبة عنه عن أبي قلابة عند أحمد (ج4:ص124) والحاكم (ج1:ص429) وفي رواية أبي سفيان عنه عند الحاكم (ج1:ص428-429) والطحاوي (ج1:ص349) وقال أيوب أيضا في رواية إسماعيل عنه عن أبي قلابة عمن حدثه عن شداد وهذه عند أحمد (ج4:ص125) وقال قتادة عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن شداد وهي عند أحمد أيضا (ج4:ص124) وقال يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة أنه أخبره إن شداد بينما هو يمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه عند أبي داود وابن ماجه. وأما الاضطراب في متنه ففي أكثر الروايات إن شدادا كان يمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمر على رجل يحتجم، وفي رواية داود بن أبي هند عن أبي قلابة عند أحمد (ج4:ص124) أنه قال مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي وأنا أحتجم في ثمان عشرة - الحديث. وفي رواية للحاكم في سبع عشرة (قال الشيخ الإمام محي السنة) أي صاحب المصابيح وشرح السنة (رحمة الله عليه) قال القاري: وفي نسخة صحيحة رحمه الله (وتأوله) أي هذه الحديث (بعض من رخص في الحجامة) للصائم وهم الجمهور فبعضهم قالوا (أي تعرضا للإفطار) كما يقال هلك فلان أي تعرض للهلاك (المحجوم للضعف) أي لحصول الضعف له بالحجامة فيحمله على الفطر (والحاجم لأنه لا يأمن من أن يصل شيء) أي من الدم (إلى جوفه بمص الملازم) بإضافة المصدر إلى مفعولة وهو بفتح الميم جمع الملزمة بكسر الميم قارورة الحجام التي يجتمع فيها الدم، وسميت بذلك لأنها تلزم على المحل وتقبضه. وقد ذكرنا مثل هذا التأويل عن الخطابي مع ما فيه من الخدشة، وذكرنا أيضا وجوها آخر في تأويل هذا الحديث.

(12/489)


2033- قوله: (من أفطر يوما من رمضان) أطلق الإفطار وهو لا يخلو إما أن يكون بجماع أو غيره ناسيا أو عامدا لكن المراد منه الإفطار بالأكل أو الشرب عامدا، وأما ناسيا أو بالجماع فقد تقدم ذكرهما (من غير رخصة) كسفر (ولا مرض) أي مبيح للإفطار من عطف الخاص على العام لأن المرض داخل في الرخصة (لم يقض عنه) أي عن ثواب ذلك اليوم وفضله وبركته (صوم الدهر كله) أي صومه فيه فالإضافة فيه بمعنى في نحو مكر الليل وكله للتأكيد (وإن صامه) أي ولو صام الدهر كله. قال المظهر: أي لم يجد فضيلة الصوم
.......................

(12/490)


المفروض بصوم النافلة، وليس معناه لو صام الدهر بنية قضاء يوم من رمضان لا يسقط عنه قضاء ذلك اليوم بل يجزيه قضاء يوم بدلا من يوم. وقال الطيبي: هو من باب التشديد والتغليظ ولذا أكده بقوله وإن صامه، أي وإن صامه حق الصيام ولم يقصر فيه وبذل جهده وطاقته. وزاد في المبالغة حيث أسند القضاء إلى الصوم إسنادا مجازيا، وأضاف الصوم إلى الدهر أجزاء للظرف مجرى المفعول به إذ الأصل لم يقض هو في الدهر كله إذا صامه وقال ابن المنير: يعني إن القضاء لا يقوم مقام الأداء ولو صام عوض اليوم دهرا ويقال بموجبه، فإن الإثم لا يسقط بالقضاء ولا سبيل إلى اشتراك القضاء والأداء في كمال الفضيلة فقوله لم يقضه صيام الدهر أي في وصفه الخاص به وهو الكمال، وإن كان يقضى عنه وصفه العام المنحط عن كمال الأداء هذا هو اللائق بمعنى الحديث ولا يحمل على نفي القضاء بالكلية ولا نعهد عبادة واجبة مؤقتة لا تقبل القضاء إلا الجمعة، لأنها لا تجتمع بشروطها إلا في يومها وقد فات، أو في مثله. وقد اشتعلت بالحاضرة فلا تسع الماضية - انتهى. قال الحافظ: ولا يخفى تكلفة وسياق أثر ابن مسعود الآتي يرد هذا التأويل- انتهى. وفي رواية ابن ماجه لم يجزه صيام الدهر. قال السندي: أي لم يكف عنه، ولا يكون مثلا له من كل وجه البقاء إثم التعمد ولا يحصل به فضيلة صوم يوم رمضان ولا يلزم منه عند الجمهور إنه لا قضاء عليه - انتهى. قلت: ظاهر الحديث يقوي قول من ذهب إلى عدم القضاء في الفطر بالأكل بل يبقى ذلك في ذمته زيادة في عقوبته لأن مشروعية القضاء تقتضي رفع الإثم، وبه قال ابن مسعود وعلي. وروى نحوه عن أبي هريرة كما سيأتي وإليه ذهب ابن حزم. قال ابن حجر: وما اقتضاه ظاهره أن صوم الدهر كله بنية القضاء عما أفطره من رمضان لا يجزئه قال به علي وابن مسعود، والذي عليه أكثر العلماء إنه يجزئه يوم بدل يوم، وإن كان ما أفطره في غاية الطول والحر وما صامه بدله في غاية القصر والبرد

(12/491)


- انتهى. وذكر البخاري حديث أبي هريرة هذا تعليقا غير مجزوم فقال: ويذكر عن أبي هريرة رفعه من أفطر يوما في رمضان من غير عذر ولا مرض لم يقضه صيام الدهر وإن صامه وبه قال ابن مسعود. وقال سعيد بن المسيب والشعبي وابن جبير وإبراهيم وقتادة وحماد: يقتضى يوما مكانه - انتهى. قلت: أثر ابن مسعود وصله البيهقي (ج4:ص228) من طريق منصور عن واصل عن المغيرة بن عبدالله اليشكري. قال: حدثت أن عبدالله بن مسعود قال من أفطر يوما من رمضان من غير علة لم يجزه صيام الدهر، حتى يلقى الله عزوجل، فإن شاء غفر له وإن شاء عذبه، والمغيرة هذا من ثقات التابعين، ولكنه منقطع. فإنه قال حدثت عنه، ووصله عبدالرزاق وابن أبي شيبة من وجه آخر عن واصل عن المغيرة عن فلان بن الحارث عن بن مسعود، ووصله الطبراني والبيهقي أيضا من طريق عبدالملك عن أبي المغيرة الثقفي عن عرفجة قال: قال عبدالله بن مسعود من أفطر يوما في رمضان متعمدا من غير علة، ثم قضى طول الدهر لم يقبل منه. وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي معاوية عن عمر بن يعلى الثقفي عن عرفجة عن علي مثله
رواه أحمد: والترمذي، وأبوداود، وابن ماجه، والدارمي، والبخاري في ترجمة باب. وقال الترمذي: سمعت محمدا – يعني البخاري – يقول: أبوالمطوس الراوي لا أعرف له غير هذا الحديث.

(12/492)


قال البيهقي: عبدالملك هذا أظنه ابن حسين النخعي ليس بالقوى. قلت: بل هو متروك، وعن عمر بن يعلى هو عمر بن عبدالله بن يعلى الثقفي وهو أيضا ضعيف متروك. (رواه أحمد) (والترمذي) واللفظ له (وأبوداود وابن ماجه والدارمي) وأخرجه أيضا النسائي في السنن الكبرى وأبوداود الطيالسي (ص331) وابن خزيمة في صحيحه والبيهقي (ج4 ص228) والدارقطني (ص252) وابن حزم (ج6 ص182- 183) كلهم من رواية ابن المطوس. وقيل: أبي المطوس عن أبيه عن أبي هريرة (والبخاري) أي تعليقا بصيغة التمريض كما عرفت (في ترجمة باب) أي في تفسيره كما يقال باب الصلاة الصوم ذكره الطيبي كذا في المرقاة، والمراد أنه لم يورده. مسندا بطريق التحديث، والرواية كما يورد الأحاديث المسندة في الأصول المترجمة لها بل جعله مترجما به. قال الترمذي: حديث أبي هريرة لا نعرفه إلا من هذا الوجه. قال العراقي: يريد الحديث المرفوع، ومع هذا فقد روى مرفوعا من غير طريق أبي المطوس رواه الدارقطني (ص252) من طريق عمار بن مطر عن قيس عن عمرو ابن مرة عن عبدالله بن الحارث عن عبدالله بن مالك عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أفطر يوما من رمضان من غير مرض ولا رخصة لم يقض عنه صيام وإن صام الدهر كله. قلت عمار بن مطر هالك. قال أبوحاتم الرازي: كان يكذب. وقال ابن عدي: أحاديثه بواطيل. وقال الدارقطني: ضعيف، ووثقه بعضهم كذا في اللسان (ج4 ص275- 276) وقد روى موقوفا على أبي هريرة من غير طريق أبي المطوس رواه النسائي من طريق العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مثله موقوفا من قوله (وقال الترمذي سمعت محمدا يعني البخاري يقول أبوالمطوس) بتشديد الواو المكسورة كذا ضبطه في التقريب والخلاصة. وقال الذهبي والعيني والقسطلاني: بتشديد الواو المفتوحة وهو من أفراد الكنى ويقال ابن المطوس وكل صحيح فهو أبوالمطوس وأبوه اسمه المطوس أيضا. قال الحافظ في تهذيبه (ج12 ص239)

(12/493)


وقال يزيد بن أبي أنيسة عن حبيب عن أبي المطوس عن المطوس عن أبي هريرة، فعلى هذا من قال أبوالمطوس أو ابن المطوس فقد أصاب - انتهى. وقد اختلف في اسم أبي المطوس: فقال البخاري وابن حبان: اسمه يزيد. وقال يحيى بن معين: اسمه عبدالله. وقال أبوحاتم وأبوداود: لا يسمى. وقد اختلف فيه، فقال ابن معين: ثقة. وقال أحمد: لا أعرفه، ولا أعرف حديثه عن غيره. وقال الذهبي في الميزان: ضعف، قال ولا يعرف هو ولا أبوه. وقال في التقريب: إنه لين الحديث وقال ابن حبان: يروي عن أبيه ما لا يتابع عليه لا يجوز الاحتجاج بأفراده - انتهى. قال الحافظ في تهذيبه: إذا لم يكن له إلا هذا الحديث فلا معنى لهذا الكلام (لا أعرف له غير هذا الحديث) وقال البخاري في التاريخ
2034-(16) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كم من صائم ليس له من صيامه إلا الظمأ. وكم من قائم، ليس من قيامه إلا السهر)). رواه الدارمي، وذكر
أيضا، تفرد أبوالمطوس بهذا الحديث ولا أدري سمع أبوه من أبي هريرة أم لا- انتهى. قلت: أبوه المطوس ذكره ابن حبان في الثقات. وقال أحمد: لا أعرف المطوس ولا ابن المطوس، وتقدم قول الذهبي لا يعرف هو (أي أبوالمطوس) ولا أبوه. وقال في التقريب: مجهول. وقال ابن عبدالبر: حديث ضعيف، لا يحتج به، وضعفه أيضا ابن حزم. وقال لا نعتمد عليه، لأن أباالمطوس غير مشهور بالعدالة. وقد نقل الحافظ في الفتح عن ابن خزيمة تصحيحه، ثم ذكر كلام البخاري المتقدم ثم قال: واختلف فيه على حبيب بن أبي ثابت اختلافا كثيرا فحصلت فيه ثلاث علل، الاضطراب، والجهل بحال أبي المطوس، والشك في سماع أبيه من أبي هريرة، وهذه الثالثة تختص بطريقة البخاري في اشتراط اللقاء - انتهى. قلت: ومثل هذا الحديث لا يكفى مع انفراده للاحتجاج به، ويحمل إن ثبت على التشديد والتغليظ كما سبق والله تعالى أعلم.

(12/494)


2034- قوله: (كم من صائم ليس له) أي حاصل أو حظ (من صيامه) أي من أجله (إلا الظمأ) بالرفع أي العطش ونحوه من الجوع يعني ليس لصومه قبول عند الله فلا ثواب له، نعم سقوط التكليف عن الذمة حاصل عند العلماء (وكم من قائم) أي في الليل (ليس له من قيامه) إلا أثر (إلا السهر) بفتحتين أي ونحوه من تعب الرجل وصفار الوجه وضعف البدن، يعني أنه لا ثواب له لفقد شرط حصوله من نحو إخلاص أو خشوع. قال الطيبي: إن الصائم إذا لم يكن محتسبا أو لم يكن مجتنبا عن الفواحش من الزور والبهتان والغيبة ونحوها من المناهي، فلا حاصل له إلا الجوع والعطش، وإن سقط القضاء، وكذا جميع العبادات إذا لم تكن خالصة، بل رياء وسمعة فإنها تسقط القضاء ولا يترتب عليها الثواب. (رواه الدارمي) في الرقاق من طريق عبدالرحمن بن أبي الزناد عن عمرو بن أبي عمر وميسرة عن سعيد المقبري عن أبي هريرة وهذا إسناد جيد. وأخرجه أيضا أحمد (ج2 ص373و 441) والنسائي في السنن الكبرى وابن خزيمة في صحيحه كما في الترغيب، والبغوي في شرح السنة كما في التنقيح وابن ماجه، ولفظه رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر. ونقل السندي عن البوصيري أنه قال في الزوائد إسناده ضعيف. وقال العزيزي في شرح الجامع الصغير: هو حديث حسن. ورواه الحاكم (ج1 ص431) ولفظه رب صائم حظة من الصيام الجوع، ورب قائم حظه من قيامه السهر قال الحاكم: حديث صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي. ورواه البيهقي (ج4 ص270) ولفظه رب قائم حظه من قيامه السهر، ورب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورواه الطبراني في الكبير عن ابن عمر. قال الهيثمي (ج3 ص202): رجاله موثقون. وقال المنذري: إسناده لا بأس به (وذكر) بصيغة
حديث لقيط بن صبرة في باب سنن الوضوء.
?الفصل الثالث?
2035- (17) عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث لا يفطرن الصائم: الحجامة، والقيء،

(12/495)


المجهول (حديث لقيط بن صبرة) بفتح الصاد وكسر الموحدة (في باب السنن الوضوء) والحديث قوله بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما، وهذا اعتراض من صاحب المشكاة على صاحب المصابيح، وهو في محله كما لا يخفى، لأن إيراد الحديث في الباب الموضوع للحكم السابق منه أولى، كذا قال القاري. واختلف في المضمضة والاستنشاق إذا غلبه الماء، فدخل حلقه عن غير تعمد. فقال أبوحنيفة: إن كان ذاكرا لصومه فقد أفطر وعليه القضاء، وإن كان ناسيا فلا شيء عليه وهو قول إبراهيم. وقال مالك: عليه القضاء في كل ذلك. وقال ابن أبي ليلى: لا قضاء عليه ذاكرا كان أو غير ذاكر. وروى عن الشعبي وحماد والحسن بن حي إن كان ذلك في وضوء لصلاة فلا شيء عليه، وإن كان لغير وضوء فعليه القضاء، كذا في المحلى. وقال الشوكاني: يكره للصائم المبالغة في المضمضة والاستنشاق لحديث لقيط بن صبرة واختلف إذا دخل من ماء المضمضة والاستنشاق إلى جوفه خطأ. فقالت الحنفية ومالك والشافعي: في أحد قوليه، والمزني أنه يفسد الصوم. وقال أحمد وإسحاق والأوزاعي وأصحاب الشافعي: إنه لا يفسد الصوم كالناسي. وقيل: يفسد الصوم بعد الثلاث المرات. وقيل: يفسد إذا كان التمضمض لغير قربة. وقيل: يفسد إن لم يكن لفريضة- انتهى. وقال ابن قدامة (ج3 ص108): ولنا أي لأحمد ومن وافقه أنه وصل إلى حلقة من غير إسراف ولا قصد، فأشبه ما لو طارت ذبابة إلى حلقة، وبهذا فارق المتعمد فأما إن أسرف فزاد على الثلاث أو بالغ في الاستنشاق فقد فعل مكروها لحديث لقيط بن صبرة، ولأنه يتعرض بذلك لإيصال المال إلى حلقه، فإن وصل إلى حلقه فقال أحمد يعجبني أن يعيد الصوم، وهل يفطر بذلك؟ على وجهين أحدهما، يفطر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المبالغة حفظا للصوم، فدل ذلك على أنه يفطر به، ولأنه وصل بفعل منهي عنه فأشبهه التعمد. والثاني لا يفطر به لأنه وصل من غير قصد فأشبه غبار الدقيق إذا نخله - انتهى. قلت: الراجح

(12/496)


عندي هو الوجه الأول فيجب عليه القضاء والله تعالى أعلم.
2035- قوله: (عن أبي سعيد) أي الخدري (ثلاث) أي خصال (لا يفطرن) بتشديد الطاء (الصائم) بالنصب على المفعولية (الحجامة) بكسر الحاء أي الاحتجام وقد عرفت الخلاف في ذلك فيما سبق من الكلام (والقيء) أي إذا ذرعه لما تقدم في الحديث. قال البيهقي في المعرفة: هو محمول على ما لو ذرعه القيء جمعا بين
والاحتلام)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غير محفوظ، وعبدالرحمن بن زيد الراوي يضعف في الحديث.

(12/497)


الأخبار (والاحتلام) أي ولو تذكر الجماع ورأى المني، لأنه وإن كان في معنى الجماع. لكن حيث إنه ليس باختياره لا يضره بالإجماع، فمن احتلم في منامه نهارا في رمضان فأنزل فلا فطر ولا قضاء (رواه الترمذي) وكذا البيهقي في المعرفة وفي السنن (ج4 ص264) وابن حبان في الضعفاء كلهم من رواية عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري (وقال: هذا حديث غير محفوظ) وقال: أيضا قد رواه عبدالله بن زيد بن أسلم وعبدالعزيز بن محمد الدراوردي، وغير واحد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مرسلا. ولم يذكروا فيه عن أبي سعيد. قلت: رواه مرسلا ابن أبي شيبة من طريق يحيى بن سعيد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (وعبدالرحمن بن زيد) بن أسلم (يضعف في الحديث) وقال الترمذي أيضا: سمعت محمدا يذكر عن علي بن المديني. قال: عبدالله بن زيد بن أسلم ثقة. وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف. قال محمد: ولا أروى عنه شيئا - انتهى. وقال البيهقي في السنن (ج4 ص264): هكذا رواه عبدالرحمن بن زيد وليس بالقوى. وقال في (ج4 ص220) عبدالرحمن ضعيف. وقال في المعرفة: عبدالرحمن ضعيف في الحديث، لا يحتج بما يتفرد به وقال ابن حبان: عبدالرحمن كان يقلب الأخبار، وهو لا يعلم حتى كثر ذلك في روايته من رفع الموقوفات وإسناد المرسلات، فاستحق الترك - انتهى. ورواه البزار من طريق أسامة بن زيد بن أسلم عن أبيه به مسندا موصولا. قال البزار: هذا الحديث إنما يعرف عن عبدالرحمن بن زيد عن أبيه وعبدالرحمن ضعيف جدا فذكرناه عن أخيه أسامة لأنه أحد الأخوة (الذين حدثوا بهذا الحديث) وهم عبدالله وعبدالرحمن وأسامة - انتهى. قلت: وأسامة هذا ضعيف من قبل حفظه، وسأل ابن أبي حاتم أباه وأبازرعة عن حديث أبي سعيد رواه عبدالرحمن وأسامة إبنا زيد عن أبيهما موصولا فقالا هذا خطأ ورواه الدارقطني في سننه (ص239) من طريق هشام بن سعد عن

(12/498)


زيد بن أسلم عن عطاء به موصولا، وهشام صدوق، وقد تكلموا في حفظه. وقد قال الدارقطني في العلل: إنه لا يصح عن هشام بن سعد كذا في التلخيص (ص190) وقال الزيلعي (ج2 ص447) وهشام بن سعد وإن تكلم فيه غير واحد فقد احتج به مسلم، واستشهد به البخاري، ورواه ابن عدي في الكامل وأسند تضعيف هشام بن سعد عن النسائي وأحمد وابن معين ولينه هو، وقال ومع ضعفه يكتب حديثه - وقال عبدالحق في أحكامه: هشام بن سعد يكتب حديثه ولا يحتج به - انتهى. قال الدارقطني ورواه كامل بن طلحة عن مالك عن زيد موصولا، ثم رجع عنه وليس هو من حديث مالك ورواه أبوداود من حديث الثوري
2036-(18) وعن ثابت البناني، قال: ((سأل أنس بن مالك، كنتم تكرهون الحجامة للصائم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، إلا من أجل الضعف)).
عن زيد بن أسلم عن رجل من أصحابه عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يفطر من قاء ولا من احتجم ولا من احتلم، ورجحه أبوحاتم وأبوزرعة. وقالا: أنه أصح وأشبه بالصواب وتبعهما البيهقي، ثم قال هو محمول إن صح على من ذرعه القيء، وصوب أيضا الدارقطني رواية الثوري كما في نصب الراية (ج2 ص448) والتلخيص (ص190) وقال صاحب التنقيح: المحفوظ فيه ما رواه أبوداود. وقال المنذري: هذا لا يثبت أي لأن في سنده رجلا لا يعرف. وقد روى من وجه آخر ولا يثبت أيضا. وفي الباب عن ابن عباس أخرجه البزار وابن عدي من حديث هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس. قال الحافظ في التلخيص (ص190) هو حديث معلول. وقال الهيثمي (ج3 ص170): رواه البزار بإسنادين، وصحح أحدهما وظاهرة الصحة - انتهى. وفي الباب أيضا عن ثوبان أخرجه الطبراني في الأوسط. قال الحافظ في التلخيص: بسند ضعيف في ترجمة محمد بن الحسن بن قتيبة. وقال الهيثمي: إسناده ضعيف.

(12/499)


2036- قوله: (وعن ثابت البناني) بضم الموحدة وخفة النون الأولى وكسر الثانية، نسبة إلى بنانة بضم الباء ونونين مخفيفين، وهي إسم أم سعد بن لوى، وثابت هذا هو ثابت بن أسلم أبومحمد البصري ثقة تابعي مشهور من أعبد أهل البصرة وأعلامها، حكى عنه أنه قال صحبت أنس بن مالك أربعين سنة، مات سنة (127) وقيل سنة (123) (قال سأل أنس بن مالك) السائل هو ثابت نفسه يدل عليه رواية الإسماعيلي وأبي نعيم والبيهقي (ج4 ص264) من طريق جعفر بن محمد القلانسي وأبي قرصافة محمد بن عبدالوهاب وإبراهيم بن الحسين بن دريد كلهم عن آدم بن أبي إياس شيخ البخاري فيه فقال عن شعبة عن حميد. قال: سمعت ثابتا وهو يسأل عن أنس بن مالك فذكر الحديث (كنتم) كذا في جميع النسخ الحاضرة وهكذا وقع في جامع الأصول (ج7 ص192) ووقع في البخاري أكنتم (على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ذكره تأكيدا لرفعه وهذا اللفظ أورده البخاري تعليقا، فقال بعد رواية الحديث عن آدم بن أبي إياس عن شعبة، وزاد شبابة ثنا شعبة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ والعيني: وهذه الزيادة أخرجها ابن منده في غرائب شعبة (قال لا) أي ما كنا نكرهها (إلا من أجل الضعف) أي لأن بدن المحجوم وحينئذ فيندب تركها كالفصد ونحوه تحرزا عن أضعاف البدن، ويؤيده ما رواه البيهقي (ج4 ص264) بسنده عن أبي سعيد قال: إنما كرهت الحجامة للصائم مخافة الضعف، وما رواه عبدالرزاق وأبوداود من طريق عبدالرحمن بن عابس عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن رجل من أصحاب
رواه البخاري.
2037-(19) وعن البخاري تعليقا، قال: ((كان ابن عمر يحتجم وهو صائم ثم تركه فكان يحتجم بالليل)).

(12/500)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحجامة للصائم وعن المواصلة ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه إسناده صحيح، وقوله إبقاء على أصحابه يتعلق بقوله نهى. وقد رواه ابن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري بإسناده هذا ولفظه عن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - قالوا: إنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحجامة للصائم وكرهها للضعيف أي لئلا يضعف كذا في الفتح (رواه البخاري) عن آدم بن أبي أياس عن شعبة قال: سمعت ثابتا البناني قال سأل أنس بن مالك. قال الحافظ كذا في أكثر أصول البخاري: سأل بضم أوله على البناء للمجهول. وفي رواية أبي الوقت سمعت ثابتا البناني يسأل أنس بن مالك وهذا غلط، فإن شعبة ما حضر سؤال ثابت لأنس. وقد سقط منه رجل بين شعبة وثابت كما يدل عليه رواية الإسماعيلي وأبي نعيم والبيهقي على ما تقدمت قال: وأشار الإسماعيلي والبيهقي إلى أن الرواية التي وقعت للبخاري خطأ وأنه سقط منه حميد قال الإسماعيلي: وكذلك رواه علي بن سهل عن أبي النضر عن شعبة عن حميد. قال الحافظ: والخلل فيه من غير البخاري وبين وجه ذلك. قال القاري: والحديث موقوف لكنه في حكم المرفوع كما هو في الأصول على أن هذه الصيغة ظاهرة في إجماع الصحابة وهو لا يكون إلا عن سند فيكون حجة لما ذهب إليه أكثر العلماء على ما تقدم - انتهى. وحديث أنس هذا رواه أبوداود بلفظ: قال ما كنا ندع الحجامة للصائم إلا كراهية الجهد.

(13/1)


2037- قوله: (وعن البخاري تعليقا قال كان ابن عمر يحتجم وهو صائم) لما يرى من جوازه (ثم تركه) أي الاحتجام صائما إحتياطا وكان من الورع بمكان أو تركه خوفا من الضعف (فكان يحتجم بالليل) قال الباجي: يريد أنه لما كبر وضعف كان يخاف على نفسه أن يفطر بالضعف من الحجامة ولذا يكره لكل من خاف الضعف على نفسه أن يحتجم حتى يفطر، لأن الحجامة ربما أدته إلى فساد صومه - انتهى. وهذا التعليق وصله مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه كان يحتجم وهو صائم. قال ثم ترك ذلك بعد فكان إذا صام لم يحتجم حتى يفطر قال الحافظ: ورويناه في نسخة أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس عن الزهري كان ابن عمر يحتجم وهو صائم في رمضان وغيره، ثم تركه لأجل الضعف هكذا وجدته منقطعا، ووصله عبدالرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه وكان ابن عمر كثير الإحتياط فكأنه ترك الحجامة نهارا لذلك - انتهى. قلت وروى البيهقي (ج4 ص269) من طريق أبي اليمان عن شعيب. قال: قال نافع: كان ابن عمر يحتجم وهو صائم ثم تركه بعد فكان
2038-(20) وعن عطاء، قال: ((إن مضمض ثم أفرغ ما في فيه من الماء، لا يضيره أن يزدرد ريقه وما بقي في فيه،
يحتجم بالليل فلا أدري عن شيء ذكره أو شيء سمعه. وروى ابن أبي شيبة من طريق يزيد عن عبدالله عن نافع وقال في آخره فلا أدري لأي شيء تركه كرهه أو للضعف. وهذا التعليق أورده البخاري في باب الحجامة والقيء للصائم وكان حق إيراده ههنا على ما اصطلح عليه المصنف أن يقول أولا، وعن ابن عمر أنه كان يحتجم الخ، ثم يقول أورده أو ذكره البخاري تعليقا وأما على صنيع المصنف فيكون المعنى، رواه البخاري عن البخاري تعليقا ولا يخفى ما فيه.

(13/2)


2038- قوله: (وعن عطاء) هو ابن أبي رباح (إن مضمض) أي الصائم وفي بعض نسخ البخاري تمضمض (ثم أفرغ ما في فيه) أي صب جميع ما في فمه (من الماء) بيان لما الموصولة (لا يضيره) بمثناة تحتية بعد الضاد المعجمة المكسورة من ضاره يضيره ضيرا بمعنى ضره، وهذا رواية المستملي. وفي رواية غيره لا يضره من ضره بالتشديد أي لا يضر صومه (أن يزدرد ريقه) أي يبتلعه (وما بقي في فيه) أي فمه وكلمة "ما" موصولة عطف على "ريقه" قال ابن بطال: ظاهره إباحة إلإزدراد لما بقي في الفم من ماء المضمضة، وليس كذلك. لأن عبدالرزاق رواه بلفظ: وماذا بقي في فيه وكأن ذا سقطت من رواية البخاري - انتهى. قلت: وقع في نسختي القسطلاني والعيني وماذا بقي في فيه. قال القسطلاني: أي وأي شيء بقي في فمه بعد أن يمج الماء إلا أثر الماء فإذا بلغ ريقه لم يضره، ولأبي ذر وابن عساكر كما في الفرع وما بقي، فأسقط لفظة "ذا" وحينئذ "فما" موصولة. ثم ذكر كلام ابن بطال ثم قال ولعله لم يقف على الرواية المثبتة لها - انتهى. قال الحافظ: هذا التعليق وصله سعيد ابن منصور عن ابن المبارك عن ابن جريج. قلت: لعطاء الصائم يمضمض ثم يزدرد ريقه وهو صائم قال لا يضره وماذا بقي في فيه، وكذا أخرجه عبدالرزاق عن ابن جريج. ووقع في أصل البخاري وما بقي في فيه ثم ذكر الحافظ كلام ابن بطال المتقدم، ثم قال وما على ما أورده البخاري موصولة، وعلى ما وقع من رواية ابن جريج استفهامية، وكأنه قال وأي شيء يبقى في فيه بعد أن يمج الماء إلا أثر الماء فإذا بلغ ريقه لا يضره - انتهى. وقيل: يجوز أن تكون كلمة "ما" على ما في أصل البخاري أيضا استفهامية، استفهام إنكار، وإن لم يكن معها "ذا" ويتم المعنى كما لا يخفى. وقيل: "ما" نافية والجملة حالية. قال ابن قدامة: ومالا يمكن التحرز منه كابتلاع الريق لا يفطره لأن اتقاء ذلك يشق فأشبه غبار الطريق وغربلة الدقيق فإن جمعه ثم ابتلعه قصدا لم يفطره. وقال ابن

(13/3)


الهمام وغيره من علماء الحنفية: لا يضر الصائم إن دخل غبار أو دخان أو ذباب حلقه لأنه لا يمكن الاحتراز عن
ولا يمضغ العلك، فإن ازدرد ريق العلك لا أقول: إنه يفطر، ولكن ينهى عنه)). رواه البخاري في ترجمة باب.
هذه الأشياء كما لا يمكن الاحتراز عن البلل الباقي في المضمضة كذا في المرقاة: (ولا يمضغ) أي لا يلوك الصائم يقال مضغ الطعام يمضغه بفتح الضاد وضمها أي لاكه بلسانه أو سنه و"لا" نافية أو ناهية (العلك) بكسر المهملة وسكون اللام بعدها كاف كل ما يمضغ ويبقى في الفم كالمصطكى. قال القاري: العلك صمغ الصنوبر والأرزة والفستق والسرد والينبوت والبطم وهو أجودها مسخن مدر باهي، وفي نسخة ويمضغ بحذف كلمة لا - انتهى. قلت: كذا وقع في رواية المستملى بإسقاط كلمة لا، ورواية الأكثرين لا يمضغ بإثبات كلمة لا، وهي أولى وكذلك أخرجه عبدالرزاق عن ابن جريج قلت: لعطاء يمضغ الصائم قال لا، قلت أنه يمج ريق العلك ولا يزدرده ولا يمصه قال نعم، قلت له أيتسوك الصائم قال نعم، قلت أيزدرد ريقه؟ قال لا، قلت ففعل أيضره قال لا: ولكن ينهي عن ذلك (فإن ازدرد ريق العلك) قال ابن حجر: يصح هنا كسر العين وفتحها أي الريق المتولد من العلوك أو من مضغه (لا أقول أنه يفطر) بالتشديد فالضمير راجع إلى الإزدراد وفي نسخة بالتخفيف فالضمير إلى الصائم. قال ابن حجر: وإنما لم يفطر لأنه لم ينزل إلى الجوف عين أجنبية. وإنما النازل إليه محض الريق لا غير (ولكن ينهى) نهي تنزيه (عنه) أي عن الإزداراد. قال ابن المنذر: رخص في مضغ العلك أكثر العلماء إن كان لا يتحلب منه شيء فإن تحلب منه شيء فازدراد فالجمهور على أنه يفطر - انتهى. قال الحافظ: والعلك كل ما يمضغ ويبقى في الفم كالمصطكى واللبان، فإن كان يتحلب منه شيء في الفم فيدخل الجوف فهو مفطر، وإلا فهو مجفف ومعطش فيكره من هذه الحيثية - انتهى. قلت: وكرهه الشافعي من هذه الجهة وكرهه أيضا إبراهيم والشعبي وروى عنه

(13/4)


أنه لم ير به بأسا. قال ابن حزم: وروى من طريق لا يصح عن أم حبيبة أم المؤمنين إنها كرهت العلك للصائم. قلت: روى البيهقي (ج4 ص269) من طريق سعيد بن عيسى عن جدته إنها سمعت أم حبيبة تقول لا يمضغ العلك الصائم. قال البيهقي: جدته أم الربيع والحديث موقوف - انتهى. وقال ابن قدامة: (ج3 ص109) قال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد الصائم يمضغ العلك قال لا، قال أصحابنا العلك ضربان أحدهما، ما يتحلل منه أجزاء وهو الرديء الذي إذا مضغه يتحلل فلا يجوز مضغه، إلا أن لا يبلع ريقه فإن ريقه فإن فعل فنزل إلى حلقه منه شيء أفطر به كما لو تعمد أكله. والثاني، العلك الذي كلما مضغه صلب وقوي فهذا يكره مضغه ولا يحرم، وممن كرهه الشعبي والنخعي ومحمد بن علي وقتادة والشافعي وأصحاب الرأي. وذلك لأنه لا يحلب الفم ويجمع الريق ويورث العطش، ورخصت عائشة في مضغه. لأنه لا يصل إلى الجوف فهو كالحصاة يمضغها في فيه- انتهى. (رواه البخاري في ترجمة) أثر عطاء هذا ذكره البخاري
...............................
في باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ فليستنشق بمنخره الماء ولم يميز بين الصائم وغيره. قال الحافظ: قول المصنف يعني البخاري ولم يميز بين الصائم وغيره قاله تفقها وهو كذلك في أصل الاستنشاق، لكن ورد تميز الصائم من غيره في المبالغة في ذلك، كما رواه أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وغيره من طريق عاصم عن لقيط بن صبرة عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له، بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما. انتهى.
............................
بعون الله وحسن توفيقه تم الجزء السادس من مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح. ويليه الجزء السابع إنشاء الله تعالى، وأوله "باب صوم المسافر".

(13/5)


بسم الله الرحمن الرحيم
(4) باب صوم المسافر
?الفصل الأول?
2039-(1) عن عائشة، قالت: ((إن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أصوم في السفر وكان كثير الصيام. فقال: إن شئت فصم، وإن شئت فافطر)) متفق عليه.
(باب المسافر) أي في بيان حكم الصوم للمسافر، من جواز فعله وتركه وبيان الأفضل منهما قال الله تعالى ?فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر? [البقرة: 184]
2039- قوله: (إن حمزة بن عمرو) بفتح العين وسكون الميم وبالواو في آخره ابن عويمر (الأسلمي) من ولد أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمر يكنى أبا صالح، ويقال أبومحمد المدني صحابي جليل، له تسعة أحاديث استنارت أصابعه في ليلة ظلماء مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يسرد الصوم. مات سنة إحدى وستين، وله إحدى وسبعون، وقيل: ثمانون. (أصوم في السفر) أي أ أصوم بتقدير همزة الاستفهام. وقال القاري: أي فما حكمه؟ أي فهل على جناح في الصوم أو ضده أو يقدر الاستفهام-انتهى. قلت: كذا وقع في بعض نسخ البخاري أصوم، وهي رواية النسائي أيضا، ووقع في نسخ القسطلاني والعيني والحافظ أ أصوم بهمزتين، الأولى همزة الاستفهام، والأخرى همزة المتكلم. وهكذا وقع في جامع الأصول (ج7ص261) وشرح العمدة لابن دقيق العيد (ج2ص223) وفي رواية لمسلم إني رجل أصوم (أي من عادتي ذلك) أفأصوم في السفر، وفي أخرى لهما إني أسرد الصوم، بضم الراء أي اتابعه. واستدل به على أن لا كراهية في صيام الدهر لأنه أخبره بسرده فلم ينكر عليه بل أقره عليه وهو في السفر ففي الحضر بالأولى، قال الحافظ: ولا دلالة فيه لأن التتابع يصدق بدون صوم الدهر، فإن ثبت النهي عن صوم الدهر لم يعارضه هذا الإذن بالسرد، بل الجمع بينهما واضح-انتهى. وقال شيخنا في شرح الترمذي: في الاستدلال بقوله أسرد على عدم كراهة صوم الدهر نظر، لأنه يحتمل أن يكون المراد به أي أكثر الصيام كما يدل عليه قوله "وكان كثير الصيام"

(14/1)


فما لم ينتف هذا الاحتمال لا يتم الاستدلال-انتهى. (وكان) أي حمزة (كثير الصيام) الجملة معترضة لبيان الحال الحامل له على هذا السؤال (فقال إن شئت فصم وإن شئت فافطر) بهمزة قطع. وفيه دليل على التخيير بين الصوم والفطر واستوائهما في السفر. قال الخطابي: هذا نص في إثبات الخيار للمسافر في الصوم والإفطار، وفيه بيان جواز صوم الفرض للمسافر إذا صامه، وهو قول عامة أهل العلم إلا ما روى عن ابن عمر أنه قال إن صام في السفر قضى في الحضر. وقد روى عن ابن عباس أنه قال لا يجزيه، وذهب إلى هذا داود بن علي-انتهى.

(14/2)


قلت: قال ابن حزم (ج6ص253) حديث حمزة بيان جلي في أنه إنما سأله عليه السلام عن التطوع لقوله في الخبر "إني امرؤ أسرد الصوم" قال الحافظ في التلخيص (ص194) لكن ينتقض عليه بأن عند أبي داود في رواية صحيحة من طريق حمزة بن محمد عن أبيه عن جده ما يقتضي أنه سأله عن الفرض وصححها الحاكم-انتهى. وقال ابن دقيق العيد (ج2ص223) ليس في حديث الباب تصريح بأنه صوم رمضان، فلا يكون فيه حجة على من منع صيام رمضان في السفر. قال الحافظ في الفتح: هو كما قال بالنسبة إلى سياق حديث الباب، لكن في رواية أبي مرواح عن حمزة عند مسلم أنه قال: يا رسول الله ! أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل على جناح فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي رخصة من الله-الحديث (وسيأتي في الفصل الثالث) وهذا يشعر بأنه سأل عن صيام الفريضة، وذلك إن الرخصة إنما تطلق في مقابلة ما هو واجب، وأصرح من ذلك ما أخرجه أبوداود والحاكم من طريق محمد بن عمرو عن أبيه أنه قال يا رسول الله ! إني صاحب ظهور أعالجه أسافر عليه وأكريه، وأنه ربما صادفني هذا الشهر يعني رمضان، وأنا أجد القوة وأجدني أن أصوم أهون على من أن أؤخره فيكون دينا علي فقال: أي ذلك شئت يا حمزة-انتهى. وقيل: الظاهر إن حمزة سأله - صلى الله عليه وسلم - مرتين: مرة عن صيام التطوع، وهو مذكور في حديث عائشة عند الشيخين. ومرة عن صوم رمضان، وهذا مذكور في رواية أبي مرواح عن حمزة عند مسلم، وفي رواية محمد بن حمزة بن عمرو عن أبيه عند أبي داود. وقال الباجي (ج2ص50) سؤال حمزة عام فإذا خرج الجواب مطلقا حمل على عمومه فحمل على جواز الصوم للفرض والنفل في السفر، ولا يخص صوم إلا بدليل. وذهب بعض أهل الظاهر إلى أن ذلك محمول على التطوع وهذا تخصيص بغير دليل فوجب أن يكون باطلا-انتهى. واختلف السلف في صوم رمضان في السفر. فقالت طائفة لا يجزئ الصوم عن الفرض، بل من صام في السفر وجب عليه قضاءه في الحضر وهو يقول بعض

(14/3)


الظاهرية. قال في الفتح: وحكى عن عمر وابن عمر وأبي هريرة والزهري وإبراهيم النخعي وغيرهم. واحتجوا بقوله تعالى: ?فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر? قالوا ظاهره فعليه عدة أو فالواجب عدة وتأوله الجمهور بأن التقدير فأفطر فعدة واحتجوا أيضا بما في حديث ابن عباس عند الشيخين إن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من المدينة على رأس ثمان سنين ونصف، ومعه عشرة آلاف إلى مكة يصوم ويصومون، حتى إذا بلغ الكديد أفطر وأفطروا. وإنما يؤخذ من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالآخر فالآخر، ففيه أن الإفطار في السفر كان آخر الأمرين، وإن الصحابة كانوا يأخذون بالآخر فالآخر من فعله فدل على أن صومه - صلى الله عليه وسلم - في السفر منسوخ.

(14/4)


وأجاب الجمهور عن ذلك بأن هذه الزيادة مدرجة من قول الزهري كما جزم بذلك البخاري في الجهاد، وكذلك وقعت عند مسلم مدرجة، وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صام بعد هذه القصة كما في حديث أبي سعيد عند أحمد ومسلم. أنه - صلى الله عليه وسلم - صام بعد هذه القصة في السفر، ولفظه سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة ونحن صيام فنزلنا منزلا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم فافطروا، فكانت رخصة فمنا من صام، ومنا من أفطر فنزلنا منزلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم مصبحو عدوكم فالفطر أقوى لكم فافطروا، فكانت عزيمة فافطرنا، ثم لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك في السفر. واحتجوا أيضا بقوله - صلى الله عليه وسلم - ليس من البر الصوم في السفر ومقابل البر الإثم وإذا كان آثما بصومه وأجاب عنه الجمهور بأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما قال ذلك: في حق من شق عليه الصوم كما سيأتي بيانه ولا شك إن الإفطار مع المشقة الزائدة أفضل، وأيضا نفي البر لا يستلزم عدم صحة الصوم. وقال الشافعي: يحتمل أن يكون المراد ليس من البر المفروض الذي من خالفه إثم. وقال الطحاوي: المراد بالبر هنا البر الكامل الذي هو أعلى المراتب، وليس المراد به إخراج الصوم في السفر عن أن يكون برا، لأن الإفطار قد يكون أبر من الصوم إذا كان للتقوى على لقاء العدو. وقال الشافعي أيضا: نفي البر المذكور في الحديث محمول على من أبى قبول الرخصة، وقد روى النسائي الحديث بلفظ ليس البر أن تصوموا في السفر وعليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوا. قال ابن القطان: إسنادها حسن متصل يعني الزيادة ورجح ابن خزيمة الأول. واحتجوا أيضا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر في الفصل الثالث: أولئك العصاة أولئك العصاة. وأجاب عنه الجمهور بأنه إنما نسبهم إلى العصيان لأنه عزم عليه فخالفوا

(14/5)


واحتجوا أيضا بحديث عبدالرحمن بن عوف الآتي في الفصل الثالث وأجيب عنه بأنه حديث ضعيف، والراجح إنه موقوف كما سيأتي وعلى تقدير صحته فهو محمول على الحالة التي يكون الفطر فيها أولى من الصوم كحالة المشقة جمعا بين الأدلة واحتجوا أيضا بحديث أنس بن مالك الكعبي الآتي في الفصل الثاني. وأجيب عنه بأنه مختلف فيه كما سيأتي، وعلى تسليم صحته، فالوضع لا يستلزم عدم صحة الصوم في السفر وهو محل النزاع. وذهب أكثر العلماء منهم مالك والشافعي وأبوحنيفة إلى أن الصوم أفضل لمن قوي عليه ولم يشق به، ويروي ذلك عن أنس وعثمان بن أبي العاص واحتجوا بحديث سلمة بن المحبق الآتي، ولأن الصوم تعلق بالذمة فالمبادرة إلى إبرائها أولى فربما طرأ من الموانع والاشتغال بخلاف القصر فإن الذمة تبرأ فيه بما يؤتي. وقال كثير منهم الفطر أفضل عملا بالرخصة، وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق. وقال آخرون هو مخير مطلقا وروى عن ابن عباس وأبي سعيد وسعيد ابن المسيب وعطاء والحسن ومجاهد والليث.
2040-(2) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لست عشرة مضت من شهر رمضان، فمنا من صام ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم)) رواه مسلم.

(14/6)


وقال آخرون أفضلهما أيسرهما لقوله تعالى: ?يريد الله بكم اليسر? [البقرة: 185] فإن كان الفطر أيسر عليه فهو أفضل في حقه، وإن كان الصيام أيسر كمن يسهل عليه حينئذ ويشق عليه قضاءه بعد ذلك فالصوم في حقه أفضل، وهو قول عمر بن عبدالعزيز واختاره ابن المنذر. قال الشوكاني والأولى أن يقال من كان يشق عليه الصوم ويضره، وكذلك من كان معرضا عن قبول الرخصة فالفطر أفضل له. أما الطرف الأول فلما تقدم من الأدلة في حجج القائلين بالمنع من الصوم. وأما الطرف الثاني فلحديث: إن الله يحب أن تؤتى رخصه، وقد تقدم. ولحديث: من رغب عن سنتي فليس مني، وكذلك يكون الفطر أفضل في حق من خاف على نفسه العجب أو الرياء إذا صام في السفر، وقد أشار إلى ذلك ابن عمر، فروى الطبري عن ابن عمر أنه قال: إذا سافرت فلا تصم، فإنك إن تصم. قال أصحابك: اكفوا الصائم ارفعوا للصائم وقاموا بأمرك، وقالوا فلان صائم، فلا تزال كذلك حتى يذهب أجرك. وأخرج نحوه عن أبي ذر، ومثل ذلك حديث أنس الآتي بعد حديثين وما كان من الصيام خاليا عن هذه الأمور أفضل من الإفطار-انتهى. (متفق عليه) واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضا أحمد، ومالك والترمذي وأبوداود، والنسائي وابن ماجه والدارمي والبيهقي وغيرهم.

(14/7)


2040- قوله: (غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فيه تجريد أو تأكيد لأن الغزوة لا تكون إلا معه بخلاف السرية والمراد غزوة فتح مكة (لست عشرة) أي ليلة (مضت من شهر رمضان) كذا في جميع النسخ، وفي مسلم من رمضان أي بإسقاط لفظ شهر، وهكذا وقع في جمع الأصول (ج7ص262) والمصابيح، واختلفت الروايات في تعيين التأريخ ففي رواية لمسلم لثمان عشرة خلت وفي رواية ثنتي عشرة، وفي رواية لسبع عشرة أو تسع عشرة، والمشهور في كتب المغارى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة الفتح من المدينة لعشر خلون من رمضان، ودخلها لتسع عشرة خلت. قال الحافظ: في الصيام من الفتح بعد الإشارة إلى اختلاف الرواة في ضبط ذلك في حديث أبي سعيد ما لفظه، والذي اتفق عليه أهل السير أنه خرج في عاشر رمضان، ودخل مكة لتسع عشرة ليلة خلت منه. وقال في المغازى: أخرج البيهقي من طريق ابن أبي حفصة عن الزهري قال: صبح رسول الله صلى الله عليه مكة لثلاث عشرة خلت من رمضان، وروى أحمد بإسناد صحيح من طريق قزعة بن يحيى عن أبي سعيد قال: خرجنا مع النبي- صلى الله عليه وسلم - عام الفتح لليلتين خلتا من شهر رمان، هذا يعين يوم الخروج. وقول الزهري يعين يوم الدخول. ويعطي أنه أقام في الطريق اثني عشر يوما.
2041-(3) وعن جابر، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: صائم. فقال: ليس من البر الصوم في السفر)) متفق عليه.

(14/8)


وأما ما قال الواقدي: أنه خرج لعشر خلون من رمضان، فليس بقوى لمخالفته ما هو أصح منه، وفي تعيين هذا التأريخ أقوال أخرى. منها عند مسلم لست عشرة، ولأحمد لثماني عشرة وفي أخرى لثنتي عشرة، والجمع بين هاتين بحمل إحداهما على ما مضى، والأخرى على ما بقي والذي في المغازى دخل لتسع عشرة مضت وهو محمول على الاختلاف في أول الشهر، ووقع في أخرى بالشك في تسع عشرة، أو سبع عشرة. وروى يعقوب بن سفيان من رواية ابن إسحاق عن جماعة من مشائخه، إن الفتح كان في عشر بقين من رمضان، فإن ثبت حمل على أن مراده أنه وقع في العشر الأوسط قبل أن يدخل العشر الأخير-انتهى. فتأمل. قال ابن الملك: في الحديث دلالة على غلط من قال إن أحدا إذا أنشأ السفر في أثناء رمضان لم يجز له أن يفطر (فمنا من صام) وهم الأقوياء (ومنا من أفطر) وهم الضعفاء (فلم يعب) بفتح الياء وكسر العين أي لم يلم، وفي رواية فلا يجد أي لا يغضب (الصائم على المفطر) لأنه عمل بالرخصة (ولا المفطر على الصائم) لعمله بالعزيمة يعني لم ينكر الصائم على المفطر إفطاره دينا ولا المفطر على الصائم صومه، فهما جائزان وزاد في رواية يرون إن من وجد قوة فصام، فإن ذلك حسن ويرون إن من وجد ضعفا فافطر فإن ذلك حسن. قال النووي: هذا صريح بترجيح مذهب الأكثرين وهو تفصيل الصوم لمن اطاقه بلا ضرر ولا مشقه ظاهرة. وقال بعض العلماء: الفطر والصوم سواء، لتعادل الأحاديث. والصحيح قول الأكثرين-انتهى. وقال الحافظ في الفتح: بعد ذكر هذا الحديث ما لفظه، وهذا التفصيل هو المعتمد وهو رافع للنزاع-انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الترمذي والنسائي والطحاوي (ج1ص333) والبيهقي (ج4ص244، 245) وفي الباب عن أنس عند الشيخين وأبي داود والطحاوي والبيهقي وعن جابر عند مسلم والنسائي والطحاوي والبيهقي.

(14/9)


2041- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر) في غزوة الفتح كما في حديث جابر الآتي في الفصل الثالث. قال الحافظ: تبين من رواية جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر إنها غزوة الفتح-انتهى. يريد بذلك حديث جابر الآتي فإنه رواه مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم، من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر (فرأى زحاما) بكسر الزاي اسم للزحمة، والمراد هنا الوصف لمحذوف أي فرأى قوما مزدحمين. وقيل: أي رأى مزاحمة في الاجتماع على غرض الاطلاع (ورجلا) قال الحافظ: لم أقف على اسم هذا الرجل ولو لا ما قدمته من أن عبدالله بن رواحة استشهد قبل غزوة الفتح لأمكن أن يفسر به لقول أبي الدرداء أن لم يكن من الصحابة في تلك السفرة صائما غيره-انتهى. وقيل: أنه أبوإسرائيل القرشي العامري واسمه قيس، وفيه نظر. فإن بين القصتين مغايرات ظاهرة، أظهرها إن أبا إسرائيل كان في الحضر في المسجد،

(14/10)


ففي مسند أحمد إن النبي- صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد وأبوإسرائيل يصلي فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم هو ذا يا رسول الله ؟ لا يقعد ولا يكلم الناس ولا يستظل ولا يفطر، فقال ليقعد وليتكلم وليستظل وليفطر. وروى الخطيب عن ابن عباس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة فنظر إلى رجل من قريش يقال له أبوإسرائيل، فقالوا: نذر أن يصوم ويقوم في الشمس-الحديث. وأما صاحب القصة في حديث جابر فكان في السفر تحت الظل والله أعلم (قد ظلل عليه) بتشديد اللام الأولى على بناء المفعول أي جعل عليه شيء يظله من الشمس لغلبة العطش عليه وحر الصوم، وفي رواية للنسائي رأى ناسا مجتمعين على رجل فسأل فقالوا: رجل أجهده الصوم، وفي أخرى مر برجل في ظل شجرة يرش عليه الماء. قال ما بال صاحبكم (فقال ما هذا) أي ما حال صاحبكم هذا، وقيل أي ما هذا الزحام أو التظليل (قالوا) أي من حضر من الصحابة (صائم) أي وقد أجهده الصوم وشق عليه (ليس من البر) بكسر الباء أي ليس من الطاعة والعبادة (الصوم في السفر) قال الزركشي: "من" زائدة لتأكيد النفي. وقيل: للتبعيض وليس بشيء، وتعقبه البدر الدماميني، فقال: هذا عجيب لأنه أجاز ما المانع منه قائم، ومنع ما لا مانع منه، وذلك إن من شروط زيادة من أن يكون مجرورها نكرة، وهو في الحديث معرفة. وهذا هو المذهب المعول عليه وهو مذهب البصريين خلافا للاخفش والكوفيين، وأما كونها للتبعيص فلا لمنعه وجه إذا المعنى إن الصوم في السفر ليس معدودا من أنواع البر كذا ذكره القسطلاني، وقد تقدم إن بعض الظاهرية تمسكوا به على عدم انعقاد صوم الفرض في السفر وسلك المجيزون، وهم عامة أهل العلم فيه طرقا. فقال الخطابي (ج2ص124) هذا الكلام خرج على سبب فهو مقصور عليه وعلى من كان في مثل حاله كأنه قال ليس من البر أن يصوم المسافر، إذا كان الصوم يؤديه إلى مثل هذه الحال بدليل صيام النبي صلى الله عليه وسلم في سفره عام الفتح،

(14/11)


وبدليل خبر حمزة الأسلمي وتخييره بين الصوم والإفطار، ولو لم يكن الصوم برا لم يخيره فيه، ولو كان إثما لكان أبعد الناس منه، وإلى هذا جنح البخاري حيث بوب على هذا الحديث بلفظ: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد الحر ليس من البر الصوم في السفر. قال الحافظ: أشار بهذه الترجمة إلى أن سبب قوله - صلى الله عليه وسلم - ذلك ما ذكر من المشقة، وإن كمن روى الحديث مجردا. فقد اختصر القصة، وبما أشار إليه من اعتبار المشقة يجمع بين حديث الباب، والذي يدل على صومه في السفر-انتهى. وقال ابن دقيق العيد (ج2ص225) أخذ من هذا إن كراهة الصوم في السفر لمن هو في مثل هذه الحالة ممن يجهده الصوم ويشق عليه أو يؤدي به إلى ترك ما هو أولى من الصوم من وجوه القرب، فينزل قوله ليس من البر الصوم في السفر على مثل هذه الحالة. قال: والظاهرية المانعون من الصوم في السفر يقولون إن اللفظ عام والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب،

(14/12)


قال: ويجب أن يتنبه للفرق بين دلالة السبب والسياق والقرائن على تخصيص العام، وعلى مراد المتكلم وبين مجرد ورود العام على سبب، فإن بين العامين فرقا واضحا ومن أجراهما مجرى واحدا لم يصب، فإن مجرد ورود العام على سبب لا يقتضي التخصيص به كنزول آية السرقة في قصة سرقة رداء صفوان. وأما السياق والقرائن فإنها الدالة على مراد المتكلم، وهي المرشدة إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات كما في حديث الباب. وقال ابن المنير: هذه القصة تشعر بأن من اتفق له مثل ما اتفق لذلك الرجل أنه يساويه في الحكم، وأما من سلم من ذلك ونحوه فهو في جواز الصوم على أصله. وقال الطحاوي: المراد بالبر هنا البر الذي هو إبر البر وأعلى مراتب البر، وليس المراد بذلك إخراج الصوم في السفر من أن يكون برا، لأنه قد يكون برا، لأنه قد يكون الإفطار إبر منه، إذا كان للتقوى على لقاء العدو، مثلا والمعنى ليس من البر الذي هو إبر البر وأعلى مراتب البر الصوم في السفر، وإن كان الصوم في السفر برا إلا أن غيره من البر وهو الإفطار قد يكون إبر منه إذا كان يراد به القوة للقاء العدو. قال وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم ليس المسكين بالطواف-الحديث. فإنه لم يرد به إخراجه إياه من أسباب المسكنة كلها، ولكنه أراد بذلك ليس هو المسكين المتكامل المسكنة، ولكن المسكين الكامل المسكنة الذي لا يسأل الناس ولا يعرف فيتصدق عليه وحمل الشافعي نفي البر المذكور في الحديث على من أبي قبول الرخصة فقال معنى قوله ليس من البر أن يبلغ رجل هذا بنفسه في فريضة صوم ولا نافلة، وقد أرخص الله تعالى له أن يفطر وهو صحيح. قال ويحتمل أن يكون معناه ليس من البر المفروض الذي من خالفه إثم، كذا في الفتح. وقال السندي: ظاهر إن ترك الصوم أولى ضرورة إن الصوم مشروع طاعة فإذا حرج عن كونه طاعة فينبغي أن لا يجوز ولا أقل من كون الأولى تركه ومن يقول إن الصوم هو الأولى في السفر يستعمل الحديث في مورده أي

(14/13)


ليس من البر، إذا بلغ الصائم هذا المبلغ من المشقة، وكأنه مبني على تعريف الصوم للعهد، والإشارة إلى مثل صوم ذلك الصائم، نعم الأصل هو عموم اللفظ لا خصوص المورد. لكن إذا أدى عموم اللفظ إلى تعارض الأدلة يحمل خصوص المورد كما هنا. وقيل: من في قوله "ليس من البر" زائدة، والمعنى ليس هو البر بل قد يكون الإفطار إبر منه إذا كان في حج أو جهاد ليقوى عليه. والحاصل إن المعنى على القصر لتعريف الطرفين. وقيل: محمل الحديث على من يصوم ولا يقبل الرخصة-انتهى. (متفق عليه) واللفظ للبخاري وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي والدارمي والطحاوي (ج1ص329) والبيهقي (ج4ص242) وفي الباب عن ابن عمر عند ابن ماجه والطحاوي وعن كعب بن عاصم الأشعري عند أحمد (ج5ص434) والنسائي وابن ماجه والدارمي وعبد الرزاق والطبراني في الكبير والطحاوي والبيهقي: وعن أبي برزة الأسلمي عند أحمد والبزار والطبراني في الأوسط،
2042-(4) وعن أنس، قال: ((كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم: في السفر، فمنا الصائم ومنا المفطر، فنزلنا منزلا في يوم حار. فسقط الصوامون، وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذهب المفطرون اليوم بالأجر)) متفق عليه.

(14/14)


وعن ابن عباس عند البزار والطبراني في الكبير وابن عدي وعن عبدالله بن عمر وعند الطبراني في الكبير، وعن عمار بن ياسر عند الطبراني أيضا، وعن أبي هريرة عند ابن عدي. ذكر هذه الأحاديث الهيثمي (ج3ص161) والعيني (ج11ص48) مع الكلام عليها وروى بلفظ: ليس من أمبر امصيام في امسفر أخرجه أحمد (ج5ص434) وعبد الرزاق في مصنفه، والطبراني في معجمه من حديث كعب بن عاصم الأشعري. قال الزمخشري: هي لغة طي فإنهم يبدلون اللام ميما. وقال الجزري في جامع الأصول: (ج7ص546) الميم بدل من لام التعريف في لغة قوم من اليمن فلا ينطقون بلام التعريف ويجعلون مكانها الميم-انتهى. ورواه النسائي وابن ماجه والدارمي والطحاوي والبيهقي (ج4ص242) بلفظ: ليس من البر الصوم في السفر.

(14/15)


2042- قوله: (فمنا الصائم) أريد به الجنس (ومنا المفطر) وفي رواية فصام بعض وأفطر بعض. وفيه دليل على جواز الصوم في السفر لتقرير النبي صلى الله عليه وسلم للصائمين على صومهم (فنزلنا منزلا في يوم حار) وقع بعد هذا أكثر ناظلا صاحب الكساء ومنا من يتقي الشمس بيده (فسقط الصوامون) جمع صوام بفتح المهملة بصيغة المبالغة كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا وقع في المصابيح، والذي في صحيح مسلم فسقط الصوام، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7ص259) والمنذري في الترغيب والحافظ في الفتح وكذا وقع في عمدة الأحكام، وكذا عند النسائي والطحاوي والبيهقي. والصوام بضم المهملة كحكام جميع صائم، أي عجزوا عن العمل، وما قدروا على قضاء حاجتهم. وقال القاري: أي ضعفوا عن الحركة ومباشرة حوائجهم لأجل ضعفهم (وقام المفطرون) أي بالخدمة (فضربوا الأبنية) أي نصبوا الخيام جمع بناء. والمراد البيوت التي يسكنها العرب في الصحراء كالخباء والقبة (وسقوا الركاب) بكسر الراء أي الإبل التي يسار عليها واحدها راحلة، ولا واحد لها من لفظها (ذهب المفطرون اليوم بالأجر) الوافر وهو أجر ما فعلوه من خدمة الصائمين بضرب الأبنية والسقي وغير ذلك لما حصل منهم من النفع المتعدي، ومثل أجر الصوام لتعاطيهم إشغالهم وإشغال الصوام. وأما الصائمون فحصل لهم أجر صومهم القاصر عليهم ولم يحصل لهم من الأجر ما حصل للمفطرين من ذلك. قال الحافظ: قوله بالأجر، أي الوافر وليس المراد نقص أجر الصوام بل المراد أن المفطرين حصل لهم أجر عملهم ومثل أجر الصوام لتعاطيهم إشغالهم.
2043-(5) وعن ابن عباس، قال: ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بماء فرفعه إلى يده ليراء الناس فأفطر حتى قدم مكة،

(14/16)


وإشغال الصوام، فلذلك قال بالأجر كله لوجود الصفات المقتضية لتحصيل الأجر منهم. وقال القاري: أي بالثواب الأكمل لأن الإفطار كان في حقهم حينئذ أفضل. وفي ذكر اليوم إشارة إلى عدم إطلاق هذا الحكم. وقال الطيبي: أي إنهم مضوا واستصحبوا الأجر ولم يتركوا لغيرهم شيئا منه على طريقة المبالغة، يقال ذهب به إذا استصحبه ومضى به معه-انتهى. يعني بالأجر كله أو بكل الأجر مبالغة-انتهى كلام القاري. وقال ابن دقيق العيد: فيه وجهان: أحدهما، أن يراد بالأجر أجر تلك الأفعال التي فعلوها والمصالح التي جرت على أيديهم ولا يراد مطلق الأجر على سبيل العموم. والثاني أن يكون أجرهم قد بلغ في الكثرة بالنسبة إلى أجر الصوم مبلغا ينغمر فيه أجر الصوم، فتحصل المبالغة بسبب ذلك ويجعل كأن الأجر كله للمفطر-انتهى. وفي الحديث إنه إذا تعارضت المصالح قدم أولالها وأقواها. قال الحافظ: وفيه الحض على المعاونة في الجهاد، وإن الفطر في السفر أولى عن الصيام وإن الصيام في السفر جائز خلافا لمن قال لا ينعقد وليس في الحديث بيان كونه إذ ذاك كان صوم فرض أو تطوع (متفق عليه) أخرجه البخاري في باب فضل الخدمة في الغزو من كتاب الجهاد، وهو من الأحاديث التي أوردها في غير مظنتها لكونه لم يذكره في الصيام، واقتصر على إيراده هنا، وأخرجه مسلم في الصيام وكذا النسائي والطحاوي (ص333) والبيهقي (ج4ص243) واللفظ المذكور لمسلم. ولفظ البخاري قال أنس كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أكثرنا ظلا الذي يستظل بكساءه. وأما الذين صاموا فلم يعملوا شيئا. وأما الذين أفطروا فبعثوا الركاب وامتهنوا وعالجوا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ذهب المفطرون اليوم بالأجر.

(14/17)


2043- قوله: (عن ابن عباس) قال أبوالحسن القابسي: هذه الحديث من مرسلات الصحابة لأن ابن عباس كان في هذه السفرة مقيما مع أبويه بمكة فلم يشاهد هذا القصة فكأنه سمعها من غيره من الصحابة (خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة) أي في غزوة الفتح في رمضان كما في رواية (فصام حتى بلغ عسفان) بضم العين وسكون السين المهملتين. قيل: هو موضع على مرحلتين من مكة. وقال عياض: هي قرية جامعه بها منبر على ستة وثلاثين ميلا من مكة. قال النووي بعد ذكره: والمشهور أنها على أربعة برد من مكة وكل بريد أربعة فراسخ وكل فرسخ ثلاثة أميال، فالجملة ثمانية وأربعون ميلا هذا هو الصواب المعروف الذي قاله الجمهور-انتهى.

(14/18)


ووقع في رواية للشيخين حتى بلغ الكديد بفتح الكاف وكسر الدال الأولى وهو موضع بينه وبين المدينة سبع مراحل أو نحوها وبينه وبين مكة قريب من مرحلتين قاله النووي. وقال عياض: هي عين جارية على اثنين وأربعين ميلا من مكة. وقال الحافظ: وقع في رواية حتى بلغ عسفان بدل الكديد، وفيه مجاز القرب لأن الكديد أقرب إلى المدينة من عسفان، وبين الكديد ومكة مرحلتان. قال البكري: هو بين أمج بفتحتين وجيم وعسفان وهو ماء عليه نخل كثير-انتهى. ووقع في رواية لأحمد والنسائي حتى أتى قديدا بضم القاف على التصغير، وهو موضع قرب عسفان. ووقع حديث جابر الآتي. فلما بلغ كراع الغميم هو بضم الكاف والغمم بفتح المعجمة، وهو اسم واد أمام عسفان بثمانية أميال يضاف إليه هذا الكراع، وهو جبل أسود متصل به. وقال في المجمع: كراع الغميم اسم موضع بين مكة والمدينة، والكراع جانب مستطيل من الحرة تشبيها بكراع الغنم، وهو ما دون الركبة من الساق، والغميم بالفتح واد بالحجاز. قال عياض: اختلفت الروايات في الموضع الذي أفطر صلى الله عليه وسلم فيه والكل في سفر واحد في غزاة الفتح. قال وسميت هذه المواضع في هذه الأحاديث لتقاربها وإن كانت عسفان متباعدة شيئا عن هذه المواضع. لكنها كلها مضافة إليها ومن عملها فاشتمل اسم عسفان عليها. قال وقد يكون علم حال الناس ومشقتهم في بعضها فافطروا في بعضها-انتهى. (ثم دعا بماء) وفي رواية للبخاري دعا بإناء من لبن أو ماء بالشك، وفي رواية لأحمد والنسائي ثم أتى بقدح من لبن وكذا وقع عند الطحاوي. قال الداودي: يحتمل أن يكون دعا بهذا أي الماء مرة وبهذا أي اللبن مرة، وتعقبه الحافظ بأنه لا دليل على التعدد فإن الحديث واحد والقصة واحدة. وإنما وقع الشك من الراوي فتقدم عليه رواية من جزم، وأبعد ابن التين فقال: كانت قصتان إحداهما في الفتح والأخرى في حنين-انتهى. ولم يجب الحافظ عن روايات الجزم باللبن. وقيل: في توجيهها أنه شرب الماء

(14/19)


في موضع أو في مواضع وشرب اللبن في موضع آخر وأراهم الفطر مرتين أو مرات لكثرة الناس والله اعلم (فرفعه) أي الماء منتهيا (إلى) أقصى حد (يده) بالأفراد وفي رواية يديه بالتثنية. قال القاري: الجار والمجرور حال أي رفع الماء منتهيا إلى أقصى مديده أي إلى غاية طولها. قال الزركشي والبرماوي: كذا للأكثرين وفي رواية ابن السكن إلى فيه وهو الأظهر إلا أن تؤول لفظة إلى في رواية الأكثرين بمعنى على ليستقيم الكلام، وتعقبه في المصابيح بأنه لا يعرف أحدا ذكر "إلى" بمعنى على قال، والكلام مستقيم بدون هذا التأويل. وذلك إن إلى لانتهاء الغاية على بابها، والمعنى فرفع الماء ممن أتى به رفعا قصد به رؤية الناس له، فلا بد أن يقع ذلك على وجه يتمكن فيه الناس من رؤيته ولا حاجة مع ذلك إلى إخراج إلى عن بابها. وقال الكرماني: كالطيبي أو فيه تضمين، أي-انتهى.
وذلك في رمضان. فكان ابن عباس يقول: قد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر. فمن شاء صام ومن شاء أفطر)). متفق عليه.

(14/20)


الرفع إلى أقصى غايتها، ويمكن أن يكون بمعنى "في" للظرفية كقوله تعالى: ?ليجمعنكم إلى يوم القيامة? [النساء: 87] أي فرفعه حال كونه في يده (ليراه الناس) بفتح التحتية والراء والناس بالرفع، لأنه فاعله، والضمير المنصوب فيه مفعوله. قال الحافظ: كذا للأكثر وفي رواية المستملى ليريه بضم أوله وكسر الراء وفتح التحتانية، والناس نصب على أنه مفعول ثان، ليريه لأنه من الإراءة وهي تستدعى مفعولين، واللام للتعليل في الوجهين. والمعنى رفع الماء حتى ينظر الناس إليه فيقتدوا به في الإفطار لأن الصيام أضر بهم، وكان لا يأمن الضعف عن القتال عند لقاء عدوهم، يفهم منه إن أفضلية الفطر لا تختص بمن أجهده الصوم أو خشي العجب والرياء، أو ظن به الرغبة عن الرخصة بل يلحق بذلك من يقتدي به ليتابعه من وقع له شيء من الأمور الثلاثة ويكون الفطر في حقه في تلك الحالة أفضل البيان (فافطر) أي بعد العصر كما في حديث جابر واستمر مفطرا (حتى قدم مكة وذلك) أي ما ذكر من الصوم والإفطار كان (في رمضان) سنة ثمان (فكان ابن عباس يقول قد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في رمضان سنة ثمان حال السفر (فمن شاء صام ومن شاء أفطر) أي لا حرج على أحدهما، وفيه دلالة لمذهب الجمهور في جواز الصوم والفطر جميعا. قال الحافظ: فهم ابن عباس من فعله - صلى الله عليه وسلم - ذلك إنه لبيان الجواز لا للأولوية. وقد تقدم في حديث أبي سعيد عند مسلم ما يوضح المراد، وسيأتي أيضا في حديث جابر. قال في شرح السنة: لا فرق عند عامة أهل العلم بين من ينشيء السفر في شهر رمضان، وبين من يدخل عليه شهر رمضان وهو مسافر. وقال عبيدة السلماني: إذا أنشأ السفر في شهر رمضان لا يجوز له الإفطار لظاهر قوله تعالى: ?فمن شهد منكم الشهر فليصمه? [البقرة: 185] وهذا الحديث حجة على القائل. ومعنى الآية الشهر كله، فأما من شهد بعضه فلم يشهد الشهر-انتهى. قال القاري: والأظهر إن معنى الآية فمن شهد

(14/21)


منكم شيئا منه من غير مرض وسفر-انتهى. وقال الحافظ: استدل بالحديث على أن للمسافر أن يفطر في أثناء النهار، ولو استهل رمضان في الحضر. والحديث نص في الجواز إذ لا خلاف في أنه صلى الله عليه وسلم استهل رمضان في عام غزوة الفتح وهو بالمدينة ثم سافر في أثنائه، وقد ترجم عليه البخاري بلفظ: باب إذا صام أياما من رمضان ثم سافر. قال الحافظ: كأنه أشار إلى تضعيف ما روى عن علي وإلى رد ما روى عن غيره في ذلك. قال ابن المنذر: روى عن علي بإسناد ضعيف، وقال به عبيده بن عمر وأبومجلز وغيرهما إن من استهل عليه رمضان في الحضر ثم سافر بعد ذلك فليس له أن يفطر لقوله تعالى: ?فمن شهد منكم الشهر فليصمه? قال: وقال أكثر أهل العلم لا فرق بينه وبين من استهل رمضان في السفر، ثم ساق ابن المنذر بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: قوله تعالى: ?فمن شهد منكم الشهر فليصمه? نسخها قوله،

(14/22)


ومن كان مريضا أو على سفر الآية ثم احتج للجمهور بحديث ابن عباس هذا-انتهى. واستدل به على أن للمرء أن يفطر ولو نوى الصوم من الليل وأصبح صائما فله أن يفطر في أثناء النهار وهو قول الجمهور، وقطع به أكثر الشافعية، وفي وجه ليس له أن يفطر وكأن مستند قائله ما وقع في البويطي من تعليق القول به على صحة حديث ابن عباس هذا، وهذا كله فيما لو نوى الصوم في السفر. قال ابن قدامة (ج3ص101) إن نوى المسافر الصوم في سفره ثم بدأ له أن يفطر فله ذلك. واختلف قول الشافعي فيه فقال مرة: لا يجوز له الفطر. وقال مرة أخرى، إن صح حديث الكديد لم أر به بأسا أن يفطر. وقال مالك: إن أفطر فعليه القضاء والكفارة، ولنا حديث ابن عباس وهو حديث صحيح متفق عليه. ثم ذكر حديث جابر في إفطاره بعد العصر ثم قال: وهذا نص صريح فلا يعرج على من خالفه-انتهى. وأجاب المانعون من الفطر عن حديث ابن عباس بأنه ليس بنص في أنه صلى الله عليه وسلم بيت الصيام في ليلة اليوم الذي أفطر فيه، فيحتمل أن يكون لم ينو الصيام في ذلك اليوم، لما كان من قصده أن يظل مفطرا وشرب الماء بعد العصر ليريهم كونه غير صائم. قال الحافظ: واعترض بعض المانعين في أصل المسألة فقال ليس في الحديث دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم نوى الصيام في ليلة اليوم الذي أفطر فيه، فيحتمل أن يكون نوى أن يصبح مفطرا ثم أظهر الإفطار ليفطر الناس، لكن سياق الأحاديث ظاهر في أنه كان أصبح صائما أفطر. وقد روى ابن خزيمة وغيره عن أبي هريرة قال كنا مع النبي- صلى الله عليه وسلم - بمر الظهران فأتى بطعام، فقال لأبي بكر وعمر ادنوا فكلا، فقالا اعملوا لصاحبيكم ارحلوا لصاحبيكم ادنوا فكلا. قال ابن خزيمة: فيه دليل على أن للصائم في السفر الفطر بعد مضى بعض النهار-انتهى. وأجاب بعض المالكية عن حديث عباس بأنه إنما أفطر بعد أن بيت الصيام للضرورة كالتقوى للعدو والمشقة الحاصلة له ولهم. ولو نوى الصوم من الليل وهو

(14/23)


مقيم ثم سافر في أثناء النهار فهل له أن يفطر في ذلك النهار، منعه الجمهور. وقال أحمد وإسحاق: بالجواز، واختاره المزني محتجا بهذا الحديث، ظنا منه أنه - صلى الله عليه وسلم - أفطر في اليوم الذي خرج فيه من المدينة وليس كذلك، فإن بين المدينة والكديد عدة أيام. قال النووي: قد غلط بعض العلماء في فهم هذا الحديث، فتوهم أن الكديد وكراع الغميم قريب من المدينة، وإن كان بلوغه الكديد الغميم كان في اليوم الذي خرج فيه من المدينة، فزعم أنه خرج من المدينة صائما، فلما بلغ كراع الغميم في يومه أفطر من نهاره. واستدل به على أنه إذا سافر بعد طلوع الفجر صائما له أن يفطر في يومه، ومذهب الشافعي والجمهور أنه لا يجوز الفطر في ذلك اليوم، وإنما يجوز لمن طلع عليه الفجر في السفر، واستدلاله بهذا الحديث من العجائب الغريبة. لأن الكديد وكراع الغميم على سبع مراحل أو أكثر من المدينة-انتهى.
2044-(6) وفي رواية لمسلم عن جابر، أنه شرب بعد العصر.

(14/24)


قلت: لأحمد روايتان، فيما إذا نوى الصوم من الليل وهو مقيم، ثم سافر في أثناء النهار. قال ابن قدامة (ج3ص100) في إباحة فطر اليوم الذي سافر فيه عن أحمد روايتان، إحداهما له أن يفطر، وهو قول عمرو بن شرحبيل والشعبي وإسحاق وداود وابن المنذر لحديث أبي بصرة الغفاري، إذ أكل الغداء في السفينة حين رفع من الفسطاط في شهر رمضان، وكان يرى البيوت أخرجه أبوداود، والرواية الثانية لا يباح له الفطر ذلك اليوم، وهو قول مكحول والزهري ومالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، لأن الصوم عبادة تختلف بالسفر والحضر، فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر. قال ابن قدامة: والأول أصح للخبر-انتهى. ووافق الحنفية والمالكية في المسئلتين لكن لا كفارة عند الحنفية. قال ابن عابدين: لو سافر بعد الفجر لا يحل الفطر، وكذا لو نوى المسافر الصوم لا يحل فطره في ذلك اليوم، فلو أفطر لا كفارة عليه-انتهى. وقال صاحب فتح الملهم: وذهب الحنفية إلى عدم الجواز في الصورتين، ولهذا استشكل ابن الهمام أحاديث الباب، ثم أجاب عنها بما لا يقبله الوجدان السليم، نعم نقل الشيخ الأنور رحمه الله عن التتار خانية أنه يحل الفطر للغزاة عند مسيس الحاجة إليه مطلقا للتقوى على الجهاد والتأهب له، وحمل حديث الباب على تلك الحالة، وكذا حققه الحافظ بن القيم في الهدي-انتهى. قلت: والراجح عندي في المسئلتين هو ما ذهب إليه أحمد ومن وافقه والله تعالى أعلم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصيام وفي الجهاد وفي المغازي، ومسلم في الصيام واللفظ المذكور للبخاري في الصيام، وأخرجه أحمد سبع عشرة مرة، ومالك وأبوداود والنسائي والدارمي والطحاوي (ج1ص331) والبيهقي (ج4ص240- 243) بألفاظ مطولا ومختصرا.

(14/25)


2044- قوله: (وفي رواية لمسلم عن جابر) أي في هذه القصة (إنه) أي النبي- صلى الله عليه وسلم - (شرب بعد العصر) يعني كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما إلى وقت العصر، ثم أفطر ليعلم الناس إن الإفطار في السفر جائز بل أولى عند المشقة. وأخرج هذه الرواية مسلم من طريق عبدالعزيز الدراوردي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بلفظ: فقيل إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر. وأخرجها أيضا الترمذي والنسائي والبيهقي (ج4ص241) وذكر المصنف هذه الرواية لأنها أقرب بل أصرح في الدلالة، على أن من أصبح صائما في السفر جاز له أن يفطر خلافا للحنفية والمالكية وبعض الشافعية.
?الفصل الثاني?
2045-(7) عن أنس بن مالك الكعبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله وضع
عن المسافر شطر الصلاة، والصوم عن المسافر وعن المرضع والحبلى)) رواه أبوداود،
والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.

(14/26)


2045- قوله: (عن أنس بن مالك الكعبي) صحابي نزل البصرة له ثلاثة أحاديث وله عند الأربعة هذا الحديث فقط. روى عنه عبدالله بن سوادة وأبوقلابة. قال الحافظ في الإصابة: أنس بن مالك الكعبي القشيري أبوأمية: وقيل أبوأميمة. وقيل: أبومية (بحذف الألف وتشديد التحتانية) نزل البصرة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا في وضع الصيام عن المسافر وله معه فيه قصه أخرجه أصحاب السنن وأحمد وصححه الترمذي وغيره، ووقع فيه عند ابن ماجه (وكذا عند البيهقي) أنس بن مالك رجل من بني عبدالأشهل وهو غلط، وفي رواية أبي داود عن أنس بن مالك رجل من بني عبدالله بن كعب إخوة قشير، وهذا هو الصواب. وبذلك جزم البخاري في ترجمته، وعلى هذا فهو كعبي لا قشيري لأن قشيرا هو ابن كعب، ولكعب ابن اسمه عبدالله فهو من إخوة قشير، لا من قشير نفسه. وقد تعقب الرشاطي قول ابن عبدالبر فيه "القشيري، ويقال الكعبي، وكعب أخو قشير" بأن كعبا والد قشير، لا أخوه-انتهى. قال المنذري: من يسمى بأنس بن مالك من رواة الحديث خمسة اثنان صحا بيان هذا، وأبوحمزة أنس بن مالك الأنصاري خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنس بن مالك والد الإمام مالك بن أنس بن مالك، روى عنه حديث في إسناده نظر. والرابع، شيخ حمصي حدث، والخامس كوفي حدث عن حماد بن أبي سليمان والأعمش وغيرهما-انتهى. (إن الله وضع عن المسافر) أي رفع ابتداء عنه قاله القاري. وقال ابن حجر: وضع بمعنى أسقط، وإسقاط الشيء يقتضى إسقاط وجوبه الأخص لا جوازه الأعم، ففيه حجة لما عليه الشافعي إن القصر جائز لا واجب-انتهى. وقد رد عليه القاري بأن موضوع وضع ليس بمعنى الذي ذكر لا لغة ولا اصطلاحا. أما لغة فظاهر. وأما الاصطلاح الشرعي فقد ورد أن الله تعالى وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، أي كلفتهما وما يترتب عليهما من الحرج والإثم وكذا قوله تعالى: ?ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم? [الأعراف: 157]-انتهى. (شطر الصلاة) أي

(14/27)


نصف الصلاة الرباعية لا إلى بدل بخلاف الصوم (والصوم) بالنصب عطف على قوله شطر الصلاة (عن المسافر) أي وضع عنه لزومه في تلك الأيام وخيره بين أن يصوم تل الأيام وبين عدة من أيام آخر. قال الطيبي: وإنما ذكر عن المسافر بعد الصوم ليصح عطف عن المرضع عليه لأن شطر الصلاة ليس موضوعا عن المرضع-انتهى. ورواه أحمد بلفظ: إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة وعن المسافر والحامل والمرضع الصوم أو الصيام: قال التوربشتي: الصوم منصوب والعامل فيه وضع، وشتان بين الوضعين، فإن الموضوع عن الصلاة ساقط لا إلى قضاء، ولا كذلك الصوم.

(14/28)


وإنما ورد البيان على تقرير الرخصة فأتى بقضايا منسوقة في الذكر مختلفة في الحكم، وذلك لا تكاله على بيان التنزيل من قوله فعدة من أيام أخر ثم على علم المخاطبين بذلك-انتهى. (وعن المرضع) لم تدخله التاء للاختصاص مثل الحائض (والحبلى) أي إذا خافتا على الحمل والرضيع أو على أنفسهما ثم هل هو وضع إلى قضاء أو فداء أولا، إلى قضاء ولا فداء-الحديث. ساكت عنه فكل من يقول ببعضه لا بد له من دليل قاله السندي: قلت: حكى ابن قدامة والزرقاني اتفاق العلماء على وجوب القضاء من غير فدية، فيما إذا خافت الحامل والمرضع على أنفسهما. قال ابن قدامة (ج3ص139) إن الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما فلهما الفطر. وعليهما القضاء فحسب، لا نعلم فيه بين أهل العلم اختلافا لأنهما بمنزلة المريض الخائف على نفسه. وقال الزرقاني: إذا خافتا على أنفسهما فلا فدية باتفاق أهل المذهب وهو إجماع، إلا عند من أوجب الفدية على المريض-انتهى. وأما إذا خافتا على ولديهما فقط. وأفطرتا فاختلفوا فيه على خمسة أقوال: أحدها يطعمان ولا قضاء عليهما وهو مروي عن ابن عمر وابن عباس، رواه أبوداود والبزار والدارقطني والبيهقي عن ابن عباس ومالك وابن أبي حاتم والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر وهو أحد أقوال مالك. والثاني: أنهما يقضيان فقط ولا إطعام عليهما. وبه قال عطاء والزهري والحسن وسعيد بن جبير والنخعي وأبوعبيد وأبوثور وأبوحنيفة وأصحابه والأوزاعي والثوري، واستدل لهم بحديث الباب. قال الجصاص: ووجه الدلالة على هذا إخباره عليه الصلاة والسلام بأن وضع الصوم عن الحامل والمرضع هو كوضعه عن المسافر، ألا ترى إن وضع الصوم الذي جعله من حكم المسافر هو بعينه جعله من حكم المرضع والحامل، لأنه عطفهما عليه من غير استئناف ذكر شيء غيره، فثبت بذلك إن حكم وضع الصوم عن الحامل والمرضع هو في حكم وضعه عن المسافر، لا فرق بينهما، ومعلوم إن وضع الصوم عن المسافر إنما هو على جهة إيجاب

(14/29)


قضاءه بالإفطار من غير فدية، فوجب أن يكون ذلك حكم الحامل والمرضع، وفيه دلالة على أنه لا فرق بين الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما، إذ لم يفصل النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، وأيضا لما كانت الحامل والمرضع يرجى لهما القضاء، وإنما أبيح لهما الإفطار للخوف على النفس أو الولد مع إمكان القضاء وجب أن تكونا كالمريض والمسافر-انتهى. والثالث: إنهما يقضيان ويطعمان وهو المشهور من مذهب الشافعي وهو ثاني أقوال مالك، وإليه ذهب أحمد. والرابع: إن الحامل تقضي وتطعم، وبه قال الليث وهو المشهور من أقوال مالك لأن المرضع يمكن أن تسترضع لولدها بخلاف الحامل، ولأن الحمل متصل بالحامل فالخوف عليه كالخوف على بعض أعضاءها. والخامس: إنهما يطعمان ولا قضاء عليهما وإن شائتا ولا إطعام حكاه الترمذي عن إسحاق بن راهويه، فعنده لا يجمع بين القضاء والإطعام، فإذا أفطرت الحامل والمرضع قضتا ولا إطعام أو أطعمتا ولا قضاء.
2046-(8) وعن سلمة بن المحبق، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان له حمولة
تأوي إلى شبع فليصم رمضان حيث أدركه)) رواه أبوداود.

(14/30)


قال الشاه ولي الله في المصفى بعد ذكر قول إسحاق: هذا ما لفظه: أين قول بتطبيق أدله مناسب ترمي نمايد-انتهى. وقال ابن رشد بعد ذكر سبب اختلاف الأئمة: ومن أفرد لهما أحد الحكمين أولى ممن حمل كما أن من أفردهما بالقضاء ممن أفردهما بالإطعام فقط-انتهى. قلت: وكذا أولى الأقوال عندي في ذلك هو قول من أفردهما بالقضاء دون الإطعام، فهما في حكم المريض فليزمهما القضاء فقط والله تعالى أعلم (رواه أبوداود والترمذي) واللفظ لأبي داود وأخرجه أيضا أحمد (ج4ص347) والبخاري في تاريخه 2/1/30والطبراني والطحاوي (ج1ص246) والبيهقي (ج4ص231) ومنهم من ذكر فيه قصة، وسكت عنه أبوداود وحسنه الترمذي، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره.قلت: قد تقدم قول الحافظ عن الإصابة أن الترمذي صححه. وكذا قال في تهذيب التهذيب (ج1ص379) وهذا يدل على اختلاف نسخ الترمذي في ذلك وفي إسناد هذا الحديث اختلاف بينه البيهقي (ج4ص231) والنسائي والجزري في جامع الأصول (ج7ص268).

(14/31)


2046- قوله: (وعن سلمة) بفتح اللام (بن المحبق) بمهملة ثم موحدة مشددة كمعظم أو محدث (من كان له حمولة) بفتح الحاء ما يحمل عليه من الدواب كانت عليه الإحمال أولا كالركوبة، والمراد مركب، وضبطه الجزري في النهاية وجامع الأصول (ج7ص547) بضم الحاء. قال حمولة بالضم، الإحمال يعني أنه يكون صاحب إحمال يسافر بها يأوى إلى شبع وأما الحمول بلا هاء فهي الإبل التي عليها الهوادج كان فيها نساء أو لم يكن-انتهى. (تأوى) أي تأويه فإن أوى لازم ومتعد على لفظ واحد يقال، أوى البيت وإلى البيت نزل فيه، وأواه البيت وإلى البيت أنزله فيه، وفي الحديث يجوز الوجهان، والمعنى من كانت له دابة تؤوي صاحبها أو تأوى بصاحبها، وقوله تأوى كذا في جميع النسخ من المشكاة وكذا في المصابيح وبعض نسخ أبي داود، وهكذا وقع عند أحمد (ج3ص476) ووقع في بعض نسخ أبي داود يأوى، وكذا نقله في جامع الأصول (ج7ص273) وهكذا وقع عند أحمد (ج5ص7) والبيهقي (ج4ص245) وكذا نقله ابن حزم في المحلى (ج6ص247) وابن قدامة (ج3ص150) أي من كانت له حمولة يأوى صاحبها (إلى شبع) بكسر الشين وسكون الموحدة ما أشبعك وبفتح الباء المصدر،
?الفصل الثالث?
2047-(9) عن جابر، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان
فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه، حتى نظر الناس
إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام. فقال: أولئك العصاة أولئك
العصاة)) رواه مسلم.

(14/32)


والمعنى الأول هنا أظهر والثاني يحتاج إلى تقدير مضاف وهو في الرواية أكثر يعني من كان له حمولة تأويه إلى حال الشبع ورفاهية أو إلى مقام يقدر على الشبع فيه، ولم يلحقه في سفره وعثاء ومشقة وعناء (فليصم رمضان حيث أدركه) أي رمضان يعني من كان له مركب يوصله إلى منزله في حال الشبع والرفاهية ولا يلحقه في سفره جهد ومشقة فليصم، والأمر محمول على الندب، والحث على الأولى والأفضل للنصوص الدالة على جواز الإفطار في السفر مطلقا، أي وإن لم يلحقه مشقة. وقيل: المعنى من كان راكبا وسفره قصير بحيث يبلغ إلى المنزل قفي يومه فليصم رمضان، والأمر على هذا محمول على الوجوب لأنه لا يباح الفطر عند الجمهور إلا في السفر الطويل الذي يبيح القصر، وقد تقدم ذكر قدره في الصلاة. وقال داود: يجوز الإفطار في السفر أي قدر كان (رواه أبوداود) وأخرجه أحمد والبيهقي (ج4ص245) وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: في إسناده عبدالصمد بن حبيب الأزدي العوذي البصري. قال ابن معين: ليس به بأس. وقال أبوحاتم الرازي: يكتب حديثه بالمتروك. وقال يحول من كتاب الضعفاء. وقال البخاري: لين الحديث ضعفه أحمد وقال البخاري أيضا: عبدالصمد بن حبيب منكر الحديث ذاهب الحديث ولم يعد البخاري هذا الحديث شيئا. وقال أبوحاتم الرازي: لين الحديث ضعفه أحمد وذكر له أبوجعفر العقيلي هذا الحديث، وقال لا يتابع عليه ولا يعرف إلا به-انتهى.

(14/33)


2047- قوله: (حتى بلغ كراع الغميم) بضم الكاف والغميم بفتح الغين المعجمة واد بالحجاز منتهاه قريب من عسفان سمي ذلك المنتهى كراعا، لأنه يشبه كراع الغنم وهو ما دون الركبة من الساق، ذكره ابن حجر، وقال في النهاية: هو اسم موضع بين مكة والمدينة، والكراع جانب مستطيل من الحرة تشبيها بالكراع، والغميم بالفتح واد بالحجاز-انتهى. وقال الحافظ: هو اسم واد أمام عسفان (فصام الناس) عطف على فصام أي صام هو وأصحابه (ثم دعا بقدح من ماء) أي بعد العصر كما تقدم. قال السندي: فيه دليل على جواز الفطر للمسافر بعد الشروع في الصوم، ومن يقول بخلافه فلا يخلو قوله عن أشكال-انتهى. (ثم شرب) أي ليتابعوه في الإفطار (إن بعض الناس)
2048-(10) وعن عبدالرحمن بن عوف، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صائم
رمضان في السفر كالمفطر في الحضر)) رواه ابن ماجه.

(14/34)


ظنا منهم أن إفطاره كان لبيان الجواز (قد صام) أفرد الضمير للفظ البعض ثم رجع لمنعاه (فقال أولئك العصاة أولئك العصاة) جمع العاصي، كذا وقع مكررا مرتين تأكيدا أو تشديدا، ورواه الترمذي والنسائي والبيهقي والطحاوي، وقالوا: أولئك العصاة مرة واحدة، وسياق الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح حتى بلغ كراع الغميم وصام الناس معه، فقيل له أن الناس قد شق عليهم الصيام، وإن الناس ينظرون فيما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون إليه فأفطر بعضهم وصام بعضهم، فبلغه أن ناسا صاموا فقال أولئك العصاة-انتهى. وإنما نسب الصائمين إلى العصيان لأنهم خالفوا فعل الرسول- صلى الله عليه وسلم - ولم يمتثلوا ما أراده - صلى الله عليه وسلم - برفع قدح الماء وشربه من إتباعه في الإفطار مع وجود المشقة. قال الحافظ: نسب الصائمين إلى العصيان لأنه عزم عليهم فخالفوا. وقال النووي: هذا محمول على من تضرر بالصوم أو أنهم أمروا بالفطر أمرا جازما لمصلحة بيان جوازه فخالفوا الواجب، وعلى التقديرين لا يكون الصائم اليوم في السفر عاصيا إذا لم يتضرر به، ويؤيد التأويل الأول قوله في الرواية الثانية إن الناس قد شق عليهم الصيام-انتهى. وقال الطيبي: التعريف في الخبر للجنس أي أولئك الكاملون في العصيان، لأنه - صلى الله عليه وسلم - بالغ في الإفطار حتى رفع قدح الماء بحيث يراه كل الناس ثم شرب لكي يتبعوه ويقبلوا رخصة الله فمن أبى فقد بالغ في العصيان والله أعلم-انتهى. (رواه مسلم) من طريق عبدالوهاب عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر، ورواه أيضا من طريق عبدالعزيز بن محمد الدراوردي عن جعفر، وزاد فقيل له أن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر، ومن طريق الدراوردي رواه الترمذي والبيهقي ورواه النسائي والطحاوي من طريق ابن الهاد عن جعفر بن محمد.

(14/35)


2048- قوله: (صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر) فيه مبالغة في المنع عن الصوم في السفر وهو محمول على حال عدم القدرة ولحوق الضرر والاستنكاف عن العمل برخصة الله. وقال ميرك: يفهم من الحديث منع الصوم في السفر كمنع الإفطار في الحضر. قلت: هذا ظاهر الحديث ومشى عليه الظاهرية كما تقدم، وإنما أولناه بما سبق جمعا بينه وبين الأحاديث التي وردت على خلاف ذلك صريحا، وذهب إليها جمهور العلماء. وقال السندي: قوله "كالمفطر" في الحضر أي في غير رمضان فمرجعه إلى أن الصوم خلاف الأولى، أو كالمفطر في رمضان، فمدلوله أنه حرام، والأول هو أقرب ومع ذلك لا بد عند الجمهور من حمله على حالة مخصوصة كما إذا أجهده الصوم-انتهى.

(14/36)


وقال الشوكاني: هو محمول على الحالة التي يكون الفطر فيها أولى من الصوم كحالة المشقة جمعا بين الأدلة. وقال الحافظ: هو محمول على ما تقدم أولا حيث يكون الفطر أولى من الصوم (رواه ابن ماجه) وكذا البزار وابن حزم في المحلى (ج6ص258) كلهم من طريق أسامة بن زيد عن الزهري عن أبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف عن أبيه. قال في الزوائد: في إسناده انقطاع، وأسامة بن زيد متفق على تضعيفه، وأبوسلمة ابن عبدالرحمن لم يسمع من أبيه شيئا. قاله ابن معين والبخاري-انتهى. وقال ابن حزم: قد صح سماع أبي سلمة عن أبي قال، ولا نحتج بأسامة بن زيد الليثي ولا نراه حجة لنا ولا علينا. وقال البزار: أسنده أسامة وتابعه يونس، ورواه ابن أبي ذئب وغيره عن الزهري عن أبي سلمة عن أبيه موقوفا، ولو ثبت مرفوعا لكان منسوخا بحديث الكديد. وقال الحافظ في الفتح: رواه الأثرم من طريق أبي سلمة مرفوعا، والمحفوظ عن أبي سلمة عن أبيه موقوفا كذلك أخرجه النسائي وابن المنذر، ومع وقفه فهو منقطع. لأن أبا سلمة لم يسمع من أبيه. وقال في التلخيص (ص195) أخرجه ابن ماجه والبزار من حديث عبدالرحمن بن عوف (أي مرفوعا) والنسائي من حديثه بلفظ: قال كان يقال الصيام في السفر كالإفطار في الحضر، وصوب وقفه على عبدالرحمن، وأخرجه ابن عدي من وجه آخر وضعفه، وكذا صحح كونه موقوفا ابن أبي حاتم عن أبيه في العلل (ج1ص239) والدارقطني في العلل والبيهقي (ج4ص244)-انتهى. قلت: أسامة بن زيد الليثي قد تكلم فيه يحيى القطان وأحمد وأبوحاتم والنسائي، ووثقه ابن معين والعجلي، وقال ابن عدي ليس به بأس. وقال أبوداود: صالح، وروى له مسلم استشهادا أو مقرونا به في الإسناد فهو من الرجال الذين اختلفوا فيهم، لا ممن اتفقوا على تضعيفهم ثم أنه وإن تكلم فيه، لكن الحق إنه ثقة صالح للاحتجاج، ولذلك ذكره الذهبي في كتابه، ذكر أسماء من تكلم فيه وهو موثق حيث قال أسامة بن زيد الليثي لا العدوى صدوق، قوى

(14/37)


الحديث أكثر مسلم في إخراج حديث ابن وهب عنه، ولكن أكثرها شواهد أو متابعات. والظاهر أنه ثقة. وقال النسائي وغيره ليس بالقوي-انتهى. فتضعيف المرفوع من جهة أسامة هذا ليس بصحيح عندي، على أنه قد تابعه يونس كما قال البزار، نعم تضعيفه من جهة كونه منقطعا حق، لا شك فيه. فإن أبا سلمة بن عبدالرحمن لم يسمع من أبيه. قال في تهذيب التهذيب (ج12ص117) قال علي بن المدني وأحمد وابن معين وأبوحاتم ويعقوب بن شيبة وأبوداود: حديثه عن أبيه مرسل، قال مات وهو صغير. وقال أبوحاتم: لا يصح عندي، وصرح الباقون بكونه لم يسمع منه. وقال ابن عبدالبر: لم يسمع من أبيه، وحديث النضر بن شيبان في سماع أبي سلمة عن أبيه لا يصححونه-انتهى.
2049-(11) وعن حمزة بن عمرو الأسلمي، ((أنه قال يا رسول الله ! إني أجد بي قوة على الصيام
في السفر، فهل علي جناح؟ قال: هي رخصة من الله عزوجل فمن أخ بها فحسن، ومن
أحب أن يصوم فلا جناح عليه)) رواه مسلم.

(14/38)


2049- قوله: (إني أجد) كذا في جميع النسخ وهكذا في جامع الأصول (ج7ص264) وكذا وقع في رواية الدارقطني والذي في صحيح مسلم أجد أي بحذف كلمة إني وهكذا نقله المجد بن تيمية في المنتقى (بي قوة) أي زائدة (على الصيام في السفر فهل علي جناح) أي إثم أو بأس بالصوم أو الفطر (قال هي) أي الإفطار والتأنيث بإعتبار الخبر (رخصة من الله عزوجل) فإن الصوم عزيمة منه تعالى. وقال الطيبي: قوله "هي رخصة" الضمير راجع إلى معنى السؤال، أي هل على إثم إن أفطر، فأنثه بإعتبار الخبر كما في قوله من كانت أمك ويحتمل أن السائل قد سمع أن الصوم في السفر عصيان، كما في حديث جابر أولئك العصاة، فسأل هل علي جناح أن أصوم لأني قوي عليه، فقال لا، لأن الإفطار رخصة، ولفظ الحسن يقوي الوجه الأول. وقال ابن حجر: يحتمل أن مراده فهل علي جناح في الفطر. لأني قوي، والرخصة للضعيف، أو في الصوم لأن الفطر رخصة، وقد تكون واجبة. وقوله "هي" أي تلك الفعلة أو الخصلة المذكورة وهي الإفطار في السفر، وأنث ضميره وهو رخصة أي تسهيل من الله عزوجل لعباده دفعا للمشقة عليهم ما جعل عليكم في الدين من حرج، وتأنيث الضمير لتأنيث الخبر (فمن أخذ بها) أي بالرخصة (فحسن) أي فعله حسن مرضي لا جناح عليه للحديث الآخر إن الله يحب أن يؤتى رخصة كما يحب أن يؤتى عزائمه (ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه) قال القاري: كان ظاهر المقابلة أن يقول فحسن أو فأحسن بل مقتضى كون أول رخصة، والثاني عزيمة أن يعكس في الجزاء بأن يقال في الأول فلا جناح عليه، وفي الثاني فحسن لكن أريد المبالغة، لأن الرخصة إذا كانت حسنا فالعزيمة أولى بذلك، ولعله عليه السلام علم بنور النبوة إن مراد السائل بقوله فهل علي جناح أي في الصوم ويدل عليه المقدمة المتقدمة من قوله إني أجدبي قوة على الصيام، وكذا ما سبق من حديثه أول الباب-انتهى باختصار. قلت ظاهر الحديث ترجيح الإفطار في السفر مطلقا كما هو مذهب أحمد خلافا

(14/39)


للجمهور لقوله فحسن. قال الشوكاني: قوله أجد بي قوة ظاهره إن الصوم لا يشق عليه ولا يفوت به حق، وفي رواية لمسلم إني أسرد الصوم وقد جعل المصنف (يعني صاحب المنتقى) هذا الحديث قوى الدلالة على فضيلة الفطر لقوله - صلى الله عليه وسلم - فمن أخذ بها ومن أحب أن يصوم فلا جناح. فاثبت للأخذ بالرخصة الحسن وهو أرفع من رفع الجناح. وأجاب الجمهور بأن هذا فيمن يخاف ضررا أو يجد مشقة كما هو صريح الأحاديث. وقد أسلفنا تحقيق ذلك. وقال الأبي في شرحه لمسلم: احتج بالحديث من جعل الفطر أفضل لقوله فيه فحسن، وقال في الصوم فلا جناح، ولا حجة فيه لأن قوله لا جناح إنما هو جواب لقوله هل علي جناح، ولا يدل على أن الصوم ليس بحسن وقد وصفهما معا في الآخر بالحسن.
(5) باب القضاء
?الفصل الأول?
2050-(1) عن عائشة، قالت: ((كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا في
شعبان.) قال يحيى بن سعيد: (تعني الشغل من النبي أو بالنبي صلى اله عليه وسلم) متفق عليه.
وإنما لم يدل على أن الصوم ليس بحسن لأن نفي الجناح أعم من الوجوب والندب والإباحة والكراهة (رواه مسلم) من طريق عروة بن الزبير عن أبي مرواح عن حمزة، وأخرجه أيضا النسائي والدارقطني (ص242) والطحاوي (ج1:ص433) والبيهقي (ج4:243).
(باب القضاء) أي حكمه وآدابه.
2050- قوله: (قالت كان) أي الشأن (يكون على) بتشديد التحتانية (الصوم) أي قضاءه (من رمضان) تريد أياما من رمضان فاتتها بحيض أو مرض أو غير ذلك من الأعذار المبيحة للفطر، وتكرير الكون لتحقيق القضية وتعظيمها، والتقدير كان الشأن يكون كذا، والتعبير بلفظ الماضي أولا. والمضارع ثانيا. لإرادة الإستمرار وتكرار الفعل قاله القسطلاني: وقيل: لفظه "يكون" زائدة كما قال الشاعر:
وجيران لنا كانوا كرام

(14/40)


وقال الطيبي: "الصوم" إسم كان وعلي خبره ويكون زائدة (فما أستطيع) أي ما أقدر (أن أقضى) أي ما فاتني من رمضان (إلا في شعبان قال يحيى بن سعيد) أي الراوي المذكور في سند هذا الحديث، وهو يحيى بن سعيد الأنصاري نص عليه الحافظ المزي عند ذكر هذا الحديث. وقال الحافظ: هو يحيى بن سعيد الأنصاري ولا جائز أن يكون يحيى بن سعيد القطان، لأنه لم يدرك أبا سلمة بن عبدالرحمن، وليست لزهير بن معاوية عنه رواية، وإنما هو يروي عن زهير (تعني الشغل) كذا في أكثر النسخ بزيادة كلمة تعني، وهكذا وقع في المصابيح، والشغل بضم الأولى وسكون الثانية مرفوع على أنه فاعل فعل محذوف أي قال يحيى تريد عائشة يمنعني الشغل أو أوجب ذلك الشغل ووقع في نسخة القاري. قال يحيى بن سعيد: الشغل أي بإسقاط كلمة "تعني" وكذا نقله الجزري في جامع الأصول وهكذا وقع في البخاري. قال الحافظ: قوله "الشغل" هو خبر مبتدأ محذوف تقديره المانع لها هو الشغل أو هو مبتدأ محذوف الخبر تقديره الشغل هو المانع (من النبي) أي من أجله (أو بالنبي صلى الله عليه وسلم) قال القاري: "من" للتعليل أي لأجله والباء للسببية، و أو للشك من أحد الرواة عن يحيى على ما هو الظاهر،

(14/41)


ويمكن أن يكون للتنويع. والشغل مبتدأ والتقدير الشغل المانع لقضاء الصوم كان ثابتا من جهته، أو اشتغالها بخدمته صلى الله عليه وسلم هو المانع من القضاء-انتهى. والمراد من الشغل إنها كانت مهيئة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم مترصدة لاستمتاعه في جميع أوقاتها إن أراد ذلك ولا نعلم متى يريده. وأما في شعبان فإنه صلى الله عليه وسلم كان يصومه فتفرغ عائشة فيه لقضاء صومها، وفي هذا التعليل إشكال كما ستعرف. قال الحافظ: وفي قوله "قال يحيى" الخ. تفصيل لكلام عائشة من كلام غيرها أي فيه بيان من البخاري إن هذا ليس من قول عائشة. بل مدرج من قول غيرها، ووقع في رواية أحمد بن يونس عند مسلم مدرجا لم يقل فيه. قال يحيى: فصار كأنه من كلام عائشة أو من روي عنها. وأخرجه مسلم من طريق سليمان بن بلال عن يحيى مدرجا أيضا ولفظه، وذلك لمكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخرجه من طريق ابن جريج عن يحيى فبين إدراجه، ولفظه فظننت إن ذلك لمكانها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحيى بقوله. وأخرجه أبوداود من طريق مالك، والنسائي من طريق يحيى القطان وسعيد بن منصور عن ابن شهاب وسفيان كلهم عن يحيى بدون هذه الزيادة. وأخرجه مسلم من طريق محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة بدون الزيادة لكن فيه ما يشعر بها فإن لفظه قالت: إن كانت إحدانا لتفطر في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما تقدر على أن تقضيه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يأتي شعبان. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون المراد بالمعية الزمان أي إن ذلك كان خاصا بزمانه، وللترمذي وابن خزيمة من طريق عبدالله البهي عن عائشة ما كنت أقضي ما يكون علي من رمضان إلا في شعبان حتى قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - انتهى. قلت قد اعترض على التعليل المذكور. فقال ابن عبدالبر: هذا التعليل ليس بشيء لأن شغل سائر أزواجه كشغلها أو قريب منه لأنه أعدل الناس حتى قال اللهم

(14/42)


هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك وإما أخرت ذلك للرخصة والتوسعة. وقال في اللامع: قد كان - صلى الله عليه وسلم - له تسع نسوة يقسم لهن ويعدل فما تأتي نوبة الواحدة إلا بعد ثمانية أيام فكان يمكنها أن تقضي في تلك الأيام. وأجاب عنه القرطبي بأن القسم لم يكن واجبا عليه فهن يتوقعن حاجته في كل الأوقات-انتهى. قال القسطلاني: والصحيح عند الشافعية وجوبه عليه فيحتمل أن يقال كانت لا تصوم إلا بإذنه، ولم يكن يأذن لاحتمال إحتياجه إليها فإذا ضاق الوقت أذن لها-انتهى. وقيل إن القسم إنما هو في المبيت في الليل دون النهار. وقال الحافظ: ومما يدل على ضعف الزيادة المذكورة إنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم لنساءه فيعدل، وكان يدنو من المرأة في غير نوبتها فيقبل ويلمس من غير جماع، فليس في شغلها بشيء من ذلك ما يمنع الصوم، اللهم إلا أن يقال أنها كانت لا تصوم إلا بإذنه ولم يكن يأذن لاحتمال إحتياجه إليها، فإذا ضاق الوقت أذن لها، وكان هو - صلى الله عليه وسلم - يكثر الصوم في شعبان فلذلك كانت لا يتهيأ إلا في شعبان – انتهى

(14/43)


وقال النووي: كانت كل واحدة منهن مهيأة نفسها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مترصدة لاستمتاعه في جميع أوقاتها إن أراد ذلك، ولا تدري متى تريده ولا تستأذنه في الصوم مخافة أن يأذن، وقد يكون له حاجة فيها فيفوتها عليه، وهذا من الأدب، وإنما كانت تصومه في شعبان لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم معظم شعبان، فلا حاجة له فيهن حينئذ في النهار، ولأنه إذا جاء شعبان يضيق قضاء رمضان فإنه لا يجوز تأخيره عنه-انتهى. وقال الباجي: والظاهر أنه ليس للزوج جبر المرأة على تأخير القضاء إلى شعبان إلا باختيارها لأن لها حقا في إبراء ذمتها من الفرض الذي لزمها، وأما التنفل فإن له منعها لحاجة إليها لحديث أبي هريرة لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه.و في الحديث حجة للجمهور إن القضاء لا يجب على الفور إذ لو منع التأخير لم يقرها - صلى الله عليه وسلم -، نعم يندب التعجيل لأن المبادرة إلى الطاعة والمسارعة إلى الخير أولى. وأوجب داود القضاء من ثاني شوال فإن أخره أثم. وحديث عائشة يرد عليه. وقال الشوكاني: في الحديث دلالة على جواز تأخير قضاء رمضان مطلقا، سواء كان لعذر أو لغير عذر، لأن للزيادة المذكورة مدرجة، ولكن الظاهر إطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك لا سيما مع توفر دواعي أزواجه إلى سؤاله عن الأحكام الشرعية فيكون ذلك أعنى جواز التأخير مقيدا بالعذر المسوغ لذلك. قلت: واحتج الجمهور أيضا بقوله تعالى ?فعدة من أيام أخر? [البقرة:185] فإنه أمر بالقضاء مطلقا عن وقت معين فلا يجوز تقييده ببعض الأوقات إلا بدليل فيكون وجوب القضاء موسعا على التراخي لا على الفور. ويؤخذ من حرص عائشة على القضاء في شعبان أنه لا يجوز تأخير القضاء حتى يدخل رمضان آخر فإن دخل فالقضاء واجب أيضا فلا يسقط، وأما الإطعام فليس له في الحديث ذكر لا بالنفي ولا بالإثبات. واختلف العلماء فيه. فذهب الجمهور مالك والشافعي وأحمد إلى

(14/44)


وجوب الإطعام مع القضاء. وروى ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة وعمر، ونقل الطحاوي عن يحيى بن أكثم قال وجدته عن ستة من الصحابة لا أعلم لهم فيه مخالفا-انتهى. وخالف في ذلك إبراهيم النخعي وأبوحنيفة وأصحابه، ومال الطحاوي إلى قول الجمهور في ذلك، ومال البخاري إلى أنه يقضى ولا كفارة عليه حيث قال بعد ذكر قول أبي هريرة وابن عباس في الإطعام ما لفظه ولم يذكر الله الإطعام، إنما قال: ?فعدة من أيام أخر? أي وسكت عن الإطعام وهو الفدية لتأخير القضاء ولم يثبت فيه شيء مرفوع. وفي الحديث إن حق الزوج من العشرة والخدمة يقدم على سائر الحقوق ما لم يكن فرضا محصورا في الوقت. وقيل: قول عائشة فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان يدل على أنها كانت لا تتطوع بشيء من الصيام لا في عشر ذي الحجة ولا في عاشوراء ولا في غيرهما، وهو مبني على أنها كانت لا ترى جواز صيام التطوع لمن عليه دين من رمضان، ولكن من أين ذلك لمن يقول به. والحديث ساكت عن هذا (متفق عليه) واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضا أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي وابن خزيمة.
2051- (2) وعن أبي هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه)). رواه مسلم.

(14/45)


2051- قوله: (لا يحل للمرأة) أي المزوجة (أن تصوم) أي نفلا أو واجبا على التراخي قاله القسطلاني وخصه البخاري بالتطوع وكأنه تلقاه من رواية الحسن بن علي عن عبدالرزاق، فإن فيها لا تصوم المرأة غير رمضان. وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا في أثناء حديث، ومن حق الزوج على زوجته أن لا تصوم تطوعا إلا بإذنه. فإن فعلت لم يقبل منها (وزوجها شاهد) أ ي حاضر عندها مقيم في بلدها وفي رواية وبعلمها شاهد قال الحافظ: رواية بعلها أفيد، لأن ابن حزم نقل عن أهل اللغة أن البعل اسم للزوج والسيد، فإن ثبت وإلا الحق السيد بالزوج للإشتراك في المعنى يعني يلتحق به السيد بالنسبة لأمته التي يحل له وطيها (إلا بإذنه) أي تصريحا أو تلويحا، فيه دليل على تحريم الصوم المذكور عليها، وهو قول الجمهور. قال النووي: وسبب هذا التحريم إن للزوج حق الإستمتاع بها في كل الأيام وحقه فيه واجب على الفور فلا يفوته بتطوع ولا بواجب على التراخي، فإن قيل فينبغي أن يجوز لها الصوم بغير إذنه فإن أراد الإستمتاع بها كان له ذلك ويفسد صومها، فالجواب إن صومها يمنعه من الاستمتاع في العادة فإن المسلم يهاب إنتهاك الصوم بالإفساد، ولا شك أن الأولى له خلاف ذلك إن لم يثبت دليل كراهة، نعم لو كان مسافرا فمفهوم الحديث في تقييده بالشاهد يقتضي جواز التطوع لها، إذا كان زوجها مسافرا، لأنه لا يتأتى منه الاستمتاع إذا لم تكن معه وفي معنى الغيبة أن يكون مريضا بحيث لا يستطيع الجماع. قال القاري: ظاهر الحديث إطلاق منع صوم النفل فهو حجة على الشافعية في إستثناء نحو عرفة وعاشوراء. قال شيخنا: الأمر كما قال القاري: وإنما لم يلحق بالصوم صلاة التطوع لقصر زمنها وفي معنى الصوم الاعتكاف لا سيما على القول بأن الاعتكاف لا يصح بدون الصوم، قال ولا يبعد أن يحمل قوله "لا يحل على معنى" لا ينبغي أن تصوم قضاء رمضان أو قضاء صوم النفل إذا كان الوقت متسعا ليكون مناسبا

(14/46)


لعنوان الباب-انتهى. قلت: عدم حل الصوم ظاهر في حرمته وهو يشمل ابتداء الصوم وقضاءه، فلا يجوز لها صوم النفل ولا قضاء الواجب إذا كان الوقت متسعا إلا بإذن زوجها، وفي الحديث إن حق الزوج آكد على المرأة من التطوع بالخير لأن حقه واجب، والقيام بالواجب مقدم على القيام بالتطوع. (ولا تأذن) قال القاري: بالنصب في النسخ المصححة عطفا على تصوم أي ولا يحل لها أن تأذن أحدا من الأجانب أو الأقارب حتى النساء ولا مزيدة للتأكيد.
2052- (3) وعن معاذة العدوية، إنها قالت لعائشة: ((ما بال الحائض تقضى الصوم ولا تقضى الصلاة؟ قالت: عائشة كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة)) رواه مسلم.

(14/47)


وقال ابن حجر: يصح رفعه خبرا يردا به النهى وجزمه على النهى ( في بيته) أ ي دخول بيته والمراد ببيت زوجها مسكنه سواء كان ملكه أو، لا (إلا بإذنه) وفي معناه العلم برضاه، وفي رواية مسلم وهو شاهد إلا بإذنه. قال الحافظ: هذا القيد لا مفهوم له بل خرج مخرج الغالب وإلا فغيبة الزوج لا تقتضي الإباحة للمرأة أن تأذن لمن يدخل بيته، بل يتأكد حينئذ عليها المنع لثبوت الأحاديث الواردة في النهى عن الدخول على المغيبات، أي من غاب عنها زوجها. ويحتمل أن يكون له مفهوم، وذلك أنه إذا حضر تيسر استئذانه وإذا غاب تعذر، فلو دعت الضرورة إلى الدخول عليها لم تفتقر إلى استئذانه لتعذره. وقال النووي: في هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يفتات على الزوج بالإذن في بيته إلا بإذنه وهو محمول على ما لا تعلم رضا الزوج به، أما لو علمت رضا الزوج بذلك فلا حرج عليها كمن جرت عادته بإدخال الضيفان موضعا معدا لهم. سواء كان حاضرا، أم غائبا، فلا يفتقر إدخالهم إلى إذن خاص لذلك، وحاصله أنه لا بد من إعتبار إذنه تفصيلا أو إجمالا (رواه مسلم) هذا يوهم أن الحديث من أفراد مسلم وأنه رواه بهذا اللفظ وليس كذلك فإن الحديث متفق عليه، واللفظ المذكور للبخاري، أخرجه في أثناء حديث في كتاب النكاح من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. وذكره مسلم كذلك في كتاب الزكاة من رواية همام بن منبه عن أبي هريرة بلفظ: لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه. ورواه البخاري أيضا من هذا الطريق مقتصرا على الجملة الأولى، فكان حق المصنف أن يقول متفق عليه، واللفظ للبخاري. والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج2:ص216) من طريق همام بن منبه، والترمذي وابن ماجه من طريق أبي الزناد عن الأعرج بلفظ: لا تصوم المرأة وزوجها شاهد من غير شهر رمضان إلا بإذنه، وأبوداود من طريق همام وزاد غير رمضان، وأخرجه أيضا الدارمي والبيهقي (ج4:ص303) وفي الباب عن

(14/48)


أبي سعيد عند أبي داود والدارمي وابن ماجه وعن ابن عباس عند الطبراني.
2052- قوله: (وعن معاذة) بميم مضمومة وعين مهملة وذال معجمة بنت عبدالله (العدوية) بعين ودال مفتوحتين منسوبة إلى عدي بن كعب بطن من قريش (إنها قالت لعائشة) وفي رواية البخاري وكذا في رواية لمسلم عن معاذة إن امرأة قالت لعائشة. قال الحافظ: كذا أبهمها همام، وبين شعبة في روايته عن قتادة إنها هي معاذة الرواية أخرجه الإسماعيلي، وكذا لمسلم من طريق عاصم وغيره عن معاذة. (ما بال الحائض) أي ما شأنها وإنما لم يدخله التاء للإختصاص (تقضى الصوم) أي الذي فاتها أيام حيضها (ولا تقضى الصلاة) مع أنها فرضان تركا لعلة واحدة وهي الحيض، وفي معناه النفاس تعنى أن مقتضى الرأى أن يكون الصوم والصلاة متساويان في الحكم،

(14/49)


لأن كلا منهما عبادة تركت لعذر (كان) أي الشأن (يصيبنا ذلك) بكسر الكاف وبفتح أي الحيض (فنؤمر) أي نحن معاشر النساء (بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) في شرح الطيبي: قيل: الجواب من الأسلوب الحكيم أي دعى السؤال عن العلة إلى ما هو أهم منها من متابعة النص والانقياد للشارع، وذكر البخاري في كتاب الصيام من صحيحه عن أبي الزناد أنه قال إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيرا على خلاف الرأي فما يجد المسلمون بدا من إتباعها من ذلك، إن الحائض تقضى الصيام ولا تقضى الصلاة-انتهى. يعني أن الأمور الشرعية التي تأتي على خلاف الرأي والقياس ولا يعلم وجه الحكمة فيها يجب الإتباع بها ولا يعترض، ولا يقال لم كان كذا ولا يطلب وجه الحكمة فيها بل يتعبد بها ويؤكل أمرها إلى الله تعالى لأن أفعال الله لا تخلوا عن حكمة ولكن غالبها تخفى على الناس ولا تدركها العقول: قال الحافظ قال الزين بن المنير: نظر أبوالزناد إلى الحيض فوجده مانعا من هاتين العبادتين وما سلب الأهلية استحال أن يتوجه به خطاب الاقتضاء وما يمنع صحة الفعل يمنع الوجوب فلذلك استبعد الفرق بين الصلاة والصوم فأحال بذلك على إتباع السنة والتعبد المحض. وقد تقدم في كتاب الحيض سؤال معاذة من عائشة عن الفرق المذكور وانكرت عليها عائشة السؤال وخشيت عليها أن تكون تلقنته من الخوارج الذين جرت عادتهم باعتراض السنن بآرائهم، ولم تزدها على الحوالة على النص، وكأنها قالت دعى السؤال عن العلة إلى ما هو أهم من معرفتها وهو الانقياد إلى الشارع. وقد تكلم الفقهاء في الفرق بين الصلاة والصوم، واعتمد كثير منهم على أن الحكمة فيه أن الصلاة تتكرر فيشق قضاءها، بخلاف الصوم الذي لا يقع في السنة إلا مرة. واختار إمام الحرمين أن المتبع في ذلك هو النص وإن كل شيء ذكروه من الفرق ضعيف-انتهى. قال ابن دقيق العيد: (ج1:ص128) اكتفاء عائشة في الاستدلال على إسقاط القضاء بكونه لم يؤمر به يحتمل وجهين أحدهما

(14/50)


أن تكون أخذت إسقاط القضاء من إسقاط الأداء ويكون مجرد سقوط الأداء دليلا على سقوط القضاء، فيتمسك به حتى يوجد المعارض وهو الأمر بالقضاء كما في الصوم. والثاني قال: وهو الأقرب إن الحاجة داعية إلى بيان هذا الحكم لتكرر الحيض منهن عنده صلى الله عليه وسلم، فلو وجب قضاء الصلاة فيه لوجب بيانه، وحيث لم يبين دل على عدم الوجوب لا سيما، وقد اقترن بذلك قرينة أخرى وهي الأمر بقضاء الصوم وتخصيص الحكم به قال: وفي الحديث دليل لما يقوله الأصوليون من أن قول الصحابي كنا نؤمر وننهى في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلا لم تقم الحجة به-انتهى. ووقع في رواية البخاري كنا نحيض عند النبي صلى الله عليه وسلم فلا يأمرنا به أو قالت: فلا نفعله. قال الحافظ: في هذه الرواية بالشك وعند الإسماعيلي من وجه آخر فلم نكن نقضى ولم نؤمر به والاستدلال بقولها فلم نكن نقضى أوضح من الاستدلال بقولها فلم نؤمر به،
2053- (4) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مات وعليه صوم صام عنه وليه)) متفق عليه.

(14/51)


لأن عدم الأمر بالقضاء هنا قد ينازع في الاستدلال به على عدم الوجوب لاحتمال الاكتفاء بالدليل العام على وجوب القضاء والله أعلم. قال الشوكاني: نقل ابن المنذر والنووي وغيرهما إجماع المسلمين على أنه لا يجب على الحائض قضاء الصلاة ويجب عليها قضاء الصيام، وروى عبدالرزاق عن معمر أنه سأل الزهري عنه، فقال اجتمع الناس عليه، وحكى ابن عبدالبر عن طائفة من الخوارج أنهم كانوا يوجبون على الحائض قضاء الصلاة، وعن سمرة بن جندب أنه كان يأمر به فانكرت عليه أم سلمة. قال الحافظ: لكن استقر الإجماع على عدم الوجوب كما قاله الزهري وغيره. وقال النووي: قال الجمهور من أصحابنا وغيرهم: وليست الحائض مخاطبة بالصيام في زمن الحيض، وإنما يجب عليها القضاء بأمر جديد (رواه مسلم) في كتاب الطهارة، وأخرجه البخاري في كتاب الحيض، وقد تقدم لفظه فالحديث متفق عليه فكان الأولى للمصنف أن يقول متفق عليه. واللفظ لمسلم وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود وابن ماجه والدارمي في الطهارة والنسائي فيه وفي الصيام، والبيهقي في كتاب الحيض (ج1:ص308) وفي الصيام (ج4:ص236).

(14/52)


2053-قوله (من مات) أي من المكلفين بقرينة قوله (وعليه صوم) لأن كلمة على للإيجاب والواو فيه للحال (صام عنه) أي عن الميت (وليه) قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث دليل لعمومه على أن الولي يصوم عن الميت وإن النيابة تدخل الصوم، وذهب إليه قوم والذي عليه الأكثرون عدم دخول النيابة في الصوم لأنها عبادة بدنية. قال: وقوله "صام عنه وليه" ليس المراد أنه يلزمه ذلك، وإنما يجوز ذلك له إن أراد، هكذا ذكره صاحب التهذيب من الشافعية، وحكاه إمام الحرمين عن الشيخ أبي محمد أبيه، وفيه بحث وهو إن الصيغة صيغة خبر أعنى صام ويمتنع الحمل على ظاهره، فينصرف إلى الأمر ويبقى النظر في أن الوجوب يتوقف على صيغة الأمر المتعينة وهي أفعل مثلا أو يعمها مع ما يقوم مقامها-انتهى. وقال الحافظ: قوله صام عنه وليه خبر بمعنى الأمر تقديره فليصم عنه وليه، وليس هذا الأمر للوجوب عند الجمهور، وبالغ إمام الحرمين ومن تبعه فادعوا الإجماع على ذلك وفيه نظر، لأن بعض أهل الظاهر أوجبه فلعله لم يعتد بخلافهم على قاعدته-انتهى. وقال العيني: أطلق ابن حزم (ج7:ص2) النقل عن الليث بن سعد وأبي ثور وداود أنه فرض على أوليائه أن يصوموه عنه هم أو بعضهم، وبه صرح القاضي أبوالطيب الطبري في تعليقه بأن المراد منه الوجوب، وجزم به النووي في الروضة من غير أن يعزوه إلى أحد. وزاد في شرح المهذب فقال أنه بلا خلاف.

(14/53)


وقال شيخنا العراقي: هذا عجيب منه ثم قال: وحكى النووي في شرح مسلم عن أحد قولي الشافعي أنه يستحب لوليه أن يصوم عنه، ثم قال ولا يجب عليه-انتهى كلام العيني. قلت الحديث رواه البزار بلفظ: من مات فليصم عنه وليه إن شاء. قال الهيثمي: (ج3:ص179) إسناده حسن-انتهى. واحتج به من ذهب إلى عدم وجوب الصوم من المجيزين له لكن في سنده ابن لهيعة وهو صدوق خلط بعد احتراق كتبه ولم يعرف إن هذا الحديث حدث به قبل احتراق كتبه أو بعده فلا يصح الاحتجاج به. قال الحافظ في التلخيص: (ج1:ص197) وفي رواية للبزار فليصم عنه وليه إن شاء. وهي ضعيفة لأنها من طريق ابن لهيعة-انتهى. والراجح عندي هو الوجوب والله تعالى أعلم. وقد اختلف السلف في هذه المسألة أي في مشروعية الصوم عن الميت فأجاز الصيام عن الميت أي صوم كان أصحاب الحديث، وعلق الشافعي في القديم القول به على صحة الحديث كما نقله البيهقي في المعرفة، وهو قول أبي ثور وجماعة من محدثي الشافعية. وقال البيهقي في الخلافيات: هذه المسألة ثابتة لا أعلم خلافا بين أهل الحديث في صحتها، فوجب العمل بها، ثم ساق بسنده إلى الشافعي قال كل ما قلت: وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فخذوا بالحديث ولا تقلدوني. قلت: واحتج لهذا القول بحديث عائشة هذا، وبما روى عن ابن عباس إن امرأة قالت: يا رسول الله : إن أمي ماتت وعليها صوم نذر. أفأصوم عنها؟ فقال أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أ كان يؤدي ذلك عنها. قالت نعم، قال فصومي عن أمك. وبما روى أحمد ومسلم وأبوداود وابن ماجه والبيهقي عن بريدة. قال: بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة فقالت إني تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت فقال وجب أجرك وردها عليك الميراث قالت يا رسول الله ! إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال صومي عنها. وقال الشافعي في الجديد ومالك وأبوحنيفة: لا يصام عن الميت. وقال الليث وأحمد وإسحاق وأبوعبيد لا

(14/54)


يصام عنه إلا النذر. واستدل الحنفية ومن وافقهم بحديث ابن عمر الآتي. وفيه إن المحفوظ أنه موقوف كما ستعرف وللاجتهاد فيه مسرح فلا يصح للاستدلال ثم ليس فيه ما يمنع الصيام وأما ما ذكره المصنف في الفصل الثالث من رواية مالك عنه بلاغا مما يدل على منع الصيام عن الميت. ففيه أنه قد جاء عن ابن عمر خلاف ذلك كما ذكره البخاري تعليقا في باب من مات وعليه نذر، وسيجيء، فاختلف قوله فلا يقوم به حجة لأحد، على أنه موقوف أيضا والحديث أولى بالإتباع وفيه غنية عن كل قول واستدلوا أيضا بما رواه النسائي في الكبرى بسند صحيح عن ابن عباس قال: لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، وبما روى الطحاوي عن روح بن الفرج حدثنا يوسف بن عدي حدثنا عبيدة ابن حميد عن عبدالعزيز بن رفيع عن عمرة بنت عبدالرحمن،

(14/55)


قلت: لعائشة إن أمي توفيت وعليها صيام رمضان أيصلح أن أقضي عنها؟ فقالت. لا. ولكن تصدقي عنها مكان كل يوم على مسكين خير من صيامك، كذا ذكره ابن التركماني (ج4:ص257) وقال هذا سند صحيح، وذكره ابن حزم في المحلي (ج7:ص403) من رواية ابن أبي شيبة عن جرير بن عبدالحميد عن عبدالعزيز بن رفيع عن امرأة منهم اسمها عمرة إن أمها ماتت، وعليها من رمضان فقالت: لعائشة أقضيه عنها؟ قالت لا، بل تصدقي عنها مكان كل يوم نصف صاع على كل مسكين. وفيه إن هذا الاستدلال أيضا مخدوش، أما أولا فلأنه جاء عن ابن عباس خلاف ذلك، فروى ابن أبي شيبة بسند صحيح كما في المحلي (ج7:ص7) سئل ابن عباس عن رجل مات وعليه رمضان وصوم شهر، فقال يطعم عنه لرمضان ويصام عنه النذر. وفي صحيح البخاري تعليقا أمر ابن عمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء، فقال صلى عنها. وقال ابن عباس نحو، قال ابن عبدالبر: النقل في هذا عن ابن عباس مضطرب. قال الحافظ: ويمكن الجمع يحمل الإثبات في حق من مات والنفي في حق الحي-انتهى. وقال العيني: النقل عنه في هذا مضطرب فلا يقوم به حجة لأحد. وأما أثر عائشة الذي نقله ابن التركماني عن الطحاوي، ففيه إن بعض ألفاظه مخالف لما في مشكل الآثار المطبوع ففيه (ج3:ص142) عن عبدالعزيز ابن رفيع عن عمرة قالت: توفيت أمي وعليها صيام من رمضان فسألت عائشة عن ذلك فقالت أقضيه عنها، ثم قالت: بل تصدقي مكان كل يوم على مسكين نصف صاع، وهذا كما ترى ليس فيه ما يمنع الصيام. وأما أثرها الذي ذكره ابن حزم فسيأتي الجواب عنه، وأما ثانيا فلأن فتيا الصحابي لا تقاوم الحديث المرفوع الصحيح السنة، الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالإتباع وفيها غنية عن كل قول. واستدلوا أيضا بالقياس على الصلاة ونظائرها من أعمال البدن التي لا مدخل للمال فيها. قال العيني: قد اجمعوا على أنه لا يصلي أحد عن أحد فكذلك الصوم لأن كلا منهما عبادة بدنية، وحكى

(14/56)


ابن القصار عن المهلب أنه قال لو جاز أن يصوم أحد عن أحد في الصوم، لجاز أن يصلي الناس عن الناس فلو كان ذلك سائغا لجاز أن يؤمن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمه أبي طالب لحرصه على إيمانه، وقد اجمعت الأمة على أنه لا يؤمن أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد فوجب أن يرد ما اختلف فيه إلى ما اجمع عليه. وفيه أولا أن هذا قياس في مقابلة النص، وثانيا إن دعوى الإجماع على القول بأن لا يصلي أحد عن أحد باطلة لما تقدم عن ابن عمر، أنه أمر بالصلاة عن الميت، ولأن الظاهرية قالوا يجب قضاء صلاة النذر وصلاة الفرض عن الميت، وثالثا: أنهم اجمعوا على أن تصلي الركعتان أثر الطواف عن الميت الذي يحج عنه. ورابعا: إن في كلام المهلب غضاضة وترك محاسن الأدب في حق الشارع ومصادمة الأخبار الثابتة فيه قاله العيني (ج11:ص60) وأجاب بعض الحنفية عن حديث الباب بأن في سنده عبيدالله بن أبي جعفر،

(14/57)


ونقل صحاب الميزان عن أحمد أنه قال ليس بقوى وعن حديث ابن عباس بأنه مضطرب متنا وأجيب عن الأول بأن عبيدالله هذا من رجال السنة، ووثقه أحمد في رواية عبدالله ابنه عنه وأبوحاتم والنسائي وابن سعد: وقال ابن يونس: كان عالما زاهدا، وإن صح ما نقل صحاب الميزان عن أحمد فلعله في شيء مخصوص، وقد احتج به الجماعة قاله الحافظ في مقدمه الفتح. فالحديث صحيح جدا، ولذلك اتفق الشيخان على تخريجه في صحيحهما، ولم ينتقده أحد ممن انتقدهما، بل اتفقوا على صحته وقبوله، وأجيب عن الثاني بعدم تسليم الاضطراب فيه كما بين ذلك الحافظ في الفتح. وأجابوا أيضا بأنه روى عن عائشة وابن عباس وهما رويا حديث الصيام عن الميت أنهما لم يريا الصيام عنه كما تقدم، وفتوى الراوي على خلاف مرويه بمنزلة روايته للناسخ. وتعقبه ابن حزم بوجوه، أحدها إن الله تعالى إنما افترض علينا إتباع رواية الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفترض علينا قط إتباع رأى أحدهم. والثاني: أن قد يترك الصحابي إتباع ما روى لوجوه، وهي أن يتأول فيما روى تأويلا ما اجتهد فيه فاخطأ فاخبر مرة أو أن يكون نسي ما روى، فافتى بخلافه أو أن تكون الرواية عنه بخلافه وهما، ممن روى ذلك عن الصحابي، فإذ كل ذلك ممكن فلا يحل ترك ما افترض عليها إتباعه من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لم يأمرنا بإتباعه لو لم يكن فيه هذه العلل فكيف وكلها ممكن فيه، ولا معنى لقول من قال هذا دليل على نسخ الخبر، لأنه يعارض بأن يقال كون ذلك الخبر عند ذلك الصحابي دليل على ضعف الرواية عنه بخلافه أو لعله قد رجع عن ذلك. والثالث، أن نقول لعل الذي روى فيه عن عائشة فيه الإطعام كان لم يصح حتى ماتت فلا صوم عليها. والرابع، أنه قد روى عن ابن عباس الفتيا بما روى من الصوم عن الميت كما تقدم، فصح أنه قد نسى أو غير ذلك مما الله تعالى أعلم به-انتهى مختصرا، وقال الحافظ: بعد ذكر اعتلال الحنفية بنحو ما تقدم

(14/58)


ما لفظه، والراجح أن المعتبر ما رواه الصحابي لا ما رآه لاحتمال أن يخالف ذلك لاجتهاد ومستنده فيه لم يتحقق، ولا يلزم من ذلك ضعف الحديث عنده، وإذا تحقق صحة الحديث لم يترك المحقق للمظنون وتعقبه العيني كعادته بما لا يلتفت إليه. وأجابوا أيضا عن حديث عائشة بأن المراد بقوله صام عنه وليه، أي فعل عنه وليه ما يقوم مقام الصوم وهو الإطعام، قال الماوردي: وهو نظير قوله التراب وضوء المسلم إذا لم يجد الماء، قال فسمي البدل باسم المبدل فكذلك هنا. وقال الخطابي (ج2:ص122) تأوله بعض أهل العلم فقال معناه أطعم عنه وليه، فإذا فعل ذلك فكأنه قد صام عنه سمي الإطعام صياما على سبيل المجاز والاتساع إذ كان الطعام قد ينوب عنه، وقد قال سبحانه أو عدل ذلك صياما فدل على أنهما يتناوبان-انتهى. وتعقب بأنه صرف للفظ عن ظاهره بغير دليل، بل يدل على ما ذكرنا من آثار ابن عمر وابن عباس وعائشة على كون الصوم في حديث عائشة المرفوع في معناه الحقيقي. قال السندي: من لا يقول بالصيام عن الميت يدعى النسخ بأدلة غير تامة،

(14/59)


ومنهم من يقول معنى قوله في حديث بريدة أفأصوم عنها أفأفدي عنها على تسمية الفداء صوما لكونه بدلا عن الصوم وكل ذلك غير تام-انتهى. وقال صاحب فتح الملهم: قوله صلى الله عليه وسلم فصومي عن أمك في حديث ابن عباس وقوله صلى الله عليه وسلم صومي عنها في حديث بريدة، قد صدر في معرض الجواب عن قولها أفأصوم عنها فكأنه صلى الله عليه وسلم قررها على ما سألته، والظاهر أنهما ما أرادت بسؤالها إلا الصوم الحقيقي لا الإطعام، وحمل كلامها على الإطعام لا يخلو عن تعسف فالوجدان السليم يحكم بأن التأويل المذكور في حديث عائشة لا يجري في حديثي ابن عباس وبريدة إلا بتكلف بارد والله تعالى أعلم-انتهى. وقال الشيخ محمد أنور: لا حاجة إلى تأويل أحاديث الباب وصرف لفظ الصوم فيها عن ظاهره بل المراد بقوله صام عنه وليه، وقول "صومي عنها" هو الصوم الحقيقي لكن لا بطريق النيابة بل بطريق التبرع لإيصال الثواب وقد أجاب صلى الله عليه وسلم عن قولها أفأصوم عنها بقوله صومي عنها لما رأى من حرصها على إيصال الخير والثواب لأمها ولا شك في أنه ينفع لها في الجملة فأما أنه يقع قضاء عما عليها ويبرأ ذمتها عن الواجب فليس في الحديث دلالة على هذا-انتهى. قلت هذا التوجيه أيضا سخيف جدا يدل على سخافته تمام حديث ابن عباس. قال صاحب فتح الملهم بعد ذكر التوجيه المذكور: هذا توجيه لطيف لو لا ما ورد في حديث ابن عباس من التشبيه بقضاء الدين، ولا سيما قوله في رواية زيد بن أبي أنيسة عن الحكم (عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عند مسلم) قال أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته، أ كان ذلك يؤدي عنها قالت نعم قال فصومي عن أمك وهذا كالصريح في أن صومها عن أمها يؤدي ما على أمها من دين الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب. وأجاب المالكية عن حديث عائشة بأن عمل أهل المدينة بخلافه. وهذا مبني على أن تركهم العمل بالحديث حجة ودليل على نسخه وليس كذلك كما عرف في الأصول. واستدل

(14/60)


القائلون بجواز الصيام عن الميت في النذر دون غيره، بأن حديث عائشة مطلق وحديث ابن عباس مقيد بالنذر كما تقدم، فيحمل عليه ويكون المراد بالصيام صيام النذر. وفيه أنه ليس بين الحديثين تعارض حتى يجمع بينهما، فحديث ابن عباس صورة مستقلة سأل عنها من وقعت له. وأما حديث عائشة فهو تقرير قاعدة عامة، وقد وقعت الإشارة في حديث ابن عباس إلى نحو هذا العموم حيث قيل في آخره فدين الله أحق أن يقضى قاله الحافظ: قال الشوكاني: وإنما قال إن حديث ابن عباس صورة مستقلة يعني أنه من التنصيص على بعض أفراد العام فلا يصلح لتخصيصه ولا لتقييده كما تقرر في الأصول. واختلف في المراد بقوله "وليه" فقيل كل قريب سواء كان وارثا أو عصبة أو غيرهما. وقيل: الوارث خاصة. وقيل: عصبة قال الحافظ: والأول أرجح والثاني قريب ويرد الثالث قصة المرأة التي سألت عن نذر أمها. وقال الكرماني والنووي: الصحيح الأول واختلفوا أيضا هل يختص ذلك بالولي لأن الأصل عدم النيابة في العبادة البدنية ولأنها عبادة لا تدخلها النيابة في الحياة، فكذلك في الموت إلا ما ورد فيه الدليل، فيقتصر على ما ورد فيه ويبقى الباقي على الأصل.
?الفصل الثاني?
2054- (5) عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من مات وعليه صيام شهر رمضان فليطعم عنه مكان كل يوم مسكن)) رواه الترمذي، وقال: الصحيح أنه موقوف على ابن عمر.

(14/61)


قال الحافظ: وهذا هو الراجح. وقيل: لا يختص بالولي، فلو أمر أجنبيا بأن يصوم عنه أجزأ كما في الحج. وقيل: يصح استقلال الأجنبي بذلك وذكر الولي لكونه الغالب وظاهر صنيع البخاري اختيار هذا الأخير، وبه جزم أبوالطيب الطبري وقواه بتشبيهه صلى الله عليه وسلم ذلك بالدين، والدين لا يختص بالقريب-انتهى. وقال الشوكاني: وظاهر الأحاديث أنه يصوم عنه وليه وإن لم يوص بذلك وإن من صدق عليه إسم الولي لغة أو شرعا أو عرفا صام عنه ولا يصوم عنه من ليس بولي، ومجرد التمثيل بالدين لا يدل على أن حكم الصوم كحكمه في جميع الأمور-انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي في السنن الكبرى والدارقطني (ص245) والبيهقي (ج4:ص255) والطحاوي في مشكل الآثار (ج2:ص139-140).

(14/62)


2054- قوله: (فليطعم عنه) على بناء المفعول (مكان كل يوم) من أيام الصيام الفائتة (مسكن) كذا وقع في الرفع في جميع النسخ من المشكاة الموجودة عندنا، وكذا وقع في المصابيح، وفي التلخيص (ص196) ونصب الراية (ج2:ص464) والدراية (ص177) والمنتقى، وهكذا وقع في رواية ابن ماجه والبيهقي، ووقع في جامع الترمذي مسكينا بالنصب، وهكذا نقله الجوزي في جامع الأصول (ج7:ص282) وابن قدامة في المغني (ج3:ص143) وعلى هذا يكون قوله فليطعم على بناء الفاعل أي فليطعم ولي من مات، وبهذا الحديث تمسك الحنفية والمالكية لكن بقيد إن أوصى، وبدون الوصية لا يلزم خلافا للشافعي، فإنه يطعم عنده أوصى به أو لم يوص. قال القاري: لا بد من الإيصاء عندنا في لزوم الإطعام على الوارث خلافا للشافعي، وإن أوصى فإنما يلزم الوارث إخراجه، إذا كان يخرج من الثلث، فإن زاد على الثلث لا يجب على الوارث، فإن أخرج كان متطوعا عن الميت، ويحكم بجواز أجزاءه كذا قاله ابن الهمام. ولم يبين في هذه الرواية مقدار الطعام، وقد جاء عند البيهقي (ج4:ص254) من رواية شريك عن محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر مرفوعا أنه نصف صاع من بر، وبه أخذ الحنفية قالوا: أو صاع من غير البر أو قيمة أحداهما، لكن قال البيهقي هذه الرواية خطأ. وإنما قال ابن عمر مدا من حنطة، وروى من وجه آخر عن ابن أبي ليلى ليس فيه ذكر الصاع-انتهى. قلت: وبقول ابن عمر مدا من حنطة أخذ مالك والشافعي وأحمد، وحديث ابن عمر الذي نحن في شرحه ضعيف،

(14/63)


والمحفوظ أنه موقوف على ابن عمر كما ستعرف، فلا يصح الإستدل به ولو صح، لا يقاوم حديث عائشة المتفق عليه (رواه الترمذي) من طريق عبثر عن أشعث عن محمد عن نافع عن ابن عمر وأخرجه ابن ماجه والبيهقي أيضا من هذا الطريق، لكن وقع عند ابن ماجه عن محمد بن سيرين منسوبا وهو وهم كما سيأتي (وقال والصحيح أنه موقوف على ابن عمر) أي من قوله. وقال الترمذي أيضا: لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، قال وأشعث هو ابن سوار ومحمد هو محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى-انتهى. قال الحافظ في التلخيص (ص197) رواه ابن ماجه من هذا الوجه (أي من طريق عبثر عن أشعث عن محمد) ووقع عنده عن محمد بن سيرين بدل محمد بن عبدالرحمن وهو وهم منه أو من شيخه. وقال الدارقطني: المحفوظ وقفه على ابن عمر وتابعه البيهقي على ذلك-انتهى. وقال ابن الملقن هذا الحديث رواه الترمذي وابن ماجه بإسناد ضعيف، والمحفوظ وقفه على ابن عمر قاله الترمذي والدارقطني والبيهقي كذا في المرقاة. وقال الزيلعي (ج2:ص464) وضعفه عبدالحق في أحكامه بأشعث وابن أبي ليلى. وقال الدارقطني: في علله المحفوظ موقوف، هكذا رواه عبدالوهاب بن بخت عن نافع عن ابن عمر-انتهى. وقال البيهقي في المعرفة: لا يصح هذا الحديث فإن محمد بن أبي ليلى كثير الوهم، ورواه أصحاب نافع عن نافع عن ابن عمر قوله، ثم أخرجه عن عبدالله بن الأخنس عن نافع عن ابن عمر قال: من مات وعليه صيام رمضان فليطعم عنه كل يوم مسكينا مدا من حنطة، وأخرجه البيهقي في سننه (ج4:ص254) من طريق شريك عن محمد ابن عبدالرحمن بن أبي ليلى به مرفوعا. قال: في الذي يموت وعليه رمضان ولم يقضه قال يطعم عنه لكل يوم نصف صاع من بر. قال البيهقي: هذا خطأ من وجهين، أحدهما رفعه. وإنما هو موقوف من قول ابن عمر. والثاني، قوله فيه نصف صاع. وإنما قال ابن عمر مدا من حنطة-انتهى. فإن قلت قال ابن التركماني (ج4:ص254) قد أخرج ابن ماجه هذا الحديث في سننه صحيح

(14/64)


عن أشعث عن محمد بن سيرين عن نافع عن ابن عمر مرفوعا، فإن صح هذا فقد تابع أن سيرين ابن أبي ليلى على رفعه فالقائل أن يمنع الوقف. وقال العيني (ج11:ص60) قد تابع ابن سيرين ابن أبي ليلى على رفعه فالقائل أن يمنع الوقف. قلت: قد تقدم عن الحافظ إن ما وقع في سند ابن ماجه من قوله عن محمد بن سيرين وهم، منه أو من شيخه. وقال المزي في الأطراف: قوله (أي في سند ابن ماجه) عن محمد بن سيرين وهم، فإن الترمذي رواه ولم ينسبه، ثم قال الترمذي وهو عندي محمد بن عبدالرحمن ابن أبي ليلى نقله السندي عن البوصير. وقال العيني (ج11:ص59) قال الحافظ المزي وهو (أي قوله عن محمد بن سيرين) وهم، وقال ابن عدي في الكامل: ومحمد هذا هو محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى-انتهى. فقد ثبت بهذا كله إن محمدا هذا هو محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى لا محمد بن سيرين وأنه قد تفرد بحديث الإطعام المرفوع ولم يتابعه أحد عليه وهو وإن كان فقيها عالما لكنه سيء الحفظ فاحش الخطأ كثير الوهم فلا يحتج بما تفرد به.
?الفصل الثالث?
2055- (6) عن مالك، بلغه، أن ابن عمر كان يسئل: ((هل يصوم أحد عن أحد، أو يصلي أحد عن أحد؟ فيقول: لا يصوم أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد)) رواه في "الموطأ".

(14/65)


2055- قوله: (عن مالك بلغه) وفي الموطأ أنه بلغه (كان يسئل) بصيغة المجهول (لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد) في شرح السنة هذا مذهب الشافعي (في الجديد) وأصحاب أبي حنيفة، وذهب قوم إلى أنه يصوم عنه وليه. وقال الحسن: إن صام عنه ثلاثون رجلا كل واحد يوما جاز، واتفق أهل العلم على أنه لا كفارة للصلاة وهو قول الشافعي. وقال أصحاب أبي حنيفة: أنه يطعم عنه، وقال قوم يصلي عنه-انتهى. قلت: واحتج بقول ابن عمر هذا من ذهب إلى منع الصوم والصلاة عن الميت، وقد تقدم أن البخاري ذكر في باب من مات وعليه نذر عن ابن عمر تعليقا الأمر بالصلاة، فاختلف قوله والحديث الصحيح أولى بالإتباع (رواه) أي مالك (في الموطأ) قد تقدم بيان ما يرد على المصنف في هذه العبارة، وبلاغ مالك هذا وصله عبدالرزاق في مصنفه في كتاب الوصايا من طريق عبدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر. قال لا يصلين أحد عن أحد ولا يصومون أحد عن أحد، ولكن إن كنت فاعلا تصدقت عنه أو أهديت، ورواه أبوبكر بن الجهم في كتابه من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن نافع والبيهقي (ج2:ص254) من طريق يحيى بن سعيد عن نافع تنبيه هذا الاختلاف والتفصيل الذي سبق في الصوم عن الميت إذا فاته شيء بعد إمكان قضاءه. وأما من فاته شيء من رمضان قبل إمكان القضاء فلا تدارك ولا إثم. وأجمع العلماء على ذلك إلا طاوسا وقتادة فإنهما يوجبان التدارك بالصوم أو الكفارة، ولو مات قبل إمكان القضاء ذكره القاري: وقال الخطابي (ج2:ص122-123) اتفق عامة أهل العلم على أنه إذا أفطر في المرض أو السفر ثم لم يفرط في القضاء حتى مات، فإنه لا شيء عليه ولا يجب الإطعام عنه غير قتادة فإنه قال يطعم عنه. وقد حكى ذلك عن طاوس أيضا-انتهى. وقال ابن قدامة (ج3:ص142) من مات وعليه صيام من رمضان لكن قبل إمكان الصيام إما لضيق الوقت أو لعذر من مرض أو سفر أو عجز عن الصوم، فهذا لا شيء عليه في قول أكثر أهل العلم. وحكى عن طاوس

(14/66)


وقتادة إنهما قالا: يجب الإطعام عنه، لأنه صوم واجب سقط بالعجز عنه فوجب الإطعام عنه، كالشيخ إلهم إذا ترك الصيام لعجزه عنه. ولنا أنه حق الله تعالى وجب بالشرع، مات من يجب عليه قبل إمكان فعله فسقط إلى غير بدل كالحج، ويفارق الشيخ إلهم فإنه يجوز ابتداء، الوجوب عليه بخلاف الميت-انتهى.
(6) باب صيام التطوع
?الفصل الأول?
2056- (1) عن عائشة، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يصوم حتى نقول: لا يفطر ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط، إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان.
(باب صيام التطوع)

(14/67)


2056- قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم) أي النفل متتابعا (حتى نقول لا يفطر) أي ينتهي صومه إلى غاية نقول أنه لا يفطر في هذا الشهر (ويفطر) أي يستمر على الإفطار (حتى نقول لا يصوم) أي ينتهي إفطاره إلى غاية نقول أنه لا يصوم من هذا الشهر، وذلك لأن الأعمال التي يتطوع بها ليست منوطة بأوقات معلومة. وإنما هي على قدر الإرادة لها والنشاط فيها قاله العيني. وقال الباجي: وإنما كان كذلك. والله أعلم. لأن هذا أفضل الصوم وأشده لمن استطاع عليه. وقال الغزالي في الأحياء: الفقيه بدقائق الباطن ينظر إلى أحواله فقد يقتضى حاله دوام الصوم، وقد يقتضى دوام الفطر، وقد يقتضى مزج الإفطار بالصوم وإذا فهم المعنى وتحقق حده في سلوك طريق الآخرة بمراقبة القلب لم يخف عليه صلاح قلبه. وذلك لا يوجب ترتيبا مستمرا ولذلك روي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم حتى يقال لا يفطر، ويفطر حتى يقال لا يصوم وكان ذلك بحسب ما ينكشف له بنور النبوة من القيام بحقوق الأوقات-انتهى. قال الأمير اليماني: في الحديث دليل على أن صومه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن مختصا بشهر دون شهر، وإنه كان صلى الله عليه وسلم يسرد الصيام أحيانا ويسرد الفطر أحيانا، ولعله كان يفعل ما يقتضيه الحال من تجرده عن الأشغال فيتابع الصوم ومن عكس ذلك فيتابع الإفطار-انتهى. ولا يعارض هذا ما روى عن عائشة عند البخاري وغيره كان عمله ديمة، لأن المراد بذلك ما اتخذه راتبا لا مطلق النفل والله تعالى أعلم (وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام شهر قط إلا رمضان) إنما لم يستكمل شهرا غير رمضان لئلا يظن وجوبه (وما رأيته) صلى الله عليه وسلم (في شهر أكثر) بالنصب ثاني مفعول رأيت والضمير "في" (منه) له عليه الصلاة والسلام (صياما) تمييز (في شعبان) سمي بذلك لتشعبهم في طلب المياه أو في الغارات بعد أن يخرج شهر رجب الحرام، وهذا أولى من الذي قبله. وقيل: فيه غير ذلك

(14/68)


والجار متعلق بصياما، والمعنى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم في شعبان وفي غيره من الشهور سوى رمضان، وكان صيامه في شعبان أكثر من صيامه فيما سواه كذا ذكره الطيبي.
وقيل: قوله في شهر يعني به غير شعبان وهو حال من المستكن في أكثر، وفي شعبان حال من المجرور في منه، العائدة إلى الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي ما رأيته كائنا في غير شعبان أكثر صياما منه كائنا في شعبان مثل زيد قائما أحسن منه قاعدا. أو كلاهما ظرف أكثر الأول باعتبار الزيادة والثاني باعتبار أصل المعنى، ولا تعلق له برؤيته وإلا يلزم تفضيل الشيء على نفسه باعتبار حالة واحدة كذا في المرقاة. وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يخص شعبان بالصوم أكثر من غيره. واختلف في وجه تخصيص شعبان بكثرة الصوم. فقيل كان يشتغل عن صوم الثلاثة أيام من كل شهر لسفر أو غيره فتجتمع فيقضيها في شعبان يدل على هذا ما رواه الطبراني عن عائشة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فربما أخر ذلك حتى يجتمع عليه صوم السنة فيصوم شعبان، وفيه ابن أبي ليلى وهو ضعيف. وقيل كان يصنع ذلك لتعظيم رمضان كما أخرجه للترمذي من حديث أنس قال سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الصوم أفضل بعد رمضان، قال شعبان لتعظيم رمضان، وفيه صدقة بن موسى. قال الترمذي: هو عندهم ليس بذاك التقوى. قال الحافظ: ويعارضه حديث أبي هريرة أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرم. وقيل وجه تخصيص شعبان بكثرة الصوم إن نساءه كن يقضين ما عليهن من رمضان في شعبان وهذا عكس ما تقدم في الحكمة في كونهن يؤخرن قضاء رمضان إلى شعبان، لأنه ورد فيه إن ذلك لكونهن يشتغلن معه - صلى الله عليه وسلم - عن الصوم. وقيل الحكمة في ذلك أنه يعقبه رمضان وصومه مفترض وكان يكثر من الصوم في شعبان قدر ما يصوم في شهرين غيره لما يفوته من التطوع بذلك في أيام رمضان. قال الحافظ: والأولى في ذلك ما جاء في

(14/69)


حديث أصح مما مضى، أخرجه النسائي وصححه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد قال قلت: يا رسول الله ! لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان، قال ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم. ونحوه من حديث عائشة عند أبي يعلى لكن قال فيه إن الله يكتب كل نفس ميتة تلك السنة، فأحب أن يأتيني أجلي وأنا صائم- انتهى. قيل: ويحتمل أنه كان يكثر من صومه لهذه الحكم كلها. قلت: والمراد برفع الأعمال في حديث أسامة الرفع الخاص لا الرفع العام الذي يكون صباحا و مساء، أو المراد الرفع الإجمالي لا التفصيلي. قال في المواهب وشرحه: (بين صلى الله عليه وسلم وجه صيامه لشعبان دون غيره من الشهور بقوله إنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، يشير إلى أنه لما اكتتفه) أحاط به (شهران عظيمان الشهر الحرام) رجب (وشهر الصيام إشتغل الناس بهما فصار مغفولا عنه) مع رفع الأعمال فيه إلى الله (وكثير من الناس يظن أن صيام أفضل من صيامه) أي شعبان (لأنه) أي رجب (شهر حرام وليس كذلك)

(14/70)


فقد روى ابن وهب بسنده عن عائشة قالت ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - ناس يصومون شهر رجب فقال فأين هم من شعبان (وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد منها إن تكون) أي الطاعة (أخفى وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل لا سيما الصيام فإنه سر بين العبد وربه، ومنها إنه أشق على النفوس لأن النفوس تناسي بما تشاهد من أحوال بني الجنس فإذا كثرت يقظة الناس وطاعتهم سهلت الطاعات، وإذ أكثرت، الغفلات وأهلها نأسي بهم عموم الناس فيشق على النفوس المستيقظين طاعاتهم لقلة من يقتدي بهم) وأفضل العمل أشقة، ومنها أن المنفرد بالطاعة بين الغافلين قد يرفع به البلاء عن الناس. وقد روى في صيامه صلى الله عليه وسلم شعبان معنى آخر وهو أنه ننسخ فيه الآجال) أي تنقل وتفرد أسماء من يموت في تلك الليلة إلى مثلها من العام القابل عن أسماء من لم يمت من أم الكتاب فيكتب في صحيفة، ويسلم إلى ملك الموت (فروى) عند أبي يعلى والخطيب وغيرهما (بإسناد فيه ضعف عن عائشة قالت كان أكثر صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - في شعبان فقلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! أرى أكثر صيامك في شعبان) وفي رواية أرى أحب الشهر إليك أن تصومه شعبان. (قال أن هذا الشهر يكتب فيه لملك الموت أسماء من يقبض فأحب أن لا ينسخ إسمي إلا وأنا صائم (وفي رواية أبي يعلى إن الله يكتب كل نفس ميتة تلك السنة فأحب أن يأتيني أجلي وأنا صائم أي يأتيني كتابة أجلي، وفيه إن كتابته في زمن عبادة يرجى لصاحبها الموت على الخير وإن من أولى تلك العبادة الصوم، لأنه يروض النفوس وينور الباطن ويفرغ القلب للحضور مع الله (وقد روى مرسلا) عن التابعي بدون ذكر عائشة (وقيل إنه أصح) من وصله بذكرها (وقد قيل في صوم شعبان معنى آخر وهو إن صيامه كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صيامه على مشقة وكلفة بل يكون قد تمرن الصيام وأعتاده، ووجد بصيام شعبان قبل رمضان حلاوة الصوم ولذته، فيدخل في رمضان

(14/71)


بقوة ونشاط-انتهى. وأجاب النووي عن كونه لم يكثر من الصوم في المحرم مع قوله إن أفضل الصيام ما يقع فيه بأنه يحتمل أن يكون ما علم ذلك إلا في آخر عمره فلم يتمكن من كثرة الصوم في المحرم، أو اتفق له فيه من الاعذار بالسفر والمرض، مثلا ما منعه من كثرة الصوم فيه. وأما حديث أنس المتقدم عند الترمذي فهو ضعيف كما سبق، فلا يقاوم حديث أفضيلة المحرم المخرج في صحيح مسلم. وقال ابن رجب في اللطائف بعد ذكر فضل صوم شعبان ما ملخصه: أفضل التطوع ما كان قريبا من رمضان قبله وبعد، وذلك يلتحق بصيام رمضان لقربه منه، وتكون منزلته من صوم رمضان بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها، فليتحق بالفرائض في الفضل، وهي تكملة للفرائض. وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده فكما إن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة، فكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بعد منه، ويكون قوله: "أفضل الصيام بعد رمضان المحرم" محمولا على التطوع المطلق بالصيام-انتهى. فتأمل. وسيأتي شيء من الكلام في ذلك في شرح الحديث الرابع من هذا الباب هذا، وزاد في رواية يحيى بن كثير في حديث الباب عند البخاري فإنه يصوم شعبان كله.

(14/72)


واستشكل هذا مع قوله في رواية الباب ما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان. وأجيب بأن رواية الباب مفسرة لرواية يحيى بن أبي كثير، ومبينة بأن المراد بكله غالبه أي يصوم شعبان بحيث يصح أن يقال فيه أنه يصوم كله لغاية قلة المتروك، بحيث يمكن أن لا يعتد به من غاية قلته. وقيل كان يصوم شعبان كله تارة أي في سنة ويصوم معظمه أخرى أي في سنة أخرى لئلا يتوهم أنه واجب كله كرمضان. وقيل المراد بقولها كله أنه كان يصوم من أوله تارة ومن آخره أخرى ومن أثناءه طورا، فلا يخلى شيئا منه من صيام، لكن في أكثر من سنة. قال السندي: معنى كله أنه لا يخص أوله بالصيام أو وسطه أو آخره بل يعم أطرافه، وإن كان بلا اتصال الصيام بعضه ببعض وتعقبه في المصابيح بأن الثلاثة كلها ضعيفة، فأما الأول فلأن إطلاق الكل على الأكثر مع الإتيان به توكيد غير معهود انتهى. وقد نقل الترمذي عن ابن المبارك أنه قال جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقال صام الشهر كله، ويقال قام فلان ليلته أجمع ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره. قال الترمذي: كأن ابن المبارك جمع بين الحديثين بذلك، وحاصله إن رواية الباب مفسرة لرواية يحيى بن أبي كثير ومبينة لها، وإن المراد بالكل الأكثر وهو مجاز قليل الاستعمال. واستبعده أيضا فقال كل تأكيد لإرادة الشمول ورفع التجوز من احتمال البعض فتفسيره بالبعض مناف له-انتهى. قال الزرقاني في شرح المواهب: لكن الاستبعاد لا يمنع الوقوع، لأن الحديث يفسر بعضه بعضا لا سيما والمخرج متحد وهو عائشة وهي من الفصحاء. وقد نقله ابن المبارك عن العرب ومن حفظ حجة. قال في المصابيح: وأما الثاني فلأن قولها كان يصوم شعبان كله يقتضى تكرار الفعل وإن ذلك عادة له على ما هو المعروف في مثل هذه العبارة-انتهى. واختلف في دلالة كان على التكرار، وصحح ابن الحاجب أنها تقتضيه قال، وهذا استفدناه من قولهم كان حاتم يقري الضعيف، وصحح الإمام فخر الدين في

(14/73)


المحصول أنها لا تقتضيه لا لغة ولا عرفا. وقال النووي في شرح مسلم أنه المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون من الأصوليين. وذكر ابن دقيق العيد أنها تقتضيه عرفا-انتهى. قال في المصابيح: وأما الثالث فلأن أسماء الشهور إذا ذكرت غير مضاف إليها لفظ "شهر" كان العمل عاما لجميعها لا تقول سرت المحرم وقد سرت بعضا منه، ولا تقول صمت رمضان، وإنما صمت بعضه فإن أضفت الشهر إليه لم يلزم التعميم، هذا مذهب سيبويه وتبعه عليه غير واحد. قال الصفار: ولم يخالف في ذلك إلا الزجاج. ويمكن أن يقال إن قولها وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان، لا ينفي صيامه لجميعه، فإن المراد أكثرية صيامه فيه على صيامه في غيره من الشهور التي لم يفرض فيها الصوم، وذلك صادق بصومه كله، لأنه إذا صامه جميعه صدق أن الصوم الذي أوقعه فيه أكثر من الصوم الذي أوقعه في غيره ضرورة إنه لم يصم غيره مما عدا رمضان كاملا.
وفي رواية، قالت: (كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلا) متفق عليه.

(14/74)


وأما قولها لم يستكمل صيام شهر إلا رمضان فيحمل على الحذف أي إلا رمضان وشعبان. بدليل قولها في الطريق الأخرى، فإنه يصوم شعبان كله، وحذف المعطوف والعاطف جميعا ليس بعزيز في كلامهم، ففي التنزيل لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح وقاتل أي ومن انفق بعده. ويمكن الجمع بطريق أخرى وهي أن يكون قولها وكان يصوم شعبان كله محمولا على حذف أداة الاستثناء والمستثنى، أي إلا قليلا منه، ويدل عليه حديث عبدالرزاق بلفظ. ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياما منه في شعبان. فإنه كان يصومه إلا قليلا: وقيل في الجمع إن قولها الثاني متأخر عن قولها الأول فأخبرت عن أول أمره أنه كان يصوم أكثر شعبان، وأخبرت ثانيا عن آخر أمره أنه كان يصومه كله. وقيل بالعكس ولا يخفي ما في ذلك. وقال الباجي: يحتمل أن تريد بقولها ما استكمل صيام شهر قط غير رمضان أنه استكمله على وجه التعيين والتخصيص له، وما روى أنه كان يصوم شعبان كله لم يكن على وجه التعيين له، وقد روى عن عبدالله بن شقيق قلت لعائشة هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهرا معلوما سوى رمضان قالت لا، والله، إن صام شهرا معلوما سوى رمضان حتى مضى لوجهه الحديث. فقولها شهرا معلوما يقتضى أن يكون معلوما بصومه وهذا لا يمنع أن يكون صامه على غير هذا الوجه-انتهى. قال الحافظ: والأول (من وجوه الجمع الثلاثة الأول) هو الصواب، ويؤيده رواية عبدالله ابن شقيق عن عائشة عند مسلم، وسعد بن هشام عنها عند النسائي ولفظه، ولا صام شهرا كاملا قط منذ قدم المدينة غير رمضان، وهو مثل حديث عبدالله عند البخاري، قال ما صام النبي- صلى الله عليه وسلم - شهرا كاملا قط غير رمضان-انتهى.واختاره النووي كما سيأتي وابن القيم كما في الهدي. ومال الطيبي إلى الوجه الثاني وقال القاري: وهو أقرب لظاهر اللفظ. وقال العيني بعد الكلام: في الوجه الأول من وجوه الجمع، والأحسن أن يقال فيه أنه باعتبار عامين

(14/75)


فأكثر فكان يصومه كله في بعض السنين وكان يصوم أكثره في بعض السنين-انتهى. قال الحافظ: ولا تعارض بين هذا وبين ما تقدم من الأحاديث في النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، وكذا ما جاء من النهي عن صوم نصف شعبان الثاني. فإن الجمع بينهما ظاهر بأن يحمل النهي على من لم يدخل تلك الأيام في صيام اعتاده. وقد تقدم إن أحاديث النهي عن التقدم مقيدة بقوله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يكون رجل يصوم يوما، وفي الحديث دليل على فضل الصوم في شعبان. (وفي رواية) أي لمسلم فإنه قد تفرد بها، وأخرجها أيضا النسائي وابن ماجه والبيهقي (كان يصوم شعبان كله) أي غالبه ولذلك ذكرت قولها كان يصوم شعبان إلا قليلا تفسيرا له (كان) كذا في أكثر النسخ، وهكذا وقع في صحيح مسلم وسنن ابن ماجه والبيهقي والمحلى (ج7ص14) لابن حزم وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7ص207) قال القاري: وفي نسخة وكان-انتهى.
2057-(2) وعن عبدالله بن شقيق، قال: قلت لعائشة: ((أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرا كله، قالت: ما علمته صام شهرا كله إلا رمضان، ولا أفطره كله حتى يصوم منه، حتى مضى لسبيله)) رواه مسلم.
2058-(3) وعن عمران بن حصين، (عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه سأله، أو سأل رجلا
والظاهر أنه خطأ من الناسخ (يصوم شعبان إلا قليلا) قال النووي: الثاني تفسير للأول وبيان إن قولها كله أي غالبه-انتهى. وقال الحافظ: هذا يبين أن المراد بقوله في حديث أم سلمة عند أبي داود وغيره أنه كان لا يصوم من السنة شهرا تاما إلا شعبان يصله برمضان أي كان يصوم معظمه-انتهى. وقيل: كان يصوم كله أي في أول الأمر. وقولها كان يصوم شعبان إلا قليلا" اخبار عن آخر الأمر. وقيل: المراد أنه كان يصومه كله في سنة وأكثره في سنة أخرى (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أحمد ومالك وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي وابن حزم (ج7ص14) وأخرجه الترمذي مختصرا.

(14/76)


2057- قوله: (ما علمته صام شهرا كله إلا رمضان) وفي رواية ما رأيته صام شهرا كاملا منذ قدم المدينة إلا أن يكون رمضان، وهذا يؤيد قول من تأول قول عائشة كان يصوم شعبان كله بأن المراد معظمه وغالبه (ولا أفطره) أي شهرا (كله) تأكيد له (حتى يصوم منه) أي بعضه (حتى مضى لسبيله) وفي رواية حتى مضى لوجهه، وهو كناية عن الموت حتى مات. قال القاري: واللام في "لسبيله" مثلها في قولك لقيته لثلاث بقين من الشهر، تريد مستقبلا الثلاث، أي كان حاله ما ذكر إلى أن مات. قال الطيبي: حتى الأولى بمعنى كي كقولك سرت حتى أدخل البلد بالنصب إذا كان دخولك مترقبا لما يوجد كأنك قلت: سرت كي أدخلها، وكان منقضيا إلا أنه في حكم المستقبل من حيث أنه في وقت وجود السير المفعول من أجله كان مترقبا وتحريره، إن حتى "الأولى" غاية عدم الصوم باستمرار الإفطار، استعقب للصوم، والثانية غاية لعدم علمه بالحالتين من الصيام والإفطار والاستمرار هو مستفاد من النفي الداخل على الماضي. والحديث وارد على هذا لأنه عليه الصلاة والسلام حين عزم أن لا يصوم الشهر كله كان مترقبا أن يصوم بعضه، "وحتى الثانية" غاية لما تقدمه من الجمل كلها-انتهى. وفي الحديث أنه يستحب أن لا يخلى شهرا من صيام (رواه مسلم) وأخرجه النسائي والترمذي.
2058- قوله: (أنه) أي النبي صلى الله عليه وسلم (سأله) أي عمران (أو سأل رجلا) قال الحافظ: هذا شك من مطرف، أي راوي الحديث عن عمران، فإن ثابتا رواه عنه بنحوه على الشك أيضا، أخرجه مسلم،
وعمران يسمع، فقال: يا أبا فلان! أما صمت من سرر شعبان. قال: لا قال: فإذا أفطرت فصم يومين) متفق عليه.

(14/77)


وأخرجه من وجهين آخرين عن مطرف بدون شك على الإبهام أنه قال لرجل، زاد أبوعوانة في مستخرجه من أصحابه، ورواه أحمد من طريق سليمان التيمي به قال لعمران بغير شك-انتهى. (وعمران يسمع) جملة حالية (فقال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (يا أبا فلان) قال الحافظ: كذا في نسخة من رواية أبي ذر للبخاري بأداة الكنية وللأكثر يا فلان بإسقاطها (أما) الهمزة للاستفهام "وما" نافية (صمت من سرر شعبان) بفتح السين المهملة ويجوز كسرها وضمها والراء مفتوحة في الجميع، جمع سرة بضم السين وتشديد الراء، قال النووي: ضبطوا السرر بفتح السين وكسرها، وحكى القاضي ضمها، قال: وهو جمع سرة، ويقال أيضا سرار و سرار بفتح السين وكسرها، ذكره ابن السكيت وغيره. قال الفراء: والفتح أفصح وكله من الاستسرار. واختلف في تفسيره، والمشهور أن المراد به هنا آخر الشهر وهو قول الجمهور من أهل اللغة والغريب. فالحديث وسمي بذلك لاستسرار القمر يعني استتاره فيه وهي ليلة ثمان وعشرين وتسع وعشرين وثلاثين، وهذا موافق لما ترجم له البخاري بقوله باب الصوم آخر الشهر واستشكل بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة السابق لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين وأجيب بأن الرجل كان معتادا لصيام سرر الشهر أو كان قد نذره فلذلك أمره بقضاءه. قال المجد ابن تيمية في المنتقى: يحمل حديث السرر على أن الرجل كانت له عادة بصيام الشهر أو قد نذره. وقال الزين المنير: يحتمل أن يكون الرجل كانت له عادة بصيام آخر الشهر فلما سمع نهيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتقدم أحد رمضان بصوم يوم أو يومين ولم يبلغه الاستثناء بقوله. إلا أن يكون شيء يصومه أحدكم فليصم ترك صيام ما كان اعتاده من ذلك، فأمره بقضاءها لتستمر محافظته على ما وظف على نفسه من العبادة، لأن أحب العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه قال: وأطلق البخاري في ترجمته الشهر وإن كان المذكور في الحديث شهرا مقيدا وهو شهر شعبان إشارة منه إلى

(14/78)


أن ذلك لا يختص بشعبان بل يؤخذ من الحديث الندب إلى صيام أواخر كل شهر ليكون عادة للمكلف، فلا يعارضه النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين لقوله فيه إلا رجل كان يصومه فليصمه-انتهى. وقال الخطابي في المعالم (ج2ص96) هذان الحديثان متعارضان في الظاهر، ووجه الجمع أن يكون حديث السرر إنما هو شيء كان الرجل قد أوجبه على نفسه بنذره فأمره بالوفاء أو كان ذلك عادة قد اعتادها في صيام أواخر الشهور فتركه لاستقبال الشهر فاستحب له - صلى الله عليه وسلم - أن يقضيه. وأما المنهي عنه في حديث ابن عباس وأبي هريرة فهو أن يبتدئ المرء متبرعا به من غير إيجاب نذر ولا عادة قد كان تعودها فيما مضى-انتهى. وكذا قال المازري والقرطبي وغيرهما.

(14/79)


وقالت طائفة سرر الشهر أوله، وبه قال الأوزاعي وسعيد بن عبدالعزيز فيما حكاه أبوداود وتعقب بأنه لا يصح أن يفسر سرر الشهر وسراره بأوله، لأن أول الشهر يشتهر فيه الهلال، ويرى من أول الليل، ولذلك سمي الشهر شهرا لاشتهاره وظهوره عند دخوله فتسمية ليالي الاشتهار ليالي السرار قلب اللغة والعرف وقد أنكر العلماء ما رواه أبوداود عن الأوزاعي، منهم الخطابي حيث قال أنا أنكر هذا التفسير وأراه غلطا في النقل ولا أعرف له وجها في اللغة. ثم حكى عن الأوزاعي بسنده مثل قول الجمهور ثم قال وهذا هو الصواب. وقال البيهقي (ج4ص211) وروى غير أبي داود عن الأوزاعي أنه قال سره آخره وهو الصحيح. وقيل: سرر الشهر وسطه ورجحه بعضهم ووجهه بأن السرر جمع سرة، وسرة الشيء وسطه، وسرار كل شيء وسطه وأفضله، وسرارة الوادي وسطه وخياره. وقال ابن السكيت: سرار الأرض أكرمها ووسطها، ويؤيده ما ورد من استحباب صوم أيام البيض وأنه لم يرد في صيام آخر الشهر ندب. بل ورد فيه نهي خاص وهو آخر شعبان لمن صامه لأجل رمضان. ورجحه النووي بأن مسلما أفرد الرواية التي فيها سرة هذا الشهر عن بقية الروايات وأردف بها الروايات التي فيها الحض على صيام البيض وهي وسط الشهر. قال الحافظ: لكن لم أر في جميع طرق الحديث باللفظ الذي ذكره وهو سرة بل هو عند أحمد من وجهين بلفظ: سرار، وأخرجه من طرق عن سليمان التيمي في بعضها سرر وفي بعضها سرار، وهذا يدل على أن المراد آخر الشهر-انتهى، وتقدم وجه الجمع بين هذا وبين النهي عن صوم آخر شعبان أي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين. وروى أبوداود من طريقه البيهقي عن معاوية مرفوعا صوموا الشهر وسره. قال في النهاية: أراد صوموا أول الشهر وآخره يعني أول كل شهر وآخره والمقصود بيان الإباحة. قال الخطابي: والعرب تسمى الهلال الشهر تقول رأيت الشهر أي الهلال. قال الشاعر:
والشهر مثل قلامة الظفر

(14/80)


أي الهلال. وقيل: المراد بالشهر شعبان أي صوموا شعبان ثم أكد بقوله وسره بأن آخر شعبان أولى بالصيام وقيل: المراد بالشهر رمضان وبسره آخر شعبان، وإضافته إلى رمضان للاتصال والخطاب لمن تعود (قال لا) أي قال الرجل ما صمته (قال) أي النبي- صلى الله عليه وسلم -(فإذا أفطرت) أي من رمضان كما في أحمد ومسلم أي فرغت من رمضان (فصم يومين) بعد العيد عوضا عن سرر شعبان، ففي رواية لأحمد ومسلم فصم يومين مكانه، أي مكان سرر شعبان، وفيه مشروعية قضاء التطوع، وقد يؤخذ منه قضاء الفرض بطريق الأولى خلافا لمن منع ذلك (متفق عليه) واللفظ للبخاري وأخرجه أحمد (ج4ص428- 432- 434- 439- 442- 444- 446) وأبوداود والدارمي والبيهقي (ج4ص210).
2059-(4) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)) رواه مسلم.

(14/81)


2059- قوله: (أفضل الصيام بعد رمضان) وفي رواية الترمذي بعد صيام شهر رمضان (شهر الله) أي صيام شهر الله، والإضافة إلى الله للتشريف والتعظيم. وقال العراقي في شرح الترمذي: لما كان المحرم من الأشهر الحرم التي حرم فيها القتال، وكان أول شهور السنة أضيف إليه إضافة تخصيص، ولم يصح إضافة شهر من الشهور إلى الله تعالى عن النبي- صلى الله عليه وسلم -إلا شهر الله المحرم-انتهى. (المحرم) بالرفع صفة المضاف. قال الطيبي: أراد بصيام شهر الله صيام يوم عاشوراء-انتهى. فيكون من باب ذكر الكل وإرادة البعض، لكن الظاهر أن المراد جميع شهر المحرم وتمامه. ويؤيده ما رواه الترمذي والدارمي عن النعمان بن سعد عن علي قال سأله رجل، فقال أي شهر تأمرني أن أصوم بعد شهر رمضان فقال له، ما سمعت أحدا يسأل عن هذا إلا رجلا سمعته يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا قاعد عنده فقال يا رسول الله ! أي شهر تأمرني أن أصوم بعد شهر رمضان قال إن كنت صائما بعد شهر رمضان فصم المحرم فإنه شهر الله-الحديث. قال السندي: في حاشية أبي داود وابن ماجه، بعد الإشارة إلى حديث علي هذا يفيد أن المراد تمام الشهر-انتهى. وحديث الباب صريح إن شهر المحرم أفضل الشهور للصوم، وقد سبق الجواب عن إكثار النبي - صلى الله عليه وسلم - من صوم شعبان دون المحرم بوجهين. أحدهما لعله إنما علم فضله في آخر حياته والثاني: لعله كان يعرض فيه إعذار من سفر أو مرض أو غيرهما تمنع من إكثار الصوم فيه. وقال بعض الشافعية والحنابلة: أفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شعبان لمحافظته - صلى الله عليه وسلم - على صومه أو صوم أكثره فحملوا قوله - صلى الله عليه وسلم - أفضل الصيام بعد رمضان المحرم على التطوع المطلق ولا يخفى ما فيه (وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل) قال النووي: فيه دليل لما اتفق العلماء عليه إن تطوع الليل أفضل من تطوع النهار، وفيه حجة لأبي إسحاق المروزي من أصحابنا

(14/82)


ومن وافقه على أن صلاة الليل أفضل من سنن الرواتب. وقال أكثر العلماء: الرواتب أفضل لأنها تشبه الفرائض، والأول أقوى وأوفق للحديث والله تعالى أعلم. قال الطيبي: ولعمري إن صلاة التهجد لو لم يكن فيها فضل سوى قوله تعالى: ?ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا? [الإسراء: 79] وقوله ?تتجافى جنوبهم عن المضاجع? إلى قوله ?فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين? [السجدة: 16، 17] وغيرهما من الآيات لكفاه مزية-انتهى. وتأول الحديث من ذهب إلى أفضلية الرواتب بأنه إنما أريد به تفضيل قيام الليل على التطوع المطلق دون السنن الرواتب التي قبل الفرض وبعده. قالوا: وقوله "بعد الفريضة" أي وتوابعها من السنن المؤكدة. وقال بعضهم: المراد صلاة الليل أفضل من الرواتب من حيثية المشقة والكلفة، والبعد من الرياء والسمعة مطلقا. والراجح عندي: ما ذهب إليه أبوإسحاق المروزي لموافقته لنص حديث الباب (رواه مسلم) في الصيام وأخرجه أحمد والترمذي في أواخر الصلاة وفي الصيام والنسائي في قيام الليل وأبوداود وابن ماجه والدارمي والبيهقي (ج4ص291) في الصيام.
2060-(5) وعن ابن عباس، قال: ((ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم: يوم عاشوراء، وهذا الشهر، يعني شهر رمضان)) متفق عليه.

(14/83)


2060- قوله: (يتحرى) من التحري أي يقصد قاله الحافظ. وقال العيني: التحري المبالغة في طلب الشيء (صيام يوم) قال القاري: منصوب بنزع الخافض أي ما رأيته يبالغ في الطلب ويجتهد في صيام يوم-انتهى. وفي رواية أحمد (ص222) والنسائي ما علمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام يوما يتحرى فضله على الأيام. قال السندي: أي يراه ويعتقده. وعند أحمد (ج1ص367) ما علمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحرى صيام يوم يبتغي فضله على غيره (فضله على غيره) أي وصيام شهر فضله على غيره بتشديد الضاد المعجمة جملة في موضع جر صفة ليوم (إلا هذا اليوم) أي صيامه (يوم عاشوراء) بدل أو منصوب بتقدير أعنى وهو اليوم العاشر من المحرم (وهذا الشهر) بالنصب عطف على قوله هذا اليوم وهذا من اللف التقديري، لأن المعطوف لم يدخل في لفظ المستثنى منه إلا بتقدير، وصيام شهر فضله على غيره كما مر، أو يعتبر في الشهر أيامه يوما، فيوما موصوفا بهذا الوصف، وحينئذ فلا يحتاج إلى تقدير وصيام شهر. قال الطيبي: قوله "فضله" بتشديد الضاد. قيل: بدل من يتحرى، والحمل على الصفة أولى لأن هذا اليوم مستثنى، ولا بد من مستثنى منه، وليس ههنا إلا قوله يوم وهو نكرة في سياق النفي يفيد العموم، والمعنى ما رأيته عليه الصلاة والسلام يتحرى في صيام يوم من الأيام صفته أنه مفضل على غيره إلا صيام هذا اليوم، فإنه كان يتحرى في تفضيل صيامه ما لم يتحر في تفضيل غيره، وهذا الشهر عطف على هذا اليوم، ولا يستقيم إلا بالتأويل إما أن يقدر في المستثنى منه فصيام شهر فضله على غيره، وهو من اللف التقديري، وإما أن يعتبر في الشهر أيامه يوما فيوما موصوفا بهذا الوصف-انتهى. قلت: اللفظ المذكور هنا للبخاري. ولفظ مسلم سئل ابن عباس عن صيام يوم عاشوراء فقال: ما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام يوما يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم ولا شهرا إلا هذا الشهر يعني رمضان (يعني شهر

(14/84)


رمضان) تفسير من الراوي عن ابن عباس. قال الحافظ: وكان ابن عباس اقتصر على قوله وهذا الشهر، وأشار بذلك إلى شيء مذكور كأنه تقدم ذكر رمضان وذكر عاشوراء أو كانت المقالة في أحد الزمانين وذكر الآخر، فلهذا قال الراوي عنه يعني رمضان أو أخذه الراوي من جهة الحصر في أن لا شهر يصام إلا رمضان لما تقدم له عن ابن عباس أنه كان يقول: لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام شهرا كاملا إلا رمضان-انتهى. وهذا من باب الترقي أو تقديم عاشوراء للاهتمام به أو لتقدمه في أصل وجوب الصوم أو لكونه من أول السنة. وإنما جمع ابن عباس بينهما وإن كان أحدهما واجبا والآخر مندوبا لإشتراكهما في حصول الثواب لأن معنى يتحرى أي يقصد صومه لتحصيل ثوابه والرغبة فيه.
2061-(6) وعنه، قال: ((حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء.
قال الشوكاني: هذا الحديث يقتضي أن يوم عاشوراء أفضل الأيام للصيام بعد رمضان، ولكن ابن عباس أسند ذلك إلى علمه فليس فيه ما يرد علم غيره. وقد تقدم أن أفضل الصوم بعد رمضان على الإطلاق صوم المحرم، وسيأتي إن صوم عرفة يكفر سنتين وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة وظاهره إن صيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم عاشوراء (متفق عليه) واللفظ للبخاري وأخرجه أحمد (ج1ص222، 313، 367) والنسائي والبيهقي (ج4ص286).

(14/85)


2061- قوله: (حين صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في المدينة موافقة لموسى عليه السلام وكان يصومه أيضا في الجاهلية قبل الهجرة موافقة لقريش فإنهم كانوا يصومونه تعظيما له وكانوا يكسون فيه الكعبة (يوم عاشوراء) أي اليوم العاشر من المحرم. قال في القاموس: العاشوراء والعشوراء ويقصران، والعاشور عاشر أو تاسعه-انتهى. والأول هو قول الخليل وغيره، والاشتقاق يدل عليه، وهو مذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى الثاني، وفي المصنف عن الضحاك عاشوراء اليوم التاسع قيل: لأنه مأخوذ من العشر بالكسر في أوراد الإبل، تقول العرب وردت الإبل عشرا، إذا وردت اليوم التاسع فالعشر عندهم تسعة أيام، وذلك لأنهم يحسبون في الاظماء يوم الورد فإذا وردت يوما وقامت في الرعي يومين، ثم وردت في اليوم الثالث قالوا وردت ربعا، وإنما هو اليوم الثالث في الاظماء وإن رعت ثلاثا، وفي الرابع وردت قالوا وردت خمسا لأنهم حسبوا في كل هذا بقية اليوم الذي وردت فيه قبل الرعي، وأول اليوم الذي ترد فيه بعده وعلى هذا القول يكون التاسع عاشوراء. قال النووي: ما ذهب إليه الجمهور هو ظاهر الأحاديث، ومقتضى اللفظ. وأما تقدير أخذه من الاظماء فبعد. وقال الحافظ: اختلف أهل الشرع في تعيينه أي مصداقه وإشقاقه فقال الأكثر هو اليوم العاشر. قال القرطبي: عاشوراء معدول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم وهو في الأصل صفة لليلة العاشرة لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم العقد واليوم مضاف إليها فإذا قيل يوم عاشوراء فكأنه قيل يوم الليلة العاشرة إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الإسمية فاستغنوا عن الموصوف فحذفوا الليلة، فصار هذا اللفظ علما على اليوم العاشر، وذكر أبومنصور الجواليقى أنه لم يسمع فاعولاء إلا هذا، وضاروراء وساروراء ودالولاء من الضار والسار والدال، وعلى هذا فيوم عاشوراء هو العاشر وهذا قول الخليل

(14/86)


وغيره. وقال الزين بن المنير الأكثر على أن عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم، وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية وقيل هو اليوم التاسع فعلى الأول فاليوم مضاف لليلة الماضية، وعلى الثاني هو مضاف لليلة الآتية،.
وقيل إنما سمي يوم التاسع عاشوراء أخذا من أوراد الإبل كانوا إذا رعوا الإبل ثمانية أيام، ثم أوردوها في التاسع، قالوا وردنا عشرا بكسر العين وكذلك إلى الثلاثة. وروى مسلم من طريق الحكم بن الأعرج إنتهيت إلى ابن عباس فقلت أخبرني عن يوم عاشوراء، قال إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما، قلت أهكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصومه قال نعم، وهذا ظاهره أن يوم عاشوراء هو اليوم التاسع لكن قال الزين بن المنير قوله (أي في رواية البيهقي) إذا أصبحت من تاسعه فأصبح صائما يشعر بأنه أراد العاشر لأنه لا يصبح صائما بعد أن أصبح من تاسعه إلا إذا نوى الصوم من الليلة المقبلة وهو الليلة العاشرة. قال الحافظ: ويقوي هذا الاحتمال ما رواه مسلم أيضا من وجه آخر عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع فمات قبل ذلك، فإنه ظاهر في أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم العاشر وهم بصوم التاسع فمات قبل ذلك-انتهى. قلت وقع في رواية الترمذي أخبرني عن يوم عاشوراء أي يوم أصومه. وللبيهقي أخبرني عن صيام عاشوراء أي يوم هو ووقع في رواية الترمذي، وكذا البيهقي ثم أصبح من يوم التاسع صائما، وفيه تنبيه على أن من أراد صوم عاشوراء ابتدأ من يوم التاسع، ولا ينبغي أن يقتصر على صوم العاشر فقط. وقد ورد عن ابن عباس ما يدل على ذلك، فقد روى الطحاوي والبيهقي عنه قال خالفوا اليهود وصوموا التاسع والعاشر، فقد تبين بهذا مراد ابن عباس من رواية مسلم، وإلى هذا الجواب نحا البيهقي حيث قال بعد رواية حديث الحكم بن الأعرج (ج4:ص287) وكان ابن عباس رضي الله عنه أراد صوم التاسع مع العاشر

(14/87)


وأراد بقوله في الجواب، نعم ما روى من عزمه - صلى الله عليه وسلم - على صومه، والذي يبين هذا ما روينا من طريق عبدالرزاق عن ابن جريج عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقول: صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود، وما روينا من طريق سفيان عن ابن أبي ليلى عن داود بن علي عن أبيه عن جده ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، لئن بقيت لآمرن بصيام يوم قبله أو يوم بعده يوم عاشوراء، وما روينا من طريق هشيم عن ابن أبي ليلى عن داود بن علي عن أبيه عن جده ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود صوموا قبله يوما أو بعده يوما-انتهى ملخصا. وقال الشوكاني: الأولى أني يقال أن ابن عباس أرشد السائل له إلى اليوم الذي يصام فيه وهو التاسع، ولم يجب عليه بتعين يوم عاشوراء أنه اليوم العاشر، لأن ذلك مما لا يسئل عنه ولا يتعلق بالسؤال عنه فائدة، فابن عباس لما فهم من السائل إن مقصوده تعيين اليوم الذي يصام فيه أجاب عليه بأنه التاسع، وقوله "نعم" بعد قول السائل أهكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم، بمعنى نعم هكذا كان يصوم، لو بقي لأنه قد أخبرنا بذلك. ولا بد من هذا لأنه - صلى الله عليه وسلم - مات قبل صوم التاسع-انتهى. وقال ابن القيم في الهدي (ج1:ص72) لم يجعل ابن عباس عاشوراء هو اليوم التاسع،
وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ! إنه يوم يعظمه اليهود والنصارى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لئن بقيت إلى قابل، لأصومن التاسع)). رواه مسلم.

(14/88)


بل قائل للسائل صم اليوم التاسع، واكتفى بمعرفة السائل إن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر الذي يعده الناس كلهم يوم عاشوراء، فأرشد السائل إلى صيام التاسع معه وأخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصومه، كذلك بأن يكون حمل فعله على الأمر وعزمه عليه في المستقبل. ويدل على ذلك أنه هو الذي روى صوموا يوما قبله ويوما بعده. وهو الذي روى أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيام يوم عاشوراء يوم العاشر. وكل هذه الآثار يصدق بعضها بعضا ويؤيد بعضها بعضا. فمراتب صومه ثلاثة، أكملها أن يصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر. وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك أفراد العاشر وحده. وأما أفراد التاسع فمن نقص فهم الآثار وعدم تتبع ألفاظها وطرقها وهو بعيد من اللغة والشرع-انتهى. قلت وهكذا جعل الشوكاني والحافظ والشيخ عبدالحق الدهلوي مراتب صوم عاشوراء ثلاثة، وجعلوا صوم العاشر وقبله يوما وبعده يوما أكمل المراتب وأفضلها. قال الشيخ عبدالحق في اللمعات: الأفضل أن يصوم العاشر ويوما قبله ويوما بعده، وقد جاء ذلك في حديث أحمد-انتهى. قلت: يريد بذلك ما أشار إليه ابن القيم من حديث ابن عباس المرفوع بلفظ: صوموا يوما قبله ويوما بعده، لكن الذي وقع في مسند الإمام أحمد (ج1:ص241) طبعة الحلبي صوموا قبله يوما أو بعده يوما أي بحرف أو، لا بالواو، وهكذا وقع في طبعة دار المعارف بشرح الشيخ أحمد شاكر (ج4:ص21) وكذا نقله الحافظ في الفتح كما سيأتي، وكذا وقع عند البيهقي (ج4:ص287) من رواية علي بن محمد المقرئي عن الحسن بن محمد عن يوسف بن يعقوب القاضي عن أبي الربيع عن هشيم عن ابن أبي ليلى، وكذا رواه الطحاوي (ج1:ص338) من وجه آخر وذكر الهيثمي (ج3:ص188) بلفظ: صوموا يوما قبله ويوما بعده وعزاه إلى أحمد والبزرا، وهكذا ذكره المجد في المنتقى وابن القيم في الهدي والقاري في المرقاة، وكذا وقع عند البيهقي من رواية ابن

(14/89)


عبدان عن أحمد بن عبيد الصفار عن إسماعيل بن إسحاق عن مسدد عن هشيم. وقال القاري: وظاهر أن الواو بمعنى "أو" لأن المخالفة تحصل بأحدهما-انتهى. فالاستدلال برواية أحمد على كون الصوم في التاسع والحادي عشر مع العاشر أي الجمع بين الثلاثة فيه نظر، وعندي مراتب صوم عاشوراء الثلاث هكذا أدناها أن يصوم العاشر فقط، وفوقه أن يصوم الحادي عشر معه وفوقه أن يصوم التاسع والعاشر، وإنما جعلت هذه فوق الموتيتين الأوليين لكثرة الأحاديث فيها والله تعالى أعلم (وأمر بصيامه) أي أصحابه تطوعا بعد نسخ وجوبه. وقال القاري: أمر بصيامه أي أولا بالوجوب ثم بعد النسخ بالندب فلما كانت السنة العاشرة من الهجرة (قالوا يا رسول الله !) أي يوم عاشوراء يوم (يعظمه) كذا في جميع النسخ من المشكاة، والذي في صحيح مسلم تعظمه بالتأنيث، وكذا نقله المجد بن تيمية في المنتقى والجزري في جامع الأصول والزيلعي في نصب الراية، وكذا وقع في رواية البيهقي (اليهود والنصارى) أي وقد أمرنا بمخالفتهم فكيف نوافقهم على تعظيمه بالصوم فيه،

(14/90)


وقد استشكل ذكر النصارى بأن التعليل بنجاة موسى وغرق فرعون المذكور في حديث ابن عباس الآتي في الفصل الثالث يختص بموسى واليهود، وأجيب باحتمام أن يكون عيسى كان يصومه، وهو مما لم ينسخ من شريعة موسى لأن كثيرا منها ما نسخ بشريعة عيسى لقوله تعالى?ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم? [آل عمران:50] ويقال إن أكثر الأحكام الفرعية إنما تتلقاها النصارى من التوراة (لئن بقيت) أي في الدنيا أو لئن عشت (إلى قابل) أي إلى عام قابل وهو السنة الآتية (لأصومن التاسع) وفي رواية فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع قال فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى لأصومن التاسع مع العاشر لأجل مخالفة أهل الكتاب. قال الحافظ في الفتح: ما هم به - صلى الله عليه وسلم - من صوم التاسع يحتمل معناه أنه لا يقتصر عليه بل يضيفه إلى اليوم العاشر إما إحتياطا وإما مخالفة لليهود والنصارى وهو الأرجح، وبه يشعر بعض روايات مسلم ولأحمد من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعا صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود، وصوموا يوما قبله أو يوما بعده، وهذا كان في آخر الأمر وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يجب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ولا سيما إذا كان فيما يخالف فيه أهل الأوثان، فلما فتحت مكة واشتهر أمر الإسلام أحب مخالفة أهل الكتاب أيضا كما ثبت في الصحيح فهذا من ذلك فوافقهم أولا وقال نحن أحق بموسى منكم ثم أحب مخالفتهم، فأمر بأن يضاف إليه يوم قبله ويوما بعده خلافا لهم. ويؤيده رواية الترمذي من طريق أخرى بلفظ: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيام عاشوراء يوم العاشر-انتهى. وقال الرافعي في صوم التاسع معنيان منقولان عن ابن عباس أحدهما، الإحتياط فإنه ربما وقع في الهلال غلط فيظن العاشر التاسع، وثانيهما، مخالفة اليهود فإنهم لا يصومون إلا يوما واحدا، فعلى هذا لو لم يصم التاسع استحب له صوم الحادي

(14/91)


عشر-انتهى. قال الحافظ في التلخيص (199) والمعنيان كما قال عن ابن عباس منقولان، وكذا القياس الذي ذكره، منقول عنه بل مرفوع من روايته.وقد روى البيهقي من طريق ابن أبي ذئب عن شعبة مولى ابن عباس قال كان ابن عباس يصوم عاشوراء يومين ويوالي بينهما مخافة أن يفوته فهذا المعنى الأول. وأما المعنى الثاني، فقال الشافعي أنا سفيان أنه سمع عبيدالله بن أبي يزيد يقول سمعت ابن عباس يقول: صوموا التاسع والعاشر ولا تشبهوا باليهود. وفي رواية للبيهقي عن ابن عباس مرفوعا لئن بقيت لآمرن بصيام يوم قبله أو بعده كما تقدم، وفي رواية له صوموا عاشوراء وخالفوا اليهود، صوموا قبله يوما أو بعده يوما-انتهى. وقال بعض أهل العلم: قد ظهر أن القصد مخالفة أهل الكتاب في هذه العبادة مع الإتيان بها، وذلك يحصل بأحد أمرين إما بنقل العاشر إلى التاسع أو بصيامهما معا، وقوله "لئن بقيت لأصومن التاسع" يحتمل الأمرين فلما توفي صلى الله عليه وسلم قبل بيان ذلك كان الإحتياط صوم اليومين معا-انتهى. ورجح ابن القيم المعنى الذي ذكره الحافظ في الفتح إحتمالا قال: هو أصوب إن شاء الله تعالى،
2062- (7) وعن أم الفضل بنت الحارث، ((إن ناسا تماروا عندها يوم عرفة في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره بعرفة، فشربه)) متفق عليه.

(14/92)


ومجموع أحاديث ابن عباس عليها تدل وتبين صحة هذا المعنى والله أعلم (رواه مسلم) أعلم أن الحديث رواه مسلم من طريقين سياق الأولى مطول والأخرى مختصر، وحذف المصنف تبعا للبغوي عجز الطريق الأولى، وجعل مكانه لفظه الطريق الثاني، وكان الأولى له أن يذكر سياق الطريق الأولى بتمامه ثم يقول، وفي رواية لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع، والرواية الأولى رواها أيضا أبوداود والبيهقي (ج4:ص287) والرواية الأخرى المختصرة أخرجها أحمد (ج1:ص2240236-242) وكذا البيهقي والطحاوي (ج1:ص338).

(14/93)


2062- قوله: (وعن أم الفضل) اسمها لبابة وهي امرأة العباس وأخت ميمونة أم المؤمنين (إن ناسا) أي من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (تماروا) أي اختلفوا كما في رواية، أوشكوا كما في رواية أخرى، وقع عند الدارقطني في الموطآت اختلف ناس من أصحاب رسول - صلى الله عليه وسلم - (عند ها يوم عرفة) أي بعرفات (في صيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي ذلك اليوم (فقال بعضهم هو صائم وقال بعضهم ليس بصائم) قال الحافظ: قوله "في صيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" هذا يشعر بأن صوم يوم عرفة كان معروفا عندهم معتادا لهم في الحضر، وكان من جزم بأنه صائم استند إلى ما ألفه من العبادة، ومن جزم بأنه غير صائم قامت عنده قرينة كونه مسافر أو قد عرف نهيه عن صوم الفرض في السفر فضلا عن النفل (فأرسلت) بلفظ: المتكلم والغيبة، وفي رواية البخاري في الصيام على ما في بعض النسخ، فأرسلت أم الفضل فتتعين الغيبة. وفي حديث كريب عن ميمونة عند البخاري إن الناس شكوا في صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة، فأرسلت إليه بحلاب (وفي رواية مسلم فأرسلت إليه ميمونة بحلاب اللبن) وهو واقف في الموقف فشرب منه، والناس ينظرون، وهذا صريح في أن ميمونة هي المرسلة، فيحتمل التعدد، ويحتمل أنهما أرسلنا معا، فنسب ذلك إلى كل منهما، لأنهما كانتا أختين، وتكون ميمونة أرسلت بسؤال أم الفضل لها في ذلك لكشف الحال في ذلك، ويحتمل العكس. ولم يسم الرسول في طرق حديث أم الفضل، لكن روى النسائي من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس ما يدل على أنه كان الرسول بذلك، ويقوي ذلك أنه كان ممن جاء عنه أنه أرسل إما أمه وإما خالته كذا في الفتح (إليه) صلى الله عليه وسلم (بقدح لين) لعلمها بمحبته عليه الصلاة والسلام له حيث يقوم مقام الأكل والشرب ولذا كان إذا أكل طعاما قال اللهم بارك لي فيه وأطعمني خيرا منه، وإذا كان لبنا قال اللهم بارك لي فيه وزدني منه،

(14/94)


أو لمناسبة الزمان والمكان، قاله القاري. قال الباجي: أرادت أن تختبر بذلك صومه وتعلم الصحيح من قول المختلفين وهذا وجه صحيح في معرفة أحد القسمين، وهو أن يشربه، فيعلم بذلك فطره. وأما لو امتنع من شربه فليس في ذلك دليل على صومه لجواز أن يمتنع من ذلك لشبع، وروى وغير ذلك، ولعله أن يكون في رده ما يدل على صومه أو يتسبب به إلى سؤاله (وهو واقف) أي راكب (على بعيره بعرفة) وفي المستخرج لأبي نعيم وهو يخطب الناس بعرفة، والحديث نص في أنه - صلى الله عليه وسلم - كان بعرفة على بعير، وكذا وقع في حديث خالد بن العداء، وحديث نبيط عند أبي داود. وهذا يخالف ما في حديث جابر الطويل عند مسلم وغيره حتى إذا زاغت الشمس، أمر بالقصواء فرحلت له فركب حتى أتى بطن الوادي فخطب الناس. وأجيب بأن البعير يطلق على الأنثى أيضا. قال في مجمع البحار: البعير، يقع على الذكر والأنثى. وقال الراغب: يقع على الذكر والأنثى كالإنسان في وقوعه عليهما. وقال في القاموس: البعير، الجمل البازل. أو الجذع، وقد يكون للأنثى، فالمراد بالبعير في حديث الباب. وكذا في حديثي خالد ونبيط هي الناقة لا الجمل. وأما ما وقع عند أحمد والنسائي في حديث نبيط من لفظ الجمل فهي رواية شاذة، أو أطلق لفظ الجمل على الناقة على طريق الشذوذ. وقد بوب عليه النسائي بلفظ. الخطبة بعرفة على الناقة أو يقال أنه رآه من بعيد فظنها جملا فروى على ما ظنه، والصواب أنه كان على ناقته القصواء حين وقف في الموقف، وخطب كما وقع في حديث جابر. واستدل به على أن الوقوف على ظهر الدواب مباح، وإن النهى الوارد في ذلك بقوله إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر-الحديث. أخرجه أبوداود من حديث أبي هريرة مرفوعا،محمول على ما إذا حصل للدابة مشقة، أو أن هذا الموضع مستثنى عما نهى عنه. قال الخطابي: قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم خطب على راحلته فدل ذلك على أن الوقوف عليها لا لمعنى يوجبه بأن يستوطنه الإنسان

(14/95)


ويتخذه مقعدا فيتعب الدابة ويضربها من غير طائل-انتهى. واختلف أهل العلم في أيهما أفضل الركوب أو تركه بعرفة، فذهب الجمهور إلى أن الأفضل الركوب لكونه - صلى الله عليه وسلم - وقف راكبا. ومن حيث النظر فإن في الركوب عونا على الإجتهاد في الدعاء والتضرع المطلوب حينئذ كما ذكروا مثله في الفطر. وذهب آخرون إلى أن استحباب الركوب يختص بمن يحتاج الناس إلى التعليم منه، وعن الشافعي قول إنهما سواء كذا في الفتح (فشربه) زاد في حديث ميمون، والناس ينظرون إليه ولأحمد والنسائي من طريق عبدالله بن عباس عن أمه أم الفضل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفطر بعرفة. قال الباجي: وشرب النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الموقف ليبين للناس فطره ولعله قد علم بتمارى أصحابه في ذلك الوقت فأراد تبين الشرع، وإيضاح الحق ورفع اللبس - صلى الله عليه وسلم -. ومقتضى حديث الباب وكذا حديث ميمونة إن صوم يوم عرفة غير مستحب لكن في حديث أبي قتادة الآتي إن صومه يكفر سنة آتية وسنة ماضية.

(14/96)


فالجمع بينه وبين حديثهما أن يحمل حديث أبي قتادة على غير الحاج، أو على من لم يضعفه صيامه عن الذكر والدعاء المطلوب للحاج كما سيأتي تفصيل ذلك. قال الزرقاني: فطر يوم عرفة للحاج أفضل من صومه لأنه الذي أختاره - صلى الله عليه وسلم - لنفسه، وللتقوى على حمل الحج، ولما فيه من العون على الإجتهاد في الدعاء والتضرع المطلوب في ذلك الموضع، ولذا قال الجمهور يستحب فطره للحاج، وإن كان قويا، ثم اختلفوا هل صومه مكروه وصححه المالكية أو خلاف الأولى وصححه الشافعية،و تعقب بأن فعله المجرد لا يدل على عدم استحباب صومه إذ قد يتركه لبيان الجواز ويكون في حقه أفضل لمصلحة التبليغ. وأجيب بأنه قد روى أبوداود والنسائي وصححه ابن خزيمة والحاكم عن أبي هريرة قال: نهى - صلى الله عليه وسلم - عن صوم عرفة بعرفة. وأخذ بظاهره قوم منهم يحيى بن سعيد الأنصاري فقال: يجب فطره للحاج، والجمهور على استحبابه حتى قال عطاء كل من أفطره ليتقوى به على الذكر كان له مثل أجر الصائم-انتهى. وقال الحافظ: روى عن ابن الزبير وأسامة بن زيد وعائشة أنهم كانوا يصومونه أي بعرفة، وكان ذلك يعجب الحسن، ويحكيه عن عثمان وعن قتادة مذهب آخر قال لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء، ونقله البيهقي في المعرفة عن الشافعي في القديم، واختاره الخطابي والمتولى من الشافعية-انتهى. قلت: قال الخطابي في المعالم (ج2:ص131) بعد ذكر حديث أبي هريرة في النهى عن الصوم بعرفة ما لفظه: هذا نهى إستحباب لا نهى إيجاب، وإنما نهى المحرم عن ذلك خوفا عليه أني يضعف عن الدعاء والإبتهال في ذلك المقام، فأما من وجد قوة ولا يخاف معها ضعفا فصوم ذلك اليوم أفضل له إن شاء الله، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - صيام يوم عرفة يكفر سنتين سنة قبلها وسنة بعدها-انتهى. وقال ابن قدامة (ج3:ص176) أكثر أهل العلم يستحبون الفطر يوم عرفة بعرفة وكانت عائشة وابن الزبير يصومانه. وقال قتادة: لا بأس به إذا لم

(14/97)


يضعف عن الدعاء. وقال عطاء: أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف، لأن كراهة صومه إنما هي معللة بالضعف عن الدعاء. فإذا قوى عليه أو كان في الشتاء لم يضعف فتزول الكراهة، ولنا ما روى عن أم الفضل يعني حديث الباب. وقال ابن عمر: حججت مع النبي فلم يصمه يعني يوم عرفة ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، ومع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه،أخرجه الترمذي وحسنه. وروى أبوداود عن أبي هريرة النهى عنه، ولأن الصوم يضعفه ويمنعه الدعاء في هذا المعظم الذي يستجاب فيه الدعاء في ذلك الموقف الشريف فكان تركه أفضل-انتهى. وسيأتي شيء من الكلام في هذه المسألة في شرح حديث أبي هريرة في الفصل الثاني وقد ذكر لفطره - صلى الله عليه وسلم - بعرفة عدة حكم. منها أنه أقوى على الدعاء، ومنها إن الفطر في السفر أفضل في فرض الصوم فكيف بنفله، ومنها إن ذلك اليوم كان يوم الجمعة وقد نهى عن أفراده بالصوم، فأحب أن يرى الناس فطره فيه تأكيدا لنهيه عن تخصيصه بالصوم وإن كان صومه لكونه يوم عرفة لا يوم جمعة.
2063- (8) وعن عائشة، قالت: ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما في العشر قط)) رواه مسلم.

(14/98)


قال الحافظ: ويبعد هذا سياق أول الحديث، ومنها أنه يوم عيد لأهل الموقف لإجتماعهم فيه كإجتماع الناس يوم العيد، وهذا الإجتماع يختص بمن بعرفة دون أهل الآفاق ويؤيده ما رواه أصحاب السنن عن عقبة بن عامر مرفوعا يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام، ومعلوم إن كونه عيدا هو لأهل ذلك المجمع لإجتماعهم فيه وفي الحديث من الفوائد إن الأكل والشرب في المحافل مباح ولا كراهة فيه للضرورة، وفيه التحليل على الإطلاع على الحكم بغير سؤال وفيه فطنة أم الفضل لإستكشافها عن الحكم الشرعي بهذه الوسيلة اللطيفة اللائقة بالحال، لأن ذلك كان في يوم حر بعد الظهيرة (متفق عليه) واللفظ لمسلم، والحديث أخرجه البخاري في الحج والصيام والأشربة، ومسلم في الصيام وأخرجه أيضا أحمد (ج6:ص338-339-340) ومالك في الحج وأبوداود في الصيام والبيهقي (ج4:ص283).

(14/99)


2063- قوله: (ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صائما في العشر قط) وفي رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصم العشر وفي رواية ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام العشر قط يعني العشر الأول من ذي الحجة، وهذا بظاهره يخالف ما تقدم في باب الأضحية من فضيلة مطلق العمل المتضمن للصيام في عشر ذي الحجة، ومن فضيلة خصوص للصيام فيها، وما في حديث أبي قتادة الذي يليه من استحباب الصوم في التاسع منها، وهو يوم عرفة. وما في حديث حفصة في الفصل الثالث من عدم تركه - صلى الله عليه وسلم - صيام العشر، وما في حديث هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم تسع ذي الحجة-الحديث. أخرجه أحمد وأبوداود والنسائي والجواب عنه إن المراد من قولها لم يصم العشر أنه لم يصمها لعارض مرض أو سفر أو غيرهما أو أنها لم تره صائما فيها ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر، وإذا تعارض النفي والإثبات فالإثبات أولى بالقبول. قال البيهقي: بعد رواية حديث هنيدة وحديث عائشة ما لفظه، والمثبت أولى من النافي، مع ما مضى من حديث ابن عباس في فضيلة العمل الصالح في عشر ذي الحجة. وقيل المراد نفي جميع العشر وفيها يوم العيد وهذا لا ينافي صوم بعضها وقيل يحتمل أن يكون ذلك لكونه كان يترك العمل في بعض الأحيان وهو يحب أن يعمله خشية أن يظن وجوبه (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود وابن ماجه والبيهقي (ج4:ص285).
2064- (9) وعن أبي قتادة، ((أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كيف تصوم؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله، فلما رأى عمر غضبه، قال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، فجعل عمر يردد هذا الكلام حتى سكن غضبه.

(14/100)


2064- قوله: (إن رجلا أتى) لم أقف على إسمه، وفي رواية البيهقي إن أعرابيا وقوله: إن رجلا أتى، هكذا هو في جميع النسخ من المشكاة وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7:ص221) وهكذا وقع في بعض النسخ من صحيح مسلم، ووقع في أكثر النسخ منه "رجل أتى" قال النووي: هكذا هو في معظم النسخ أي من صحيح مسلم عن أبي قتادة "رجل أتى" وعلى هذا يقرأ رجل بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الشأن والأمر رجل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: وقد أصلح في بعض النسخ "إن رجلا أتى" وكان موجب هذا الإصلاح جهالة انتظام الأول، وهو منتظم كما ذكرته فلا يجوز تغييره والله أعلم. (فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي ظهر أثر الغضب على وجهه (من قوله) أي من قول الرجل وسؤاله، يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - ما أراد إظهار ما خفى من عبادته بنفسه، فكره لذلك سؤاله، أو أنه خاف على السائل في أن يتكلف في الإقتداء، بحيث لا يبقى له الإخلاص في النية، أو أنه يعجز بعد ذلك. قال الخطابي: يشبه أن يكون غضبه صلى الله عليه وسلم من مسألته إياه عن صومه كراهة أن يقتدي به السائل في صومه فيتكلفه ثم يعجز عنه فعلا أو يسأمه ويمله بقلبه، فيكون صياما عن غير إخلاص وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يواصل وهو محرم على أمته، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يترك بعض النوافل خوفا من أن يفرض على أمته إذا فعلوه إقتداء به كما ترك القيام في شهر رمضان بعد أن قام بهم ليلة أو ليلتين، ثم لم يخرج إليهم-انتهى. وقال النووي: سبب غضبه أنه كره مسألته لأنه خشي من جوابه مفسدة وهي أنه ربما يعتقد السائل وجوبه أو يستقله أو يقتصر عليه وكان يقتضى حاله أكثر منه. وإنما اقتصر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - لشغله بمصالح المسلمين، وحقوقهم وحقوق أزواجه وأضيافه والوافدين عليه، ولئلا يقتدي به كل أحد فيؤدي إلى الضرر في حق بعضهم، وكان حق السائل أن يقول كم أصوم أو كيف

(14/101)


أصوم، فيخص السؤال بنفسه ليجيبه بما يقتضيه حاله كما أجاب غيره بمقتضى أحوالهم-انتهى. (فلما رأى عمر( بن الخطاب (غضبه) - صلى الله عليه وسلم - على السائل، وخاف أن يكون سؤاله سببا لأذيته صلى الله عليه وسلم فيدخل تحت قوله تعالى : ?إن الذين يؤذون الله ورسوله?[الأحزاب:57] (قال) أي أدبا وإكراما له - صلى الله عليه وسلم - وشفقة على السائل واعتذارا منه واسترضاء (رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا) المنصوبات الثلاث تمييزات، ويمكن أن تكون حالات مؤكدة (نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله) ذكر غضب الله تزيين للكلام وتعيين بأن غضبه تعالى يوافق غضبه عليه الصلاة والسلام قاله القاري (يردد) أي يكرر (كيف من)
فقال عمر: يا رسول الله ! كيف من يصوم الدهر كله، لا صام ولا أفطر، قال ويطبق ذلك أحد؟

(14/102)


أي حال من (يصوم الدهر كله) أي هل هو محمود أو مذموم، أنظر حسن الأدب حيث بدأه بالتعظيم ثم سأله على وجه التعميم،ولذا قيل حسن السؤال نصف العلم (لا صام ولا أفطر) قال الخطابي في المعالم (ج2:ص129) معناه لم يصم ولم يفطر. وقد يوضع "لا" بمعنى "لم" كقوله تعالى ?فلا صدق ولا صلى?[القيامة:31] أي لم يصدق. ولم يصل وقد يحتمل أن يكون معناه الدعاء عليه كراهة فصنيعه وزجرا له عن ذلك ( لكونه مظنة لتفويت الحقوق الواجبة) وقال الجزري في النهاية: قوله "لا صام ولا أفطر" أي لم يصم ولم يفطر وهو إحباط لأجره على صومه حيث خالف السنة. وقيل: هو دعاء عليه كراهية لصنيعه. وقال التوربشتي: فسر هذا من وجهين أحدهما، على معنى الدعاء عليه زجرا له على صنيعه والآخر على سبيل الإخبار، والمعنى لم يكابد سورة الجوع وحر الظمأ لاعتياده الصوم حتى خف عليه، ولم يفتقر إلى الصبر على الجهد الذي يتعلق به الثواب، فصار كأنه لم يصم-انتهى. وحيث أنه لم ينل راحة المفطرين ولذتهم فكأنه لم يفطر (أو قال لم يصم ولم يفطر) وفي رواية "أو" ما صام وما أفطر، قال الحافظ بعد ذكر رواية الباب: هو شك من أحد رواته، ومقتضاه أنهما بمعنى واحد.والمعنى بالنفي أنه لم يحصل أجر الصوم لمخالفته ولم يفطر لأنه أمسك. وقال الشوكاني في السيل الجرار: حديث لا صام من صام الأبد في الصحيحين في حديث عبدالله بن عمرو، وكذلك حديث لا صام ولا أفطر أو لم يصم ولم يفطر في حديث أبي قتادة معناهما أنه لما خالف الهدى النبوى الذي رغب فيه صلى الله عليه وسلم كان بمنزلة من لم يصم صوما مشروعا يؤجر عليه ولا أفطر فطرا ينتفع به. ويؤيد أن هذا المعنى هو المراد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الله بن عمرو، وقد كان أراد أن يصوم الدهر فقال له صم من كل شهر ثلاثة أيام فقال، إني أقوى من ذلك فلم يزل يرفعني حتى قام صم يوما وأفطر يوما، فإنه أفضل الصيام وهو صوم أخي داود. فقلت: إني أطبق

(14/103)


أفضل من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أفضل من ذلك؟ هكذا في الصحيحين وغيرهما من حديثه. وقد ثبت في الصحيح من حديث أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - قال للثلاثة الذين قال أحدهم أنه يصوم ولا يفطر. وقال الثاني أنه يقوم الليل ولا ينام.و قال الثالث أنه لا يأتي النساء، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أما أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني. فهذا الحديث الصحيح يدل على أن صيام الدهر من المرغوب عن سننه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليستحق فاعله ما رتبه عليه من الوعيد بقوله فمن رغب عن سنتي فليس مني. وقد أخرج أحمد وأبوداود وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي أخبره أنه يصوم الدهر من أمرك أن تعذب نفسك-انتهى كلام الشوكاني:

(14/104)


قلت اختلف العلماء في صيام الدهر فذهب إسحاق وأهل الظاهر إلى كراهته مطلقا، أي وإن أفطر الأيام الخمسة المنهي عنها، وهي رواية عن أحمد. قال الأثرم: قيل وأهل لأبي عبدالله يعني الإمام أحمد، فسر مسدد قول أبي موسى من صام الدهر ضيقت عليه جهنم، أي فلا يدخلها فضحك وقال من قال هذا؟ فأين حديث عبدالله بن عمرو أن النبي- صلى الله عليه وسلم - كره ذلك، وما فيه من الأحاديث كذا في المغنى (ج3ص67) وقال ابن حزم: لا يحل صوم الدهر أصلا يعني أنه يحرم، وإلى الكراهة مطلقا ذهب ابن العربي من المالكية فقال قوله "لا صام من صام الأبد" (في حديث عبدالله بن عمرو) إن كان معناه الدعاء فياويح من أصحابه دعاء النبي- صلى الله عليه وسلم - وإن كان معناه الخير فياويح من أخبر عنه النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه لم يصم وإذا لم يصم شرعا لم يكتب له الثواب، لوجوب صدق قوله صلى الله عليه وسلم لأنه نفي عنه الصوم، وقد نفي عنه الفضل كما تقدم، فكيف يطلب الفضل فيما نفاه النبي- صلى الله عليه وسلم --انتهى. وإلى الكراهة ذهب أيضا ابن قدامة كما سيأتي، وابن القيم كما في الهدي (ج1ص174) والحنفية كما في مراقي الفلاح حيث قال يكره صوم الدهر لأنه يضعفه أو يصير طبعا له، ومبني العبادة على خلاف العادة-انتهى. وهكذا في البرهان وفتح القدير وغيرهما. وقال في البدائع قال بعض الفقهاء: من صام سائر الأيام وأفطر يوم الفطر والأضحى وأيام التشريق لا يدخل تحت النهي، ورد عليه أبويوسف فقال: ليس هذا عندي كما قال والله أعلم. هذا قد صام الدهر كأنه أشار إلى أن النهي عن صوم الدهر ليس لمكان صوم هذه الأيام بل لما يضعفه عن الفرائض والواجبات ويقعده عن الكسب، ويؤدي إلى التبتل المنهي عنه والله أعلم-انتهى. واستدل للكراهة والمنع بقوله صلى الله عليه وسلم "لا صام ولا أفطر" وقد تقدم وجه الاستدلال به في كلام الشوكاني وابن العربي والجزري وغيرهم. وقد روى مثل هذا مرفوعا عن

(14/105)


جماعة من الصحابة، منهم عبدالله ابن الشيخر عند أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وعمران بن حصين عند النسائي والحاكم، وابن عمر عند النسائي واستدل أيضا لذلك بقصة عبدالله بن عمرو التي أشار إليها الشوكاني. قال ابن التين: استدل على كراهة صوم الدهر من هذه القصة من أوجه نهيه صلى الله عليه وسلم عن الزيادة على صوم نصف الدهر، وأمره بأن يصوم ويفطر وقوله: لا أفضل من ذلك" ودعاءه على من صام الأبد-انتهى. وبحديث أنس الذي أشار إليه الشوكاني مع وجه الاستدلال منه. وبحديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال قيل: للنبي- صلى الله عليه وسلم - رجل يصوم الدهر، قال وددت أنه لم يطعم الدهر شيئا-الحديث. أخرجه النسائي. قال السندي: أي وددت أنه ما أكل ليلا ولا نهارا حتى مات جوعا، والمقصود بيان كراهة عمله وأنه مذموم العمل حتى يتمنى له الموت بالجوع. وبحديث أبي موسى رفعه من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا وقبض كفه، أخرجه أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي (ج4ص300) وابن أبي شيبة والبزار ولفظ ابن حبان والبزار والبيهقي ضيقت عليه جهنم هكذا وعقد تسعين، وأخرجه أيضا الطبراني. قال الهيثمي (ج3ص193) رجاله رجال الصحيح.

(14/106)


قال الحافظ: ظاهره أنها تضيق عليه حصرا له فيها لتشديده على نفسه وحمله عليها، ورغبته عن سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - واعتقاده إن غير سنته أفضل منها، وهذا يقتضي الوعيد الشديد فيكون حراما-انتهى. وقال ابن التركماني: ظاهر هذا لا الحديث يقتضى المنع من صوم الدهر. وقد أورده ابن أبي شيبة في باب من كره صوم الدهر. واستدل به ابن حزم على المنع، وقال إنما أورده رواته كلهم على التشديد والنهي عن صومه. وقال ابن حبان: ذكر الإخبار عن نفي جواز سرد المسلم صوم الدهر وذكر هذا الحديث-انتهى. واستدل للمنع أيضا بما روى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي عمر والشيباني: قال بلغ عمر رجلا يصوم الدهر فأتاه فعلاه بالدرة وجعل يقول كل يا دهري قال ابن حزم: قد صح عن عمر تحريم صيام الدهر كما رويناه فذكر هذا الأثر ثم قال، هذا في غاية الصحة عنه فصح أن تحريم صوم الدهر كان من مذهبه ولو كان عنده مباحا لما ضرب فيه ولا أمر بالفطر-انتهى. وبما روى ابن أبي شيبة أيضا من طريق أبي إسحاق إن عبدالرحمن بن أبي نعيم كان يصوم الدهر، فقال عمرو بن ميمون لو رآى هذا أصحاب محمد لرجموه. وبما روى الطبراني عن عمرو بن سلمة قال سئل ابن مسعود عن صوم الدهر فكرهه. قال الهيثمي: إسناده حسن وذهب آخرون إلى استحباب صيام الدهر لمن قوى عليه ولم يفوت فيه حقا وأفطر الأيام المنهية عنها، وإلى ذلك ذهب الجمهور منهم مالك والشافعي وأحمد في رواية: قال مالك في الموطأ: أنه سمع أهل العلم يقولون لا بأس بصيام الدهر إذا أفطر الأيام التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها وذلك أحب ما سمعت إلى في ذلك-انتهى. وصرح الزرقاني وغيره من المالكية باستحبابه بالشروط المذكورة. قال النووي: مذهب الشافعي وأصحابه إن سرد الصيام إذا أفطر العيدين والتشريق لا كراهة فيه بل هو مستحب بشرط أن لا يلحقه به ضرر ولا يفوت حقا فإن تضرر أو فوت حقا فمكروه-انتهى. وقال ابن قدامة

(14/107)


(ج3ص167) قال أبوالخطاب: إنما يكره إذا أدخل فيه يومي العيدين وأيام التشريق لأن أحمد قال، إذا يومي العيدين وأيام التشريق رجوت أن لا يكون بذلك بأس. وروى نحو هذا عن مالك وهو قول الشافعي لأن جماعة من الصحابة كانوا يسردون الصوم منهم أبوطلحة. قال ابن قدامة: والذي يقوى عندي إن صوم الدهر مكروه وإن لم يصم هذه الأيام فإن صامها فقد فعل محرما، وإنما كره صوم الدهر لما فيه من المشقة والضعف وشبه التبتل المنهي عنه، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو إنك تصوم الدهر وتقوم الليل فقلت نعم، قال إنك إذا فعلت ذلك هجمت له عينك ونفهت له النفس لا صام من صام الدهر-الحديث. واحتج الجمهور على الاستحباب بما وقع في حديث حمزة بن عمرو عند مسلم أنه قال، يا رسول الله ! إني أسرد الصوم أفأصوم في السفر فقال إن شئت فصم فأقره صلى الله عليه وسلم على سرد الصيام ولو كان مكروها لم يقره وأجيب عن هذا أولا بأن سؤال حمزة إنما كان عن صوم الفرض في السفر لا عن صوم الدهر كما سبق.

(14/108)


وثانيا، بأن سرد الصوم لا يستلزم صوم الدهر لأن التتابع يصدق بدون صوم الدهر، بل المراد إني أكثر الصوم وكان هو كثير الصوم كما ورد في بعض الروايات، ويؤيد عدم الاستلزام ما أخرجه أحمد من حديث أسامة بن زيد أن النبي- صلى الله عليه وسلم - كان يسرد الصوم مع ما ثبت أنه لم يصم الدهر، وإنه لم يصم شهرا كاملا إلا رمضان، وبهذا يجاب عما روى عن عمر وعائشة إنهما كانا يسردان الصوم. واحتجوا أيضا بما وقع في بعض طرق حديث عبدالله بن عمرو الآتي صم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر: وقوله في حديث أبي أيوب الآتي من صام رمضان ثم اتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر قالوا، والمشبه به يكون أفضل من المشبه فدل ذلك على أن صوم الدهر أفضل من هذه المشبهات فيكون مستحبا وهو المطلوب. وتعقب بأن التشبيه في الأمر المقدر لا يقتضى جوازه فضلا عن استحبابه. وإنما المراد حصول الثواب على تقدير مشروعية صيام ثلاثمائة وستين يوما. ومن المعلوم إن المكلف لا يجوز له صيام جميع السنة فلا يدل التشبيه على أفضلية المشبه به من كل وجه كذا ذكره الحافظ. وقد بسط هذا الجواب ابن القيم في الهدي فأجاد. وأجاب الجمهور عن حديث لا صام من صام الأبد، وحديث لا صام ولا أفطر بأجوبة. أحدها أنه محمول على حقيقته بأن يصوم معه العيدين وأيام التشريق. وفيه نظر لأنه صلى الله عليه وسلم قد قال جوابا لمن سأله عن صوم الدهر لا صام ولا أفطر وهو يؤذن بأنه ما أجر ولا إثم، ومن صام الأيام المحرمة لا يقال فيه ذلك لأنه عند من أجاز صوم الدهر إلا الأيام المحرمة يكون قد فعل مستحبا وحراما، وأيضا فإن أيام التحريم مستثناة بالشرع غير قابلة للصوم شرعا، فهي بمنزلة الليل وأيام الحيض، فلم تدخل في السؤال عند من علم تحريمها، ولا يصلح الجواب بقوله "لا صام ولا أفطر" لمن لم يعلم تحريمها، كذا ذكره الحافظ في الفتح وهو ملخص كلام ابن القيم في الهدي. وقد تعقب

(14/109)


ابن دقيق العيد تأويل الجمهور هذا بوجه آخر من شاء الوقوف عليه رجع إلى شرح العمدة (ج2ص236- 237) الثاني إنه محمول على من تضرر به أو فوت به حقا، قالوا ويؤيده أن النهي كان خطابا لعبد الله بن عمرو بن العاص، وقد ذكر مسلم عنه أنه عجز في آخر عمره وندم على كونه لم يقبل الرخصة قالوا، فنهي ابن عمر ولعلمه بأنه سيعجز عنه ويضعف وأقر حمزة لعلمه بقدرته بلا ضرر. وفيه إن هذا التأويل أيضا مردود لما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم في أنس من رغب عن سنتي فليس مني، ويرده أيضا قوله لا أفضل من ذلك، ويرده أيضا ورود قوله "لا صام ولا أفطر" وقوله: لا صام من صام الأبد عن غير واحد من الصحابة سوى عبدالله بن عمرو كما تقدم، ويرده أيضا حديث أبي موسى المتقدم.

(14/110)


وكل ذلك يدل على أن هذا الحكم ليس خاصا بابن عمرو بل هو عام لجميع المسلمين وأما أقراره لحمزة على سرد الصوم فلا حجة فيه كما سبق. الثالث إن معنى لا صام أنه لا يجد من مشقته ما يجدها غيره فيكون خبرا، لا دعاء. وتعقبه الطيبي بأنه مخالف لسياق الحديث ألا تراه كيف نهاه أولا عن صيام الدهر كله ثم حثه على صوم داود، والأولى أن يكون خبرا عن أنه لم يمتثل أمر الشرع أو دعاء كما تقدم. وأجابوا عن حديث أبي موسى المتقدم ذكره بأن معناه ضيقت عليه فلا يدخلها، فعلى هذا تكون على بمعنى عن، أي ضيقت عنه، وهذا التأويل حكاه الأثرم عن مسدد، وحكى رده عن أحمد كما سبق. وقال ابن خزيمة: سألت المزني عن هذا الحديث. فقال: يشبه أن يكون معناه ضيقت عنه فلا يدخلها ولا يشبه أن يكون على ظاهره، لأن من ازداد عملا وطاعة ازداد عند الله رفعة وعلنه كرامة. ورجح هذا التأويل جماعة منهم الغزالي. فقالوا له مناسبة من جهة أن الصائم لما ضيق على نفسه مسالك الشهوات بالصوم ضيق الله عليه النار فلا يبقى له فيها مكان لأنه ضيق طرقها بالعبادة. وتعقب بأنه ليس كل عمل صالح إذا ازداد العبد منه ازداد من الله تقربا بل رب عمل صالح إذا ازداد منه بعدا كالصلاة في الأوقات المكروهة، وأيضا لو كان المراد ما ذكروه لقال ضيقت عنه. وأما التضييق عليه فلا يكون إلا وهو فيها. قال ابن حزم (ج7ص16) بعد ذكر التأويل المذكور ما لفظه: هذه لكنه وكذب. أما اللكنة فإنه لو أراد هذا فقال ضيقت عنه ولم يقل عليه. وأما الكذب فإنما أورده رواته كلهم على التشديد والنهي عن صومه-انتهى. فالصواب أجراء الحديث على ظاهره والقول بكراهة صيام الدهر مطلقا أو منعه. قال الشوكاني في السيل الجرار بعد ذكر حديث أبي موسى: هذا وعيد ظاهر، وتأويله بما يخلف هذا المعنى تعسف وتكلف، والعجب ذهاب الجمهور إلى استحباب صوم الدهر وهو مخالف للهدى النبوي، وهو أيضا أمر لم يكن عليه أمر رسول الله صلى الله عليه

(14/111)


وسلم. وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد، وهو أيضا من المرغوب عن سنة رسول الله صلى اله عليه وسلم، ومن رغب عن سنته فليس منه كما تقدم، وهو أيضا من التعسير والتشديد المخالف لما استقرت عليه هذه الشريعة المطهرة. قال الله تعالى: ?يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر? [البقرة: 185] وقال صلى الله عليه وسلم: يسروا ولا تعسروا ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، وقال: أمرت بالشريعة السمحة السهلة، فالحاصل إن صوم الدهر إذا لم يكن محرما تحريما بحتافاقل أحواله أن يكون مكروها كراهة شديدة هذا لمن لا يضعف به الصوم من شيء من الواجبات، أما من كان يضعف بالصوم عن بعض الواجبات الشرعية فلا شك في تحريمه من هذه الحيثية بمجردها من غير نظر إلى ما قدمنا من الأدلة-انتهى.
قال: كيف من يصوم يوما ويفطر يوما؟ قال: "ذلك صوم داود" قال: كيف من يصوم يوما ويفطر يومين؟ قال: وددت أني طوقت ذلك. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله.

(14/112)


واختلف المجيزون لصيام الدهر بالشرط المتقدم هل هو أفضل أو صيام يوم وإفطار يوم أفضل، فذهب جماعة منهم إلى أن صوم الدهر أفضل. واستدلوا على ذلك بأنه أكثر عملا فيكون أكثر أجرا، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن زيادة الأجر بزيادة العمل ههنا معارضة باقتضاء العادة التقصير في حقوق أخرى، فالأولى التفويض إلى حكم الشارع، وقد حكم بأن صوم يوم، وإفطار يوم أفضل الصيام، هذا معنى كلامه محصلا. وذهب جماعة منهم المتولي من الشافعية إلى أن صيام داود أفضل، وهو ظاهر الحديث بل صريحه وارجع للبسط والتفصيل إلى الفتح وشرح العمدة (ويطيق ذلك أحد) بحذف حرف الإنكار، وقد ثبت في رواية أبي داود والنسائي، ووقع في رواية لمسلم، ومن يطيق ذلك وكأنه كرهه لأنه مما يعجز عنه في الغالب فلا يرغب فيه في دين سهل سمح، وهو عطف على محذوف أي أتقول ذلك ويطيق ذلك أحد (قال ذلك صوم داود) أي وصوم داود أفضل الصيام وأحبه إلى الله وكأنه تركه لتقرير ذلك مرارا (وددت) بكسر الدال أي أحببت (إني طوقت) بتشديد الواو على بناء المفعول أي جعلني الله مطيقا (ذلك) أي الصيام المذكور يعني تمنيت أن يجعل ذلك داخلا في قدرتي وكان قادرا، ولكن خاف فوات حقوق نساءه فإن إدامة الصوم يخل بحظوظهن منه إلا فكان يطيق أكثر منه فإنه كان يواصل وعلى هذا معنى قوله "وددت إني طوقت" أي مع أداء حقوق النساء. قال الخطابي: يحتمل أن يكون إنما خاف العجز عن ذلك للحقوق التي تلزمه لنساءه لأن ذلك يخل بحظوظهن منه لا لضعف جبلته عن احتمال الصيام أو قلة صبره عن الطعام في هذه المدة-انتهى. وقيل: معناه وددت إن أمتي تطيقه لأنه صلى الله عليه وسلم كان يطيقه وأكثر منه وكان يواصل، ويقول إني لست كأحدكم إني أبيت، يطعمني ربي ويسقيني. قال النووي: ويؤيد هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الثانية ليت إن الله قوانا لذلك أو يقال إنما قاله لحقوق نسائه وغيرهن من المسلمين المتعلقين والقاصدين

(14/113)


إليه-انتهى. وقيل: يمكن أن يكون الإطعام والسقي من الرب تبارك وتعالى مختصا بصوم الوصال دون غيره من الصيام (ثلاث من كل شهر) أي صوم الإنسان ثلاثة أيام من كل شهر، قيل هو أيام البيض، وقيل أي ثلاث كان وأيام البيض أولى، وثلاث بحذف التاء ولو قال ثلاثة بالهاء لكان صحيحا لأن المعدود المميز إذا كان غير مذكور لفظا جاز تذكير مميزه وتأنيثه، يقال صمنا ستا وستة وخمسا وخمسة. وإنما يلزم إثبات الهاء مع المذكر إذا كان مذكورا لفظا. وحذفها من المؤنث إذا كان كذلك وهذه قاعدة مسلوكة صرح بها أهل اللغة وأئمة الإعراب كذا في النيل. وقال القاري: حذف التاء منها نظرا إلى لفظ المميز فإنه مؤنث.

(14/114)


وقيل: بحذف المعدود. وقيل: كان الظاهر أن يقال ثلاثة لأنه عبارة عن الأيام أي صيام ثلاثة أيام، ولكنهم يعتبرون في مثل ذلك الليالي والأيام داخلة معها. قال صاحب الكشاف: تقول صمت عشرا ولو قلت عشرة لخرجت من كلامهم-انتهى. (رمضان إلى رمضان) أي وصوم رمضان من كل سنة منتهيا إلى رمضان (فهذا صيام الدهر كله) أي حكما لقوله تعالى ?من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها? [الأنعام: 160] وهذا إنما هو في غير رمضان، وإنما ذكر رمضان لدفع توهم دخوله في كل شهر. ومن المعلوم إن صوم رمضان فرض فلا بد منه، والمعنى إن صيام ثلاثة أيام من كل شهر كصيام الدهر في الفضيلة واكتساب الأجر لكنه من غير تضعيف على حد ?قل هو الله أحد? [الإخلاص: 1] تعدل ثلث القرآن. وقيل: المعنى عن كل واحد من صوم ثلاثة أيام من كل شهر، ومن صوم رمضان كل واحد منهما صيام الدهر. أما صيام ثلاثة أيام من كل شهر فكأنه صام الشهر، ومن صام ثلاثة أيام من شهور السنة فقد صام السنة فهذا صيام الدهر، وأما صيام رمضان إلى رمضان فيحتمل أن يكون المراد إن صيام رمضان مع ست من شوال صيام الدهر كما وقع في حديث أبي أيوب الآتي، أو يقال إن صيام رمضان من حيث كونه صوم فرض يزيد على النفل فيكون صيامه مساويا لصيام الدهر بل زايدا عليه، ويقال أنه أخبر أولا بأن صيام رمضان مع ست من شوال صيام الدهر. ثم أخبر بأن صيام رمضان فقط بدون صوم ست من شوال يساوي صيام الدهر في الأجر والثواب كذا قيل، ولا يخفى ما فيه. ووقع في رواية من حديث عبدالله ابن عمرو الآتي صم من كل شهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر. قال ابن دقيق العيد هو مأول عندهم على أنه مثل أصل صيام الدهر من غير تضعيف للحسنات، فإن ذلك التضعيف مرتب على الفعل الحسى الواقع في الخارج والحامل على هذا التأويل، إن القواعد تقتضى إن المقدر لا يكون كالمحقق، وإن الأجور تتفاوت بحسب تفاوت المصالح أو المشقة فكيف يستوي من فعل

(14/115)


الشيء بمن قدر فعله له فلأجل ذلك قيل إن المراد أصل الفعل في التقدير لا الفعل المرتب عليه التضعيف في التحقيق-انتهى. ثم قوله "ثلاث" قيل إنه مبتدأ خبره قوله "فهذا صيام الدهر" والفاء زائدة أو ما دل عليه هذه الجملة. وقال الطيبي: أدخل الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وذلك إن ثلاث مبتدأ، ومن كل شهر صفة، أي صوم ثلاثة أيام يصومها الرجل من كل شهر صيام الدهر كله-انتهى. وقيل: الأولى أن يكون ثلاث خبر مبتدأ محذوف أي الأولى والأليق ثلاث من كل شهر، وقوله "فهذا" تعليل له. وذكر إلى رمضان إفادة لدوام الصوم واستمراره وإيماء إلى أن الصوم كأنه متصل مستمر دائما كما أشار إليه بقوله "فهذا صيام الدهر كله" قلت: وقع في رواية للنسائي "ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان هذا صيام الدهر كله" وهذا يؤيد كون "ثلاث" مبتدأ وكون قوله "فهذا صيام الدهر" خبرا له (صيام يوم عرفة أحتسب على الله) أي أرجو منه.
صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)) رواه مسلم.
2065-(10) وعنه، قال: ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم الاثنين. فقال: فيه ولدت، وفيه أنزل علي)) رواه مسلم.

(14/116)


قال في النهاية: الاحتساب في الأعمال الصالحة هو البدار إلى طلب الأجر وتحصيله باستعمال أنواع البر والقيام بها على الوجه المرسوم فيها طلبا للثواب المرجو فيها. قال الطيبي كان الأصل أن يقال أرجو من الله أن يكفر فوضع موضعه أحتسب وعداه بعلى الذي للوجوب على سبيل الوعد مبالغة لحصول الثواب كذا في المرقاة. (أن يكفر) أي الله أو الصيام (السنة التي قبله) أي ذنوبها (والسنة التي بعده) قال إمام الحرمين: والمكفر الصغائر. قال عياض: وهو مذهب أهل السنة والجماعة. وأما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة أو رحمة الله. وقال النووي: قالوا المراد بالذنوب الصغائر، وإن لم تكن الصغائر يرجى تخفيف الكبائر فإن لم تكن رفعت الدرجات-انتهى. قال في المفاتيح: أي يستر ويزيل ذنوب صائم ذلك اليوم ذنوبه التي اكتسبها في السنة الماضية والسنة الآتية. ومعنى تكفير السنة الآتية أن يحفظه الله من الذنوب أو يعطيه من الرحمة، والثواب بقدر ما يكون كفارة للسنة الماضية والقابلة. إذا جاءت واتفق له فيها ذنوب-انتهى. وقال الشوكاني: المراد يكفره بعد وقوعه أو المراد أنه يلطف به فلا يأتي بذنب فيها بسبب صيامه ذلك اليوم، وظاهر الحديث أنه يستحب صوم يوم عرفة مطلقا، وظاهر حديث أبي هريرة الآتي في الفصل الثاني أنه لا يجوز صومه بعرفات، فيجمع بينهما بأن صوم هذا اليوم مستحب لكل أحد مكروه لمن كان بعرفات حاجا. وقد تقدم الكلام في هذا فتذكر (وصيام عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) قيل: وجه فضيلة صوم يوم عرفة ومزيته على صوم عاشوراء، إن صوم يوم عرفة من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وصوم عاشوراء من شريعة موسى عليه الصلاة والسلام. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: ظاهره إن صيام يوم عرفة أفضل من صوم عاشوراء وقد قيل في الحكمة في ذلك إن يوم عاشوراء منسوب إلى موسى عليه السلام، ويوم عرفة منسوب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلذلك كان

(14/117)


أفضل-انتهى. وقيل: لأن يوم عرفة تجمع فضيلة العشر إلى فضيلة اليوم ويشتركان في كونهما شهر حرام، والله أعلم بحقيقة الحكمة في ذلك (رواه مسلم) وأخرجه أحمد (ج5ص297، 311) وأبوداود والبيهقي (ج4ص286، 300) وأخرجه أحمد (ج5ص296، 304، 307، 308) والترمذي والنسائي وابن ماجه مختصرا ومفرقا.
2065- قوله: (سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم الاثنين) وفي بعض النسخ من صحيح مسلم "صوم يوم الاثنين" قال القاري: وهو أي الاثنين بهمزة الوصل. وإنما نبهت عليه وإن كان ظاهرا، لأن كثيرا من أهل الفضل يقرؤنه بقطع الوصل ولا يعرف الفصل بين الوقف والوصل بل ولا يدري كيفية الإبتداء،
2066-(11) وعن معاذة العدوية، أنها سألت عائشة أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم. فقلت لها؟ من أي أيام الشهر كان يصوم؟

(14/118)


ثم السؤال يحتمل احتمالين أن يكون من كثرة صيامه عليه السلام فيه، وأن يكون من مطلق الصيام وخصوص فضله من بين الأيام (فقال فيه ولدت وفيه أنزل) أي الوحي (على) أي فأصوم شكرا لهاتين النعمتين. قال القاري: يعني حصل لي فيه بدأ الكمال الصوري وطلوع الصبح المعنوي المقصود والباطني والتفضل الابتدائي والانتهائي،فوقت يكون منشأ للنعم الدنيوية والأخروية حقيق بأن يوجد فيه الطاعة الظاهرية فيجب شكره تعالى علي والقيام بالصيام لدي لما أولى من تمام النعمة إلي. وقال الطيبي اختيارا للاحتمال الثاني: أي فيه وجود نبيكم وفيه نزول كتابكم وثبوت نبوته فأي يوم أولى بالصوم منه فاقتصر على العلة أي سئل عن فضيلته لأنه لا مقال في صيامه فهو من الأسلوب الحكيم-انتهى. وفيه أن الظاهر إن السؤال عن العلة فيطابق الجواب السؤال. وعلى تقدير أن يكون السؤال عن نفس الصوم فالمعنى هل فيه فضل، فحينئذ ما ذكره أيضا فصل الخطاب لا من الأسلوب الحكيم في الحوادث. قلت: وقع في رواية للبيهقي قال أي عمر أرأيت من صام يوم الاثنين، قال ذاك يوم ولدت فيه ويوم أنزلت علي فيه النبوة، وهذا يؤيد أن السؤال كان عن نفس الصوم فيه لا عن كثرة صيامه - صلى الله عليه وسلم -فيه وقال في شرح المواهب: والمتبادر أن السؤال عن فضيلته فالجواب طبق السؤال إذ لا يليق سؤال الصحابي عن جواز صيامه، لا سيما إن رأى أو علم أنه - صلى الله عليه وسلم -صامه. وحاصل التنزل أنه لا بد من تقدير مضاف وهو إما فضل وإما جواز إذ لا معنى للسؤال عن نفس الصوم، فدل الجواب على أن التقدير فضل-انتهى. وفي الحديث دلالة على أن الزمان قد يتشرف بما يقع فيه وكذا المكان وعلى أنه يستحب صوم يوم الاثنين، وأنه ينبغي تعظيم اليوم الذي أحدث الله فيه على عبده نعمة بصومه والتقرب فيه. وقد ورد في حديث أبي هريرة الآتي تعليل صومه - صلى الله عليه وسلم -يوم الاثنين والخميس، بأنه يوم تعرض فيه الأعمال، وأنه يحب

(14/119)


أن يعرض عمله وهو صائم، ولا منافاة بين التعليلين. (رواه مسلم) في الصوم وأخرجه أحمد (ج5ص297، 299) وأبوداود والبيهقي (ج4ص286، 300) والحاكم (ج2ص602) وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وهذا يدل على أنهما ظنا أن الحديث ليس في واحد من الصحيحين مع أنه رواه مسلم في صحيحه من طرق.
2066- قوله: (أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من كل شهر ثلاثة أيام قالت نعم) أي وهذا أقل ما كان يقتصر عليه (من أي أيام الشهر كان يصوم)
قالت: لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم. رواه مسلم.
2067-(12) وعن أبي أيوب الأنصاري، أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من صام رمضان، ثم أتبعه ستا من شوال، كان كصيام الدهر. رواه مسلم.

(14/120)


أي هذه الثلاثة من أولها أو أوسطها أو آخرها متصلة أو منفصلة (لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم) أي لم يكن يهتم للتعيين بل كان يصومها بحسب ما يقتضي رأيه الشريف وبهذا جمع البيهقي بين الأحاديث الأخر المعينة المختلفة التعيين، كحديث ابن مسعود أنه - صلى الله عليه وسلم -كان يصوم من غرة كل شهر ثلاثة أيام، وحديث عائشة أنه كان يصوم من الشهر السبت، والأحد، والاثنين-الحديث. وحديث ابن عباس أنه كان لا يفطر أيام البيض في حضر ولا سفر، وحديث حفصة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من كل شهر ثلاثة أيام الاثنين، والخميس، والاثنين من الجمعة الأخرى. أخرجه أبوداود والنسائي. قال البيهقي: فكل من رآه فعل نوعا ذكره، وعائشة رأت جميع ذلك وغيره فأطلقت في حديث الباب. قال بعضهم: ولعله - صلى الله عليه وسلم - لم يواظب على ثلاثة معينة لئلا يظن تعيينها. قال الحافظ: والذي يظهر أن الذي أمر به وحث عليه ووصى به أولى من غيره. وأما هو فلعله كان يعرض له ما يشغله عن مراعاة ذلك أو كان يفعل ذلك لبيان الجواز وكل ذلك في حقه أفضل وتترجح البيض بكونها وسط الشيء أعدله، وسيأتي مزيد الكلام في هذا (رواه مسلم) وأخرجه الترمذي وأبوداود وابن ماجه والبيهقي (ج2ص295).

(14/121)


2067- قوله: (وعن أبي أيوب الأنصاري أنه حدثه) أي أن أبا أيوب حدث الراوي عنه وهو عمر بن ثابت بن الحارث الأنصاري الخزرجي المدني من ثقات التابعين. قال القاري: وفي نسخة "وعن عمر بن ثابت عن أبي أيوب" الخ،(ثم أتبعه) بهمزة قطع أي جعل عقبه في الصيام (ستا) أي ستة أيام وحذف الهاء لأن اسم العدد إذا لم يذكر مميزه جاز فيه الوجهان كما صرح به النحاة. وإنما يلزم إثبات الهاء في المذكر إذا ذكروه بلفظه وكذا حذفها في المؤنث إذا كان كذلك (من شوال) وهي يصدق على التوالي والتفريق (كان كصيام الدهر) وفي رواية الترمذي فذلك صيام الدهر. ولأبي داود فكأنما صام الدهر يعني إذا صام مدة عمره وإلا ففي أي سنة صام كان كصيام تلك السنة، وفي حديث ثوبان عند ابن ماجه وغيره كان تمام السنة، أي كان صومه تمام السنة إذا الستة بمنزلة شهرين بحساب ?من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها? [الأنعام: 160] وشهر رمضان بمنزلة عشرة أشهر. وقد جاء ذلك مصرحا عند النسائي من حديث ثوبان ولفظه جعل الله الحسنة بعشر أمثالها، فشهر بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بعد الفطر تمام السنة، ولابن خزيمة صيام شهر رمضان بعشرة اشهر، وصيام ستة أيام بشهرين فذلك صيام السنة.

(14/122)


وفي الحديث دليل بين على استحباب صوم ستة أيام من شوال، وهو مذهب الشافعي وأحمد وداود، وبه قال عامة المتأخرين من الحنفية. وقال مالك وأبوحنيفة: يكره صومها. قال في البحر الزائق: ومن المكروه صوم ستة من شوال عند أبي حنيفة متفرقا كان أو متتابعا، وعن أبي يوسف كراهته متتابعا لا متفرقا، لكن عامة المتأخرين لم يروا به بأسا-انتهى. وقال ابن الهمام: صوم ست من شوال عن أبي حنيفة وأبي يوسف كراهته، وعامة المشائخ لم يروا به بأسا-انتهى. قال السندي: ولعل القائل بالكراهة يؤول هذا الحديث بأن المراد هو كصوم الدهر في الكراهة، فقد جاء لا صيام لمن صام الأبد ونحوه، مما يفيد كراهة صوم الدهر، لكن هذا التأويل مردود بما ورد في صوم ثلاث من كل شهر أنه صوم الدهر ونحوه. والظاهر أن صوم الدهر تحقيقا مكروه، وما ليس بصوم الدهر إذا ورد فيه أنه صوم الدهر فهو محبوب-انتهى. قلت: واستدل للكراهة بأنه ربما ظن وجوبها. قال ابن الهمام: وجه الكراهة أنه قد يفضى إلى اعتقاد لزومها من العوام لكثرة المداومة-انتهى. وأجيب بأنه لا معنى لهذا التعليل بعد ثبوت النص بذلك وورود السنة الصحيحة الصريحة فيه، وأيضا يلزم مثل هذا في سائر أنواع الصوم المندوب المرغب فيها ولا قائل به. قال النووي: قولهم قد يظن وجوبهن تقتضي بصوم عرفة وعاشوراء وغيرهما من الصوم المندوب. واستدل مالك بما قال في الموطأ من أنه لم ير أحدا من أهل العلم يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف وإن أهل العلم يكرهون ذلك. ولا يخفى أن الناس إذا تركوا العمل بسنة ثابتة لم يكن تركهم دليلا ترد به السنة. قال النووي: إذا ثبتت السنة لا تترك لترك بعض الناس أو أكثرهم أو كلهم وما أحسن ما قاله ابن عبدالبر أنه لم يبلغ مالكا هذا الحديث. وقيل: لعله لم يصح هذا الحديث عنده. قال ابن رشد: وهو الأظهر. قلت: الحديث صحيح جدا. قال الشيخ الجزري: حديث أبي أيوب هذا لا يشك في صحته ولا يلتفت إلى كون

(14/123)


الترمذي جعله حسنا ولم يصححه (على ما في بعض النسخ). وقوله في سعد بن سعيد راوية عن عمر بن ثابت، وقد جمع الحافظ أبومحمد عبدالمؤمن بن خلف المياطي طرقه، وأسنده عن قريب ثلاثين رجلا رووه عن سعد بن سعيد أكثرهم ثقات حفاظ، وتابع سعدا في روايته أخواه عبدربه ويحيى وصفوان بن سليم وغيرهم. ورواه أيضا عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أبوهريرة وجابر وثوبان والبراء بن عازب وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم أجمعين كذا حكاه القاري عن الجزري. ثم نقل تخريج أحاديث هؤلاء الصحابة عن يارك وسنذكره أيضا إن شاء الله. واعلم أن أجر صومها يحصل لمن صامها متفرقة أو متوالية، ومن صامها عقب العيد متصلا أو في أثناء الشهر، وفي جامع الترمذي عن ابن المبارك أنه اختار أن يكون ستة أيام من أول شوال، وقد روى عنه أنه قال إن صام ستة أيام من شوال متفرقا فهو جائز. وقال النووي قال أصحابنا: والأفضل إن تصام الستة متوالية عقب يوم الفطر، فإن فرقها أواخرها عن أوائل الشهر إلى أواخره حصلت فضيلة المتابعة، لأنه يصدق أنه اتبعه ستا من شوال-انتهى.
2068-(13) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الفطر والنحر)). متفق عليه.

(14/124)


وقال ابن قدامة (ج3ص173) لا فرق بين كونها متتابعة أو مفرقة في أول الشهر، أو في آخره لأن الحديث ورد بها مطلقا من غير تقييد، ولأن فضيلتها لكونها تصير مع الشهر ستة وثلاثين يوما، والحسنة بعشر أمثالها فيكون ذلك كثلاثمائة وستين يوما وهو السنة كلها، فإذا وجد ذلك في كل سنة صار كصيام الدهر كله، وهذا المعنى يحصل مع التفريق-انتهى. قال في حجة الله: والسر في مشروعيتها أنها بمنزلة السنن الرواتب في الصلاة تكمل فائدتها بالنسبة إلى أمزجة لم تتام فائدتها بهم. وإنما خص في بيان فضله التشبه بصوم الدهر، لأن من القواعد المقررة أن الحسنة بعشر أمثالها وبهذه الستة يتم الحساب. تنبيه ادعى بعض الحنفية إن ما روى عن أبي حنيفة من كراهة صوم ستة من شوال هو غير رواية الأصول أو إن مراده بذلك أن يصوم الفطر وخمسة بعده، فأما إذا أفطر يوم العيد ثم صام بعده ستة أيام فليس بمكروه بل هو مستحب وسنة. قال في الدار المختار: الإتباع المكروه، أن يصوم الفطر وخمسة بعده، فلو أفطر الفطر لم يكره بل يستحب ويسن-انتهى. وكذا قال صاحب البدائع. قال ابن عابدين بعد البسط: في نصوص أصحاب الحنفية في عدم الكراهة ما لفظه، وتمام ذلك في رسالة "تحريم الأقوال في صوم الست من شوال" للعلامة قاسم، وقد رد فيها على ما في منظومه التباني وشرحها من عزوة الكراهة مطلقا إلى أبي حنيفة وأنه الأصح بأنه على غير رواية الأصول وأنه صحح ما لم يسبقه أحد إلى تصحيحه وأنه صحح الضعيف وعمد إلى تعطيل ما فيه الثواب الجزيل بدعوى كاذبة بلا دليل، ثم ساق كثيرا من نصوص كتب المذهب فراجعها-انتهى. وهذا يدل على أن الراجح عند الحنفية على ما ادعاه العلامة قاسم وغيره هو عدم الكراهة بل استحبابه. وما حكى عنهم خلاف ذلك فهو إما مرجوح وخلاف رواية، الأصول أو مؤول بصوم يوم الفطر كما قال صاحب البدائع وصاحب الدار المختار وغيرهما. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وصححه، وأبوداود

(14/125)


وابن ماجه والدارمي والبيهقي (ج4ص292) والطبراني، وفي الباب عن ثوبان عند أحمد والنسائي في الكبرى وابن ماجه والدارمي والبزار وابن خزيمة وابن حبان، وعن جابر عند أحمد وعبد بن حميد والبزار والطبراني في الأوسط وعن أبي هريرة عند البزار وأبي نعيم والطبراني، وعن ابن عباس عند الطبراني أيضا، وعن البراء بن عازب عند الدارقطني، وعن ابن عمر عند الطبراني من أحب الوقوف على ألفاظها وحال أسانيدها رجع إلى التلخيص (ص199) والترغيب (ج2ص27) ومجمع الزوائد (ج3ص183، 184).
2068- قوله: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي نهي تحريم (عن صوم يوم الفطر) وهو أول يوم من شوال (والنحر) أي وعن صوم يوم النحر. قال الطيبي: هذا الحديث مروي من حيث المعنى والذي يتلوه مروي من حيث اللفظ وما نص عليه.

(14/126)


قال: ولعل العدول عن قوله نهى عن صوم العيدين إلى ذكر الفطر والنحر للأشعار بأن علة الحرمة هي الوصف بكونه يوم فطر ويوم نحر والصيام ينافيهما-انتهى. قلت: روى مسلم من حديث عمر أنه صلى العيد ثم انصرف فخطب الناس فقال إن هذين يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما يوم فطركم من صيامكم والآخر يوم تأكلون فيه نسككم، وفائدة وصنف اليومين على ما قيل: الإشارة إلى العلة في وجوب فطرهما وهو الفصل من الصوم وإظهار تمامه وحده بفطر ما بعده والآخر لأجل النسك المتقرب يذبحه ليؤكل منه ولو شرع صومه لم يكن لمشروعية الذبح فيه معنى فعبر عن علة التحريم بالأكل من النسك، لأنه يستلزم النحر ويزيد فائدة التنبيه على التعليل. والمراد بالنسك هنا الذبيحة المتقرب بها قطعا. والحديث دليل على تحريم صوم هذين اليومين، لأن أصل النهي التحريم، وإليه ذهب العلماء كافة. قال ابن قدامة (ج3ص163) أجمعه أهل العلم على أن صومي العيدين منهي عنه محرم في التطوع والنذر المطلق والقضاء والكفارة، ذلك لما روى أبوعبيد مولى ابن أزهر قال شهدت العيد مع عمر بن الخطاب فجاء فصلى ثم انصرف فخطب الناس. فقال: إن هذين يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما يوم فطركم من صيامكم، والآخر يوم تأكلون فيه من نسككم، وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صيام يومين يوم فطر ويوم أضحى، وعن أبي سعيد مثله متفق عليهما، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه وتحريمه-انتهى. وكذا حكى الإجماع على هذا النووي والحافظ والزرقاني والعيني وابن رشد وغيرهم. وههنا مسئلتان اختلف الأئمة فيهما إحداهما أن ينذر صوم الفطر والنحر متعمدا لعينهما. فقال مالك والشافعي: لا ينعقد نذره ولا يلزمه قضاءهما، وإليه ذهب أحمد في الصحيح عنه. قال ابن قدامة. إن قال لله علي صوم يوم العيد فهذا نذر معصية على ناذره الكفارة لا غير، نقلها حنبل عن أحمد وفيه رواية أخرى إن

(14/127)


عليه القضاء مع الكفارة، والأولى هي الصحيحة قاله القاضي. لأن هذا نذر معصية فلم يوجب قضاءها كسائر المعاصي وفارق المسألة التي قبلها (وهي المسألة الثانية التي سنذكرها) لأنه لم يقصد بنذره المعصية. وإنما وقع اتفاقا وههنا تعمدها بالنذر فلم ينعقد نذره، ويدخل في قوله عليه الصلاة والسلام لا نذر في معصية، ويتخرج إلا يلزمه شيء بناء على نذر المعصية-انتهى. والمسألة الثانية أن ينذر صوم يوم فيوافق العيد. قال النووي: أما الذي نذر صوم يوم الاثنين مثلا فوافق يوم العيد فلا يجوز له صيام يوم العيد بالإجماع، وهل يلزمه قضاءه فيه خلاف للعلماء؟ وفيه للشافعي قولان: أصحهما لا يحب قضاءه، لأن لفظه لم يتناول القضاء. وإنما يجب قضاء الفرائض بأمر جديد على المختار عند الأصولين-انتهى. واختلفت الرواية فيه أيضا عن مالك. قال العيني قال مالك: لو نذر صوم يوم فوافق يوم فطر أو يوم نحر يقضيه في رواية ابن القاسم وابن وهب عنه وهو قول الأوزاعي.

(14/128)


وقال الحافظ: وعن مالك في رواية يقضي إن نوى القضاء وإلا فلا. وقال الأبي في الإكمال: اختلف قول مالك وأصحابه إذا لم يقصد تعيينهما، وإنما نذر نذرا اشتمل عليهما أو نذر يوم يقدم فلان فقدم يوم عيد هل يقضي أو لا يقضي، أو يقضي إلا أن ينوي أن لا يقضي أو لا يقضي إلا أن ينوي أن يقضي-انتهى. وقال في المدونة: قلت لمالك: فرمضان ويوم الفطر وأيام النحر الثلاثة كيف يصنع فيها، وإنما نذر سنة بعينها أعليه قضاء أم ليس عليه قضاءها إذا كانت لا يصلح الصيام فيها؟ فقال أولا لا قضاء عليه إلا أن يكون نوى أن يصومهن قال، ثم سئل عن ذي الحجة من نذر صيامه أترى عليه أن يقضي أيام الذبح؟ فقال: نعم عليه القضاء، إلا أن يكون نوى حين نذر أن لا قضاء عليه-انتهى. وقال ابن قدامة (ج9ص21، 22) من نذر أن يصوم يوم يقدم فلان، فإن نذره صحيح، فإن قدم يوم فطر أو أضحى. فاختلفت الرواية عن أحمد فيه فعنه لا يصومه ويقضي ويكفر، نقله عن أحمد جماعة وهو قول أكثر أصحابنا، ومذهب الحكم وحماد. والرواية الثانية يقضي ولا كفارة عليه وهو قول الحسن والأوزاعي وأبي عبيد وقتادة وأبي ثور وأحد قولي الشافعي، فإنه فاته الصوم الواجب بالنذر فلزمه قضاءه ولم تلزمه كفارة لأن الشرع منعه من صومه فهو كالمكره وعن أحمد رواية ثالثة إن صامه صح صومه، وهو مذهب أبي حنيفة لأنه وفي بما نذر ويتخرج أن يكفر من غير قضاء لأنه وافق يوما صومه حرام فكان موجبه الكفارة كما لو نذرت المرأة صوم يوم حيضها ويتخرج أن لا يلزمه شيء من كفارة ولا قضاء بناء على من نذر المعصية، وهذا قول مالك والشافعي في أحد قوليه بناء على نذر المعصية-انتهى. وقد ظهر بهذا أن مذهب الحنابلة في هذه المسألة هو انعقاد النذر وصحته، ووجوب القضاء مع الكفارة. وأما أبوحنيفة فذكر العيني (ج11ص109، 110) ثلاث روايات عنه. إحداها صحة النذر في المسئلتين ووجوب القضاء، والثانية عدم صحة النذر مطلقا وعدم وجوب القضاء، وهي

(14/129)


رواية أبي يوسف وابن المبارك عنه. والثالثة: إن نذر صوم يوم النحر لا يصح، وإن نذر صوم غد وهو يوم النحر صح وهي رواية الحسن عنه، وظاهر الرواية هي الرواية الأولى أي صحة النذر مطلقا من غير فرق بين أن يذكر المنهي عنه صريحا كيوم النحر مثلا أو تبعا كصوم غد، فإذا هو يوم النحر. قال في الهداية: إذا قال لله علي صوم يوم النحر، أفطر وقضى، فهذا النذر صحيح عندنا خلافا لزفر والشافعي، هما يقولان: أنه نذر بما هو معصية لورود النهي عن صوم هذه الأيام، ولنا أنه نذر بصوم مشروع (لأن الدليل الدال على مشروعية الصوم لا يفصل بين يوم ويوم، فكان من حيث حقيقته حسنا مشروعا والنذر بما هو مشروع جائز) والنهي لغيره وهو ترك إجابة دعوة الله (لأن الناس أضياف الله في هذه الأيام) فيصح نذره لكنه يفطر احترازا عن المعصية المجاوزة ثم يقضي إسقاطا للواجب وإن صام فيه يخرج عن العهدة مع الحرمة لأنه أداه كما التزمه-انتهى. وقال في الدار المختار: ولو نذر صوم الأيام المنهية أو صوم هذه السنة صح مطلقا على المختار، وفرقوا النذر والشروع فيها، بأن نفس الشروع معصية، ونفس النذر طاعة فصح-انتهى.

(14/130)


قال العيني: والأصل عندنا أن النهي لا ينفي مشروعية الأصل وعلى هذا الأصل مشى أصحابنا فيما ذهبوا إليه، ويؤيد هذا ما رواه البخاري عن زياد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عمر فقال: نذر رجل صوم الاثنين فوافق يوم عيد. فقال ابن عمر أمر الله بوفاء النذر، ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم هذا اليوم. قال ابن عبدالملك: لو كان صومه ممنوعا منه لعينه ما توقف ابن عمر في الفتيا-انتهى. قلت أمر ابن عمر رضي الله عنه في التورع عن بت الحكم، ولا سيما عند تعارض الأدلة مشهور، ويحتمل أن يكون ابن عمر أشار إلى قاعدة إن الأمر والنهي إذا التقيا في محل واحدا أيهما يقدم والراجح يقدم النهي، فكأنه قال لا تصم، وقيل: نبه ابن عمر على أن الوفاء بالنذر عام. والمنع من صوم العيد خاص، فكأنه أفهمه أنه يقضي بالخاص على العام. وتعقب هذا بأن النهي عن صوم يوم العيد أيضا عموم للمخاطبين، ولكل عيد فلا يكون من قضاء الخاص على العام. وقال الداودي: المفهوم من كلام ابن عمر تقديم النهي، لأنه قد روى أمر من نذر أن يمشي في الحج بالركوب، فلو كان يجب الوفاء به لم يأمره بالركوب-انتهى. قال الحافظ: وأصل الخلاف في هذه المسألة أن النهي هل يقتضي صحة المنهي عنه قال الأكثر لا، وعن محمد بن الحسن نعم، واحتج بأنه لا يقال للأعمى لا يبصر، لأنه تحصيل الحاصل. فدل على أن صوم يوم العيد ممكن، وإذا أمكن ثبت الصحة، وأجيب بأن الإمكان المذكور عقلي والنزاع في الشرعي والمنهي عنه شرعا غير ممكن فعله شرعا، ومن حجج المانعين أن النفل المطلق إذا نهى عن فعله لم ينعقد، لأن المنهي مطلوب الترك سواء كان للتحريم أو التنزيه، والنفل مطلوب الفعل، فلا يجتمع الضدان، والفرق بينه وبين الأمر ذي الوجهين كالصلاة في الدار المغصوبة (أي على القول بصحتها وإلا فقد ذهب أحمد في أشهر القولين عنه إلى عدم صحتها كما في المغنى (ج2ص74) وروضة الناظر (ج1ص127) أن النهي عن الإقامة

(14/131)


المغصوبة ليست لذات الصلاة بل للإقامة وطلب الفعل لذات العبادة بخلاف صوم يوم النحر مثلا، فإن النهي فيه لذات الصوم فافترقا-انتهى. وفي آخر كلام الحافظ نظر فتأمل وارجع لبسط الكلام في مسألة النهي إلى كتب الأصول كأصول البزدوي مع شرحه كشف الأسرار، وإلى إرشاد الفحول وغيرهما. والراجح عندي في المسألة الأولى هو ما ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد من عدم انعقاد النذر وعدم صحته، لأنه نذر معصية. والنذر إنما يكون في الطاعة دون المعصية فلا ينعقد هذا النذر، ولا يصح، كما لا يصح من الحائض لو نذرت أن تصوم أيام حيضها، ولم يأمر الله تعالى قط بالوفاء بنذر معصية فلا يلزم قضاءه. وقد وقع في رواية لمسلم لا يصلح الصيام في يومين يوم الأضحى ويوم الفطر من رمضان، وهذا كالنص على بطلان صوم العيدين، وإن يومي العيد ليسا بمحل للصوم شرعا، لأن حقيقة ذلك الخبر، فهو يحمل على حقيقته ما لم يصرف عنها صارف فاقتضي ذلك إخبارا من النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذين اليومين لا يصلح فيهما الصيام،
2069-(14) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا صوم في يومين الفطر والأضحى)). متفق عليه.
2070-(15) وعن نبيشة الهذلي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيام التشريق، أيام أكل وشرب وذكر الله)) رواه مسلم.

(14/132)


فلو بقي صائما مع إيقاعه الإمساك فيهما لكان قد صلح الصيام فيهما من وجه، فثبت بذلك ما وقع من الإمساك ولو بنية الصوم من العبد في اليومين المذكورين فليس بصيام عند الشرع، ليكون مخبره خبرا موجودا في سائر ما أخبر به، وهذا كله يبطل القول بصحة نذر صوم العيد وأجزاءه لو صام. وأما المسألة الثانية فالأشبه فيهما أن ينعقد نذره ويصح ويجب قضاءه، لأنه نذر نذرا يمكن الوفاء به غالبا ولم يقصد بنذره المعصية. وإنما وقع اتفاقا فينعقد كما لو وافق غير يوم العيد، ولا يجوز أن يصوم يوم العيد لأن الشرع حرم صومه فأشبه زمن الحيض ولزمه القضاء، لأنه نذر منعقد وقد فاته الصيام بالعذر (متفق عليه) واللفظ للبخاري في الصيام، والحديث أخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود وابن ماجه والبيهقي (ج4ص297).
2069- قوله: (لا صوم) أي جائز (الفطر والأضحى) بدل أي أنهما غير قابلين للصوم لحرمته فيهما فلا يصح نذر صومهما وكذا حكم أيام التشريق كما سيأتي بيانه، وخصهما بالذكر لكونهما الأصل، وأيام التشريق من توابع الأضحى (متفق عليه) واللفظ للبخاري في الصلاة وفي الحج وفي الصوم، وأخرجه بهذا اللفظ الدارمي.

(14/133)


2070- قوله: (وعن نبيشة) بضم النون وفتح الموحدة بعدها ياء ساكنة فشين معجمة فهاء (الهذلي) بضم الهاء وفتح الذال هو نبيشة بن عبدالله بن عمرو بن عتاب بن الحارث بن نصير بن حصن وقيل: في نسبه غير ذلك. ويقال له: نبيشة الخير، ويكنى أبا طريف صحابي قليل الحديث. قال ابن عبدالبر: سكن البصرة، ويقال أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أساري فقال يا رسول الله ! إما أن تفاديهم وإما أن تمن عليهم، فقال أمرت بخير أنت نبيشة الخير (أيام التشريق) وهي ثلاثة أيم بعد يوم النحر وهذا قول ابن عمر وأكثر العلماء منهم الأئمة الأربعة وأتباعهم. وروى عن ابن عباس وعطاء أنها أربعة أيام يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وسماها عطاء أيام التشريق، والأول أظهر. ويدل عليه ما رواه الطحاوي (ج1ص429) عن أنس ابن مالك قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم أيام التشريق الثلاثة بعد يوم النحر، وأخرجه أبويعلى بلفظ: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم خمسة أيام من السنة يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق.

(14/134)


وسميت أيام التشريق لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها أي تنشر وتبسط في الشمس لتجف. وقيل: لأن الهدى والضحايا لا تنحر حتى تشرق الشمس أي تطلع. وقيل: لأن صلاة العيد تقع عند شروق الشمس أول يوم منها فصارت هذه الأيام تبعا ليوم النحر، وهذا يعضد قول من يقول يوم النحر منها. وقيل: التشريق التكبير دبر كل صلاة. (أيام أكل وشرب) وكذا يوم النحر يوم أكل وشرب بل هو الأصل والبقية أتباعه (وذكر الله) بالجر وهذا إشارة إلى قوله تعالى: ?واذكروا الله في أيام معدودات? [البقرة: 203] يعني أنهاكم عن صومها وآمركم بذكر الله فيها صيانة عن التلهي والتشهي كالبهائم. قال الاشرف: وإنما عقب الأكل والشرب بذكر الله لئلا يستغرق العبد في حظوظ نفسه وينسى في هذه الأيام حق الله تعالى-انتهى. وهل يلتحق أيام التشريق بيوم النحر في حرمة الصيام كما تلتحق به في النحر وغيره من أعمال الحج، أو يجوز صيامها مطلقا أو للمتمتع خاصة أوله ولمن هو في معناه؟ وفي كل ذلك اختلاف للعلماء. وقد استدل بحديث نبيشة على النهي عن صوم أيام التشريق، وقد ورد النهي عن ذلك صريحا. من حديث سعد بن أبي وقاص عند أحمد (ج1ص169، 174) والطحاوي (ج1ص428) والبزار، وفيه عند أحمد والطحاوي محمد بن أبي حميد المدني وهو ضعيف. ومن حديث يونس بن شداد رواه عبدالله بن أحمد (ج4ص77) والبزار، وفيه سعيد بن بشير وهو ثقة ولكنه اختلط. ومن حديث حبيبة بنت شريق عند أحمد (ج1ص92) والنسائي والطبراني في الأوسط والطحاوي (ج1ص429) ومن حديث أنس وقد تقدم. ومن حديث ابن عباس عند الطبراني في الكبير بإسناد ضعيف. ومن حديث أبي هريرة عند الطحاوي (ج1ص428) والبزار، وفي سند البزار عبدالله بن سعيد المقبري وهو ضعيف قاله الهيثمي. ومن حديث معمر بن عبدالله العدوي عند الطحاوي (ج1ص429) والطبراني في الكبير. ومن حديث عمرو بن العاص عند أبي داود وابن المنذر والدارمي والبيهقي (ج4ص297) والطحاوي (ج1ص428) وابن حزم (ج7ص28)

(14/135)


وصححه ابن خزيمة والحاكم. ومن حديث ابن عمر عند أحمد (ج2ص39) قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. ومن حديث أسامة الهذلي عند الطبراني في الأوسط وسنده ضعيف. ومن حديث عمر بن خلدة الزرقي عن أمه أبي يعلى وعبد بن حميد وإسحاق بن راهويه والطحاوي (ج1ص429) وابن أبي شيبة، وفيه موسى بن عبيدة الربذى وهو ضعيف. ومن حديث عقبة بن عامر عند الترمذي وأبي داود والنسائي وابن حبان والحاكم والبزار. ومن حديث مسعود ابن الحكم الزرقي عن أمه عند الطحاوي (ج1ص429) ومن حديث أم الحارث بنت عياش عند الطبراني في الكبير بإسناد ضعيف. ومن حديث عبدالله بن حذافة عند الدارقطني والطبراني وفيه الواقدي. ومن حديث مسعود بن الحكم عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الطحاوي (ج1ص429) وقد ذهب إلى منع الصوم في هذه الأيام وتحريمه مطلقا جماعة من السلف منهم علي ابن أبي طالب وعبد الله بن عمرو بن العاص والحسن وعطاء وهو قول الشافعي في الجديد وعليه العمل والفتوى عند أصحابه وهو قول الليث بن سعد وابن عليه وأبي حنيفة وابن المنذر وهي رواية عن أحمد.

(14/136)


وإليه ذهب ابن حزم، وهؤلاء قالوا: لا يجوز صيامها مطلقا، وإنها ليست قابلة للصوم لا للمتمتع الذي لم يجد الهدى ولا لغيره، وجعلوا هذه الأحاديث مخصصة لقوله تعالى: ?ثلاثة أيام في الحج? [البقرة: 196] لأن الآية عامة فيما قبل يوم النحر وما بعده، والأحاديث المذكورة خاصة بأيام التشريق وإن كان فيها عموم بالنظر إلى الحج وغيره، فيرجح خصوصها لكونه مقصودا بالدلالة على أنها ليست محلا للصوم، وإن ذاتها بإعتبار ما هي غير مؤهلة له كأنها منافية للصوم. وقال الطحاوي بعد أن أخرج أحاديث النهي عن ستة عشر صحابيا: فلما ثبت بهذه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن صيام أيام التشريق، وكان نهيه عن ذلك بمعنى، والحاج مقيمون بها وفيهم المتمتعون والقارنون، ولم يستثن منهم متمتعا ولا قارنا دخل المتمتعون والقارنون في ذلك-انتهى. وذهب جماعة إلى جواز الصيام فيها مطلقا، وبه قال أبوإسحاق المروزي من الشافعية والأسود بن يزيد. وحكاه ابن عبدالبر في التمهيد عن بعض أهل العلم، وحكاه ابن المنذر وغيره عن الزبير بن العوام وأبي طلحة من الصحابة. قال ابن قدامة (ج3ص64) بعد حكاية هذا القول عن الأسود بن يزيد وابن الزبير وأبي طلحة ما لفظه: والظاهر أن هؤلاء لم يبلغهم نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها ولو بلغهم لم يعدوه إلى غيره-انتهى. وقيل: يمكن أنهم حملوا النهي على التنزيه. قال الأمير اليماني: وهو قول لا ينهض عليه دليل. وقال الشوكاني: أحاديث الباب جميعها ترد عليه. وذهب إلى منعه إلا للمتمتع الذي لم يجد الهدي ولم يصم الثلاث في أيام العشر وهو قول عائشة وابن عمر وعروة بن الزبير وإسحاق بن راهويه وعبيد بن عمير والزهري، وهو قول مالك والشافعي في القديم، وأحمد في الرواية المشهورة عنه. قال الزركشي الحنبلي: وهي التي ذهب إليها أحمد أخيرا. قال في المبهج: وهي الصحيحة وهو مختار البخاري فإنه ذكر في باب صيام أيام التشريق

(14/137)


حديثي عائشة وابن عمر في جواز ذلك ولم يورد غيره، واستدل لهذا القول بقوله تعالى: ?فصيام ثلاثة أيام في الحج? وبحديث عائشة وابن عمر الآتي وسيأتي الجواب عنه. وذهب آخرون ومنهم الأوزاعي إلى أنه يصومها المتمتع ومن تعذر عليه الهدي من المحصر والقارن لعوم الآية، ولما روى البخاري وغيره عن عائشة وابن عمر قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي، فإنه أفاد أن صوم أيام التشريق جائز رخصة لمن لم يجد الهدي وكان متمتعا أو قارنا أو محصرا لإطلاق الحديث، بناء على أن الفاعل قوله يرخص المجهول هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه مرفوع حكما، وإن لم يضيفاه إلى عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال الحاكم أبوعبد الله في نحوه.

(14/138)


وقال النووي في شرح المهذب وهو القوي يعني من حيث المعنى وهو ظاهر استعمال كثير من المحدثين، واعتمده الشيخان في صحيحيهما وأكثر منه البخاري. وقال التاج بن السبكي: أنه الأظهر وإليه ذهب الإمام فخر الدين. قلت: وقد ورد التصريح بالفاعل في رواية للدارقطني والطحاوي إلا أن في إسنادها يحيى بن سلام، وقد ضعفه الدارقطني والطحاوي ولفظها عند الدارقطني، رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمتمتع إذا لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق، ولم يذكر الطحاوي طريق عائشة ولفظها عنده من رواية ابن عمر، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المتمتع: إذا لم يجد الهدي ولم يصم في العشر أنه يصوم أيام التشريق، وهذا كما ترى قد خص المتمتع بذلك فلا يكون حجة لأهل هذا القول وأما الآية وحديث عائشة وابن عمر عند البخاري. فأجاب المانعون عنه مطلقا بأنا لا نسلم إن أيام التشريق من أيام الحج. ولو سلمنا فهي مخصوصة بأحاديث النهي كما سبق، قال الجصاص: قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن صوم يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق في أخبار متواترة مستفيضة. واتفق الفقهاء على استعمالها وأنه غير جائز لأحد أن يصوم هذه الأيام عن غير صوم المتعة لا من فرض ولا من نفل فلم يجز صومها عن المتعة لعموم النهي عن الجميع. ولما اتفقوا على أنه لا يجوز أن يصوم يوم النحر وهو من أيام الحج للنهي الوارد فيه كذلك لا يجوز الصوم أيام منى ولما لم يجز أن يصومهن عن قضاء رمضان لقوله تعالى: ?فعدة من أيام أخر? [البقرة:184] وكان الحظر المذكور في هذه الأخبار قاضيا على إطلاق الآية موجبا لتخصيص القضاء في غيرها، وجب أن يكون ذلك حكم صوم التمتع وأن يكون قوله تعالى ?فصيام ثلاثة أيام في الحج? [البقرة: 196] في غير هذه الأيام قال الجصاص: وأيضا لما قال ?فصيام ثلاثة أيام في الحج? ولم يكن صوم هذه الأيام في الحج، لأن الحج فائت في هذا الوقت لم يجز أن يصومها

(14/139)


فإن قيل لما قال ?فصيام ثلاثة أيام في الحج? وهذه من أيام الحج وجب أن يجوز صومهن فيها، قيل له: لا يجب ذلك من وجوه، أحدها أن نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم هذه الأيام قاض عليه ومخصص له كما خص قوله تعالى: ?فعدة من أيام أخر? نهيه عن صيام هذه الأيام. والثاني أنه لو كان جائزا لأنه من أيام الحج لوجب أن يكون صوم يوم النحر أجوز لأنه أخص بأفعال الحج من هذه الأيام. والثالث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خص يوم عرفة بالحج بقوله الحج عرفة فقوله: ?فصيام ثلاثة أيام في الحج? يقتضي أن يكون آخرها يوم عرفة. والرابع أنه روى أن يوم الحج الأكبر يوم عرفة، وروى أنه يوم النحر: وقد اتفقوا أنه لا يصوم يوم النحر مع أنه يوم الحج، فما لم يسم يوم الحج من الأيام المنهي عن صومها أحرى أن لا يصوم فيها، وأيضا فإن الذي يبقى بعد يوم النحر إنما هو من توابع الحج، وهو رمي الجمار فلا إعتبار به في ذلك فليس هو إذا من أيام الحج فلا يكون صومها صوما في الحج-انتهى. قال المانعون: وحديث عائشة وابن عمر موقوف لأنهما لم يضيفاه إلى الزمن النبوي فيكون موقوفا على ما جزم به ابن الصلاح في نحوه مما لم يضف،
2071-(16) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو بعده)) متفق عليه.

(14/140)


والمعنى حينئذ لم يرخص من له مقام الفتوى، ويؤيد ذلك ما روى عنهما موقوفا عليهما على سبيل الجزم، وروى أيضا من فعل أبي بكر وفتيا لعلي رضي الله عنه. وقال الطحاوي (ج1ص430) قولهما ذلك يجوز أن يكونا عنيا بهذه الرخصة ما قال الله عزوجل في كتابه ?فصيام ثلاثة أيام في الحج? فعدا أيام التشريق من أيام الحج فقالا: رخص للحاج المتمتع والمحصر في صوم أيام التشريق لهذه الآية، ولأن هذه الأيام عندهما من أيام الحج وخفي عليهما ما كان من توقيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس بعده على أن هذه الأيام ليست بداخلة فيما أباح الله صومه من ذلك-انتهى. هذا وقد جعل الشوكاني القول بجوازه للمتمتع أقوى المذاهب ورجححه أيضا الحافظ، وذكر شيخنا في شرح الترمذي كلام الشوكاني وسكت عليه. والراجح عندي هو المنع مطلقا، لأحاديث النهي وهي مخصصة للآية، ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الرخصة للمتمتع صريحا بسند صحيح. وأما حديث ابن عمر وعائشة عند البخاري ففي كونه مرفوعا كلام والله تعالى أعلم (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص75، 76) والنسائي في الكبرى والطحاوي (ج1ص428) والبيهقي (ج4ص297) وفي الباب عن جماعة من الصحابة غير من تقدم ذكرهم منهم علي عند أحمد (ج1ص76) والطحاوي وبشر بن سحم عند النسائي والطحاوي والبيهقي وابن حزم وعبد الله بن عمر وعند البزار، وزيد بن خالد عند أبي يعلى وكعب بن مالك عند أحمد، ومسلم وحمزة ابن عمر والأسلمي عند الطبراني، وعائشة عند الطحاوي وأم الفضل عند الطحاوي، وقد بسط العيني والطحاوي والحافظ في التلخيص (ص191) والهيثمي طرق هذه الأحاديث.

(14/141)


2071- قوله: (لا يصوم) كذا في جميع النسخ، وهكذا وقع في المصابيح وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7ص237) عن مسلم بلفظ النفي: والمراد به النهي والذي في صحيح مسلم لا يصم بلفظ النهي وكذا نقله الحافظ في الفتح والبيهقي في السنن (ج4ص302) ولفظ البخاري لا يصوم. قال الحافظ: كذا للأكثر وهو بلفظ النفي والمراد به النهي، وفي رواية الكشميهني لا يصومن بلفظ النهي المؤكد (أحدكم يوم الجمعة) أي مفردا (إلا أن يصوم قبله) أي يوما (أو يصوم بعده) أي يوما كما في رواية النسائي وللبخاري إلا يوما قبله أو بعده، أي إلا أن يصوم يوما قبله، أو يصوم يوما بعده، وللإسماعيلي إلا أن تصوموا يوما قبله أو بعده و"أو" لمنع الخلو، والمعنى انه يكفي صوم أحدهما ولو صامهما جاز أيضا والحديث دليل على تحريم النفل بصوم يوم الجمعة منفردا، وعلى جواز صوم يومها لمن صام قبله أو بعده، فلو أفرده بالصوم وجب فطره كما يفيده،

(14/142)


ما أخرجه أحمد وأبوداود من حديث جويرية أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها في يوم جمعة وهي صائمة. فقال لها: أصمت أمس؟ قالت: لا، قال: تصومين غدا؟ قالت: لا، قال: فأفطري، والأصل في الأمر الوجوب، والرواية تدل على جواز صومه لمن اتفق وقوعه في أيام له عادة بصومها كمن يصوم أيام البيض، أو من له عادة بصوم يوم معين كيوم عرفة فوافق يوم الجمعة أو، له عادة بصوم يوم وفطر يوم فوافق صومه يوم الجمعة. واختلف الأئمة في إفراد يوم الجمعة بالصيام فذهب ابن حزم إلى تحريمه لظواهر الأحاديث الواردة في النهي عن تخصيصه بالصوم، ونقله أبوالطيب الطبري عن أحمد وابن المنذر وبعض الشافعية وكأنه أخذه من قول ابن المنذر ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة كما ثبت عن صوم يوم العيد وزاد يوم الجمعة الأمر بفطر من أراد أفراده بالصوم، فهذا يشعر بأنه يرى بتحريمه. ونقل ابن المنذر وابن حزم منع صومه عن علي وأبي هريرة وسلمان وأبي ذر. قال ابن حزم: لا نعلم لهم مخالفا من الصحابة. وذهب الجمهور ومنهم الشافعي وأحمد وأبويوسف وبعض الحنفية إلى أن النهي فيها للتنزيه. وقال مالك وأبوحنيفة ومحمد: بالإباحة مطلقا من غير كراهة، ذكره العيني وابن قدامة والحافظ وابن الهمام. قال مالك: لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه، ومن يقتدي به نهي عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه وأراه كان يتحراه. قال النووي: السنة مقدمة على ما رآه مالك وغيره، وقد ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة فيتعين القول به، ومالك معذور. فإنه لم يبلغه، قال الداودي من أصحاب مالك: لم يبلغ مالكا هذا الحديث ولو بلغه لم يخالفه-انتهى. قلت: ونص فروع المالكية كالشرح الكبير للدردير وغيره أنه يندب إفراد يوم الجمعة بالصوم، وبه قال عامة الحنفية. وقال بعضهم: بالكراهة كما في البدايع والنهر والبحر والدر المختار وحاشية رد المختار. قال عبدالوهاب المالكي: يوم الجمعة يوم لا يكره صومه

(14/143)


مع غيره فلا يكره وحده، ورد بأن هذا قياس فاسد الإعتبار لأنه منصوب في مقابلة النصوص الصحيحة. قال الحافظ والمشهور عند الشافعية وجهان أحدهما ونقله المزني عن الشافعي أنه لا يكره إلا لمن أضعفه صومه عن العبادة التي تقع فيه من الصلاة والدعاء والذكر. قلت: وإليه ذهب البيهقي والماوردي وابن الصباغ والعمراني. والثاني وهو الذي صححه المتأخرون كقول الجمهور. قلت: وبه جزم الرافعي والنووي في الروضة. وقال في شرح مسلم: أنه قال به جمهور أصحاب الشافعي وممن صححه من المالكية ابن العربي إذ قال وبكراهته بقول الشافعي وهو الصحيح. واستدل لمن قال بندبه عما سيأتي من حديث ابن مسعود، وفيه قلما كان يفطر يوم الجمعة، وبما رواه ابن أبي شيبة من حديث ابن عمر قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مفطرا يوم الجمعة قط.

(14/144)


وبما رواه أيضا من حديث ابن عباس قال: ما رأيته مفطرا يوم جمعة قط، وفي سندهما ليث بن أبي سليم. وقد تقدم الكلام فيه. وأما حديث ابن مسعود فقال الحافظ في الفتح: ليس فيه حجة، لأنه يحتمل أن يريد كان لا يتعمد فطره إذا وقع في الأيام التي كان يصومها ولا يضاد ذلك كراهة أفراده بالصوم، جمعا بين الحديثين. وقال في التلخيص (ص199) قال ابن عبدالبر: لا مخالفة بينه وبين أحاديث النهي، فإنه محمول على أنه كان يصله بيوم الخميس. وقال العيني: لا دلالة في حديث ابن مسعود وما في معناه أنه صلى الله عليه وسلم صام يوم الجمعة وحده فنهيه عن صوم يوم الجمعة في أحاديث النهي يدل على أن صومه يوم الجمعة لم يكن في يوم الجمعة وحده بل إنما كان بيوم قبله أو بيوم بعده، وذلك لأنه لا يجوز أن يحمل فعله على مخالفة أمره إلا بنص صحيح صريح فحينئذ يكون نسخا أو تخصيصا وكل واحد منهما منتف-انتهى. وقال ابن القيم يتعين حمل حديث ابن مسعود إن كان صحيحا على صومه مع ما قبله أو بعده. قلت وأرجح الأقوال عندي: قول من ذهب إلى تحريم إفراد يوم الجمعة بالصيام لما قد صح النهي عنه، والأصل في النهي التحريم والله تعالى أعلم. واختلف في وجه تحريم تخصيصه بالصوم. قال الشاه ولي الله: السر فيه.أي في النهي عن شيئان، أحدهما سد التعمق، لأن الشارع لما خصه أي من بين الأيام بطاعات وبين فضله، كان مظنة أن يتعمق المتعمقون فيلحقون بها صوم ذلك اليوم أي ابتداعا من عند أنفسهم فمنعوا سد اللباب. قال وثانيهما تحقيق معنى العيد فإن العيد يشعر بالفرح واستيفاء اللذة، والسر في جعله عيدا أن يتصور عندهم أنها من الاجتماعات التي يرغبون فيها من طبائعهم من غير قسر-انتهى. وقال الحافظ: اختلف في سبب النهي عن إفراده على أقوال أحدها لكونه يوم عيد، والعيد لا يصام ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا يوم جعله الله عيدا، وروى النسائي من حديث أبي سعيد الخدري أن

(14/145)


النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا صيام يوم عيد. واستشكل التعليل بذلك بوقوع الإذن من الشارع بصومه مع غيره. وأجاب ابن القيم وغيره بأن شبهه بالعيد لا يستلزم استواءه معه من كل جهة، ومن صام معه غيره انتفت عنه صورة التحري بالصوم. ثانيها لئلا يضعف عن إقامة وظائف الجمعة من الغسل والتبكير إلى الصلاة وانتظارها واستماع الخطبة وإكثار الذكر بعدها وهذا اختاره النووي. وتعقب ببقاء المعنى المذكور مع صوم غيره معه. وأجاب بأنه يحصل له بفضيلة الصوم الذي قبله أو بعده ما يجبر ما قد يحصل من فتور أو تقصير في وظائف يوم الجمعة بسبب صومه قال الحافظ: وفيه نظر فإن الجبر لا ينحصر في الصوم، بل يحصل بجميع أفعال الخير فيلزم منه جواز إفراده لمن عمل فيه خيرا كثيرا يقوم مقام صيام يوم قبله أو بعده كمن اعتق فيه رقبة مثلا ولا قائل بذلك، وأيضا فكان النهي يختص بمن يخشى عليه الضعف، لا من يتحقق القوة ويمكن الجواب عن هذا بأن المظنة أقيمت مقام المئنة كما في جواز الفطر في السفر لمن لم يشق عليه.
2072-(17) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تختصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم)) رواه مسلم.

(14/146)


ثالثها خوف المبالغة في تعظيمه فيفتتن به كما افتتن اليهود بالسبت قال الحافظ: وهو منتقض بثبوت تعظيمه بغير الصيام، وأيضا فاليهود لا يعظمون السبت بالصيام فلو كان الملحوظ ترك موافقتهم لتحتم صومه، لأنهم يصومونه، وقد روى النسائي وأبوداود وصححه ابن حبان من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم من الأيام السبت والأحد وكان يقول أنهما يوما عيد للمشركين فأحب أن أخالفهم. رابعها خوف اعتقاد وجوبه. قال الحافظ: وهو منتقض بصوم الاثنين والخميس وسيأتي ذكر ما ورد فيهما. خامسها خشية أن يفرض عليهم كما خشي صلى الله عليه وسلم من قيامهم الليل ذلك. قال المهلب: وهو منتقض بإجازة صومه مع غيره، وبأنه لو كان كذلك لجاز بعده - صلى الله عليه وسلم - لارتفاع السبب. سادسها مخالفة النصارى لأنه يجب عليهم صومه، ونحن مأمورون بمخالفتهم.قال الحافظ: وهو ضعيف ولم يبين وجه الضعف قال. وأقوى الأقوال وأولاها بالصواب أولها، وورد فيه صريحا حديثان، أحدهما رواه أحمد (ج2ص203) وابن خزيمة والبخاري في التاريخ الكبير والبزار والحاكم (ج1ص437) من طريق عامر بن لدين عن أبي هريرة مرفوعا يوم الجمعة يوم عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده. والثاني رواه ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي قال من كان منكم متطوعا من الشهر فليصم يوم الخميس، ولا يصم يوم الجمعة فإنه يوم طعام وشراب وذكر-انتهى. (متفق عليه) واللفظ لمسلم وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي في الكبرى وابن ماجه وابن خزيمة والحاكم (ج1ص437) والبيهقي (ج4ص302) وفي الباب عن جابر عند الشيخين والنسائي وابن ماجه وعن ابن عباس عند أحمد وعن بشير بن الخصاصية عند أحمد والطبراني وعن جنادة الأزدي عند أحمد والنسائي والحاكم، وعن أبي الدرداء عند النسائي والطبراني وعن عبدالله بن عمرو، عند النسائي وعن جويرية عند أحمد والبخاري وأبي داود.

(14/147)


2072- قوله: (لا تختصوا) من الاختصاص (ليلة الجمعة) "ليلة" منصوب على أنه مفعول به. قال الطيبي: الاختصاص لازم ومتعد، وفي الحديث متعد. قال المالكي: المشهور في اختص أن يكون موافقا لخص في التعدي إلى مفعول وبذلك جاء قوله تعالى: ?يختص برحمته من يشاء? [البقرة: 105] وقول عمر بن عبدالعزيز ولا يختص قوما، وقد يكون اختص مطاوع خص فلا يتعدى كقولك خصصتك بالشيء فاختصصت به-انتهى.
2073-(18) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام يوما في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا)) متفق عليه.

(14/148)


(بقيام) قال ابن حجر: أي بصلاة والظاهر أن القيام أعم في المعنى المراد (من بين الليالي) فيه دليل على تحريم تخصيص ليلة الجمعة بعبادة بصلاة وتلاوة غير معتادة إلا ما ورد به النص الصحيح كقراءة سورة الكهف، فإنه ورد تخصيص ليلة الجمعة بقراءتها، وقد دل هذا بعمومه على عدم مشروعية صلاة الرغائب في أول ليلة الجمعة من رجب. قال النووي: في هذا الحديث النهي الصريح عن تخصيص ليلة الجمعة بصلاة من بين الليالي، وهذا متفق على كراهته، واحتج به العلماء على كراهة هذه الصلاة المبتدعة التي تسمى الرغائب قاتل الله واضعها ومخترعها فإنها بدعة منكرة، من البدع التي هي ضلالة وجهالة، وفيها منكرات ظاهرة. وقد صنف جماعة من الأئمة مصنفات نفسية في تقبيحها وتضليل مصليها ومبتدعها، ودلالة قبحها وبطلانها وتضليل فاعلها أكثر من أن تحصر-انتهى. (ولا تختصوا) كذا في جميع النسخ وهكذا في المصابيح والمنتقى للمجد بن تيمية والسنن للبيهقي، والذي في صحيح مسلم ولا تخصوا. قال النووي: هكذا وقع في الأصول "لا تختصوا ليلة الجمعة ولا تخصوا يوم الجمعة" بإثبات تاء في الأول بين الخاء والصاد وبحذفها في الثاني وهما صحيحان-انتهى. وذكره المنذري في الترغيب والجزري في جامع الأصول (ج7ص237) والحافظ في الفتح: وفي بلوغ المرام بحذف التاء في الموضعين (يوم الجمعة) مفعول به كقوله ويوم شهدناه (بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم) تقديره إلا أن يكون يوم الجمعة واقعا في يوم صوم (يصومه أحدكم) أي من نذر أو ورد وعادة، والظاهر أن الاستثناء من ليلة الجمعة كذلك، ولعل ترك ذكره للمقايسة قاله القاري. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا النسائي والبيهقي (ج4ص302).

(14/149)


2073- قوله: (من صام يوما في سبيل الله) قال في النهاية: سبيل الله عام يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه-انتهى. قيل: المراد به ههنا مجرد إخلاص النية أي من صام يوما ابتغاء لوجه الله تعالى، وذلك لئلا يعارض أولوية الفطر في الجهاد عن الصوم لأنه يضعف عن اللقاء وقيل: المراد به الغزو والجهاد أي من صام يوما حال كونه غازيا. قلت: والثاني هو المتبادر، ويؤيده ما في فوائد أبي الطاهر الذهلي من طريق عبدالله بن عبدالعزيز الليثي عن المقبري عن أبي هريرة بلفظ: ما من مرابط يرابط في سبيل الله فيصوم يوما في سبيل الله-الحديث.

(14/150)


وحينئذ فالأولوية المذكورة محمولة على من يضعفه الصوم عن الجهاد. أما من لم يضعفه فالصوم في حقه أفضل لأنه يجمع بين الفضيلتين. قال ابن دقيق العيد: العرف الأكثر استعماله في الجهاد، فإن حمل عليه كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين. قال: ويحتمل أن يراد بسبيل الله طاعته كيف كانت، والمراد من صام قاصدا وجه الله، والأول أقرب، ولا يعارض ذلك أن الفطر في الجهاد أولى، لأن الصائم يضعف عن اللقاء، لأن الفضل المذكور محمول على من لم يخش ضعفا، ولا سيما من اعتاد به فصار ذلك من الأمور النسبية فمن لم يضعفه الصوم عن الجهاد فالصوم في حقه أفضل ليجمع بين الفضيلتين (بعد الله) بتشديد العين هذا لفظ البخاري وفي مسلم باعد أي من المباعدة (وجهه) أي ذاته كلها (عن النار سبعين خريفا) أي مقدار مسافة سبعين عاما يعني أنها مسافة لا تقع إلا بسير سبعين عاما، وهو كناية عن حصول البعد العظيم. قال في النهاية: الخريف الزمان المعروف ما بين الصيف والشتاء، ويراد به السنة، لأن الخريف لا يكون في السنة إلا مرة واحدة، فإذا انقضى الخريف انقضى السنة. قال الطيبي: وإنما خص بالذكر دون سائر الفصول لأنه زمان بلوغ حصول الثمار وحصاد الزرع وسعة العيش. وقال الحافظ: الخريف، زمان معلوم من السنة، والمراد به هنا العام وتخصيص الخريف بالذكر دون بقية الفصول الصيف والشتاء والربيع، لأن الخريف أزكى الفصول لكونه يجنى فيه الثمار-انتهى. وعند أبي يعلى من طريق زبان بن فائد عن معاذ بن أنس بعد من النار مائة عام سير المضمر الجواد، وعند الطبراني في الكبير والأوسط بإسناد لا بأس به عن عمرو بن عبسة بعدت منه النار مسيرة مائة عام، ورواه في الكبير من حديث أبي أمامة إلا أنه قال فيه بعد الله وجهه عن النار مسيرة مائة عام ركض الفرس الجواد المضمر، ورواه النسائي من حديث عقبة لم يقل فيه ركض الفرس إلى آخره وفي كامل ابن عدي عن أنس تباعدت منه جهنم خمسمائة عام، وفي حديث أبي

(14/151)


أمامة عند الترمذي جعل الله بينه وبين النار خندقا كما بين السماء والأرض. وفي حديث سلامة بن قيصر عند الطبراني في الكبير كبعد غراب طار، وهو فرخ حتى مات هرما. قيل: ظاهر هذه الأحاديث التعارض، وأجيب بأن الاعتماد على رواية سبعين فإنها أصح الروايات لاتفاق الشيخين عليها فما في الصحيح أولى، أو أن الله تعالى أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بالأدنى ثم بما بعده على التدريج أو أن ذلك بحسب إختلاف أحوال الصائمين في كمال الصوم ونقصانه، أو ورد ذكر السبعين لإرادة التكثير أو المراد بالتبعيد كما قال النووي وغيره المعافاة عن النار وسلامته من عذابها، لا البعد بهذه المسافة. وفي الحديث دلالة على فضيلة الصوم في الجهاد ما لم يضعف بسببه عن قتال عدوه وكأن فضيلة ذلك لأنه جمع بين جهاد نفسه في طعامه وشرابه وشهوته وجهاد عدوه (متفق عليه) واللفظ للبخاري أخرجه في الجهاد وأخرجه مسلم في الصوم، وفي رواية له ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي في الجهاد والنسائي وابن ماجه والبيهقي في الصوم.
2074- (19) وعن عبدالله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عبدالله! ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ فقلت: بلى يا رسول الله ! قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا، لا صام من صام الدهر،

(14/152)


2074- قوله: (ألم أخبر) بضم الهمزة وسكون المعجمة وفتح الموحدة مبنيا للمفعول، وهمزة "ألم" للاستفهام ولكنه خرج عن الاستفهام الحقيقي، فمعنا هنا حمل المخاطب على الإقرار بأمر قد استقر عنده ثبوته والذي أخبره هو والده عمرو بن العاص كما يدل عليه رواية البخاري في فضائل القرآن (إنك تصوم النهار) أي ولا تفطر، وفي رواية تصوم الدهر (وتقوم الليل) أي جميعه ولا تنام وفي رواية وتقرأ القرآن كل ليلة (فقلت: بلى يا رسول الله !) زاد مسلم ولم أرد بذلك إلا الخير، وفي رواية للبخاري أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أقول، والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ماعشت، وللنسائي من طريق أبي سلمة. قال: قال لي عبدالله بن عمرو: يا ابن أخي، إني قد كنت أجمعت على أن أجتهد إجتهادا شديدا حتى قلت: لأصومن الدهر ولأقرأن القرآن في كل ليلة (قال فلا تفعل) زاد في رواية للبخاري، فإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين (أي غارت ودخلت في نقرتها من الضعف) ونفهت له النفس (أي أعيت وتعبت وكلت) وزاد في رواية ابن خزيمة إن لكل عامل شرة ولكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك. (صم) أي في بعض الأيام (وأفطر) بهمزة قطع أي في بعضها (وقم ونم) بفتح النون أي أجمع بين القيام والنوم في الليل (فإن لجسدك عليك حقا) بأن ترعاه وترفق به ولا تضره حتى تقعد عن القيام بالفرائض ونحوها، وقد ذم الله قوما أكثروا من العبادة، ثم تركوا بقوله:?ورهبانية ابتدعوها? إلى قوله: ?فما رعوها حق رعايتها?[الحديد:27] (وإن لعينك) بالأفراد، وفي رواية لعينيك بالتثنية (عليك حقا) في الموطأ فإذا سرد الزوج الصوم ووالى قيام الليل ضعف عن حقها أي فلا ينبغي لأحد أن يجهد بنفسه في العبادة حتى يضعف عن القيام بحقها من جماع واكتساب (وإن لزورك) بفتح الزاي وسكون الواو أي لضيفك، والزور في الأصل مصدر وضع موضع الإسم، كصوم في موضع صائم، ونوم في

(14/153)


موضع نائم، وعدل في موضع عادل، والواحد والاثنان والثلاثة والمذكورة والمؤنث في ذلك بلفظ واحد: يقول هذا رجل زور، ورجلان زور، وقوم زور، وامرأة زور، ويحتمل أن يكون زور، جمع زائر، كركب جمع راكب، وتجر جمع تاجر (عليك حقا) أي في البسط والمؤانسة وغيرهما فيفطر لأجله إيناسا له وبسطا،
صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله. صم كل شهر ثلاثة أيام، واقرأ القرآن في كل شهر.
وفيه إن رب المنزل إذا نزل به ضعيف يفطر لأجله. وقال القاري: أي وتعجز بالصيام والقيام عن حسن معاشرته، والقيام بخدمته ومجالسته إما لضعف البدن أو لقوة سوء الخلق-انتهى. وزاد مسلم "وإن لولدك عليك حقا" أي ومن حق الأولاد الرفق بهم والانفاق عليهم وشبه ذلك من التأديب والتعليم، وزاد النسائي وإنه عسى أن يطول بك عمر، وفيه إشارة إلى ما وقع لعبدالله بن عمرو بعد ذلك من الكبر والضعف والعجز عن المحافظة على ما التزمه ووظفه على نفسه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن دقيق العيد: كره جماعة قيام كل الليل لرد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على من أراده، ولما يتعلق به من الاجحاف بوظائف عديدة وفعله جماعة من المتعبدين من السلف وغيرهم، ولعلهم حملوا الرد على طلب الرفق بالخلق لا غير، وهذا الاستدلال على الكراهة بالرد المذكور عليه سؤال هو أنه يقال إن الرد لمجموع أمرين، وهو صيام النهار وقيام الليل، فلا يلزمه ترتبه على أحدهما-انتهى. وقال النووي: نهيه صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل كله هو على إطلاقه غير مختص بعبدالله بن عمرو بل قال أصحابنا: يكره صلاة كل الليل دائما لكل أحد، لأن صلاة الليل كله لا بد فيها من الإضرار بنفسه وتفويت بعض الحقوق، فإنه إن لم ينم بالنهار فهو ضرر ظاهر، وإن نام نوما ينجبره سهره وفوت بعض الحقوق بخلاف من يصلي بعض الليل، فإنه يستغنى بنوم باقيه، وإن نام معه شيئا في النهار كان يسيرا لا يفوت به حق، وكذا من قام ليلة كاملة

(14/154)


كليلة العيد أو غيرها لا دائما لا كراهة فيه لعدم الضرر والله أعلم (لا صام من صام الدهر) يحتمل أن يكون خبرا وأن يكون دعاء كما مر، والأول هو الأظهر وقد تقدم البسط في مسألة صوم الدهر في شرح حديث أبي قتادة (صوم ثلاثة أيام من كل شهر) مبتدأ خبره (صوم الدهر) لأن الحسنة بعشر أمثالها (كله) بالجر تأكيد للدهر، وفيه دليل على استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر. واختلف في تعيينها من الشهر اختلافا في تعيين الأحب والأفضل لا غير، وليس في الحديث ما يدل على شيء من ذلك (صم) أي أنت بالخصوص ومن هو في المعنى مثلك، وبهذا يندفع توهم التكرار المستفاد مما قبله قاله القاري. قلت: وقع في رواية بعد قوله "صم وأفطر وقم ونم" صم من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر، وهذا يدل أيضا على هذا ما وقع في رواية أخرى بعد قوله "وإن لزورك عليك حقا" وإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها فإذا ذلك صيام الدهر كله (كل شهر) منصوب بنزع الخافض أي من كل شهر (ثلاثة أيام) ظرف قيل هي أيام البيض وقيل غير ذلك (واقرأ القرآن) أي جميعه (في كل شهر) أي مرة
قلت: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: صم، أفضل الصوم صوم داود: صيام يوم، وإفطار يوم، واقرأ في كل سبع ليال مرة، ولا ترد على ذلك)) متفق عليه.

(14/155)


(إني أطيق أكثر من ذلك) أي مما ذكر صيام الثلاثة وختم الشهر (قال: صم أفضل الصوم صوم داود) نصبه على البدل أو البيان أو بتقدير أعنى، ويجوز رفعه دون جره لفساد المعنى (صيام يوم وإفطار يوم) برفعهما على أنهما خبر مبتدأ محذوف هو هو. قال القاري: وفي نسخة بالنصب، وهو ظاهر، وزاد في رواية "ولا تزد عليه " وفي أخرى "قلت إني أطيق أفضل من ذلك" فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا أفضل من ذلك. وفي الرواية المذكورة هنا اختصار فإن للبخاري في الأدب "فصم من كل جمعة ثلاثة أيام" وفي رواية له. في الصوم "فصم يوما وأفطر يومين" وفي أخرى له أما يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام. قلت: يا رسول الله ! قال خمسا. قلت: يا رسول الله ! قال سبعا. قلت: يا رسول الله ! قال تسعا. قلت: يا رسول الله ! قال: إحدى عشرة. وفي رواية لمسلم "صم يوما" يعني من كل عشر أيام ولك أجر ما بقي. قال: إني أطيق أكثر من ذلك قال صم يومين ولك أجر ما بقي. قال: إني أطيق أكثر من ذلك قال صم ثلاثة أيام ولك أجر ما بقي. قال إني أطيق أكثر من ذلك قال صم أربعة أيام ولك أجر ما بقي. قال إني أطيق أكثر من ذلك قال صم صوم داود. وهذا يقتضى أنه صلى الله عليه وسلم أمره بصيام ثلاثة أيام من كل شهر ثم بستة ثم بتسعة ثم باثني عشر ثم بخمسة عشر فالظاهر من مجموع الروايات الواردة في الباب أنه أمره بالاقتصار على ثلاثة أيام من كل شهر فلما قال أنه يطيق أكثر من ذلك زاده بالتدريج إلى أنه وصله إلى خمسة عشر يوما فذكر بعض الرواة عنه ما لم يذكر الآخر، ويدل على ذلك رواية عطاء بن السائب عن أبيه عن عبدالله بن عمر وعند أبي داود فلم يزل يناقصني وأناقصه. ووقع للنسائي في رواية محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة صم الاثنين والخميس من كل جمعة وهو فرد من أفراد ما تقدم ذكره. وقد استشكل قوله "صم من كل عشرة أيام ولك أجر ما بقي" مع قوله "صم من كل عشرة أيام يومين ولك أجر ما بقي" الخ. لأنه يقتضى

(14/156)


الزيادة في العمل والنقص في الأجر وبذلك ترجم له النسائي وأجيب بأن المراد لك أجر ما بقي بالنسبة إلى التضعيف قال عياض قال بعضهم معنى "صم يوما ولك أجر ما بقي" أي من العشرة وقوله صم يومين ولك أجر ما بقي" أي من العشرين وفي الثلاثة ما بقي من الشهر وحمله على ذلك استبعاد كثرة العمل وقلة الأجر. وتعقبه عياض بأن الأجر إنما اتحد في كل ذلك لأنه كان نيته أن يصوم جميع الشهر فلما منعه صلى الله عليه وسلم من ذلك إبقاء عليه لما ذكر بقي أجر نيته على حاله، سواء صام منه قليلا أو كثيرا كما تأولوه في حديث نية المؤمن خير من عمله أي إن أجره في نيته أكثر من أجر عمله لامتداد نيته بما لا يقدر على عمله-انتهى. والحديث المذكور ضعيف، وهو في مسند الشهاب والتأويل المذكور لا بأس به. ويحتمل أيضا إجراء الحديث على ظاهره، والسبب فيه إنه كلما ازداد من الصوم إزداد من المشقة الحاصلة بسببه المقتضية لتفويت بعض الأجر الحاصل من العبادات التي قد يفوتها مشقة الصوم فينقص الأجر بإعتبار ذلك على أن قوله في نفس الخبر

(14/157)


"صم أربعة أيام ولك أجر ما بقي" يرد الحمل الأول فإنه يلزم منه على سياق التأويل المذكور أن يكون التقدير ولك أجر أربعين. وقد قيده في نفس الحديث بالشهر، والشهر لا يكون أربعين. وكذلك قوله في رواية أخرى للنسائي بلفظ: صم من كل عشرة أيام يوما ولك أجر تلك التسعة ثم قال فيه من كل تسعة أيام يوما ولك أجر تلك الثمانية، ثم قال من كل ثمانية أيام يوما ولك أجر السبعة، فلم يزل حتى قال صم يوما وأفطر يوما. وله من طريق آخر بلفظ: صم يوما ولك أجر عشرة. قلت: زدني قال صم يومين لك أجر تسعة. قلت: زدني قال صم ثلاثة ولك أجر ثمانية، فهذا يدفع في صدر ذلك التأويل الأول كذا في الفتح (واقرأ) أي كل القرآن. قال القسطلاني: أي ما نزل منه إذ ذاك وما سينزل (في كل سبع ليال مرة) أي مرة من الختم (ولا تزد على ذلك) أي على ما ذكر من الصوم والختم، أو المراد لا تزد على ما ذكر من السبع. قال الحافظ: أي لا تغير الحال المذكورة إلى حالة أخرى فأطلق الزيادة، والمراد النقص والزيادة هنا بطريق التدلى أي لا تقرأه في أقل من سبع، ولمسلم قال اقرأ القرآن في كل شهر قال، قلت: يا نبي الله! إني أطيق أفضل من ذلك قال فاقرأه في كل عشرين. قال قلت: يا نبي الله! إني أطيق أفضل من ذلك قال فاقرأه في كل عشر، قلت: يا نبي الله! إني أطيق أفضل من ذلك قال فاقرأه في سبع. ولا تزد على ذلك. ولأبي داود والترمذي والنسائي من طريق وهب بن منبه عن عبدالله بن عمرو. أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كم يقرأ القرآن قال: في أربعين يوما، ثم قال: في شهر ثم قال: في عشرين، ثم قال: في خمس عشرة، ثم قال: في عشرة، ثم قال: في سبع، ثم لم ينزل عن سبع. قال الحافظ: وهذا إن كان محفوظا احتمل في الجمع بينه وبين رواية أبي فروة الآتية تعدد القصة، فلا مانع أن يتعدد قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عمر، وفي ذلك تأكيدا، ويؤيده الاختلاف الواقع في السياق. وفي مسند

(14/158)


الدارمي من طريق أبي فروة عروة بن الحارث الجهني عن عبدالله بن عمرو قال قلت يا رسول الله ! في كم أختم القرآن. قال: أختمه في شهر، قلت: إني أطيق قال أختمه في خمس وعشرين، قلت: إني أطيق قال أختمه في عشرين، قلت: إني أطيق قال أختمه في خمس عشرة، قلت: إني أطيق قال أختمه في خمس، قلت: إني أطيق قال لا. وفي رواية هشيم عن مغيرة وحصين عن مجاهد عن عبدالله بن عمر. وعند أحمد (ج2:ص158) قال فأقرأه في كل شهر قلت: إني أجدني أقوى من ذلك، قال فأقرأه في كل عشرة أيام، قلت إني أجدني أقوى من ذلك، قال أحدهما إما حصين وإما مغيرة. وقال فأقرأه في كل ثلاث. وفي رواية للبخاري في الصوم قال إقرأ القرآن في كل شهر، قال أي عبدالله إني مصححا من طريق يزيد ابن عبدالله بن الشخير عن عبدالله بن عمرو مرفوعا، لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث. ولفظ ابن ماجه لم يفقه الخ. قال السندي: إخبار بأنه لا يحصل الفهم والفقه المقصود من قراءة القرآن فيما دون ثلاث أو دعاء بأن لا يعطيه الله تعالى الفهم،

(14/159)


وعلى التقديرين فظاهر الحديث كراهة الختم فيما دون ثلاث-انتهى. وعند سعيد بن منصور بإسناد صحيح من وجه آخر عن ابن مسعود إقرؤا القرآن في سبع ولا تقرؤه في أقل من ثلاث، ولأبي عبيد في فضائل القرآن من طريق عمرة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يختم القرآن في أقل من ثلاث، وهذا اختيار أحمد كما في المغني (ج2:ص174) وأبي عبيد وإسحاق بن راهويه، وثبت عن كثير من السلف إنهم قرأوا القرآن في دون ذلك. قال الحافظ: وكأن النهى عن الزيادة ليس على التحريم كما أن الأمر في جميع ما مر في الحديث ليس للوجوب، وعرف ذلك من قرائن الحال التي أرشد إليها السياق، وهو النظر إلى عجزه عن سوى ذلك في الحال أو في المآل. وأغرب بعض الظاهرية فقال: يحرم أن يقرأ القرآن. في أقل من ثلاث. وقال النووي: أكثر العلماء على أنه لا تقدير في ذلك، وإنما هو بحسب النشاط والقوة. قال والاختيار إن ذلك يختلف بالأشخاص فمن كان من أهل الفهم وتدقيق الفكر استحب له أن يقتصر على القدر الذي لا يختل به المقصود من التدبير، واستخراج المعاني. وكذا من كان له شغل بالعلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة يستحب له أن يقتصر على القدر الذي لا يخل بما هو فيه، ومن لم يكن كذلك فالأولى له الاستكثار ما أمكنه من غير خروج إلى الملل ولا يقرؤه هذرمة. قلت: والراجح عندنا هو ما ذهب إليه أحمد أنه يكره أن يقرأه في اقل من ثلاث لما مر من حديث يزيد بن عبدالله بن الشخير عن عبدالله بن عمرو، عند أبي داود والترمذي، ومن حديث ابن مسعود عند سعيد بن منصور ومن حديث عائشة عند أبي عبيده فهذه الأحاديث ظاهرة في التقدير والتحديد، فالصواب أن يتوقف عندها ولا يلتفت إلى ما يخالف ظاهرها من أقوال العلماء وعملهم والله تعالى أعلم. تنبيه المراد بالقرآن في حديث الباب جميعه ولا يرد على هذا أن القصة وقعت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بمدة، وذلك قل أن ينزل بعض القرآن الذي

(14/160)


تأخر نزوله، لأنا نقول سلمنا ذلك لكن العبرة بما دل عليه الإطلاق، وهو الذي فهم الصحابي فكان يقول ليتني لو قبلت الرخصة، ولا شك أنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أضاف الذي نزل آخرا إلى ما نزل أولا فالمراد بالقرآن جميع ما كان نزل إذ ذاك وهو معظمه، ووقعت الإشارة إلى أن ما نزل بعد ذلك يوزع بقسطه قاله الحافظ: (متفق عليه) أخرجه البخاري في التهجد والصوم والأنبياء وفضائل القرآن والنكاح والأدب والاستيذان، ومسلم في الصوم بألفاظ متقاربة، والسياق المذكور ههنا ليس لأحد منهما ولا لغيرهما ممن خرجه من الأئمة كما لا يخفى على من نظر في طرق هذا الحديث وألفاظه. وأخرجه أحمد اثنتين وعشرين مرة مطولا ومختصرا، وأبوداود والنسائي والبيهقي في الصوم، وقد أطال النسائي في تخريجه طرقه، قال الحافظ في الفتح: رواه جماعة من الكوفيين والبصريين والشاميين عن عبدالله بن عمرو مطولا ومختصرا. فمنهم من اقتصر على قصة الصلاة، ومنهم من اقتصر على قصة الصيام، ومنهم من ساق القصة كلها، ولم أره من رواية أحد من المصريين عنه مع كثرة روايتهم عنه.
?الفصل الثاني?
2075- (20) عن عائشة، قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم الاثنين والخميس)) رواه الترمذي، والنسائي.
2076- (21) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم)) رواه الترمذي.

(14/161)


2075- قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم الاثنين) قال المناوي: بكسر النون على أن إعرابه بالحرف وهو القياس من حيث العربية، قال القسطلاني: وهي الرواية المعتبرة ويجوز فتح النون على أن لفظ المثنى علم لذلك اليوم فأعرب بالحركة لا بالحرف (والخميس) بالنصب، وهذا لفظ النسائي في رواية وله في أخرى كان يتحرى صيام الاثنين والخميس، وهكذا وقع عند الترمذي وابن ماجه أي يقصد صومهما، ويراهما أحرى وأولى. وزاد في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه كما سيأتي في الفصل الثالث فقيل يا رسول الله ! إنك تصوم الاثنين والخميس فقال إن يوم الاثنين والخميس يغفر الله فيهما لكل مسلم إلا مهتجرين يقول دعهما حتى يصطلحا-انتهى. وسيأتي التعليل بأنه يعرض فيهما الأعمال فكأنه يغفر للمسلمين حين يعرض عليه أعمالهم (رواه الترمذي) وحسنه (والنسائي) وأخرجه أحمد وابن ماجه وابن حبان وصححه وأعله ابن القطان بالراوي عن عائشة وهو ربيعة الجرشي وأنه مجهول. قال الحافظ في التلخيص (ص199) قد أخطأ في ذلك فهو صحابي وفي الباب عن حفصة عند أبي داود وعن أبي هريرة وأم سلمة وسيأتيان. وعن أسامة بن زيد عند أحمد وأبي داود والنسائي وعن واثلة وعبدالله بن مسعود وأبي رافع روى الثلاثة الطبراني في الكبيرة والأول فيه محمد بن عبدالرحمن القشيري وهو متروك، وفي الثاني أبوبلال الأشعري وهو ضعيف، والثالث فيه الحماني وفي كلام.
2076- قوله: (تعرض الأعمال) أي على الله تعالى (يوم الاثنين والخميس) بالجر أي تعرضها الملائكة عليه فيهما. قال الحليمي: يحتمل أن ملائكته الأعمال يتناوبون فيقيم فريق من الاثنين إلى الخميس فيعرج، وفريق من الخميس إلى الاثنين، فيعرج كلما عرج فريق قرأ ما كتب في موضعه من السماء فيكون ذلك عرضا في الصورة وأما للباري في نفسه فغنى عن نسخهم وعرضهم وهو أعلم باكتساب عبادة منهم. وقال البيجوري: وحكمة العرض أن الله تعالى يباهي بالطائعين الملائكة،

(14/162)


2077- (22) وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر! إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام، فصم ثلاثة عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة)) رواه الترمذي، والنسائي.
وإلا فهو غني عن العرض لأنه أعلم بعبادة من الملائكة (فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم) أي طلبا لزيادة رفع الدرجات. قال في اللمعات: لعله إنما اختار الصوم لفضله، ولأنه لا يدري في أية ساعة تعرض، والصوم يستوعب النهار، ولأنه يجتمع مع الأعمال الأخر بخلاف ماعداه من الأعمال-انتهى. قال ابن الملك: وهذا لا ينافي قوله عليه السلام يرفع عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل للفرق بين الرفع والعرض، لأن الأعمال تجمع في الأسبوع، وتعرض في هذين اليومين. وفي حديث مسلم تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل مؤمن إلا عبدا بينه وبين أخيه شحناء فيقال أنظروا هذين حتى يصطلحا. قال ابن حجر: ولا ينافي هذا رفعها في شعبان فقال إنه شهر ترفع فيه الأعمال، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم لجواز رفع أعمال الأسبوع مفصلة وأعمال العام مجملة، كذا في المرقاة. قلت: حديث رفع الأعمال في شعبان، أخرجه النسائي من حديث أسامة بن زيد قال قلت يا رسول الله ! لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان قال ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم (رواه الترمذي) وحسنه، وأورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه، وأخرجه أيضا أحمد والدارمي ولابن ماجه معناه كما تقدم.

(14/163)


2077- قوله: (إذا صمت) أي أردت الصوم (من الشهر ثلاثة أيام) هذا الفظ الترمذي، وللنسائي إذا صمت شيئا من الشهر (فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة) هي أيام الليالي البيض، ففي رواية للنسائي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة. وفيه دليل على استحباب صوم أيام البيض وهي الثلاثة المعينة في الحديث. وقد وقع الاتفاق بين العلماء على أنه يستحب أن تكون الثلاث المذكورة في وسط الشهر، كما حكاه النووي: واختلفوا في تعيينها، فذهب الجمهور إلى أنها ثالث عشر ورابع عشر وخامس عشر. وقيل هي الثاني عشر. والثالث عشر. والرابع عشر. وحديث أبي ذر هذا وما في معناه يرد ذلك قيل: الحكمة في صوم أيام الليالي البيض أي المقمرة إنه لما عم النور لياليها ناسب أن تعم العبادة نهارها. وقيل الحكمة في ذلك إن الكسوف يكون فيها غالبا، ولا يكون في غيرها وقد أمرنا بالتقرب إلى الله تعالى، بأعمال البر عند الكسوف (رواه الترمذي) وحسنه (والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد وابن حبان وصححه والبيهقي (ج4:ص294) وفي الباب عن أبي هريرة عند أحمد والنسائي وابن حبان،
2078-(23) وعن عبدالله بن مسعود، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم غرة كل شهر ثلاثة أيام، وقلما كان يفطر يوم الجمعة)). رواه الترمذي. والنسائي. ورواه أبوداود إلى ثلاثة أيام.
2079-(24) وعن عائشة، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين. ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس)). رواه الترمذي.

(14/164)


قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأرنب قد شواها: فأمرهم أن يأكلوا وأمسك الأعرابي فقال: ما منعك أن تأكل فقال إني أصوم ثلاثة أيام من كل شهر، قال: إن كنت صائما فصم الغر، أي البيض الليالي بوجود القمر طول الليل. قال الحافظ: وفي بعض طرقه عند النسائي إن كنت صائما ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة. وفي الباب أيضا عن قتادة بن ملحان عند أبي داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نصوم البيض ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة. وقال: هي كهيئة الدهر. وعن جرير عند النسائي والبيهقي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر أيام البيض صبيحة، ثلاث عشرة وأربع عشرة، وخمس عشرة، قال الحافظ: إسناده صحيح.

(14/165)


2078- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من غرة كل شهر) بضم الغين المعجمة. قال العراقي: يحتمل أن يراد بغرة الشهر أوله وأن يراد بها الأيام الغر، وهي البيض. كذا في قوت المغتذي. وقال في القاموس الغرة من الشهر ليلة استهلال القمر، يعني أول الشهر (ثلاثة أيام) قيل لا منافاة بين هذا الحديث وحديث عائشة وهو أنه لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم لأن هذا الراوي وجد المر على ذلك في غالب ما اطلع عليه من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم فحدث بما كان يعرف من ذلك، وعائشة رضي الله عنها اطلعت من ذلك على مالم يطلع عليه الراوي فحدثت بما علمت، فلا تنافي بين الأمرين كذا ذكره القاري. (وقلما كان يفطر يوم الجمعة) أي قل إفطاره يوم الجمعة بل كان كثيرا ما يصومه، وهذا محمول على أنه كان يصومه منضما إلى ما قبله أو إلى ما بعده لا أنه يصومه وحده فلا ينافي ما تقدم من النهي عن أفراده بالصيام، وقد سبق البسط فيه (رواه الترمذي والنسائي) أي تمام الحديث، وكذا أخرجه أحمد (ج1ص406) والبيهقي (ج4ص294) وصححه ابن خزيمة وابن حبان وابن عبدالبر وابن حزم (ج7ص21) وحسنه الترمذي (ورواه أبوداود إلى ثلاثة أيام) وروى ابن ماجه صوم الجمعة فقط أي قوله قلما رأيته يفطر يوم الجمعة.
2079- قوله: (يصوم من الشهر) أي من أحد الشهور (السبت والأحد والاثنين) بكسر النون وفتحها بناء على أن أعرابه بالحرف أو الحركة (ومن الشهر الآخر الثلاثاء) بفتح المثلثة وبضم (والأربعاء) بكسر الموحدة ويفتح ويضم وكلاهما ممدود (والخميس)
2080-(25) وعن أم سلمة، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر، أولها الاثنين والخميس)). رواه أبوداود والنسائي.

(14/166)


قال الحافظ: وكان الغرض به أن يستوعب غالبا أيام الأسبوع بالصيام-انتهى. وقال القاري: مراعاة للعدالة بين الأيام فلنها أيام الله تعالى، ولا ينبغي هجران بعضها لانتفاعنا بكلها. قال الطيبي: وقد ذكر الجمعة في الحديث السابق فكان يستوفي أيام الأسبوع بالصيام. قال ابن الملك: أراد عليه الصلاة والسلام أن يبين سنة صوم جميع الأسبوع، وإنما لم يصم صلى الله عليه وسلم الستة متوالية كيلا يشق على الأمة الإقتداء به رحمة لهم وشفقة عليهم (رواه الترمذي) من طريق سفيان عن منصور عن خيثمة عن عائشة وقال هذا حديث حسن، ورواه عبدالرحمن بن مهدي هذا الحديث عن سفيان ولم يرفعه. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: وروى موقوفا وهو أشبه.

(14/167)


2080- قوله: (أولها) بالرفع (الاثنين) الظاهر الاثنان بالألف لكونه خبرا، فقيل في توجيهه إن الاثنين صار علما، والأعلام لا تتغير عن أصل وضعها بإختلاف العوامل فأعرب بالحركة برفع النون لا بالحرف أو إن التقدير أولها يوم الاثنين، فحذف المضاف وأبقى المضاف إليه على حاله على قراءة، وأسأل القرية وإن كانت شاذة. وقال الطيبي: أولها منصوب لكن بفعل مضمر أي اجعل أولها الاثنين والخميس يعني و"الواو" بمعنى "أو" وعليه ظاهر كلام الشيخ التوربشتي حيث قال صوابه أو الخميس، والمعنى أنها تجعل أول الأيام الثلاثة الاثنين أو الخميس، وذلك لأن الشهر إما أن يكون افتتاحه من الأسبوع في القسم الذي بعد الخميس، ففتح صومها في شهرها ذلك بالاثنين وإما أن يكون بالقسم الذي بعد الاثنين ففتح صوم شهرها ذلك بالخميس، وكذلك وجدت الحديث فيما يرويه من كتاب الطبراني كذا ذكره القاري: وقيل أولها بدل من كل شهر بحذف الجر أي يأمرني أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر من أولها، ولفظ الاثنين والخميس بدل من ثلاثة أيام أي أصوم ثلاثة أيام الاثنين والخميس من أول كل شهر، واللفظ المذكور لأبي داود، وكذا نقله عنه الجزري في جامع الأصول (ج7ص212) وهو ساكت عن تعيين اليوم الثالث، ولفظ النسائي كان يأمر بصيام ثلاثة أول خميس والاثنين والاثنين، ورواه البيهقي (ج4ص295) بلفظ: كان يأمرني أن أصوم ثلاثة أيام من الشهر الاثنين والخميس والخميس، ويؤيد رواية النسائي في تكرار الاثنين، ما رواه أحمد (ج6ص287- 288) والنسائي والبيهقي (ج4ص295) من حديث حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر يوم الاثنين ويوم الخميس ويوم الاثنين من الجمعة الأخرى.
2081-(26) وعن مسلم القرشي، قال: ((سألت – أو سئل – رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام الدهر فقال: إن لأهلك عليك حقا، صم رمضان والذي يليه،

(14/168)


وما رواه النسائي من حديث أم سلمة قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يصوم من كل شهر ثلاثة أيام الاثنين، والخميس من هذه الجمعة، والاثنين من المقبلة، ويؤيد رواية البيهقي ما رواه أحمد (ج6ص288، 423) والنسائي عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كان يصوم تسعة من ذي الحجة، ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر أول اثنين من الشهر وخميسين، وما رواه النسائي من حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر يوم الاثنين. من أول الشهر، والخميس الذي يليه، ثم الخميس الذي يليه. قال السندي في حاشية النسائي: حديث أم سلمة يدل على أنه كان يأمر بتكرار الاثنين، وقد سبق من فعله أنه كان يكرر الخميس فدل المجموع على أن المطلوب إيقاع صيام الثلاثة في هذين اليومين. إما بتكرار الخميس أو بتكرار الاثنين والوجهان جائزان-انتهى. قلت: وقد ورد ما يدل على أن اليوم الثالث من الأيام الثلاثة هو يوم الجمعة لا الاثنان أو الخميس، فروى أحمد (ج6ص289، 310) عن أم سلمة قالت كان النبي- صلى الله عليه وسلم - يأمرني أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر أولها الاثنين والجمعة والخميس، فهذا يخالف ما تقدم من تكرار الاثنين أو الخميس، ومدار حديث أم سلمة عند أحمد، وكذا النسائي وأبي داود والبيهقي على والدة هنيدة بن خالد الخزاعي، أو امرأته وكلتاهما مجهولة (رواه أبوداود والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد، والبيهقي على اختلاف فيه، كلهم من طريق هنيدة بن الخزاعي عن أمه عن أم سلمة، وقد سكت عنه أبوداود والمنذري. وقال الهيثمي (ج3ص193) بعد ذكر الحديث من مسند الإمام أحمد. قلت: رواه النسائي خلا والجمعة، وأم هنيدة لم أعرفها-انتهى.

(14/169)


2081- قوله: (وعن مسلم القرشي) بضم القاف وفتح الراء نسبة إلى قريش. قال الحافظ في الإصابة: (ج3ص415- 416) مسلم بن عبيد الله القرشي. وقيل: عبيد الله بن مسلم. وقيل: إنه مسلم بن مسلم حديثه في صيام الدهر يدور على هارون بن سلمان الفراء. أخرجه أبوداود والترمذي من طريق عبيد الله بن موسى عن هارون عن عبيد الله بن مسلم القرشي عن أبيه قال: سألت أو سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صيام الدهر-الحديث. وأخرجه النسائي عن أحمد بن يحيى عن أبي نعيم عن هارون به، وعن إبراهيم بن يعقوب عن أبي نعيم عن هارون عن مسلم عن أبيه كذا قال، وأشار الترمذي إلى هذه الرواية فقال، وروى بعضهم عن هارون به،
وكل أربعاء وخميس، فإذا أنت قد صمت الدهر كله)). رواه أبوداود، والترمذي.
2082-(27) وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة. رواه أبوداود.

(14/170)


وقد وافق زيد بن الحباب عبيد الله بن موسى. وأخرجه النسائي من طريقه وصوب غير واحد إن اسم الصحابي مسلم. وقال البغوي: سكن الكوفة-انتهى. وقال ابن عبدالبر في الإستيعاب: مسلم بن عبيد الله القرشي، وليس بوالد ريطة بنت مسلم الأزدي، ولا أدري من أي قريش هو، واختلف فيه فقيل مسلم بن عبيد الله. وقيل: عبيد الله بن مسلم. ومن قال عبيد الله عندي احفظ له حديث واحد في صوم رمضان والذي يليه الخ. وقد قيل إن الصحبة لأبيه عبيد الله القرشي. (فقال إن لأهلك عليك حقا) أي وصوم الدهر يضعف عن أداء حق الأهل، وفيه إشعار بأن صوم الدهر من شأنه أن يفتر الهمة عن القيام بحقوق الله وحقوق عباده فلذاكره (صم رمضان والذي يليه) قيل أراد الست من شوال، وقيل أراد به شعبان. (وكل أربعاء) بالمد وعدم الانصراف (وخميس) بالجر والتنوين أي من كل جمعة (فإذا) بالتنوين (أنت قد صمت الدهر) قال الطيبي: "الفاء" جزاء شرط محذوف أي إن فعلت ما قلت لك فقد صمت، وإذن جواب جيء لتأكيد الربط (كله) قال القاري: لعل هذا الحديث متقدم على ما سبق من حصول صوم الدهر بثلاثة من كل شهر، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يخبر أولا بالجزا القليل ثم بالثواب الجزيل إعظاما للمنة عليه وعلى الأمة، وإلا فيقارب مقتضي هذا الحديث أن يصير صوم الدهر مرتين حكما-انتهى. وذلك لأن صوم رمضان وست مما يليه من شوال يساوي صوم الدهر كما تقدم في حديث أبي أيوب وكذلك كل أربعاء وخميس بل هذا يزيد على صوم الدهر، فإن الشهر لا يخلو عن أربعة أربعاء وأربعة خميس، فإذا صام أربعة أربعاء وأربعة خميس فقد صام في الشهر ثمانية أيام فإذا ساوى صوم ثلاثة أيام صوم جميع الشهر فيزيد صوم ثمانية أيام على صوم الشهر فتدبر (رواه أبوداود) وسكت عليه (والترمذي) وقال حديث غريب، ولم يحكم عليه بشيء من الحسن والصحة. وقال المنذري في الترغيب: رواته ثقات وقال العزيزي: إسناده صحيح.

(14/171)


2082- قوله: (نهى) نهي تحريم أو تنزيه (عن صوم يوم عرفة بعرفة) أي في عرفات، وأما في غيرها فمندوب كما سبق في حديث أبي قتادة. قال الأمير اليماني: الحديث ظاهر في تحريم صوم عرفة بعرفة، وإليه ذهب يحيى بن سعيد الأنصاري. وقال يجب إفطاره على الحاج. وقيل: لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء، ونقل عن الشافعي واختاره الخطابي، والجمهور على أنه يستحب إفطاره،
2083-(28) وعن عبدالله بن بسر، عن أخته الصماء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم،

(14/172)


وأما هو - صلى الله عليه وسلم - فقد صح أنه كان يوم عرفة بعرفة مفطرا في حجته كما تقدم، ولكن لا يدل تركه الصوم على تحريمه، نعم يدل لأن الإفطار هو الأفضل لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يفعل إلا الأفضل إلا أنه قد يفعل المفضول لبيان الجواز، فيكون في حقه أفضل لما فيه من التشريع والتبليغ بالفعل، ولكن الأظهر التحريم لأنه أصل النهي-انتهى. وقد سبق بسط الكلام في هذه المسألة في شرح حديث أم الفضل (رواه أبوداود) وكذا أحمد (ج2ص304) والنسائي في الكبرى وابن ماجه وابن خزيمة والبخاري في التأريخ الكبير (ج4ص424) والحافظ المزي في تهذيب الكلام (ج1ص379) والحاكم (ج1ص434) والبيهقي (ج4ص284) كلهم من طريق حوشب بن عقيل عن مهدي الهجري عن عكرمة عن أبي هريرة وقد سكت عنه أبوداود وصححه ابن خزيمة. وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي واستنكره العقيلي لأن مهديا الهجري مجهول، ورواه العقيلي في الضعفاء من طريقه، وقال لا يتابع عليه. قال المناري: قول الحاكم على شرط البخاري مردود، فإن مهديا الهجري ليس من رجال البخاري ولا مسلم. وقال المنذري: في إسناده مهدي الهجري. قال ابن معين: لا أعرفه. وقال العقيلي: لا يصح عن النبي- صلى الله عليه وسلم - النهي عن صيام يوم عرفة بعرفة. قال الحافظ في التلخيص (ص199): قد صححه ابن خزيمة، ووثق مهديا المذكور ابن حبان وترجمة البخاري في التأريخ الكبير وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكرا فيه جرحا.

(14/173)


2082- قوله: (وعن عبدالله بن بسر) بضم الموحدة وسكون المهملة هو عبدالله بن بسر أبوبسر المازني ويقال أبوصفوان صحابي صغير ولأبويه وأخويه عطية والصماء صحبة سكن حمص، وروى عن النبي- صلى الله عليه وسلم - وعن أبيه إن كان محفوظا وأخته الصماء. وقيل: عمته. وقيل: خالته مات بالشام. وقيل: بحمص، منها سنة ثمان وثمانين، وهو ابن أربع وتسعين، وهو آخر من مات بالشام من الصحابة. وقال أبوالقاسم بن سعد: مات سنة ست وتسعين وهو ابن مائة سنة، وكذا ذكره أبونعيم في معرفة الصحابة، وساق في ترجمته حديث وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده على رأسه، فقال يعيش هذا الغلام قرنا فعاش مائة سنة. (عن أخته الصماء) بالصاد المهملة المفتوحة والميم المشددة وبالمد، وهي بنت بسر المازنية واسمها بهية بضم الموحدة وفتح الهاء وتشديد المثناة التحتية. وقيل: اسمها بهيمة بزيادة الميم. قال الحافظ: هي أخت عبدالله بن بسر. وقيل: عمته. وقيل: خالته روت عن النبي- صلى الله عليه وسلم -. وقيل: عن عائشة عنه في النهي عن صوم يوم السبت وعنها عبدالله بن بسر وأبوزيادة عبيد الله بن زياد، ورجح دحيم الأول. قال أبوزرعة: قال لي دحيم أهل بيت أربعة صحبوا النبي- صلى الله عليه وسلم - بسر وابناه عبدالله وعطية وأختهما الصماء (لا تصوموا يوم السبت) أي وحده (إلا فيما افترض عليكم) بصيغة المجهول.
فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبه، أو عود شجرة فليمضغه. رواه أحمد، وأبوداود، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي.

(14/174)


قال المنذري في الترغيب: هذا النهي إنما هو عن إفراده بالصوم لما تقدم من حديث أبي هريرة، لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده، فجاز إذا صومه. قال الطيبي: قالوا النهي عن الإفراد كما في الجمعة، والمقصود مخالفة اليهود فيهما، والنهي فيهما للتنزيه عند الجمهور، وما افترض يتناول المكتوب والمنذور وقضاء الفوائت وصوم الكفارة، وفي معناه ما وافق سنة مؤكدة كعرفة وعاشوراء أو وافق وردا، وزاد ابن الملك وعشر ذي الحجة أو في خير الصيام صيام داود، فإن المنهي عنه شدة الاهتمام والعناية به حتى كأنه يراه واجبا كما تفعله اليهود. وقال القاري: فعلى هذا يكون النهي للتحريم، وأما على غير هذا الوجه فهو للتنزيه بمجرد المشابهة (إلا لحاء عنبه) بكسر اللام بعدها حاء مهملة ممدودا قشر الشجر، والعنبة بكسر المهملة وفتح النون هي الحبة من العنب الفاكهة المعروفة، والمراد قشر حبة واحدة من العنب (أو عود شجرة) عطف على لحاء (فليمضغه) قال في القاموس: مضغه كمنعه ونصره لاكه بأسنانه وهذا تأكيد بالإفطار لنفي الصوم، وإلا فشرط الصوم النية فإذا لم توجد لم يوجد ولو لم يأكل (رواه أحمد) (ج6ص368) (وأبو داود والترمذي) الخ. وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم (ج1ص435) والطبراني والبيهقي (ج4ص302) وحسنه الترمذي وصححه ابن السكن وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري. وقال النووي: صححه الأئمة. وقال الحافظ في بلوغ المرام: رجاله ثقات إلا أنه مضطرب، وقد أنكره مالك. وقال أبوداود: هو منسوخ-انتهى. قلت: أما الاضطراب فلأنه روى كما ذكره المصنف، وروى عن عبدالله بن بسر عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس فيه عن أخته الصماء، وهذه رواية ابن حبان، وهكذا وقع في رواية لابن ماجه. قال الحافظ في التلخيص (ص200) وليست هذه بعلة قادحة فإنه أيضا صحابي. وقيل: عنه عن أبيه بسر عن النبي- صلى الله عليه وسلم -.

(14/175)


وقيل: عنه عن الصماء عن عائشة عن النبي- صلى الله عليه وسلم -. قال النسائي: هذا حديث مضطرب. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون عند عبدالله عن أبيه وعن أخته بواسطة، وهذه طريقة من صححه. ورجح عبدالحق الرواية الأولى وتبع في ذلك الدارقطني لكن هذا التلون في الحديث الواحد بالإسناد مع اتحاد المخرج يوهن راوية وينبئ لقلة ضبطه إلا أن يكون من الحفاظ المكثرين المعروفين بجمع طرق الحديث فلا يكون ذلك دالا على قلة ضبطه وليس الأمر هنا كذا، بل اختلف فيه على الراوي عن عبدالله بن بسر أيضا، وأما إنكار مالك له فإنه قال أبوداود عن مالك أنه قال هذا حديث كذب-انتهى.
2084-(29) وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام يوما في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقا، كما بين السماء والأرض)). رواه الترمذي.

(14/176)


روى أبوداود عن الأوزاعي أنه قال ما زلت لحديث عبدالله بن بسر كاتما حتى رأيته انتشر، وروى عن الزهري أنه كان إذا ذكر له قال هذا حديث حمصي إلى أنه ضعيف. وقول مالك المذكور أصرح في ذلك وأبلغ. وأما قول أبي داود أنه منسوخ فلعله أراد ما سيأتي في الفصل الثالث من حديث أم سلمة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام-الحديث، فالنهي عن صومه كان أول الأمر حيث كان - صلى الله عليه وسلم - يحب موافقة أهل الكتاب، ثم كان آخر أمره - صلى الله عليه وسلم - مخالفتهم كما صرح به حديث أم سلمة نفسه. وقيل بل النهي كان عن إفراده بالصوم إلا إذا صام ما قبله أو ما بعده كما تقدم عن المنذري والطيبي. قال الشوكاني: وقد جمع صاحب البدر المنير بين هذه الأحاديث يعني حديث الصماء وحديث أم سلمة وحديث عائشة السابق في صومه - صلى الله عليه وسلم - في السبت والأحد بأن النهي متوجه إلى الإفراد، والصوم بإعتبار انضمام ما قبله أو بعده إليه، ويؤيد هذا ما تقدم من إذنه - صلى الله عليه وسلم - لمن صام الجمعة أن يصوم السبت بعدها، والجمع مهما أمكن أولى من النسخ-انتهى.

(14/177)


2084- قوله: (جعل الله بينه وبين النار خندقا) الخندق، بوزن جعفر، حفير حول أسوار المدن، وحول الحصون معرب كندة (كما بين السماء والأرض) أي مسيرة خمسمائة عام. قال الطيبي: استعارة تمثيلية الحاجز المانع شبه الصوم بالحصن وجعل له خندقا حاجزا بينه وبين النار التي شبهت بالعدو، ثم شبه الخندق في بعد غوره بما بين السماء والأرض، (رواه الترمذي) في فضائل الجهاد من رواية الوليد بن جميل عن القاسم عن أبي أمامة وقال هذا حديث غريب: ونقله المنذري في الترغيب عن الترمذي وسكت عنه. قال ورواه الطبراني إلا أنه قال من صام يوما في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار مسيرة عام، ركض الفرس الجواد المضمر. وقد ذهب طوائف من العلماء إلى أن هذه الأحاديث جاءت في فضل الصوم في الجهاد، وبوب على هذه الترمذي وغيره، وذهبت طائفة إلى أن كل الصوم في سبيل الله إذا كان خالصا لوجه الله تعالى-انتهى. قلت: والراجح عندنا هو القول الأول، وقد تقدم البسط في ذلك وحديث أبي أمامة هذا رواه الطبراني في الأوسط والصغير من حديث أبي الدرداء قال المنذري والهيثمي (ج3ص194) إسناده حسن ورواه في الأوسط من حديث جابر. قال الهيثمي: وفيه عيسى بن سليمان الجرجاني وهو ضعيف.
2085-(30) وعن عامر بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الغنيمة البادرة الصوم في الشتاء)) رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث مرسل. وذكر حديث أبي هريرة: ما من أيام إلى الله في "باب الأضحية".

(14/178)


2085- قوله: (وعن عامر بن مسعود) أي ابن أمية بن خلف الجمحى مختلف في صحبته ذكره المؤلف وابن مندة وابن عبدالبر في الصحابة. وقال الدوري: عن ابن معين له صحبة. وقال أبوداود: سمعت مصعبا يقول: له صحبة كان عاملا لابن الزبير على الكوفة، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وقال: يروي المراسيل، ومن زعم أن له صحبة بلا دلالة فقد وهم. وقال أبوزرعة: هو من التابعين. وقال ابن السكن: ويعقوب بن سفيان: ليست له صحبة. وقال الترمذي في جامعه: حديثه مرسل، لأنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم. وقال في العلل الكبير قال البخاري: لا صحبة له ولا سماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال أحمد: ما أرى له صحبة، وسأله أبوداود أله صحبة؟ فقال لا أدري كذا ذكره الحافظ في تهذيب التهذيب (ج5ص81) وفي القسم الأول من حرف العين من الإصابة (ج2ص260) وقال في القسم الأول من حرف الميم في ترجمة والده مسعود بن أمية بن خلف، قتل أبوه أميه يوم بدر، ولولده عامر بن مسعود رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم والأكثرون قالوا: إن حديثه مرسل فتكون الصحبة لأبيه وكان من مسلمة الفتح أو مات على كفره قبيل الفتح، وولد له عامر قبل الفتح بقليل، فلذلك لم يثبت له صحبة السماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان معدودا في الصحابة لأن له رؤية-انتهى. (الغنيمة الباردة الصوم في الشتاء) لوجود الثواب بلا تعب كثير و"في الفائق" الغنيمة الباردة التي تجيء عفوا من غير أن يصطلي دونها بنار الحرب ويباشر حر القتال في البلاء. وقيل: هي الهيئة الطيبة مأخوذة من العيش البارد، والأصل في وقوع البرد عبارة عن الطيب والهنأة أن الماء والهواء لما كان طيبهما يبردهما خصوصا في البلاد الحارة. قيل: ماء بارد، وهواء بارد، على طريق الاستطابة، ثم كثر حتى قيل عيش بارد وغنيمة باردة وبرد أمرنا. قال التوربشتي: الغنيمة الباردة، هي التي يحوزها صاحبها عفوا صفوا لا يمسه فيها نصب،

(14/179)


والمعنى أن الصائم في الشتاء يحوز الأجر من غير أن يمسه حر العطش، أو يصيبه لذعة الجوع. وإنما قال الغنيمة الباردة الصوم في الشتاء، ولم يقل الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة، تنبيها على معنى الاختصاص أي يبلغ الصوم في هذا المعنى مالا يبلغ غيره. وقال الطيبي: التركيب من قلب التشبيه لأنه الأصل الصوم في الشتاء كالغنيمة الباردة، وفيه من المبالغة أن يلحق الناقص بالكامل كما يقال زيد كالأسد فإذا عكس. وقيل: الأسد كزيد يجعل الأصل كالفرع، والفرع كأصل يبلغ التشبيه إلى الدرجة القصوى في المبالغة، والمعنى أن الصائم يحوز الأجر من غير أن يمسه حر العطش أو يصيبه ألم الجوع من طول اليوم-انتهى. قلت: السياق المذكور للترمذي، ورواه أحمد والبيهقي وغيرهما بلفظ: الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة، وكذا وقع في حديث أنس عند الطبراني، وفي حديث جابر عند ابن عدي وغيره كما في الجامع الصغير (رواه أحمد) (ج4ص335)
?الفصل الثالث?
2086-(31) عن ابن عباس، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا اليوم الذي تصومونه فقالوا: هذا يوم عظيم: أنجى الله فيه موسى وقومه،

(14/180)


(والترمذي) وأخرجه أيضا البيهقي (ج4ص296) وأبويعلى والطبراني في الكبير كلهم من طريق سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن نمير بن عريب عن عامر بن مسعود (وقال هذا حديث مرسل) وكذا قال البيهقي وابن حبان وابن السكن وغيرهم، لأن عامر بن مسعود لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق، وفي الباب عن أنس عند الطبراني في الأوسط وابن عدي والبيهقي في شعب الإيمان وعن جابر عند ابن عدي والبيهقي في الشعب، وعن أبي سعيد عند البيهقي في السنن (ج4ص297) الشتاء ربيع المؤمن قصر نهاره فصام وطال ليلة فقام، واقتصر أحمد على قوله الشتاء ربيع المؤمن (وذكر حديث أبي هريرة ما من أيام أحب إلى الله) تمامه أن يتعبد فيها من عشر ذي الحجة يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر (في باب الأضحية) لبيان فضيلة العمل في عشر ذي الحجة. قال القاري: إن كان مراده إن صاحب المصابيح ذكره في باب الأضحية، وإنه أسقطه لتكراره فهذا اعتذار حسن منه، إلا أنه كان الأولى أن يعكس الأمر فيه، وإن كان مراده إنه حق لأنه أولى بذلك الباب فلا يخفى أنه غير صواب-انتهى. قلت: ذكر البغوي حديث أبي هريرة هذا في باب الأضحية، وفي باب صيام التطوع، فأسقطه المصنف ههنا لتكراره، لكن كان الأولى أن يسقطه في باب الأضحية لأنه أنسب وأولى بباب الصيام.

(14/181)


2086- قوله: (قدم المدينة) أي بعد الهجرة من مكة (فوجد اليهود) أي في السنة الثانية. لأن قدومه في الأولى كان بعد عاشوراء في ربيع الأول (صياما) أي ذوي صيام أو صائمين (يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا اليوم الذي تصومونه) أي ما سبب صومه وقد استشكل ظاهر الخبر لاقتضائه أنه - صلى الله عليه وسلم - حين قدومه المدينة وجد اليهود صياما يوم عاشوراء، وإنما قدم المدينة في ربيع الأول وأجيب بأن المراد إن أول علمه بذلك وسؤاله عنه كان بعد أن قدم المدينة، أو يكون في الكلام حذف، وتقديره قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فأقام إلى يوم عاشوراء فوجد اليهود فيه صياما، ويحتمل أن يكون أولئك اليهود كانوا يحسبون يوم عاشوراء بحساب السنين الشمسية،
وغرق فرعون وقومه. فصامه موسى شكرا، فنحن نصومه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه)) متفق عليه.

(14/182)


فصادف يوم عاشوراء بحسابهم اليوم الذي قدم فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة لكن لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بصيام عاشوراء رده إلى حكم شرعه، وهو الاعتبار بالأشهر الهلالية والسنين القمرية فأخذ أهل الإسلام بذلك (هذا يوم عظيم) أي وقع فيه أمور عظيمة توجب تعظيم مثل ذلك اليوم (وغرق) بالتشديد (فرعون وقومه) بالنصب فيهما. قال الطيبي: غرقه وأغرقه بمعنى، وفي نسخة أغرق، وفي أخرى بكسر الراء المخففة ورفع المنصوبين (فصامه موسى شكرا) لله تعالى (فنحن نصومه) أي شكرا أيضا أو متابعة لموسى، وللبخاري في الهجرة، ونحن نصومه تعظيما. وزاد أحمد (ج2ص360) من حديث أبي هريرة وهو اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح شكرا (فنحن) أي إذا كان الأمر كذلك فنحن (أحق وأولى بموسى) أي بمتابعته (منكم) فإنا موافقون له في أصول الدين ومصدقون لكتابه، وأنتم مخالفون لها بالتغيير والتحريف. قال السندي: قوله "أحق بموسى منكم" يدل على أنه قصد موافقة موسى لقوله تعالى: ?فبهداهم اقتده? [الأنعام: 90] لا موافقة اليهود حتى يقال اللائق مخالفتهم وكأنه لهذا عزم في آخر الأمر على ضم اليوم التاسع إلى يوم عاشوراء تحقيقا لمخالفة. وقال الطيبي: وافقهم في صوم يوم عاشوراء مع أن مخالفتهم مطلوبة، والجواب عنه أن المخالفة مطلوبة فيما أخطأوا فيه كما في يوم السبت لا في كل أمر. قال القاري: الأظهر في الجواب أنه صلى الله عليه وسلم أول الهجرة لم يكن مأمورا بالمخالفة، بل كان يتألفهم في كثير من الأمور، ومنها أمر القبلة. ثم لما ثبت عليهم الحجة ولم يمنعهم الملائمة، وظهر منهم العناد والمكابرة اختار مخالفتهم وترك مؤالفتهم انتهى. واستشكل رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى اليهود في ذلك لأنهم كفرة، وخبر الكافر في الديانات مردود وأجاب المازري باحتمال أن يكون أوحى إليه بصدقهم أو تواتر عنده الخبر بذلك، ولا يشترط الإسلام في التواتر،

(14/183)


زاد عياض أو أخبره به من أسلم منهم كابن سلام وغيره، ثم قال ليس في الخبر أنه ابتداء الأمر بصيامه بل في حديث عائشة التصريح بأنه كان يصومه قبل ذلك، فغاية ما في القصة أنه لم يحدث له بقول اليهود تجديد حكم. وإنما هي صفة حال وجواب سؤال. قلت: أراد بحديث عائشة ما رواه الشيخان عنها قالت كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية (أي قبل أن يهاجر إلى المدينة) فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه. ولا مخالفة بين هذا وبين حديث ابن عباس، إذ لا مانع من توارد الفريقين على صيامه مع اختلاف السبب في ذلك.

(14/184)


قال الحافظ: أما صيام قريش لعاشوراء فلعلهم تلقوه من الشرع السالف ولهذا كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة فيه وغير ذلك، وإليه جنح ابن القيم حيث قال في الهدي: لا ريب إن قريشا تعظم هذا اليوم، وكانوا يكسون الكعبة وصومه من تمام تعظيمه.وقال القرطبي: لعل قريشا كانوا يستندون في صومه إلى شرع من مضى كإبراهيم عليه السلام وفي المجلس الثالث من مجالس الباغندي الكبير عن عكرمة، أنه سئل عن ذلك فقال إذ نبت قريش ذنبا فعظم في صدورهم فقيل لهم صوموا عاشوراء يكفر ذلك: قال القرطبي: وصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة يحتمل أن يكون بحكم الموافقة لهم كما في الحج أو أذن الله له في صيامه على أنه فعل خير فلما هاجر ووجد اليهود يصومونه وسألهم وصامه وأمر بصيامه احتمل أن يكون ذلك استئلافا لليهود باستقبال قبلتهم، ويحتمل غير ذلك وعلى كل حال فلم يصمه إقتداء بهم فإنه كان يصومه قبل ذلك، وكان ذلك في الوقت الذي يحب فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه كذا في الفتح (فصامه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) كما كان يصومه قبل ذلك (وأمر) أصحابه (بصيامه) الظاهر أنه أمر إيجاب ففيه دليل لمن قال كان قبل النسخ واجبا، ومن لا يقول به يقول أنه أكد ندبه، ثم نسخ تأكيد ندبه فبقي مندوبا في الجملة.وسيأتي البسط في ذلك في شرح حديث جابر بن سمرة. فإن قيل يخالف حديث ابن عباس هذا ما رواه البخاري من حديث أبي موسى قال: كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيدا، وفي رواية مسلم كان يوم عاشوراء تعظمه اليهود، فإنه يشعر بأن الصوم كان لمخالفتهم وحديث ابن عباس يدل على أنه كان لموافقتهم قلنا لا منافاة بينهما إذ اليهود ثم غير اليهود هنا وأولئك كانوا يصومونه وهؤلاء لا يصومونه، فوافق أولئك في الصوم لمعرفته أنه الحق بوحي وخالف هؤلاء فيه لمعرفته خلاف ذلك. وقال الحافظ: ظاهر حديث أبي موسى إن الباعث على الأمر بصومه محبة مخالفة اليهود حتى يصام ما يفطرون

(14/185)


فيه، لأن يوم العيد لا يصام، وحديث ابن عباس يدل على أن الباعث على صوم موافقتهم على السبب وهو شكرا لله تعالى على نجاة موسى مع موافقة عادته، لكن لا يلزم من تعظيمهم واعتقادهم بأنه عيد، إنهم كانوا لا يصومونه فلعلهم كان من جملة تعظيمهم في شرعهم أن يصوموه. وقد ورد ذلك صريحا في حديث أبي موسى هذا فيما أخرجه البخاري في الهجرة بلفظ: فإذا أناس من اليهود يعظمون عاشوراء ويصومونه ولمسلم من وجه آخر قال: كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيدا ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم-انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصوم وذكر الأنبياء والهجرة والتفسير، ومسلم في الصوم واللفظ له، وأخرجه أيضا أحمد (ج1ص291- 320- 336- 340) وأبوداود وابن ماجه والدارمي والبيهقي (ج4ص286- 289) والنسائي في الكبرى والطحاوي (ج1ص337).
2087-(32) وعن أم سلمة، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام، ويقول: "إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم)). رواه أحمد.
2088-(33) وعن جابر بن سمرة، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بصيام يوم عاشوراء ويحثنا عليه ويتعاهدنا عنده فلما فرض رمضان لم يأمرنا، ولم ينهنا عنه، ولم يتعاهدنا عنده)). رواه مسلم.

(14/186)


2087- قوله: (وعن أم سلمة) بفتح اللام أم المؤمنين (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم) وفي المسند أكثر مما يصوم (من الأيام) أي الأخر (ويقول أنهما يوما عيد للمشركين) وفي المسند أنهما عيد المشركين السبت لليهود، والأحد للنصارى، وإنما سموا مشركين لقولهم عزير ابن الله والمسيح ابن الله، وإما للتغليب، وأراد من يخالف دين الإسلام ذكره الطيبي (فأنا أحب أن أخالفهم) أي مجموع الفريقين، وفيه دليل على استحباب صوم السبت والأحد مخالفة لأهل الكتاب، وظاهره صوم كل على الإنفراد والاجتماع، لكن يحمل على صومهما جميعا متواليين لئلا يخالف ما تقدم من النهي عن صوم يوم السبت، فالمنهي عنه إفراد السبت وفي معناه إفراد الأحد، والمستحب صومهما جميعا تحقيقا لمخالفة الفريقين (رواه أحمد) (ج6ص324) وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان والحاكم (ج1ص436) والبيهقي (ج4ص303) بلفظ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما كان يصوم من الأيام يوم السبت ويوم الأحد وكان يقول إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أريد أن أخالفهم، وعزاه الحافظ في التلخيص (ص200) وبلوغ المرام وللنسائي أيضا ولعله في الكبرى.

(14/187)


2088- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بصيام يوم عاشوراء) أي يأمرنا أمرا مؤكدا (ويحثنا عليه) أي يرغبنا إليه (ويتعاهدنا) أي يحفظنا ويراعي حالنا ويتفحص عم صومنا أو بتخولنا بالموعظة (فلما فرض) بصيغة المجهول (رمضان لم يأمرنا) أي به (ولم ينهنا عنه ولم يتعاهدنا) أي لم يتفقدنا، وفي الحديث دليل على أن صوم عاشوراء كان واجبا، ثم نسخ ورد إلى التطوع وإليه ذهب أبوحنيفة وهي رواية عن أحمد واختاره الحافظ وابن القيم كما سيأتي، وبه جزم الباجي من المالكية حيث قال: أول ما فرض من الصيام صوم يوم عاشوراء، فلما فرض رمضان نسخ وجوبه-انتهى. والأصح عند الشافعي إنه لم يجب أصلا. قال العيني: ج11ص118) اتفق العلماء على أن صوم عاشوراء الآن سنة وليس بواجب واختلفوا في حكمه أول الإسلام،

(14/188)


فقال أبوحنيفة: كان واجبا. واختلف أصحاب الشافعي على وجهين، أشهرهما، أنه لم يزل سنة من حين شرع ولم يك واجبا قط في هذه الأمة، ولكنه كان يتأكد الاستحباب، فلما نزل صوم رمضان صار مستحبا دون ذلك الاستحباب. والثاني، كان واجبا كقول أبي حنيفة، ونقل عياض عن بعض السلف أنه كان يقول كان فرضا وهو باق على فرضيته لم ينسخ، لكن انقرض القائلون بهذا وكان ابن عمر يكره قصده بالصوم، ثم انقرض القول بهذا ونقل عياض وابن عبدالبر والنووي وغيرهم الإجماع على أنه الآن ليس بفرض والإجماع على أنه مستحب. وقال ابن قدامة (ج3ص74) اختلف في صوم عاشوراء هل كان واجبا، فذهب القاضي إلى أنه لم يكن واجبا وقال هذا قياس المذهب. واستدل بشيئين أحدهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من لم يأكل بالصوم، والنية في الليل شرط في الواجب. والثاني، أنه لم يأمر من أكل بالقضاء، ويشهد لهذا ما روى معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر، وهو حديث صحيح، وروى عن أحمد أنه كان مفروضا لما روت عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صامه وأمر بصيامه، فلما افترض رمضان كان هو الفريضة وترك عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه، وهو حديث صحيح وحديث معاوية محمول على أنه أراد ليس هو مكتوبا عليكم الآن. وأما تصحيحه بنية من النهار وترك الأمر لقضاءه، ففيه أنه قد روى أبوداود إن أسلم أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال صمتم يومكم هذا قالوا لا، قال: فأتموا بقية يومكم وأقضوه-انتهى. قلت: قد سبق الجواب عن صحة النية في نهار عاشوراء في شرح حديث حفصة، من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له. وأما حديث معاوية فقال الحافظ قد استدل به على أنه لم يكن فرضا قط، ولا دلالة فيه لاحتمال أن يريد ولم يكتب الله عليكم صيامه على الدوام كصيام رمضان، وغايته أنه عام خص بالأدلة الدالة على

(14/189)


تقدم وجوبه، أو المراد أنه لم يدخل في قوله تعالى: ?كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم? [البقرة: 183] ثم فسره بأنه شهر رمضان، ولا يناقض هذا الأمر السابق بصيامه الذي صار منسوخا، ويؤيد ذلك إن معاوية إنما صحب النبي صلى الله عليه وسلم من سنة الفتح، والذين شهدوا أمره بصيام عاشوراء والنداء بذلك شهدوه في السنة الأولى أوائل العام الثاني-انتهى كلام الحافظ. وهو تلخيص كلام الإمام ابن القيم في الهدي (ج1ص171) ومن أحب التفصيل رجع إليه. قلت: واستدل من قال بوجوب صوم عاشوراء في أول الإسلام بأحاديث كثيرة ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد، والعيني في شرح البخاري، والطحاوي في شرح معاني الآثار من شاء الوقوف عليها رجع إلى هذه الكتب، وهذا القول هو الراجح عندنا. قال الحافظ: ويؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجبا لثبوت الأمر بصومه ثم تأكد الأمر بذلك ثم زيادة التأكيد بالنداء العام، ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك، ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال،
2089-(34) وعن حفصة، قالت: ((أربع لم تكن يدعهن النبي صلى الله عليه وسلم: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتان قبل الفجر)). رواه النسائي.
2090-(35) وعن ابن عباس، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفطر أيام البيض في حضر ولا في سفر)) رواه النسائي.

(14/190)


وبقول ابن مسعود الثابت في مسلم لما فرض رمضان ترك عاشوراء مع العلم بأنه ما ترك استحبابه، بل هو باق. فدل على أن المتروك وجوبه وأما قول بعضهم المتروك تأكد استحبابه والباقي مطلق استحبابه فلا يخفي ضعفه بل تأكد استحبابه باق، ولا سيما مع استمرار الاهتمام به حتى في عام وفاته صلى الله عليه وسلم حيث يقول: لئن عشت لأصومن التاسع والعاشر ولترغيبه في صومه وأنه يكفر سنة وأي تأكيد أبلغ من هذا-انتهى. وقد ذكر نحو هذا ابن القيم في الهدي (ج1ص116) (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص96) والطحاوي (ج1ص336) والبيهقي (ج4ص289).

(14/191)


2089- قوله: (وعن حفصة) أم المؤمنين (قالت أربع) أي خصال (لم تكن يدعهن) أي يتركهن (النبي- صلى الله عليه وسلم -) فاعل تنازع فيه فعلان (صيام عاشوراء والعشر) بالجر. وقيل: بالرفع أي صيام عشر ذي الحجة، والمراد من العشر تسعة أيام مجازا، وقد روى أحمد (ج6ص288- 423) وأبوداود والنسائي عن بعض أزواج النبي- صلى الله عليه وسلم - قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء-الحديث. وهذا يبين المراد من قوله العشر في حديث حفصة (وثلاثة أيام) بالوجهين (من كل شهر) وهي الاثنان والخميس، والاثنان من الجمعة الأخرى. كما في حديث سواء الخزاعي عن حفصة عند أحمد (ج6ص287) وأبي داود والبيهقي (ج4ص295) (وركعتان قبل الفجر) كذا في جميع النسخ من المشكاة وهكذا وقع في جامع الأصول (ج7ص206) والذي في سنن النسائي وركعتين قبل الغداة، وهكذا في مسند الإمام أحمد (ج7ص287) وكذا ذكره المجد بن تيمية في المنتقى وعزاه لأحمد والنسائي، والظاهر إن المصنف تبع في ذلك الجزري، ولم يراجع سنن النسائي وأرادت حفصة بذلك ركعتي سنة الصبح. والحديث يدل على استحباب صوم ما ذكره فيه من الأيام، وقد سبق وجه الجمع بينه وبين ما تقدم من حديث عائشة، ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما في العشر (رواه النسائي) وأخرجه أيضا أحمد.
2090- قوله: (لا يفطر أيام البيض) هذا على حذف المضاف يريد أيام الليالي البيض، وهي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر،
2091-(36) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل شيء زكاة وزكاة الجسد الصوم)). رواه ابن ماجه.

(14/192)


وسميت لياليها بيضا لأنها المقمرات من أوائلها على آخرها فناسب صيامها شكرا لله تعالى (في حضر ولا سفر) أي ولا في سفر ولا مزيدة للتأكيد، وفيه دليل على استحباب صيام أيام البيض في السفر، ويلحق بها صوم سائر التطوعات المرغب فيها (رواه النسائي) من طريق يعقوب بن عبدالله بن سعد القمي عن جعفر بن أبي مغيرة الخزاعي القمى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال الشوكاني: وفي يعقوب وجعفر مقال، قلت: قال الدارقطني في يعقوب: ليس بالقوي. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أبوالقاسم الطبراني: كان ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال أبونعيم الأصبهاني: كان جرير بن عبدالحميد إذا رآه قال: هذا مؤمن آل فرعون. وقال محمد بن حميد الرازي: دخلت بغداد فاستقبلني أحمد وابن معين فسألاني عن أحاديث يعقوب القمى. وأما جعفر بن أبي مغيرة فذكره أيضا ابن حبان في الثقات. ونقل عن أحمد بن حنبل توثيقه. وقال ابن مندة ليس بالقوي في سعيد بن جبير. وقال الحافظ في التقريب ترجمتها: صدوق بهم، فالحق إن حديثهما لا ينزل عن درجة الحسن.

(14/193)


2091- قوله: (لكل شيء زكاة) أي صدقة. وقال السندي: أي نماء يعطي بعضه أو طهارة يطهر به (وزكاة الجسد الصوم) فإنه يذاب بعض البدن منه وينقص وتطهر الذنوب به وتمحص. قال الطيبي: أي وصدقة الجسد ما يخلصه من النار بجنة الصوم وقال الحفني: لكل شيء زكاة أي شيء يطهره ومطهر الجسد الصوم فهو كزكاة المال من حيث إن كلا منهما ينقص في الحس ويزيد في المعنى. وقال الدميري: وإنما كان الصوم زكاة البدن لأنه سر من أسرار الله تعالى، وسبب لنحول الجسد وزيادة بركته وخيره المعنوي، فأشبه الزكاة المالية فإنها وإن نقصته حسا زادته بركة ونموا فكذلك الصوم. وقال السندي: قوله "لكل شيء زكاة" أي ينبغي للإنسان أن يخرج من كل شيء قدر الله فيكون ذلك زكاة له، وزكاة الجسد الصوم، فإنه ينتقص به الجسد في سبيل الله فصار ذلك الذي نقص منه كأنه خرج منه لله على أنه زكاة له (رواه ابن ماجه) وفيه موسى بن عبيدة الربذي. قال البوصيري: وهو متفق على تضعيفه، وذكره المنذري في الترغيب مصدرا بلفظه: روى، ثم أهمل الكلام في آخره وقد جعل ذلك دليلا على ضعف إسناد الحديث عنده، والحديث رواه الطبراني في الكبير عن سهل بن سعد. قال الهيثمي (ج3ص182) وفيه حماد بن الوليد وهو ضعيف.
2092-(37) وعنه، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الاثنين والخميس. فقيل: يا رسول الله ! إنك تصوم يوم الاثنين والخميس. فقال:"إن يوم الاثنين والخميس يغفر الله فيهما لكل مسلم إلا ذا هاجرين، يقول: دعهما حتى يصطلحا)). رواه أحمد، وابن ماجه.

(14/194)


2092- قوله: (كان يصوم يوم الاثنين والخميس) بالنصب، وقيل بالجر واللام بدل عن المضاف، أي يوم الخميس، وفي نسخة بالجر عطفا على الاثنين (إنك تصوم) أي كثيرا (يوم الاثنين) بكسر النون ويفتح (والخميس) بالنصب أي فما الحكمة في صومهما (إن يوم الاثنين والخميس) بالنصب والجر (يغفر الله فيهما لكل مسلم) قد تقدم أنه يعرض فيهما الأعمال فكأنه يغفر للمسلمين حين يعرض عليه أعمالهم (إلا ذا) ذا مزيدة (هاجرين) بالتثنية أي قاطعين أي ولو كانا صائمين وقوله "إلا ذا هاجرين" كذا وقع في جميع النسخ من المشكاة، والذي في مسند أحمد (ج2ص326) إلا المتهاجرين أي من التهاجر، وفي ابن ماجه "إلا متهجرين" أي من الاهتجار. قال السندي: أي متقاطعين لأمر لا يقتضى ذلك وإلا فالتقاطع للدين ولتأديب الأهل جائز (يقول) أي الله للملك الموكل على محو السيئة عند ظهور آثار المغفرة (دعهما) أي أتركهما (حتى يصطلحا) أي إلى أن يقع الصلح بينهما فحينئذ يغفر لهما. وقال السندي: قوله دعهما كأنه خطاب للملك الذي يعرض الأعمال فمعنى دعهما أي تعرض عملهما أو لعله إذا غفر لأحد يضرب الملك على سيئآته أو يمحوها من الصحيفة بوجوده فمعنى دعهما لا تمح سيئاتهما (رواه أحمد) (ج2ص329) بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما يصوم الاثنين والخميس فقيل له فقال، إن الأعمال تعرض كل اثنين وخميس فيغفر الله لكل مسلم إلا المتهاجرين فيقول أخرهما (وابن ماجه) قال السندي في حاشية ابن ماجه وفي الزوائد: إسناده صحيح غريب، ومحمد بن رفاعة ذكره ابن حبان في الثقات، تفرد بالرواية عنه الضحاك بن مخلد، وباقي رجال إسناده على شرط الشيخين، وله شاهد من حديث أسامة بن زيد، رواه أبوداود والنسائي، وروى الترمذي بعضه في الجامع. وقال: حسن غريب-انتهى. وذكر المنذري هذا الحديث في ترغيبه، وعزاه لابن ماجه فقط. وقال رواته ثقات، ورواه مالك ومسلم وأبوداود والترمذي باختصار ذكر الصوم، ولفظ مسلم

(14/195)


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض الأعمال في اثنين وخميس فيغفر الله عزوجل في ذلك اليوم لكل امرىء لا يشرك بالله شيئا إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول: أتركوا هذين حتى يصطلحا، وفي رواية له (أي لمسلم وأخرجها أيضا أحمد) (ج2ص268، 389، 400، 465) تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس فيغفر لكل عبدلا يشرك بالله شيئا إلا رجل كان بينه وبين أخيه شحناء-الحديث.
2093-(38) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام يوما ابتغاء وجه الله، بعده الله من جهنم كبعد غراب طائر وهو فرخ حتى مات هرما)) رواه أحمد.
2094-(39) وروى البيهقي في "شعب الإيمان" عن سلمة بن قيس.

(14/196)


2093- قوله: (ابتغاء وجه الله) نصب على العلة أي ذاته وطلب قربة ورضاه (كبعد غراب) أي بعدا مثل بعد غراب (طائر) كذا في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة، والذي في مسند الإمام أحمد (ج2ص526) طار أي بلفظ الماضي وكذا نقله الهيثمي في مجمع الزوائد (ج3ص181) عن مسندي أحمد والبزار (وهو فرخ) بفتح فسكون أي صغير (حتى مات هرما) بفتح فكسر أي كبيرا قال الطيبي: طائر صفة غراب "وهو فرخ" حال الضمير في طائر "وحتى مات" غاية الطيران و"هرما" حال من فاعل مات، مقابل لقوله وهو فرخ. وقيل: يضرب الغراب مثلا في طول العمر شبه بعد الصائم عن النار ببعد غراب طار من أول عمره إلى آخره-انتهى. قيل: يعيش الغراب ألف عام كذا في المرقاة (رواه أحمد) (ج2ص526) قال حدثنا عبدالله بن يزيد أي المقري ثنا ابن لهيعة عن خالد بن يزيد عن لهيعة (أي ابن عقبة) أبي عبدالله عن رجل قد سماه ثنى سلمة بن قيصر (في النسخة المطبوعة قيس وهو غلط كما ستعرف) عن أبي هريرة وهذا إسناد ضعيف، لأن عبدالله بن لهيعة بن عقبة الحضرمي فيه كلام معروف، والراوي عن سلمة بن قيصر مجهول، والحديث عزاه المنذري والهيثمي إلى أحمد والبزار جميعا. وقالا: في إسناده رجل لم يسم، وسيأتي مزيد الكلام على إسناده.

(14/197)


2094- قوله: (وروى البيهقي) أي الحديث المذكور (في شعب الإيمان عن سلمة بن قيس) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وكذا ذكره المؤلف في أسماء رجاله في الصحابة وهذا غلط ووهم منه، والصواب سلمة ابن قيصر بفتح قاف وسكون ياء وفتح صاد مهملة وترك صرف. قال المنذري: وعن سلمة بن قيصر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من صام يوما ابتغاء وجه الله باعده الله من جهنم كبعد غراب طار، وهو فرخ حتى مات هرما. رواه أبويعلى والبيهقي، ورواه الطبراني فسماه سلامة بزيادة ألف، وفي إسناده عبدالله بن لهيعة. ورواه أحمد والبزار من حديث أبي هريرة، وفي إسناده رجل لم يسم. وقال الهيثمي بعد ذكر هذا الحديث: من رواية سلمة بن قيصر، رواه أبويعلى والطبراني في الكبير والأوسط إلا أنه قال سلامة بن قيصر، وفيه ابن لهيعة وفيه كلام-انتهى. قلت: وفيه أيضا عمرو بن ربيعة الحضرمي وهو لا يعرف كما في الميزان (ج1ص402) واللسان (ج3ص59) في ترجمة سلام بن قيس. وأما سلمة بن قيصر، فاختلف فيه أنه صحابي، فحديثه هذا مسند، أو تابعي أرسل حديثه، فقال أحمد بن صالح المصري له صحبة، وذكره الحسن بن سفيان وأبويعلى والطبراني وابن حبان وابن مندة في الصحابة. وقال ابن يونس المصري: سلمة بن قيصر الحضرمي وأهل الشام يقولون سلامة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم روى عنه مرثد بن عبدالله اليزني وأبوالشعثاء عمرو بن ربيعة الحضرمي،
(7) باب
?الفصل الأول?
2095-(1) عن عائشة، قالت: ((دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: هل عندكم شيء، فقلنا: لا، قال: فإني إذا صائم،

(14/198)


قال ابن صالح وسلمة عندنا أصح، وذكره البخاري فيمن اسمه سلامة. وقال روى عمرو بن ربيعة ولا يصح حديثه. وقال الذهبي في الميزان: (ج1ص403) سلامة بن قيصر تابعي أرسل لم يصح حديثه. وقال الحافظ في الإصابة: سلامة بن قيصر، ويقال سلمة نزل مصر، قال أحمد بن صالح: له صحبة، ونفاها أبوزرعة. وأخرج حديثه مطين، والحسن بن سفيان والطبراني من طريق عمرو بن ربيعة، سمعت سلامة بن قيصر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من صام الخ. ومداره على ابن لهيعة، وقال عبدالله بن يزيد المقري عند أحمد (كما تقدم) عن سلمة بن قيصر عن أبي هريرة، ورجح أبوزرعة هذه الزيادة وأنكرها أحمد بن صالح فقال هو خطأ من المقري-انتهى مختصرا. وقال في تعجيل المنفعة (ص160، 161) قال ابن يونس: حديث سلمة بن قيصر المسند معلول، ثم ذكر الاختلاف فيه، وصوب أحمد بن صالح المصري أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم بغير واسطة أبي هريرة وإن عبدالله بن يزيد المقري، وهو شيخ أحمد فيه وهم فيه، حيث زاد في السند أبا هريرة، وقد وقع التصريح بسماع سلمة بن قيصر من النبي- صلى الله عليه وسلم - في مسند أبي يعلى وغيره، ثم ذكر الحافظ قول الذهبي المتقدم. وقال والعمدة في هذا على ابن يونس فإنه أعرف بأهل مصر-انتهى. وقال الذهبي في تجريده (ج1ص250) سلمة بن قيصر يقال له سلامة حديثه في مسند أبي يعلى من رواية عمرو بن ربيعة-انتهى. وقد ظهر بما ذكرنا أن الراجح في اسمه سلمة بن قيصر وأنه صحابي وإن حديثه هذا مسند لا مرسل. وأما سلمة بن قيس وهو الأشجعي فهو صحابي أيضا روى عنه هلال بن يساف وأبوإسحاق السبيعي. قال الغوي: روى ثلاثة أحاديث-انتهى. وهذا الحديث ليس منها فما وقع في نسخ المشكاة سلمة بن قيس غلط، والصواب سلمة بن قيصر والله تعالى أعلم.
(باب) بالتنوين وقيل بالسكون. قال القاري: وفي نسخة في توابع لصوم التطوع.

(14/199)


2095- قوله: (ذات يوم) أي يوما من الأيام (هل عندكم شيء) ولأبي داود هل عندكم طعام، وفي رواية للنسائي غداء بفتح المعجمة والدال المهملة وهو ما يؤكل قبل الزوال، وفي رواية الترمذي هل عندك غداء (فإني إذا) بالتنوين (صائم) وفي رواية للنسائي إذا أصوم، وفيه دليل على جواز نية النفل في النهار، وبه قال الأكثرون،
ثم أتانا يوما آخر، فقلنا: يارسول الله ! أهدي لنا حيس، فقال: أرينيه فلقد أصبحت صائما فأكل)). رواه البخاري.

(14/200)


وقد تقدم البسط في هذه المسألة في شرح حديث حفصة لا صيام لمن يجمع الصيام من الليل (أهدي لنا) أي أرسل إلينا بطريق الهدية (حيس) بفتح الحاء المهملة وسكون التحتية بعدها سين مهملة تمر مخلوط بسمن وقط. وقيل: طعام يتخذ من الزبد والتمر والإقط، وقد يبدل الإقط بالدقيق، والزبد بالسمن، وقد يبدل السمن بالزيت قاله القاري. وقال في القاموس: الحيس الخلط، وتمر يخلط بسمن وأقط فيعجن شديدا، ثم يندر منه نواه وربما جعل فيه سويق-انتهى. (أرينيه) أمر من إلا راءة، ورواية أبي داود أدنيه من الإدناء، وكذا وقع في رواية للنسائي "وأرينيه" كناية عنها لأن ما يكون قريبا يكون مرئيا ذكره الطيبي، وفي رواية لمسلم هاتيه (فلقد أصبحت صائما) وفي رواية للنسائي إني قد أصبحت أريد الصوم. (فأكل) وفي رواية أخرى لمسلم فأكل، ثم قال قد كنت أصبحت صائما، وفي رواية للنسائي فأفطر. قال السندي: هذا يدل على جواز الفطر للصائم تطوعا بلا عذر وعليه كثير من محققي علماءنا الحنفية، لكنهم أوجبوا القضاء. وقال ابن الهمام: لا خلاف بين أصحابنا في وجوب القضاء إذا أفسد عن قصد أو غير قصد بأن عرض الحيض للصائمة المطوعة خلافا للشافعي. وإنما اختلاف الرواية في نفس الإفساد هل يباح أولا، فظاهر الرواية لا إلا بعذر ورواية المنتقى يباح بلا عذر، قال وعندي إن رواية المنتقى أوجه-انتهى. وقال الخطابي (ج2ص124) في الحديث من الفقه جواز إفطار الصائم قبل الليل إذا كان متطوعا به، ولم يذكر فيه إيجاب القضاء وكان غير واحد من الصحابة يفعل ذلك، منهم ابن مسعود وحذيفة وأبوالدرداء وأبوأيوب الأنصاري، وبه قال الشافعي وأحمد. وقال ابن قدامة: (ج3ص151) من دخل في صيام تطوع استحب له إتمامه ولم يجب فإن خرج منه فلا قضاء عليه، روى عن ابن عمر وابن عباس أنهما أصبحا صائمين ثم أفطرا. وقال ابن عمر: لا بأس به مالم يكن نذرا أو قضاء رمضان. وقال ابن عباس: إذا صام الرجل تطوعا ثم شاء أن

(14/201)


يقطعه قطعة، وإذا دخل في صلاة تطوعا ثم شاء أن يقطعها قطعها وقال ابن مسعود: متى أصبحت تريد الصوم فأنت على آخر النظرين إن شئت صمت وإن شئت أفطرت، فهذا مذهب أحمد والثوري والشافعي وإسحاق. وقد روى حنبل عن أحمد إذا أجمع على الصيام فأوجبه على نفسه فأفطر من غير عذر أعاد يوما مكان ذلك اليوم، وهذا محمول على أنه استحب له ذلك أو نذره ليكون موافقا لسائر الروايات عنه، وقال النخعي وأبوحنيفة ومالك: يلزم بالشروع فيه، ولا يخرج منه إلا لعذر، فإن خرج قضى، وعن مالك لا قضاء عليه (أي إذا أفطر بعذر) واحتج من أوجب القضاء بما روى عن عائشة إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالقضاء يعني ما سيأتي في الفصل الثالث من حديث الزهري عن عروة عن عائشة، وسيأتي الجواب عنه.

(14/202)


قال ابن قدامة: ولنا ما روى مسلم وأبوداود والنسائي عن عائشة قالت دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يوما فقال هل عندكم شيء فقلت لا-الحديث. وقال الحافظ: جواز الفطر من صوم التطوع هو قول الجمهور، ولم يجعلوا عليه قضاء إلا أنه يستحب له ذلك، وروى عبدالرزاق عن ابن عباس أنه ضرب لذلك مثلا كمن ذهب بمال ليتصدق به ثم رجع ولم يتصدق به أو تصدق ببعضه وأمسك بعضه. وعن مالك الجواز وعدم القضاء بعذر، والمنع، وإثبات القضاء بغير عذر، وعن أبي حنيفة يلزمه القضاء مطلقا ذكره الطحاوي وغيره. وأغرب ابن عبدالبر فنقل الإجماع على عدم وجوب القضاء عمن أفسد صومه بعذر. قلت ويدل على ما ذهب إليه الجمهور من جواز الإفطار، وعدم وجوب القضاء حديث أبي جحيفة الذي رواه البخاري والترمذي في قصة زيارة سلمان أبا الدرداء، وإفطار أبي الدرداء لقسم سلمان لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرر ذلك، ولم يبين لأبي الدرداء وجوب القضاء عليه، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. وأجاب القرطبي عنه بأن إفطار أبي الدرداء كان لقسم سلمان ولعذر الضيافة.وفيه إن هذا يتوقف على أن هذا العذر من الأعذار التي تبيح الإفطار، وقد نقل ابن التين عن مذهب مالك إنه لا يفطر لضيف نزل به ولا لمن حلف عليه بالطلاق والعتاق. واستدل للجمهور أيضا بحديث عائشة الذي نحن في شرحه لأنه لم يذكر فيه القضاء. وأجيب عنه بأنه زاد فيه بعضهم فأكل ثم قال أصوم يوما مكانه، أخرجه النسائي في السنن الكبرى، والدارقطني والشافعي والبيهقي في المعرفة، وفي السنن الكبرى (ج4ص275) والطحاوي (ص355) كلهم من رواية ابن عيينة عن طلحة بن يحيى عن عمته عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين. وقد صحح هذه الزيادة أبومحمد عبدالحق كما في البناية (ج2ص356) والمرقاة (ج2ص554) وقال ابن التركماني: هذه الزيادة من ثقة أصر عليها فهي مقبولة. قلت في كون هذه الزيادة محفوظة صحيحة نظر، فإنها قد ضعفها الأئمة

(14/203)


الحفاظ كالنسائي والدارقطني والشافعي والبيهقي. قال النسائي: هذا خطأ يعني من ابن عيينة. ونسب الدارقطني الوهم فيها لمحمد بن عمرو الباهلي الراوي عنده ابن عيينة، لكن رواها النسائي عن محمد بن منصور عن ابن عيينة، وكذا رواها الشافعي عن ابن عيينة لكن قال سمعت سفيان بن عيينة عامة مجالسه لا يذكر فيه، سأصوم يوما مكانه ثم عرضته عليه قبل موته بسنة فذكره فيه. وقال الحافظ في التلخيص: (ص197) ذكر الشافعي إن ابن عيينة زادها قبل موته بسنة-انتهى. وابن عيينة كان في الآخر قد تغير. وقال في تهذيب التهذيب قال ابن عمار: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول اشهدوا إن سفيان بن عيينة اختلط سنة سبع وتسعين ومائة، فمن سمع منه في هذه السنة وبعدها فسماعه لا شيء. قال الحافظ: وقد وجدت عن يحيى بن سعيد شيئا يصلح أن يكون سببا لما نقله عنه ابن عمار في حق ابن عيينة،

(14/204)


وذلك ما أورده أبوسعد بن السمعاني في ترجمة إسماعيل بن أبي صالح المؤذن من ذيل تاريخ بغداد بسند له قوى إلى عبدالرحمن بن بشر بن الحكم. قال سمعت يحيى بن سعيد يقول قلت لابن عيينة كنت تكتب الحديث، وتحدث اليوم وتزيد في إسناده أو تنقص منه، فقال عليك بالسماع الأول فإني قد سمعت. وقد ذكر أبومعين الرازي في زيادة كتاب الإيمان لأحمد إن هارون بن معروف قال له إن ابن عيينة تغير أمره بآخره-انتهى. وهذا كله يدل على أن الشافعي قد بين علة الحديث بقوله سمعت سفيان بن عيينة عامة مجالسه لا يذكر فيه الخ. وقال البيهقي في المعرفة: وقد رواه جماعة عن سفيان دون هذه اللفظة، ورواه جماعة عن طلحة بن يحيى دون هذه اللفظة، منهم سفيان الثوري وشعبة ووكيع ويحيى القطان وغيرهم. وقال في السنن بعد ذكر كلام الشافعي المذكور: ورواية ابن عيينة عامة دهره لهذا الحديث لا يذكر فيه هذا اللفظ مع رواية الجماعة عن طلحة لا يذكره أحد، منهم الثوري وشعبة وعبد الواحد ابن زياد ووكيع ويحيى القطان ويعلى بن عبيد وغيرهم، تدل على خطأ هذه اللفظة. وقد روى من وجه آخر عن عائشة ليس فيه هذه اللفظة-انتهى. واجتماع هؤلاء الأئمة الحفاظ على تضعيف ه1ذه الزيادة مقدم على تصحيح عبدالحق، وليس كل زيادة من الثقة تقبل بل لكل زيادة حكم يخصها، كما ذكر الزيلعي (ج1ص336، 337) وههنا قد وجدت قرينة تدل على كون هذه الزيادة وهما ومدرجة، فالحكم مقبولة مردود. وعلى تقدير أن تكون محفوظة يحمل القضاء على الندب. قال البيهقي: وحمل الشافعي قوله سأصوم يوما مكانه أي تطوعا وجعله بمثابة قضاءه عليه السلام الركعتين اللتين بعد الظهر حين شغله عنهما الوفد. واستدل للجمهور أيضا بما روى البخاري وغيره من أمره صلى الله عليه وسلم جويرية بالإفطار من صوم يوم الجمعة. وبحديث أم هانىء الآتي. وقد وقع في رواية لأحمد (ج6ص343، 344) والنسائي في الكبرى والدارقطني (ص235) والدارمي والطحاوي (ج1ص353)

(14/205)


والبيهقي (ج4ص278، 279) إن كان قضاء من رمضان فصومي يوما مكانه، وإن كان تطوعا فإن شئت فاقضي وإن شئت فلا تقضي. وبما رواه البيهقي (ج4ص279) عن أبي سعيد قال صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما فلما وضع قال رجل أنا صائم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاك أخوك وتكلف لك أفطر وصم مكانه يوما إن شئت، رواه إسماعيل بن أبي أويس عن أبيه عن ابن المنكدر عنه. قال الحافظ في الفتح: وإسناده حسن وهو دال على عدم الإيجاب. واحتج من أوجب القضاء بما سيأتي من حديث الزهري عن عروة أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر عائشة وحفصة بالقضاء حين أفطرتا من صوم التطوع. والجواب عنه بأنه حديث ضعيف غير صالح للاستدلال كما ستعرف. وعلى تقدير الصحة يحمل الأمر بالقضاء على الاستحباب، لتجتمع الأحاديث الواردة في الباب.

(14/206)


واحتجوا أيضا لذلك ولتحريم الأكل من غير عذر بقوله تعالى: ?ثم أتموا الصيام على الليل? [البقرة: 187] فإنه يعم الفرض والنفل. وبقوله تعالى: ?أوفوا بالعقود? [المائدة: 1] وهذا قد عقد الصوم فوجب أن يفيء به. وبقوله تعالى: ?ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه? [الحج: 30] وليس من تعمد الفطر بمعظم لحرمة الصوم. وبقوله تعالى:?ولا تبطلوا أعمالكم? [محمد: 33] وبقوله تعالى: ?ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها? [الحديد: 27] الآية سيقت في معرض ذمهم على عدم رعاية ما التزموه من القرب التي لم تكتب عليهم، والقدر المؤدي عمل كذلك، فوجب صيانته عن الأبطال بهذين النصين فإذا أفطر وجب قضاءه تفاديا أي تبعدا عن الأبطال. وأجيب بأن هذه النصوص كلها من الأدلة العامة، وقد تقرر في موضعه إن الخاص يقدم على العام. قال ابن المنير المالكي: ليس في تحريم الأكل في صوم النفل من غير عذر إلا الأدلة العامة كقوله تعالى: ?ولا تبطلوا أعمالكم? إلا أن الخاص يقدم على العام كحديث سلمان ونحوه. وقال ابن عبدالبر المالكي: من احتج في هذا بقوله تعالى: ?ولا تبطلوا أعمالكم? فهو جاهل بأقوال أهل العلم فإن الأكثر على أن المراد بذلك النهي عن الرياء كأنه قال لا تبطلوا أعمالكم بالرياء بل اخلصوها لله وقال آخرون: ?لا تبطلوا أعمالكم? بارتكاب الكبائر (أو بالكفر والنفاق أو بالمن والأذى ونحوها) ولو كان المراد بذلك النهي عن إبطال مالم يفرضه الله عليه ولا أوجب على نفسه بنذر وغيره لأمتنع عليه الإفطار إلا بما يبيح الفطر من الصوم الواجب وهم لا يقولون بذلك والله أعلم. وحديث الباب رواه ابن ماجه من طريق طلحة بن يحيى عن مجاهد عن عائشة وزاد قالت، وربما صام وأفطر. قلت: كيف ذا قالت إنما مثل هذا مثل الذي يخرج بصدقة فيعطي بعضا ويمسك بعضا، وروى النسائي هذا المثل من هذا الوجه مرفوعا. قال السندي في حاشية ابن ماجه:

(14/207)


قوله"صام وأفطر" أي جمع بينهما. وفيه إن من عزم على الصوم ثم أفطر له أجر القدر الذي مضى فيه على صومه، وهو بمنزله إعطاءه بعض ما قصد التصدق به، وعلى هذا لا ينتهض الاستدلال بقوله: ?ولا تبطلوا أعمالكم? على عدم جواز إفطار الصوم أصلا فافهم والله أعلم-انتهى. واحتجوا أيضا لوجوب القضاء بما روى الدارقطني (ص237) عن جابر قال. صنع رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعاما فدعا النبي- صلى الله عليه وسلم - وأصحابا له، فلما أتى بالطعام تنحى أحدهم، فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم - مالك قال غني صائم فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم - تكلف لك أخوك وصنع، ثم تقول إني صائم كل وصم يوما مكانه. ورواه أبوداود الطيالسي (ص293) والدارقطني أيضا من حديث أبي سعيد. قال الدارقطني: هذا أي حديث أبي سعيد مرسل. وأجيب بأن الأمر فيهما محمول على الندب كما يدل عليه رواية أبي سعيد عند البيهقي بلفظ: صم مكانه يوما إن شئت، فعلق القضاء على المشيئة وهذا ليس من شأن الواجب.
2096-(2) وعن أنس، قال: ((دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سليم فأتته بتمر وسمن، فقال: أعيدوا سمنكم في سقاءه، وتمركم في وعائه، فإني صائم. ثم قام إلى ناحية من البيت فصلى غير المكتوبة فدعا لأم سليم وأهل بيتها)). رواه البخاري.
واحتجوا أيضا بالقياس على الحج والعمرة النفلين حيث يجب قضاءهما إذا أفسدا اتفاقا. وأجيب عنه بأن الحج امتاز بأحكام لا يقاس غيره عليه فيها، فمن ذلك إن الحج يؤمر مفسده بالمضي في فاسده، والصيام لا يؤمر مفسده بالمضي فيه فافترقا، ولأنه قياس في مقابلة النص فلا يعتد به (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والشافعي وابن حبان والطيالسي والدارقطني (ص236) والطحاوي (ج1ص355) والبيهقي (ج4ص275) وغيرهم.

(14/208)


2096- قوله: (دخل النبي- صلى الله عليه وسلم - على أم سليم) هي والدة أنس المذكور واسمها الغميصاء بالغين المعجمة والصاد المهملة أو الرميصاء بالراء بدل المعجمة. وقيل: اسمها سهلة. وعند أحمد أن النبي- صلى الله عليه وسلم - دخل على أم حرام وهي خالة أنس، لكن في بقية الحديث ما يدل على أنهما كانتا مجتمعتين (فأتته) أم سليم (بتمر وسمن) أي على سبيل الضيافة (في سقاءه) بكسر السين ظرف الماء من الجلد، والجمع أسقية، وربما يجعل فيه السمن والعسل. (فإني صائم) فيه دليل على أن من صام تطوعا لا يجب عليه الإفطار إذا قرب إليه الطعام، وإن أفطر يجوز للحديث السابق. وقد ترجم البخاري لحديث أنس هذا بلفظ: باب من زار قوما فلم يفطر عندهم. قال الحافظ: أي في صوم التطوع، وهذه الترجمة تقابل الترجمة الماضية، وهي من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع وموقعها أن لا يظن إن فطر المرء من صيام التطوع لتطييب خاطر أخيه حتم عليه، بل المرجع في ذلك إلى من علم من حاله من كل منهما أنه يشق عليه الصيام فمتى عرف أنه لا يشق عليه كان الأولى أن يستمر على صومه-انتهى. قال القاري: حديث أنس هذا بظاهره يؤيد من قال إن الضيافة غير عذر، والأظهر أنها عذر، ولكنه مخير لقوله عليه الصلاة والسلام إذا دعى أحدكم إلى طعام فليجب فإن شاء طعم وإن شاء لم يطعم. رواه مسلم، وأبوداود عن جابر-انتهى. قلت: وأخرجه ابن ماجه أيضا ولفظه "من دعى إلى طعام وهو صائم فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك" (فصلى غير المكتوبة) يعني التطوع، وفي رواية أحمد عن ابن أبي عدي عن حميد عن أنس فصلى ركعتين، وصلينا معه وهذه القصة غير القصة التي رواها في البخاري باب الصلاة على الحصير حيث صرح هناك بأنه أكل وههنا لم يأكل (فدعا لأم سليم وأهل بيتها) في الحديث من الفوائد، جواز تحفة الزائر بما حضر بغير تكلف، وجواز رد الهدية إذا لم يشق ذلك على المهدي، وإن أخذ من رد عليه ذلك له ليس من العود في الهبة،

(14/209)


2097-(3) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعى أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل: إني صائم)).
2098-(4) وفي رواية، قال: ((إذا دعى أحدكم فليجب، فإن كان صائما فليصل، وإن كان مفطرا فليطعم)). رواه مسلم.
وفيه حفظ الطعام وترك التفريط فيه، وجبر خاطر المزور إذا لم يؤكل عنده بالدعاء له، ومشروعية الدعاء عقب الصلاة، وتقديم الصلاة أمام طلب الحاجة وزيارة الإمام بعض رعيته (رواه البخاري) في الصيام وفي الدعوات وهو من أفراده وأخرجه أيضا أحمد (ج3ص108، 188).
2097- قوله: (إذا دعى أحدكم إلى طعام) عرسا كان أو نحوه (وهو صائم) نفلا أو قضاء أو نذرا (فليقل إني صائم) أي اعتذارا للداعي وإعلاما بحاله فإن سمح له ولم يطالبه بالحضور فله التخلف، وإلا حضر الدعوة، وليس الصوم عذرا في التخلف، لكن إذا حضر لا يلزمه الأكل ويكون الصوم عذرا في ترك الأكل إلا أن يشق على صاحب الطعام ترك إفطاره، فيستحب له حينئذ الفطر وإلا فلا هذا إذا كان صوم تطوع فإن كان صوما واجبا حرم الفطر، وفي الحديث أنه لا بأس بإظهار العبادة النافلة كالصلاة والصوم وغيرهما إذا دعت إليه حاجة، والمستحب إخفاءها إذا لم تكن حاجة، وفيه الإرشاد إلى حسن المعاشرة وإصلاح ذات البين وتأليف القلوب بحسن الإعتذار عند سببه.

(14/210)


2098- قوله: (إذا دعى أحدكم) أي إلى طعام عرسا كان أو غيره (فليجب) أي فليحضر الدعوة. قيل: وجوبا. وقيل: ندبا. وقيل: وجوبا في وليمة العرس، وندبا في غيرها. قال: بالأول الظاهرية. وبالثاني، المالكية والحنابلة والحنفية. وبالثالث الشافعية. (فإن كان صائما فليصل) بضم المثناة التحتية وفتح الصاد المهملة وتشديد اللام المكسورة أي فليدع لأهل الطعام بالبركة كما في حديث ابن مسعود. عند الطبراني، وإن كان صائما فليدع بالبركة، وقد روى إن أبي بن كعب لما حضر الوليمة وهو صائم أثنى ودعا، وعند أبي عوانة عن نافع كان ابن عمر إذا دعى أجاب فإن كان مفطرا أكل، وإن كان صائما دعا لهم وبرك، ثم انصرف. وحمله الطيبي على ظاهره فقال أي ركعتين في ناحية البيت (ليحصل له فضلها وليتبرك أهل المنزل والحاضرون) كما فعل النبي- صلى الله عليه وسلم - في بيت أم سليم-انتهى. قال القاري: ظاهر حديث أم سليم أن يجمع بين الصلاة والدعاء-انتهى. والجمع بين هذه الرواية وبين الرواية الأولى أنه يعتذر المدعو أولا فيقول إني صائم فإن أبى فليحضر وليدع له بالبركة، ويداوم على صومه إن لم يتأذ الداعي بترك أكله ولم يشق عليه صومه، وإلا فيفطر،
?الفصل الثاني?
2099-(5) وعن أم هانىء، قالت: ((لما كان يوم الفتح فتح مكة، جاءت فاطمة فجلست على يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم هانىء عن يمينه، فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب، فناولته، فشرب منه، ثم ناوله أم هانىء فشربت منه، فقالت: يا رسول الله ! لقد أفطرت وكنت صائمة، فقال لها: أكنت تقضين شيئا؟ قالت: لا، قال: فلا يضرك إن كان تطوعا)). رواه أبوداود، والترمذي، والدارمي.

(14/211)


ومما يدل على عدم لزوم الأكل للصائم عند الإجابة ما ذكرنا من حديث جابر عند ابن ماجه بلفظ: من دعى على طعام وهو صائم فليجب فإن شاء طعم وإن شاء ترك (وإن كان مفطرا فليطعم) أي فليأكل ندبا. وقيل: وجوبا إن خاف المعاداة (رواه مسلم) الرواية الأولى أخرجها مسلم في الصوم من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة وأخرجها من هذا الوجه أحمد (ج2ص242) والترمذي وأبوداود وابن ماجه والدارمي أيضا، والرواية الثانية أخرجها مسلم في النكاح من رواية هشام عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة وأخرجها أحمد (ج2ص279) والترمذي وأبوداود، وهذا ظاهر في أنهما حديثان لا حديث واحد له روايتان فكان الأولى للمصنف أن يصدر الحديث الثاني بلفظه وعنه والله أعلم.

(14/212)


2099- قوله: (عن أم هانىء) بهمزة بعد نون مكسورة بنت أبي طالب (لما كان يوم الفتح) أي زمن الفتح أو عام الفتح (فتح مكة) بالجر بدل أو بيان (جاءت فاطمة) بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (وأم هانىء عن يمينه) وفي رواية لأحمد، وجاءت أم هانىء فقعدت عن يمينه. قال الطيبي: قوله "وأم هانىء عن يمينه" إما حال أي جاءت فاطمة وجلست على يساره، والحال إن أم هانىء عن يمينه. وإما عطف على تقديره وجاءت أم هانىء فجلست عن يمينه، وعلى التقديرين الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، لأن الظاهر أن يقال وأنا جالسة عن يمينه أو جلست عن يمينه، فأما أن يحمل على التجريد كأنها تحكي عن نفسها بذلك، أو إن الراوي وضع كلامه مكان كلامها يعني به أنه نقله بالمعنى (فجاءت الوليدة) أي الأمة ولم أقف على تسميتها (بإناء فيه شراب) أي من ماء فإنه المراد عند الإطلاق (فناولته) أي الجارية والضمير المنصوب له عليه الصلاة والسلام، والمفعول الثاني مقدر وهو الإناء (ثم ناوله) أي الإناء (أم هانىء) إما لكونها عن اليمين أو لكبر سنها (لقد أفطرت وكنت) الواو للحال (صائمة) أي فما الحكم في إفطاري، وإنما لم تسأل قبل تناولها إيثار لسؤره - صلى الله عليه وسلم - على صوم التطوع أو خوفا عن فوت سؤره،

(14/213)


وفي رواية لأحمد (ج6ص424) ثم قالت (أي بعد شربها فضله صلى الله عليه وسلم) يا رسول الله لقد فعلت شيئا ما أدري يوافقك أم لا، قال وما ذاك يا أم هانىء قالت: كنت صائمة فكرهت أن أرد فضلك فشربته (أكنت تقضين) أي بهذا الصوم (شيئا) أي من الواجبات عليك (فلا يضرك) أي الإفطار، وفي رواية لأحمد فلا بأس عليك (إن كان) أي صومك (تطوعا) وهو للتأكيد لأن المتطوع له أن يفطر ولو بلا عذر. قال الخطابي: في هذا بيان أن القضاء غير واجب إذا أفطر في تطوع، يعني لأنه لم يذكر فيه القضاء، والأصل عدمه، ولو كان القضاء واجبا لبينه لها مع حاجتها على البيان كذا قيل. وقد تقدم أنه وقع في رواية أحمد والنسائي والدارقطني والدارمي والطحاوي والبيهقي التصريح منه - صلى الله عليه وسلم -بالتخيير في القضاء في صوم التطوع. قال الترمذي بعد رواية حديث الباب: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أن الصائم المتطوع إذا أفطر فلا قضاء عليه، إلا أن يحب أن يقضيه، وهو قول سفيان الثوري وأحمد وإسحاق والشافعي-انتهى. قلت: وهو مذهب مجاهد وطاؤس وهو قول ابن عباس، وروى عن سلمان وأبي الدرداء وغيرهم (رواه أبوداود والترمذي والدارمي) أخرجه أبوداود والدارمي من طريق من جرير بن عبدالحميد عن يزيد بن أبي زياد عن عبدالله ابن الحارث عن أم هانىء، ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي (ج4ص277) وأخرجه الترمذي من طريق أبي الأحوص عن سماك بن حرب عن أم هانىء، والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج6ص342- 343- 424) والنسائي في الكبرى والدارقطني (ص235) والطحاوي (ج1ص353- 354) والبيهقي (ج4ص276، 278، 279) والطبراني وسعيد بن منصور والأثرم وللحديث طرق وألفاظ عندهم. وقد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري: في إسناده مقال، ولا يثبت، وفي إسناده اختلاف كثير أشار إليه النسائي. وقال الترمذي: في إسناده مقال-انتهى. وحاصل ما ذكروه من الاضطراب في إسناده إنه

(14/214)


اختلف على سماك بن حرب فيه، فإنه رواه تارة عن أبي صالح، وتارة عن جعدة، وتارة عن هارون. أما أبوصالح فهو باذان، ويقال باذام، ضعفوه. قال البيهقي: ضعيف لا يحتج بخبره، وفي السنن الكبرى للنسائي هو ضعيف الحديث وقال أبوأحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف مدلس. قلت: قد وثقه العجلي. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين ليس به بأس. وقال ابن المديني. عن القطان: لم أر أحدا من أصحابنا تركه وما سمعنا أحدا من الناس يقول فيه شيئا،
وفي رواية لأحمد، والترمذي نحوه، وفيه.

(14/215)


ولما قال عبدالحق في أحكامه إن أبا صالح ضعيف جدا أنكر عليه ذلك ابن القطان في كتابه كذا في تهذيب التهذيب (ج1ص416- 417) قالوا: وأما جعدة فمجهول، قال البخاري في تاريخه: لا يعرف إلا بحديث فيه نظر. وقال النسائي: لم يسمعه جعدة من أم هانىء بل سمعه من أبي صالح مولى أم هانىء وأهله عن أم هانىء. قلت: ذكر جعدة هذا ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، ونقل عن أبيه أنه قال هو شيخ وقال الحافظ في التقريب: جعدة المخزومي من ولد أم هانىء. قيل: هو ابن يحيى بن جعدة بن هبيرة وهو مقبول-انتهى. قالوا: وأما هارون فمجهول الحال قاله ابن القطان: واختلف في نسبة فقيل ابن أم هانىء، وقيل ابن ابن أم هانىء، وقيل ابن ابنة أم هانىء، وقيل هذا وهم لأنه لا يعرف لها بنت. وقال النسائي: اختلف على سماك فيه وسماك لا يعتمد عليه إذا انفرد بالحديث. قلت: سماك بن حرب هذا ضعفه الثوري وابن المبارك وشعبة. وقال ابن حبان: في الثقات يخطىء كثيرا. وقال يعقوب: روايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وهو في غير عكرمة صالح، وليس من المثبتين ومن سمع منه قديما مثل شعبة وسفيان فحديثهم عنه صحيح مستقيم، والذي قاله ابن المبارك إنما نرى أنه فيمن سمع منه بآخره أي لأنه كان قد تغير قبل موته وعليه يحمل كلام النسائي المتقدم وقد وثقه ابن معين وأبوحاتم. وقال العجلي: جائز الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس، وفي حديثه شيء. وقال ابن عدي: أحاديثه حسان وهو صدوق لا بأس به. وقال الحافظ في التقريب: صدوق وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وقد تغير بآخره فكان ربما يلقن-انتهى. تنبيه قال الحافظ في التلخيص (ص197): ومما يدل على غلط سماك فيه أنه قال في الرواية المذكورة إن ذلك كان يوم الفتح، ويوم الفتح كان في رمضان فكيف يتصور قضاء رمضان في رمضان-انتهى. وقال غيره: ومما يوهن هذا الخبر أنها أسلمت يوم الفتح فلا يجوز لها أن تكون متطوعة لأنها كانت في شهر رمضان قطعا. وقال الذهبي: قد غلط

(14/216)


سماك في هذا الحديث لأن يوم الفتح كان في رمضان فكيف يتصور أن تكون صائمة قضاء أو تطوعا كذا ذكره الشوكاني والعيني (ج11ص79) وابن التركماني (ج4ص278) وصاحب بذل المجهود. ثم رد عليه صاحب البذل فقال هذا الاستدلال في توهين الحديث فاسد، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في فتح مكة من المدينة لعاشر رمضان، وكان الفتح لعشرين من رمضان، وأقام بمكة خمس عشرة ليلة بعد الفتح، ثم خرج إلى حنين لعاشر شوال صرح بهذا أهل التاريخ، فظهر بهذا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة بعد رمضان عدة أيام فعلى هذا ما وقع في الحديث من قولها لما كان يوم فتح مكة يشمل جميع الأيام التي أقام بمكة فيها زمن الفتح كما هو ظاهر، وليس المراد من يوم فتح مكة اليوم الخاص الذي كان يوم الفتح-انتهى. (وفي رواية لأحمد والترمذي نحوه) بالرفع أي معناه (وفيه) أي في الحديث الذي نحوه (أما) بالتخفيف للتنبيه (الصائم) أريد به الجنس (المتطوع) احتراز من المفترض أداء وقضاء (أمير نفسه)
فقالت: ((يا رسول الله ! أما إني كنت صائمة فقال: الصائم المتطوع أمير على نفسه. إن شاء صام، وإن شاء أفطر)).
2100-(6) وعن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: ((كنت أنا وحفصة صائمتين، فعرض لنا طعام اشتهيناه، فأكلنا منه، فقالت حفصة: يا رسول الله ! إنا كنا صائمتين، فعرض لنا طعام اشتهيناه، فأكلنا منه. قال: أقضيا يوما آخر مكانه)). رواه الترمذي. وذكر جماعة من الحفاظ رووا عن الزهري عن عائشة مرسلا، ولم يذكروا فيه عن عروة، وهذا أصح.

(14/217)


أي أمير لنفسه بعد دخوله في الصوم، وهذا لفظ أحمد (ج6ص341، 343) وكذا وقع في رواية للبيهقي ولفظ الترمذي أمين نفسه بالنون بدلا من الراء. قال في المجمع: معناه إنه إذا كان أمين نفسه فله أن يتصرف في أمانة نفسه على ما يشاء، وفي رواية للترمذي أمبير أو أمين نفسه بالشك، وكذا وقع عند الدارقطني (ص235) والبيهقي (ج4ص276) وفي رواية لأحمد (ج6ص424) والدارقطني والبيهقي المتطوع بالخيار إن شاء صام وإن شاء أفطر (إن شاء صام) أي أتم صومه (وإن شاء أفطر) إما بعذر، أو بغيره ويفهم منه أن الصائم غير المتطوع لا تخيير له لأنه مأمور مجبور عليه، وهذه الرواية أخرجها أحمد والترمذي وكذا الدارقطني والبيهقي من طريق شعبة عن جعدة عن أم هانىء وأخرجها أيضا الدارقطني والبيهقي من طريق سماك عن أبي صالح عن أم هانىء.

(14/218)


2100- قوله: (كنت أنا وحفصة) بالرفع (صائمتين) أي متطوعتين كما في رواية الموطأ والبيهقي وابن حبان (فعرض لنا طعام) بصيغة المجهول أي عرضه لنا أحد بطريق الهدية وفي رواة الموطأ والبيهقي فاهدي لنا طعام (أقضيا يوما آخر مكانه) أي بدله، وفي رواية أبي داود لا عليكما صوما مكانه يوما آخر، وقد استدل به على أن من أفطر في التطوع يلزمه القضاء مكانه، لكن الحديث ضعيف كما ستعرف، وعلى تقدير الصحة فيحمل الأمر بالقضاء على الندب للجمع بينه وبين حديث أم هانىء. قال الخطابي في المعالم (ج2ص13) لو ثبت الحديث أشبه أن يكون إنما أمرهما بذلك استحبابا لأن بدل الشيء في أكثر أحكام الأصول يحل محل أصله وهو في الأصل مخير فكذلك في البدل-انتهى. (رواه الترمذي) وكذا أحمد والنسائي والبيهقي (ج4ص280) كلهم من رواية جعفر بن برقان عن الزهري عن عروة عن عائشة متصلا (وذكر) أي الترمذي (جماعة من الحفاظ) أنهم (رووا عن الزهري عن عائشة مرسلا) أي منقطعا لأن الزهري لم يدركها فالمرسل في قول الترمذي هذا بمعنى المنقطع وهذه الرواية المنقطعة عند عبدالرزاق في مصنفه، ومالك في موطأه، والطحاوي والبيهقي وغيرهم.

(14/219)


(ولم يذكوا) أي جماعة الحفاظ (فيه) أي في إسناد الحديث (عن عروة) بين الزهري وعائشة (وهذا) أي كونه مرسلا (أصح) قلت أعل الترمذي هذا الحديث بأن الزهري لم يسمعه من عروة، فقال ورواه محمد بن أبي حفصة وصالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن عروة عن عائشة مثل هذا. وروى مالك بن أنس ومعمر وعبيد الله ابن عمر وزياد بن سعد وغير واحد من الحفاظ (كيونس بن يزيد وابن جريج ويحيى بن سعيد وابن عيينة ومحمد ابن الوليد الزبيدي وبكر بن وائل) عن الزهري عن عائشة مرسلا، ولم يذكروا فيه عن عروة، وهذا أصح لأمنه روى عن ابن جريج قال سألت الزهري فقلت أحدثك عروة عن عائشة قال لم أسمع من عروة في هذا شيئا، ولكن سمعت في خلافة سليمان بن عبدالملك من ناس عن بعض من سأل عن عائشة عن هذا الحديث، ثم أسنده كذلك. وقال ابن عيينة: في روايته سئل الزهري عنه أهو عن عروة فقال: لا، وقال أبوبكر الحميدي: أخبرني غير واحد عن معمر أنه قال في هذا الحديث لو كان من حديث عروة ما نسيته. قال البيهقي: فهذان ابن جريج وابن عيينة شهدا على الزهري وهما شاهدا عدل، بأنه لم يسمعه من عروة فكيف يصح وصل من وصله. وقال الترمذي في العلل: سألت البخاري عن هذا الحديث فقال لا يصح حديث الزهري عن عروة عن عائشة في هذا قال وجعفر ابن برقان ثقة، وربما يخطىء في الشيء، وكذا قال محمد بن يحيى الذهلي لا يصح عن عروة، واحتج بحكاية ابن جريج وابن عيينة وبإرسال من أرسل الحديث عن الزهري من الأئمة. وقال النسائي في سننه الكبرى: بعد أن رواه موصولا هذا خطأ. وقال الخلال: اتفق الثقات على إرساله وشذ من وصله وتوارد الحفاظ على الحكم بضعف حديث عائشة هذا، وقد رواه من لا يوثق به عن مالك موصولا ذكره الدارقطني في غرائب مالك. قلت: رواه ابن عبدالبر من طريق عبدالعزيز بن يحيى عن مالك موصولا. وقال لا يصح عن مالك غلا المرسل-انتهى. ورواه أيضا متصلا عن الزهري وسفيان بن حسين وصالح بن كيسان وحجاج

(14/220)


بن أرطاة وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة وعبيد الله بن عمر ويحيى بن سعيد كلهم عن الزهري عن عروة عن عائشة. أما حديث صالح بن أبي الأخضر فأخرجه البيهقي (ج4ص280) من رواية ابن عيينة عنه عن الزهري، ثم حكى البيهقي عن ابن عيينة أنه قال فسألوا الزهري وأنا شاهد فقالوا هو عن عروة قال لا، وقال ابن عبدالبر صالح ابن أبي الأخضر في حديثه خطأ كثير. وقال في التقريب: ضعيف يعتبر به. وقال ابن حبان: يروي عن الزهري أشياء مقلوبة. وأما حديث ابن أرطاة وعبيد الله بن عمر ويحيى بن سعيد فأخرجه ابن عبدالبر من طريق أبي خالد الأحمر عنهم، وأبوخالد هذا هو سليمان بن حيان الأزدي صدوق يغلط ويخطىء لسوء حفظه، وحجاج بن أرطاة صدوق كثير الخطأ والتدليس وجعفر بن برقان وسفيان بن حسين ليسا في حديث الزهري بشيء، ومحمد بن أبي حفصة صدوق، لكنه يخطىء، ومدار حديث صالح بن كيسان على يحيى بن أيوب وهو صدوق، وربما أخطأ.
ورواه أبوداود، عن زميل مولى عروة، عن عروة عن عائشة.
2101-(7) وعن أم عمارة بنت كعب، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها، فدعت له بطعام،

(14/221)


وقد ظهر بهذا كله إن رواية من رواه عن الزهري موصولا لا توازي رواية الثقات الحفاظ الذين رووه منقطعا، ولذلك توارد الأئمة الحفاظ على الحكم بضعف حديث عائشة هذا كما تقدم عن الخلال. فإن قلت رواه النسائي وابن حبان في صحيحه والطحاوي (ج1ص355) وابن حزم في المحلة (ج6ص270) من حديث جرير بن حازم عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة كذلك، وهذا سند جيد وهو يقوي رواية من رواه عن الزهري متصلا. قلت: قال البيهقي: جرير ابن حازم وإن كان من الثقات فهو واهم فيه، وقد خطأه في ذلك أحمد بن حنبل وعلي بن المديني. والمحفوظ عن يحيى بن سعيد عن الزهري عن عائشة مرسلا، ثم أسنده كذلك عن أحمد وابن المديني. وللحديث شواهد من حديث ابن عباس عند النسائي والطبراني، وفيه خصيف وهو صدوق سيء الحفظ خلط بآخره رواه عن عكرمة عنه قال النسائي وابن عبدالبر: هذا الحديث منكر، وقد أخرجه ابن أبي شيبة من طريق خصيف عن سعيد بن جبير مرسلا. ومن حديث ابن عمر عند البزار والطبراني، وفيه حماد بن الوليد وهو لين الحديث. ومن حديث أبي هريرة عند الطبراني والعقيلي في الضعفاء وفيه محمد بن أبي سلمة المكي. قال الهيثمي وقد ضعف بهذا الحديث. (ورواه أبوداود) وكذا النسائي والبيهقي (ج4ص281) كلهم من حديث يزيد بن الهاد (عن زميل) بالتصغير ابن عباس المدني الأسدي قال مهنا عن أحمد لا أدري من هو. وقال الخطابي والحافظ في التقريب: مجهول. وقال النسائي: ليس بالمشهور. وذكره ابن حبان في الثقات وهذا على ما اصطلح من ذكر المستورين في ثقاته (مولى عروة عن عروة عن عائشة) قال ابن عدي: هذا الحديث يعرف بزميل هذا وإسناده لا بأس به. وقال الحافظ في الفتح: ضعفه أحمد والبخاري والنسائي بجهالة حال زميل. وقال الخطابي: إسناده ضعيف وزميل مجهول، ولو ثبت الحديث أشبه أن يكون إنما أمرهما بالقضاء استحبابا-انتهى. وبهذا يجمع بين الأحاديث الواردة في هذا الباب.

(14/222)


2101- قوله: (وعن أم عمارة) بضم العين المهملة وتخفيف الميم واسمها نسيبة بفتح النون (بنت كعب) ابن عمرو الأنصارية النجارية غلبت عليها كنيتها، وهي والدة عبدالله بن زيد بن عاصم المازني صحابية مشهورة شهدت أحدا هي وابنها وزوجها زيد بن عاصم، وشهدت بيعة الرضوان واليمامة وقطعت يدها فيها. قال ابن عبدالبر: شهدت بيعة العقبة وشهدت أحدا مع زوجها زيد بن عاصم وولدها منه في قول ابن إسحاق، وشهدت بيعة الرضوان ثم شهدت قتال مسيلمة باليمامة وجرحت يومئذ اثنتى عشرة جراحة من بين طعنة وضربة وقطعت يدها.
فقال لها: كلي فقالت إني صائمة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الصائم إذا أكل عنده، صلت عليه الملائكة حتى يفرغوا)). رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي.
?الفصل الثالث?
2102-(8) عن بريدة، قال: دخل بلال على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتغدى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الغداء يا بلال! قال: إني صائم يا رسول الله ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نأكل رزقنا، وفضل رزق بلال في الجنة،

(14/223)


وذكر ابن هشام من طريق أم سعد بنت سعد بن الربيع قالت دخلت على أم عمارة فقلت حدثيني خبرك يوم أحد فقالت خرجت أول النهار ومعي سقاء فيه ماء فانتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وهو في أصحابه والريح والدولة للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعلت أباشر القتال وأذب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسيف وأرمي بالقوس حتى خلصت إلى الجراحة قالت فرأيت على عاتقها جرحا له غورا جوف فقلت من أصابك بهذا، قالت ابن قمئة، وأخرج الواقدي عن عمر قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما التفت يوم أحد يمينا وشمالا إلا وأراها تقاتل دوني وروى أنها قتلت يومئذ فارسا من المشركين (فدعت) أي طلبت (له بطعام) وفي رواية لأحمد فقربت إليه طعاما، وللترمذي فقدمت (إن الصائم إذا أكل) بالبناء المفعول (عنده) أي نهارا بحضرته. وفي رواية للترمذي إذا أكل عنده المفاطير بفتح الميم جمع المفطر أي المفطرون (صلت عليه الملائكة) أي استغفرت ودعت له الملائكة بما صبر مع وجود المرغب (حتى يفرغوا) أي الآكلون من أكل الطعام عنده لأن حضور الطعام عنده يهيج شهوته للأكل فلما كف شهوته وحبس نفسه امتثالا لأمر الشارع استغفرت له الملائكة وعظم له الأجر، وفي الحديث ترغيب الصائمين في أكل المفطرين عنده (رواه أحمد) (ج6ص365) (والترمذي) وصححه (وابن ماجه والدارمي) واللفظ لأحمد والدارمي، ولفظ الترمذي إن الصائم تصلي عليه الملائكة إذا أكل عنده حتى يفرغوا. وربما قال حتى يشبعوا، والحديث أخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والنسائي في الكبرى والبيهقي في شعب الإيمان.

(14/224)


2102- قوله: (وعن بريدة) بالتصغير (وهو يتغدى) أي يأكل الغداء وهو طعام أول النهار (الغداء) بالنصب لفعل مقدر أي أحضر الغداء أوائته أو بالرفع على الابتداء أي حاضر (نأكل رزقنا) أي رزق الله الذي أعطانا الآن هكذا في جميع النسخ من المشكاة رزقنا،
أشعرت يا بلال أن الصائم يسبح عظامه، ويستغفر له الملائكة ما أكل عنده)). رواه البيهقي "في شعب الإيمان".
(8)باب ليلة القدر
وفي ابن ماجه أرزاقنا وكذا نقله المنذري في الترغيب وعزاه لابن ماجه والبيهقي (وفضل رزق بلال) مبتدأ أي الرزق الفاضل على ما نأكل (في الجنة) أي جزاء له على صومه المانع من أكله. قال الطيبي: الظاهر أن يقال ورزق بلال في الجنة إلا أنه ذكر لفظ فضل تنبيها على أن رزقه الذي هو بدل من هذا الرزق زائد عليه، ودل على آخر كلامه على أن أمره الأول لم يكن للوجوب-انتهى. ثم زاد عليه الصلاة والسلام في ترغيب بلال في الصوم بقوله (أشعرت) أي أما علمت (عظامه) لا مانع من حمله على حقيقته، وإن الله تعالى بفضله يكتب له ثواب ذلك التسبيح. (ويستغفر له الملائكة) وفي بعض النسخ بتأنيث الفعلين كما في ابن ماجه والترغيب للمنذري. (ما أكل) ظرف ليسبح ويستغفر (عنده) أي ما دام يؤكل عند الصائم جزاء على صبره حال جوعه (رواه البيهقي في شعب الإيمان) وكذا ابن ماجه كلاهما من رواية بقية حدثنا محمد بن عبدالرحمن عن سليمان بن بريدة عن أبيه. قال المنذري: ومحمد بن عبدالرحمن هذا مجهول. وبقية مدلس، وتصريحه بالتحديث لا يفيد مع الجهالة-انتهى. وقال البوصيري في الزوائد على ما نقله السندي في حاشية ابن ماجه في إسناده: محمد بن عبدالرحمن متفق على تضعيفه، وكذبه أبوحاتم والأزدي-انتهى. قلت: الذي كذبه أبوحاتم والأزدي هو محمد بن عبدالرحمن المقدسي الذي سكن بيت المقدس. وأما شيخ بقية فقال أبوحاتم والأزدي مجهول، وزاد الأزدي منكر الحديث، وفرق بينه وبين الشيخ المقدسي. وقال الذهبي في الميزان (ج3ص89)

(14/225)


محمد بن عبدالرحمن البيروتي عن سليمان بن بريدة وعنه بقية لا يدري من هو-انتهى. والحديث يؤيده حديث أم عمارة السابق وحديث ابن عباس مرفوعا بلفظ: إن الرجل الصائم إذا جالس القوم وهم يطعمون صلت عليه الملائكة حتى يفطر الصائم رواه الطبراني في الأوسط وفيه أبان بن أبي عياش وهو متروك كذا في مجمع الزوائد (ج3ص201).
(باب ليلة القدر) بفتح القاف وإسكان الدال أي باب فضلها وبيان أرجى أوقاتها، واختلف في وجه تسميتها بذلك. فقيل لعظم قدرها وشرفها، فالقدر بمعنى التعظيم كقوله تعالى: ?وما قدروا الله حق قدره? [الأنعام: 91] والمعنى أنها ذات قدر عظيم لنزول القرآن فيها ووصفها بأنها خير من ألف شهر، أو لما يقع فيها من تنزل الملائكة، أو لما ينزل فيها من البركة والرحمة والمغفرة، أو لما يحصل لمحييها بالعبادة من القدر الجسيم، أو لأن الطاعات لها قدر زائد فيها. وقيل القدر،هنا بمعنى التضييق كقوله تعالى: ?ومن قدر عليه رزقه? [الطلاق: 7] ومعنى التضييق، فيها إخفاءها عن العلم بتعيينها أو لأن الأرض تضيق فيها عن الملائكة.

(14/226)


وقيل القدر هنا بمعنى القدر بفتح الدال الذي هو مؤاخى القضاء، والمعنى أنه يقدر فيها أحكام تلك السنة لقوله تعالى: ?فيها يفرق كل أمر حكيم? [الدخان: 4] وبه صدر النووي كلامه فقال قال العلماء: سميت ليلة القدر لما يكتب فيها الملائكة من الأقدار التي تكون في تلك السنة لقوله تعالى: ?فيها يفرق كل أمر حكيم? وتقدير الله تعالى سابق فهي ليلة إظهار الله تعالى ذلك التقدير للملائكة. وقال التوربشتي: إنما جاء القدر بتسكين الدال وإن كان الشائع في القدر الذي هو مؤاخى القضاء وقرينه فتح الدال ليعلم أنه لم يرد به ذلك فإن القضاء سبق الزمان. وإنما أريد به تفصيل ما جرى به القضاء وتبيينه، وتحديده في المدة التي بعدها إلى مثلها من القابل ليحصل ما يلقي إليهم فيها مقدار بمقدار. ثم الجمهور على أنها مختصة بهذه الأمة ولم تكن لمن قبلهم. قال الحافظ: وجزم به ابن حبيب وغيره من المالكية (كالباجي وابن عبدالبر) ونقله الجمهور صاحب العدة من الشافعية ورجحه. وقال النووي إنه الصحيح المشهور الذي قطع به أصحابنا كلهم وجماهير العلماء. قال الحافظ: وهو معترض بحديث أبي ذر عند النسائي حيث قال فيه قلت يا رسول الله ! أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت قال لا، بل هي باقية وعمدتهم قول مالك في الموطأ، بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقاصر أعمار أمته من أعمار الأمم الماضية فأعطاه الله ليلة القدر، وهذا يحتمل التأويل فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر-انتهى. قلت: حديث أبي ذر ذكره ابن قدامة (ج3ص179) من غير أن يعزوه لأحد بلفظ: قال قلت يا رسول الله ليلة القدر رفعت مع الأنبياء أو هي باقية إلى يوم القيامة قال باقية إلى يوم القيامة-الحديث. وأخرجه البزار بنحوه كما في مجمع الزوائد (ج3ص177) ورواه البيهقي (ج4ص307) بلفظ: قلت يا نبي الله أتكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبضت الأنبياء ورفعوا رفعت معهم أو هي إلى يوم القيامة قال لا، بل هي إلى يوم

(14/227)


القيامة. وأما أثر الموطأ فقال مالك فيه إنه سمع من يثق به من أهل العلم يقول إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرى أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر.قال ابن عبدالبر: هذا أحد الأحاديث التي أنفرد بها مالك لا يوجد مسندا ولا مرسلا فيما علمت إلا من الموطأ، وهذا أحد الأحاديث الأربعة التي لا توجد مسندة ولا مرسلة من إرسال تابعي ثقة قال، وليس منها حديث منكر ولا ما يدفعه أصل-انتهى. قلت: وأثر الموطأ المذكور يدل على أن إعطاء ليلة القدر كان تسلية لهذه الأمة القصيرة الأعمار ويشهد لذلك روايات أخرى مرسلة ذكرها العيني في العمدة (ج11ص129، 130) والسيوطي في الدر والقسطلاني (ج5ص7، 8) وقد اختلف العلماء في تعيينها على أقوال كثيرة بلغها الحافظ في الفتح إلى أكثر من أربعين قولا وأكثرها يتداخل وفي الحقيقة يقرب من خمسة وعشرين نقتصر منها على ذكر الأقوال المشهورة سيما ما نسب إلى الأئمة الأربعة.

(14/228)


فقيل إنها ممكنة في جميع السنة. قال الحافظ: وهو قول مشهور عن الحنفية حكاه قاضي خان وأبوبكر الرازي منهم، وروى مثله عن ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وغيرهم وزيف المهلب هذا القول. قال الحافظ: ومأخذ ابن مسعود كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي بن كعب أنه أراد أن لا يتكل الناس-انتهى. وقال الزرقاني: كونها في جميع السنة قول مشهور للمالكية والحنفية، وجزم ابن الحاجب كونها مختصة برمضان رواية عن مالك-انتهى. وقال في الشرح الكبير للدردير: وفي كونها دائرة بالعام كله أو برمضان خاصة خلاف، وانتقلت على كل من القولين فلا تختص بليلة معينة في العام معينة في العام على الأول ولا في رمضان على الثاني، وقيل تختص بالعشر الأواخر من رمضان وتنتقل أيضا. قال الدسوقي: قوله "في كونها دائرة بالعام" هو ما صححه في المقدمات حيث قال وإلى هذا ذهب مالك وأكثر أهل العلم وهو أولى الأقاويل، وقوله أو دائرة في رمضان هو الذي شهره ابن غلاب-انتهى. وقال ابن عابدين: ذكر في البحر عن الخانية أن المشهور عن الإمام (أبي حنيفة) أنها تدور في السنة كلها قد تكون في رمضان، وقد تكون في غيره، وكونها في رمضان خاصة هو قول له-انتهى. قال الشوكاني: القول بأنها ممكنة في جميع السنة مردود بكثير من الأحاديث المصرحة باختصاصها برمضان وقيل إنها مختصة برمضان ممكنة في جميع لياليه. قال الحافظ: وهو قول ابن عمر رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عنه وروى مرفوعا عنه أخرجه أبوداود وفي شرح الهداية الجزم به عن أبي حنيفة. وقال ابن المنذر والمحاملي وبعض الشافعية، ورجحه السبكي في شرح المنهاج وحكاه ابن الحاجب رواية-انتهى. قلت وهو مقتضى كلام الحنابلة. قال ابن قدامة (ج3ص179) يستحب طلبها في جميع ليالي رمضان، وفي العشر الأواخر آكد وفي ليالي الوتر منه آكد، وقال أحمد هي في العشر الأواخر، وفي وتر من الليالي لا يخطىء إنشاء الله-انتهى. ومقتضاه الاختصاص بالعشر الأواخر. وقيل إنها

(14/229)


مختصة برمضان في ليلة معينة منه مبهمة ذهب إليه صاحبا أبي حنيفة. قال السروجي في شرح الهداية قول أبي حنيفة أنها تنتقل في جميع رمضان، وقال صاحباه أنها في ليلة معينة مبهمة، وكذا قال النسفي في المنظومة:
وليلة القدر بكل الشهر دائرة وعيناها فادر
قال في الدار المختار: ليلة القدر دائرة في رمضان اتفاقا إلا أنها تتقدم وتتأخر خلافا لهما وثمرته فيمن قال بعد ليلة منه أنت حر أو أنت طالق ليلة القدر فعنده لا يقع حتى ينسلخ شهر رمضان الآتي لجواز كونها في الأول في الأولى. وفي الآتي في الأخيرة، وقالا يقع إذا مضى مثل تلك الليلة في الآتي ولا خلاف انه لو قال قبل دخول رمضان وقع بمضيه.

(14/230)


وقيل إنها منحصرة في العشر الأخير من رمضان، واختلف القائلون به فمنهم من قال إنها في ليلة معينة منه، ومنهم من قال إنها تنتقل في العشر الأواخر كلها قاله أبوقلابة ونص عليه مالك والثوري وأحمد وإسحاق، وزعم الماوردي أنه متفق عليه وكأنه أخذه من حديث ابن عباس أن الصحابة اتفقوا على أنها في العشر الأخير، ويؤيد كونها في العشر الأخير حديث أبي سعيد إن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما اعتكف العشر الأوسط إن الذي تطلب أمامك. واختلف أصحاب القول الأول في تعيينها. فقيل إنها أول ليلة من العشر الأخير قال الحافظ: وإليه مال الشافعي وجزم به جماعة من الشافعية، ولكن قال السبكي: أنه ليس مجزوما به عندهم لاتفاقهم على عدم حنث من علق يوم العشرين عتق عبده في ليلة القدر أنه لا يعتق تلك الليلة، بل بانقضاء الشهر على الصحيح بناء على أنها في العشر الأخير. وقيل بانقضاء السنة بناء على أنها لا تختص بالعشر الأخير بل هي في رمضان وفي شرح الإقناع من فروع الشافعية هي منحصرة في العشر الأخير كما نص عليه الإمام الشافعي وعليه الجمهور، وإنها تلزم بعينها. وقال المزني وابن خزيمة: إنها منتقلة في ليالي العشر جمعا بين الأحاديث، واختاره في المجموع والمذهب الأول وميل الشافعي إلى أنها ليلة الحادي والعشرين أو الثالث والعشرين-انتهى. وقال ابن حزم (ج7ص33) ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان خاصة في ليلة واحدة بعينها لا تنتقل أبدا إلا أنها في وتر منه ولا بد فإن كان الشهر تسعا وعشرين فأول العشر الأواخر بلا شك ليلة عشرين منه، فهي إما ليلة عشرين وإما ليلة اثنين وعشرين وإما ليلة أربع وعشرين وإما ليلة ست وعشرين وإما ليلة ثمان وعشرين لأن هذه هي الأوتار من العشر الأواخر، وإن كان الشهر ثلاثين فأول العشر الأواخر بلا شك ليلة إحدى وعشرين فهي إما ليلة إحدى وعشرين وإما ليلة ثلاث وعشرين وإما ليلة خمس وعشرين وإما ليلة سبع وعشرين وإما ليلة

(14/231)


تسع وعشرين، لأن هذه هي الأوتار العشر بلا شك-انتهى. وقيل إنها ليلة اثنين وعشرين، وقيل إنها ليلة ثلاث وعشرين ودليله حديث عبداله بن أنيس الآتي. وقد ذهب إلى هذا جماعة من الصحابة والتابعين. وقيل إنها ليلة أربع وعشرين ودليله ما رواه الطيالسي عن أبي سعيد مرفوعا ليلة القدر ليلة أربع وعشرين، وما رواه أحمد من حديث بلال نحوه وفيه ابن لهيعة وروى ذلك عن ابن مسعود والشعبي والحسن وقتادة. وقيل ليلة خمس وعشرين. وقيل ليلة ست وعشرين. وقيل إنها ليلة سبع وعشرين. قال الحافظ: وهو الجادة من مذهب أحمد ورواية عن أبي حنيفة وبه جزم أبي بن كعب وحلف عليه كما أخرجه مسلم، وروى مسلم أيضا من طريق أبي حازم عن أبي هريرة قال تذاكرنا ليلة القدر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم يذكر حين طلع القمر كأنه شق جفنة. قال أبوالحسن الفارسي: أي ليلة سبع وعشرين، فإن القمر يطلع فيها بتلك الصفة، وروى الطبراني من حديث ابن مسعود سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر، فقال أيكم يذكر ليلة الصهباوات، قلت أنا وذلك ليلة سبع وعشرين، ورواه ابن أبي شيبة عن عمر وحذيفة وناس من الصحابة.

(14/232)


وفي الباب عن ابن عمر عند مسلم وأحمد عن جابر بن سمرة عند الطبراني وعن معاوية عند أبي داود وحكاه صاحب الحلية عن أكثر العلماء. وقيل: إنها ليلة ثمان وعشرين. وقيل: ليلة تسع وعشرين. وقيل: ليلة ثلاثين، واختلف أهل القول الثاني أيضا وهم الذين ذهبوا إلى أنها تنتقل في العشر الأخير كله فمنهم من قال هي فيه محتملة على حد سواء نقله الرافعي عن مالك، وضعفه ابن الحاجب. ومنهم من قال بعض لياليه أرجى من بعض: فقال الشافعي أرجاه ليلة إحدى وعشرين وقيل أرجاء ليلة ثلاث وعشرين وقيل إرجاء ليلة سبع وعشرين. وقال أبوثور المزني وابن خزيمة وجماعة من علماء المذهب: أنها في أوتار العشر الأخير وإنها تنتقل، وعليه يدل حديث عائشة الآتي وغيرها وهو. أرجح الأقوال قال الحافظ بعد ذكر الأقوال: وأرجحها كلها إنها في وتر من العشر الأخير، وإنها تنتقل كما يفهم من أحاديث هذا الباب وأرجاها أوتار العشر وأرجى أوتار العشر عند الشافعية ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين، وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين-انتهى. وقد ترجم البخاري لحديث عائشة وغيرها باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر. قال الحافظ: في هذه الترجمة إشارة إلى رجحان كون ليلة القدر منحصرة في رمضان ثم في العشر الأخير منه، ثم في أوتاره لا في ليلة منه بعينها، وهذا هو الذي يدل عليه مجموع الأخبار الواردة فيها-انتهى. والحكمة في إخفاءها على ما قال العلماء ليحصل الاجتهاد في التماسك بخلاف ما لو عينت لها ليلة لاقتصر عليها كما تقدم نحوه في ساعة الجمعة، وهذه الحكمة مطردة عند من يقول إنها في جميع السنة أو في رمضان أو في جميع العشر الأخير أو في أوتاره خاصة إلا أن الأول ثم الثاني أليق به قاله الحافظ. وقال الرازي: إنه تعالى أخفى هذه الليلة لوجوه، أحدها أنه تعالى أخفاها كما أخفى سائر الأشياء فإنه أخفى رضاه في الطاعات حتى يرغبوا في الكل ويجتهدوا في الجميع وأخفى سخطه في المعاصي

(14/233)


ليحترزوا عن الكل وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في كل الدعوات، وأخفى الاسم الأعظم ليعظموا كل الأسماء، وأخفى قبول التوبة ليواظب المكلف على جميع أقسام التوبة، وأخفى وقت الموت ليخاف المكلف فكذا أخفى هذه الليلة ليعظموا جميع ليالي رمضان وثانيها كأنه تعالى يقول لو عينت هذه الليلة وأنا أعلم بتجاسركم على المعصية فربما دعتك الشهوة في تلك الليالي إلى المعصية فوقعت في الذنب فكانت معصيتك مع علمك أشد من معصيتك لا مع علمك، يعني كأنه تعالى يقول إذا علمت ليلة القدر فإن أطعت فيها اكتسبت ثواب ألف شهر، وإن عصيت فيها اكتسبت عقاب ألف شهر، ورفع العقاب أولى من جلب الثواب. وثالثها أخفيت هذه الليلة حتى يجتهد المكلف في طلبها فيكتسب ثواب الاجتهاد ورابعها إن العبد إذا لم يتيقن فإنه يجتهد في الطاعة في جميع ليالي رمضان على رجاء أنه ربما كانت هذه الليلة هي ليلة القدر فيباهي الله تعالى بهم ملائكته ويقول كنتم تقولون فيهم يفسدون ويسفكون فهذا جده واجتهاده في الليلة المظنونة فكيف لو جعلتها معلومة-انتهى.
?الفصل الأول?
2103-(1) عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان)). رواه البخاري.
2104-(2) وعن ابن عمر، قال: ((إن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر،

(14/234)


واختلفوا هل يحصل الثواب المرتب عليها لمن اتفق له أنه قامها وإن لم يظهر له شيء أو يتوقف ذلك على كشفها له وإلى الأول ذهب الطبري والمهلب وابن العربي وجماعة وإلى الثاني ذهب الأكثر قيل، ويدل له ما وقع عند مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: من يقم ليلة القدر فيوافقها، وفي حديث عبادة عند أحمد والطبراني من قامها إيمانا واحتسابا ثم وفقت له. قال النووي: معنى يوافقها أي يعلم أنها ليلة القدر فيوافقها وقال في شرح التقريب: معنى توفيقها له أو موافقته لها أن يكون الواقع إن تلك الليلة التي قامها بقصد ليلة القدر هي ليلة القدر في نفس الأمر وإن لم يعلم هو ذلك، وما ذكر النووي من أن معنى الموافقة العلم بأنها ليلة القدر مردود، وليس في اللفظ ما يقتضي هذا ولا المعنى يساعده-انتهى. وقال الحافظ: الذي يترجح في نظري ما قاله النووي ولا أنكر حصول الثواب الجزيل لمن قام لابتغاء ليلة القدر، وإن لم يعلم بها ولم توفق له، وإنما الكلام على حصول الثواب المعين الموعود به فليتأمل، وقد فرعوا على القول باشتراط العلم بها أنه يختص بها شخص دون شخص فتكشف لواحد ولا تكشف لآخر ولو كانا معا في بيت واحد كذا ذكره القسطلاني: واختلفوا أيضا هل لها علامة تظهر لمن وفقت له أم لا وسيأتي بسط القول في ذلك في شرح حديث زر بن حبيش.

(14/235)


2103- قوله: (تحروا) بفتح التاء والحاء والراء المهملتين أمر من التحري وفي رواية التمسوا وكل منهما بمعنى الطلب والقصد لكن معنى التحري أبلغ لكونه يقتضي الطلب بالجد والاجتهاد (ليلة القدر) قال في النهاية أي تعمدوا طلبها، والتحري القصد والاجتهاد في الطلب، والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول-انتهى. (في الوتر) أي في ليالي الوتر (من العشر الأواخر من رمضان) فيه دليل على أن ليلة القدر منحصرة في رمضان، ثم في العشر الأخير منه، ثم في أوتاره لا في ليلة منه بعينها. وقد تقدم أنه القول الراجح (رواه البخاري) أخرجه أيضا مسلم لكن ليس عنده لفظ الوتر، وهكذا أخرجه أحمد والترمذي، وأخرجه مالك في الموطأ مرسلا فكان حق المصنف أن يقول متفق عليه، واللفظ للبخاري فإن قوله في الوتر لم يخرجه مسلم بل انفرد به البخاري، وأخرج البيهقي الروايتين (ج4ص307- 308).
2104- قوله: (إن رجالا من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم - ) قال الحافظ: لم أقف على تسمية أحد من هؤلاء (أروا) بضم الهمزة على بناء المفعول من الإرادة وأصله اريوا (ليلة القدر) أي أراهم الله ذلك في المنام (في السبع الأواخر) جمع آخره بكسر الخاء. قال الحافظ: أي قيل لهم في المنام إنها في السبع الأواخر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم، قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر)). متفق عليه.

(14/236)


وقال القسطلاني: ظاهر الحديث إن رؤياهم كانت قبل دخول السبع الأواخر لقوله فليتحرها في السبع الأواخر، ثم يحتمل أنهم رأوا ليلة القدر وعظمتها وأنوارها ونزول الملائكة فيها، وإن ذلك كان في ليلة من السبع الأواخر ويحتمل إن قائلا قال لهم هي في كذا وعين ليلة من السبع الأواخر ونسيت أو قال إن ليلة القدر في السبع فهي ثلاث احتمالات. (أرى) بفتحتين أي أعلم (رؤياكم) كذا جاء بالأفراد، والمراد الجمع أي رؤاكم لأنها لم تكن رؤيا واحدة، فهو مما عاقب الأفراد فيه الجمع لا من اللبس، وقول السفاقسي إن المحدثين يروونه بالتوحيد وهو جائز، وأفصح منه رؤاكم جمع رؤيا ليكون جمعا في مقابلة جمع، فيه نظر لأنه بإضافته إلى ضمير الجمع علم منه التعدد بالضرورة وإنما عبر بأرى لتجانس رؤياكم، ومفعول أرى الأول رؤياكم والثاني قوله (قد تواطأت) بالهمزة أي توافقت وزنا ومعنى. قال القاري: وفي نسخة صحيحة قد تواطت بلا همزة. قيل أصله توطأت بالهمزة فقلبت الفا وحذفت. وقال ابن التين روى بغير همز، والصواب بالهمز وأصله أن يطأ الرجل برجله مكان وطأ صاحبه. وقد رواه بعضهم بالهمزة وهو الأصل. وقال النووي: قوله "تواطت" أي توافقت وهكذا هو في النسخ بطاء ثم تاء وهو مهموز، وكان ينبغي أن يكتب بألف بين الطاء والتاء صورة للهمزة ولا بد من قراءته مهموزا. قال الله تعالى: ?ليواطئوا عدة ما حرم الله? [والتوبة: 37]-انتهى. وقال في المصابيح، يجوز ترك الهمز (في) رؤيتها في ليالي (السبع الأواخر فمن كان متحريها) أي طالبها وقاصدها (فليتحرها في السبع الأواخر) من رمضان من غير تعيين يحتمل أن يكون المراد بها أواخر الشهر أي السبع التي تلي آخر الشهر فيكون مبدأها من ليلة أربع وعشرين على كون الشهر ثلاثين وهو الأصل، ويحتمل أن يكون المراد السبع بعد العشرين. قيل: وهذا أولى وأمثل لتناوله إحدى وعشرين وثلاثا وعشرين ولتحقق هذا السبع يقينا وابتداء بخلاف الأول وإن كان بحسب

(14/237)


الظاهر هو المتبادر، ولا يدخل ليلة التاسع والعشرين على الثاني، وتدخل على الأول. وقيل: المراد بها السبع الرابع من الشهر فيكون أولها ليلة الثانية والعشرين، وآخرها ليلة الثامن والعشرين فإن الحادية والعشرين آخر السبع الثالث من الشهر، وأول السبع الرابع إنما هو الثانية والعشرون، وعلى هذا فتدخل ليلة الثالث والعشرين، ولا تدخل ليلة التاسع والعشرين. وقيل: المراد بها السبع التي أولها ليلة الثالث والعشرين لكون المحقق في الشهر تسعا وعشرين يوما. وقد رواه البخاري في كتاب التعبير من صحيحه من طريق آخر إن ناسا أروا ليلة القدر في السبع الأواخر، وإن ناسا أروا أنها في العشر الأواخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم التمسوها في السبع الأواخر.

(14/238)


قال الحافظ في الصوم: كأنه - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى المتفق عليه من الرؤيتين فأمر به، وقال في التعبير إفراد السبع داخلة في إفراد العشر فلما رأى قوم أنها في العشر وقوم أنها في السبع كانوا كأنهم توافقوا على السبع، فأمرهم بالتماسها في السبع لتوافق الطائفتين عليها، ولأنه أيسر عليهم. وقد رواه أحمد عن ابن عيينة عن الزهري عن سالم بلفظ: رأى رجل إن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين أو كذا وكذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم التمسوها في العشر البواقي في الوتر منها ولمسلم عن جبلة بن سحيم عن ابن عمر بلفظ: من كان يلتمسها فليلتمسها في العشر الأواخر، وجمع بين روايتي العشر والسبع بأن العشر للاحتياط منها، أو يحمل على تعدد الأمرين في عامين بأنه أعلم أنها في العشر. ثم اعلم أنها في السبع أو حض على العشر من به بعض القوة، وعلى السبع من لا يقدر على العشر، ويؤيد هذا ما روى أحمد من حديث علي مرفوعا إن غلبتم فلا تغلبوا في السبع البواقي، ولمسلم من طريق عقبة بن حريث عن ابن عمر التمسوها في العشر الأواخر فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي. قال الحافظ: وهذا السياق يرجح الاحتمال الأول من تفسير السبع الأواخر أي كون المراد به أواخر الشهر، وفي هذا الحديث دلالة على عظم قدر الرؤيا، وجواز الاستناد إليها في الاستدلال على الأمور الوجودية بشرط أن لا يخالف القواعد الشرعية ويستفاد منه أن توافق جماعة على رؤيا واحدة دال على صدقها وصحتها كما تستفاد قوة الخبر من التوارد على الإخبار من جماعة. قال القسطلاني: ظاهر الحديث إن طلبها في السبع مستنده الرؤيا، وهو مشكل لأنه إن كان المعنى إنه قيل لكل واحد هي في السبع فشرط التحمل التمييز، وهم كانوا نياما، وإن كان معناه إن كل واحد رأى الحوادث التي تكون فيها في منامه في السبع فلا يلزم منه أن تكون هي في السبع كما لو رؤيت حوادث القيامة في المنام في ليلة، فإنه لا تكون تلك

(14/239)


الليلة محلا لقيامها. وأجيب بأن الاستناد إلى الرؤيا إنما هو من حيث الاستدلال بها على أمر وجودي غير مخالف لقاعدة الاستدلال. والحاصل إن الاستناد إلى الرؤيا هنا في أمر ثبت استحبابه مطلقا، وهو طلب ليلة القدر. وإنما ترجح السبع الأواخر بسبب الرؤى الدالة على كونها في السبع الأواخر، وهو الاستدلال على أمر وجودي لزمه استحباب شرعي مخصوص بالتأكيد بالنسبة إلى هذه الليالي لا أنها ثبت بها حكم أو أن الاستناد إلى الرؤيا إنما هو من حيث إقراره صلى الله عليه وسلم كأحد ما قيل في رؤيا الأذان-انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصوم وفي التعبير ومسلم في الصوم، وأخرجه أيضا أحمد مطولا ومختصرا في مواضع، ومالك بلاغا مطولا ومسندا مختصرا والبيهقي (ج4ص311) مطولا وأبوداود والدارمي مختصرا.
2105-(3) وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، ليلة القدر: في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى)). رواه البخاري.

(14/240)


2105- قوله: (التمسوها) الضمير المنصوب مبهم يفسره قوله "ليلة القدر" كقوله تعالى: ?فسواهن سبع سموات? [البقرة: 29] وهو غير ضمير الشأن إذ مفسره لا بد أن يكون جملة وهذا مفرد (ليلة القدر) بالنصب على البدل من الضمير في قوله التمسوها ويجوز رفعه خبر مبتدأ محذوف أي هي ليلة القدر (في تاسعة) بدل من قوله في العشر الأواخر (تبقى) صفة لتاسعة (في سابعة تبقى في خامسة تبقى) اختلف في معناه على أقوال فقال القاري: قوله "تبقى" أي يرجى بقاءها أي بعد العشرين والظاهر أنه أراد بالتاسعة التاسعة والعشرين وبالسابعة السابعة والعشرين، وبالخامسة الخامسة والعشرين-انتهى. قال الحافظ: يرجح هذا قوله في رواية البخاري في كتاب الإيمان بلفظ التمسوها في التسع والسبع والخمس، أي في تسع وعشرين وسبع وعشرين وخمس وعشرين-انتهى. وقال الطيبي: قوله في"تاسعة" تبقى الليلة الثانية والعشرون تاسعة من الأعداد الباقية، والرابعة والعشرون سابعة منها، والسادسة والعشرون خامسة منها-انتهى. وهذا مبنى على كون الشهر ثلاثين يوما، وعلى كون العدد من آخره فتكون الليالي الثلاثة كلها إشفاعا لا أوتارا، ويكون معنى الحديث التمسوها في ليلة تاسعة من الليالي الباقية، ويؤيد هذا ما رواه مسلم وأبوداود عن أبي نضرة عن أبي سعيد التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة. قال قلت يا أبا سعيد إنكم اعلم بالعدد منا قال أجل نحن أحق بذلك منكم، قال قلت ما التاسعة والسابعة والخامسة، قال إذا مضت واحدة وعشرون فالتي تليها ثنتين وعشرين فهي التاسعة، فإذا مضى ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة، فإذا مضى خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة-انتهى. لكن هذا مخالف للأحاديث الصحيحة الدالة على كونها منحصرة في الأوتار، ومخالف لرواية نفسه أيضا كما سيأتي فلا بد من تأويله. قال السندي: هذا التفسير أي المروي عن أبي سعيد لا يناسب ما ورد من التماسها في الأوتار وكذا ما ظهر أنها كانت في تلك السنة

(14/241)


ليلة إحدى وعشرين وما سيجيء إنها في سنة ليلة ثلاث وعشرين، وما سيجيء من قول أبي أنها ليلة سبع وعشرين وهذا ظاهر: قال الأبي التاسعة لما احتملت ههنا أن تكون تاسعة ما مضى أو تاسعة ما بقي سأله، وقال أنتم أعلم بهذا العدد، ثم قال: قال في المدونة التاسعة ليلة إحدى وعشرين والسابعة ليلة ثلاث وعشرين، والخامسة ليلة خمس وعشرين، والمعنى على هذا تسع بقين أو سبع بقين وإن ذلك على اعتبار شهر رمضان ناقصا كما سيأتي. وذكر الباجي (ج2ص89) أن ابن القاسم حكى عن مالك أنه رجع عن هذا، وقال هو حديث مشرقي لا أعلمه-انتهى. وقيل المعنى التمسوها في الليلة التي تبقى التاسعة بعدها، وفي الليلة التي تبقى السابعة بعدها وفي ليلة التي تبقى الخامسة بعدها، على اعتبار كون الشهر ثلاثين فتأمل. وقال الزركشي: قوله "في تاسعة" تبقى ليلة إحدى وعشرين، لأن المحقق المقطوع بوجوده بعد العشرين تسعة أيام لاحتمال أن يكون الشهر تسعة وعشرين يوما،
2106-(4) وعن أبي سعيد الخدري، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية، ثم أطلع رأسه فقال: إني اعتكفت العشر الأول، التمس هذه الليلة، ثم اعتكف العشر الأوسط،

(14/242)


وليوافق الأحاديث الدالة على أنها في الأوتار وقوله سابعة تبقى ليلة ثلاث وعشرين وفي خامسة تبقى ليلة خمس وعشرين. وإنما يصح معنى الحديث ويوافق ليلة القدر وترا من الليالي على ما ذكر في الأحاديث إذا كان الشهر ناقصا. فأما إذا كان كاملا فلا تكون إلا في شفع لأن الذي يبقى بعدها ثمان فتكون التاسعة الباقية ليلة ثنتين وعشرين، والسابعة الباقية بعد ست ليلة أربع وعشرين، والخامسة الباقية بعد أربع ليالي ليلة السادس والعشرين، فلا يصادف واحدة منهن وترا، وهذا على طريقة العرب في التاريخ إذا جاوزوا نصف الشهر فإنما يؤرخون بالباقي منه لا بالماضي منه. والظاهر أنه خاطبهم النبي صلة الله عليه وسلم بنقص الشهر وذلك لأنه ليس على تمام شهر على يقين والله اعلم. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا أحمد (ج1ص231، 279، 360، 365) وأبوداود في الصلاة والبيهقي (ج4ص308- 309).

(14/243)


2106- قوله: (اعتكف العشر الأول) بتشديد الواو كذا في النسخ، والظاهر بضم الهمزة وتخفيف الواو، ولعل إفراده باعتبار لفظ العشر قاله القاري (ثم اعتكف العشر الأوسط) هكذا وقع في أكثر الروايات والمراد من العشر الليالي وكان من حقها أن توصف بلفظ التأنيث، ويقال العشر الوسطى لأن المشهور في الاستعمال تأنيث العشر كما قال في أكثر الأحاديث العشر الأواخر لكن وصفت هنا بالمذكر إما باعتبار لفظ العشر فإنه لفظ مذكر فيصح وصفه بالأوسط، وإما باعتبار إرادة الوقت أو الزمان أو التقدير الثلث، كأنه قال الليالي العشر التي هي الثلث الأوسط من الشهر ووقع في الموطأ العشر الوسط بضم الواو والسين جمع واسط، كبازل وبزل، قال صاحب العين: واسط الرحل ما بين قادمته وآخرته. وقال أبوعبيد: وسط البيوت يسطها إذا نزل وسطها واسم الفاعل من ذلك واسط ويقال في جمعه وسط كنازل ونزل، وبازل وبزل، ورواه بعضهم بضم الواو وفتح السين جمع وسطي ككبر وكبرى (في قبة تركية) أي قبة صغيرة من لبود قاله النووي ضربت في المسجد يقال لها بالفارسية خركاه، وكان على سدة القبة حصير فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبة (ثم أطلع رأسه) بفتح الهمزة وسكون الطاء أي أخرجه من القبة (اعتكفت) بصيغة المتكلم الماضي (التمس) حال أي أطلب (هذه الليلة) يعني ليلة القدر (ثم اعتكفت) بصيغة الماضي المتكلم أيضا (العشر الأوسط) قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ مسلم،
ثم أتيت فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمن كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر، فقد أريت هذه الليلة، ثم أنسيتها، وقد رأيتني اسجد في ماء وطين من صبيحتها، فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر،

(14/244)


والمشهور في الاستعمال تأنيث العشر وتذكيره أيضا لغة صحيحه باعتبار الوقت. والزمان، ويكفي في صحتها ثبوت استعمالها في هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم (ثم أتيت) على بناء المجهول، وفي رواية البخاري في كتاب الصلاة إن جبريل أتاه في المرتين فقال له أن الذي تطلب أمامك بفتح الهمزة أي قدامك (فقيل لي) أي قال لي الملك (إنها) أي ليلة القدر (في العشر الأواخر) قال الطيبي: وصف العشر الأول والأوسط بالمفرد، والأخير بالجمع إشارة إلى تصور ليلة القدر في كل ليلة من ليالي العشر الأخير دون الأولين (فمن كان اعتكف) أي أراد الاعتكاف (معي) وقال ابن الملك: أي من أراد موافقتي. وقال الطيبي: وإنما أمر بالاعتكاف من كان معه في العشر الأول والأوسط لئلا يضيع سعيهم في الاعتكاف والتحري. وقال ابن حجر: ليس للتقييد بل لإفهامه إن من لم يكن معه معتكفا أولى. قلت هذا لفظ البخاري ولمسلم في الرواية التي ذكرها المصنف فمن أحب منكم أن يعتكف (فليعتكف العشر الأواخر) قال الطيبي: الأمر بالاعتكاف للدوام والثبات، وفي رواية فليثبت في معتكفة من الثبات، وفي أخرى فليلبث من اللبث، وفي رواية لمسلم فليبت من المبيت، وكله صحيح (فقد أريت) بضم الهمزة على بناء المجهول المتكلم أي أعلمت (هذه الليلة) مفعول به لا ظرف أي أرأيت ليلة القدر معينة (ثم أنسيتها) بضم الهمزة من الإنساء، والمراد أنه أنسى علم تعيينها في تلك السنة لا رفع وجودها لأنه أمر بالتماسها حيث قال فالتمسوها في العشر الأواخر. قال ابن حجر: المراد أنه أخبر بأنها ليلة كذا ثم أنسى ما أخبر به والمخبر بذلك جبريل. وقال القفال في العدة فيما حكاه الطبري: ليس معناه أنه رأى الليلة أو الأنوار عيانا، ثم نسي في أي ليلة رأى ذلك لأن مثل هذا قل أن ينسى أي في صبيحتها وإنما رأى أنه قيل له: ليلة القدر، ليلة كذا وكذا ثم نسي كيف قيل له، وسيأتي سبب النسيان في هذه القصة في حديث عبادة بن الصامت في

(14/245)


الفصل الثالث من هذا الباب. وفي الحديث إن النسيان جائز على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نقص في ذلك، لا سيما في ما لم يؤذن له في تبليغه، وقد يكون في ذلك مصلحة تتعلق بالتشريع كما في قصة السهو في الصلاة أو بالاجتهاد في العبادة كما في هذه القصة، لأنه لو عينت ليلة القدر في ليلة بعينها اقتصر الناس على العبادة فيها ففاتت العبادة في غيرها وكأن هذا هو المراد بقوله عسى أن يكون خيرا لكم كما سيأتي في حديث عبادة (وقد رأيتني) بضم التاء للمتكلم، وفيه عمل الفعل في ضميري الفاعل والمفعول، وهو المتكلم وهو من خصائص أفعال القلوب أي رأيت نفسي (أسجد) بالرفع حال وقيل تقديره أن أسجد
قال: فمطرت السماء تلك الليلة، وكان المسجد على عريش، فوكف المسجد، فبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين)).

(14/246)


(في ماء وطين) علامة جعلت له يستدل بها عليها والمراد بذلك الأرض الرطبة ولعل أصله في ماء وتراب طينا لمخالطته به مآلا وللإيماء إلى غلبة الماء عليه (من صبيحتها) من بمعنى في كما في قوله ?إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة? [الجمعة: 9] أو هي لابتداء الغاية الزمانية (فالتمسوها في العشر الأواخر) أي من رمضان (والتمسوها في كل وتر) أي من ذلك العشر يعني في أوتار ليالي العشر وأولها ليلة الحادي والعشرين إلى آخر ليلة التاسع والعشرين لا ليلة أشفاعها، ولا منافاة بينه وبين قوله التمسوها في السبع الأواخر، إذ ليس في أحدهما حصر بل في خبر الوتر زيادة تقييد السبع بالوتر (فمطرت) بفتحات (تلك الليلة) أي التي أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال القسطلاني: يقال في الليلة الماضية الليلة إلى أن تزول الشمس فيقال حينئذ البارحة، وفي رواية وما نرى في السماء قزعة فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد (وكان المسجد على عريش) بفتح العين وسكون الياء بعد الراء المهملة المكسورة سقف من خشب وحشيش ونحو ذلك مما يستظل به "وعلى" بمعنى الباء كما في قوله تعالى: ?حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق? [الأعراف: 105] أو بمعنى "من" كما في رواية نحو قوله تعالى: ?إذا اكتالوا على الناس يستوفون? [المطففين: 2] قال الحافظ: كان على عريش أي مثل العريش، وإلا فالعريش هو نفس سقفه، والمراد أنه كان مظللا بالجريد والخوص ولم يكن محكم البناء بحيث يكن من المطر الكثير يعني أنه لم يكن له سقف يكن من المطر ويمنعه. وقيل: أي بني على صوغ عريش وهيئته، وفي رواية للبخاري وكان (أي السقف) من جريد النخل (فوكف المسجد) أي قطر وسال ماء المطر من سقف المسجد فهو من باب ذكر المحل وإرادة الحال (فبصرت) بفتح الموحدة وضم الصاد المهملة (عيناي) زاده تأكيدا كقوله أخذت بيدي. وإنما يقال ذلك في أمر مستغرب إظهارا للتعجب من حصوله (وعلى جبهته أثر الماء والطين) جملة

(14/247)


حالية وفي رواية للبخاري انصرف من الصبح ووجهه ممتلىء طينا وماء، وهذا يشعر بأن قوله أثر الماء والطين لم يرد به محض الأثر وهو ما يبقى بعد إزالة العين. قال الطيبي: قوله فبصرت عيناي مثل قولك أخذت بيدي ونظرت بعيني، وإنما يقال في أمر يعز الوصول إليه إظهارا للتعجب من حصول تلك الحال الغريبة، ومن ثم أوقع رسول الله صلى الله عليه وسلم مفعولا وعلى جبهته حالا منه، وكان الظاهر أن يقال رأيت على جبهة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أثر الماء والطين-انتهى. قال الحافظ فيه استحباب ترك الإسراع إلى إزالة ما يصيب جبهة الساجد من غبار الأرض، وقال أيضا فيه ترك مسح جبهة المصلي والسجود على الحائل،
متفق عليه في المعنى. واللفظ لمسلم إلى قوله: فقيل لي: إنها في العشر الأواخر والباقي للبخاري.
2107-(5) وفي رواية عبدالله بن أنيس، قال: ((ليلة ثلاث وعشرين)). رواه مسلم.

(14/248)


وحمله الجمهور على الأثر الخفيف لكن يعكر عليه قوله في بعض طرقه ووجهه ممتلىء طينا وماء، أو أجاب النووي بأن الامتلاء المذكور لا يستلزم ستر جميع الجبهة، وفيه جواز السجود في الطين-انتهى. قال الزين بن المنير: ويحتمل أن يكون ترك مسح الجبهة عامدا لتصديق رؤياه. وقال العيني والقاري وغيرهما: هذا محمول على أنه كان شيئا يسيرا لا يمنع مباشرة بشرة الجبهة للأرض ولو كان كثيرا لم تصح صلاته، وهذا قول الجمهور. وفي شرح السنة، فيه دليل على وجوب السجود على الجبهة ولولا ذلك لصانها عن الطين (من صبيحة إحدى وعشرين) أي تصديق رؤياه كما في رواية البخاري في الصلاة ومن بمعنى في وهي متعلقة بقوله فبصرت وقوله من صبيحة كذا في جميع النسخ من المشكاة، والذي في البخاري من صبح، والحديث ظاهر في أن خطبته كانت صبح اليوم العشرين ووقوع المطر كان في ليلة إحدى وعشرين، وهو الموافق لأكثر الطرق، ووقع في رواية عند البخاري وغيره ما يقتضي أن الخطبة وقعت في أول اليوم الحادي والعشرين. وعلى هذا يكون أول ليالي اعتكافه الأخير ليلة اثنتين وعشرين، وهذا مخالف لما وقع في بقية الطرق. وقد تأوله الحافظ بحيث يزول الإشكال وتتفق الروايات من أحب الوقوف عليه فليرجع إلى الفتح. وفي الحديث إن ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في المنام قد يكون تأويله أنه يرى مثله في اليقظة. واستدل به من ذهب إلى أن ليلة القدر إحدى وعشرين دائما، ولا حجة لهم فيه لأنه محمول على تلك السنة، وقد تقرر أنها تنتقل وتتقدم، وتتأخر في أوتار ليالي العشر في السنين المختلفة. (متفق عليه في المعنى) للحديث طرق وألفاظ، والمذكور أحدها. وأخرجه البخاري في الصلاة في ثلاثة أبواب، وفي الصوم في خمسة أبواب. وأخرجه مسلم في الصوم من طرق، أخرجه أيضا أحمد بألفاظ وطرق ومالك وأبوداود وابن ماجه والبيهقي (ج4ص308، 309، 315) (والباقي) أي من قوله فمن كان اعتكف معي الخ. (للبخاري) أي لفظا في باب

(14/249)


الاعتكاف في العشر الأواخر والاعتكاف في المساجد كلها.
2107- قوله وفي رواية عبدالله بن أنيس) مصغرا كذا في الأصول الصحيحة في رواية عبدالله. ووقع في أصل الطيبي في حديث عبدالله ولذا قال، ولو قال في رواته لكان أولى، لأنه ليس بحديث آخر بل رواية أخرى، والاختلاف في زيادة ليلة، واختلاف العدد بأنه ثلاث أو إحدى وعشرون ذكره القاري. قلت: وعندي إن ما وقع في أصل الطيبي هو الأولى، لأن الظاهر إنهما واقعتان رواهما صحابيان، ولو سلم أنهما قصة واحدة فالحديث يتعدد، ويختلف باختلاف المخرج أي الصحابي كما لا يخفى،

(14/250)


وهذا هو الذي راعيناه في رقم أحاديث المشكاة وحصرها. وعبد الله بن أنيس هو أبويحيى الجهني المدني حليف بني سلمة من الأنصار. وقال ابن الكلبي والواقدي: هو من ولد البرك بن وبرة من قضاعة، وقد دخل ولد البرك في جهينة فقيل له الجهني والقضاعي والأنصاري والسلمي بفتحتين صحابي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه أبناءه ضمرة وعبد الله وعطية وعمرو وبسر بن سعيد وجابر بن عبدالله رحل إليه إلى مصر في حديث واحد وشهد العقبة الثانية واحدا، وما بعدهما. وكان أحد من يكسر أصنام بني سلمة من الأنصار. وهو الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن نبيح العنزي وحده فقتله. وقال ابن يونس: صلى القبلتين ودخل مصر وخرج إلى أفريقية له أربعة وعشرون حديثا إنفرد له مسلم بحديث، وأخرج له البخاري تعليقا مات بالشام في خلافة معاوية سنة (54) ووهم من قال سنة (80) فرق علي بن المديني وخليفة وغيرهما بينه وبين عبدالله بن أنيس الأنصاري الذي روى عنه ابنه عيسى، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا يوم أحد بأداوة فقال أخنث، فم الإرادة-الحديث. وجزم البغوي وابن السكن وغيرهما بأنهما واحد. قال في الإصابة. وهو الراجح بأنه جهني حليف بني سلمة من الأنصار. وقال في تهذيب التهذيب: وهو (أي جعلهما واحدا) المعتمد فإن كونه أنصاريا لا ينافي كونه جهنيا لما تقدم أن الجهني حليف الأنصار. (قال ليلة ثلاث وعشرين) يعني روى عبدالله بن أنيس نحو حديث أبي سعيد لكنه قال فيه ليلة ثلاث وعشرين بدل إحدى وعشرين ولفظه عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أريت ليلة القدر ثم أنسيتها وأراني صبيحتها أسجد في ماء وطين، قال فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين فصلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانصرف، وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه قال، وكان عبدالله بن أنيس يقول ثلاث وعشرين-انتهى. قال النووي: هكذا في معظم النسخ من صحيح مسلم وفي بعضها ثلاث وعشرون،==

16. : مرعاة المفاتيح

وهذا ظاهر والأول جاء على لغة شاذة أنه يجوز حذف المضاف، ويبقى المضاف إليه مجرورا أي ليلة ثلاث وعشرين-انتهى.ولا يخفى أن حديث عبدالله بن أنيس مخالف لحديث أبي سعيد في تعيين الليلة، فقيل الترجيح لحديث أبي سعيد لأنه متفق عليه. وقيل: يحتمل على تعدد القصة واستدل بحديث عبدالله بن أنيس هذا، وبحديثه الآتي في الفصل الثاني، من قال إن ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين، والظاهر إن هذا كان لتلك السنة خاصة فحمله عبدالله بن أنيس ومن وافقه من الصحابة والتابعين على العموم. (رواه مسلم) أي تلك الرواية وأخرجها أحمد (ج3ص495) والبيهقي (ج4ص309) أيضا كلهم من رواية بسر بن سعيد عن عبدالله بن أنيس.
2108-(6) وعن زر بن حبيش، قال: ((سألت أبي بن كعب فقلت: إن أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر، فقال رحمه الله: أراد أن لا يتكل الناس أما إنه قد علم أنها في رمضان، وأنها في العشر الأواخر، وأنها ليلة سبع وعشرين، ثم حلف لا يستثنى أنها ليلة سبع وعشرين. فقلت: بأي شيء تقول ذلك: يا أبا المنذر! قال: بالعلامة-أو بالآية- التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها)). رواه مسلم.

(14/252)


2108- قوله: (وعن زر) بكسر الزاي وتشديد الراء (بن حبيش) بضم حاء مهملة وفتح موحدة وسكون تحتية وبشين معجمة ابن حباشة بضم مهملة وخفة موحدة، واعجام شين الأسدي الكوفي أبومريم ثقة جليل مخضرم أدرك الجاهلية كان من أصحاب علي وعبد الله بن مسعود. قال عاصم: كان زر من أعراب الناس وكان عبدالله يسأله عن العربية. وقال ابن عبدالبر: كان عالما بالقرآن قارئا فاضلا مات سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث وثمانين، وهو ابن مائة وسبع وعشرين سنة (سألت أبي بن كعب) أي أردت أن أسأله قاله الطيبي أو يفسره قوله (فقلت ن أخاك) أي في الدين والصحبة (ابن مسعود) بدل أو بيان (من يقم الحول) أي جميع ليالي السنة (يصب ليلة القدر) أي يدركها يقينا للإبهام في تبيينها وللاختلاف في تعيينها، أو لأنها تدور في تمام السنة، وهذا يؤيد الرواية المشهورة عن أبي حنيفة إذ قضيته إنها لا تختص برمضان (فقال) أي أبي (رحمه الله) دعا لابن مسعود. وفي رواية يغفر الله له (أراد أن يتكل الناس) أي لا يعتمدوا على قول واحد، وإن كان هو الصحيح الغالب على الظن الذي مبني الفتوى عليه، فلا يقوموا إلا في تلك الليلة ويتركوا قيام سائر الليالي فيفوت حكمة الإبهام الذي نسي بسببها عليه الصلاة والسلام (أما) بالتخفيف للتنبيه (أنه) أي ابن مسعود (قد علم أنها) أي ليلة القدر (في رمضان وإنها في العشر الأواخر) وفي رواية لقد علم أنها في العشر الأواخر من رمضان (ثم حلف) أي أبي بن كعب بناء على غلبة الظن (لا يستثنى) حال أي حلف حلفا جازما من غير أن يقول عقيبه إن شاء الله تعالى. قال الطيبي: هو قول الرجل إن شاء الله يقال حلف فلان يمينا ليس فيها ثنى ولا ثنو ولا ثنية ولا استثناء كلها واحد، وأصله من الثني، وهو الكف والرد، وذلك إن الحالف إذا قال والله لأفعلن كذا إلا أن يشاء الله غيره فقد رد انعقاد ذلك اليمين-انتهى. (إنها) مفعول حلف أي حلف إن ليلة القدر (ليلة سبع وعشرين فقلت) أي

(14/253)


لأبي بن كعب (بأي شيء) من الأدلة (تقول ذلك) أي القول (يا أبا المن1ذر) كنية أبي بن كعب (أو بالآية) كلمة "أو" للشك أي بالإمارة (أنها) بفتح الهمزة ويحتمل الكسر أي أن الشمس (تطلع يومئذ) أي يوم إذ تكون تلك الليلة ليلة القدر،
2109-(7) وعن عائشة، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره)). رواه مسلم,
وفي رواية تطلع الشمس في صبيحة يومها، وفي أخرى صبح ليلة القدر (لا شعاع لها) زاد في رواية كأنها طست حتى ترتفع. قال القاري: هذا دليل على أن علمه ظني لا قطعي حيث بنى اجتهاده على هذا الاستدلال. قال ابن حجر: أي لا شعاع لها، وقد رأيتها صبيحة ليلة سبع وعشرين طلعت كذلك إذ لا يكون ذلك دليلا إلا بانضمامه إلى كلامه-انتهى. والشعاع، بضم الشين. قال أهل اللغة: هو ما يرى من ضوء الشمس عند ذرورها أي طلوعها مثل الحبال، والقضبان مقبلة إليك إذا نظرت إليها، وجمعه أشعة وشعع بضم الشين والعين أشعت الشمس نشرت شعاعها. قال القاضي عياض: قيل معنى لا شعاع لها أنها علامة جعلها الله تعالى لها قال، وقيل بل لكثرة اختلاف الملائكة وترددها في ليلتها ونزولها إلى الأرض وصعودها بما تنزل به سترت بأجنحتها وأجسامها اللطيفة ضوء الشمس وشعاعها-انتهى. قيل فائدة كونه علامة مع أنه إنما يوجد بعد انقضاء الليلة أن يشكر على حصول تلك النعمة إن قام بخدمة الليلة وإلا فيتأسف على ما فاته من الكرامة ويتدارك في السنة الآتية. وإنما لم يجعل علامة في أول ليلها إبقاء لها على إبهامها. وقد ورد لليلة القدر علامات أخرى أكثرها لا تظهر إلا بعد أن تمضي ذكرها العيني (ج11ص34) وغيره. وقال الحافظ: اختلفوا هل لها علامة تظهر لمن وفقت له أم لا؟ فقيل: يرى كل شيء ساجدا، وقيل يرى الأنوار في كل مكان ساطعة حتى في المواضع المظلمة. وقيل يسمع سلاما أو خطابا من الملائكة. وقيل علامتها استجابة دعاء من وفقت له، واختيار الطبري إن

(14/254)


جميع ذلك غير لازم، وأنه لا يشترط لحصولها رؤية شيء ولا سماعه-انتهى. (رواه مسلم) في أواخر الصلاة وفي الصوم، وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص130، 131) والترمذي في الصوم والتفسير، وأبوداود في أواخر الصلاة والبيهقي (ج4ص312) وذكر صاحب التنقيح النسائي وابن خزيمة وابن حبان وأبا عوانة وابن الجارود والطحاوي والدارقطني والحميدي أيضا فيمن أخرج هذا الحديث.
2109- قوله: (يجتهد في العشر الأواخر) قيل أي يبالغ في طلب ليلة القدر فيها. قال القاري: والأظهر أنه يجتهد في زيادة الطاعة والعبادة يعني يبالغ في أنواع الخيرات وأصناف المبرات والعبادات. (ما لا يجتهد في غيره) أي في غير العشير الأخير. فيه استحباب الاجتهاد في العبادة والحرص على مداومة القيام في العشر الأخير من رمضان، إشارة إلى تحسين الخاتمة وتجويدها (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وابن ماجه،
2110-(8) وعنها، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد ميزره، وأحي ليله، وأيقظ أهله)). متفق عليه.
والحديث ذكره الجزري في جامع الأصول (ج7ص78) عزو المسلم بلفظ: قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، وفي العشر الأخير منه مالا يجتهد في غيره، ولم أجده بهذا السياق في صحيح مسلم، ورواه البيهقي (ج4ص314) بلفظ: كان يجتهد في العشر الأواخر من رمضان مالا يجتهد في غيرها.

(14/255)


2110- قوله: (إذا دخل العشر) وفي رواية للبيهقي، إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان. قال الحافظ: قوله "إذا دخل العشر" أي الأخير وصرح به في حديث علي عند ابن أبي شيبة والبيهقي (شد منزره) ولمسلم و"شد المئزر" بكسر الميم وسكون الهمزة أي إزاره كقولهم ملحفة ولحاف. قال في التلويح "المئزر" والإزار، ما يأتزر به الرجل من أسفله وهو يذكر ويؤنث. واختلفوا في معنى شد مئزره، فقيل هو كناية عن شدة جده واجتهاده في العبادة زيادة على عادته صلى الله عليه وسلم في غيره، ومعناه التشمير في العبادة يقال شددت لهذا الأمر مئزري أي تشمرت له وتفرغت. قال القسطلاني: وفي هذا نظر، فإنها قالت جد وشد المئزر فعطفت شد المئزر على الجد، والعطف يقتضي التغاير، والصحيح أن المراد به اعتزاله للنساء للإشتغال بالعبادات، وبذلك فسره السلف والأئمة المتقدمون، وجزم به الثوري واستشهد بقول الشاعر:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم عن النساء ولو باتت بأطهار

(14/256)


ويحتمل أن يراد التشمير للعبادة والاعتزال عن النساء معا ويحتمل أن يراد الحقيقة والمجاز كمن يقول طويل النجاد لطويل القامة، وهو طويل النجاد حقيقة فيكون المراد شد مئزره حقيقة فلم يحلله، واعتزل النساء وشمر للعبادة قال الطيبي: قد تقرر عند علماء البيان إن الكناية لا تنافي إرادة الحقيقة كما إذا قلت فلان طويل النجاد، وأردت طول نجاده مع طول قامته كذلك صلى الله عليه وسلم لا يستبعد أن يكون قد شد مئزره ظاهرا وتفرغ للعبادة واشتغل بها عن غيرها-انتهى. قلت: وقع عند ابن أبي عاصم بإسناد مقارب عن عائشة شد المئزر واجتنب النساء، وفي حديث علي المذكور شد مئزره واعتزل النساء فعطفه بالواو، وهذا يقوي الاحتمال الأول (وأحي ليله) أي استغرقه بالسهر في الصلاة وغيرها أو أحي معظمه لقولها في الصحيح ما علمته قام ليلة حتى الصباح، وقوله "أحيا ليله" أي بالقيام والقراءة والذكر كأن الزمان الخالي عن العبادة بمنزلة الميت، وبالعبادة فيه يصير حيا.
?الفصل الثاني?
2111-(9) عن عائشة، قالت: قلت: ((يا رسول الله ! أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها: قال قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)). رواه أحمد، وابن ماجه والترمذي وصححه.

(14/257)


قال القسطلاني: هو من باب الاستعارة شبه القيام فيه بالحياة في حصول الانتفاع التام أي أحيا ليله بالطاعة. أو أحيا نفسه بالسهر فيه، لأن النوم أخو الموت وإضافه إلى الليل إتساعا لأن النائم إذا حي باليقظة حي ليله بحياته وهو نحو قوله لا تجعلوا بيوتكم قبورا أي لا تناموا فتكونوا كالأموات فتكون بيوتكم كالقبور-انتهى. وقال الطيبي في أحياء الليل: وجهان. أحدهما: راجع إلى نفس العابد، فإن العابد إذا اشتغل بالعبادة عن النوم الذي هو بمنزلة الموت فكأنما أحي نفسه كما قال تعالى: ?الله يتوفى الأنفس حين موتها? [الزمر: 42] والتي لم تمت في منامها. وثانيهما: أنه راجع إلى نفس الليل فإن ليله لما صار بمنزلة نهاره في القيام فيه كان أحياه وزينه بالطاعة والعبادة، ومنه قوله تعالى: ?فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيى الأرض بعد موتها? [الروم: 50] فمن اجتهد فيه وأحياه كله وفر نصيبه منها، ومن قام في بعضه أخذ نصيبه بقدر ما قام منها (وأيقظ أهله) أي للصلاة والعبادة. وإنما خص بذلك - صلى الله عليه وسلم - آخر رمضان لقرب خروج وقت العبادة فيجتهد فيه لأنه خاتمة العمل، والأعمال بخواتيمها. وروى الترمذي ومحمد بن نصر من حديث زينب بنت أم سلمة لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدا من أهله يطيق القيام إلا أقامه (متفق عليه) واللفظ للبخاري وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود وابن ماجه والبيهقي (ج4ص313).

(14/258)


2111- قوله: (أرأيت) أي أخبرني (إن علمت) جوابه محذوف يدل عليه ما قبله (أي ليلة) مبتدأ خبره (ليلة القدر) والجملة سدت مسد المفعولين لعلمت تعليقا. قيل: القياس أية ليلة فذكر باعتبار الزمان كما ذكر في قوله صلى الله عليه وسلم أي أية من كتاب الله معك أعظم باعتبار الكلام واللفظ (ما أقول) متعلق بأرأيت (فيها) أي في تلك الليلة. وقال الطيبي: ما أقول فيها جواب الشرط وكان حق الجواب أن يؤتى بالفاء، ولعله سقط من قلم الناسخ وتعقب عليه القاري بأن دعوى السقوط من قلم الناسخ ليست بصحيحة. وقد جاء حذف الفاء على القلة (إنك عفو) بفتح العين المهملة وضم الفاء، وتشديد الواو صيغة مبالغة أي كثير العفو (تحب العفو) أي ظهور هذه الصفة (فاعف عني) فإني كثير التقصير وأنت أولى بالعفو الكثير، وفيه دليل على استحباب الدعاء في هذه الليلة بهذه الكلمات
2112-(10) وعن أبي بكرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((التمسوها – يعني ليلة القدر – في تسع يبقين، أو في سبع يبقين، أو في خمس يبقين، أو ثلاث، أو آخر ليلة)). رواه الترمذي.
2113-(11) وعن ابن عمر، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر، فقال: ((هي في كل رمضان)).
(رواه أحمد وابن ماجه والترمذي) في الدعوات وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى والحاكم (ج1ص530) والبزار وفي رواية أحمد وابن ماجه والحاكم إن وافقت ليلة القدر (وصححه) أي الترمذي. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.

(14/259)


2112- قوله: (التمسوها يعني ليلة القدر) تفسير للضمير من الراوي (في تسع) أي تسع ليال (يبقين) بفتح الياء والقاف وهي التاسعة والعشرون (أو في سبع يبقين) وهي السابعة والعشرون (أو في خمس يبقين) وهي الخامسة والعشرون (أو ثلاث) أي يبقين وهي الثالثة والعشرون (أو آخر ليلة) من رمضان أي سلخ الشهر. قال الطيبي: يحتمل التسع أو السلخ، رجحنا الأول بقرينة الأوتار كذا في المرقاة. وقال في اللمعات: قيل: قوله في "تسع يبقين" محمول على الثانية والعشرين، وفي سبع يبقين محمول على الرابعة والعشرين، وفي خمس يبقين على السادسة والعشرين وأو ثلاث على الثامن والعشرين وأو آخر ليلة محمول على التاسع والعشرون. وقيل: على السلخ أقول هذا إذا كان الشهر ثلاثين يوما. وأما إذا كان تسعا وعشرين فالأولى على الحادية والعشرين، والثانية على الثالثة والعشرين، والثالثة على الخامسة والعشرين، والرابعة على السابعة والعشرين، وهذا أولى لكثرة الأحاديث الواردة في الأوتار، بل نقول لا دليل على كونها أولى هذه الإعداد، فالظاهر أن المراد من كونها في تسع يبقين الخ. ترديد ما في الليالي الخمس أو الأربع أو الثلاث أو الاثنين أو الواحدة-انتهى ما في اللمعات. (رواه الترمذي) وصححه وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص36- 39) والحاكم (ج1ص438) وصححه ووافقه الذهبي وأخرجه الطبراني في الكبير وأحمد من حديث عبادة بن الصامت (ج5ص318- 321- 324).
2113- قوله: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر) أي هي في كل السنة أو في رمضان خاصة أو أهي في كل رمضان أو في هذا بخصوصه. قال القاري: ويؤيده (فقال هي في كل رمضان) قال ابن الملك أي ليست مختصة بالعشر الأواخر بل كل ليلة من رمضان، يمكن أن يكون ليلة الدر، ولهذا لو قال أحد لامرأته في نصف رمضان أو أقل أنت طالق في ليلة القدر لا تطلق حتى يأتي رمضان السنة القابلة فتطلق في الليلة التي علق فيها الطلاق-انتهى.

(14/260)


رواه أبوداود، وقال: رواه سفيان وشعبة، عن أبي إسحاق موقوفا على ابن عمر.
قال القاري: وكان حقه أن يصور المسألة بقوله في رمضان فقط أو يزيد بعد قوله أو أقل قوله أو أكثر، ثم هذا التفريع مسألة خلافية في المذهب كما تقدم تحقيقه (في أول الباب) وليس أصل الحديث نصا في المقصود للاحتمالات المتقدمة. وللاختلاف في رفع الحديث ووقفه. قال الطيبي: الحديث يحتمل وجهين. أحدهما أنها واقعة في كل رمضان من الأعوام فتختص به، فلا تتعدى إلى سائر الشهور. وثانيهما: أنها واقعة في كل أيام رمضان فلا تختص بالبعض الذي هو العشر الأخير، لأن البعض في مقابلة الكل فلا ينافي وقوعها في سائر الأشهر اللهم إلا أن يختص بدليل خارجي، ويتفرع على الوجه الثاني ما إذا علق الطلاق بدخول ليلة القدر في الليلة الثانية من شهر رمضان، فما دونها إلى السلخ فلا يقع الطلاق إلا في السنة القابلة في ذلك الوقت الذي علق الطلاق فيه، بخلاف غرة الليلة الأولى، فإن الطلاق يقع في السلخ كذا في المرقاة. قلت: استدل بهذا الحديث لما روى عن أبي حنيفة من أن ليلة القدر ممكنة في جميع ليالي رمضان، لكن الحديث ليس بنص في ذلك كما قال القاري مع أنه اختلف في رفعه ووقفه، ولو كان الموقوف مرويا بهذا اللفظ لم يكن نصا أيضا، والراجح عندي: هو الوجه الأول من الوجهين اللذين ذكرهما الطيبي في معنى الحديث لكثرة الأحاديث الصحيحة الصريحة في كونها مختصة بالعشر الأواخر من رمضان، وتأويل ابن الهمام لهذه الأحاديث بأن المراد في ذلك رمضان الذي كان عليه الصلاة والسلام التمسها فيه بعيد جدا، بل هو باطل، لأنه لا دليل على ذلك. وليس في سياقاتها ما يدل على ذلك. كما لا يخفى على من تأمل طرقها وألفاظها، ولم أر حديثا مرفوعا صحيحا أو ضعيفا صريحا في ما روى عن أبي حنيفة من إمكانها في جميع ليالي رمضان، ولا فيما هو المشهور عنه من امكانها في جميع السنة (رواه أبوداود) أي مرفوعا وكذا البيهقي

(14/261)


(ج4ص307) كلاهما من طريق موسى بن عقبة عن أبي إسحاق الهمداني عن سعيد بن جبير عن عبدالله بن عمر (وقال) أي أبوداود وكذا البيهقي (رواه سفيان) أي ابن عيينة أو الثوري (وشعبة) أي ابن الحجاج بن الورد العتكي مولاهم أبوبسطام الواسطي ثم البصري ثقة حافظ متقن، كان الثوري يقول هو أمير المؤمنين في الحديث، وهو أول من فتش بالعراق عن الرجال وذب عن السنة وكان عابدا مات سنة (160) (عن أبي إسحاق) اسمه عمرو بن عبدالله السبيعي الكوفي، والسبيع بفتح المهملة وكسر الموحدة همدان، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان مكثر ثقة عابد من أوساط التابعين اختلط بآخره. وقال ابن حبان: كان مدلسا، وكذا كره في المدلسين حسين الكرابسي، وأبوجعفر الطبري والجوزجاني مات سنة (129) وقيل: قبل ذلك قال المصنف: رأى عليا وابن عباس وغيرهما من الصحابة،
2114-(12) وعن عبدالله بن أنيس، قال: قلت: ((يا رسول الله ! إن لي بادية أكون فيها، وأنا أصلي فيها بحمد الله، فمرني بليلة أنزلها إلى هذه المسجد. فقال: أنزل ليلة ثلاث وعشرين. قيل: لابنه: كيف كان أبوك يصنع؟ قال: كان يدخل المسجد إذا صلى العصر، فلا يخرج منه لحاجة حتى يصلي الصبح،
وسمع البراء بن عازب وزيد بن أرقم روى عنه الأعمش والثوري وشعبة وهو تابعي مشهور كثير الرواية (موقوفا على ابن عمر) أي من قوله ولم يرفعاه إلى النبي- صلى الله عليه وسلم -، وأشار أبوداود، وكذا البيهقي بهذا الكلام إلى ترجيح وقفه، وهذا الموقوف رواه ابن أبي شيبة قال الحافظ في الفتح: بإسناد صحيح.

(14/262)


2114- قوله: (وعن عبدالله بن أنيس) بالتصغير مخففا (إن لي بادية أكون) أي ساكنا (فيها) قال ميرك: المراد بالبادية دار إقامة بها، فقوله إن لي بادية أي إن لي دارا ببادية أو بيتا أو خيمة هناك، واسم تلك البادية الوطاءة كذا في المرقاة (وأنا أصلي فيها بحمد الله) أي ولكن أريد إن اعتكف أو أريد عن أدرك ليلة القدر (فمرني) أمر من أمر مخففا (بليلة) زاد في المصابيح من هذا الشهر يعني شهر رمضان (أنزلها) بالرفع على أنه صفة. وقيل: بالجزم على جواب الأمر أي أنزل تلك الليلة من النزول بمعنى الحلول. وقال الطيبي: أي أنزل فيها قاصدا أو منتهيا (إلى هذا المسجد) إشارة إلى المسجد النبوي وقصد إلى حيازة فضيلتي الزمان والمكان (أنزل ليلة ثلاث وعشرين) فتدرك ليلة القدر، وقد سبق منا إن الظاهر أن هذا الأمر كان لتلك السنة خاصة لكنه رضي الله عنه حمله على العموم (قيل لابنه) أي ضمرة وقيل عمرو. قال الحافظ في التقريب وتهذيب التهذيب: ابن عبدالله بن أنيس عن أبيه في التماس ليلة القدر هو ضمرة، وقيل عمرو. وقال في الإصابة في القسم الرابع من حرف الجيم في ترجمة جحش الجهني بعد الإشارة إلى هذا الحديث ما لفظه وابن عبدالله اسمه ضمرة سماه الزهري في روايته لهذا الحديث. وقال في ترجمة ضمرة هذا من تهذيبه ذكره ابن حبان في الثقات أخرج له أبوداود والنسائي حديثا واحدا في ذكر ليلة القدر. وال في التقريب في ترجمة ضمرة وعمرو: كليهما مقبول من أوساط التابعين والقائل له هو محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي التابعي الثقة شيخ محمد بن إسحاق صاحب المغازي (كيف) في سنن أبي داود فكيف عند البيهقي (كان أبوك) أي عبدالله بن أنيس (يصنع) أي في نزوله (إذا صلى العصر) أي يوم الثاني والعشرين من رمضان (فلا يخرج منه لحاجة) أي من الحاجات الدنيوية اغتناما للخيرات الأخروية أو لحاجة غير ضرورية. قال الطيبي: كذا في سنن أبي داود وجامع الأصول، وفي شرح السنة

(14/263)


والمصابيح فلم يخرج إلا في حاجة والتنكير في حاجة للتنويع فعلى الأول لا يخرج لحاجة منافية للإعتكاف كما سيجيء في باب الإعتكاف في حديث عائشة، وعلى الثاني فلا يخرج إلا في حاجة يضطر إليها المعتكف-انتهى.
فإذا صلى الصبح وجد دابته على باب المسجد، فجلس عليها ولحق بباديته)). رواه أبوداود.
?الفصل الثالث?
2115-(13) عن عبادة بن الصامت، قال: ((خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين،

(14/264)


(حتى يصلي الصبح) يشير إلى أنها ليلة القدر (ولحق) في سنن أبي داود والبيهقي فلحق. وقد روى مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله بن أنيس الجهني قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -يا رسول الله ! إني رجل شاشع الدار فمرني ليلة أنزل لها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل ليلة ثلاث وعشرين من رمضان. قال ابن عبدالبر: يقال ليلة الجهني معروفة بالمدينة ليلة ثلاث وعشرين وحديثه، هذا مشهور عند عامتهم وخاصتهم. وروى ابن جريج هذا الخبر لعبد الله بن أنيس. وقال في آخره فكان الجهني يمسى تلك الليلة يعني ثلاث وعشرين في المسجد فلا يخرج منه حتى يصبح ولا يشهد شيئا من رمضان قبلها ولا بعدها ولا يوم فطر-انتهى. وقد ذهب إلى كون ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين جماعة من الصحابة والتابعين. قال الحافظ: روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن معاوية، قال: ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين، ورواه إسحاق في مسنده من طريق أبي حازم عن رجل من بني بياضة له صحبة مرفوعا، وروى عبدالزراق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر مرفوعا من كان متحريها فليتحرها ليلة سابعة قال، وكان أيوب يغتسل ليلة ثلاث وعشرين، ويمس الطيب وعن ابن جريج عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس أنه كان يوقظ أهله ليلة ثلاث وعشرين، وروى عبدالرزاق من طريق يونس بن سيف سمع سعيد بن المسيب يقول: استقام قول القوم على أنها ليلة ثلاث وعشرين ومن طريق إبراهيم عن الأسود عن عائشة ومن طريق مكحول أنه كان يراها ليلة ثلاث وعشرين-انتهى. (رواه أبوداود) وكذا البيهقي (ج4ص309، 310) كلاهما من طريق محمد بن إسحاق حدثني محمد بن إبراهيم عن ابن عبدالله بن أنيس الجهني عن أبيه. وقد صرح محمد بن إسحاق بالتحديث فحديثه هذا صحيح، ورواه أيضا الطبراني في الكبير لكنه قال عن عبدالله بن جحش عن أبيه. قال الحافظ في الإصابة: (ج1ص267) هو خطأ سقط عن الإسناد ابن وأبدل جحش بأنيس-انتهى. ورواه البيهقي

(14/265)


(ج4ص309) أيضا من طريق عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن عبدالله بن أنيس، وأصل هذا الحديث في مسلم من طريق بسر بن سعيد عن عبدالله بن أنيس كما تقدم في الفصل الأول وأخرجه أبويعلى من حديث أنس كما في مجمع الزوائد (ج3ص176).
2115- قوله: (خرج النبي- صلى الله عليه وسلم - ) أي من حجرته (ليخبرنا) بنصب الراء بأن مقدرة بعد لام التعليل (بليلة القدر) أي بتعيينها (فتلاحى) بفتح الحاء المهملة أي تنازع وتخاصم، وفي حديث أبي سعيد مسلم فجاء رجلان يختصمان معهما الشيطان، ونحوه في حديث الفلتان عند ابن إسحاق، وزاد أنه لقيهما عند سدة المسجد بينهما فاتفقت هذه الأحاديث على سبب النسيان،
فقال: خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرا لكم، فالتمسوها في التاسعة، والسابعة، والخامسة)). رواه البخاري.

(14/266)


وروى مسلم أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال: أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها، وهذا سبب آخر. فأما أن يحمل على التعدد بأن تكون الرؤيا في حديث أبي هريرة مناما فيكون سبب النسيان الإيقاظ وأن تكون الرؤيا في حديث غيره في اليقظة فيكون سبب النسيان ما ذكر من المخاصمة، أو يحمل على إتحاد القصة، ويكون النسيان وقع مرتين عن سببين، ويحتمل أن يكون المعنى أيقظني بعض أهلي فسمعت تلاحى الرجلين فقمت لأحجز بينهما فنسيتها للاشتغال بهما. وقد روى عبدالرزاق من مرسل سعيد بن المسيب أنه - صلى الله عليه وسلم -قال: ألا أخبر بليلة القدر قالوا: بلى فسكت ساعة ثم قال لقد قلت لكم وأنا أعلم ثم أنسيتها فلم يذكر سبب النسيان وهو مما يقوى الحمل على التعدد-انتهى كلام الحافظ. (رجلان) قيل: هما عبدالله ابن أبي حدرد، وكعب بن مالك أي وقعت بينهما منازعة ومخاصمة، والظاهر إنها التي كانت في الدين الذي للأول على الثاني فأمره عليه الصلاة والسلام بوضع شطر دينه عنه فوضعه ذكره ابن حجر. وقال الحافظ: قيل الرجلان هما عبدالله بن أبي حدرد وكعب بن مالك ذكره ابن دحية ولم يذكر له مستندا (فرفعت) بصيغة المجهول، أي رفع بيانها أو علمها من قلبي فنسيت تعيينها للاشتغال بالمتخاصمين. وقيل: المعنى رفعت بركتها في تلك السنة. وقيل: التاء في رفعت للملائكة لا لليلة. وقال الطيبي قال بعضهم: رفعت أي معرفتها لتلاحى الناس، والحامل له على ذلك إن رفعها مسبوق بوقوعها وحصولها فإذا حصلت لم يكن لرفعها معنى قال، ويمكن أن يقال المراد برفعها إنها شرعت أن تقع فلما تخاصما رفعت بعد فنزل الشروع منزلة الوقوع وإذا تقرر أن الذي ارتفع علم تعيينها تلك السنة فهل أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بتعيينها فيه احتمال. وقد روى عن ابن عيينة أنه أعلم وروى محمد بن نصر من طريق وهب المغافري أنه سأل زينب بنت أم سلمة هل كان رسول الله - صلى الله

(14/267)


عليه وسلم - يعلم ليلة القدر فقالت لا، لو علمها لما أقام الناس غيرها. قال الحافظ: وهذا قالته احتمالا وليس بلازم لاحتمال أن يكون التعبد وقع بذلك أيضا فيحصل الاجتهاد في جميع العشر كما تقدم، وقال العيني: الذي قالته زينب إنما قالته احتمالا وهذا لا ينافي علمه بذلك، واستنبط السبكي الكبير من هذه القصة استحباب كتمان ليلة القدر لمن رآها لأن الله قدر لنبيه أنه لم يخبر بها، والخير كله فيما قدره له فيستحب إتباعه في ذلك-انتهى. قال الباجي: قد يذنب البعض فتتعدى عقوبته إلى غيره فيجزى به من لا سبب له في الدنيا وأما في الآخرة ?ولا تزروا وازرة وزر أخرى? [الإسراء: 15]-انتهى. وقد روى في هذا أحاديث كثير لا تخفى على طالب الحديث (وعسى أن يكون) أي رفع تعيينها (خيرا لكم) حيث يحثكم على الاجتهاد في جميع ليالي العشر الأواخر.
2116-(14) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان ليلة القدر نزل جبريل عليه السلام في كبكبة من الملائكة، يصلون على كل عبدقائم أو قاعد يذكر الله عزوجل، فإذا كان يوم عيدهم – يعني يوم فطرهم – باهى بهم ملائكته، فقال: يا ملائكتي! ما جزاء أجير وفي عمله؟

(14/268)


قال ابن بطال: يريد أن البحث عنها والطلب لها بكثير من العمل هو خير من هذه الجهة. وقال ابن التين: لعله يريد أنه لو أخبرهم بعينها لأقلوا من العمل في غيرها وأكثروه فيها، وإذا غيبت عنهم أكثروا العمل في سائر الليالي رجاء موافقتها. وقال الحافظ: أي وإن كان عدم الرفع أزيد خيرا وأولى منه لأنه متحقق فيه لكن في الرفع خير مرجو لاستلزامه مزيد الثواب لكونه سببا لزيادة الاجتهاد في التماسها، وإنما حصل ذلك ببركة الرسول صلى الله عليه وسلم (فالتمسوها) أي اطلبوا ليلة القدر (في التاسعة) أي الباقية وهي التاسعة والعشرون. وقال ابن حجر: أي في التاسعة من آخر الشهر، وهي الليلة الحادية والعشرون (والسابعة والخامسة) على ما تقدم. وقال الحافظ: يحتمل أن يريد بالتاسعة تاسع ليلة من العشر الأخير فتكون ليلة تسع وعشرين، ويحتمل أن يريد بها تاسع ليلة تبقى من الشهر فتكون ليلة إحدى أو اثنين بحسب تمام الشهر ونقصانه، ويرجح الأول قوله في الرواية الماضية في كتاب الإيمان. بلفظ: التمسوها في التسع والسبع والخمس أي في تسع وعشرين وسبع وعشرين وخمس وعشرين، وفي رواية لأحمد (ج5ص319) في تاسعة تبقى-انتهى. (رواه البخاري) في الصوم وفي الإيمان وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص313، 319) والدارمي والبيهقي (ج4ص311) كلهم من رواية حميد عن أنس عن عبادة، ورواه مالك فقال عن حميد عن أنس قال خرج علينا، ولم يقل عن عبادة فجعل الحديث من مسند أنس، قال ابن عبدالبر والصواب إثبات عبادة وإن الحديث من مسنده.

(14/269)


2116- قوله: (إذا كان ليلة القدر نزل جبريل عليه السلام في كبكبة) بضمتين. وقيل بفتحتين جماعة متضامة من الناس وغيرهم على ما في النهاية (من الملائكة) فيه إشارة إلى قوله تعالى: ?تنزل الملائكة والروح? [القدر: 4] وإيماء إلى تفسير الروح بجبريل فيكون من باب التخصيص المشعر بتعظيمه (يصلون على كل عبد) أي يدعون لكل عبدبالمغفرة أو يثنون على كل عبدبالثناء الجميل (قائم) كمصل وطائف وغيرها (أو قاعد يذكر الله عزوجل) صفة لكل (يعني يوم فطرهم) احتراز من عيد الأضحى (باهى) أي الله تعالى (بهم ملائكته) في النهاية، المباهاة المفاخرة. والسبب فيها اختصاص الإنسان بهذه العبادات التي هي الصوم.
قالوا: ربنا جزاءه أن يوفى أجره. قال: ملائكتي! عبيدي وإمائي قضوا فريضتي عليهم، ثم خرجوا يعجون إلى الدعاء، وعزتي وجلالي وكرمي وعلوي وارتفاع مكاني لأجيبنهم. فيقول: ارجعوا قد غفرت لكم، وبدلت سيئاتكم حسنات. قال: فيرجعون مغفورا لهم)). رواه البيهقي في شعب الإيمان.

(14/270)


وقيام الليل وإحياءه بالذكر وغيره من العبادات، وهي غبطة الملائكة، ثم الأظهر إن هذه المباهاة مع الملائكة الذين طعنوا في بني آدم فيكون بيانا لإظهار قدرته إحاطة علمه قاله القاري (يا ملائكتي) إضافة تشريف (وفي) بالتشديد وتخفف (ربنا) بالنصب على النداء (جزاءه أن يوفى) بصيغة المجهول مشددا ومخففا (أجره) أي أجر عمله بالنصب، وقيل بالرفع قال ملائكتي) بحذف حرف النداء (عبيدي وإمائي) بكسر الهمزة جمع أمة، بمعنى الجارية (قضوا) أي أدوا (فريضتي) أي المختصة المخصومة بي، وهي الصوم الشاق (عليهم ثم خرجوا) من بيوتهم إلى مصلى عيدهم (يعجون) يضم العين وتكسر وبالجيم المشددة من عج يعج عجا وعجيجا، صاح ورفع صوته (إلى الدعاء) أي يرفعون أصواتهم بالذكر والثناء متوجهين أو منتهين إلى الدعاء بالمغفرة لذنوبهم. وقيل: أي يرفعون أصواتهم وأيديهم إلى الدعاء (وعزتي) ذاتا (وجلالي) صفة (وكرمي) فعلا (وعلوي) في الجميع (وراتفاع مكاني) أي مكانتي ومرتبتي من قدرتي وإرادتي عن شوائب النقصان، وحوادث الزمان والمكان فهو تسبيح بعد تحميد وتقديس بعد تمجيد قاله القاري، وقال الطيبي: إرتفاع المكان كناية عن عظمة شأنه وعلو سلطانه وإلا فالله تعالى منزه عن المكان وما ينسب إليه من العلو والسفل-انتهى. قلت: قد اتفق أهل السنة والجماعة على أن الله تعالى مستو على عرشه وعرشه فوق السماوات السبع، والاستواء هو الارتفاع والعلو فالله تعالى عال على عرشه بائن من خلقه وعلمه وقدرته في كل مكان، وكيفية استواءه مجهولة، ليس كمثله شيء وارجع إلى كتاب العلو للذهبي وكتاب الأسماء والصفات للبيهقي وإلى ما كتب في مسألة الاستواء على العرش شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية (لأجيبنهم) أي لأقبلن دعوتهم (فيقول) أي الله تعالى حينئذ (ارجعوا) أي من مصلاكم إلى مساكنكم (قد غفرت لكم) أي التقصيرات (وبدلت سيآتكم حسنات) بأن يكتب بدل كل سيئة حسنة في صحائف الأعمال فضلا

(14/271)


من الله الملك المتعال، وهو يحتمل أن يعم الصائمين، ويحتمل أن يكون الغفران للعاصين والتبديل للمطيعين التائبين، وهو أظهر لقوله تعالى: ?إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يبدل الله سيآتهم حسنات? [الفرقان: 70] (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (فيرجعون) أي جميعهم حال كونهم (مغفورا لهم رواه البيهقي في شعب الإيمان) وأخرجه ابن حبان في الضعفاء مطولا، وفيه أصرم بن حوشب قاضي همدان. قال يحي: كذاب خبيث.
(9) باب الإعتكاف
وقال البخاري ومسلم والنسائي. متروك الحديث. وقال الدارقطني: منكر الحديث. وقال ابن حبان: كان يضع الحديث على الثقات. وقال الحاكم والنقاش: يروي الموضوعات، وأخرجه ابن شاهين في الترغيب، والعقيلي في الضعفاء من طريق عباد بن عبدالصمد عن أنس وعباد هذا. قال الذهبي: إنه واه. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبوحاتم: عباد ضعيف جدا. وقال العقيلي: يروي عن أنس نسخة عامتها مناكير. وقال الذهبي: بعد الاشارة إلى هذا الحديث من رواية العقيلي، هذا حديث طويل يشبه وضع القصاص، واخرجه أيضا الديلمي من طريق أبان عن انس. قال السيوطي: وأبان متروك وله شاهد من حديث ابن عباس ذكره المنذري في الترغيب. وقال رواه أبوالشيخ بن حبان في كتاب الثواب والبيهقي. قال المنذري: وليس في إسناده من أجمع على ضعفه.

(14/272)


(باب الاعتكاف) هو في اللغة، لزوم الشيء وحبس النفس عليه، والاقامة والاقبال عليه، والبث والمكث مطلقا، أي في أي موضع كان، وفي الشرع عبارة عن المكث في المسجد، ولزومه على وجه مخصوص، وهو افتعال من عكف على الأمر أي لزمه مواظبا عليه وعكفه على الأمر أي حبسه عليه وألزمه به. قال الراغب: العكوف الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم له، وفي الشرع هو الاحتباس في المسجد على سبيل القربة، ويقال عكفته على كذا أي حسبته عليه. وقال الجوهري: عكفه أي حبسه يعكفه بضم عينها وكسرها عكفا وعكف على الشيء يعكف عكوفا أي أقبل عليه مواظبا يستعمل لازما فمصدره عكوف، ومتعديا فمصدره عكف. وقال ابن قدامة: الاعتكاف في اللغة، لزوم الشيء وحبس النفس عليه برا كان أو غيره ومنه قوله تعالى: ?ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون? [الأنبياء:52] وقال: يعكفون على أصنام لهم. قال الخليل: عكف يعكف ويعكف وهو في الشرع الإقامة في المسجد على صفة يأتي ذكرها. وقال القسطلاني: هو لغة اللبث والحبس والملازمة على الشيء خيرا أو كان شرا. قال تعالى: ?ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد? [البقرة: 187] وقال فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، وشرعا اللبث في المسجد من شخص مخصوص بنيته- انتهى. قال الحافظ: وليس بواجب إلا على من نذره وكذا من شرع فيه فقطعه عامدا عند قوم. وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف سنة لا يجب على الناس فرضا إلا أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذرا فيجب عليه. وقال ابن رشد: الاعتكاف مندوب إليه بالشرع واجب بالنذر، ولا خلاف في ذلك إلا ما روى عن مالك أنه كره الدخول فيه مخافة أن يوفى شرطه_ قلت: حكى الحافظ في الفتح عن ابن نافع عن مالك أنه قال: فكرت في الاعتكاف وترك الصحابة له مع شدة إتباعهم للأثر، فوقع في نفسي أنه كالوصال وأراهم تركوه لشدته، ولم يبلغني عن أحد السلف أنه اعتكف إلا عن أبي بكر بن عبدالرحمن-

(14/273)


انتهى ومن كلام مالك أخذ بعض الصحابة إن الاعتكاف جائز وأنكر ذلك عليهم ابن العربي وقال: إنه سنة مؤكدة، وكذا قال ابن بطال في
?الفصل الأول?
2117- (1) عن عائشة، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده)) متفق عليه.
النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على تأكده. وقال أبوداود عن أحمد: لا أعلم عن أحد من العلماء خلافا أنه مسنون. وقد تعقب الحافظ قول مالك أنه لم يعتكف من السلف إلا أبوبكر بن عبدالرحمن، وقال لعله أراد صفة مخصوصة وإلا فقد حكى عن غير واحد من الصحابة أنه اعتكف- انتهى. وقال القدوري من الحنفية: الاعتكاف مستحب. وقال صاحب الهداية: والصحيح أنه سنة مؤكدة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - واظب عليه في العشر الأواخر من رمضان. قال ابن الهما: والحق خلاف كل من الاطلاقين وهو أن يقال الاعتكاف ينقسم إلى واجب وهو المنذور نتجيزا أو تعليقا وإلى سنة مؤكدة أي سنة كفاية لاقترانها بعدم الإنكار على من لم يفعله من الصحابة وهو اعتكاف العشر الأواخر من رمضان وإلى مستحب وهو ما سواهما.

(14/274)


2117- قوله: (كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله) وفي رواية، حتى قبضه الله. قال السندي: يمكن أن يكون ذلك بعد ما أرى ليلة القدر في العشر الأخير وهو لا ينافي اعتكاف العشر الأوسط قبل ذلك فلا ينافي ما سبق من حديث أبي سعيد- انتهى. ويؤيد هذا الجمع ما روى عن أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكف أول سنة العشر الأول، ثم اعتكف العشر الوسطى ثم اعتكف العشر الأواخر، وقال: إني رأيت ليلة القدر فيها فأنسيتها فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف فيهن حتى توفي - صلى الله عليه وسلم - ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص73) وعزاه للطبراني في الكبير وقال إسناده حسن. وفي الحديث دليل على أن الاعتكاف لم ينسخ وأنه من السنن المؤكدة في العشر الأواخر من رمضان لتخصيصه - صلى الله عليه وسلم - ذلك الوقت بالمواظبة على اعتكافه. قال ابن الهمام: هذه المواظبة المقرونة بعدم الترك مرة لما اقترنت بعدم الإنكار على من لم يفعله من الصحابة كانت دليل السنية وإلا كانت دليل الوجوب أو نقول اللفظ وإن دل على عدم الترك ظاهرا لكن وجدنا صريحا يدل على الترك وهو ما في الصحيحين وغيرهما، كان - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في كل رمضان فإذا صلى الغداة حل مكانه الذي اعتكف فيه فاستأذنته عائشة أن تعتكف فأذن لها فضربت فيه قبة فسمعت بها حفصة فضربت فيه قبة فسمعت زينب فضربت فيه قبة أخرى، فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغداة أبصر أربع قباب فقال: ما هذا فأخبر خبرهن فقال: ما حملهن على هذا البر؟ أنزعوها فنزعت فلم يعتكف في رمضان حتى اعتكف في آخر من شوال وفي رواية حتى اعتكف العشر الأول من شوال (ثم اعتكف أزواجه من بعده) أي من بعد موته إحياء لسنته وإبقاء لطريقته.

(14/275)


فيه دليل على أن الاعتكاف ليس من الخصائص وإن النساء كالرجال في الاعتكاف وقد كان عليه السلام إذن لبعضهن كما تقدم. وأما إنكاره عليهن الاعتكاف بعد الإذن فلمعنى آخر. فقيل: خوف أن يكن غير مخلصات في الاعتكاف بل أردن القرب منه لغيرتهن عليه أو ذهاب المقصود من الاعتكاف بكونهن معه في المعتكف أو لتضييقهن المسجد بأبنيتهن. قال النووي: في هذا الحديث دليل لصحة اعتكاف النساء لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان أذن لهن ولكن عند أبي حنيفة إنما يصح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها وهو الموضع المهيأ في بيتها لصلاتها، قال. ولا يجوز للرجل في مسجد بيته. ومذهب أبي حنيفة قول قديم للشافعي ضعيف عند أصحابه- انتهى وقال العيني قال أصحابنا المرأة تعتكف في مسجد بيتها وبه قال النخعي والثوري وابن عليه، ولا تعتكف في مسجد جماعة ذكره في الأصل، وفي منية المفتى لو اعتكفت في المسجد جاز، وفي المحيط روى الحسن عن أبي حنيفة جوازه وكراهته في المسجد وفي البدائع لها أن تعتكف في مسجد الجماعة في رواية الحسن عن أبي حنيفة، ومسجد بيتها أفضل لها من مسجد حيها، ومسجد حيها أفضل لها من المسجد الأعظم- انتهى. وقال الحافظ: قد أطلق الشافعي كراهته لهن في المسجد الذي تصلي فيه الجماعة، واحتج بحديث الباب يعني حديث عائشة الذي تقدم في كلام ابن الهمام فانه دال على كراهة الاعتكاف للمرأة إلا في مسجد بيتها لأنها تتعرض لكثرة من يراها، وشرط الحنفية لصحة اعتكاف المرأة أن تكون في مسجد بيتها. وفي رواية لهم إن لها الاعتكاف في المسجد مع زوجها وبه قال أحمد- انتهى. وقال ابن قدامة (ج3 ص190) وللمرأة أن تعتكف في كل مسجد، ولا يشترط إقامة الجماعة فيه لأنها غير واجبة عليها، وبهذا قال الشافعي: وليس لها الاعتكاف في بيتها. وقال أبوحنيفة والثوري: لها اعتكاف في مسجد بيتها، واعتكافها فيه أفضل لأن صلاتها فيه أفضل وحكى عن أبي حنيفة أنها لا يصح اعتكافها في مسجد الجماعة لأن

(14/276)


النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك الاعتكاف في المسجد لما رأى أبنية أزواجه فيه، ولأن مسجد بيتها موضع فضيلة صلاتها، فكان موضع اعتكافها كالمسجد في حق الرجل. ولنا قوله تعالى: ?وأنتم عاكفون في المساجد? [البقرة:187] والمراد به المواضع التي بنيت للصلاة فيها وموضع صلاتها في بيتها ليس بمسجد لأنه لم يبن للصلاة فيه وإن سمى مسجدا كان مجازا، فلا يثبت له أحكام المساجد الحقيقية، ولأن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - استأذنه في الاعتكاف في المسجد فأذن لهن ولو لم يكن موضعا لاعتكافهن لما أذن فيه، ولو كان الاعتكاف في غيره أفضل لدلهن عليه ونبهن عليه ولأن الاعتكاف قربة يشترط لها المسجد في حق الرجل فيشترط في حق المرأة كالطواف. وحديث عائشة حجة لنا لما ذكرنا وإنما كره اعتكافهن في تلك الحال حيث كثرن أبنيتهن لما رأى من منافستهن فكرهه منهن خشية عليهن من فساد نيتهن ولذلك ترك الاعتكاف لظنه إنهن يتنافسن في الكون معه ولو كان للمعنى الذي ذكروه لأمرهن بالاعتكاف في بيوتهن، ولم يأذن لهن في المسجد. وأما الصلاة فلا يصح إعتبار الاعتكاف بها، فإن صلاة الرجل في بيته أفضل ولا يصح اعتكافه فيه- انتهى.
2118- (2) وعن ابن عباس، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، كان جبريل يلقاه كل ليلة في رمضان،

(14/277)


وقال ابن رشد: أما سبب اختلافهم في اعتكاف المرأة فمعارضة القياس للأثر، وذلك أنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أذن لبعض أزواجه في الاعتكاف في المسجد، فكان هذا دليلا على جواز اعتكاف المرأة في المسجد. وأما القياس المعارض لهذا فهو قياس الاعتكاف على الصلاة، وذلك أنه لما كانت صلاة المرأة في بيتها أفضل منها في المسجد على ما جاء الخبر وجب أن يكون الاعتكاف في بيتها أفضل قالوا: وإنما يجوز للمرأة أن تعتكف في المسجد مع زوجها فقط على نحو ما جاء في الأثر من إذنه - صلى الله عليه وسلم - لعائشة في الاعتكاف معه وكأنه نحو من الجمع بين القياس والأثر انتهى بتغيير يسير. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي في الكبرى والدارقطني (ص247) والبيهقي (ج4 ص315).

(14/278)


2118- قوله: (أجود الناس) بنصب أجود لأنه خبر كان، وقدم ابن عباس هذه الجملة على ما بعدها وغنة كانت لا تتعلق بالقرآن على سبيل الاحتراس من مفهوم ما بعدها أي لئلا يتخيل من قوله: وأجود ما يكون في رمضان أن الأجودية منه خاصة برمضان. وأجود مشتق من الجود، وهو الكرم والسخاء وهو من الصفات المحمودة أي كان إسخاهم على الإطلاق. وقد أخرج الترمذي من حديث سعد (إن الله جواد يحب الجود)- الحديث. وله في حديث أنس رفعة أنا أجود ولد آدم وأجودهم بعدي رجل علم علما فنشر علمه. ورجل جاد بنفسه في سبيل الله وفي سنده مقال، وفي الصحيح من وجه آخر عن أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم أشجع الناس وأجود الناس- الحديث. (بالخير) اسم جامع لكل ما ينتفع به أي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حد ذاته بقطع النظر عن أوقاته الكريمة وأحواله الكريمة أشد الناس جودا بكل خير من خيري الدنيا والآخرة لله وفي الله من بذل العلم، والمال وبذل نفسه لإظهار الدين، وهداية العباد وإيصال النفع غليهم بكل طريق وقضاء حوائجهم وتحمل أثقالهم (وكان أجود ما يكون) "ما" مصدرية، وهو جمع لأن أفعل التفضيل إنما يضاف إلى جمع، والتقدير كان أجود أكوانه ويجوز في أجود الرفع والنصب، أما الرفع فهو أكثر الروايات وأشهرها ووجهه أن يكون اسم كان وخبره محذوف وقوله (في رمضان) في محل نصب على الحال قائم مقام الخبر المحذوف الذي هو حاصل أو واقع على ما تقرر في باب أخطب ما يكون الأمير قائما، والتقدير كان أجود أكوانه - صلى الله عليه وسلم - حاصلا حال كونه في رمضان،

(14/279)


وإن شئت جعلت في رمضان هو الخبر كقولهم ضربي في الدار، لأن المعنى كان أجود أكوانه أي الكون الذي هو أجود الأكوان حاصلا في هذا الوقت فلا يتعين أن يكون من باب أخطب ما يكون الأمير قائما ووجه آخر أن يكون في كان ضمير الشأن وأجود ما يكون مبتدأ، وخبره في رمضان والتقدير كان الشأن أجود أكوان الرسول - صلى الله عليه وسلم - في رمضان أي حاصل في رمضان. ووجه آخر في كان ضمير يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويجعل أجود ما يكون إما مبتدأ خبره قوله في رمضان من باب قولهم أكثر شربي السويق في يوم الجمعة، والجملة بكمالها خبر كان كقولك كان زيد أحسن ما يكون في يوم الجمعة، وأما بدلا من الضمير في كان فيكون من بدل الاشتمال كما تقول كان زيد علمه حسنا. ووجه آخر أن يكون أجود اسم كان ويكون الوقت مقدارا كما في مقدم الحاج، والتقدير كان أجود أوقات كونه في رمضان وإسناد الجود إلى أوقاته عليه الصلاة والسلام على سبيل المبالغة كإسناد الصوم إلى النهار والقيام إلى الليل في قولهم نهاره صائم وليله قائم وأما النصب فهو رواية الأصيلي ووجهه أن يجعل اسم كان ضمير النبي صلى الله عليه وسلم وأجود خبرها "وما" حينئذ مصدرية ظرفية، والتقدير كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدة كونه في رمضان أجود منه في غيره. وقال البدر الدماميني في المصابيح: ولك مع نصب أجود أن تجعل "ما" نكرة موصوفة فيكون في رمضان متعلقا "بكان" مع أنها ناقصة بناء على القول بدلالتها على الحدث، وهو صحيح عند جماعة واسم "كان" ضمير عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى جوده المفهوم مما سبق أي وكان - صلى الله عليه وسلم - في رمضان أجود شيء يكون، أو وكان جوده في رمضان أجود شيء يكون فجعل الجود متصفا بالأجودية مجازا كقولهم شعر شاعر- انتهى. قلت: ويؤيد الرفع ويرجحه وروده بدون كان عند البخاري في المناقب في باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي فضائل

(14/280)


القرآن. وإنما كان - صلى الله عليه وسلم - أجود ما يكون في رمضان لنه موسم الخيرات وتزايد الخيرات فإن الله تعالى يتفضل على عباده في هذا الشهر ما لا يتفضل عليهم في غيره فأراد صلى الله عليه وسلم متابعة سنة الله عزوجل (كان جبريل يلقاه) أي ينزل عليه، وفي رواية مسلم (إن جبريل كان يلقاه) وللبخاري( وكان جبريل يلقاه) وفي رواية له أيضا (لأن جبريل كان يلقاه) (كل ليلة) وفي رواية (في كل ليلة) (في رمضان) زاد في رواية حتى ينسلخ أي رمضان وهذا ظاهر في أنه كان يلقاه في كل رمضان منذ أنزل عليه القرآن إلى رمضان الذي توفى بعده وليس بمقيد برمضانات الهجرة وإن كان أيام شهر رمضان إنما فرض بعد الهجرة إذ أنه كان يسمى به قبل فرض صومه، نعم يحتمل أنه لم يعارضه في رمضان من السنة الأولى لوقوع ابتداء النزول فيها ثم فتر الوحي
يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة)).

(14/281)


ثم تتابع (يعرض) بفتح الياء وكسر الراء أي يقرأ (عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن) أي بعضه أو معظمه. قال ابن حجر: يعني على جهة المدارسة كما في رواية للبخاري فيدارسه القرآن، وهي أن تقرأ على غيرك مقدارا معلوما ثم يقرأ عليك أو يقرأ قدره مما بعده وهكذا- انتهى. قيل: الحكمة فيه إن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس. والغنى سبب الجود والجود في الشرع إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، وهو أعم من الصدقة، وأيضا فرمضان موسم الخيرات لأن نعم الله على عباده فيه زائدة على غيره فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤثر متابعة سنة الله في عباده، فبمجموع ما ذكر من الوقت والمنزول به والنازل والمذاكرة حصل المزيد في الجود والعلم عند الله. وفي الحد إطلاق القرآن على بعضه وعلى معظمه لأن أول رمضان من البعثة لم يكن نزل من القرآن إلا بعضه، ثم كذلك كل رمضان بعده إلى رمضان الأخير فكان قد نزل كله إلا ما تأخر نزوله بعد رمضان المذكور وكان في سنة عشر إلى أن توفي - صلى الله عليه وسلم - في ربيع الأول سنة إحدى عشرة، ومما نزل في تلك المدة ?اليوم أكملت لكم دينكم? [المائدة:3] فإنها نزلت يوم عرفة بالاتفاق، ولما كان ما نزل في تلك الأيام قليلا اغتفروا أمر معارضته فاستفيد منه إطلاق القرآن على بعضه مجازا، ومن ثم لا يحنث من حلف ليقرأ القرآن فقرأ بعضه إلا أن قصد الجميع كذا في الفتح. وإنما خص الليل المذكور بمعارضة القرآن لأن المقصود من التلاوة الحضور والفهم والليل مظنة ذلك بخلاف النهار، فإن فيه الشواغل والعوارض على ما لا يخفى، ولعله صلى الله عليه وسلم كان يقسم ما نزل من القرآن في كل سنة على ليالي رمضان أجزاء فيقرأ كل ليلة جزأ في جزء من الليلة، وبقية ليلته لما سوى ذلك من تهجد وراحة وتعهد أهله، ويحتمل انه كان يعيد ذلك الجزء مرارا بحسب تعدد الحروف المنزل بها القرآن (فإذا لقيه جبريل كان) أي النبي - صلى الله

(14/282)


عليه وسلم - (أجود بالخير من الريح المرسلة) بفتح السين أي المطلقة يعني أنه في الإسراع بالجود أسرع من الريح وعبر بالمرسلة إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة وإلى عموم النفح بجوده كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه. قال ابن المنير: وجه التشبيه بين أجوديته صلى الله عليه وسلم بالخير، وبين أجودية الريح المرسلة إن المراد بالريح، ريح الرحمة التي يرسلها الله تعالى:لإنزال الغيث العام الذي يكون سببا لإصابة الأرض الميتة وغير الميتة، أي فيعم خيره وبره من هو بصفة الفقر والحاجة، ومن هو بصفة الغنى والكفاية أكثر مما يعم الغيث الناشئة عن الريح المرسلة - صلى الله عليه وسلم -. وقال الطيبي: يحتمل أنه أراد بها التي أرسلت بالبشرى بين يدي رحمة الله تعالى، وذلك لشمول روحها وعموم نفعها قال تعالى: ?والمرسلات عرفا? [المرسلات-1] فاحد الوجوه في الآية أنه أراد بها الرياح المرسلات للإحسان والمعروف، ويكون انتصاب عرفا بالمفعول له يعني هو أجود من تلك الريح في عموم النفع والإسراع فيه،
متفق عليه.

(14/283)


ولفظ الخير شامل لجميع أنواعه بحسب إختلاف ما جاءت الناس به، وكان عليه الصلاة والسلام يجود على كل أ؛د منهم بما يسد خلته ويشفى علته. قال الحافظ: في الحديث جوازا لمبالغة في التشبيه، وجواز تشبيه المعنوي بالمحسوس ليقرب لفهم سامعه وذلك أنه أثبت له أولا وصف الأجودية، ثم أراد أن يصفه بأزيد من ذلك فشبه جوده بالريح المرسلة بل جعله أبلغ في ذلك، منها، لأن الريح قد تسكن. وفيه الاحتراس لأن الريح منها العقيم الضار، ومنها المبشر بالخير فوصفها بالمرسلة ليعين الثاني قال تعالى: ?هو الذي يرسل الرياح بشرا?[الأعراف:57] فالريح المرسلة تستمر مدة إرسالها، وكذا كان عمله صلى الله عليه وسلم في رمضان ديمة لا تنقطع، وفيه استعمال أفعل التفضيل في الإسناد الحقيقي والمجازي لأن الجود منه - صلى الله عليه وسلم - حقيقة ومن الريح مجاز-انتهى. وقيل: وتعبيره بأفضل نص في كونه أعظم جودا منها لأن الغالب عليها أن تأتي بالمطر، وربما خلت عنه وهو لا ينفك عن العطاء والجود. قال الطيبي: شبه نشر جوده بالخير في العباد بنشر الريح القطر في البلاد وشتان ما بين الأثرين، فإن أحدهما يحيى القلوب بعد موتها، والأخر يحيى الأرض بعد موتها. وقال بعضهم: فضل جوده على جود الناس، ثم فضل جوده في رمضان على جود في غيره، ثم فضل جوده في ليالي رمضان وعند لقاء جبريل على جوده في سائر أوقات رمضان، ثم شبه بالريح المرسلة في التعميم والسرعة. قال ابن الملك: لأن الوقت إذا كان أشرف يكون الجود فيه أفضل-انتهى. وفي الحديث فوائد، منها الحث على الجود في كل وقت ومنها الزيادة في رمضان وعند الاجتماع بأهل الصلاح، وفيه زيارة الصلحاء وأهل الخير وتكرار ذلك إذا كان المزور لا يكرهه، واستحباب الإكتثار من القراءة في رمضان، وكونها أفضل من سائر الأذكار إذ لو كان الذكر أفضل أو مساويا لفعلاه. فإن قيل: المقصود تجويده الحفظ. قلنا: الحفظ كان حاصلا والزيادة فيه تحصل ببعض هذه

(14/284)


المجالس (متفق عليه) أخرجه البخاري في بدأ الوحي والصوم وصفة النبي صلى الله عليه وسلم وبدأ الخلق وفضائل القرآن، ومسلم في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه أيضا أحمد (ج1:ص231-288-326-363-366-373) وزاد في رواية لا يسئل عن شيء إلا أعطاه، وأخرجه الترمذي في الشمائل والبيهقي (ج4:ص305) قال ابن حجر: فإن قلت ما وجه مناسبة ذكر هذا الحديث لهذا الباب: لأن غاية الأجودية فيه إنما حصلت في حال الاعتكاف لأن أفضل أوقات مدارسة جبريل له العشر الأخير، وهو فيه معتكف كما مر في الحديث الأول فكأن المصنف وأصله يقولان بتأكد الاعتكاف في العشر الأخير لأن له غايات علية إلا أرى إن غاية جوده عليه الصلاة والسلام إنما كانت تحصل وهو معتكف وأبدى شارح لذلك مناسبة بعيدة جدا فقال قلت من حيث إتيان أفضل الملائكة إلى أفضل خليقة بأفضل كلام من أفضل متكلم في أفضل أوقات، فالمناسب أن يكون في أفضل بقاع-انتهى.
2119- (3) وعن أبي هريرة، قال: (( كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم: القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض، وكان يعتكف كل عام عشرا، فاعتكف عشرين في العام الذي قبض))

(14/285)


2119- قوله: (كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم) هو فعل لم يسم فاعله للعلم به أي كان جبريل يعرض عليه. قال الحافظ: كذا لهم بضم أوله على البناء للمجهول وفي بعضها بفتح أوله بحذف الفاعل، فالمحذوف هو جبريل صرح به في رواية الإسماعيلي، ولفظه كان جبريل يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في كل رمضان، ولا منافاة بين هذا وبين ما تقدم من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعرض على جبريل، لأنه يحمل على أن كلا منهما كان يعرض على الآخر على سبيل المدارسة. (القرآن) أي معظمه أو بعضه (كل عام مرة) أي ليالي رمضان من زمن البعثة أو من بعد فترة الوحي إلى رمضان الذي توفي بعده. (فعرض) أي القرآن (عليه) أي على النبي (مرتين) في رواية إسماعيلي عرضتين (في العام الذي قبض) زاد في رواية فيه، واختلف هل كانت العرضة الأخيرة بجميع الأحرف السبعة المأذون في قراءتها أو بحرف واحد منها، وعلى الثاني فهل هو الحرف الذي جمع عليه عثمان الناس أو غيره. وقد روى أحمد وابن أبي داود والطبري من طريق عبيدة السلماني أن الذي جمع عليه عثمان الناس يوافق العرضة الأخيرة، ونحوه عند الحاكم من حديث سمره وإسناده حسن وقد صححه هو ولفظه عرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضات، ويقولون إن قراءتنا هي العرضة الأخيرة. وأخرج أبوعبيد من طريق داود بن أبي هند قال قلت للشعبي قوله تعالى: ?شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن? [البقرة:185] أما كان ينزل عليه سائر السنة؟ قال: بلى، ولكن جبريل كان يعارض النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان ما أنزل عليه فيحكم الله ما يشاء وينسخ ما يشاء، فكان السر في عرضه مرتين في سنة الوفاة استقراره على ما كتب في المصحف العثماني، والاقتصار عليه وترك ما عداه، ويحتمل أن يكون لأن رمضان في السنة الأولى من نزول القرآن لم يقع فيه مدارسة لوقوع ابتداء النزول في رمضان ثم فتر الوحي فوقعت المدارسة في السنة الأخيرة في

(14/286)


رمضان مرتين ليستوي عدد السنين والعرض (وكان يعتكف كل عام عشرا) وفي رواية يعتكف في كل رمضان عشرة أيام وفي رواية النسائي يعتكف العشر الأواخر من رمضان، وهذا محمول على الغالب لأنه قد جاء أنه فاته سنة فقضى (فاعتكف عشرين) بكسر العين والراء العقد الذي بعد العشر أي عشرين يوما من رمضان، ويحتمل أن يكون بفتحهما على التثنية، والمراد العشر الأوسط والأخير لأن الظاهر من إطلاق العشرين إنها متوالية، والعشر الأخير منها فيلزم منه دخول العشر الأوسط فيها، وفيه دليل على أن الاعتكاف لا يختص بالعشر الأخير وإن كان هو فيه أفضل (في العام الذي قبض) أي توفي فيه قيل: وجه التضعيف في العام الأخير من
رواه البخاري.
2120 - (4) وعن عائشة، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف أدنى إلى رأسه و في المسجد فأرجله،

(14/287)


الاعتكاف أنه صلى الله عليه وسلم علن بانقضاء أجله فأراد أن يستكثر من أعمال الخير ليبين لأمته الاجتهاد في العمل إذا بلغوا أقصى العمر ليلقوا الله على خير أحوالهم. وقيل: السبب فيه إن جبريل كان يعارضه بالقرآن في كل رمضان مرة فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين فلذلك اعتكف قدر ما كان يعتكف مرتين. والحاصل أنه فعل ذلك مناسبة لعرض القرآن مرتين،ولعله وقع كل عرض في عشر. وقال ابن العربي: يحتمل أن يكون سبب ذلك أنه لما ترك الاعتكاف في العشر الأخير بسبب ما وقع من أزواجه واعتكف بدله عشرا من شوال اعتكف في العام الذي يليه عشرين ليتحقق قضاء العشر في رمضان- انتهى. قال الحافظ: وأقوى من ذلك أنه إنما اعتكف في ذلك العام عشرين لأنه كان في العام الذي قبله مسافرا، ويدل لذلك ما أخرجه النسائي واللفظ له وأبوداود وصححه ابن حبان وغيره من حديث أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان فسافر عاما فلم يعتكف، فلما كان العام القابل اعتكف عشرين، ويحتمل تعدد هذه القصة بتعدد السبب فيكون مرة بسبب ترك الاعتكاف لعذر السفر ومرة بسبب عرض القرآن مرتين- انتهى. (رواه البخاري) أي بتمامه في فضائل القرآن وكذا النسائي في الكبرى، ورواه ابن ماجه في الصوم وأخرج البخاري أيضا وأبوداود والدارمي والبيهقي في الصوم قصة الاعتكاف.

(14/288)


2120- قوله: (أدنى) من الإدناء أي قرب (إلي) بتشديد الياء (رأسه بالنصب يعني أخرج إلى رأسه من المسجد وأنا في حجرتي، ففي رواية للبخاري إنها كانت ترجل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي حائض وهو معتكف في المسجد وهي في حجرتها يناولها رأسه وفي رواية أحمد والنسائي كان يأتيني وهو معتكف في المسجد فيتكئ على باب حجرتي فاغسل رأسه وسائره في المسجد (وهو في المسجد) حال مؤكده) (فأرجله) من الترجيل بالجيم وهو تسريح الشعر أي استعمال المشط في الرأس وتنظيفه وتحسينه أي أصلح شعر رأسه بالمشط وأنظفه وأحسنه فهو من مجاز الحذف، لأن الترجيل للشعر لا للرأس، أو من إطلاق اسم المحل على الحال وفيه دليل على استحباب تسريح شعر الرأس، وإذا لم يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في زمن اعتكافه مع قصره واشتغاله بالعبادة ففي غيره أولى، وفيه أنه يجوز للمعتكف التنظيف والتطيب والغسل والحلق والتزين إلحاقا بالترجل. قال الخطابي في الحديث من الفقه : إن ترجيل الشعر يجوز للمعتكف وفي معناه حلق الرأس وتقليم الأظفار وتنظيف البدن من الشعث والدرن. وقال الحافظ: والجمهور على أنه لا يكره فيه إلا ما يكره في المسجد وعن مالك تكره فيه الصنائع والحرف حتى طلب العلم- انتهى. وفيه إن المعتكف إذا
وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان)).

(14/289)


أخرج بعضه عن المسجد كيده ورجله ورأسه لم يبطل اعتكافه، لأن إخراج البعض لا يجري مجرى الكل، وإن من حلف أن لا يدخل دارا أو لا يخرج منها فأدخل أو أخرج بعضه لا يحنث حتى يخرج رجليه ويعتمد عليها، وفيه إن الاعتكاف لا يصح في غير المسجد وإلا لكان يخرج منه لترجيل الرأس، وفيه إن بدن الحائض طاهر إلا موضع الدم إذ لو كان نجسا لما أمكنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ترجيل رأسه وغسله وفيه استخدام الزوجة في الغسل والطبخ والخبز وغيرها برضاها. قال النووي: وعلى هذا تظاهرت دلائل السنة وعمل السلف وإجماع الأمة. وأما بغير رضاها فلا يجوز لأن الواجب عليها تمكين زوجها من نفسها وملازمة بيته فقط- انتهى. قال الولي العراقي في شرح التقريب: (ج4 ص176) وهذا الذي ذكره إنما هو بطريق القياس فإنه ليس منصوصا، وشرط القياس مساواة الفرع للأصل، وفي الفرع هنا زيادة مانعة من الإلحاق وهي المشقة الحاصلة من الغسل والطبخ ونحوهما فلا يلزم من استخدامها في الأمر الخفيف احتمال ذلك في الثقيل الشديد، ولسنا ننكر هذا الحكم فإنه متفق عليه، وإنما الكلام في الاستدلال من الحديث والله أعلم. (وكان لا يدخل البيت) أي بيته وهو معتكف (إلا لحاجة الإنسان) قال الجزري في جامع الأصول (ج1 ص324) حوائج الإنسان كثيرة والمراد منها ههنا كل ما يضطر إليه مما لا يجوز له فعله في معتكفة- انتهى. وفسرها الزهري بالبول والغائط، وقد وقع الإجماع على استثناءهما واختلفوا في غيرهما من الحاجات كالأكل والشرب وعيادة المريض وشهود الجنازة والجمعة ويلتحق بالبول والغائط والقيء والفصد والحجامة وغسل الجنابة لمن احتاج إلى ذلك. قال الباجي: تريد عائشة لا يدخل بيته إلا لضرورة قضاء الحاجة وأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - على الوجوب، وهذا يقتضي أن المعتكف لا يدخل بيته إلا لضرورة حاجة الإنسان وما يجري مجراه من طهارة الحدث وغسل الجنابة والجمعة مما تدعوا لضرورة إليه ولا

(14/290)


يفعل في المسجد ولا يدخله لأكل أو نوم ولا غيره من الأفعال التي يباح فعلها في المسجد- انتهى. وقال ابن قدامة: (ج3 ص191) إن المعتكف ليس له الخروج من معتكفه إلا لما لابد منه ثم ذكر حديث عائشة هذا وحديثها الآتي في الفصل الثاني بلفظ: السنة للمعتكف أن لا يخرج إلا لما لابد منه ثم قال ولا خلاف في أن له الخروج لما لابد منه. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن للمعتكف أن يخرج من معتكفه للغائط والبول، ولأن هذا مما لابد منه ولا يمكن فعله في المسجد قال: والمراد بحاجة الإنسان البول والغائط كنى بذلك عنهما لأن كل إنسان يحتاج إلى فعلهما وفي معناه الحاجة إلى المأكول والمشروب إذا لم يكن من يأتيه به فله الخروج إليه إذا احتاج إليه وإن بغتة القيء فله أن يخرج ليتقيأ خارج المسجد وكل ما لابد منه، ولا يمكن فعله في المسجد فله الخروج إليه، ولا يفسد اعتكافه، وكذلك له الخروج إلى ما أوجبه الله تعالى عليه مثل من يعتكف في مسجد لا جمعة فيه، فيحتاج إلى خروجه ليصلي الجمعة. ويلزم السعي إليها فله الخروج إليها ولا يبطل اعتكافه، وبهذا
متفق عليه.
2121 - (5) وعن ابن عمر، أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كنت نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة
قال أبوحنيفة. وقال الشافعي: لا يعتكف في غير الجامع إذا كان اعتكافه يتخلله جمعة نذر اعتكافا فخرج منه لصلاة الجمعة بطل اعتكافه، وعليه الاستئناف. ولنا أنه خرج لواجب فلم يبطل اعتكافه كالمعتدة تخرج لقضاء العدة وكالخارج لإنقاذ غريق أو إطفاء حريق أو أداء شهادة تعينت عليه- انتهى. وسيأتي مزيد الكلام على ذلك في الفصل الثاني (متفق عليه) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، وفي الصوم وفي اللباس، ومسلم في الطهارة واللفظ له إلا قوله "أدنى" فإنه للترمذي، والذي في صحيح مسلم يدنى أي بلفظ " المضارع" وكذا وقع عند مالك وأبي داود وابن ماجه، والبيهقي (ج4 ص315).

(14/291)


2121- قوله: (أن عمر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي بالجعرانه لما رجعوا من حنين كما في رواية البخاري في النذر، ويستفاد منه الرد على من زعم أن اعتكاف عمر كان قبل المنع من الصيام في الليل، لأن غزوة حنين متأخرة عن ذلك (كنت نذرت في الجاهلية) زاد مسلم (فلما أسلمت وسألت) وفيه رد على من زعم أن المراد بالجاهلية ما قبل فتح مكة وأنه إنما نذر في الإسلام، وأصرح من ذلك ما أخرجه الدارقطني ثم البيهقي من طريق سعيد بن بشير عن عبيدالله بلفظ: نذر عمر في الشرك أن يعتكف (أن اعتكف ليلة) استدل به على جواز الاعتكاف بغير صوم لأن الليل ليس بوقت صوم وقد أمره صلى الله عليه وسلم أن يفيء بنذره على الصفة التي أوجبها. قال الحافظ: لو كان الصوم شرطا لصحة الاعتكاف لأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - به وتعقب بأن في رواية للشيخين يوما بدل "ليلة" وقد جمع ابن حبان وغيره بين الروايتين بأنه نذر اعتكاف يوم وليلة، فمن أطلق ليلة أراد بيومها ومن أطلق يوما أراد بليلته وأجاب ابن الجوزي عن رواية اليوم بجوابين. أحدهما: احتمال أن يكون نذر نذرين فيكون كل لفظ منهما حديثا مستقلا والثاني: أنه ليس فيه حجة إذ لا ذكر للصوم فيه- انتهى. قيل: قد ورد الأمر بالصوم برواية الثقة وهو عبدالله بن بديل عند أبي داود والنسائي صريحا بلفظ: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: اعتكف وصم، وابن بديل قال فيه ابن معين مكي صالح، وذكره ابن حبان وابن شاهين في الثقات، وزيادة الثقة مقبولة، ومن لم يذكر الشي ليس بحجة على من ذكره كذا قال ابن التركماني. قلت: هذه الرواية أخرجها أبوداود والنسائي والدارقطني (ص247) والبيهقي (ج4 ص316) والحاكم (ج1 ص439) كلهم من طريق عبدالله ابن بديل بن ورقاء المكي الخزاعي. قال الحافظ: وهو ضعيف وذكر ابن عدي والدارقطني أنه تفرد بذلك عن عمرو بن دينار- انتهى. قلت: قال الدارقطني: تفرد به عبدالله بن بديل الخزاعي عن عمرو، وهو

(14/292)


ضعيف
الحديث، وقال سمعت أبا بكر النيسابوري يقول هذا حديث منكر لأن الثقات من أصحاب عمر ولم يذكروا فيه الصوم، منهم ابن جريج وابن عيينة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وغيرهم، وابن بديل ضعيف الحديث- انتهى. وقال ابن عدي: له أحاديث تنكر عليه فيها زيادة في المتن أو في الإسناد ثم يروي له هذا الحديث، وقال لا أعلم ذكر فيه الصوم مع الاعتكاف إلا من روايته- انتهى. وقال في التقريب في ترجمته: صدوق يخطئ- انتهى. فالظاهر إن زيادة الأمر بالصوم في روايته من خطأه. قال الحافظ: ورواية من روى يوما شاذة. وقد وقع في رواية سليمان بن بلال عن عبيدالله بن عمر عند البخاري في الاعتكاف فاعتكف ليلة، فدل على أنه لم يزد على نذره شيئا وإن الاعتكاف لا صوم فيه وأنه لا يشترط له حد معين. قال وباشتراط الصيام. قال ابن عمر وابن عباس أخرجه عبدالرزاق عنهما بإسناد صحيح وعن عائشة نحوه، وبه قال مالك و الأوزاعي والحنفية. واختلف عن أحمد وإسحاق- انتهى. وقال القسطلاني: هذا أي عدم اشتراط الصوم مذهب الشافعية والحنابلة، وعن أحمد أيضا لا يصح إلا بصوم، والأول هو الصحيح عندهم وعليه أصحابهم. وقالت المالكية والحنفية: لا يصح إلا بصوم انتهى. قلت: ذهبت الشافعية إلى عدم اشتراط الصوم مطلقا، سواء كان الاعتكاف واجبا أو نفلا، وهو مذهب الحنابلة إلا أن يكون نذر الاعتكاف بصوم فيجب حينئذ بالنذر لا بالاعتكاف. قال الخرقى: ويجوز بلا صوم إلا أن يقول في نذره بصوم. قال ابن قدامة: المشهور في المذهب إن الاعتكاف يصح بغير صوم روى ذلك عن علي وابن مسعود وسعيد بن المسيب وعمر بن عبدالعزيز والحسن وعطاء وطاووس والشافعي وإسحاق، وعن أحمد رواية أخرى إن الصوم شرط في الاعتكاف، قال: إذا اعتكف يجب عليه الصوم، وروى ذلك عن ابن عمر وابن عباس وعائشة وبه قال الزهري ومالك وأبوحنيفة والليث والثوري والحسن بن حيى- انتهى. قلت: وذهبت المالكية إلى اشتراط الصوم مطلقا سواء

(14/293)


كان الاعتكاف مندوبا أو واجبا فالكل عندهم سواء في ذلك، وعند الحنفية فيه تفصيل. قال الشمني: الصوم شرط لصحة الاعتكاف الواجب رواية واحدة، ولصحة التطوع (أي المندوب) رواية الحسن عن أبي حنيفة (لأن التطوع في رويته مقدر بيوم) وأما في رواية الأصل وهو قول محمد بل قيل إنه ظاهر الرواية عن الفقهاء الثلاثة فليس بشرط (بناء على أن التطوع غير مقدر بيوم في رواية الأصل) لأن مبنى النفل على المساهلة- انتهى. وهذا هو المرجح عندهم. وأما القسم الثالث من الاعتكاف وهو المسنون المؤكد فالمتون ساكتة عن بيان حكمه، ومال ابن عابدين إلى اشتراط الصوم فيه قال: لأنه مقدر بالعشر الأخير حتى لو اعتكفه بلا صوم لمرض أو سفر ينبغي أن لا يصح عنه بل يكون نفلا فلا تحصل به إقامة سنة الكفاية، ورجح ابن نجيم في البحر عدم اشتراط الصوم في هذا القسم، قلت: واحتج من ذهب إلى اشتراط الصوم لصحة الاعتكاف مطلقا بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعتكف إلا يصوم وفيه نظر لما صح عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكف في

(14/294)


العشر الأول من شوال ومن جملتها يوم الفطر، قال الإسماعيلي: فيه دليل على جواز الاعتكاف بغير صوم لأن أول شوال هو يوم الفطر وصومه حرام، وأجاب العيني عن ذلك بأنه ليس فيه دليل لما قاله، لأن المراد من قوله: اعتكف في العشر الأول أي كان ابتداءه في العشر الأول فإذا اعتكف من اليوم الثاني من شوال يصدق عليه أنه ابتدأ في العشر الأول واليوم الأول منه يوم أكل وشرب وبعال كما ورد في الحديث، والاعتكاف هو التخلي للعبادة فلا يكون اليوم الأول محلا له بالحديث. وقال ابن التركماني: من اعتكف الأيام التسعة من شوال يصدق عليه أنه اعتكف في العشر، وفي الصحيحين أنه عليه السلام كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان ولم يكن يستغرق العشر كلها- انتهى. ولا يخفى ما في كلامهما من التكلف وارتكاب المجاز. واحتجوا أيضا لذلك بحديث عائشة آخر أحاديث الفصل الثاني وسيأتي الجواب عنه هناك. واحتج بعض المالكية لذلك بقوله تعالى: ?ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون بالمساجد? [البقرة:187] قال فذكر الاعتكاف عقب الصوم وتعقب بأنه ليس فيه ما يدل على تلازمهما وإلا لزم أن لا صوم إلا بالاعتكاف ولا قائل به كذا قال الحافظ: وتبعه الشوكاني ورد ذلك بأنهم لم يدعوا التلازم بل مفاد كلامهم ملزومية الاعتكاف للصائم واللازم إذا كان أعم كالصوم هنا ينفرد عن الملزوم أي يوجد بدونه فسقط قوله، وإلا لزم أن لا صوم إلا باعتكاف بخلاف الملزوم الذي هو الاعتكاف لا يوجد إلا بلازمه وهو الصوم. وفيه إن مجرد ذكر الاعتكاف مع الصوم أو خطاب الصائمين في قوله: ?ولا تباشروهن? لا يدل على أن الصوم لازم للاعتكاف وإن الاعتكاف لا يصح بغير صوم، فعدم اشتراط الصوم هو الحق لا، كما قال ابن القيم: إن الراجح الذي عليه جمهور السلف إن الصوم شرط في الاعتكاف. وقد روى عن علي وابن مسعود انه ليس على المعتكف صوم إلا أن يوجبه على نفسه، ويدل على ذلك حديث ابن عباس أن النبي

(14/295)


صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه ) رواه الدارقطني. وقال رفعه أبوبكر السوسى وغيره لا يرفعه، وأخرجه الحاكم مرفوعا وقال صحيح الإسناد. وفي الحديث رد على من قال أقل الاعتكاف عشرة أيام أو أكثر من يوم. قال الحافظ: اتفقوا على أنه لا حد لأكثره واختلفوا في أقله فمن شرط فيه الصيام قال: أقله يوم، ومنهم من قال: يصح مع شرط الصيام في دون اليوم حكاه ابن قدامة (ج3 ص187) وعن مالك يشترط عشرة أيام وعنه يوم أو يومان ومن لم يشترط الصوم، قالوا: أقله ما يطلق عليه اسم لبث ولا يشترط القعود. وقيل: يكفي المرور مع النية كوقوع عرفة، وروى عبدالرزاق عن يعلى بن أمية الصحابي إني لأمكث في المسجد الساعة، وما أمكث إلا لاعتكف- انتهى. وقال العيني: أقل الاعتكاف نفلا
في المسجد الحرام؟ قال: فأوف بنذرك)) متفق عليه.
?الفصل الثاني?
2122- (6) عن أنس، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((يعتكف في العشر الأواخر من رمضان،

(14/296)


يوم عند أبي حنيفة، وبه قال مالك: وعند أبي يوسف أكثر اليوم، وعند محمد ساعة وبه قال الشافعي: وأحمد في رواية، وحكى أبوبكر الرازي عن مالك إن مدة الاعتكاف عشرة أيام فيلزم بالشروع ذلك وفي الجلاب أقله يوم والاختيار عشرة أيام، وفي الإكمال استحب مالك أن يكون أكثره عشرة أيام وهذا يرد نقل الرازي عنه- انتهى. وقال في الدر المختار: وأقله نفلا ساعة من ليل أو نهار عند محمد وهو ظاهر الرواية عن الإمام لبناء النفل على المسامحة وبه يفتي، والساعة في عرف الفقهاء جزء من الزمان لا جزء من أربعة وعشرين كما يقوله المنجمون- انتهى. (في المسجد الحرام) أي حول الكعبة ففي رواية عمرو بن دينار عند الكعبة، ولم يكن في عهده صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر جدار بل الدور حول البيت وبينها أبواب لدخول الناس فوسعه عمر رضي الله عنه بدور اشتراها وهدمها، واتخذ للمسجد جدارا قصيرا دون القامة، ثم تتابع الناس على عمارته وتوسيعه.(قال) صلى الله عليه وسلم (فأوف بنذرك) قال الشوكاني في حديث عمر: دليل على أنه يجب الوفاء بالنذر من الكافر متى أسلم. وقد ذهب إلى هذا بعض أصحاب الشافعي وعند الجمهور لا ينعقد نذر الكافر، وحديث عمر حجة عليهم. وقد أجابوا عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرف بأن عمر قد تبرع بفعل ذلك أذن له به لأن الاعتكاف طاعة، ولا يخفى ما في هذا الجواب من المخالفة للصواب. وأجاب بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم أمره بالوفاء استحبابا لا وجوبا، ويرد بأن هذا الجواب لا يصلح لمن أدعى عدم الانعقاد- انتهى. وقال السندي: لا مانع من القول بأن نذر الكافر ينعقد موقوفا على إسلامه فإن أسلم لزمه الوفاء به في الخير والكفر، وإن كان يمنع عن انعقاده منجزا لكن لا نسلم أن يمنع عنه موقوفا، وحديث الإسلام يجب ما قبله من الخطايا لا ينافيه لأنه في الخطايا لا في النذور وليس النذر منها- انتهى. وقال القسطلاني: وعند الحنابلة يصح نذر الكافر

(14/297)


وعبارة المرداوي في تنقيح المقنع النذر مكروه، وهو إلزام مكلف مختار ولو كافرا بعبادة نصا نفسه لله تعالى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الاعتكاف والخمس والمغازي والنذور ومسلم في النذور وأخرجه أيضا أحمد (ج1 ص37 وج2 ص10- 20- 35- 82) وأخرجه مالك في الصيام والترمذي وأبوداود و النسائي في النذور وابن ماجه في الصيام وفي الكفارات والبيهقي في الصيام.
2122- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في العشر الأواخر من رمضان) أي يديم على الاعتكاف فيها
فلم يعتكف عاما، فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين)).

(14/298)


(فلم يعتكف عاما) أي لعذر السفر يدل عليه رواية البيهقي بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان مقيما اعتكف العشر الأواخر وإذا سافر اعتكف العام المقبل عشرين يوما، ويدل عليه أيضا حديث أبي بن كعب الذي أشار إليه المصنف كما سيأتي (فلما كان العام المقبل) اسم فاعل، من الإقبال (اعتكف عشرين) بكسر العين والراء. وقيل: بفتحهما على التثنية. قال في اللمعات. أي اهتماما ودلالة على التأكيد، لا. لأن ما فات من النوافل المؤقتة يقضى- انتهى. وقال الطيبي: دل الحديث على أن النوافل المؤقتة تقضى إذا فاتت كما تقضي الفرائض- انتهى. قال القاري: والظاهر إن التشبيه لمجرد القضاء بعد الفوت وإلا فقضاء الفرائض فرض وقضاء النوافل نفل- انتهى. قلت في الحديث دليل على أن من اعتاد اعتكاف أيام ثم لم يمكنه أن يعتكفها أنه يستحب له قضاءها فكان قضاءه صلى الله عليه وسلم له على طريق الاستحباب، وقد بوب الترمذي على هذا الحديث باب ما جاء في الاعتكاف إذا خرج منه. قيل: وجه المناسبة بالترجمة أنه صلى الله عليه وسلم لما قضى الاعتكاف لمجرد النية، وكان لم يشرع فيه بعد فقضاءه بعد الشروع أولى بالثبوت- انتهى. قال الترمذي بعد إخراج هذا الحديث: واختلف أهل العلم في المعتكف إذا قطع اعتكافه قبل أن يتمه على ما نوى. فقال بعض أهل العلم إذا نقض اعتكافه وجب عليه القضاء، واحتجوا بالحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من اعتكافه فاعتكف عشرا من شوال، وهو قول مالك (وبه قال الحنفية) وقال بعضهم: إن لم يكن نذرا اعتكاف أو شي أوجبه على نفسه وكان متطوعا فخرج فليس عليه شي أن يقضى إلا أن يحب ذلك اختيارا منه ولا يجب ذلك عليه وهو قول الشافعي (وبه قال أحمد كما سيأتي) قال الشافعي: وكل عمل لك أن لا تدخل فيه فإذا دخلت فيه فخرجت منه فليس عليك أن تقضي إلا الحج والعمرة- انتهى. قلت: أراد الترمذي بالحديث الذي أشار إليه في قوله، واحتجوا بالحديث إلخ

(14/299)


حديث إلا خبية وقد تقدم لفظه في شرح الحديث الأول من هذا الباب وفيه رواية للبخاري، فترك الاعتكاف ذلك الشهر ثم اعتكف عشرا من شوال. وأما لفظ "خرج من اعتكافه" فلم أجده في الكتب الستة ولا ذكره الجزري في جامع الأصول ولم أقف على من أخرج الحديث بهذا اللفظ. قال ابن قدامة: (ج3ص184) وإن نوى اعتكاف مدة لم تلزمه، فإن شرع فيها فله إتمامها وله الخروج منها متى شاء، وبهذا قال الشافعي، وقال مالك: تلزمه بالنية مع الدخول فيه، فإن قطعه لزمه قضاءه. قال ابن عبدالبر: وإن لم يدخل فيه فالقضاء مستحب، ومن العلماء من أوجبه وإن لم يدخل فيه، واحتج بحديث إلا خبية. قال ابن قدامة: الحديث حجة عليه لا له فإن النبي صلى الله عليه وسلم ترك اعتكافه ولو كان واجبا لما تركه، وأزواجه تركن الاعتكاف بعد نيته وضرب اخبيتهن له، ولم يوجد عذر يمنع فعل الواجب ولا أمرن بالقضاء وقضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن واجبا عليه، وإنما فعله تطوعا لأنه
رواه الترمذي.
2123 - (7) وروى أبوداود، وابن ماجه

(14/300)


كان إذا عمل عملا أثبته وكان فعله لقضاءه كفعله لأداءه على سبيل التطوع به، لا على سبيل الإيجاد كما قضى السنة التي فاتته بعد الظهر وقبل الفجر فتركه دليل على عدم الوجوب لتحريم ترك الواجب، وفعله للقضاء لا يدل على الوجوب، لأن قضاء السنن مشروع. فإن قيل: إنما جاز تركه ولم يؤمر تركه من النساء بقضاءه لتركهن إياه قبل الشروع، قلنا فقد سقط الاحتجاج لاتفاقنا على أنه لا يلزم قبل شروعه فيه، فلم يكن القضاء دليلا على الوجوب مع الاتفاق على انتفاءه، قال: وليس في ترك الاعتكاف بعد الشروع فيه عمل يبطل فإن ما مضى من اعتكافه لا يبطل بترك اعتكاف المستقبل- انتهى مختصرا. وقال الحافظ تحت حديث الأخبية: فيه جواز الخروج من الاعتكاف بعد الدخول فيه، وإنه لا يلزم بالنية ولا بالشروع فيه، ويستنبط منه سائر التطوعات خلافا لمن قال باللزوم، وفيه إن أول الوقت الذي يدخل فيه المعتكف بعد صلاة الصبح (لما وقع في رواية للبخاري فإذا صلى الغداة حل مكانه الذي اعتكف فيه) وهو قول الأوزاعي والليث والثوري. وقال الأئمة الأربعة وطائفة: يدخل قبيل غروب الشمس وأولوا الحديث على أنه دخل من أول الليل ولكن إنما تخلى بنفسه في المكان الذي أعده لنفسه بعد صلاة الصبح، وهذا الجواب يشكل على من منع الخروج من العبادة بعد الدخول فيها، وأجاب عن هذا الحديث بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يدخل المعتكف ولا شرع في الاعتكاف، وإنما هم به ثم عرض له المانع المذكور فتركه فعلى هذا فاللازم أحد الأمرين إما أن يكون شرع في الاعتكاف، فيدخل على جواز الخروج منه، وإما أن لا يكون شرع فيدل على أن أول وقته بعد صلاة الصبح، قال وفيه إن الاعتكاف لا يجب بالنية. وأما قضاءه - صلى الله عليه وسلم - فعلى طريق الاستحباب، لأنه كان إذا عمل عملا أثبته، ولهذا لم ينقل إن نساءه اعتكفن معه في شوال- انتهى. قال بعض الحنفية بعد ذكر الإشكال المذكور: إن الحنفية صرحوا بأن من شرع في

(14/301)


الاعتكاف النفل ثم تركه لا يلزم قضاءه، لأنه لا يشترط له الصوم على الظاهر من المذهب- انتهى. وفيه إن البحث ههنا إنما هو في الاعتكاف في العشر الأخير من رمضان وهي سنة مؤكدة، والصوم شرط فيه عندهم فيلزم قضاءه إذا خرج منه، ولا يجوز الخروج منه بعد الشروع فيه، وسيأتي مزيد الكلام في ذلك في شرح الحديث الذي يليه (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا أحمد والحاكم (ج1ص439) والبيهقي (ج4ص314) وصححه الترمذي. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
2123- قوله: (وروى) وفي بعض النسخ: ورواه (أبوداود وابن ماجه) وكذا أحمد (ج5ص141)
عن أبي بن كعب.
2124 - (8) وعن عائشة، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل في معتكفه)).
والحاكم (ج1ص439) والبيهقي (ج4ص413) والنسائي وابن حبان وغيرهم (عن أبي بن كعب) إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان فسافر عاما فلم يعتكف فلما كان من العام المقبل اعتكف عشرين يوما لفظ ابن ماجه. قال السندي: قوله فسافر عاما الظاهر إنه عام الفتح وكان صلى الله عليه وسلم يهتم بأمر الاعتكاف فيقضي إن فاته. وقال الخطابي: فيه من الفقه إن النوافل المعتادة تقضي إذا فاتت كما تقضي الفرائض ومن هذا قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد العصر الركعتين الليلتين فاتتاه لقدوم الوفد عليه واشتغاله بهم- انتهى. والحديث سكت عليه أبوداود والمنذري وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي.

(14/302)


2124- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل في معتكفه) هذا لفظ الترمذي، ولمسلم وأبي داود ثم دخل معتكفه أي بحذف لفظة "في" ولابن ماجه ثم دخل المكان الذي يريد أن يعتكف فيه، وللبخاري فإذا صلى الغداة حل مكانه الذي اعتكف فيه وقوله "معتكفه" بصيغة المفعول أي مكان اعتكافه وقوله "دخل في معكتفه" أي انقطع فيه وتخلى بنفسه بعد صلاة الصبح لا إن ذلك وقت ابتداء اعتكافه بل كان يعتكف من الغروب ليلة الحادي والعشرين، وإلا لما كان معتكفا العشر بتمامه الذي ورد في عدة أخبار أنه كان يعتكف العشر بتمامه، وهذا هو المعتبر عند الجمهور لمريد اعتكاف عشر أو شهر، وبه قال الأئمة الأربعة ذكره الحافظ العراقي كذا في شرح الجامع الصغير للمناوي. قلت تأول الجمهور حديث عائشة هذا كما تقدم على أنه دخل المسجد بنية الاعتكاف من أول الليل ولكن إنما تخلى بنفسه في المكان الذي أعده لنفسه بعد صلاة الصبح فكان يطلع الفجر وهو صلى الله عليه وسلم في المسجد، ومن بعد صلاة الفجر يخلو بنفسه في المحل الذي أعده لاعتكافه. قال أبوطيب السندي في شرح الترمذي: وإنما جنح لجمهور إلى التأويل المذكور للعمل بالحديثين الأول، ما روى البخاري عن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان. والثاني، ما رواه عن أبي هريرة قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في كل رمضان عشرة أيام- الحديث. فاستفيد من الحديث الأول عشر ليال، ومن الآخر عشرة أيام فأولوا بما تقدم جمعا بين الحديثين- انتهى. وقال أبوالحسن السندي في حاشية ابن ماجه: ظاهر الحديث إن المعتكف يشرع في الاعتكاف بعد صلاة الصبح، ومذهب الجمهور أنه يشرع من ليلة الحادي والعشرين، وقد أخذ بظاهر الحديث قوم إلا أنهم حملوه على أنه يشرع من صبح الحادي والعشرين فرد عليه الجمهور بأن المعلوم إنه كان يعتكف العشر الأواخر، ويحث الصحابة عليه وعدد

(14/303)


العشر عدد
الليالي فتدخل فيه الليلة الأولى وإلا لا يتم هذا العدد أصلا وأيضا من أعظم ما يطلب بالاعتكاف إدراك ليلة القدر وهي قد تكون ليلة الحادي والعشرين كما جاء في حديث أبي داود فينبغي له أن يكون معتكفا فيها لا أن يعتكف بعدها. وأجاب النووي عن الجمهور بتأويل الحديث إنه دخل معتكفه وانقطع فيه وتخلى بنفسه بعد صلاة الصبح، لا إن ذلك وقت ابتداء الاعتكاف بل كان قبل المغرب معتكفا لابثا في جملة المسجد فلما أصبح انفرد-انتهى. ولا يخفى إن قولها "كان إذا أراد أن يعتكف" يفيد أنه كان يدخل المعتكف حين يريد الاعتكاف لا أنه يدخل في الشروع في الاعتكاف في الليل، وأيضا المتبادر من لفظ الحديث إنه بيان لكيفية الشروع. ثم لازم هذا التأويل أن يقال السنة للمعتكف أن يلبث أول ليلة في المسجد ولا يدخل في المعتكف. وإنما يدخل فيه من الصبح وإلا يلزم ترك العمل بالحديث، وعند تركه لا حاجة إلى التأويل والجمهور لا يقول بهذه السنة فيلزم عليهم ترك العمل بالحديث. وأجاب القاضي أبويعلى من الحنابلة بحمل الحديث على أنه كان يفعل ذلك في يوم العشرين ليستظهروا ببياض يوم زيادة قبل العشر. (قلت: قائله السندي) وهذا الجواب هو الذي يفيده النظر في أحاديث الباب فهو أولى، وبالاعتماد أحرى، بقي أنه يلزم منه أن تكون السنة الشروع في الاعتكاف من صبح العشرين استظهارا باليوم الأول ولا بعد في التزامه، وكلام الجمهور لا ينافيه فإنهم ما تعرضوا له لا إثباتا ولا نفيا. وإنما تعرضوا لدخوله ليلة الحادي والعشرين وهو حاصل غاية الأمر إن قواعدهم تقتضي أن يكون هذا الأمر سنة عندهم، فلنقل وعدم التعرض ليس دليلا على العدم، ومثل هذا الإيراد يرد على جواب النووي مع ظهور مخالفة الحديث- انتهى. كلام السندي: اعلم أن القول بدخول المسجد قبيل غروب الشمس لمريد الاعتكاف عشر أو شهر هو المشهور من مذهب الإمام أحمد وقد حكى عنه رواية أخرى أنه يدخل معتكفه بعد صلاة

(14/304)


الفجر في اعتكاف التطوع، وقبل طلوع الفجر في اعتكاف النذر. قال الخرقي: من نذر أن يعتكف شهرا بعينه دخل المسجد قبل غروب الشمس. قال ابن قدامة: وهذا قول مالك والشافعي، وحكى ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى أنه يدخل معتكفه قبل طلوع الفجر من أوله وهو قول الليث وزفر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يعتكف صلى الصبح ثم دخل معتكفه، ولنا أنه نذر الشهر وأوله غروب الشمس، ووجب أن يدخل قبل الغروب ليستوفي جميع الشهر فإنه لا يمكن إلا بذلك وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأما الحديث فقال ابن عبدالبر: لا أعلم أحدا من الفقهاء قال به على أن الخبر إنما في التطوع فمتى شاء دخل وفي مسألتنا نذر شهرا فيلزمه اعتكاف شهر كامل ولا يحصل إلا أن يدخل فيه قبل غروب الشمس من أوله، ويخرج بعد غروبها من آخره فأشبه ما لو نذر اعتكاف يوم فإنه يلزمه الدخول فيه قبل طلوع فجره ويخرج بعد غروب شمسه. قال ابن قدامة: وإن أحب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان تطوعا، ففيه روايتان. إحداهما: يدخل قبل غروب الشمس
رواه أبوداود، وابن ماجه.
2125 - (9) وعنها، قالت: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يعود المريض وهو معتكف، فيمر كما هو فلا يعرج يسأل عنه)). رواه أبوداود.

(14/305)


من ليلة إحدى وعشرين، لأن العشر بغير هاء عدد الليالي، فإنها عدد المؤنث قال الله تعالى: ?وليال عشر? وأول الليالي العشر ليلة إحدى وعشرين، والرواية الثانية يدخل بعد صلاة الصبح، قال حنبل قال أحمد: أحب إلى أن يدخل قبل الليل ولكن حديث عائشة إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الفجر ثم يدخل معتكفه، وبهذا قال الأوزاعي وإسحاق وإن نذر اعتكاف العشر ففي وقت دخوله الروايتان جميعا- انتهى ملخصا مختصرا. (رواه أبوداود وابن ماجه) كلاهما في حديث طويل وكذا البخاري ومسلم وأحمد والبيهقي (ج4ص315) بألفاظ متقاربة وأخرجه الترمذي مختصرا فكان حق المصنف أن يذكره في الفصل الأول ويقول متفق عليه. قال الجزري: متفق عليه. ورواه الأربعة أيضا مطولا فكان ينبغي أن يذكر في الصحاح. وقال ميرك: رواه الشيخان والترمذي والنسائي أيضا وفات هذا الاعتراض من صاحب المشكاة. قلت: بل وقع هذا الاعتراض على صاحب المشكاة. حيث عزا الحديث أبي داود وابن ماجه وذكره في الفصل الثاني مع أنه متفق عليه.

(14/306)


2125- قوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم) أي إذا خرج لحاجة الإنسان كما يدل عليه بقية الحديث (يعود المريض وهو معتكف) أي والمريض خارج عن المسجد لقوله (فيمر كما هو) قال الطيبي: الكاف صفة لمصدر محذوف "وما" موصولة ولفظ "هو" مبتدأ والخبر محذوف والجملة صلة "ما" أي يمر مرورا مثل الهيئة التي هو عليها فلا يلتفت ولا يميل إلى الجوانب ولا يقف وقولها (فلا يعرج) أي لا يمكث بيان للمجمل لأن التعريج الإقامة، والميل عن الطريق إلى جانب وقولها (يسأل عنه) بيان لقوله يعود على سبيل الاستيناف، وفيه دليل على أنه إذا خرج المعتكف لوجه مباح كحاجة الإنسان فعاد مريضا أو صلى على جنازة من غير إن كان خروجه لذلك قصدا لم يضره ذلك ولم يبطل اعتكافه وهذا مما اتفق عليه الأئمة الأربعة. واختلفوا فيما إذا خرج لذلك قصدا وسيأتي الكلام فيه في شرح الحديث التالي (رواه أبوداود) وأخرجه من طريقه البيهقي (ج4ص321) وفيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف والصحيح عن عائشة من فعلها وكذلك أخرجه مسلم وغيره. وقال ابن حزم: صح ذلك عن علي ذكره الحافظ في التلخيص (ص201) والحديث سكت عنه أبوداود. وقال المنذري: في إسناده ليث بن أبي سليم، وفيه مقال. وقال ابن حجر: في سنده من اختلفوا في توثيقه وبتقدير ضعفه هو منجبر بما في مسلم (في كتاب الطهارة) عن عائشة إن كنت لأدخل البيت للحاجة والمريض فيه فما
2126- (10) وعنها، قالت: ((السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة،

(14/307)


أسأل عنه إلا وأنا مارة- انتهى. وأعلم أن الحديث رواه أبوداود عن شيخين أحدهما عبدالله بن محمد النفيلي ولفظه قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالمريض وهو معتكف فيمر كما هو ولا يعرج يسأل عنه. والثاني محمد ابن عيسى وقال هو في روايته قالت: إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعود المريض وهو معتكف، هكذا بين أبوداود لفظهما والبغوي ذكر في المصابيح لفظ ابن عيسى، وهكذا فعل الخطابي في المعالم وتبعهما المصنف. وأعلم أيضا أنه وقع في بعض النسخ من المشكاة لفظ ابن ماجه بعد قوله أبوداود وهو خطأ من النسخ، فإن النسخ الصحيحة خالية عن ذلك ولم يعزه الحافظ في التلخيص والمجد بن تيمية في المنتقى والمنذري في مختصر السنن والجزري في جامع الأصول إلى غير أبي داود.

(14/308)


2126- قوله: (السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا) أي بالقصد والوقوف. قال الخطابي: (ج2ص141) قولها السنة إن كانت أرادت بذلك إضافة هذه الأمور إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قولا أو فعلا فهي نصوص لا يجوز خلافها وإن كانت أرادت به الفتيا على معاني ما عقلت من السنة فقد خالفها بعض الصحابة في بعض هذه الأمور، والصحابة إذا اختلفوا في مسألة كان سبيلها النظر على أن أبا داود قد ذكر على أثر هذا الحديث إن غير عبدالرحمن بن إسحاق لا يقول فيه أنها قالت السنة، فدل ذلك على احتمال أن يكون ما قالته فتوى منها، وليس برواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويشبه أن يكون أرادت بقولها لا يعود مريضا أي لا يخرج من معتكفه قاصدا عيادته، وأنه لا يضيق عليه أن يمر به فيسأله غير معرج عليه كما ذكرته عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق- انتهى. قلت: القاعدة المقررة عند المحدثين تأبى الاحتمال الثاني، لأن مذهبهم إن قول الصحابي السنة كذا في حكم المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن الظاهر أنه أراد بذلك سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا سنة غيره، وعلى هذا فحديث عائشة هذا مرفوع حكما. قال ابن التركماني: مذهب المحدثين عن الصحابي إذا قال السنة كذا فهو مرفوع، والسنة، السيرة والطريقة، وذلك قدر مشترك بين الواجب والسنة المصطلح عليها، ومثله حديث سنوا بهم سنة أهل الكتاب، ولم تكن السنة المصطلح عليها معروفة في ذلك الوقت، وذكر سنة الصوم للمعتكف مع ترك المس، والخروج دليل على أن المراد الوجوب لا السنة المصطلح عليها- انتهى. (ولا يشهد جنازة) أي خارج مسجده. فيه دليل على أنه لا يخرج المعتكف لعيادة المريض وشهود الجنازة، وفيه خلاف بين العلماء قال الخرقي:ولا يعود مريضا ولا يشهد جنازة إلا أن يشترط ذلك. قال ابن قدامة: (ج3ص195) الكلام في هذه المسألة في فصلين أحدهما، في الخروج لعيادة المريض وشهود الجنازة مع عدم

(14/309)


الاشتراط، واختلفت الرواية عن أحمد في ذلك فروى عنه ليس له فعله، وهو قول عروة وعطاء ومجاهد والزهري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي
وروى عنه الأثرم ومحمد بن عبدالحكم إن له أن يعود المريض ويشهد الجنازة، ويعود إلى معتكفه وهو قول علي رضي الله عنه، وبه قال سعيد بن جبير والنخعي والحسن لما روى عاصم بن ضمرة عن علي قال: إذا اعتكف الرجل فليشهد الجمعة وليعد المريض وليحضر الجنازة وليأت أهله وليأمرهم بالحاجة وهو قائم رواه الإمام أحمد والأثرم وقال أحمد: عاصم بن ضمرة عندي حجة. قال أحمد: يشهد الجنازة ويعود المريض ولا يجلس ويقضي الحاجة ويعود إلى معتكفه، وجه الأول ما روى عن عائشة قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان)) متفق عليه. ثم ذكر حديثها الذي نحن في شرحه وحديثها الذي قبل هذا، ثم قال ولأن هذا ليس بواجب فلا يجوز ترك الاعتكاف الواجب لأجله كالمشي مع أخيه في حاجة ليقضيها له وإن تعينت عليه صلاة الجنازة وأمكنه فعلها في المسجد لم يجز الخروج إليها فإن لم يمكنه ذلك فله الخروج إليها، وإن تعين عليه دفن الميت أو تغسيله جاز أن يخرج له، لأن هذا واجب متعين فيقدم على الاعتكاف كصلاة الجمعة، فأما إن كان الاعتكاف تطوعا. وأحب الخروج منه لعيادة مريض أو شهود جنازة جاز، لأن كل واحد منهما تطوع فلا يتحتم واحد منهما لكن الأفضل المقام على اعتكافه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرج المريض ولم يكن واجبا عليه. فأما إن خرج لما لا بد منه فسأل عن المريض في طريقه ولم يعرج جاز، لأن النبي- صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك الفصل الثاني إذا اشترط فعل ذلك في اعتكافه فله فعله واجبا كان الاعتكاف أو غير واجب، وكذلك ما كان قربة كزيارة أهله أو رجل صالح أو عالم أو شهود جنازة، وكذلك ما كان مباحا مما يحتاج إليه كالعشاء في منزله والمبيت فيه فله فعله قال الأثرم: سمعت أبا عبدالله يسأل عن

(14/310)


المعتكف يشترط أن يأكل في أهله فقال: إذا اشترط نعم. قيل: له وتجيز الشرط في الاعتكاف قال نعم. قلت: له فيبيت في أهله قال إذا كان تطوعا جاز، وممن أجاز أن يشترط العشاء في أهله الحسن والعلاء بن زياد والنخعي وقتادة، ومنع منه أبومجلز ومالك والأوزاعي وإن شرط الوطأ في اعتكافه أو الفرجة والنزهة أو البيع للتجارة أو التكسب بالصناعة في المسجد لم يجز، لأن الله تعالى قال: ?ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد? فاشترط ذلك اشتراط لمعصية الله تعالى، والصناعة في المسجد منهي عنها في غير الاعتكاف، ففي الاعتكاف أولى وسائر ما ذكرناه يشبه ذلك ولا حاجة إليه فإن احتاج إليه فلا يعتكف لأن ترك الاعتكاف أولى من فعل المنهي عنه. قال أبوطالب: سألت أحمد عن المعتكف يعمل عمله من الخياطة وغيرها، قال ما يعجبني أن يعمل. قلت: إن كان يحتاج قال إن كان يحتاج لا يعتكف. قال ابن قدامة: إذا خرج لماله منه بد عامدا بطل اعتكافه إلا أن يكون اشترط وإن خرج ناسيا. فقال القاضي: لا يفسد اعتكافه وقال ابن عقيل: يفسد فإن أخرج بعض جسده لم يفسد اعتكافه عمدا كان أو سهوا- انتهى مختصرا. وقال ابن رشد: اختلفوا هل للمعتكف أن يشترط فعل شي مما يمنعه
ولا يمس المرأة ولا يباشرها،

(14/311)


الاعتكاف فينفعه شرطه في الإباحة أم ليس ينفعه ذلك، مثل أن يشترط شهود جنازة أو غير ذلك، فأكثر الفقهاء على أنه شرط لا ينفعه وإنه إن فعل بطل اعتكافه. وقال الشافعي: ينفعه شرطه، والسبب في اختلافهم تشبيههم الاعتكاف بالحج في أن كليهما عبادة مانعة لكثير من المباحات، والاشتراط في الحج إنما صار إليه من رآه لحديث ضباعة، لكن هذا الأصل مختلف فيه في الحج، فالقياس عليه ضعيف عند الخصم المخالف له- انتهى. قلت: الظاهر عندنا هو قول من لم يقل بالاشتراط في الاعتكاف، لأنه لا دليل عليه من سنة صحيحة أو ضعيفة ولا من أثر صحابي ولا من قياس صحيح. والراجح عندنا: إنه لا يجوز الخروج لعيادة المريض وصلاة الجنازة وإلا كل واجبا كان الاعتكاف أو غير واجب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يخرج لذلك وكان اعتكافه غير واجب. قال النووي في شرح المهذب: في الاعتكاف الواجب لا يعود مريضا، ولا يخرج لجنازة سواء تعينت عليه أم لا، في الصحيح، وفي التطوع يجوز لعيادة المريض وصلاة الجنائز. قال صاحب الشامل: هذا يخالف السنة فإنه صلى الله عليه وسلم كان لا يخرج من الاعتكاف لعيادة المريض وكان اعتكافه نفلا لا نذرا ذكره العيني (ج11ص145) (ولا يمس المرأة) كذا وقع في جميع نسخ المشكاة والمصابيح والذي في سنن أبي داود امرأة وهكذا وقع في السنن للبيهقي والمعالم للخطابي وكذا ذكره الحافظ في الفتح وبلوغ المرام والمجد في المنتقى والجزري في جامع الأصول والزيلعي في نصب الراية، والظاهر إن ما في المصابيح خطأ من الناسخ ولم يتنبه لذلك المصنف بل تبعه فيه. قال الخطابي: تريد عائشة بالمس الجماع وهذا لا خلاف فيه إنه إذا جامع امرأته بطل اعتكافه (ولا يباشرها) أي فيما دون الفرج بشهوة. وقال القاري: لا يمس المرأة أي جنسها بشهوة ولا يباشرها أي لا يجامعها ولو حكما. وقال الشوكاني: المراد بالمباشرة هنا الجماع بقرينة ذكر المس قبلها، وقد نقل ابن المنذر الإجماع

(14/312)


على ذلك، ويؤيده ما روى الطبري وغيره من طريق قتادة في سبب نزول الآية يعني قوله تعالى: ?ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد? [البقرة: 187] إنهم كانوا إذا اعتكفوا فخرج رجل لحاجته فلقي امرأته جامعها إن شاء فنزلت- انتهى. قال الحافظ: اتفقوا على فساده بالجماع حتى قال الحسن والزهري: من جامع فيه لزمته الكفارة وعن مجاهد يتصدق بدينارين، واختلفوا في غير الجماع ففي المباشرة أقوال ثالثها إن أنزل بطل وإلا فلا. وقال ابن قدامة: الوطأ في الاعتكاف محرم بالإجماع، والأصل فيه قول الله تعالى: ?ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد] فإن وطيء في الفرج متعمدا أفسد اعتكافه بإجماع أهل العلم حكاه ابن المنذر عنهم، وإن كان ناسيا فكذلك عند إمامنا (الإمام أحمد) وأبي حنيفة ومالك. وقال الشافعي: لا يفسد اعتكافه. قال ابن قدامة: ولا كفارة بالوطأ في ظاهر المذهب وهو ظاهر كلام
ولا يخرج لحاجة، إلا لما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع)).

(14/313)


الخرقي، وقول عطاء و النخعي وأهل المدينة ومالك وأهل العراق والثوري وأهل الشام و الأوزاعي. ونقل حنبل عن أحمد إن عليه كفارة، وهو قول الحسن والزهري واختيار القاضي. قال واختلف هؤلاء في الكفارة: فقال القاضي يجب كفارة الظهار وهو قول الحسن والزهري وظاهر كلام أحمد في رواية حنبل، وحكى عن أبي بكر إن عليه كفارة يمين، فأما المباشرة دون الفرج، فإن كانت لغير شهوة فلا بأس بها مثل أن تغسل رأسه أو تفليه أو تناوله شيئا لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدني رأسه إلى عائشة وهو معتكف فترجله وإن كانت عن شهوة فهي محرمة لقول الله تعالى: ?ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد? [البقرة: 187] ولقول عائشة السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها، ولأنه لا يأمن إفضاءها إلى إفساد الاعتكاف، وما أفضى إلى الحرام كان حرما فإن فعل فأنزل فسد اعتكافه وإن لم ينزل لم يفسد، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه. وقال في الآخر يفسد في الحالين وهو قول مالك لأنها مباشرة محرمة فأفسدت الاعتكاف كما لو أنزل، ولنا أنها مباشرة لا تفسد صوما ولا حجا فلم تفسد كالمباشرة لغير شهوة، وفارق التي أنزل بها لأنها تفسد الصوم ولا كفارة عليه- انتهى. (ولا يخرج لحاجة) دنيوية أو أخروية (إلا لما لا بد منه) أي إلا لحاجة لا فراق ولا محيص من الخروج لها وهو البول والغائط إذ لا يتصور فعلهما في المسجد، ولذا أجمعوا عليه بخلاف الأكل والشرب أو لأمر لا بد من ذلك الأمر وهو كناية عن قضاء الحاجة وما يتبعه من الاستنجاء والطهارة (ولا اعتكاف إلا بصوم) فيه دليل على أنه لا يصح الاعتكاف إلا بصوم وأنه شرط فيه، وقد تقدم بيان الاختلاف في ذلك. وأجاب من لم يقل باشتراط الصوم عن هذا الحديث بما سيأتي من الكلام عليه، وبأن المراد لا اعتكاف كاملا أو فاضلا إلا بصوم ذكره الطيبي (ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع) أي يجمع الناس

(14/314)


للجماعة، وفيه دليل على أن المسجد شرط في الاعتكاف، واتفق العلماء على ذلك إلا ما روى عن بعض العلماء أنه أجازه في كل مكان. قال الحافظ: وذهب أبوحنيفة وأحمد إلى اختصاصه بالمساجد التي تقام فيها الصلوات، وخصه أبويوسف بالواجب منه. وأما النفل ففي كل مسجد. وقال الجمهور: بعمومه في كل مسجد إلا لمن تلزمه الجمعة، فاستحب له الشافعي في الجامع، وشرطه مالك لأن الاعتكاف عندهما ينقطع بالجمعة، ويجب بالشروع عند مالك وخصه طائفة من السلف كالزهري بالجامع مطلقا، وأومأ إليه الشافعي في القديم، وخصه حذيفة بن اليمان بالمساجد الثلاثة وعطاء بمسجد مكة والمدينة ابن المسيب بمسجد المدينة- انتهى. وقال العيني: ذهب هؤلاء أي من خص الاعتكاف بالمساجد الثلاثة مسجد مكة والمدينة والأقصى أو بمسجد مكة والمدينة إلى أن الآية خرجت على نوع من المساجد وهو ما بناه نبي لأن الآية نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو معتكف في مسجده فكان القصد والإشارة إلى نوع تلك المساجد مما بناه نبي،

(14/315)


وذهبت طائفة إلى أنه لا يصح الاعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الجمعة روى ذلك عن علي وابن مسعود وعروة وعطاء والحسن والزهري وهو قول مالك في المدونة، قال أما من تلزمه الجمعة فلا يعتكف إلا في الجامع. وقالت طائفة: الاعتكاف يصح في كل مسجد، روى ذلك عن النخعي وأبي سلمة والشعبي وهو قول أبي حنيفة والثوري والشافعي في الجديد، وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود وهو قول الجمهور والبخاري أيضا، حيث استدل بعموم الآية في سائر المساجد، فقال باب الاعتكاف في المساجد كلها لقوله تعالى: ?ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد? قال العيني: جمع (أي البخاري) المساجد وأكدها بلفظ: كلها إشارة إلى أن الاعتكاف لا يختص بمسجد دون مسجد. وقال صاحب الهداية: الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد الجماعة (وهو الذي له مؤذن وإمام ويصلي فيه الصلوات الخمس أو بعضها بجماعة) وعن أبي حنيفة أنه لا يصح إلا في مسجد يصلي فيه الصلوات الخمس أي بجماعة قلت: وهذا رواية الحسن عن أبي حنيفة وصححه بعض مشائخ الحنفية وهو قول أحمد. قال الخرقي: لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه. قال ابن قدامة (ج3ص87) يعني تقام الجماعة فيه، وإنما اشترط ذلك لأن الجماعة واجبة واعتكاف الرجل في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى أحد أمرين، إما ترك الجماعة الواجبة وإما خروجه إليها فيتكرر ذلك منه كثيرا مع إمكان التحرز منه، وذلك مناف للاعتكاف إذ هو لزوم المعتكف والإقامة على طاعة الله فيه ولا يصح الاعتكاف في غير مسجد إذا كان المعتكف رجلا لا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافا. والأصل في ذلك قوله تعالى: ?ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد? فخصها بذلك فلو صح الاعتكاف في غيرها لم يختص تحريم المباشرة فيها، فإن المباشرة محرمة في الاعتكاف مطلقا، وروى الدارقطني بإسناده عن الزهري عن عروة وسعيد بن المسيب عن عائشة في حديث، وإن السنة للمعتكف أن لا يخرج إلا لحاجة الإنسان ولا اعتكاف إلا في

(14/316)


مسجد جماعة. فذهب أحمد إلى أن كل مسجد تقام فيه الجماعة يجوز الاعتكاف فيه، ولا يجوز في غيره. وقال الشافعي: يصح الاعتكاف في كل مسجد إذا لم يكن اعتكافه يتخلله جمعة، ولنا حديث عائشة المتقدم. وقد قيل إن هذا من قول الزهري وهو ينصرف إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيفما كان. وروى سعيد من طريق الضحاك عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل مسجد له إمام ومؤذن فالاعتكاف فيه يصلح، ولأن قوله تعالى: ?وأنتم عاكفون في المساجد? يقتضي إباحة الاعتكاف في كل مسجد إلا أنه يقيد بما تقام فيه الجماعة بالأخبار، ففيما عداه يبقى على العموم، وقول الشافعي في اشتراطه موضعا تقام فيه الجمعة لا يصح للأخبار، ولأن الجمعة لا تتكرر فلا يضر وجوب الخروج إليها ولو كان الجامع تقام فيه الجمعة وحدها، ولا يصلي فيه غيرها لم يجز الاعتكاف فيه، ويصح عند مالك والشافعي. ومبني الخلاف على أن الجماعة واجبة عندنا فيلتزم الخروج من معتكفه إليها فيفسد اعتكافه وعندهم ليست بواجبة وإن كان اعتكافه مدة غير وقت الصلاة كليلة أو بعض يوم،
رواه أبوداود.

(14/317)


جاز في كل مسجد لعدم المانع، وإن كانت تقام فيه في بعض الزمان جاز الاعتكاف فيه في ذلك الزمان دون غيره، وإن اعتكف اثنان في مسجد لا تقام فيه جماعة فأقاما الجماعة فيه صح اعتكافهما لأنهما أقاما الجماعة فأشبه ما لو أقامهما فيه غيرهما- انتهى مختصرا. وقال الباجي: أما المساجد التي لا يصلي فيها الجمعة فإنما يكره الاعتكاف فيها إذا كان الاعتكاف يتصل إلى وقت صلاة الجمعة، لأنه يقتضى أحد أمرين ممنوعين. أحدهما: التخلف عن الجمعة. والثاني: الخروج عن الاعتكاف إلى الجمعة، وذلك يبطل اعتكافه في المشهور من مذهب مالك. وقد روى ابن الجهم عن مالك الخروج إلى الجمعة ولا ينتقص اعتكافه- انتهى. قلت الراجح عندي هو ما ذهب إليه أحمد لحديث الباب وأجاب عنه من خالفه بأن ذكر الجامع للأولوية يعني إن النفي فيه محمول على نفي الفضيلة والكمال ولا يخفى ما فيه. ولحديث حذيفة وقد أخرجه الدارقطني أيضا. وقال الضحاك: لم يسمع من حذيفة ولقول على قال لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة أخرجه ابن أبي شيبة وعبدالرزاق في مصنفيهما. ولقول ابن عباس لا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة أخرجه البيهقي فيصح الاعتكاف في كل مسجد تقام فيه الجماعة، ولا يجوز في غيره، ولا يشترط مسجد الجمعة، وإن كان هو أفضل، ويجب الخروج إلى الجمعة ولا يبطل اعتكافه بالخروج إليها (رواه أبوداود) من طريق عبدالرحمن بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة وأخرجه البيهقي (ج4ص321) من طريق أبي داود في (ج4ص315، 320) من طريق عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة وأخرجه أيضا من هذا الطريق في الشعب والمعرفة وأخرجه الدارقطني (ص247- 248) من رواية ابن جريج عن الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة عن عائشة. قال أبوداود: غير عبدالرحمن بن إسحاق لا يقول فيه. قالت:السنة. قال أبوداود: جعله قول عائشة- انتهى. وقال المنذري: وأخرجه النسائي من حديث يونس ابن زيد وليس فيه قالت السنة، وأخرجه من حديث مالك

(14/318)


وليس فيه أيضا ذلك و عبدالرحمن بن إسحاق هذا هو القرشي المدني يقال له عباد وقد أخرج له مسلم في صحيحه ووثقه ابن معين وأثنى عليه غيره وتكلم فيه بعضهم- انتهى. وقال الحافظ في بلوغ المرام: لا بأس برجاله إلا أن الراجح وقف آخره أي من قولها ولا اعتكاف إلا بصيام. وقال في الفتح بعد ذكر كلام أبي داود: وجزم الدارقطني بأن القدر الذي من حديث عائشة قولها لا يخرج إلا لحاجة وما عداه ممن دونها- انتهى. وقال البيهقي في السنن (ج4ص321): قد ذهب كثير من الحفاظ إلى أن هذا الكلام من قول من دون عائشة وإن من أدرجه في الحديث وهم فيه فقد رواه الثوري عن هشام عن أبيه عروة، قال المعتكف لا يشهد جنازة ولا يعود مريضا ولا يجيب دعوة ولا اعتكاف إلا بصيام ولا اعتكاف إلا في مسجد جماعة وعن ابن جريج عن الزهري عن سعيد بن المسيب أنه قال المعتكف لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة- انتهى. وقال في المعرفة: وإنما لم يخرجاه في الصحيح لاختلاف الحفاظ فيه، منهم من زعم أنه قول
?الفصل الثالث?
2127- (11) عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنه كان إذا اعتكف طرح له فراشه، أو يوضع له سريره وراء أسطوانة التوبة)). رواه ابن ماجه.
عائشة، ومنهم من زعم أنه قول الزهري، ويشبه أن يكون من قول من دون عائشة، فقد رواه الثوري عن هشام عن عروة، قال المعتكف لا يشهد جنازة ولا يعود مريضا- انتهى. ورد عليه ابن التركماني فقال: جعل هذا الكلام من قول من دون عائشة دعوى بل هو معطوف على ما تقدم من قولها السنة كذا وكذا. وقد تقدم إن هذا عند المحدثين في حكم المرفوع رواه عروة عن عائشة مرة، وأفتى به مرة أخرى، وقد أخرجه الدارقطني من طريق ابن جريج عن الزهري بسنده- انتهى.

(14/319)


2127- قوله: (طرح) بصيغة المجهول أي وضع وفرش (أو يوضع له سريره) الظاهر إن "أو" للتنويع (وراء اسطوانة التوبة) هي من اسطوانات المسجد النبوي سميت بذلك لأن أبا لبابة بن عبدالمنذر ربط بها نفسه حتى تاب الله عليه عندها، روى ابن وهب عن مالك عن عبدالله بن أبي بكر إن أبا لبابة ارتبط بسلسلة ربوض، والربوض الضخمة الثقيلة اللازقة بصاحبها بضع عشرة ليلة،حتى ذهب سمعه فما كاد يسمع، وكاد أن يذهب بصره وكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة أو أراد أن يذهب لحاجة وإذا فرغ أعادته إلى الرباط. قال ابن عبدالبر: اختلف في الحال التي أوجبت فعل أبي لبابة هذا بنفسه. وأحسن ما قيل في ذلك ما رواه معمر عن الزهري قال: كان أبولبابة ممن تخلف عن النبي - صلى الله عليه وسلم -في غزوة تبوك، فربط نفسه بسارية وقال والله لا أحل نفسي منها ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى يتوب الله علي أو أموت فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه ثم تاب الله عليه فقيل له قد تاب الله عليك، يا أبا لبابة! فقال والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يحلني، قال فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحله بيده، ثم قال أبو لبابة يا رسول الله! إن من توبتي إن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وإن انخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله، قال يحزئك يا أبا لبابة الثلاث قال ابن عبدالبر: وقد قيل إن الذنب الذي أتاه أبو لبابة كان إشارته إلى حلفاءه من بني قريظة إن الذبح إن نزلتم على حكم سعد بن معاذ وأشار إلى حلقه فنزلت ?يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون? [الأنفال: 27] انتهى. وارجع للبسط إلى وفاء الوفاء للسمهودي (ج2ص442، 447) وفي الحديث دليل على جواز طرح الفراش ووضع السرير للمعتكف في المسجد، وعلى جواز الوقوف في مكان معين من المسجد في الاعتكاف فيكون مخصصا للنهي عن إيطان

(14/320)


المكان في المسجد يعني ملازمته (رواه ابن ماجه) قال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله موثقون. وقال الشوكاني: رجال إسناده ثقات، وقد ذكره الحافظ في الفتح عن
2128- (12) وعن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المعتكف: ((هو يعتكف الذنوب ويجري له من الحسنات كعامل الحسنات كلها)). رواه ابن ماجه.
نافع إن ابن عمر كان إذا اعتكف إلخ، وعزاه لابن ماجه ولم يذكر أنه مرفوع وفي صحيح مسلم عن نافع أنه قال وقد أراني عبدالله بن عمر المكان الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف فيه من المسجد.وقال السمهودي: (ج2ص447) أسند ابن زبالة ويحيى في بيان معتكف النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اعتكف طرح له فراشه ووضع له سريره وراء إسطوانة التوبة. ثم ذكر السمهودي هذا الحديث من رواية ابن ماجه. وقال قال البدر بن فرحون: ونقل الطبراني في معجمه عن ابن عمر إن ذلك مما يلي القبلة يستند إليها. قال السمهودي: رواه البيهقي بسند حسن ولفظه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف يطرح له فراشه أو سريره إلى إسطوانة التوبة مما يلي القبلة يستند إليها. ونقل عياض عن ابن المنذر أن مالك بن أنس كان له موضع في المسجد، قال وهو مكان عمر بن الخطاب، وهو المكان الذي يوضع فيه فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتكف كذا قال الأويسي.

(14/321)


2128- قوله: (قال في المعتكف) أي في حقه وشأنه (هو يعتكف) من الاعتكاف (الذنوب) منصوب بنزع الخافض أي يحتبس عن الذنوب بين بذلك إن شأن المحتبس في المسجد الانجاس عن تعاطي أكثر الذنوب قاله القاري، قلت: قوله "يعتكف" كذا في أكثر النسخ من المشكاة، ووقع في بعضها يعكف من العكف وهو الذي في سنن ابن ماجه، وهكذا نقله الولي العراقي في شرح التقريب. قال السندي: قوله "هو يعكف الذنوب من عكفه" كنصر وضرب أي حبس، وضمير هو للمعتكف أو الاعتكاف وهو الظاهر أي هو يمنع الذنوب ولا يتأتي فيه وإن أريد المنع على الدوام، فيمكن من آثار الاعتكاف أن يقي الله تعالى صاحبه من المعاصي (ويجري) بالجيم والراء مجهولا. وقيل معلوما أي يمضي ويستمر (له من الحسنات) أي من ثوابها (كعامل الحسنات) أي كأجور عاملها. قال القاري: وفي نسخة صحيحة يعني من المشكاة بالجيم والزاي مجهولا، أي يعطي له من الحسنات التي يمتنع عنها باعتكاف كعيادة المريض وتشييع الجنازة وزيارة الإخوان وغيرها، فاللام في الحسنات للعهد- انتهى. (رواه ابن ماجه) من طريق عيسى بن موسى غنجار عن عبيدة العمي عن فرقد السبخي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهذا إسناد ضعيف لأن عيسى قال فيه في تقريب: صدوق ربما أخطأ، وربما دلس مكثر من الحديث عن المتروكين، وعبيدة العمي مجهول الحال وفرقد السبخي البصري الحائك. قال الترمذي: تكلم فيه يحيى بن سعيد وروى عنه الناس. قلت: وثقه ابن معين وتكلم فيه غيره. وقال الساجي: قد اختلف فيه وليس بحجة في الأحكام والسنن. وقال في التقريب: صدوق عابد لكنه لين الحديث كثير الخطأ.
كتاب فضائل القرآن

(14/322)


(كتاب فضائل القرآن) عموما وبعض سوره وآياته خصوصا، والفضائل. جمع فضيلة. قال الجوهري: الفضل والفضيلة خلاف النقص والنقيصة، واختلف هل في القرآن شي أفضل من شي، فذهب أبوالحسن الأشعري والقاضي أبوبكر الباقلاني إلى أنه لا فضل لبعضه على بعض لأن الأفضل يشعر بنقص المفضول وكلام الله حقيقة واحدة لا نقص فيه، وقال قوم: وهم الجمهور بالتفضيل لظواهر الأحاديث كحديث ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن، وحديث إن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، قال القرطبي: إنه الحق، وقال ابن الحصار: العجب ممن يذكر الاختلاف في ذلك مع النصوص الواردة في التفضيل، وقال الغزالي، في جواهر القرآن: لعلك أن تقول قد أشرت إلى تفضيل بعض آيات القرآن على بعض، والكلام كلام الله فكيف يكون بعضها أشرت من بعض فاعلم أن نور البصيرة إن كان لا يرشدك إلى الفرق بين آية الكرسي وآية المداينة، وبين سورة الإخلاص وسورة تبت، وترتاع على اعتقاد الفرق نفسك الخوارة المستغرقة بالتقليد فقلد صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم فهو الذي أنزل عليه القرآن، وقال يس، قلب القرآن، وفاتحة الكتاب أفضل سورة القرآن، وآية الكرسي سيدة آي القرآن، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وغير ذلك مما لا يحصى- انتهى. ثم اختلفوا فقال قوم الفضل راجع إلى عظم الأجر ومضاعفة الثواب بحسب إنفعالات النفس وخشيتها وتدبرها وتفكرها عند ورود أوصاف العلى. وقال آخرون: بل يرجع إلى ذات اللفظ وإن ما تضمنه قوله تعالى: ?وإلهكم إله واحد? الآية، [البقرة: 163] وآية الكرسي وآخر سورة الحشر وسورة الإخلاص من الدلالة على وحدانيته وصفاته ليس موجودا، مثلا في تبت يدا أبي لهب، وما كان مثلها فالتفضيل إنما هو بالمعاني العجيبة وكثرتها لا من حيث الصفة. قال القسطلاني: ولعل الخلاف في هذه المسألة أي مسألة التفضيل يلتفت إلى الخلاف المشهور إن كلام الله شي واحد أم لا، وعند الأشعري أنه لا يتنوع في ذاته بل بحسب متعلقاته،

(14/323)


وليس لكلام الله الذي هو صفة ذاته بعض لكن بالتأويل والتعبير وفهم السامعين اشتمل على أنواع المخاطبات ولولا تنزله في هذه المواقع لما وصلنا إلى فهم شي منه-انتهى. وقيل: التحقيق إنه لا خلاف في المعنى بل الأول محمول على ذات القرآن وحقيقته، والثاني على غيرهما كما علم وارجع للبسط إلى الإتقان (ج2ص156، 157) للسيوطي ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب نفيس في هذا الموضوع سماه "جواب أهل العلم والإيمان بتحقيق ما أخبر به رسول الرحمان من أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن" بين فيه حكمة الله في تفاضل بعض السورة والآيات مع أنها
?الفصل الأول?
2129- (1) عن عثمان، قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه))
كلها من كلام الله عزوجل. وقد استطرد فيه إلى دقائق من علوم اللغة وأسرار العربية وبيان مذاهب العلماء، فيما اختلفوا فيه من مسائل أصول الدين والانتصار لمذهب السلف في الصفات، ومنها صفة الكلام، وفيه من حقائق التفسير ولطائف البحث مالا تجده في كتاب غيره فعليك أن تطالعه. ثم المعتمد إن القرآن بمعنى القراءة مصدر بمعنى المفعول أو فعلان من القراءة بمعنى الجمع لجمعه السور وأنواع العلوم، وإنه مهموز وقراءة ابن كثير إنما هي بالنقل كما قال الشافعي:
ونقل قرآن والقرآن دواءنا
خلافا لمن قال إنه من قرنت الشيء بالشيء لقرن السور والآيات فيه.

(14/324)


2129- قوله: (خيركم) وفي رواية إن أفضلكم ولا فرق بينهما في المعنى لأن قوله "خيركم" تقديره أخيركم ولا شك إن أخيرهم هو أفضلهم (من تعلم القرآن وعلمه) كذا للأكثر وللسرخسي أو علمه وهي للتنويع لا للشك وكذا لأحمد عن غندر وعفان عن شعبة، وزاد غندر في أوله إن وأكثر الرواة عن شعبه يقولونه بالواو وكذا وقع عند أحمد عن بهز وعند أبي داود عن حفص بن عمر كلاهما عن شعبة وكذا أخرجه أحمد والترمذي من حديث علي. قال الحافظ: وهي أظهر من حيث المعنى لأن التي "بأو" تقتضي إثبات الخيرية المذكورة لمن فعل أحد الأمرين فيلزم أن من تعلم القرآن ولو لم يعلمه غيره أن يكون خيرا ممن عمل بما فيه مثلا، وإن لم يتعلمه، ولا يقال يلزم على رواية الواو أيضا إن من تعلمه وعلمه غيره أن يكون أفضل ممن عمل بما فيه من غير أن يتعلمه ولم يعلمه غيره، لأنا نقول يحتمل أن يكون المراد بالخيرية من جهة حصول التعليم بعد العلم، والذي يعلم غيره يحصل له النفع المتعدي بخلاف من يعمل فقط، والقرآن أشرف العلوم فيكون من تعلمه وعلمه لغيره أشرف ممن تعلم غير القرآن، وإن علمه ولا شك إن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه مكمل لنفسه ولغيره جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدي ولهذا كان أفضل. فإن قيل: فيلزم على هذا أن يكون المقري أفضل من الفقيه قلنا: لا لأن المخاطبين بذلك كانوا فقهاء النفوس لأنهم كانوا أهل اللسان فكانوا يدرون معاني القرآن بالسليقة أكثر مما يدريها من بعدهم بالاكتساب فكان الفقه لهم سجية فمن كان في مثل شأنهم شاركهم في ذلك لا من كان قارئا أو مقرئا محضا لا يفهم شيئا من معاني ما يقرؤه أو يقرئه. فإن قيل: فيلزم أن يكون المقري أفضل ممن هو أفضل غناء في الإسلام بالمجاهدة والرباط والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلا. قلنا: حرف المسألة يدور على النفع المتعدي فمن كان حصوله عنده أكثر كان أفضل فلعل من مضمرة في الحديث، ولا بد مع ذلك من مراعاة

(14/325)


رواه البخاري.
2130 - (2) وعن عقبة بن عامر، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم: ونحن في الصفة، فقال: ((أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان
الإخلاص في كل صنف منهم، ويحتمل أن تكون الخيرية وإن أطلقت لكنها مقيدة بناس مخصوصين خوطبوا بذلك كان اللائق بحالهم ذلك أو المراد خير المتعلمين من يعلم غيره لا من يقتصر على نفسه، أو المراد مراعاة الحيثية لأن القرآن خير الكلام فمتعلمه خير من متعلم غيره بالنسبة إلى خيرية القرآن، وكيف ما كان فهو مخصوص بمن علم وتعلم بحيث يكون قد علم ما يجب عليه عينا- انتهى كلام الحافظ. باختصار يسير.وقال الطيبي: أي خير الناس باعتبار التعلم والتعليم من تعلم القرآن وعلمه. وقال ميرك: أي من خيركم. قال القاري: ولا يتوهم إن العمل خارج عنهما لأن العلم إذا لم يكن مورثا للعمل فليس علما في الشريعة إذا جمعوا على أن من عصى الله فهو جاهل قال إذا كان خير الكلام كلام الله فكذلك خير الناس بعد النبيين من يتعلم القرآن ويعلمه، لكن لا بد من تقييد التعلم والتعليم بالإخلاص- انتهى. وقال السندي: قوله "خيركم" الخ يراد بمثله أنه من جملة الأخيار لا أنه أفضل من الكل، وبه يندفع التدافع بين الأحاديث الواردة بهذه العنوان. ثم المقصود في مثله بيان إن وصف تعلم القرآن وتعليمه من جملة خيار الأوصاف فالموصوف به يكون خيرا من هذه الجهة أو يكون خيرا إن لم يعارض هذا الوصف معارض فلا يرد أنه كثيرا ما يكون المرأ متعلما أو معلما القرآن ويأتي بالمنكرات فكيف يكون خيرا. وقد يقال المراد من تعلم القرآن وعلمه مع مراعاته عملا وإلا فغير المراعي يعد جاهلا (رواه البخاري) في فضائل القرآن وأخرجه أيضا أحمد (ج1ص57، 58، 68) والترمذي في فضائل القرآن. وأبوداود في أواخر الصلاة وابن ماجه في السنة، والدارمي وابن حبان (ج1ص281، 282) وأخرجه النسائي في الكبرى وفي الباب عن علي عند أحمد والترمذي والدارمي وعن سعد عند

(14/326)


الدارمي وعن ابن مسعود عند ابن أبي داود.
2130- قوله: (ونحن في الصفة) بضم الصاد المهملة وتشديد الفاء مكان مضلل في مؤخر المسجد، أعد لنزول الغرباء فيه ممن لا مأوى له ولا أهل. قال ابن حجر: كانت هي في مؤخر المسجد معدة لفقراء أصحابه الغير المتأهلين وكانوا يكثرون تارة حتى يبلغوا نحو المائتين، ويقلون أخرى لإرسالهم في الجهاد وتعليم القرآن. وقال الجزري: أهل الصفة فقراء المهاجرين ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه فكانوا يأوون إلى موضع مظلل في مسجد المدينة، قال الكرماني: وكانوا سبعين ويقلون حينا ويكثرون. وقال السيوطي: عدهم أبونعيم في الحلية أكثر من مائة (أيكم يحب أن يغدو) أي يذهب في الغدوة وهي أول النهار (إلى بطحان) بضم الباء الموحدة وسكون
أو العقيق فيأتي بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم؟ فقلنا: يا رسول الله! كلنا نحب ذلك قال: أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن

(14/327)


الطاء المهملة، اسم واد بقرب المدينة، سمي بذلك لسعته وانبساطه من البطح وهو البسط (أو العقيق) بفتح العين المهملة وبقافين الأولى مكسورة بينهما ياء تحتية ساكنة، قيل: أراد العقيق الأصغر وهو على ثلاثة أميال أو ميلين من المدينة، وفيه بئر رومة، وهناك عقيق أكبر، وإنما خصهما بالذكر لأنهما من أقرب الأودية التي كانوا يقيمون فيها أسواق الإبل إلى المدينة. والظاهر إن "أو" للتنويع لكن في جامع الأصول (ج9ص375) أو قال إلى العقيق فدل على أنه شك من الراوي قاله القاري. (فيأتي بناقتين كوماوين) تثنية كوماء، بفتح الكاف وسكون الواو، وبالمد قلبت الهمزة واوا وهي الناقة العظيمة السنام، وأصل الكوم العلو أي فيحصل ناقتين مشرفتي السنام عاليتيه عظيمتيه. وإنما ضرب المثل بها لأنها كانت من أحب الأموال إليهم وأنفس المتأجر لديهم (في غير إثم) أي في غير ما يوجب إثما كسرقة وغصب سمي موجب الإثم إثما مجازا (ولا قطع رحم) أي في غير ما يوجبه وهو تخصيص بعد تعيم (كلنا نحب ذلك) بالنون وفي جامع الأصول كلنا يحب ذلك بالياء قاله القاري. قلت: وهكذا وقع في المصابيح والترغيب بالياء، والذي في صحيح مسلم نحب بالنون كما في المشكاة وكذا في جامع الأصول المطبوعة (ج9ص375) (أفلا يغدو) أي ألا يترك ذلك فلا يغدو (أحدكم إلى المسجد فيعلم) بالتشديد وفي نسخة صحيحة بالتخفيف قاله القاري. قلت: وقع في بعض النسخ من صحيح مسلم فيتعلم، وهكذا في المصابيح (أو يقرأ) بالرفع والنصب فيهما. قال القاري قال ميرك: هذه الكلمة يحتمل أن تكون عرضا أو نفيا، وفيه إن الفاء مانعة من كونها للعرض ثم قال، وقوله فيعلم أو يقرأ منصوبان على التقدير الأول، مرفوعان على الثاني. قلت: ويجوز نصبهما على الثاني أيضا، لأنه جواب النفي، ثم قال ويعلم من التعليم في أكثر نسخ المشكاة وصحح في جامع الأصول من العلم، وكلمة "أو" يحتمل الشك والتنويع- انتهى. وفي شرح أنه صحح في جامع الأصول

(14/328)


فيعلم بفتح الياء وسكون العين فأوشك من الراوي دفعا لتوهم كونه من التعليم فيكون "أو" للتنويع كذا ذكره الطيبي وعلى التنويع قوله (آيتين من كتاب الله) تنازع فيه الفعلان وقوله (خير) خبر مبتدأ محذوف أي هما أو الغدو (خير له من ناقتين وثلاث) أي من الآيات (خير له من ثلاث) أي من الإبل. قال ابن حبان: هذا الخبر أضمر فيه كلمة وهي "لو تصدق بها" يريد بقوله "فيتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين وثلاث" لو تصدق بها لأن فضل تعلم آيتين من كتاب الله أكبر من فضل ناقتين وثلاث وعدادهن من الإبل لو تصدق بها إذ محال أن يشبه من تعلم آيتين من كتاب الله في الأجر بمن نال بعض حطام الدنيا (ومن إعدادهن) جمع
من الإبل)). رواه مسلم.
2131 - (3) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلث خلفات عظام سمان؟ قلنا: نعم، قال: فثلاث آيات يقرؤ بهن أحدكم

(14/329)


عدد (من الإبل) بيان للإعداد. قيل: من إعدادهن متعلق بمحذوف تقديره وأكثر من أربع آيات خير من إعدادهن من الإبل فخمس آيات خير من خمس إبل وعلى هذا القياس. وقيل: يحتمل أن يراد أن آيتين خير من ناقتين ومن إعدادهما من الإبل، وثلاث خير له من ثلاث. ومن إعدادهن من الإبل، وكذا أربع. والحاصل إن الآيات تفضل على إعدادهن من النوق وعلى إعدادهن من الإبل كذا ذكره الطيبي ويوضحه ما قيل إنه متعلق بقوله آيتين وثلاث وأربع، ومجرور إعدادهن عائد إلى الإعداد التي سبق ذكرها، "ومن الإبل" بدل من إعدادهن، أو بيان له يعني آيتان خير من عدد كثير من الإبل، وكذلك ثلاث وأربع آيات منه، لأن قراءة القرآن تنفع في الدنيا والآخرة نفعا عظيما بخلاف الإبل- انتهى. والحاصل إنه - صلى الله عليه وسلم - أراد ترغيبهم في الباقيات وتزهيدهم عن الفانيات فذكر هذا على سبيل التمثيل والتقريب إلى فهم العليل، وإلا فجميع الدنيا أحقر من أن يقابل بمعرفة آية من كتاب الله تعالى أو ثوابها من الدرجات العلى، كذا في المرقاة، وفي الحديث الحث على تعلم القرآن وتعليمه وتلاوته. (رواه مسلم) في فضائل القرآن من الصلاة، وأخرجه أيضا أحمد وابن حبان (ج1ص179) وأبوداود في أواخر الصلاة وعنده كوماوين زهراوين (أي سمينتين مائلتين إلى البياض من كثرة السمن) بغير إثم بالله ولا قطع رحم، قالوا كلنا يا رسول الله! قال: فلان يغدو أحدكم كل يوم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وإن ثلاث فثلاث مثل إعدادهن من الإبل، وفي صحيح ابن حبان وثلاث خير من ثلاث وأربع خير من عدادهن من الإبل.

(14/330)


2131- قوله: (إن يجد فيه) أي في أهله يعني في محلهم. وقيل: أي في رجوعه إليهم. وقيل: أي في طريقه (ثلث خلفات) بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام جمع خلفة وهي الحامل من النوق وهي من أعز أموال العرب من خلفت الناقة أي حملت. وقيل: الخلفة الحامل من النوق إلى أن يمضي عليها نصف أمدها، ثم هي عشراء جمعها عشار (عظام) في الكمية (سمان) في الكيفية جمع سمينة، أي كثيرة الشحم والدسم (قلنا نعم) أي بمقتضى الطبيعة أو على وفق الشريعة ليكون للآخرة ذريعة (قال) أي فإذا قلتم ذلك وغفلتم عما هو أولى (فثلث آيات) أي فاعلموا أن قراءة ثلث آيات خير من ثلث خلفات. وقال الطيبي: الفاء في "فثلث آيات" جزاء شرط محذوف، فالمعنى إذا تقرر ما زعمتم أنكم تحبون ما ذكرت لكم، فقد صح أن يفضل عليها ما أذكره لكم من قراءة ثلث آيات لأن هذا من الباقيات الصالحات وتلك من الزائدات الفانيات (يقرأ بهن أحدكم) قال الطيبي: الباء
في صلاته خير له من ثلاث خلفات عظام سمان )) رواه مسلم.
2132 - (4) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام
زائدة أو للإلصاق (في صلاته) بيان للأكمل وتقييد للأفضل (خير له من ثلاث خلفات عظام سمان) قال الطيبي: التنكير للتعظيم والتفخيم، وفي الأول للشيوع في الأجناس فلذلك لم يعرف الثاني (رواه مسلم) في فضائل القرآن وأخرجه أيضا ابن ماجه في باب ثواب القرآن.

(14/331)


2132- قوله: (الماهر بالقرآن) أي الحاذق من المهارة، وهي الحذق، جاز أن يريد به جودة الحفظ أو جودة اللفظ، وأن يريد به كليهما وأن يريد به ما هو أعم منهما قاله القاري. وقال النووي: الماهر الحاذق الكامل، الحفظ الذي لا يتوقف ولا يشق عليه القراءة لجودة حفظه وإتقانه. (مع السفرة) جمع سافر ككاتب وكتبة والسافر الرسول والسفرة الرسل، لأنهم يسفرون إلى الناس برسالات الله! وقيل: السفرة الكتبة قاله النووي. وقال ميرك: أي الكتبة جمع سافر من السفر وأصله الكشف فإن الكاتب يبين ما يكتب ويوضحه ومنه قيل للكتاب سفر بكسر السين لأنه يكشف الحقائق ويسفر عنها، والمراد بها الملائكة الذين هم حملة اللوح المحفوظ كما قال تعالى: ?بأيدي سفرة كرام بررة? [عبس: 15] سموا بذلك لأنهم ينقلون الكتب الإلهية المنزلة إلى الأنبياء فكأنهم يستنسخونها. وقيل: السفرة الملائكة الكاتبون لأعمال العباد. وقيل: مشتق من السفارة بمعنى الإصلاح، والسافر بمعنى السفير، والسفرة بمعنى السفراء والمراد بهم حينئذ الملائكة النازلون بأمر الله بما فيه مصلحة العباد من حفظهم عن الآفات والمعاصي وإلهامهم الخير في قلوبهم أو المراد الملائكة النازلون بالوحي إلى الأنبياء، لأنهم كالسفراء بين الله وبين رسله يسفرون بالوحي إليهم. والمعية في التقرب إلى الله تعالى. وقيل: يريد أنه يكون في الآخرة رفيقا في منازلهم أو هو عامل بعملهم. قال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد بكونه مع الملائكة أن يكون له في الآخرة منازل يكون فيها رفيقا للملائكة لاتصافه بصفتهم من حمل كتاب الله تعالى، ويحتمل أن يراد أنه عامل بعملهم وسالك مسلكهم من كونهم يحفظونه ويؤدونه إلى المؤمنين ويكشفون لهم ما يلتبس عليهم فكذلك الماهر. وقال التوربشتي: المعنى الجامع بين الماهر بالقرآن وبين الملأ المكرمين إن الماهر بالقرآن تعلم التنزيل واستظهره حتى صار من خزنة الوحي وأمناء الكتاب وحفظة السفر الكريم،

(14/332)


ليسفر عن الأمة بما استبهم عليهم من ذلك، ويبين لهم حقائقه كما أن السفرة يردونه إلى أنبياء الله المرسلين ويكشفون به الغطاء مما التبس عليهم من الأمور المكنونة حقائقها (الكرام) جمع الكريم، أي المكرمين على الله المقربين عنده لعصمتهم ونزاهتهم عن دنس المعصية
البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق، له أجران)) متفق عليه.
2133 - (5) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد
والمخالفة. (البررة) جمع البار أي المطيعين من البر وهو الطاعة (ويتتعتع فيه) أي يتردد في تلاوته لضعف حفظه. وقال القاري: أي يتردد ويتبلد عليه لسانه ويقف في قراءته لعدم مهارته، والتعتعة في الكلام التردد فيه من حصر أوعى يقال تعتع لسانه إذا توقف في الكلام ولم يطعه لسانه (وهو) أي القرآن أي حصوله (عليه) أي على ذلك القاري (شاق) أي شديد يصيبه مشقة جملة حالية (له أجران) أي أجر لقراءته وأجر لتحمل مشقته، وهذا تحريض على تحصيل القراءة. قال النووي: له أجران أجر بالقراءة، وأجر بتعتعته في تلاوته ومشقته، وليس معناه أن الذي يتتعتع عليه له من الأجر أكثر من الماهر به، بل الماهر أفضل وأكثر أجرا، لأنه مع السفرة وله أجور كثيرة، ولم يذكر هذه المنزلة لغيره، وكيف يلحق به من لم يعتن بكتاب الله تعالى وحفظه وإتقانه وكثرة تلاوته ودرايته كاعتناءه حتى مهر فيه- انتهى. قلت: اختلف هل له ضعف أجر الماهر أو يضاعف له أجره وأجر الماهر أعظم وأكثر. قال ابن التين، وغيره: هذا أظهر لأن المضاعفة للماهر لا تحصى فإن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، وأكثر والأجر شي مقدر وهذا له أجران من تلك المضاعفات. قال القسطلاني: ولمن رجح القول الأول أن يقول الأجر على قدر التعب والمشقة لكن لا نسلم أن الحافظ الماهر خال من مشقة لأنه لا يصير كذلك إلا بعد عناء كثير ومشقة شديدة غالبا (متفق عليه) أخرجه البخاري في تفسير سورة عبس ومسلم في فضال

(14/333)


القرآن واللفظ له، وأخرجه أيضا الترمذي في فضائل القرآن وأبوداود في أواخر الصلاة وابن ماجه في ثواب القرآن والدارمي.
2133- قوله: (لا حسد) أي لا غبطة. قال الحافظ: الحسد تمني زوال النعمة عن المنعم عليه، وخصه بعضهم بأن يتمنى ذلك لنفسه، والحق إنه أعم وصاحبه مذموم إذا عمل بمقتضى ذلك من تصميم أو قول أو فعل وينبغي لمن خطر له ذلك أن يكرهه كما يكره ما وضع في طبعه من حب المنهيات واستثنوا من ذلك ما إذا كانت النعمة لكافر أو فاسق يستعين بها على معاصي الله تعالى، فهذا حكم الحسد بحسب حقيقته. وأما الحسد المذكور في الحديث فهو الغبطة وأطلق الحسد عليها مجازا، وهي أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يزول عنه، والحرص على هذا يسمى منافسة فإن كان في الطاعة فهو محمود، ومنه ?فليتنافس المتنافسون? [المطففين: 26] وإن كان في المعصية فهو مذموم ومنه (ولا تنافسوا)، وإن كان في الجائزات فهو مباح، فكأنه قال في الحديث لا غبطة أعظم أو أفضل من الغبطة في هذين الأمرين- انتهى. وقال النووي قال العلماء: الحسد قسمان: حقيقي. ومجازي. فالحقيقي؟ تمني زوال النعمة عن صاحبها وهذا حرام باجماع الأمة مع النصوص الصحيحة. وأما
إلا على اثنين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا، فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار)) متفق عليه.

(14/334)


المجازي فهو الغبطة وهو أن يتمنى مثل النعمة التي على غيره من غير زوالها عن صاحبها، فإن كانت من أمور الدنيا كانت مباحة وإن كانت طاعة فهي مستحبة، والمراد بالحسد في هذا الحديث معناه المجازي أي لا غبطة محبوبة إلا في هاتين الخصلتين، وما في معناهما، وحاصله أنه لا تنبغي الغبطة في الأمور الخسيسة. وإنما تنبغي في الأمور الجليلة كالقيام بالقرآن والجود، قلت: ويؤيد إرادة الغبطة ما عند البخاري في فضائل القرآن من حديث أبي هريرة بلفظ: فسمعه جار له فقال ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل فلان فلم يتمن الزوال والسلب بل أن يكون مثله (إلا على اثنين) أي إلا على وجود شيئين أو في أمرين. وفي رواية إلا في اثنتين وكذا في حديث ابن مسعود عند الشيخين وغيرهما، وحديث أبي هريرة عند البخاري. قال الحافظ: تقول حسدته على كذا أي على وجود ذلك له. وأما حسدته في كذا فمعناه حسدته في شأن كذا وكأنها سببية. وقال العيني بعد ذكر الروايتين: كلمة" على" تأتي بمعنى "في" كما في قوله تعالى: ?ودخل المدينة على حين غفلة? [القصص: 15] وقوله ?واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان? [البقرة: 102] أي في ملكه- انتهى. ومعنى إلا في اثنتين أي لا حسد محمودا إلا في شأن خصلتين (رجل) بالجر على البدلية. وقيل: بالرفع على تقديرهما أو أحدهما أمر رجل أو خصلة رجل فلما حذف المضاف اكتسب إليه إعرابه (آتاه الله) بالمد في أوله أي أعطاه من الإيتاء، وهو الإعطاء (القرآن) أي من عليه بحفظه له كما ينبغي وبتعليمه (فهو يقوم به) المراد بالقيام به العمل مطلقا أعم من تلاوته داخل الصلاة أو خارجها، ومن تعليمه والحكم والفتوى بمقتضاه. ولأحمد من حديث يزيد بن الأخنس السلمي رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ويتبع ما فيه، ولفظ حديث ابن مسعود رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، واللام في "الحكمة" للعهد لأن المراد بها القرآن

(14/335)


فلا تخالف بين لفظي الحديثين (آناء الليل وآناء النهار) قال النووي: أي ساعاتهما وواحده إنا وأنا وإني وإنو أربع لغات- انتهى. وقال في الصراح: آناء الليل ساعاته واحدها إني مثل معي وإمعاء وإني وإنو أيضا. يقال: مضى إنوان وأنيان من الليل-انتهى. (ورجل) بالوجهين (آتاه الله مالا) نكرة ليشمل القليل والكثير (فهو ينفق) أي لله في وجوه الخير ففي رواية لأحمد فهو ينفقه في الحق وفي رواية لمسلم فتصدق به، وكذا عند ابن حبان (ج1ص290) قال فيه بيان إن قوله - صلى الله عليه وسلم - "فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار أراد به فهو يتصدق به (منه) كذا في جميع النسخ، وكذا في المصابيح وهي رواية أحمد (ج2ص36- 88) والترمذي وابن حبان، والذي في صحيحي البخاري ومسلم فهو ينفقه (آناء الليل وآناء النهار) أي أوقاتهما سرا وعلانية (متفق عليه) أخرجه البخاري في
2134- (6) وعن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة،
فضائل القرآن وفي التوحيد، ومسلم في فضائل القرآن وأخرجه أيضا أحمد (ج2ص9، 36، 88، 133) والترمذي في فضائل القرآن وابن ماجه في الزهد، وابن حبان (ج1ص289، 290).

(14/336)


2134- قوله: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن) أي ويعمل به كما في الرواية الآتية وهي زيادة مفسرة للمراد، وإن التمثيل وقع للذي يقرأ القرآن ولا يخالف ما اشتمل عليه من أمر ونهي لا مطلق التلاوة. وعبر بالمضارع لإفادة تكريره لها ومداومته عليها حتى صارت دأبه وعادته، كفلان يقري الضيف ويحمي الحريم ويعطي اليتيم. قال القسطلاني: إثبات القراءة في قوله يقرأ القرآن على صيغة المضارع ونفيها في قوله لا يقرأ ليس المراد منها حصولها مرة ونفيها بالكلية، بل المراد منهما الاستمرار والدوام عليها، وإن القراءة دأبه وعادته أو ليس ذلك من هجيراه كقولك فلان يقري الضيف ويحمي الحريم (مثل الأترجة) بضم الهمزة والراء بينهما مثناة ساكنة وآخره جيم مشددة مفتوحة، وفيه لغات. قال في القاموس: الأترج والأترجة والترنج والترنجة معروف، وهي أحسن الثمار الشجرية وأنفسها عند العرب انتهى. قال التوربشتي: المثل عبارة عن المشابهة بغيره في معنى من المعاني لإدناء المتوهم عن المشاهد، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاطب بذلك العرب ويحاورهم ولم يكن ليأتي في الأمثال بما لم تشاهده فيجعل ما أورده للتبيان مزيدا للإبهام، بل يأتيهم بما شاهدوه وعرفوه ليبلغ ما انتحاه من كشف الغطاء ورفع الحجاب، ولم يوجد فيما أخرجته الأرض من بركات السماء. لا سيما من الثمار الشجرية التي آنستها العرب في بلادهم أبلغ في هذا المعنى من الأترجة بل هي أفضل ما يوجد من الثمار في سائر البلدان الأخرى وأجدى لأسباب كثيرة جامعة للصفات المطلوبة منها والخواص الموجودة فيها، فمن ذلك كبر جرمها وحسن منظرها وطيب طعمها ولين ملمسها وذكاء أرجها تملأ الأكف بكبر جرمها ويكسيها لينا، وتفعم الخياشيهم طيبا، ويأخذ بالأبصار صبغة ولونا فاقع لونها تسر الناظرين تتوق إليها النفس قبل التناول تفيد آكلها بعد الالتذاذ بذواقها طيب نكهة، ودباغ معدة، وقوة هضم، اشتركت الحواس الأربع دون الاحتظاء بها

(14/337)


البصر والذوق والشم واللمس، وهذه الغاية القصوى في انتهاء الثمرات إليها وتدخل أجزاءها الأربع في الأدوية الصالحة للأدواء المزمنة. والأوجاع المقلقة والأسقام الخبيثة والأمراض الردية كالفالج واللقوة والبرص واليرقان واسترخاء العصب والبواسير (إلى آخر ما قال). وقال الحافظ: قيل الحكمة في تخصيص الأترجة بالتمثيل دون غيرها من الفاكهة التي يجمع طيب الطعم والريح كالتفاحة، لأنه يتداوى بقشرها وهو مفرح بالخاصية، ويستخرج من حبهادهن له منافع وقيل: إن الجن لا تقرب البيت الذي فيه الأترج، فناسب أن يمثل به القرآن الذي لا تقربه الشياطين، وغلاف
ريحها طيب. وطعمها طيب. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة، لا ريح لها وطعمها حلو. ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، ليس لها ريح وطعمها مر. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة،

(14/338)


حبة أبيض فيناسب قلب المؤمن، وفيها أيضا من المزايا كبر جرمها وحسن منظرها وتفريح لونها ولين ملمسها وفي أكلها مع الالتذاذ طيب نكهة ودباغ معدة وجودة هضم، ولها منافع أخرى مذكورة في المفردات- انتهى. (ريحها طيب وطعمها طيب) قيل: خص صفة الإيمان بالطعم وصفة التلاوة بالريح لأن الإيمان ألزم للمؤمن من القرآن، إذ يمكن حصول الإيمان بدون القراءة، وكذلك الطعم ألزم للجوهر من الريح. فقد يذهب ريح الجوهر ويبقى طعمه. وقيل: شبه الإيمان بالطعم الطيب لكونه خيرا باطنيا لا يظهر لكل أحد، والقرآن بالريح الطيب ينتفع بسماعه كل أحد ويظهر بمحاسنه لكل سامع. وقال المظهري: فالمؤمن الذي يقرأ القرآن هكذا من حيث أن الإيمان في قلبه ثابت طيب الباطن، ومن حيث أنه يقرأ القرآن ويستريح الناس بصوته ويثابون بالاستماع إليه ويتعلمون منه طيب الريح مثل الأترجة يستريح الناس بريحها (ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن) أي ويعمل به كما في الرواية الآتية (مثل التمرة) بالمثناة الفوقية وسكون الميم (وطعمها حلو) بضم الحاء وسكون اللام (كمثل الحنظلة) الحنظل، نبات يمتد على الأرض كالبطيخ، وثمره يشبه ثمر البطيخ، لكنه أصغر منه جدا، ويضرب المثل بمرارته. (مثل الريحانة) هي كل نبت طيب الريح من أنواع المشموم. قال الطيبي: إن هذا التشبيه والتمثيل في الحقيقة وصف لموصوف اشتمل على معنى معقول صرف لا يبزره عن مكنونه إلا تصويره بالمحسوس المشاهد، ثم إن كلام الله المجيد له تأثير في باطن العبد وظاهره، وإن العباد متفاوتون في ذلك، فمنهم من له النصيب الأوفر من ذلك التأثير وهو المؤمن القاريء، ومنهم من لا نصيب له البتة وهو المنافق الحقيقي، ومنهم من تأثر ظاهره دون باطنه وهو المرائي أو بالعكس، وهو المؤمن الذي لا يقرؤه. وإبراز هذه المعاني وتصويرها إلى المحسوسات ما هو مذكور في الحديث ولم يجد ما يوافقها ويلائمها أقرب ولا أحسن ولا أجمع من ذلك، لأن المشبهات والمشبه

(14/339)


بها واردة على التقسيم الحاصر لأن الناس إما مؤمن أو غير مؤمن، والثاني إما منافق صرف أو ملحق به، والأول إما مواظب على القراءة أو غير مواظب عليها فعلى هذا قس الأثمار المشبه بها، ووجه الشبه في المذكورات منتزع من أمرين محسوسين طعم وريح وليس بمفرق كما في قول إمرىء القيس:
كان قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العناب والحشف البالي
-انتهى. وقال التوربشتي: إن الشارع صلى الله عليه وسلم أشار في ضرب هذا المثل إلى معان لا يهتدي إليها إلا
ريحها طيب وطعمها مر)) متفق عليه. وفي رواية: ((المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالتمرة)).
2135- (7) وعن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين)).

(14/340)


من أيد بالتوفيق، فمنها أنه ضرب المثل بما يتنبه الأرض ويخرجه الشجر للمشابهة التي بينها وبين الأعمال، فإنها من ثمرات النفوس، والمثل، وإن ضرب المؤمن نفسه فإن العبرة فيه بالعمل الذي يصدر منه، لأن الأعمال هي الكاشفة عن حقيقة الحال. ومنها أنه ضرب مثل المؤمن بالأترجة والتمرة وهما مما يخرجه الشجر، وضرب مثل المنافق بما تنبته الأرض تنبيها على علو شأن المؤمن وارتفاع عمله، ودوام ذلك وبقاءه ما لم ييبس الشجرة، وتوقيفا على ضعة شأن المنافق وإحباط عمله وقلة جدواه وسقوط منزلته. ومنها إن الأشجار المثمرة لا تخلو عمن يغرسها فيسقيها ويصلح أودها ويربيها، وكذلك المؤمن يقيض له من يؤد به ويعلمه ويهذبه ويلم شعثه ويسويه، ولا كذلك الحنظلة المهملة المتروكة بالعراء أذل من نقع الفلذ، والمنافق الذي وكل إلى شيطانه وطيعه وهواه والله أعلم- انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في فضائل القرآن والأطعمة، والتوحيد، ومسلم في فضائل القرآن، والسياق المذكور للبخاري في الأطعمة وأخرجه أيضا أحمد (ج4ص397، 403- 404، 408) والترمذي في الأمثال والنسائي في الإيمان وابن ماجه في السنة والدارمي في فضائل القرآن وابن حبان في صحيحه (ج1ص285) وأخرجه أبوداود في الأدب من حديث أنس (وفي رواية الخ) هذه الرواية من أفراد البخاري أوردها في آخر فضائل القرآن (المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به) فيه دليل على أن المقصود من تلاوة القرآن العمل بما دل عليه لا مطلق التلاوة، وهي زيادة مفسرة للمراد من الرواية السابقة التي لم يقل فيها ويعمل به، وفي الحديث فضيلة حامل القرآن وقارئه وضرب المثل للتقريب للفهم.

(14/341)


2135- قوله: (إن الله يرفع بهذا الكتب) أي بالإيمان به وتعظيم شأنه والعمل به، والمراد بالكتاب القرآن البالغ في الشرف وظهور البرهان مبلغا، لم يبلغه غيره من الكتب المنزلة على الرسل المتقدمة. قال الطيبي: أطلق الكتب على القرآن ليثبت له الكمال، لأن اسم الجنس إذا أطلق على فرد من أفراده يكون محمولا على كماله. وبلوغة إلى حد هو الجنس كله كأن غيره ليس منه (أقواما) أي درجة أقوام ويكرمهم في الدارين بأن يحييهم حياة طيبة في الدنيا، ويجعلهم من الذين أنعم الله عليهم في العقبى (ويضع) أي يذل (به) أي بالإعراض عنه وترك العمل بمقتضاه (آخرين) وهم من لم يؤمن به أو من آمن به ولم يعمل به قال تعالى: ?يضل به كثيرا
رواه مسلم.
2136 - (8) وعن أبي سعيد الخدري، إن أسيد بن حضير، قال: ((بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده إذا جالت الفرس، فسكت فسكنت فقرأ فجالت، فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس،

(14/342)


ويهدي به كثيرا? [البقرة: 26] وقال: ?وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا? [الإسراء: 82] قال الطيبي: فمن قرأه وعمل بمقتضاه مخلصا رفعه الله، ومن قرأه مرائيا غير عامل به وضعه الله أسفل السافلين (رواه مسلم) في فضائل القرآن من رواية عامر بن واثلة إن نافع بن عبدالحارث لقي عمر بعسفان وكان عمر يستعمله على مكة فقال من استعملت على أهل الوادي. فقال ابن أبزى: فقال ومن ابن أبزى قال: مولى من موالينا قال فاستخلف عليهم مولى قال: إنه قاريء لكتاب الله عزوجل وإنه عالم بالفرائض. قال عمر: أما إن نبيكم - صلى الله عليه وسلم - قد قال إن الله يرفع بهذا الكتاب إلخ. قال الأبي: المعنى إن هذا الأمير رفعه الله عزوجل على هؤلاء المؤمر عليهم. وقال بعضهم: إن الله سبحانه وتعالى يرفع من عمل بالعلم ويضع من لم يعمل به، والعلم من حيث أنه علم لا يضع، والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج1ص35) وابن ماجه في السنة والدارمي في فضائل القرآن.

(14/343)


2136- قوله: (إن أسيد بن حضير) بالتصغير فيهما والحاء المهملة والضاد المعجمة (قال) أي يحكي عن نفسه (بينما) بالميم (هو) أي أسيد (يقرأ من الليل) أي في الليل. وقال القاري: أي في بعض أجزاء الليل وساعاته، وفي رواية مسلم بينما هو ليلة يقرأ في مربده بكسر الميم وفتح الباء الموحدة، هو الموضع الذي ييبس فيه التمر كالبيدر للحنطة ونحوها. (سورة البقرة) وفي حديث البراء الآتي إنه كان يقرأ سورة الكهف. وقد قيل: إن الرجل الذي كان يقرأها هو أسيد بن حضير. قال الكرماني: لعله قرأهما يعني السورتين الكهف والبقرة أو كان ذلك الرجل هو غير أسيد بن حضير، هذا هو الظاهر (وفرسه مربوطة) وفي رواية مربوط بالتذكير وهما صحيحان لأن الفرس يقع على الذكر والأنثى (إذا جالت) كذا في رواية مسلم، وفي البخاري إذ جالت قال العيني: هو جواب لقوله بينما هو يقرأ. وقال القاري: هو ظرف ليقرأ وجالت من الجولان أي وثبت واضطربت شديدا. وقيل: أي دارت وتحركت كالمضطرب المنزعج من مخوف نزل به (فسكت) أي أسيد عن القراءة (فسكنت) أي الفرس عن الاضطراب. قيل: تحرك الفرس كان لنزول الملائكة لاستماع القرآن خوفا منهم، وسكونها لعروجهم إلى السماء أو لعدم ظهورهم أو تحرك الفرس لوجدان الذوق بالقراءة، وسكونها لذهاب ذلك
فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبا منها، فأشفق أن تصيبه، ولما أخره رفع رأسه إلى السماء، فإذا مثل الظلة فيها، أمثال المصابيح، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إقرأ يا ابن حضير! إقرأ يا ابن حضير!

(14/344)


الذوق منها بترك القراءة ذكره القاري (فانصرف) أي أسيد من الصلاة (وكان ابنه) أي ابن أسيد (يحيى) قال الحافظ: يحيى بن أسيد بن حضير الأنصاري ذكر ابن القداح أنه شهد الحديبية مع أبيه. وقال أبوعمر: كان في سن من يحفظ ولا أعلم له رواية وبه كان يكنى أبوه أسيد بن حضير (قريبا منها) أي من الفرس في ذلك الوقت (فأشفق) أي خاف أسيد (أن تصيبه) أي الفرس ابنه يحيى في جولانها فذهب أسيد إلى ابنه ليؤخره عن الفرس. (ولما أخره) بخاء معجمة مشددة وراء من التأخير أي أخر أسيد ابنه يحيى عن الموضع الذي كان به خشية عليه، يعني أخره عن قرب الفرس، وهذه رواية القابسى. ووقع عند غيره فلما اجتره بجيم وتاء مثناة من فوق وراء مشددة من الاجترار، أي فلما جر أسيد ابنه من المكان الذي هو فيه حتى لا تطأه الفرس (رفع رأسه إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح) كذا في جميع النسخ من المشكاة وهكذا في جامع الأصول (ج9ص279) والذي في البخاري رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها. قال الحافظ: كذا فيه باختصار، وقد أورده أبوعبيد (في فضائل القرآن) كاملا ولفظه رفع رأسه إلى السماء فإذا هو بمثل الظلة فيها أمثال المصابيح عرجت إلى السماء حتى ما يراها، وفي رواية إبراهيم بن سعد (عند مسلم والنسائي) فقمت إليها فإذا مثل الظلة فوق رأسي فيها أمثال السرج فعرجت في الجو حتى ما أراها- انتهى. ولم أجد السياق الذي ذكره المصنف عند البخاري، والظاهر أنه تبع في ذلك الجزري، وقوله "إذا" للمفاجأة، والظلة بضم الظاء المعجمة وتشديد اللام هي الغاشية. وقيل السحابة ذكره المنذري. وقال العيني: هي شي مثل الصفة فأول بسحابة تظلل. وقال القاري: هي ما يقي الرجل من الشمس كالسحاب والسقف وغير ذلك أي شي مثل السحاب على رأسه بين السماء والأرض. وقال ابن بطال: هي السحابة كانت فيها الملائكة ومعها السكينة فإنها تنزل أبدا مع الملائكة- انتهى. والضمير في فيها للظلة، والمصابيح جمع

(14/345)


مصباح أي أمثال السرج (فلما أصبح) أي أسيد (حدث النبي صلى الله عليه وسلم) أي حكاه بما رآه لفزعه منه (فقال إقرأ يا ابن حضير إقرأ يا ابن حضير) مرتين، وفي رواية مسلم ثلاث مرات، ومعناه كان ينبغي لك أن تستمر على قراءتك وتغتنم ما حصل لك من نزول السكينة والملائكة، وتسكثر من القراءة التي هي سبب بقاءها قاله النووي. قال الطيبي: يريد أن أقرأ لفظ أمر وطلب للقراءة في الحال، ومعناه تحضيض وطلب للاستزادة في الزمان الماضي أي هلا زدت وكأنه صلى الله عليه وسلم استحضر تلك الحالة العجيبة الشأن فأمره تحريضا عليه
قال:فأشفقت يا رسول الله! أن تطأ يحيى، وكان منها قريبا، فانصرفت إليه ورفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظلة، فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها. قال: وتدري ما ذاك؟ قال: لا تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تثوارى منهم. متفق عليه)). واللفظ للبخاري، وفي مسلم: عرجت

(14/346)


والدليل على أن المراد من الأمر الاستزادة وطلب دوام القراءة والنهى عن قطعها قوله "فأشفقت" إلخ. وقال الحافظ: قوله "إقرأ يا ابن حضير" أي كان ينبغي أن تستمر على قراءتك وليس أمرا له بالقراءة في حالة التحديث وكأن استحضر صورة الحال، فصار كأنه حاضر عنده لما رآى ما رآى فكأنه يقول استمر على قراءتك لتستمر لك البركة بنزول الملائكة واستماعها لقراءتك، وفهم أسيد ذلك فأجاب بعذره في قطع القراءة وهو قوله (فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى) أي خشيت أن استمريت على القراءة أن تطأ الفرس ولدى، ودل سياق الحديث على محافظة أسيد على خشوعه في صلاته لأنه كان يمكنه أول ما جالت الفرس أن يرفع رأسه وكأنه كان بلغه حديث النهي عن رفع المصلي رأسه إلى السماء فلم يرفعه حتى اشتد به الخطب. ويحتمل أن يكون رفع رأسه بعد انقضاء صلاته، فلهذا تمادى به الحال ثلاث مرات- انتهى كلام الحافظ. وقال السندي علم من أول الأمر إن ما حصل لفرسه من علامات إن قراءته مقبولة محضورة فأمره بالقراءة فيما بعد لما ظهر فيها من البركات أو هذا الأمر منه لبيان إنك لا تجعل مثله مانعا من القراءة فيما بعد بل امض على قراءتك فيما بعد والله أعلم. (فانصرفت) وفي رواية وانصرفت (إليه) أي انصرفت عن الصلاة إلى يحيى ترحما عليه (ورفعت) وفي البخاري فرفعت (فخرجت) أي من بيتي (حتى لا أراها) أي الظلة أو المصابيح. قال القسطلاني: قوله "فخرجت" بالخاء والجيم كذا لجميعهم. قال عياض: وصوابه فعرجت بالعين- انتهى. قلت: وهكذا وقع عند مسلم، والنسائي وأبي عبيد (دنت) أي نزلت وقربت (لصوتك) أي بالقراءة، وفي رواية مسلم كانت تستمع لك، وعند أبي عبيد وكان أسيد بن حضير حسن الصوت، وعند الإسماعيلي إقرأ أسيد فقد أوتيت من مزامير آل داود. وفيه إشارة إلى الباعث على استماع الملائكة لقراءته (ولو قرأت) أي ولو دمت على قراءتك، وعند أبي عبيد أما إنك لو مضيت (لأصبحت) أي الملائكة (لا تتوارى منهم)

(14/347)


أي لا تخفى ولا تستتر الملائكة من الناس، وعند أبي عبيد لرأيت الأعاجيب (متفق عليه) أخرجاه في فضائل القرآن وأخرجه الحاكم (ج1ص554) بنحوه باختصار، وقال فيه فالتفت فإذا أمثال المصابيح مدلاة بين السماء والأرض فقال يا رسول الله! ما استطعت أن أمضي فقال تلك الملائكة نزلت لقراءة القرآن أما إنك لو مضيت لرأيت العجائب. وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. (عرجت)
في الجو، بدل: فخرجت على صيغة المتكلم.
2137 - (9) وعن البراء، قال: ((كان رجل يقرأ سورة الكهف، وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين، فتغشته سحابة، فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له فقال:
من العروج على صيغة المؤنث الغائبة أي صعدت الملائكة وارتفعت فيه لكونه قطع القراءة التي نزلت لسماعها. (في الجو) بفتح وتشديد الواو ما بين السماء والأرض (بدل فخرجت) أي مكان هذه الكلمة (على صيغة المتكلم) أي في هذه وعلى صيغة الغائبة في تلك. قال الحافظ قال النووي: في هذا الحديث جواز رؤية آحاد الأمة للملائكة كذا أطلق وهو صحيح لكن الذي يظهر التقييد بالصالح مثلا والحسن الصوت. قال، وفيه فضيلة قراءة القرآن وإنها سبب نزول الرحمة وحضور الملائكة. قلت: (قائلة الحافظ) الحكم المذكور أعم من الدليل فالذي في الرواية إنما نشأ عن قراءة خاصة من سورة خاصة بصفة خاصة، ويحتمل من الخصوصية مالم يذكر وإلا لو كان على الإطلاق لحصل ذلك لكل قاريء، وقد أشار في آخر الحديث بقوله لا تتوارى منهم إلى أن الملائكة لاستغراقهم في الاستماع كانوا يستمرون على عدم الاختفاء الذي هو من شأنهم، وفيه منقبة لأسيد بن حضير وفضل قراءة سورة البقرة في صلاة الليل، وفضل الخشوع في الصلاة وإن التشاغل بشي من أمور الدنيا ولو كان من المباح قد يفوت الخير الكثير فكيف لو كان بغير المباح- انتهى.

(14/348)


2137-قوله: (كان رجل) قيل هو أسيد بن حضير كما تقدم من حديثه نفسه لكن فيه أنه كان يقرأ سورة البقرة، وفي هذا أنه كان يقرأ سورة الكهف. قال الحافظ: وهذا ظاهره التعدد. وقد وقع قريب من القصة التي لأسيد لثابت بن قيس بن شماس لكن في سورة البقرة أيضا، وأخرج أبوداود من طريق مرسلة. قال قيل: للنبي - صلى الله عليه وسلم - ألم تر ثابت بن قيس لم تزل داره البارحة تزهر بمصابيح قال، فلعله قرأ سورة البقرة فسئل قال قرأت سورة البقرة، ويحتمل أن يكون قرأ سورة البقرة وسورة الكهف جميعا أو من كل منهما- انتهى كلام الحفظ. (حصان) بكسر الحاء وفتح الصاد المهملتين فحل كريم من الخيل. قال القاري: هو الكريم من فحل الخيل من التحصن أو التحصين، لأنهم يحصونه صيانه لماءه فلا ينزونه إلا على كريمة ثم كثر ذلك حتى سموا به كل ذكر من الخيل والجملة حالية. (بشطنين) تثنية شطن بفتح الشين المعجمة والطاء المهملة آخره نون وهو الحبل الطويل الشديد الفتل ولعله ربط باثنين لأجل جموحه وشدة صعوبته (فتغشته) أي الرجل (سحابة) أي سترته ظلة كسحابة فوق رأسه (فجعلت) أي شرعت السحابة (تدنو وتدنو) مرتين أي تقرب منه قليلا قليلا (وجعل) أي شرع (فرسه) المربوط بشطنين (ينفر) بفتح أوله وكسر الفاء من النفور. وقد وقع في رواية لمسلم تنقز بقاف وزاي وخطأه عياض. قال
تلك السكينة تنزلت بالقرآن)). متفق عليه.
2138 - (10) وعن أبي سعيد بن المعلى. قال: ((كنت أصلي في المسجد فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فلم أجبه

(14/349)


الحافظ: فإن كان من حيث الرواية فذاك وإلا فمعناها واضح- انتهى. وقال النووي: معنى ينقز بالقاف والزاي يثب (تلك السكينة) قال القاري: أي السكون والطمأنينة التي يطمئن إليها القلب ويسكن بها عن الرعب. قال الطيبي: فإن المؤمن تزداد طمأنينة بأمثال هذه الآيات إذا كوشف بها. وقيل: هي الرحمة. وقيل: الوقار. وقيل: ملائكة الرحمة- انتهى. وقال النووي: قد قيل في معنى السكينة هنا أشياء المختار منها إنها شي من مخلوقات الله تعالى فيه طمأنينة ورحمة ومعه الملائكة (تنزلت) بتاء ونون وتشديد الزاي وبعد اللام تاء تأنيث، وفي رواية الكشمهيني تتنزل بتائين بلا تاء تأنيث بعد اللام (بالقرآن) أي بسببه ولأجله وفي رواية الترمذي نزلت مع القرآن أو على القرآن. قال التوربشتي: وإظهار هذه الأمثال للعباد من باب التائيد الإلهي يؤيد به المؤمن، فيزداد يقينا ويطمئن قلبه بالإيمان إذا كوشف بها (متفق عليه) أخرجه البخاري في تفسير سورة الفتح وفي فضائل القرآن، وأخرجه مسلم فيه وكذا الترمذي، وأخرجه أحمد (ج4ص281، 284، 293، 298).

(14/350)


2138- قوله: (وعن أبي سعيد بن المعلى) بضم الميم وفتح العين واللام المشددة على لفظ اسم مفعول من التعلية. واختلف في اسم أبي سعيد. فقيل: اسمه رافع بن المعلى. وقيل: الحارث بن المعلى. وقيل: أوس بن المعلى. وقيل: الحارث بن أوس بن المعلى. وقيل: الحارث بن نفيع بن المعلى. قال ابن عبدالبر: من قال فيه رافع بن المعلى فقد أخطأ لأن رافع بن المعلى قتل ببدر، وأصح ما قيل فيه الحارث بن نفيع بن المعلى بن لوذان بن حارثة بن زيد بن ثعلبة من بني زريق الأنصاري الزرقي أمه أميمة بنت قرط بن خنساء من بني سلمة له صحبة يعد في أهل الحجاز مات سنة (73) وقيل (74) وهو ابن أربع وثمانين سنة. قال ابن عبدالبر: لا يعرف في الصحابة إلا بحديثين. أحدهما: هذا يعني الذي نحن في شرحه، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث. والثاني: عند الليث بن سعد. قال أبوسعيد بن المعلى: كنا نغدو إلى السوق على عهد رسول الله صلى الله عليه فنمر على المسجد فنصلي فيه فمررنا يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر: فقلت لقد حدث أمر فجلست فقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية ?قد نرى تقلب وجهك في السماء? [البقرة: 144] حتى فرغ من الآية فقلت لصاحبي تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول - صلى الله عليه وسلم - فنكون أول من صلى فتوارينا بعماد فصليناهما، ثم نزل رسول - صلى الله عليه وسلم - فصلى للناس الظهر يؤمئذ (كنت أصلي في المسجد) أي سجد النبي صلى الله عليه وسلم (فلم أجبه) لأنه صلى الله عليه وسلم منعهم من الكلام في الصلاة ومن قطعها، وظن
ثم أتيته. فقلت: يا رسول الله! إني كنت أصلي قال: ألم يقل الله "استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم" ثم قال: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟ فأخذ بيدي، فلما أردنا أن نخرج قلت: يا رسول الله! إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة من القرآن)).

(14/351)


أبوسعيد أن الخطاب في الآية لمن هو خارج عن الصلاة، وزاد في تفسير سورة الأنفال حتى صليت وكذا وقعت هذه الزيادة في المصابيح وبعض نسخ المشكاة (استجيبوا) أي أجيبوا فالسين زائدة للتأكيد (لله وللرسول إذا دعاكم) قال صاحب المدارك: المراد بالاستجابة الطاعة والامتثال وبالدعوة البعث والتحريض، ووحد الضمير ولم يثنه لأن استجابة الرسول كاستجابة الباري جل وعلا. وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد. وقيل: وحد الضمير لأن دعوة الله تسمع من الرسول. وقوله تعالى?لما يحيكم? [الأنفال: 24] أي من علوم الديانات والشرائع، لأن العلم حياة كما أن الجهل موت، وفيه دليل على أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فرض يعصي المرأ بتركه، وأنه حكم يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم. واختلف في أن إجابة الرسول تبطل الصلاة أم لا، فقال بعض الشافعية لا تبطلها، لأن الصلاة أيضا إجابة. قال الطيبي والبيضاوي: ظاهر الحديث يدل على هذا. وقيل: كان دعاه لأمر لا يحتمل التأخير وللمصلي أن يقطع الصلاة بمثله- انتهى. والأظهر من الحديث إن الإجابة واجبة مطلقا في حقه - صلى الله عليه وسلم - كما يفهم من إطلاق الآية أيضا، ولا دلالة في الحديث على البطلان وعدمه، وسيأتي مزيد الكلام في ذلك (ألا) بالتخفيف (أعلمك) من التعليم (أعظم سورة في القرآن) أي أفضل. وقيل: أكثر أجرا ومضاعفة في الثواب بحسب انفعالات النفس وخشيتها وتدبرها. قال ابن التين: معناه إن ثوابها أعظم من غيرها. وقال الطيبي: إنما قال أعظم سورة اعتبارا بعظيم قدرها وتفردها بالخاصية التي لم يشاركها فيها غيرها من السور ولاشتمالها على فوائد ومعان كثيرة مع وجازة ألفاظها- انتهى. واستدل به على جواز تفضيل بعض القرآن على بعض وقد سبق الكلام فيه (قبل أن تخرج) بالفوقية (من المسجد) قيل لم يعلمه بها ابتداء ليكون ذلك ادعى لتفريغ ذهنه وإقباله عليها بكليته (فأخذ بيدي) بالإفراد (فلما أردنا أن نخرج) من

(14/352)


المسجد (إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة من القرآن) قال القسطلاني: ولأبي ذر والأصيلي في القرآن. قال القاري: سميت سورة الفاتحة أعظم، لاشتمالها على المعاني التي في القرآن من الثناء على الله بما هو أهله والتعبد بالأمر والنهي وذكر الوعد، لأن فيه ذكر رحمة الله على الوجه الأبلغ الأشمل. وذكر الوعيد لدلالة يوم الدين أي الجزاء ولإشارة المغضوب عليهم عليه، وذكر تفرده بالملك وعبادة عباده إياه واستعانتهم بولاه وسؤالهم منه، وذكر السعداء والأشقياء وغير ذلك مما اشتمل عليه جميع منازل السائرين ومقامات السالكين ولا سورة بهذه المثابة في القرآن فهي أعظم
قال: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته)).

(14/353)


كيفية وإن كان في القرآن أعظم منها كمية (قال الحمد لله رب العالمين) خبر مبتدأ محذوف أي هي كما صرح بها في تفسير الأنفال عند البخاري. قال القاري: أي هي سورة الحمد لله رب العالمين فلا دلالة على كون البسملة منها أم لا- انتهى. وسيأتي مزيد الكلام في ذلك (هي السبع المثاني) اللام للعهد من قوله تعالى: ?ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم? الآية [الحجر: 87] وفي هذا تصريح بأن المراد بالسبع المثاني في الآية الكريمة هو الفاتحة وهذا هو الحق، فإن قيل في الحديث السبع المثاني وفي القرآن سبعا من المثاني. أجيب بأنه لا اختلاف بين الصيغتين إذا جعلنا من للبيان، وإنما سميت السبع لأنها سبع آيات بلا خلاف إلا أن منهم من عد أنعمت عليهم دون التسمية ومنهم من مذهبه على العكس قاله الزمخشري. قلت: الأول قول الحنفية والعكس قول الشافعي، فإنهم يعدون التسمية من الفاتحة ولا يعدون أنعمت عليهم آية. قال الطيبي: وعد التسمية أولى لأن أنعمت لا يناسب وزانه وزان فواصل السور، ولحديث ابن عباس بسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة. واختلف في تسميتها مثاني، فقيل لأنها تثنى على مرور الأوقات أي تكرر فلا تنقطع وتدرس فلا تندرس. وقيل: لأنها تثنى في كل ركعة أي تعاد. وقيل: لأنها تثنى بسورة أخرى أو لأنها نزلت مرة بمكة، ومرة بالمدينة تعظيما واهتماما بشأنها. وقيل: لأنها يثنى بها على الله تعالى. وقيل: لأنها استثنيت لهذه الأمة لم تنزل على من قبلها. والمثاني صيغة جمع، واحده مثناة، والمثناة كل شي يثنى، من قولك ثنيت الشيء ثنيا أي عطفته وضمت إليه آخر قاله القسطلاني. وقال العيني: هو جمع مثنى الذي هو معدول عن اثنين اثنين. وقيل: مثنى بمعنى الثناء كالمحمدة بمعنى الحمد. وقيل غير ذلك (والقرآن العظيم) عطف على السبع عطف صفة على صفة. وقيل: هو عطف عام على خاص. قال التوربشتي: إن قيل كيف صح عطف القرآن على السبع المثاني، وعطف الشيء على نفسه

(14/354)


مما لا يجوز. قلت: ليس كذلك وإنما هو من باب ذكر الشيء بوصفين، أحدهما معطوف على الآخر والتقدير آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم، أي الجامع لهذين النعتين. وقال الطيبي: عطف القرآن على السبع المثاني المراد منه الفاتحة وهو من باب عطف العام على الخاص تنزيلا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات، وإليه أومأ صلى الله عليه وسلم بقوله ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن حيث نكر السورة وأفردها ليدل على أنك إذا تقصيت سورة في القرآن وجدتها أعظم منها، ونظيره في النسق لكن من عطف الخاص على العام من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال- انتهى. وهو معنى قول الخطابي. قال الحافظ: وفيه بحث لاحتمال أن يكون قوله والقرآن العظيم محذوف الخبر، والتقدير ما بعد الفاتحة مثلا فيكون وصف الفاتحة- انتهى. بقوله هي "السبع المثاني" ثم عطف قوله والقرآن العظيم أي ما زاد على الفاتحة وذكر ذلك رعاية لنظم الآية ويكون التقدير والقرآن العظيم هو الذي أوتيته زيادة على الفاتحة- انتهى: (الذي أوتيته) إشارة إلى قوله تعالى: ?ولقد آتيناك?
رواه البخاري.
2139 - (11) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر

(14/355)


الآية [الحجر: 87] أو خصصته بالإعطاء،وفيه دليل على جواز إطلاق القرآن على بعضه، ويدل له قوله تعالى: ?بما أوحينا إليك هذا القرآن? [يوسف: 3] يعني سورة يوسف. قال ابن التين: في قوله قال: ?الحمد لله رب العالمين? [الفاتحة: 1] دليل على أن بسم الله الرحمن الرحيم ليست آية من القرآن كذا قال وعكس غيره لأنه السورة ويؤيده أنه لو أراد الحمد لله العالمين الآية لم يقل هي السبع المثاني، لأن الآية الواحدة لا يقال لها سبع فدل على أنه أراد بها السورة والحمد لله رب العالمين من أسمائها، وفيه قوة لتأويل الشافعي في حديث أنس، قال كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين. قال الشافعي: أراد السورة وتعقب بأن هذه السورة تسمى سورة الحمد لله ولا تسمى الحمد لله رب العالمين، وهذا الحديث يرد هذا التعقيب. قال الحافظ: وفي الحديث إن إجابة أراد المصلي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لا تفسد الصلاة هكذا صرح به جماعة من الشافعية وغيرهم، وفيه بحث لاحتمال أن تكون إجابته واجبة مطلقا سواء كان المخطاب مصليا أو غير مصل، إما كونه يخرج بالإجابة من الصلاة أولا يخرج فليس من الحديث ما يستلزمه، فيحتمل أن تجب الإجابة ولو خرج المجيب من الصلاة إلى ذلك جنح بعض الشافعية، وهل يختص هذا الحكم بالنداء ويشمل ما هو أعم حتى تجب إجابته إذا سأل فيه بحث. وقد جزم ابن حبان بأن إجابة الصحابة في قصة ذي اليدين كان كذلك- انتهى. (رواه البخاري) أي بهذا اللفظ في فضائل القرآن وأخرجه أيضا في تفسير الفاتحة والأنفال والحجر، وأخرجه أبوداود في أواخر الصلاة وابن ماجه في ثواب القرآن، والدارمي في فضائل القرآن، وأخرج أحمد والترمذي وابن خزيمة، والحاكم نحوه من حديث أبي هريرة لكن جعل القصة لأبي بن كعب كما سيأتي في الفصل الثاني. وجمع البيهقي بأن القصة وقعت لأبي بن كعب ولأبي سعيد بن المعلى. قال الحافظ: ويتعين المصير على ذلك لاختلاف مخرج الحديثين واختلاف

(14/356)


سياقهما.
2139-قوله: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر) أي خالية عن الذكر والطاعة فتكون كالمقابر وتكونون كالموتى فيها قال التوربشتي: أي اجعلوا لبيوتكم حصة من الذكر والتلاوة والصلاة لئلا تكون كالمقابر التي تورط أهلها في مهاوي الفناء فقصرت مقدرتهم عن العمل، وذلك نظير قوله - صلى الله عليه وسلم - صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا، وقد مر الحديث مبين المعنى فيما تقدم من الكتاب- انتهى. وقيل: المعنى لا تدفنوا موتاكم فيها، ويدل على المعنى الأول قوله (إن الشيطان) استئناف كالتعليل (ينفر) بكسر الفاء أي يتباعد ويخرج ويشرد. قال النووي: هكذا
من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة)). رواه مسلم.
2140 - (12) وعن أبي أمامة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اقرؤا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرؤا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو غيايتان
ضبطه الجمهور ينفر، ورواه بعض رواة مسلم يفر (أي من الفرار) وكلاهما صحيح. (من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) وفي رواية الترمذي وإن البيت الذي تقرأ البقرة فيه لا يدخله الشيطان، وفي حديث سهل بن سعد عند ابن حبان من قرأها (يعني سورة البقرة) ليلا لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليال، ومن قرأها نهارا لم يدخل الشيطان ثلاثة أيام. وخص سورة البقرة بذلك لطولها وكثرة أسماء الله تعالى والأحكام فيها. وقد قيل: فيها ألف أمر، وألف نهى وألف حكم وألف خبر كذا في المرقاة. (رواه مسلم) في باب استحباب صلاة النافلة في بيته قبيل فضائل القرآن، وأخرجه أيضا الترمذي في فضائل القرآن.

(14/357)


2140- قوله: (إقرؤا القرآن) أي اغتنموا قراءته وداوموا عليه (فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه) أي لقارئيه بأن يتمثل بصورة يراه الناس كما يجعل الله لأعمال العباد صورة ووزنا لتوضع في الميزان والله على كل شيء قدير، فليقبل المؤمن هذا وأمثاله ويعتقد بإيمانه أنه ليس للعقل في مثل هذا سبيل قاله العزيزي. (إقرؤا) أي على الخصوص (الزهراوين) تثنية الزهراء، تأنيث الأزهر، وهو المضيء الشديد الضوء أي المنيرتين لنورهما وهدايتهما وعظم أجرهما لقارئهما، فكأنهما بالنسبة إلى ما عداهما عند الله مكان القمرين من سائر الكواكب. قال في المفاتيح: سميتا الزهراوين لأنهما نوران: ولا شك إن نور كلام الله أشد وأكثر ضياء وكل سورة من سور القرآن زهراء لما فيها من نور بيان الأحكام والمواعظ وغير ذلك من الفوائد، ولما فيها من شفاء الصدور وتنوير القلوب وتكثر الأجر لقاريها. (البقرة وسورة آل عمران) بالنصب على البدلية أو بتقدير أعنى ويجوز رفعهما وسميتا زهروان لكثرة أنوار الأحكام الشرعية والأسماء الحسنى الإلهية فيهما، وذكر السورة في الثانية دون الأولى لبيان جواز كل منهما. (فإنهما) أي ثوابهما الذي استحقه التالي العامل بهما أوهما يتصوران ويتشكلان ويتجسدان (تأتيان) أي تحضران (كأنهما غمامتان) بفتح المعجمة وتخفيف الميمين أي سحابتان تظلان صاحبهما عن حر الموقف، وإنما سمي غماما لأنه يغم السماء أي يسترها (أو غيايتان) مثنى غياية بفتح غين معجمة وتخفيف يائين مثناتين تحت، وهي كل شي أظل الإنسان فوق رأسه من سحابة وغيره وغيرهما قاله الجزري. وقال المناوي: هي ما أظل الإنسان فوقه وأراد به ماله صفاء وضوء إذا لغياية ضوء شعاع الشمس. وقال
أو فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما، اقرؤا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة)).

(14/358)


القاري: قيل الغمامة ما يغم الضوء ويمحوه لشدة كثافته، والغيابة ما يكون أدون من الغمامة في الكثافة وأقرب إلى رأس صاحبه كما يفعل بالملوك فيحصل عنده الظل والضوء جميعا وقال الحفني: غيايتان أي لهما نور وضياء زيادة على حصول الاستظلال بهما فهو أبلغ مما قبله لأن غايته إنهما يظلان كالسحابتين وليس فيهما نور (أو فرقان) تثنية فرق بكسر الفاء وسكون الراء أي قطيعان يعني طائفتان وجماعتان (من طير) جمع طائر (صواف) جمع صافة، وهي الجماعة الوافقة على الصف تقول صففت القوم إذا أقمتهم في الحرب، وغيرها على خط مستو، وصف الإبل قوائمها أي وضعتها صفا فهي صافة وصواف، وصف الطائر جناحيه أي بسطهما ولم يحركهما، والمعنى باسطات أجنحتها متصلا بعضها ببعض بحيث لا يكون بينهما فرجة، والمراد أنهما يقيان قارئهما من حر الموقف وكرب يوم القيامة، وليست "أو" للشك ولا للتخيير في تشبيه السورتين ولا للترديد بل للتنويع، وتقسيم القارئين فالأول لمن يقرؤهما ولا يفهم المعنى، والثاني للجامع بين التلاوة ودراية المعنى والثالث لمن ضم إليهما التعليم والإرشاد (تحاجان) أي السورتان تدافعان الجحيم والزبانية أو تجادلان وتخاصمان الرب (عن أصحابهما) وهو كناية عن المبالغة في الشفاعة قاله القاري. وقال التوربشتي: الأصل في المحاجة أن يطلب كل واحد من المتخاصمين أن يرد صاحبه عن حجته ومحجته، وأريد به ههنا مدافعة السورتين عن صاحبهما والذب عنه. وقال الشوكاني: يحاجان أن يقيمان الحجة لصاحبه ويجادلان عنه وصاحبهما هو المستكثر من قراءتهما، وظاهر الحديث أنهما يتجسمان حتى يكونا كأحد هذه الثلاثة التي شبههما بها - صلى الله عليه وسلم - ثم يقدرهما الله تعالى على النطق بالحجة وذلك غير مستعبد من قدرة القادر القوي الذي يقول للشي كن فيكون. (إقرؤا سورة البقرة) قال الطيبي: تخصيص بعد تخصيص بعد تعميم أمر أولا بقراءة القرآن وعلق بها الشفاعة ثم خص الزهراوين وأناط

(14/359)


بهما التخليص من حر يوم القيامة بالمحاجة وأفرد ثالثا البقرة وأناط بها الأمور الثلاثة الآتية إيماء إلى أن لكل خاصة يعرفها الشارع (فإن أخذها) أي في المواظبة على تلاوتها والتدبر في معانيها والعمل بما فيها (بركة) أي زيادة ونماء وقيل أي منفعة عظيمة (وتركها) بالنصب ويجوز الرفع (حسرة) أي تلهف وتأسف على ما فات من الثواب وقيل: أي ندامة يوم القيام (ولا يستطيعها) أي لا يقدر على تحصيلها (البطلة) بفتح الباء والطاء المهملة أي أصحاب أي أصحاب البطالة والكسالة لطولها ولتعودهم الكسل. وقال معاوية بن سلام أحد رواة هذا الحديث: بلغني أن البطلة السحرة يعني لزيغهم عن الحق وإنهماكهم في الباطل قال القاري: وقيل البطلة السحرة لأن ما يأتون به باطل سماهم باسم فعلهم الباطل أي لا يؤهلون لذلك ولا يوفقون له لطمس قلوبهم بالمعاصي، ويمكن أن يقال معناه لا تقدر
رواه مسلم.
2141 - (13) وعن النواس بن سمعان، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((يؤتي بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما)). رواه مسلم.
على إبطالها أو على صاحبها السحرة لقوله تعالى فيها ?وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله? الآية [البقرة: 102] (رواه مسلم) في فضائل القرآن وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص249، 251، 255، 257) وابن حبان (ج1ص280) والحاكم (ج1ص564).

(14/360)


2141- قوله: (وعن النواس) بفتح النون وتشديد الواو (بن سمعان) بكسر السين وفتحها (يؤتي بالقرآن) أي متصورا أو بثوابه، وفي رواية الترمذي يأتي القرآن (وأهله) عطف على القرآن (الذين كانوا يعملون به) دل على أن من قرأ ولم يعمل به لم يكن من أهل القرآن ولا يكون شفيعا لهم بل يكون القرآن حجة عليهم. (تقدمه) بضم الدال أي تتقدم أهله أو القرآن (سورة البقرة وآل عمران) بالجر. وقيل: بالرفع، قال الطيبي: الضمير في تقدمه للقرآن أي يقدم ثوابهما ثواب القرآن. وقيل: يصور الكل بحيث يراه الناس كما يصور الأعمال للوزن في الميزان، ومثل ذلك يجب إعتقاده إيمانا فإن العقل يعجز عن أمثاله (كأنهما غمامتان أو ظلتان) بضم الظاء أي سحابتان (سوداوان) لكثافتهما وارتكام البعض منهما على بعض وذلك من المطلوب في الظلال (بينهما شرق) بفتح الشين المعجمة وسكون الراء بعدها قاف، وقد روى بفتح الراء والأول أشهر كما قال النووي أي ضوء ونور الشرق هو الشمس تنبيها على أنهما مع الكثافة لا يستران الضوء. وقيل: أراد بالشرق الشق وهو الإنفراج أي بينهما فرجة وفصل كتميزهما بالبسملة في المصحف، والأول أشبه وهو أنه أراد به الضوء لاستغناءه بقوله ظلتان عن بيان البينونة فإنهما لا تسميان ظلتين إلا وبينهما فاصلة اللهم إلا أن يقال فيه تبيان أنه ليست ظلة فوق ظلة بل متقابلتان بينهما بينونة. وقال المنذري: قوله بينهما شرق هو بفتح المعجمة وقد تكسر وبسكون الراء بعدهما قاف أي بينهما فرق يضيء (وكأنهما فرقان) أي طائفتان (تحاجان) وفي رواية الترمذي تجادلان (رواه مسلم) في فضائل القرآن، وأخرجه أيضا أحمد (ج4ص183) والترمذي في فضائل القرآن وفي الباب عن بريدة أخرجه أحمد والدارمي مطولا والحاكم مختصرا (ج1ص560) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

(14/361)


2142- (14) وعن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله تعالى معك أعظم؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله تعالى معك أعظم. قلت: ?الله لا إله إلا هو الحي القيوم? قال: فضرب في صدري وقال: ليهنك العلم يا أبا المنذر))
2142- قوله: (يا أبا المنذر) بصيغة الفاعل كنية أبي بن كعب (أي آية) اسم إستفهام معرب لازم الإضافة، ويجوز تذكيره وتأنيثه عند إضافته إلى المؤنث (من كتاب الله تعالى معك) أي حال كونه مصاحبا لك قال الطيبي: وقع موقع البيان لما كان يحفظه من كتاب الله، لأن مع كلمة تدل على المصاحبة- انتهى. وكان رضي الله عنه ممن حفظ القرآن كله في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، وكذا ثلاثة من بني عمه، (أعظم) قال إسحاق بن راهوية وغيره: هذا راجع إلى عظم أجر قاري ذلك وجزيل ثوابه أي أعظم أجرا وأكثر ثوابا (قلت الله ورسوله أعلم) فرض الجواب أولا وأجاب ثانيا، لأنه جوز أن يكون حدث أفضلية شي من الآيات غير التي كان يعلمها، فلما كرر عليه السؤال ظن أن مراده عليه الصلاة والسلام طلب الإخبار عما عنده فأخبره بقوله (قلت الله لا إله إلا هو الحي القيوم) إلى آخر الآية كذا ذكره ابن حجر. قال القاري: والأولى أن يقال فرض أولا أدبا وأجاب ثانيا طلبا، فجمع بين الأدب والإمتثال كما هو دأب أرباب الكمال، قال الطيبي: سؤاله عليه الصلاة والسلام من الصحابي قد يكون للحث على الاستماع، وقد يكون للكشف عن مقدار علمه وفهمه، فلما راعى الأدب أولا ورآى أنه لا يكتفي به علم أن المقصود استخراج ما عنده من مكنون العلم، فأجاب. وقيل انكشف له العلم من الله تعالى ببركة تفويضه وحسن أدبه في جواب مسألته، وقال النووي قال العلماء إنما تميزت آية الكرسي بكونها أعظم لما جمعت من أصول الأسماء والصفات من الإلهية والوحدانية والحياة والعلم والملك والقدرة والإرادة

(14/362)


وهذه السبعة أصول الأسماء والصفات والله أعلم. (قال) أي أبي (فضرب) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (في صدري) أي محبة وتعديته بفي نظير قوله تعالى ?وأصلح لي في ذريتي? [الأحقاف: 15] أي أوقع الصلاح فيهم حتى يكونوا محلا له، وفيه إشارة إلى امتلاء صدره علما وحكمة (ليهنك العلم) بلفظ الأمر الغائب بفتح التحتية وسكون الهاء وكسر النون، وفي بعض النسخ بهمزة بعد النون وهي الأصل فحذفت تخفيفا أي ليكن العلم هنيئا لك، يقال هنأني الطعام يهنئني ويهنأني ويهنوني، أي صار هنيئا وساغ، وتقول العرب في الدعاء ليهنئك الولد أي ليسرك، ويقال هنئي الطعام أي تهنأ به وكل أمر أتاك من غير تعب ومشقة فهو هنيء، وهذا دعاء له بتيسير العلم ورسوخه فيه، ويلزمه الإخبار بكونه عالما وهو المقصود، وفيه منقبة عظيمة لأبي، ودليل على كثرة علمه. وفيه تبجيل العالم
رواه مسلم.
2143 - (15) وعن أبي هريرة، قال: ((وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: إني محتاج، وعلي عيال، ولي حاجه شديدة، قال: فخليت عنه فأصبحت، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة! ما فعل أسيرك
فضلاء أصحابه وتكنيتهم وجواز مدح الإنسان في وجهه إذا كان فيه مصلحة، ولم يخف عليه الإعجاب ونحوه لكمال نفسه ورسوخه في التقوى. (رواه مسلم) في فضائل القرآن، وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص142) وأبوداود في أواخر الصلاة وابن أبي شيبة وزاد أحمد وابن أبي شيبة والذي نفسي بيده إن لهذه الآية ?ولسانا وشفتين? [البلد: 9] تقدس الملك عند ساق العرش.

(14/363)


2143- قوله: (وكلني رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان) أي في حفظ زكاة الفطر من رمضان أي فوض إلى ذلك فالوكالة بمعناها اللغوي وهو مطلق تفويض أمر للخير. وقال الطيبي: الإضافة لأدنى ملابسة، لأنها شرعت لجبر ما عسى أن يقع في صومه تفريط فهي بمعنى اللام (فأتاني آت) كقاض (فجعل) أي طفق وشرع (يحثو) بإسكان الحاء المهملة بعدها مثلثة أي يغرف ويأخذ بكفيه، يقال حثا يحثو وحثي يحثي (من الطعام) وكان تمرا كما في رواية النسائي وغيره (فأخذته) أي الذي حثا من الطعام (لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي لأذهبن بك أشكوك إليه يقال رفعه إلى الحاكم، إذا أحضره للشكوى (قال إني محتاج) لما آخذه. وقيل: أي إني فقير في نفسي (وعلي عيال) أي أنفقتهم إظهارا لزيادة الاحتياج أو "على" بمعنى لي (ولي) وللكشمهيني وبي بالموحدة بدل اللام وكذا في جامع الأصول (حاجة) أي حاجة زائدة (شديدة) أي صعبة كموت أو نفاس أو مطالبة دين أو جوع مهلك وأمثالها مما اشتد الحاجة إلى ما أخذته، وهو تأكيد بعد تأكيد. قال الطيبي: إشارة إلى أنه في نفسه فقير وقد اضطر الآن إلى ما فعل لأجل العيال وهذا للمحتاجين. وفي رواية النسائي، فقال إنما أخذته لأهل بيت فقراء من الجن، وفي رواية الإسماعيلي ولا أعود. وفيه دلالة على جواز رؤية الجن، وأما قوله تعالى?إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم? [الأعراف: 27] فالمعنى إنا لا نراهم على صورهم الأصلية التي خلقوا عليها لبعد التباين بيننا وبينهم في ذلك، لأنهم أجسام نارية في غاية الخفاء والاشتباه بخلاف ما إذا تمثلوا بصور أخرى كثيفة (فخليت عنه) أي تركت يقال خلى الأمر وعنه تركه وخلى سبيله أطلقه (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -) لما أتيته (ما فعل) على بناء الفاعل (أسيرك) أي

(14/364)


البارحة؟ قلت: يا رسول الله! شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته، فخليت سبيله. قال: أما إنه قد كذبك، وسيعود. فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيعود فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: دعني فإني محتاج وعلى عيال، لا أعود، فرحمته فخليت سبيله. فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة! ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله! شكا حاجة شديدة، وعيالا فرحمته، فخليت سبيله. فقال: أما أنه قد كذبك، وسيعود، فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا آخر ثلاث مرات إنك تزعم لا تعود ثم تعود. قال: دعني

(14/365)


مأخوذك (البارحة) أي الليلة الماضية. قال الطيبي: فيه أخباره عليه الصلاة والسلام بالغيب. وتمكن من أبي هريرة من أخذه الشيطان، ورده خاسئا وهو كرامة ببركة متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يعلم منه إعلاء حال المتبوع. قلت: وفي حديث معاذ بن جبل عند الطبراني إن جبريل جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بذلك أي بمجيء الشيطان لأخذ ذلك الطعام (إما) بالتخفيف للتنبيه (إنه) بكسر الهمزة (قد كذبك) بتخفيف الذال أي في إظهار الحاجة (وسيعود) أي في الأخذ فكن على حذر منه (فرصدته) أي ترقبته وانتظرته (فجاء يحثو) حال مقدرة لأن الحثو عقب المجيء لا معه، ويحتمل أن يكون التقدير فجاء فجعل يحثوا اعتمادا على ما سبق قاله القاري. قلت: هذه رواية اللكشمهيني والمستملي ووقع عند أبي ذر عن الحموي فجعل بدل فجاء (فرصدته) أي المرة الثالثة (وهذا آخر ثلاث مرات إنك) قال ابن حجر: أي هذا المجيء الذم جئته آخر ثلاث مرات إنك تعليل لما تضمنه كلامه أنه لا يطلقه انتهى. قال القاري: والظاهر إن هذا مبتدأ وآخر بدل منه والخبر أنك (تزعم) أي تظن أو تقول (لا تعود ثم تعود) وفي نسخة تزعم أن لا تعود ثم تعود. وقال الطيبي: قوله "أنك تزعم" بفتح الهمزة صفة لثلاث مرات على أن كل مرة موصوفة بهذا القول الباطل، والضمير مقدر أي فيها- انتهى. فقوله هذا آخر ثلاث مرات يدل على أنه في المرة الأولى أيضا وعد بعدم العود وهو ساقط اختصارا. قال القسطلاني: ولأبي ذر إنك بكسر الهمزة، وفي نسخة مقروأة على الميدومي إنك تزعم أنك لا تعود (دعني) وفي

(14/366)


أعلمك كلمات ينفعك الله بها: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: ?الله لا إله إلا هو الحي القيوم? حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك؟ قلت: زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها. قال: أما إنه صدقك، وهو كذوب،
رواية النسائي خل عني (أعلمك) بالجزم جواب دعني وبالرفع خبر مبتدأ محذوف والجملة جواب دعني (ينفعك الله بها) صفة لكلمات. قال الطيبي: وهو مطلق لم يعلم منه أي النفع فيحمل على المقيد في حديث علي عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - من قرأها يعني آية الكرسي حين يأخذ مضجعه آمنه الله تعالى على داره، ودار جاره وأهل دويرات حوله، رواه البيهقي في شعب الإيمان- انتهى. قلت: الظاهر إن المراد بالنفع هو ما يأتي في الحديث من قوله لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان، وفي رواية النسائي أعلمك كلمات إذا قلتهن لم يقربك ذكر ولا أنثى من الجن (إذا أويت) بالقصر على المشهور أي أتيت (إلى فراشك) للنوم وأخذت مضجعك، وفي البخاري قلت ما هن (أي الكلمات) قال إذا أويت إلى فراشك حتى تختم الآية) أي إلى ?وهو العلي العظيم? وزاد معاذ بن جبل في روايته عند الطبراني وخاتمة سورة البقرة (آمن الرسول) إلى آخرها (فإنك) أي إذا فعلت ذلك (لن يزال عليك من الله) متعلق بقوله (حافظ) بمعنى حافظ من عند الله أو من جهة أمر الله وقدره أو من بأس الله ونقمته كقوله تعالى: ?له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله? [الرعد: 11] (ولا يقربك) بفتح الراء والموحدة. وقال الحافظ: بفتح الراء وضم الموحدة، وفي رواية ولا يقربنك. قال القسطلاني: بفتح الراء والموحدة ونون التوكيد الثقيلة، كذا في اليونينية، وفي غيرها ولا يقربك بإسقاط النون، ونصب الموحدة عطفا على السابق المنصوب بـ"لن" و"لا" زائدة لتأكيد النفي (شيطان) قال القسطلاني:

(14/367)


وفي نسخة أي للبخاري الشيطان (حتى تصبح) غاية لما بعد لن (قلت زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها) وفي رواية البخاري بعده فخليت سبيله. قال: ما هي! قلت: قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية ?الله لا إله إلا هو الحي القيوم? وقال لي لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح وكانوا أحرص شي على الخير فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (إما) بالتخفيف (إنه) بكسر الهمزة (صدقك) بتخفيف الدال أي فيما قاله في آية الكرسي (وهو كذوب) هو من التتميم البليغ الغاية في الحسن لأنه لما أوهم مدحه بوصفه
وتعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال. قلت: لا. قال: ذاك شيطان)).

(14/368)


الصدق في قوله صدقك استدرك ففي الصدق عنه بصيغة مبالغة والمعنى صدقك في هذا القول مع أن عادته الكذب المستمر وهو كقولهم قد يصدق الكذوب (وتعلم) كذا في أكثر النسخ من المشكاة، وفي بعضها تعلم بإسقاط الواو كما في البخاري أي أتعلم (من تخاطب) أي بالتعيين الشخصي (منذ) بالنون وللحموي والمستملي منذ (ثلاث ليال قلت لا) أعلم (ذاك شيطان) من الشياطين. قال الطيبي: نكر لفظ الشيطان بعد سبقه منكرا في قوله لا يقربك شيطان ليؤذن بأن الثاني غير الأول على ما هو المشهور إن النكرة إذا أعيدت بلفظها كانت غير الأولى ووجه تغايرهما إن الأول مطلق شائع في جنسه، لأن القصد منه نفي قربان تلك الماهية له، والثاني فرد من أفراد ذلك الجنس أي شيطان من الشياطين فلو عرف لأوهم خلاف المقصود لأنه إما أن يشار إلى السابق أو إلى المعروف، والمشهور بين الناس وكلاهما غير مراد. وكان من الظاهر أن يقال شيطانا بالنصب لأن السؤال في قوله من تخاطب عن المفعول فعدل إلى الجملة الاسمية وشخصه باسم الإشارة لمزيد التعيين ودوام الإحتراز عن كيده ومكره فإن قلت قد وقع عند البخاري فيما روى عن أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: إن شيطانا تفلت على البارحة-الحديث. وفيه لولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطا بسارية، وهذا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - امتنع من إمساكه من أجل دعوة سليمان عليه السلام حيث قال: وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي، قال الله تعالى: ?فسخرنا له الريح? [ص:36] ثم قال ?والشياطين? وفي حديث الباب أن أبا هريرة أمسك الشيطان الذي رآه أجيب باحتمال أن الذي هم النبي صلى الله عليه وسلم أن يوثقه هو رأس الشياطين الذي يلزم من التمكن منه التمكن من الشياطين فيضاهي حينئذ سليمان في تسخيرهم والتوثق منهم، والمراد بالشيطان في حديث أبي هريرة هذا شيطانه بخصوصه أو آخر في الجملة فلا يلزم من تمكنه منه استتباع غيره من الشياطين في ذلك التمكن أو

(14/369)


الشيطان الذي هم به النبي - صلى الله عليه وسلم - تبدي له في صفته التي خلق عليها، وكذلك كانوا في خدمة سليمان عليه السلام على هيئتهم، والذي تبدي لأبي هريرة في حديث الباب كان على هيئة الآدميين فلم يكن في إمساكه مضاهاة لملك سليمان والعلم عند الله تعالى. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم إن الشيطان قد يعلم ما ينتفع به المؤمن وإن الحكمة قد يتلقاها الفاجر فلا ينتفع بها وتؤخذ عنه فينتفع بها وإن الكافر قد يصدق ببعض ما يصدق به المؤمن: ولا يكون بذلك مؤمنا، وإن الكذاب قد يصدق، وإن الشيطان من شأنه أن يكذب، وإنه قد يتصور ببعض الصور فتمكن رؤيته، وإن من أقيم في حفظ شي سمي وكيلا، وإن الجن يأكلون من طعام الإنس وإنهم يظهرون للإنس، لكن بالشرط المذكور وإنهم يتكلون بكلام الإنس وإنهم يسرقون ويخدعون. وفيه فضل آية الكرسي، وفيه جواز جمع زكاة الفطر قبل ليلة الفطر وتوكيل البعض لحفظها وتفرقتها كذا في الفتح
رواه البخاري.
2144 - (16) وعن ابن عباس، قال: بينما جبريل عليه السلام قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه، فرفع رأسه، فقال: ((هذا من باب السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم،
(رواه البخاري) أي في الوكالة وأخرجه في صفة إبليس من بدأ الخلق وفي فضائل القرآن مختصرا، وأخرجه أيضا النسائي والإسماعيلي وأبونعيم كما في الفتح، وقد وقع لأبي بن كعب عند النسائي وأبي أيوب الأنصاري عند الترمذي وأبي أسيد الأنصاري عند الطبراني، وزيد بن ثابت عند أبي الدنيا قصص في ذلك إلا أنه ليس فيها ما يشبه قصة أبي هريرة إلا قصة معاذ بن جبل عند الطبراني وهو محمول على التعدد.

(14/370)


2144- قوله: (بينما) كذا في جميع النسخ من المشكاة والذي في صحيح مسلم بينا، وكذا نقله في جامع الأصول (جبريل عليه السلام قاعد عند النبي - صلى الله عليه وسلم -) قال ابن الملك تبعا للطيبي: أي بين أوقات وحالات هو عنده - صلى الله عليه وسلم -، وقال ميرك: بينا وبينما وبين معناها الوسط وبين ظرف إما للمكان كقولك جلست بين القوم وبين الدار أو للزمان كما هنا، أي الزمان الذي كان جبريل قاعدا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - (سمع) وفي رواية الحاكم إذ سمع (نقيضا) بالنون والقاف والضاد المعجمة أي صوتا شديدا كصوت نقض خشب البناء عند كسره قاله القاري. وقال النووي: أي صوتا كصوت الباب إذا فتح (من فوقه) وفي رواية الحاكم من السماء أي من جهة السماء (فرفع) أي جبريل (رأسه فقال) أي جبريل. قال الطيبي: الضمائر الثلاثة في سمع ورفع، وقال راجعة إلى جبريل لأنه أكثر إطلاعا على أحوال السماء. وقيل: للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل الأولان راجعان للنبي - صلى الله عليه وسلم - والضمير في قال لجبريل عليه السلام لأنه حضر عنده للأخبار عن أمر غريب. ووقف عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن حجر: هو المختار واختاره غير واحد ذكره القاري، وفي رواية الحاكم ثم قال موضع فقال وهذا يؤيد ما قاله الطيبي: (هذا أي هذا الصوت (باب) أي صوت باب (من السماء) أي من سماء الدنيا (فتح اليوم) أي الآن (فنزل منه ملك) هذا من قول الراوي في حكايته لحال سمعه من رسول الله عليه وسلم أو بلغه منه (فقال) أي جبريل (هذا) أي النازل (ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم) هذا يدل على أنه نزل بالفاتحة وخواتيم سورة البقرة ملك غير جبريل. وقيل: إن جبريل نزل قبل هذا الملك معلما ومخبرا بنزول الملك فهو مشارك له في إنزالها. وقال القرطبي: إن جبريل نزل بها أولا بمكة ثم أنزل هذا الملك ثانيا بثوابها (فسلم) أي الملك النازل

(14/371)


فقال: أبشر بنورين أؤتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته)). رواه مسلم.
2145- (17) وعن أبي مسعود، قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآيتان من آخر سورة البقرة، من قرأ بهما
(فقال) وفي بعض النسخ وقال: وهكذا في مسلم أي الملك (أبشر) بفتح الهمزة وكسر الشين أي أفرح (بنورين) سماهما نورين لأن كلا منهما يكون لصاحبه نورا يسعى أمامه أو لأنه يرشده ويهديه بالتأمل فيه إلى الطريق القويم والمنهج المستقيم (أؤتيتهما لم يؤتهما) بصيغة المجهول أي لم يعطهما (فاتحة الكتاب) بالجر وجوز الوجهان الآخران (وخواتيم سورة البقرة) وهي من آمن الرسول إلى آخر السورة كذا قيل: والأظهر بصيغة الجمع أن يكون من قوله ?لله ما في السماوات وما في الأرض? [البقرة: 284] (لن تقرأ) الخطاب له عليه الصلاة والسلام، والمراد هو وأمته إذ الأصل مشاركتهم له في كل ما أنزل عليه إلا ما اختص به (بحرف منهما) أي بكل حرف من الفاتحة وخواتيم البقرة. قال التوربشتي: الباء زائدة يقال أخذت بزمام الناقة وأخذت زمامها، ويجوز أن يكون لإلصاق القراءة به، وأراد بالحرف الطرف منها، فإن حرف الشيء طرفه وكني به عن كل جملة مستقلة بنفسها (إلا أعطيته) أي أعطيت ما اشتملت عليه تلك الجملة من المسألة كقوله: ?اهدنا الصراط المستقيم? وكقوله: ?غفرانك? وكقوله: ?ربنا لا تؤاخذنا? ونظائر ذلك، ويكون التأويل في غير المسألة فيما هو حمد وثناء أعطيت ثوابه (رواه مسلم) في فضائل القرآن والحاكم (ج1ص585) وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه هكذا، إنما أخرج مسلم هذا الحديث مختصرا ووافقه الذهبي. وقال وأخرج مسلم بعضه وفيه إن الحديث عند مسلم والحاكم سواء ليس بين سياقيهما فرق إلا في بعض الألفاظ والمعنى واحد فاستدراك الحاكم ليس بشي، والحديث عزاه المنذري في الترغيب والجزري في جامع الأصول للنسائي أيضا.

(14/372)


2145- قوله: (وعن أبي مسعود) هو عقبة بن عمرو الأنصاري البدري (الآيتان) أي الكائنتان (من آخر سورة البقرة) أي آمن الرسول إلى آخر السورة وآخر الآية الأولى المصير، ومن ثم إلى آخر السورة آية واحدة، وأما ما اكتسبت فليست رأس آية بإتفاق العادين (من قرأ بهما) هذا لفظ البخاري في باب من لم ير بأسا أن يقول سورة البقرة من فضائل القرآن. وفي رواية له من قرأهما أي بدون الباء، وكذا وقع عند
في ليلة كفتاه)). متفق عليه.
2146- (18) وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال)).

(14/373)


مسلم وابن ماجه، وفي رواية أخرى للبخاري من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة. قال في المصابيح: فإن قلت ما هذه الباء التي في قوله بالآيتين. قلت: ذهب بعضهم إلى أنها زائدة. وقيل: ضمن الفعل معنى التبرك فعدي بالباء، وعلى هذا تقول قرأت بالسورة ولا تقول قرأت بكتابك لفوات معنى التبرك. قاله السهيلي: ولأبي الوقت قرأ الآيتين بحذف الباء (في ليلة) وأخرجه علي بن سعيد العسكري في ثواب القرآن بلفظ: من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتا آمن الرسول إلى آخر السورة ذكره الحافظ (كفتاه) بالتخفيف أي اغتناه عن قيام تلك الليلة بالقرآن وأجزأتا عنه من ذلك. وقيل: أجزأتا عنه عن قراءة القرآن مطلقا، سواء كان داخل الصلاة أم خارجها. وقيل: معناه كفتاه كل سوء ووقتاه من كل مكروه. وقيل كفتاه شر الشياطين. وقيل: دفعتا عنه شر الثقلين الإنس والجن أو شر آفات تلك الليلة. وقيل معناه كفتاه ما حصل له بسببهما من الثواب عن طلب ثواب شي آخر وكأنهما اختصتا بذلك لما تضمنتاه من الثناء على الصحابة بجميل إنقيادهم إلى الله وابتهالهم ورجوعهم إليه وما حصل لهم من الإجابة إلى مطلوبهم. قلت: ويؤيد الوجه الأول ما ورد عن أبي مسعود رفعه من قرأ خاتمة البقرة أجزأت عنه قيام ليلة ويؤيد الوجه الرابع حديث النعمان بن بشير رفعه إن الله كتب كتابا وأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة لا بقرآن في دار فيقربها الشيطان ثلاث ليال، أخرجه الحاكم (ج1ص562) وصححه كذا في الفتح. وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين بعد ذكر هذه الوجوه: ولا مانع من إرادة هذه الأمور جميعها ويؤيد ذلك ما تقرر في علم المعاني والبيان من أن حذف المتعلق مشعر بالتعميم فكأنه قال كفتاه من كل شر أو من كل ما يخاف وفضل الله واسع (متفق عليه) أخرجه البخاري في المغازي، وفي فضائل القرآن ومسلم فيه، واللفظ للبخاري وأخرجه أيضا أحمد (ج4ص118-121-122) والترمذي في فضائل القرآن وأبوداود في أواخر الصلاة وابن

(14/374)


ماجه في صلاة الليل والدارمي.
2146- قوله: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم) أي حفظ (من الدجال) أي من شره وفي رواية أبي داود والترمذي والنسائي من فتنة الدجال، وهو كذا في بعض نسخ مسلم. قال النووي: قيل سبب ذلك ما في أولها من العجائب والآيات فمن تدبرها لم يفتتن بالدجال، وكذا في آخرها قوله تعالى: ?أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا? [الكهف: 102] قال الطيبي: ويمكن أن يقال إن أولائك الفتية كما عصموا من ذلك الجبار كذلك يعصم الله القاري من الجبارين. قيل: ولا مانع من الجمع واللام فيه للعهد، وهو
رواه مسلم.

(14/375)


الذي في آخر الزمان يدعي الألوهية، ويحتمل أن يكون للجنس فإن الدجال من يكثر منه الكذب والتلبيس، ومنه الحديث يكون في آخر الزمان دجالون أي كذابون مموهون. وقال السيوطي في حاشية أبي داود: قال القرطبي اختلف المتأولون في سبب ذلك، فقيل لما في قصة أصحاب الكهف من العجائب والآيات فمن وقف عليها لم يستغرب أمر الدجال ولم يهله ذلك فلم يفتتن به. وقيل: لقوله تعالى: ?لينذر بأسا شديدا من لدنه? [الكهف: 2] تمسكا بتخصيص البأس بالشدة واللدنية وهو مناسب لما يكون من الدجال من دعوى الآلهية واستيلاءه وعظم فتنته ولذلك عظم صلى الله عليه وسلم أمره وحذر عنه وتعوذ من فتنته، فيكون معنى الحديث إن من قرأ هذه الآيات وتدبرها، ووقف على معناها حذره فأمن منه. وقيل: ذلك من خصائص هذه السورة كلها، فقد روى من حفظ سورة الكهف ثم أدركه الدجال لم يسلط عليه، وعلى هذا يجتمع رواية من روى أول سورة الكهف مع رواية من روى من آخرها ويكون ذكر العشر على جهة الاستدراج في حفظها كلها- انتهى كلام السيوطي. واعلم أنه وقع في رواية مسلم وأبي داود من حفظ عشر آيات، وفي رواية الترمذي من قرأ ثلاث آيات كما سيأتي. فقيل: وجه الجمع بين العشر وبين الثلاث إن حديث العشر متأخر ومن عمل بالعشر فقد عمل بالثلاث، وقيل حديث الثلاث متأخر ومن عصم بالثلاث فلا حاجة إلى العشر، وهذا أقرب إلى أحكام النسخ. قال ميرك: بمجرد الاحتمال لا يحكم بالنسخ. وقال القاري: النسخ لا يدخل في الأخبار. وقيل: حديث العشر في الحفظ، وحديث الثلاث في القراءة فمن حفظ العشر وقرأ الثلاث كفى وعصم من فتنة الدجال، وفيه أنه وقع في رواية للنسائي من قرأ العشر وهي تنافي هذا الجمع. وقال الشوكاني: لا منافاة بين رواية الثلاث الآيات والعشر الآيات لأن الواجب العمل بالزيادة فيقرأ عشر آيات من أولها- انتهى. واعلم أيضا أنه أخلف الرواة في أن العشر من أولها أو من آخرها فقال شعبة عن قتادة عند أحمد

(14/376)


والترمذي من أول الكهف، وكذا قال هشام عنه عند مسلم وهمام عنه عند أحمد، ومسلم وأبي داود والنسائي وسعيد عنه عند أحمد وقال شعبة: عند أحمد ومسلم وأبي داود والنسائي في اليوم والليلة من آخر الكهف، وهكذا قال هشام في روايته عند أبي داود، وقد تقدم وجه الجمع في كلام السيوطي المذكور. وقال الشوكاني: وأما اختلاف الروايات بين أن تكون العشر من أولها أو من آخرها فينبغي الجمع بينهما بقراءة العشر الأوائل والعشر الأواخر، ومن أراد أن يحصل على الكمال ويتم له ما تضمنته هذه الأحاديث كلها فليقرأ سورة الكهف كلها يوم الجمعة ويقرا كلها ليلة الجمعة- انتهى. (رواه مسلم) في فضائل القرآن وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص196و ج6ص446- 449) وأبوداود في الملاحم، والنسائي في السنن الكبرى وفي اليوم والليلة، وفي الباب عن أبي سعيد أخرجه الطبراني في الأوسط. قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح.
2147- (19) وعنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن، قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: ?قل هو الله أحد? تعدل ثلث القرآن)).

(14/377)


2147- قوله: (أيعجز أحدكم) بكسر الجيم من باب ضرب يضرب والهمزة للإستفهام الإستخباري (قالوا وكيف يقرأ) أي أحد (ثلث القرآن) لأنه يصعب على الدوام عادة، وفي حديث أبي سعيد عند البخاري فشق ذلك عليهم. وقالوا أينا يطيق ذلك يا رسول الله (قال قل هو الله أحد) أي إلى آخره أو سورته (تعدل) بالتأنيث ويجوز التذكير أي تساوي (ثلث القرآن) اختلفوا في معنى كون سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن فقال قوم هي ثلث باعتبار معاني القرآن لأنه أحكام وأخبار وتوحيد وقد اشتملت هي على القسم الثالث فكانت ثلثا بهذا الاعتبار ويستأنس لهذا بما وقع في رواية لمسلم، إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل قل هو الله أحد جزأ من أجزاء القرآن. واعترض بأنه يلزم منه أن تكون آية الكرسي وآخر الحشر كل منهما ثلث القرآن ولم يرد ذلك لكن قال أبوالعباس القرطبي: إنها اشتملت على اسمين من أسماء الله تعالى متضمنين جميع أوصاف الكمال لم يوجدا في غيرها من السور وهما الأحد الصمد لأنهما يدلان على أحدية الذات المقدسة الموصوفة بجميع أوصاف الكمال، وبيان ذلك إن الأحد يشعر بوجوده الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره والصمد يشعر بجميع أوصاف الكمال لأنه الذي انتهى سودده، فكان يرجع الطلب منه وإليه ولا يتم ذلك على وجه التحقيق إلا لمن حاز جميع فضائل الكمال، وذلك لا يصلح إلا لله تعالى فلما اشتملت هذه السورة على معرفة الذات المقدسة كانت بالنسبة إلى تمام المعرفة بصفات الذات وصفات الفعل ثلثا- انتهى. وقال قوم المثلية محمولة على تحصيل الثواب ومعنى كونها تعدل ثلث القرآن إن ثواب قراءتها يحصل للقاري مثل ثواب من قرأ ثلث القرآن وضعفه ابن عقيل فقال لا يجوز أن يكون المعنى فله أجر ثلث القرآن. واحتج بحديث من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، واستدل ابن عبدالبر لذلك بقول ابن راهوية ليس معناه إن من قرأها ثلاث مرات كان كمن قرأ القرآن كله هذا لا يستقيم ولو قرأها مائتي مرة. وقيل

(14/378)


المراد ثواب قراءة قل هو الله أحد يضاعف بقدر ثواب ثلث القرآن بغير تضعيف وهي دعوى بغير دليل ويؤيد الإطلاق حديث أبي الدرداء هذا وغيره مما ورد في معناه. وقيل المراد من عمل بما تضمنته من الإخلاص والتوحيد كان كمن قرأ ثلث القرآن وادعى بعضهم إن قوله "تعدل ثلث القرآن" يختص بصاحب الواقعة لأنه لما رددها في ليلته كان كمن قرأ ثلث القرآن بغير ترديد. قال القابسي: ولعل الرجل الذي جرى له ذلك لم يكن يحفظ غيرها فلذلك استقل عمله فقال له الشارع ذلك ترغيبا له في عمل الخير وإن قل. ولا يخفى ما في هذه الدعوى وقال ابن عبدالبر: من لم يتأول هذا الحديث أخلص ممن أجاب فيه بالرأي.
رواه مسلم.
2148 - (20) ورواه البخاري عن أبي سعيد
2149- (21) وعن عائشة، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سرية،

(14/379)


وقال الزرقاني: السكوت في هذه المسألة وشبهها أفضل من الكلام فيها وأسلم. قال السيوطي: وإن هذا نحا جماعة كابن حنبل وإسحاق بن راهوية وإنه من المتشابه الذي لا يدري معناه وإياه اختار- انتهى. قلت ظاهر أحاديث الباب ناطق بتحصيل الثواب مثل من قرأ ثلث القرآن، وحديث أبي أيوب عند أحمد والترمذي بلفظ: من قرأ قل هو الله أحد فقد قرأ ثلث القرآن. وحديث أبي بن كعب عند أبي عبيد من قرأ قل هو الله أحد فكأنما قرأ ثلث القرآن، صريح كل منهما في أن قراءة قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن. وكذا يدل عليه حديث أبي هريرة عند مسلم، والترمذي، احشدوا فسأقرأ عليكم ثلث القرآن، فخرج يقرأ قل هو الله أحد، ثم قال إلا أنها تعدل ثلث القرآن فقوله صلى الله عليه وسلم قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن يحمل على أن قراءتها تعدل قراءة ثلث القرآن. ويحصل لقائها ثواب قراءة ثلث القرآن فإن الروايات يفسر بعضها بعضا، وإذا حمل ذلك على ظاهره فهل ذلك الثلث من القرآن معين أو أي ثلث كان منه فيه نظر. وعلى الثاني فمن قرأها ثلاثا كان كمن قرأ ختمة كاملة ولله عزوجل أن يجازي عبده على اليسير بأفضل مما يجازي على الكثير، ونقول بما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -، ولكل ما جهلناه من وجهه وتعليله فنرده إليه صلى الله عليه وسلم، ولا ندري لم تعدل قراءة هذه قراءة ثلث القرآن قال الشوكاني: قد علل كونها تعدل ثلث القرآن بعلل ضعيفة واهية، والأحسن أن يقال إن ذلك لسر لم نطلع عليه، وليس لنا الكشف عن وجهه- انتهى. هذا وقد بسط الكلام في معنى هذه المعادلة شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته التي أشرنا إليها ونصر القول الأول وزيف، وضعف ما عداه فعليك أن تراجعها (رواه مسلم) أي عن أبي الدرداء وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص195و ج6ص443) والدارمي.

(14/380)


2148- قوله: (ورواه البخاري) في فضائل القرآن (عن أبي سعيد) وأخرجه أيضا أحمد (ج3ص8) ولأبي سعيد حديث آخر أخرجه أحمد والبخاري في فضائل القرآن والنذور والتوحيد ومالك وأبوداود والنسائي عنه، إن رجلا سمع رجلا يقرأ قل هو الله أحد يرددها فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له وكأن الرجل يتقالها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن، وفي الباب عن أبي أيوب عند أحمد والترمذي والنسائي وأبي هريرة عند مسلم والترمذي وقتادة بن النعمان عند البخاري تعليقا والنسائي والإسماعيلي موصولا وأنس عند الترمذي وأبي مسعود عند أحمد والنسائي.
2149- قوله: (بعث رجلا على سرية) أي أرسله أميرا عليها وقوله على "سرية" متعلق ببعث ولا يصح
وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ ?قل هو الله أحد? فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: سلوه لأي شي يصنع ذلك، فسألوه، فقال: لأنها صفة للرحمان، وأنا أحب أن أقرأها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخبروه إن الله يحبه)).

(14/381)


أن يتعلق بصفة لرجل لفساد المعنى ولا بحال لأن رجلا نكرة ولم يقل في سرية، لأن على تفيد معنى الاستعلاء والرجل. قيل: هو كلثوم بن الهدم، وفيه نظر لأنهم ذكروا إنه مات في أول الهجرة قبل نزول القتال. وقيل: هو كرز بن زهدم الأنصاري وسماه بعضهم كلثوم بن زهدم، وأما من فسره بأنه قتادة بن النعمان فأبعد جدا وهذا ظاهر. (وكان يقرأ لأصحابه) لأنه كان إمامهم (في صلاتهم) أي التي يصليها بهم (فيختم) لهم أي قراءته (بقل هو الله أحد) السورة إلى آخرها. وهذا يدل على أنه كان يقرأ بغيرها ثم يقرؤها في كل ركعة وهذا هو الظاهر، ويحتمل أنه يختم بها آخر قراءته فيختص بالركعة الأخيرة وعلى الأول فيؤخذ منه جواز الجمع بين السورتين غير الفاتحة في كل ركعة (فلما رجعوا) أي من السرية (ذكروا ذلك) أي فعله، هذا يدل على أن صنيعه ذلك لم يكن موافقا لما ألفوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - (سلوه لأي شي يصنع ذلك فسألوه) لم تختم بقل هو الله أحد (فقال) الرجل أختم بها (لأنها صفة الرحمن) قال ابن التين: إنما قال إنها صفة الرحمن لأن فيها أسماءه وصفاته أسماءه مشتقة من صفاته. وقال غيره: يحتمل أن يكون الصحابي المذكور قال ذلك مستندا لشي سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - إما بطريق النصوصية وإما بطريق الاستنباط. وقد أخرج البيهقي في كتاب الأسماء والصفات بسند حسن عن ابن عباس إن اليهود أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا صف لنا ربك الذي تعبد، فأنزل الله عزوجل قل هو الله أحد إلى آخرها فقال هذه صفة ربي عزوجل، وعن أبي كعب قال، قال المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم - انسب لنا ربك فنزلت سورة الإخلاص- الحديث. وهو عند ابن خزيمة في كتاب التوحيد وصححه الحاكم. قال ابن دقيق العيد: قوله: لأنها صفة الرحمن يحتمل أن يكون مراده إن فيها ذكر صفة الرحمن كما لو ذكر وصف فعبر عن الذكر بأنه الوصف وإن لم يكن نفس الوصف، ويحتمل غير ذلك إلا أنه لا يختص

(14/382)


ذلك بهذه السورة لكن لعل تخصيصها بذلك لأنه ليس فيها إلا صفات الله سبحانه وتعالى فاختصت بذلك دون غيرها (وأنا أحب أن أقرأها) أي لذلك دائما فإن من أحب شيئا أكثر من ذكره فجاؤا فأخبروا النبي - صلى الله عليه وسلم - (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبروه إن الله يحبه) قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يكون سبب محبة الله له محبته لهذه السورة، ويحتمل أن يكون لما دل عليه كلامه لأن محبته لذكر صفات الرب دالة على صحة اعتقاده. قال المازري: ومن تبعه محبة الله لعباده إرادته ثوابهم وتنعيمهم. وقيل: هي نفس الإثابة والتنعيم لا الإرادة، فعلى الأول هي من صفات الذات (وهي ما استحقه فيما لم يزل ولا يزال) وعلى الثاني من صفات الفعل (وهي ما استحقه فما لا يزال دون الأزل) وأما محبة العباد له تعالى فلا يبعد فيها الميل منهم إليه تعالى وهو متقدس
متفق عليه.
2150 - (22) وعن أنس، قال: ((إن رجلا قال يا رسول الله! إني أحب هذه السورة: ?قل هو الله أحد? قال: إن حبك إياها أدخلك الجنة)). رواه الترمذي، وروى البخاري معناه.

(14/383)


عن الميل، وقيل محبتهم له تعالى استقامتهم على طاعته. وقيل الإستقامة ثمرة المحبة وحقيقة المحبة له ميلهم إليه تعالى لاستحقاقه سبحانه وتعالى المحبة من جميع وجوهها. قال الطيبي: وتحريره إن حقيقة المحبة ميل النفس إلى ما يلائمها من اللذات وهي في حقه تعالى محال فيحمل محبته لهم إما على إرادة الإثابة أو على الإثابة نفسها. وأما محبة العباد له تعالى فيحتمل أن يراد بها الميل إليه تعالى وصفاته لاستحقاقه تعالى إياها من جميع وجوهها وأن يراد بها نفس الاستقامة على طاعته تعالى فيرجع حاصل هذا الوجه إلى الأول لأن الاستقامة ثمرة المحبة- انتهى. وفيه دليل على جواز تخصيص بعض القرآن جميل النفس إليه والاستكثار منه ولا يعد ذلك هجرانا لغيره (متفق عليه) أخرجه البخاري في أول كتاب التوحيد، ومسلم في فضائل القرآن وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى كما في الترغيب.

(14/384)


2150-قوله: (إن رجلا) هو كلثوم بن الهدم على أن هذه القصة غير القصة التي وقعت في حديث عائشة المتقدم (قل هو الله أحد) تفسير لقوله هذه السورة أو بدل (قال إن حبك إياها) أي حبك لسورة قل هو الله أحد، والحب مصدر مضاف إلى فاعله، وارتفاعه بالابتداء وخبره قوله (أدخلك الجنة) لأنها صفة الرحمن فحبها يدل على حسن اعتقاده في الدين ومعناه يدخلك الجنة، لأن الدخول في المستقبل، ولكنه لما كان محقق الوقوع فكأنه قد وقع فأخبر بلفظ الماضي. قال الحافظ: دل تبشيره له بالجنة على الرضا بفعله، وعبر بالماضي في قوله أدخلك وإن كان دخول الجنة مستقبلا تحقيقا لوقوع ذلك- انتهى. قال الطيبي: فإن قلت ما التوفيق بين هذا الجواب وبين الجواب في الحديث السابق أخبروه إن الله يحبه. قلت: هذا الجواب ثمرة ذلك الجواب لأن الله تعالى إذا أحبه أدخله الجنة وهذا من وجيز الكلام وبليغه فإنه اقتصر في الأول على السبب عن المسبب، وفي الثاني عكسه (رواه الترمذي) في فضائل القرآن (وروى البخاري) في باب الجمع بين السورتين في ركعة من كتاب الصلاة (معناه) فيه اعتراض على المصنف ودفع عنه كما لا يخفى. وأعلم أن السياق المذكور رواه الترمذي معلقا من رواية مبارك ابن فضالة عن ثابت البناني عن أنس. ووصله الدارمي عن يزيد بن هارون عن مبارك بن فضالة وهو طرف من حديث طويل أخرجه الترمذي أيضا موصولا من طريق عبدالعزيز بن محمد الداوردي عن عبيدالله بن عمر عن ثابت عن أنس قال: كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء فكان كلما افتتح سورة يقرأ لهم في الصلاة يقرأ بها افتتح بقل هو الله أحد حتى يفرغ منها. ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة فكلمة أصحابه فقالوا إنك تقرأ بهذه السورة، ثم لا ترى إنها تجزئك حتى تقرأ بسورة أخرى، فإما أن تقرأ بها وإما أن
2151- (23) وعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن

(14/385)


تدعها وتقرأ بسور أخرى. قال، ما أنا بتاركها إن أحببتم أن أؤمكم بها فعلت، وإن كرهتم تركتكتم، وكانوا يرونه أفضلهم ويكرهون أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبروه الخبر، فقال يا فلان! ما يمنعك مما يأمر به أصحابك وما يحملك أن تقرأ هذه السورة في كل ركعة قال: يا رسول الله! إني أحبها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن حبها أدخلك الجنة. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث عبيدالله بن عمر عن ثابت، وقد روى مبارك بن فضالة عن ثابت عن أنس إن رجلا قال يا رسول الله! إني أحب هذه السورة قل هو الله أحد قال إن حبك إياها أدخلك الجنة- انتهى. وأورده البخاري مطولا تعليقا بصيغة التصحيح أي بلفظ الجزم حيث قال: وقال عبيدالله بن عمر عن ثابت عن أنس كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، وكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح بقل هو الله أحد حتى يفرغ منها، ثم يقرأ بسورة أخرى معها الحديث. قال الحافظ: هذا التعليق وصله الترمذي والبزار عن البخاري عن إسماعيل بن أبي أوس والبيهقي (ج2ص61) من رواية محزر بن سلمة كلاهما عن عبدالعزيز الداوردي عن عبيدالله بطوله. قال الترمذي: حسن صحيح غريب من حديث عبيدالله عن ثابت قال. وقد روى مبارك بن فضالة عن ثابت فذكر طرفا من آخره وذكر الطبراني في الأوسط إن الداوردي تفرد به عن عبيدالله. وذكر الدارقطني في العلل إن حماد بن سلمة خالف عبيدالله في إسناده فرواه عن ثابت عن حبيب بن سبيعة مرسلا قال وهو أشبه بالصواب. وإنما رجحه لأن حماد بن سلمة يقدم في حديث ثابت لكن عبيدالله بن عمر حافظ حجة، وقد وافقه مبارك في إسناده فيتحمل أن يكون لثابت فيه شيخان-انتهى. قلت وأخرجه الحاكم (ج1ص240) من رواية إبراهيم بن حمزة الزبيري عن الدراوردي وقال صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وقال وأورده البخاري تعليقا. وأعلم أن الظاهر إن قصة حديث

(14/386)


عائشة عند الشيخين، وقصة حديث أنس عند الترمذي والبخاري قصتان متغائرتان لا أنهما قصة واحدة، ويدل على تغايرهما إن في حديث أنس إنه كان يبدأ بقل هو الله أحد، وفي حديث عائشة إن أمير السرية كان يختم بها، وفي هذا أنه كان يصنع ذلك في كل ركعة ولم يصرح بذلك في قصة الآخر، وفي هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله وفي حديث عائشة أنه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يسألوا أميرهم، وفي هذا أنه قال إنه يحبها فبشره بالجنة، وأمير السرية قال إنه صفة الرحمن فبشره بأن الله يحبه.
2151- قوله: (ألم تر) بصيغة المعلوم أي ألم تعلم (أنزلت) صفة للآيات (الليلة) نصب على الظرفية قال الطيبي: ألم تر كلمة تعجب وتعجيب وأشار إلى سبب التعجب بقوله (لم ير مثلهن) أي في باب التعوذ وهو
قط ?قل أعوذ برب الفلق? و?قل أعوذ برب الناس?. رواه مسلم.
2152 - (24) وعن عائشة، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة، جمع كفيه ثم نفث فيهما، فقراء فيهما

(14/387)


بصيغة المجهول، ورفع مثلهن (قط) لتأكيد النفي في الماضي يعني لم تكن آيات سورة كلهن تعويذا للقاري من شر الأشرار مثل هاتين السورتين، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من عين الجان وعين الإنسان فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سواهما ولما سحر استشفى بهما وإنما كان كذلك لأنهما من الجوامع في هذا الباب ?قل أعوذ برب الفلق إلخ? خبر مبتدأ محذوف أي هي قل أعوذ برب الفلق الخ وفي الحديث بيان عظم فضل هاتين السورتين، وفيه دليل واضح على كونهما من القرآن، وفيه إن لفظة قل من القرآن ثابتة من أول السورتين بعد البسملة، وقد أجمعت الأمة على هذا كله قاله النووي. وأما ما نسب إلى ابن مسعود من إنكار قرآنية المعوذتين. فقيل: إن هذا النقل عن ابن مسعود كذب باطل، قاله ابن حزم في أوائل المحلى والنووي في شرح المهذب وشرح مسلم والفخر الرازي في أوائل تفسيره. وقيل: بل النقل عنه صحيح وكونهما من القرآن، قد ثبت القطع بذلك في عصره لكن لم يثبت عنده القطع بذلك أي إنه كان متواترا في عصر ابن مسعود لكن لم يتواتر عند ابن مسعود. وقيل: غير ذلك في تأويل ما حكى عن ابن مسعود (رواه مسلم) في فضائل القرآن وكذا الترمذي والدارمي ورواه النسائي في الاستعاذة وأخرجه أحمد (ج4ص144، 150، 151، 152).

(14/388)


2152- قوله: (كان إذا أوى) بالقصر ويمد (إلى فراشه) بكسر الفاء أي أتاه للنوم وأخذ مضجعه واستقر فيه (جمع كفيه ثم نفث فيهما) من النفس بفتح النون وسكون الفاء بعدها مثلثة قيل النفث إخراج ريح من الفم مع شي من الريق. وقال الجزري في النهاية: النفث شيبة بالنفح، وهو أقل من التفل لأن التفل لا يكون إلا ومعه شي من الريق (فقرأ فيهما) اختلفوا في توجيه الفاء فإنه يدل على تأخير القراءة من النفث، والظاهر العكس. فقيل: المراد ثم أراد النفث فقرأ. وقيل: الفاء بمعنى الواو. وقيل: تقديم النفث على القراءة مخالفة للسحرة البطلة. وقيل: هي سهو من الراوي أو الكاتب والله تعالى أعلم. قال المظهر: الفاء للتعقيب، وظاهره يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - نفث في كفيه أولا ثم قرأ، وهذا لم يقل به أحد وليس فيه فائدة ولعل هذا سهو من الكاتب أو الراوي لأن النفث ينبغي أن يكون بعد التلاوة ليوصل بركة القرآن واسم الله تعالى إلى بشرة القاري أو المقرؤ له- انتهى. وتعقبه الطيبي فقال من ذهب إلى تخطئة الرواة الثقات العدول، ومن اتفقت الأمة على صحة روايته وضبطه وإتقانه بما سنح له من الرأي الذي هو أوهن من بيت العنكبوت فقد خطأ نفسه وخاض فيما لا يعنيه هلا قاس هذه الفاء على ما في قوله تعالى: ?فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله? [النحل: 98] وقوله ?فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم?
?قل هو الله أحد? ?وقل أعوذ برب الفلق? و?قل أعوذ برب الناس? ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات)). متفق عليه.

(14/389)


[البقرة: 54] على أن التوبة عين القتل ونظائره في كتاب الله العزيز غير عزيز، والمعنى جمع كفيه، ثم عزم على النفث فيهما فقرأ فيهما أو لعل السر في تقديم النفث على القراءة مخالفة السحرة البطلة على أن أسرار الكلام النبوي جلت عن أن تكون مشروع كل وارد. وبعض من لا يدله في علم المعاني لما أراد التفصي عن الشبهة تشبث أنه جاء في صحيح البخاري بالواو، وهي تقتضي الجمعية لا الترتيب وهو زور وبهتان حيث لم أجد فيه وفي كتاب الحميدي، وجامع الأصول (ج5ص73) إلا بالفاء- انتهى. وقد ثبت في رواية أبي ذر عن الكشمهيني يقرأ (بلا فاء ولا واو) فيهما وفي رواية إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو الله أحد وبالمعوذتين جميعا. قال الحافظ: أي يقرأها وينفث حالة القراءة (يبدأ بهما) أي يبدأ بالمسح بيديه (على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده) قال في شرح المشكاة: قوله "يبدأ" بيان لجملة قوله "يمسح بهما ما استطاع" لكن قوله "ما استطاع من جسده" وقوله "يبدأ" يقتضيان أن يقدر يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده ثم ينتهي إلى ما أدبر من جسده. وفي رواية ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده (متفق عليه) فيه نظر فإن الحديث من أفراد البخاري أخرجه في فضائل القرآن من رواية عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة بالسياق المذكور، وفي الدعوات مختصرا، وأخرج في الطب من رواية يونس عن ابن شهاب بنحوه، ولابن شهاب حديث آخر أخرجه البخاري في الوفاة النبوية من رواية يونس وفي فضائل القرآن من رواية مالك وفي الطب من رواية معمر كلهم عن الزهري عن عروة عن عائشة إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح بيده رجاء بركتها، وأخرجه أيضا مسلم في الطب من رواية مالك ومعمر ويونس وزياد بن سعد، وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي وابن ماجه في الطب. قال الحافظ: رواية عقيل عن ابن شهاب، وإن اتحد

(14/390)


سندها بالسابق (أي بحديث مالك ومن وافقه) لكن فيها أنه كان يقرأ بالمعوذات عند النوم (وفي رواية مالك إن ذلك كان عند الوجع) فهي مغايرة لحديث مالك المذكور فالذي يترجع إنهما حديثان عن ابن شهاب بسند واحد عند بعض الرواة عنه ما ليس عند بعض قال، وقد جعلهما أبومسعود الدمشقي حديثا واحدا، فعقبه أبوالعباس الطرقي، وفرق بينهما خلف الواسطي وتبعه المزي والله اعلم- انتهى. ولعل صاحب المشكاة قلد الجزري حيث عز رواية عقيل عن ابن شهاب في جامع الأصول (ج5ص74) إلى البخاري ومسلم أو تبع في ذلك أبا مسعود الدمشقي ومن وافقه فمعنى قوله متفق عليه، أي على أصل الحديث ولا يخفى ما فيه،
وسنذكر حديث ابن مسعود: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم في باب المعراج إن شاء الله تعالى.
?الفصل الثاني?
2153- (25) عن عبدالرحمن بن عوف، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة تحت العرش يوم القيامة: القرآن يحاج العباد، له ظهر وبطن، والأمانة، والرحم تنادي:
ورواية الكتاب أخرجها الترمذي في الدعوات وأبوداود في الأدب وابن ماجه في الدعاء (وسنذكر حديث ابن مسعود لما أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وبعده على ما في المصابيح انتهى به إلى سدرة المنتهى فأعطى ثلاثا أعطى الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئا المقحمات (في باب المعراج) وهو إما لتكرره حوله إليه أو لكونه أنسب بذلك الباب والله أعلم.

(14/391)


2153- قوله: (ثلاثة) أي أشياء تكون (تحت العرش) المراد أنها تجسم ويكون لها قرب مكانة عنده تعالى بحيث تشفع لمن قام بحدود القرآن كان سببا لنجاته، وإلا كان سببا لهلاكه. قال المناوي: قوله "ثلاثة تحت العرش" عبارة عن اختصاص الثلاثة من الله بمكان بحيث لا يضيع أجر من حافظ عليها ولا يهمل مجازاة من ضيعها وأعرض عنها (القرآن يحاج العباد) أي يحاجج عن العباد العاملين دون غيرهم. وقال القاري: أي يخاصمهم فيما ضيعوه وأعرضوا عنه من أحكامه وحدوده أو يحاج لهم ويخاصم عنهم بسبب محافظتهم حقوقه كما تقدم يحاجان عن أصحابهما، وكما ورد القرآن حجة لك أو عليك فنصب العباد بنزع الخافض (له) أي للقرآن (ظهر وبطن) قيل: ظهره لفظه، وبطنه معناه، وقيل: ظهره ما ظهر تأويله وبطنه ما بطن تفسيره. وقيل: ظهره ما يظهر بيانه وبطنه ما احتيج إلى تفسيره. وقيل: ظهره تلاوته كما أنزل وبطنه التدبر له والتفكر فيه. وقيل: الظهر صورة القصة مما أخبر الله سبحانه من غضبه على قوم وعقابه إياهم فظاهر ذلك أخبار عنهم وباطنه عظة وتنبيه لمن يقرأ ويسمع من الأمة وهذا وجه حسن لولا اختصاصه ببعض دون بعض، فإن القرآن متناول لجملة التنزيل وفي حمل قوله له ظهر وبطن على هذا الوجه تعطيل لما عداه. وقيل: ظهره ما استوى المكلفون فيه من الإيمان به والعمل بمقتضاه وموجبه وبطنه ما وقع التفاوت في فهمه بين العباد على حسب مراتبهم في الأفهام والعقول وتباين منازلهم في المعارف والعلوم، وإنما أردف قوله يحاج العباد بقوله له ظهر وبطن لينبه على أن كلا منهم إنما يطالب بقدر ما انتهى إليه من علم الكتاب وفهمه (والأمانة) وهي كل حق لله أو الخلق لزم أداءه وفسرت في قوله تعالى: ?إنا عرضنا الأمانة? [الأحزاب: 72] بأنها الواجب من حقوق الله لأنه الأهم (والرحم) استعيرت للقرابة بين الناس (تنادي) بالتأنيث. قال في المرقاة: أي قرابة الرحم أو كل واحدة من

(14/392)


ألا من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله)) . رواه في شرح السنة.
2154 - (26) وعن عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقال لصاحب القرآن إقرأ وارتق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرأها))
الأمانة والرحم. وقيل: كل من الثلاثة- انتهى. وفي حاشية المشكاة عن الطيبي فالقرآن يحاج والأمانة كذا والرحم تنادي ولم يذكر للثاني ما هو له من البيان اعتمادا على الأول أو على الثاني أي والأمانة تحاج أو تنادي- انتهى. (ألا) حرف تنبيه (من وصلني وصله الله) أي بالرحمة (ومن قطعني قطعه الله) أي بالإعراض عنه وهو يحتمل إخبارا ودعاءا. قال القاضي: إنما خص هذه الثلاثة بالذكر لأن ما يحاوله الإنسان إما أن يكون دائرا بينه وبين الله تعالى لا يتعلق بغيره، وإما أن يكون بينه وبين عامة الناس أو بينه وبين أقاربه وأهله، فالقرآن وصله إلى أداء حقوق الربوبية والأمانة تعم الناس، فإن دماءهم وأموالهم وأعراضهم وسائر حقوقهم أمانات فيما بينهم، فمن قام بها فقد أقام العدل ومن واصل الرحم وراعى الأقارب بدفع المخاوف والإحسان إليهم في أمور الدين والدنيا، فقد أدى حقها، وقدم القرآن لأن حقوق الله أعظم ولإشتماله على القيام بالأخيرين، وعقبه بالأمانة لأنها أعظم من الرحم ولإشتمالها على أداء حق الرحم، وصرح بالرحم مع اشتمال الأمرين الأولين محافظتها تنبيها على أنها أحق حقوق العباد بالحفظ كذا ذكره القاري. والحديث نقله السيوطي في الجامع الصغير عن الحكيم الترمذي، ومحمد بن نصر بلفظ: ثلاثة تحت العرش يوم القيامة، القرآن له ظهر وبطن يحاج العباد، والرحم تنادي صل وصلني واقطع من قطعني، والأمانة- انتهى. أي تنادي بأن أحفظ من حفظني واقطع من خان في (رواه) المصنف أي البغوي (في شرح السنة) قال الجزري: وفي إسناده كثير بن عبدالله وهو واه ذكره القاري، وقد تقدم أن الحديث ذكره السيوطي في الجامع الصغير وعزاه

(14/393)


للحكيم الترمذي ومحمد بن نصر. قال العزيزي: بإسناد ضعيف.
2154- قوله: (وعن عبدالله بن عمرو) بالواو (يقال) أي في الآخرة عند دخول الجنة (لصاحب القرآن) أي من يلازمه بالتلاوة والعمل (اقرأ وارتق) أمر من الإرتقاء أي اصعد، وفي رواية أحمد والترمذي اقرأ وارق، وهو أمر من رقي يرقي رقيا، أي إصعد إلى درجات الجنة وارتفع فيها يقال رقي الجبل، وفيه وإليه رقيا ورقيا أي صعد (ورتل) أي إقرأ بالترتيل ولا تستعجل في قراءتك (كما كنت ترتل في الدنيا) من تجويد الحروف ومعرفة الوقوف (فإن منزلك) وفي رواية أحمد والترمذي، فإن منزلتك وكذا وقع في بعض النسخ من سنن أبي داود (عند آخر آية تقرأها) قال الخطابي في المعالم: (ج1ص289) قد جاء في الأثر إن عدد آي
رواه أحمد والترمذي، وأبو داود، والنسائي.
2155 - (27) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب)).

(14/394)


القرآن على قدر درج الجنة، يقال للقاري إرق في الدرج على قدر ما كنت تقرأ من آي القرآن فمن استوفى قراءة جميع القرآن استولى على أقصى درج الجنة، ومن قرأ جزءا منها كان رقية في الدرج على قدر ذلك، فيكون منتهى الثواب عند منتهى القراءة- انتهى. وقال التوربشتي: الصحبة الملازمة للشي إنسانا كان أو حيوانا، أو مكانا أو زمانا ويكون بالبدن هو الأصل والأكثر، ويكون بالعناية والهمة وصاحب القرآن هو الملازم له بالهمة والعناية، ويكون ذلك تارة بالحفظ والتلاوة، وتارة بالتدبر له. والعمل به. فإن ذهبنا فيه إلى الأول فالمراد من الدرجات بعضها دون بعض والمنزلة التي في الحديث هي ما يناله العبد من الكرامة على حسب منزلته في الحفظ والتلاوة لا غير، وذلك لما عرفنا من أصل الدين إن العامل بكتاب الله المتدبر له أفضل من الحافظ والتالي له إذا لم ينل شأوه في العمل والتدبر، وقد كان في الصحابة من هو أحفظ لكتاب الله من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأكثر تلاوة منه وكان هو أفضلهم على الإطلاق لسبقه عليهم في العلم بالله وبكتابه وتدبره وعمله به. وإن ذهبنا إلى الثاني وهو أحق الوجهين وأتمهما، فالمراد من الدرجات التي يستحقها بالآيات سائرها. وحينئذ يقدر التلاوة في القيامة على مقدار العمل، فلا يستطيع أحد أن يتلو آية إلا وقد أقام ما يجب عليه فيها، واستكمال ذلك إنما يكون للنبي صلى الله عليه وسلم ثم الأمة بعده على مراتبهم ومنازلهم في الدين، كل منهم يقرأ على مقدار ملازمته إياه تدبرا وعملا. وقد ورد في الحديث (رواه ابن مردوية والبيهقي عن عائشة) إن درجات الجنة على عدد آيات القرآن، وفي هذا دليل على صحة ما ذهبنا إليه- انتهى. وقيل: المراد إن الترقي يكون دائما فكما إن قراءته في حال الإختتام استدعت الإفتتاح الذي لا انقطاع له، كذلك هذه القراءة والترقي في المنازل التي لا تتناهى وهذه القراءة لهم كالتسبيح للملائكة لا تشغلهم من

(14/395)


مستلذاتهم بل هي أعظم مستلذاتهم. (رواه أحمد) (ج2ص191) (والترمذي) وصححه (وأبوداود) وسكت عنه ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره (والنسائي) وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه كما في الترغيب والكنز، والحاكم (ج1ص553) وسكت عنه. وقال الذهبي: صحيح. والبيهقي (ج2ص53) وأخرجه أحمد وابن ماجه من حديث أبي سعيد بلفظ: يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة إقرأ واصعد فيقرأ ويصعد بكل آية درجة حتى يقرأ آخر شي معه، هذا لفظ ابن ماجه وقوله معه صريح في أن المراد بصاحب القرآن حافظ دون الملازم للقراءة في المصحف.
2155- قوله: (إن الذي ليس في جوفه) أي قلبه (شي من القرآن كالبيت الخرب) بفتح الخاء المعجمة
رواه الترمذي، والدارمي. وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.
2156 - (28) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الرب تبارك وتعالى من شغله القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين)).

(14/396)


وكسر الراء المهملة أي الخراب، لأن عمارة القلوب بإيمان وقراءة القرآن وزينة الباطن بالاعتقادات الحقة والتفكر في نعماء الله تعالى. وقال الطيبي: أطلق الجوف وأريد به القلب إطلاقا لاسم المحل على الحال، وقد استعمل على حقيقته في قوله تعالى: ?ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه? [الأحزاب: 33] واحتيج لذكره ليتم التشبيه له بالبيت الخرب بجامع إن القرآن إذا كان في الجوف يكون عامرا مزينا بحسب قلة ما فيه وكثرته، وإذا خلى عما لا بد فيه من التصديق والاعتقاد الحق والتفكر في آلاء الله ومحبته وصفاته يكون كالبيت الخرب الخالي عما يعمره من الأثاث والتجمل- انتهى. قال القاري بعد نقل كلام الطيبي هذا ما لفظه: وكأنه عدل عن ظاهر المقابلة المتبادر إلى الفهم، وإذا خلى عن القرآن لعدم ظهور إطلاق الخراب عليه- انتهى. (رواه الترمذي والدارمي) في فضائل القرآن وأخرجه أيضا أحمد (ج1ص232) والحاكم (ج1ص554) كلهم من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس (وقال الترمذي هذا حديث صحيح) وفي نسخ الترمذي الموجودة عندنا حديث حسن صحيح، والحديث صححه الحاكم أيضا، وتعقبه الذهبي. فقال قابوس: لين. قلت: قابوس هذا كان ابن معين شديد الحط عليه على أنه وثقه في رواية، ووثقه أيضا يعقوب بن سفيان. وقال ابن غدي: أرجو أنه لا بأس به وكذا قال العجلي وضعفه النسائي والدارقطني وأبوحاتم. وقال أحمد: ليس بذاك لم يكن من النقد الجيد. وقال ابن سعد: فيه ضعف ولا يحتج به. وقال ابن حبان كان روى الحفظ ينفرد عن أبيه بما لا أصل له فربما رفع المراسيل وأسند الموقوف- انتهى. وقال الحافظ في التقريب: فيه لين، والحديث عزاه في الكنز لابن منيع وابن الضريس والطبراني وابن مردوية والبيهقي وسعيد بن منصور أيضا.

(14/397)


2156- قوله: (من شغله القرآن) هذا لفظ الترمذي، وللدارمي من شغله قراءة القرآن (عن ذكري ومسألتي) وفي رواية الدارمي عن مسألتي وذكرى. قيل: المراد بالذكر والمسألة اللذان ليسا في القرآن كالدعوات بقرينة قوله وفضل كلام الله الخ (أعطيته أفضل ما أعطى) على صيغة المضارع المتكلم المعلوم الواحد أي أفضل ما أعطيته (السائلين) أي والذاكرين فهو من باب الاكتفاء والمراد بالسائلين الطالبون في ضمن الذكر أو الدعاء بلسان القال أو ببيان الحال. وقال في اللمعات: اكتفى بالسؤال لأن الذكر أيضا سؤال تعريضا، يعني من اشتغل بقراءة القرآن ولم يفرغ إلى الذكر والدعاء أعطاه الله مقصوده ومراده أحسن، وأكثر مما يعطي الذين يطلبون من
وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه)) رواه الترمذي، والدارمي، والبيهقي في شعب الإيمان. وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب.

(14/398)


الله حوائجهم يعني لا يظن القاري إنه إذا لم يتطلب من الله حوائجه لا يعطيه، بل يعطيه أكمل الإعطاء فإنه من كان لله كان الله له. قال الشوكاني: في الحديث دليل على أن المشتغل بالقرآن تلاوة وتفكرا يجازيه الله أفضل جزاء ويثيبه بأعظم إثابة (وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه) جملة استئنافية قائمة مقام العلة للجملة السابقة سواء يكون من تتمة كلام الله عزوجل، على أنه حينئذ فيه التفات أو على أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأظهر، لئلا يحتاج إلى ارتكاب الالتفات أو على أنه من كلام بعض الرواة على ما نقل عن البخاري أنه قال، هذا من كلام أبي سعيد الخدري الراوي أدرجه في الحديث، ولم يثبت رفعه لكن فيه نظر، فإن هذه الجملة بإنفرادها ذكرها السيوطي في الجامع الصغير برواية البيهقي وأبي يعلى عن أبي هريرة مرفوعا، ولفظه فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الرحمن على سائر خلقه، كذا قال القاري في شرح الحصن. وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين: (ص262) هذه الكلمة لعلها خارجة مخرج التعليل لما تقدمها من أنه يعطي المشتغل بالقرآن أفضل ما يعطي الله السائلين، ووجه التعليل إنه لما كان كلام الرب سبحانه وتعالى فائقا على كل كلام كان أجر المشتغل به فوق كل أجر، والحديث لولا أن فيه ضعفا لكان دليلا على أن الاشتغال بالتلاوة عن الذكر وعن الدعاء يكون لصاحبه هذا الأجر العظيم- انتهى. قلت: حديث أبي هريرة الذي ذكره السيوطي أخرجه أيضا ابن عدي من رواية شهر بن حوشب عنه مرفوعا. قال الحافظ: وفي إسناده عمر بن سعيد الأشج وهو ضعيف، وأخرجه ابن الضريس (وكذا الدارمي) من وجه آخر عن شهر بن حوشب مرسلا، ورجاله لا بأس بهم، وأخرجه يحيى بن عبدالحميد الحماني في مسنده من حديث عمر بن الخطاب، وفي إسناده صفوان بن أبي الصهباء مختلف فيه، وأخرجه ابن الضريس أيضا من طريق الجراح ابن الضحاك عن علقمة بن مرثد عن أبي عبدالرحمن السلمي

(14/399)


عن عثمان رفعه خيركم من تعلم القرآن وعلمه، ثم قال: وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله تعالى على خلقه. وذلك أنه منه، وحديث عثمان هذا تقدم بدون هذه الزيادة وقد بين العسكري إنها من قول أبي عبدالرحمن السلمي. وقال المصنف يعني البخاري: في خلق أفعال العباد. وقال أبوعبدالرحمن السلمي: فذكره وأشار في خلق أفعال العباد إلى أنه لا يصح مرفوعا، وأخرجه العسكري أيضا عن طاووس والحسن من قولهما- انتهى كلام الحافظ: (رواه الترمذي والدارمي) في فضائل القرآن (والبيهقي في شعب الإيمان) من طريق محمد بن الحسن الهمداني عن عمرو بن قيس عن عطية العوفي عن أبي سعيد (وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب) ذكر الحافظ هذا الحديث في الفتح وعزاه للترمذي، وقال رجاله ثقات إلا عطة العوفي ففيه ضعف-انتهى. قلت: ومحمد بن الحسن الهمداني أيضا ضعيف ولم يخرج له
2157- (29) وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ?الم? حرف، ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) رواه الترمذي، والدارمي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، غريب إسنادا.
من الستة إلا الترمذي وذكر الذهبي في الميزان هذا الحديث في ترجمة محمد بن الحسن هذا. ثم قال: حسنه الترمذي فلم يحسن، ونقل الحافظ كلام الذهبي هذا في تهذيبه وسكت عنه. وقال الصغاني: إنه موضوع كما في الفوائد المجموعة للشوكاني وتذكرة الموضوعات للفتنى، وعندي في الحكم بكونه موضوعا نظر.

(14/400)


2157- قوله: (من قرأ حرفا) المراد بالحرف حرف البناء المعبر عنه بحرف الهجاء (من كتاب الله) أي القرآن (فله به) أي بسبب ذلك الحرف أو بدله (حسنة والحسنة بعشر أمثالها) أي مضاعفة بالعشر وهو أقل التضاعف الموعود بقوله تعالى: ?من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها? [الأنعام: 161] ?والله يضاعف لمن يشاء? [البقرة: 261] والحرف يطلق على حرف الهجاء والمعاني والجملة المفيدة والكلمة المختلف في قراءتها وعلى مطلق الكلمة، ولذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا أقول الم حرف ألف حرف ولام حرف وميم حرف) قال الشوكاني: والحديث فيه التصريح بأن قاري القرآن له بكل حرف منه حسنة، والحسنة بعشر أمثالها. ولما كان الحرف فيه يطلق على الكلمة المتركبة من حرف أوضح النبي - صلى الله عليه وسلم - ، إن المراد هنا الحرف البسيط المنفرد لا الكلمة، وهذا أجر عظيم وثواب كبير ولله الحمد (رواه الترمذي) من طريق أيوب بن موسى عن محمد بن كعب القرظي عن عبدالله بن مسعود (والدارمي) فيه نظر، فإن الدارمي لم يروه مرفوعا، بل رواه موقوفا من طريق عطاء بن السائب عن أبي الأحوص عن عبدالله بن مسعود، قال: تعلموا هذا القرآن فإنكم تؤجرون بتلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول لكم بألم، ولكن بألف ولام وميم بكل حرف عشر حسنات (وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب إسنادا) أي لا متنا، تمييز عن نسبة غريب، وفي نسخ الترمذي حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وقد تقدم معنى الغريب والتنبيه على أنواع الغريب، وارجع إلى شرح الزرقاني على منظومة البيقونية (ص51) وشرح الألفية للسخاوي (ص345) وتدريب الراوي للسيوطي (ص192) قال الترمذي: ويروي هذا الحديث من غير هذا الوجه عن ابن مسعود رواه أبوالأحوص عن عبدالله بن مسعود، ورفعه بعضهم ووقفه بعضهم- انتهى. قلت: وقفه عطاء بن السائب عن أبي الأحوص كما تقدم، ورفعه صالح بن عمر عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عند الحاكم

(14/401)


(ج1ص555) والطبراني. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بصالح
2158- (30) وعن الحارث الأعور، قال: مررت في المسجد، فإذا الناس يخوضون في الأحاديث فدخلت على علي رضي الله عنه فأخبرته، فقال: أو قد فعلوها؟ قلت: نعم. قال: ((أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ألا إنها ستكون فتنة. قلت: ما المخرج منها يا رسول الله! قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخير ما بعدكم، وحكم ما بينكم،
ابن عمر وتعقبه الذهبي، فقال صالح ثقة خرج له مسلم، لكن إبراهيم بن مسلم ضعيف- انتهى. قلت: وخالف الدارمي صالح بن عمر فرواه عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن ابن مسعود موقوفا.

(14/402)


2158- قوله: (وعن الحارث الأعور) تابعي من أصحاب علي رضي الله عنه وقد سبق ترجمته (مررت في المسجد) وفي الدارمي، دخلت المسجد. قال الطيبي: في المسجد ظرف، والممرور به محذوف، يدل عليه قوله (فإذا الناس يخوضون في الأحاديث) أي أحاديث الناس وأباطيلهم من الأخبار والحكايات والقصص ويتركون تلاوة القرآن وما يقتضيه من الأذكار. والآثار والخوض أصله الشروع في الماء والمرور فيه، ويستعار للشروع في الأمور، وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه نحو قوله تعالى: ?ثم ذرهم في خوضهم يلعبون? [الأنعام: 91] (فأخبرته) أي الخبر كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا في جامع الأصول (ج9ص252) والذي في جامع الترمذي "فقلت يا أمير المؤمنين! ألا ترى الناس قد خاضوا في الأحاديث" وللدارمي "فقلت ألا ترى إن أناسا يخوضون في الأحاديث في المسجد" (أو قد فعلوها) قال الطيبي: أي ارتكبوا هذه الشنيعة وخاضوا في الأباطيل، فإن الهمزة والواو العاطفة يستدعيان فعلا منكرا معطوفا عليه، أي فعلوا هذه الفعلة الشنيعة وقال القاري: أي أتركوا القرآن وقد فعلوها أي وخاضوا في الأحاديث (أما) للتنبيه (ألا) للتنبيه أيضا (إنها) الضمير للقصة (ستكون فتنة) أي عظيمة، وفي الدارمي ستكون فتن. قال ابن الملك: يريد بالفتنة ما وقع بين الصحابة، أو خروج التتار أو الدجال أو دابة الأرض- انتهى. قال القاري: وغير الأول لا يناسب المقام كما لا يخفى (قلت ما المخرج منها) بفتح الميم اسم ظرف، أو مصدر ميمي، أي ما طريق الخروج والخلاص من تلك الفتنة يا رسول الله! قال الطيبي: أي موضع الخروج أو السبب الذي يتوصل به إلى الخروج عن الفتنة (قال كتاب الله) أي طريق الخروج منها تمسك كتاب الله على تقدير مضاف (فيه نبأ ما قبلكم) أي من أحوال الأمم الماضية (وخبر ما بعدكم) وهي الأمور الآتية من أشراط الساعة وأحوال القيامة وفي العبارة تفنن (وحكم ما بينكم) بضم الحاء وسكون الكاف أي

(14/403)


ما يقع بينكم من الوقائع والحوادث. قال القاري: أي حاكم ما وقع
هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به اللسنة،
أو يقع بينكم من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان والحلال والحرام وسائر شرائع الإسلام ومباني الأحكام (هو الفصل) كذا وقع في الدارمي، وهكذا في جامع الأصول، وعند الترمذي وهو الفصل أي الفاصل بين الحق والباطل أو المفصول والمميز فيه الخطأ والصواب، وما يترتب عليه الثواب والعذاب وصف بالمصدر مبالغة (ليس بالهزل) أي جد كله وحق جميعه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والهزل في الأصل القول المعرى عن المعنى المرضي، واشتقاقه من الهزال ضد السمن، والحديث مقتبس من قوله تعالى: ?إنه لقول فصل وما هو بالهزل ? [الطارق: 13- 14] (من تركه) أي القرآن إيمانا وعملا (من جبار) أي متكبر بين التارك بمن جبار ليدل على أن الحامل له على الترك إنما هو التجبر والحماقة. قال الطيبي: من ترك العمل بآية أو بكلمة من القرآن مما يجب العمل به أو ترك قراءتها من التكبر كفر، ومن ترك عجزا أو كسلا أو ضعفا مع اعتقاد تعظيمه فلا إثم عليه، أي بترك القراءة، ولكنه محروم ذكره القاري (قصمه) أي أهلكه أو كسر عنقه وأصل القصم الكسر والإبانة (ومن ابتغى الهدى) أي طلب الهداية من الضلالة (في غيره) من الكتب والعلوم التي غير مأخوذة منه ولا موافقة معه (أضله الله) أي عن طريق الهدى وأوقعه في سبيل الردى (وهو) أي القرآن (حبل الله المتين) أي المحكم القوي، والحبل مستعار للوصل، ولكل ما يتوصل به إلى شي أي الوسيلة القوية إلى معرفة ربه وسعادة قربه (وهو الذكر) أي ما يذكر به الحق تعالى أو ما يتذكر به الخلق أي يتعظ (الحكيم) أي ذو الحكمة (هو الذي لا تزيغ) بالتأنيث والتذكير أي لا تميل عن الحق (به) أي

(14/404)


بإتباعه (الأهواء) أي الهواء إذا وافق هذا الهدى حفظ من الردى. وقيل: معناه لا يصير به مبتدعا وضالا، يعني لا يميل بسببه أهل الأهواء والآراء، وإنما زاغ من اتبع المتشابهات وترك المحكمات والأحاديث النبوية التي هي مبينة للمقاصد القرآنية. وقال الطيبي: أي لا يقدر أهل الأهواء على تبديله وتغييره وإمالته، وذلك إشارة إلى وقوع تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فالباء للتعدية. وقيل: الرواية من الإزاغة بمعنى الإمالة، والباء لتأكيد التعدية أي لا يميله الأهواء المضلة عن نهج الإستقامة إلى الأعوجاج وعدم الإقامة كفعل اليهود بالتوراة حين حرفوا الكلم عن مواضعه، لأنه تعالى تكفل بحفظه قال تعالى: ?إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون? [الحجر: 9] (ولا تلتبس به الألسنة) أي لا تتعسر عليه ألسنة المؤمنين ولو كانوا من غير العرب قال تعالى: ?فإنما يسرناه بلسانك? [الدخان: 58] ?ولقد يسرنا القرآن للذكر? [القمر:17] وقيل: لا يختلط به غير
ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا ينقضي عجائبه. هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: ?إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به? من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم)). رواه الترمذي، والدارمي.

(14/405)


بحيث يشتبه الأمر ويلتبس الحق بالباطل فإن الله تعالى يحفظه أو يشتبه كلام الرب بكلام غيره لكونه كلاما معصوما دالا على الإعجاز (ولا يشبع منه العلماء) أي لا يصلون إلى الإحاطة بكنهه حتى يقفوا عن طلبه وقوف من يشبع من مطعوم، بل كلما اطلعوا على شي من حقائقه اشتاقوا إلى آخر، أكثر من الأول، وهكذا فلا شبع ولا سآمة (ولا يخلق) بفتح الياء وضم اللام، وبضم الياء وكسر اللام من خلق الثوب إذا بلى وكذلك أخلق (عن كثرة الرد) أي لا تزول لذة قراءته وطراوة تلاوته واستماع أذكاره وأخباره من كثرة تكراره وترداده. قال القاري: و"عن" على بابها أي لا يصدر الخلق من كثرة تكراره كما هو شأن كلام غيره تعالى، وهذا أولى مما قاله ابن حجر من أن "عن" بمعنى "مع"- انتهى. قلت: قد وقع في بعض نسخ الترمذي "على" مكان "عن" وهو يؤيد ما قاله ابن حجر: (ولا ينقضي) بالتأنيث والتذكير (عجائبه) أي لا تنتهي لطائفة ودقائقه وغرائبه التي يتعجب منها. قيل: كالعطف التفسيري للقرينتين السابقتين ذكره الطيبي (هو الذي لم تنته الجن) أي لم يقفوا ولم يلبثوا (إذ سمعته) أي القرآن (حتى قالوا) أي لم يتوقفوا ولم يمكثوا وقت سماعهم له عنه بل اقبلوا عليه لما بهرهم من شأنه فبادروا إلى الإيمان على سبيل البداهة لحصول العلم الضروري وبالغوا في مدحه حتى قالوا (إنا سمعنا قرآنا عجبا) أي شأنه من حيثية جزالة المبني وغزارة المعنى (يهدي إلى الرشد) أي يدل على الصواب أو يهدي الله به الناس إلى طريق الحق (فآمنا به) أي بأنه من عند الله ويلزم منه الإيمان برسول الله (من قال به) أي من أخبر به (صدق) أي في خبره أو من قال قولا ملتبسا به بأن يكون على قواعده ووفق قوانينه وضوابطه صدق (ومن عمل به) أي بما دل عليه (أجر) بضم الهمزة أي أثيب في عمله أجرا عظيما وثوابا جسيما، لأنه لا يحث إلا على مكارم الأخلاق والأعمال ومحاسن الآداب (ومن حكم به) أي بين الناس (عدل) أي في حكمه

(14/406)


لأنه لا يكون إلا بالحق (ومن دعا إليه) أي من دعا الخلق إلى الإيمان به والعمل بموجبه (هدى إلى صراط مستقيم) روى مجهولا أي من دعا الناس إلى القرآن وفق للهداية، وروى معروفا كأن المعنى من دعا الناس إليه هداهم (رواه الترمذي والدارمي) من طريق حمزة الزيات عن أبي المختار الطائي عن ابن أخي الحارث عن الحارث عن علي وأبوالمختار الطائي وابن أخي الحارث كلاهما
وقال الترمذي: هذا حديث إسناده مجهول، وفي الحارث مقال.
2159- (31) وعن معاذ الجهني: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ القرآن وعمل بما فيه، ألبس والداه تاجا يوم القيامة، ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم فما ظنكم بالذي عمل بهذا)) رواه أحمد وأبوداود.
مجهول، ورواه الدارمي أيضا من طريق عمرو بن مرة عن أبي البختري عن الحارث (وقال الترمذي هذا حديث إسناده مجهول) الذي في الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حمزة الزيات، وإسناده مجهول أي لجهالة أبي المختار الطائي وابن أخي الحارث (وفي الحارث) أي الراوي للحديث عن علي (مقال) أي مطعن والذي في الترمذي وفي حديث الحارث مقال- انتهى. وقال الصنعاني: هذا حديث موضوع كما في الفوائد المجموعة والتذكرة، وعندي في الحكم بكونه موضوعا نظر فإن ما ذكروه من الكلام في هذا الحديث وفي الحارث الأعور لا يقتضي أن يكون الحديث موضوعا وله شاهد ضعيف من حديث معاذ بن جبل عند الطبراني ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج7ص164) وقال وفيه عمرو بن واقد وهو متروك.

(14/407)


2159- قوله: (وعن معاذ) بضم الميم ابن أنس (الجهني) بضم الجيم وفتح الهاء (من قرأ القرآن) أي فأحكمه كما في رواية أي فاتقنه قاله القاري. وقال ابن حجر: أي حفظه عن ظهر قلب، وفي رواية أحمد من قرأ القرآن فأكمله (ضوءه أحسن) اختاره على أنور وأشرق إعلاما بأن تشبيه التاج مع ما فيه من نفائس الجواهر بالشمس ليس بمجرد الإشراق والضوء بل مع رعاية من الزينة والحسن (من ضوء الشمس) حال كونها (في بيوت الدنيا) فيه تتميم صيانة من الإحراق وكلال النظر بسبب أشعتها كما أن قوله (لو كانت) أي الشمس على الفرض والتقدير (فيكم) أي في بيوتكم تتميم للمبالغة فإن الشمس مع ضوئها وحسنها لو كانت داخلة في بيوتنا كانت آنس وأتم مما لو كانت خارجة عنها. وقال الطيبي: أي في داخل بيوتكم. وقال ابن الملك: أي في بيت أحدكم. وعند أحمد في بيت من بيوت الدنيا لو كانت فيه (فما ظنكم) أي إذا كان هذا جزاء والديه لكونهما سببا لوجوده (بالذي عمل بهذا) وفي رواية أحمد والحاكم عمل به. قال الطيبي: استقصار للظن عن كنه معرفة ما يعطي للقاري العامل به من الكرامة والملك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كما أفادته "ما الاستفهامية المؤكدة لمعنى تحير الظان" (رواه أحمد) (ج3ص440) (وأبوداود) والحاكم (ج1ص567) كلهم من طريق زبان بن فائد عن سهل بن معاذ عن أبيه. وقد سكت عنه أبوداود. وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد
2160- (32) وعن عقبة بن عامر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لو جعل القرآن في إهاب ثم ألقى في النار ما احترق)). رواه الدارمي.
وتعقبه الذهبي فقال قلت زبان ليس بالقوي. وقال المنذري: سهل بن معاذ ضعيف، ورواه عنه زبان ابن فائد وهو ضعيف أيضا- انتهى.

(14/408)


2160 – قوله: (لو جعل القرآن في إهاب) أي جلد لم يدبغ، وقيل المراد به مطلق الجلد، إما على التجريد أو على أنه يطلق عليه وعلى ما لم يدبغ كما في القاموس (ثم ألقى في النار) قال الطيبي: "ثم" ليست لتراخي الزمان بل لتراخي الرتبة بين الجعل في الإهاب والإلقاء في النار، وإنهما أمران متنافيان لرتبة القرآن وإن الثاني أعظم من الأول. قال القاري: والأظهر أنها بمعنى الفاء (ما احترق) أي الإهاب ببركة القرآن. قيل: كان هذا في عصر - صلى الله عليه وسلم - لو ألقى المصحف في عهده في النار، لا تحركه النار وهذا كان معجزة له كسائر معجزاته. وقيل: معناه من كان القرآن في قبله لا تحرقه نار هكذا حكى عن أحمد بن حنبل وأبي عبيد. وقيل: هذا على سبيل الفرض. والتقدير مبالغة في بيان شرف القرآن وعظمته أي من شأنه ذلك على وتيرة قوله تعالى: ?لو أنزلنا هذا القرآن على جبل? الآية [الحشر: 21] وقال التوربشتي: المعنى لو قدر أن يكون القرآن في إهاب ما مست النار ذلك الإهاب ببركة مجاورته للقرآن، فكيف بالمؤمن الذي تولى حفظه وقطع في تلاوته ليله ونهاره. والإهاب الجلد الذي لم يدبغ، وإنما ضرب المثل به والله أعلم، لأن الفساد إليه أسرع ولفح النار فيه أنفذ ليبسه وجفافه بخلاف المدبوغ للينة، وقد رأينا في الشاهد أن الجلد الذي لم يدبغ يفسده وهج الشمس بأدنى ساعة وتخرجه عن طبعه، ورأينا المدبوغ يقوى على ذلك للينة. والمراد بالنار المذكورة في الحديث نار الله الموقدة المميزة بين الحق والباطل التي لا تطعم إلا الجنس الذي بعد عن رحمة الله، دون النار التي تشاهد، فهي وإن كانت محرقة بأمر الله أو تقديره أيضا فإنها مسلطة على الذرات القابلة للحرق لا ينفك عنه إلا في الأمر النادر الذي ينزع الله عنها الحرارة، كما كان من أمر خليل الرحمن صلوات الله عليه وسلامه والله أعلم- انتهى كلام التوربشتي. (رواه الدرامي) وأخرجه أيضا أحمد (ج4ص151- 155) وأبويعلى والطبراني

(14/409)


من طريق ابن لهيعة عن مشرع بن هاعان عن عقبة بن عامر وعزاه في الكنز (ج1ص477) للبيهقي في الشعب، وابن الضريس والحكيم الترمذي أيضا، وله شواهد من حديث عصمة بن مالك عند الطبراني، وفيه الفضل بن المختار وهو ضعيف ومن حديث سهل بن سعد عند الطبراني أيضا، وفيه عبدالوهاب بن الضحاك وهو متروك ومن حديث أبي هريرة عند ابن حبان كما في الكنز (ج1ص461).
2161- (33) وعن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ القرآن فاستظهره فأحل حلاله. وحرم حرامه. أدخله الله الجنة. وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت له النار)). رواه أحمد. والترمذي، وابن ماجه، والدارمي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وحفص بن سليمان الراوي

(14/410)


2161- قوله: (من قرأ القرآن فاستظهره) أي حفظه تقول قرأت القرآن عن ظهر قلبي أي قرأته من حفظي قاله الجزري. وقال في المفاتيح: استظهر إذا حفظ القرآن واستظهر إذا طلب المظاهرة، وهي المعاونة، واستظهر إذا احتاط في الأمر وبالغ في حفظه وإصلاحه، وهذه المعاني الثلثة جائزة في هذا الحديث، يعني من حفظ القرآن وطلب القوة والمعاونة في الدين واحتاط في حفظ حرمته واتباع أوامره ونواهيه والله اعلم- انتهى. واللفظ المذكور لأحمد والترمذي، وفي رواية لأحمد من تعلم القرآن فاستظهره وحفظه، ولابن ماجه من قرأ القرآن وحفظه. قال السندي: من قرأ القرآن أي غيبا ولو بالنظر وقوله "حفظه" أي بمراعاة بالعمل به والقيام بموجبه، أو المراد بالحفظ قراءته غيبا ولا يتركه، ويحتمل أن من داوم على قراءته حتى حفظه، وعلى الوجهين ينبغي أن يعتبر مع ذلك العمل به أيضا إذ غير العامل يعد جاهلا، ورواية الترمذي صريحة في اعتبار أنه يقرأ بالغيب وإتيانه به-انتهى. (فأحل حلاله وحرم حرامه) أي اعتقد حلاله حلالا وحرامه حراما، وليست هذه الكلمة عند أحمد وابن ماجه (أدخله الله الجنة) أي ابتداء وإلا فكل مؤمن يدخلها (وشفعه) بتشديد الفاء أي قبل شفاعته (كلهم) أي كل العشرة (قد وجبت له النار) أي بالذنوب لا بالكفر نعوذ بالله منه وأفراد الضمير للفظ الكل. قال الطيبي: فيه رد على من زعم أن الشفاعة إنما تكون في رفع المنزلة دون خط الوزر بناء على ما افتروه إن مرتكب الكبيرة يجب خلوده في النار، ولا يمكن العفو عنه والوجوب هنا على سبيل المواعدة (رواه أحمد) (ج1ص148- 149) (والترمذي) في فضائل القرآن (وابن ماجه) في السنة كلهم من طريق حفص بن سليمان عن كثير بن زاذان عن عاصم بن ضمرة عن علي (والدارمي) كذا في جميع النسخ المطبوعة بالهند، وكذا وقع في النسخة التي على هامش المرقاة، ولم يقع في النسخ التي اعتمد عليها القاري في شرحه إلا في نسخة واحدة حيث قال بعد ذكر قول

(14/411)


المصنف "رواه أحمد والترمذي وابن ماجه" ما لفظه، وفي نسخة صحيحة والدارمي- انتهى. والظاهر إن ما وقع في تلك النسخة وفي النسخ المطبوعة من زيادة "والدارمي" خطأ من الناسخ فإني لم أجد هذا الحديث في مسند الدارمي (وقال الترمذي: هذا حديث غريب) وبعده لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس له إسناد صحيح (وحفص بن سليمان الراوي) بإسكان الياء
ليس هو بالقوي، يضعف في الحديث.
2162 - (34) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب: ((كيف تقرأ في الصلاة؟ فقرأ أم القرآن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، وإنها سبع من المثاني

(14/412)


(ليس هو بالقوي) ليست هذه الجملة في نسخ الترمذي الموجودة عندنا (يضعف) بالتشديد أي ينسب إلى الضعف (في الحديث) أي في رواية الحديث. قلت: حفص بن سليمان هذا هو حفص بن أبي داود الأسدي أبوعمر البزار الكوفي الغاضرى القاري صاحب عاصم بن أبي النجود وصاحب قرأة حفص المعروفة التي يقرأ لها الناس بمصر والهند. قال الحافظ في التقريب: متروك الحديث مع إمامته في القراءة- انتهى. وقال البخاري في الضعفاء تركوه، وقال مسلم وأحمد والنسائي وأبوحاتم: متروك الحديث. وقال ابن المديني وأبوزرعة وأبوحاتم: أيضا ضعيف الحديث. وقال ابن خراش: كذاب متروك. وقال أبوأحمد الحاكم: ذاهب الحديث. وقال يحيى بن سعيد عن شعبة: أخذ مني حفص بن سليمان كتابا فلم يروه وكان يأخذ كتب الناس فينسخها يعني أنه ينسخ كتبا لم يسمعها فيحدث بها كأنها من سماعه، ولذلك قال ابن معين: كان حفص وأبوبكر يعني ابن عياش من أعلم الناس بقراءة عاصم، وكان حفص أقرأ من أبي بكر وكان كذابا، وكان أبوبكر صدوقا- انتهى. وفي سنده أيضا كثير بن زاذان وهو مجهول. قال ابن معين: لا نعرفه، وقال أبوزرعة وأبوحاتم: شيخ مجهول. فالحديث ضعيف جدا لضعف حفص القاري وجهالة كثير بن زاذان، وله شاهد ضعيف من حديث جابر رواه الطبراني في الأوسط ذكره الهيثمي (ج7ص162) وقال فيه جعفر بن الحارث وهو ضعيف.

(14/413)


2162- قوله: (كيف تقرأ في الصلاة فقرأ أم القرآن) يعني الفاتحة وسميت بها لاحتوائها واشتمالها على ما في القرآن إجمالا أو المراد بالأم الأصل فهي أصل قواعد القرآن ويدور عليها أحكام الإيمان. قال الطيبي: فإن قلت كيف طابق هذا جوابا عن السؤال بقوله " كيف تقرأ" لأنه سؤال عن حالة القراءة لأنفسها. قلت: يحتمل أن يقدر فقرأ القرآن مرتلا ومجودا أو يحتمل أنه عليه الصلاة والسلام سأل عن حال ما يقرأه في الصلاة، أهي سورة جامعه حاوية لمعاني القرآن أم لا؟ فلذلك جاء بأم القرآن وخصها بالذكر أي هي جامعه لمعاني القرآن وأصل لها كذا في المرقاة. قلت: ويؤيد الاحتمال الثاني صدر الحديث الذي حذفه المصنف (ولا في الفرقان) أي في بقية القرآن (مثلها) بالرفع أي سورة مثلها (وإنها سبع) أي سبع آيات (من المثاني) أي هي المثاني
والقرآن العظيم الذي أعطيته)). رواه الترمذي، وروى الدارمي من قوله: ما أنزلت ولم يذكر أبي بن كعب. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
2163- (35) وعنه، قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعلموا القرآن

(14/414)


"فمن" بيانية ويحتمل أن تكون تبعيضية (والقرآن العظيم) قيل: هو من إطلاق الكل على الجزء للمبالغة (الذي أعطيته) أي ولم يعطه نبي غيري (رواه الترمذي) أي من أوله إلى آخره في فضائل القرآن من طريق العلاء ابن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أبي بن كعب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا أبي! وهو يصلي فالتفت أبي فلم يجبه وصلى أبي فخفف. ثم انصرف إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فقال السلام عليك يا رسول الله! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليك السلام، ما منعك يا أبي أن تجيبني إذ دعوتك فقال يا رسول الله! إني كنت في الصلاة قال، أفلم تجد فيما أوحى الله إلى أن ?استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحيكم? [الأنفال: 24] قال بلى، ولا أعود إن شاء الله قال أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها، قال نعم يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تقرأ في الصلاة إلخ. قال الحافظ في الفتح: قد اختلف فيه على العلاء أخرجه الترمذي من طريق الدراوردي، والنسائي من طريق روح بن القاسم، وأحمد من طريق عبدالرحمن بن إبراهيم، وابن خزيمة من طريق حفص بن ميسرة كلهم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب فذكر- الحديث. وأخرجه الترمذي يعني في سورة الحجر وابن خزيمة والحاكم (ج1ص557) من طريق عبدالحميد ابن جعفر عن العلاء مثله لكن قال عن أبي هريرة عن أبي بن كعب رضي الله عنه، وأخرجه الحاكم (ج1ص558) من طريق شعبة عن العلاء نحوه لكن قال عن أبيه عن أبي بن كعب، ورجح الترمذي كونه من مسند أبي هريرة. وقد أخرجه الحاكم أيضا (ج1ص558) من طريق الأعرج عن أبي هريرة إن النبي- صلى الله عليه وسلم - نادى أبي بن كعب، وهو مما يقوي ما رجحه الترمذي- انتهى كلام الحافظ بتغيير يسير.

(14/415)


(وروى الدارمي) أي من طريق الدراوردي عن العلاء (ولم يذكر أبي بن كعب) أي قصته الكائنة في صدر الحديث.
2163- قوله: (تعلموا القرآن) أي لفظه ومعناه قال أبومحمد الجويني: تعلم القرآن وتعليمه فرض كفاية لئلا ينقطع عدد التواتر فيه فلا يتطرق إليه تبديل وتحريف. قال الزركشي: وإذا لم يكن في البلد أو القرية من يتلو القرآن أثموا بأسرهم. قال ابن حجر: وفيه وقفة إذا المخاطب به جميع الأمة، فحيث كان فيهم عدد التواتر ممن يحفظ فلا إثم على أحد، نعم يتعين في عدد التوتر المذكور أن يكونوا متفرقين في بلاد الإسلام بحيث لو أراد
فاقرأوه، فإن مثل القرآن لمن تعلم فقرأ وقام به كمثل جراب محشو مسكا، تفوح ريحه كل مكان، ومثل من تعلمه فرقد وهو في جوفه كمثل جراب، أوكي على مسك)).

(14/416)


أحد أن يغير أو يحرف شيئا منعوه- انتهى. وظاهر كلام الزركشي إن كل بلد لا بد فيه أن يكون ممن يتلو القرآن في الجملة، لأن تعلم بعض القرآن فرض عين على الكل، فإذا لم يوجد هناك أحد يقرأ أثموا جميعا كذا في المرقاة (فاقرأوه) أي بعد التعلم لو عقيبة، وفي الترمذي واقرأوه أي بالواو، وكذا وقع في بعض نسخ المشكاة، وهكذا نقله المنذري في الترغيب، والجزري في جامع الأصول، والحصن وعلى المتقى في الكنز. قال الطيبي: الفاء في قوله "فاقرؤه" كما في قوله تعالى: ?وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه? [هود: 30] أي تعلموا القرآن وداوموا على تلاوته، والعمل بمقتضاه يدل عليه التعليل بقوله (فإن مثل القرآن لمن تعلم فقرأ) وفي الترمذي تعلمه فقرأه، وهكذا نقله في الترغيب والحصن (وقام به) أي داوم على قراءته وعمل به (كمثل جراب) بكسر الجيم وعاء معروف، وفي الصحاح والعامة تفتحها، وفي القاموس ولا يفتح أو هي لغية، وفي القسط من باب اللطف قول من قال لا تكسر القصعة ولا تفتح الجراب، وخص الجراب هنا بالذكر احتراما لأنه من أوعية المسك. قال الطيبي: التقدير فإن ضرب المثل لأجل من تعلمه كضرب المثل للجراب، فمثل مبتدأ والمضاف محذوف، واللام "في لمن تعلم" متعلق بمحذوف، والخبر قوله "كمثل" على تقدير المضاف أيضا، والتشبيه إما مفرد وإما مركب (محشو) بتشديد الواو كمدعو أي مملو (مسكا) نصبه على التمييز (تفوح) وفي الترمذي يفوح بالتذكير، وكذا في الترغيب والكنز والحصن (ريحه) أي تظهر وتصل رائحته من فاح المسك يفوح فوحا انتشرت رائحته ولا يقال في الكريهة أو عام (كل مكان) وفي الترمذي، في كل مكان. قال ابن الملك: يعني صدر القاري كجراب، والقرآن فيه كالمسك فإنه إذا قرأ وصلت بركته إلى تاليه وسامعيه. قال القاري: ولعل إطلاق المكان للمبالغة، ونظيره قوله تعالى: ?تدمر كل شيء? [الأحقاف: 25] ?وأوتينا من كل شيء? [النمل: 16] مع أن التدمير والإيتاء خاص (ومثل من

(14/417)


تعلمه) بالرفع والنصب (فرقد) وفي الترمذي، فيرقد بصيغة المضارع، وهكذا في الترغيب والكنز والحصن وجامع الأصول أي ينام ويغفل عنه، ولا يشتغل به على الوجه المذكور لأنه من كان كذلك كأنه نائم، وذلك بقرينة مقابلته بقوله "فقرأ" وقام به. وقيل: رقد أي نام عن القيام بالقرآن في الليل وقام به أي في الليل (وهو) أي القرآن (في جوفه) أي في قلبه وهي جملة حالية (أوكي) بصيغة المجهول من أوكيت السقاء إذا ربطت فمه بالوكاء، والوكاء بالكسر الخيط الذي يشد به الأوعية (على مسك) المعنى أنه ملأه مسكا وربط فمه على المسك أي لأجله يعني القرآن في صدره كالمسك في الجراب، فإن قرأ تصل البركة إلى بيته وإلى السامعين ويحصل منه استراحة
رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
2164 - (36) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ ?حم المؤمن? ?إلى إليه المصير? وآية الكرسي حين يصبح بهما حتى يمسي، ومن قرأ بهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح)) رواه الترمذي، والدارمي. وقال الترمذي: هذا حديث غريب.

(14/418)


وثواب إلى حيث يصل إليه صوته، فهو كجراب مملو من مسك إذا فتح رأسه تصل رائحته المسك إلى كل مكان حوله. ومن تعلم القرآن ولم يقرأه لم تصل بركته منه لا إلى نفسه ولا إلى غيره فيكون كجراب مشدود رأسه، وفيه مسك فلا تصل رائحته إلى أحد (رواه الترمذي) في فضائل القرآن (والنسائي) في الكبرى (وابن ماجه) في السنة وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه كلهم من طريق عطاء مولى أبي أحمد عن أبي هريرة، والحديث رواه الترمذي مطولا بذكر السبب وحسنه، وابن ماجه مختصرا.وصدر الحديث عند الترمذي. قال أبوهريرة: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وهم ذوو عدد فاستقرأهم فاستقرأ كل رجل منهم، يعني ما معه من القرآن فأتى على رجل من أحدثهم سنا، فقال ما معك يا فلان: فقال معي كذا وكذا وسورة البقرة، فقال أمعك سورة البقرة؟ قال نعم! قال إذهب فأنت أميرهم، فقال رجل من أشرافهم والله ما منعني أن أتعلم البقرة إلا خشية أن لا أقوم بها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعلموا القرآن- الحديث.

(14/419)


2164- قوله: (من قرأ حم المؤمن) بفتح الميم وكسرها وجر المؤمن ونصبه قاله القاري. وفي رواية الدارمي فاتحه حم المؤمن أي من قرأ سورة حم التي يقال لها المؤمن (إلى إليه المصير) يعني ?حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير? (وآية الكرسي) الواو لمطلق الجمع فيجوز تقديمها وتأخيرها، ويدل على ذلك تقديم آية الكرسي في رواية الدارمي وابن السني (حين يصبح) أي قبل صلاة الصبح أو بعدها وهو ظرف قرأ (حفظ بهما) أي بقراءتهما وبركتهما (حتى يمسي) أي يدخل الليل لأن الإمساء ضد الإصباح كما أن المساء ضد الصباح على ما في القاموس والصحاح، وفي رواية ابن السيني عصم ذلك اليوم من كل سوء، وللدارمي لم ير شيئا يكرهه حتى يمسي (رواه الترمذي والدارمي) وأخرجه أيضا أحمد وابن حبان كما في الحصن وابن السني (ص220) (وقال الترمذي هذا حديث غريب) تفرد به عبدالرحمن بن أبي بكر بن عبيدالله بن أبي مليكه المدني عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة وعبدالرحمن هذا ضعيف. قال البخاري وأحمد: منكر الحديث. وقال الترمذي: قد تكلم بعض أهل العلم في عبدالرحمن بن أبي بكر بن أبي مليكة المليكي من قبل حفظه.
2165- (37) وعن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، ولا تقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها

(14/420)


2165- قوله: (إن الله كتب كتابا) أي أجرى القلم على اللوح وأثبت فيه مقادير الخلائق على وفق ما تعلقت به الإرادة (قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام) كنى به عن طول المدة وتمادى ما بين التقدير والخلق من الزمن، فلا ينافي عدم تحقق الأعوام قبل السماء، والمراد مجرد الكثرة، فلا ينافي ما روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر مرفوعا كتب الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، إذ المراد طول الأمد بين التقدير والخلق. وقيل وجه الجمع بين الحديثين إنه من الجنائز أن لا يكون كتابة الكوائن في اللوح المحفوظ دفعة واحدة، بل ثبتها الله فيه شيئا فشيئا فيكون كتابة هذا الكتاب في اللوح قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام والمقادير الأخر بخمسين ألف عام. قال الطيبي: كتابة مقادير الخلائق قبل خلقها بخمسين ألف سنة لا تنافي كتابة الكتاب المذكور بألفي عام لجواز اختلاف أوقات الكتابة في اللوح، ولجواز أن لا يراد به التحديد بل مجرد السبق الدال على الشرف- انتهى. وقيل يجوز أن يكون المقادير كلها مكتوبا قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام ويكون الكتاب المذكور أيضا مثبتا فيه إذ ذاك. ثم أمر الله تعالى ملائكته بأفراد كتابة هذا الكتاب على حدة في الزمان الذي بعده قبل خلق السماوات والأرض بألفي عام تشريفا وتكريما، كما ينتخب ويفرد من الكتاب الكبير بعض أبوابه وفوائده وأنزل من هذا المفرد المنتخب الآيتين المذكورتين مختوما بهما سورة البقرة. وقيل الكتابة بمعنى إظهار الكتابة والمراد إنه أظهر كتابة هذا الكتاب على طائفة من الملائكة. قبل خلق السماوات والأرض بألفي عام. قال الطيبي: لعل الخلاصة أن الكوائن كتبت في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات بخمسين ألف عام، ومن جملتها كتابة القرآن ثم خلق الله خلقا من الملائكة وغيرهم فاظهر كتابة القرآن عليهم قبل أن يخلق السماوات والأرض بألف عام. وخص من ذلك هاتان الآيتان

(14/421)


وأنزلهما مختوما بهما أولى الزهراوين (أنزل) أي الله تعالى (منه) أي من جملة ما في ذلك الكتاب المذكور (آيتين) هما آمن الرسول إلى آخره (ختم بهما سورة البقرة) أي جعلهما خاتمتها (ولا تقرآن في دار) أي في مكان من بيت وغيره (ثلاث ليال) أي في كل ليلة منها (فيقربها) بفتح الموحدة على أنه منصوب في جواب النفي. وقيل: بالرفع والراء مفتوحة لأن قرب المتعدي بالكسر، ومضارعه بالفتح بخلاف قرب اللازم، فإنه يضم فيهما. ففي القاموس قرب ككرم دني وقربه كسمع- انتهى. ومنه قوله تعالى: ?ولا تقربوا الزنى? [الإسراء: 32] ?ولا تقربوا مال اليتيم? [الأنفال:
الشيطان)) رواه الترمذي، والدارمي. وقال الترمذي: هذا حديث غريب.
2166 - (38) وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف عصم من فتنة الدجال)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
2167- (39) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لكل شي قلبا، وقلب القرآن (يس) ومن قرأ (يس) كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات)) رواه الترمذي، والدرامي.

(14/422)


153] ونحوهما (الشيطان) هذا لفظ الدارمي، وللترمذي شيطان أي فضلا عن أن يدخلها فعبر بنفي القرب ليفيد نفي الدخول بالأولى. قال الطيبي: أي توجد قراءة يعقبها قربان، يعني أن الفاء للتعقيب عطفا على المنفي، والنفي سلط على المجموع. وقيل: يحتمل أن تكون للجمعية أي لا تجتمع القراءة وقرب الشيطان (رواه الترمذي والدارمي) وأخرجه أيضا النسائي في اليوم والليلة، وابن حبان في صحيحه والحاكم (ج1ص562) إلا أن عنده ولا بقرآن في بيت فيقربه شيطان ثلاث ليال وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي (وقال الترمذي هذا حديث غريب) كذا في النسخ الحاضرة من المشكاة، وهكذا وقع في النسخ الحاضرة من جامع الترمذي، لكن قال المنذري في الترغيب والشوكاني في تحفة الذاكرين بعد ذكر هذا الحديث: رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب.
2166- قوله: (من قرأ ثلث آيات من أول الكهف عصم من فتنة الدجال) تقدم الكلام عليه (رواه الترمذي) في فضائل القرآن (وقال هذا حديث حسن صحيح) أصل الحديث عند مسلم كما سبق.

(14/423)


2167- قوله: (وقلب القرآن يس) أي لبه وخالصه سورة يس. قال الطيبي: لاحتوائها مع قصرها على البراهين الساطعة والآيات القاطعة والعلوم المكنونة والمعاني الدقيقة والمواعيد الفائقة والزواجر البالغة. وقال الغزالي: إن الإيمان صحته بالاعتراف بالحشر والنشر وهو مقرر فيها بأبلغ وجه، فكانت قلب القرآن لذلك واستحسن هذا الفخر الرازي. وقال في اللمعات: قلب الشيء زبدته وقد اشتملت هذه السورة الشريفة على زبدة مقاصد القرآن على وجه أتم وأكمل مع قصر نظمها وصغر حجمها، وذكر النسفي وجها آخر من شاء الوقوف عليه رجع إلى الإتقان والمرقاة (كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن) أي ثوابها (عشر مرات) أي من غيرها ولله تعالى أن يخص ما شاء من الأشياء بما أراد من مزيد الفضل كليلة القدر من الأزمنة والحرم من الأمكنة (رواه الترمذي والدارمي) وأخرجه أيضا محمد بن نصر، والبيهقي في الشعب كلهم من طريق هارون أبي محمد عن
وقال الترمذي: هذا حديث غريب.
2168 - (40) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق السماوات والأرض بألف عام، فلما سمعت الملائكة القرآن
مقاتل بن حيان عن قتادة عن أنس، وهارون هذا مجهول. وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه أبوبكر البزار كما في تفسير الحافظ ابن كثير وعزاه في الكنز للبيهقي في الشعب (وقال الترمذي هذا حديث غريب) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وكذا نقله المنذري في الترغيب والشوكاني في تحفة الذاكرين. ووقع في نسخ الترمذي الموجودة عندنا "هذا حديث حسن غريب" وقال بعد هذا لا نعرفه إلا من حديث حميد بن عبدالرحمن أي عن الحسن بن صالح عن هارون أبي محمد، قال وهارون أبومحمد شيخ مجهول.

(14/424)


2168- قوله: (إن الله تعالى قرأ طه ويس) قال القاري: أي أظهر قراءتهما وبين ثواب تلاوتهما وقال ابن الملك: أي أفهمهما ملائكته وألهمهم معناهما. وقال ابن حجر: أمر بعضهم بقراءتهما على البقية إعلاما لهم بشرفهما، ويحتمل بقاءه على ظاهره وأنه تعالى أسمعهم كلامه النفسي بهما إجلالا لهما بذلك، وهذا الإسماع يسمى قراءة كما أن الكلام النفسي يسمى قرآنا حقيقة- انتهى كلام القاري. قلت: لا حاجة إلى تأويل الحديث، وصرفه عن ظاهره إلى ما ذكروه بل تبقيته وإمراره على ظاهره هو المتعين، فسورة طه ويس من القرآن، والقرآن كلام الله غير مخلوق، والله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء وكما شاء ليس كمثله شي، وحمل ذلك على الكلام النفسي والقول بأنه أسمعهم كلامه النفسي مما لا دليل عليه لا من كتاب ولا من سنة، ولا من قول صحابي فحمله على ظاهره هو الصواب المتعين (قبل أن يخلق السماوات والأرض بألف عام) الكلام فيه مثل الكلام في ما ذكر في حديث النعمان بن بشير من كتابة الكتاب قبل خلق السماوات والأرض بألفي عام المخصوص منه بالإنزال الآيتان من آخر سورة البقرة (فلما سمعت الملائكة القرآن) ظاهر الحديث، إن الملائكة خلقوا قبل خلق السماوات والأرض بزمان كثير. قيل: المراد بالقرآن المصدر أي القراءة كما في قوله تعالى: ?إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه? [القيامة: 17- 18] وقال أهل العربية: يقال قرأت الكتاب قراءة وقرآنا منه قول حسان:
ضحوا باشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
وقيل المراد به القرآن أي الكلام نفسه لا مسمى المصدر كما في قوله تعالى: ?فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم? [النحل: 98] وفي قوله ?وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا? [الأعراف: 204] وغالب
قالت: طوبى لأمة ينزل هذا عليها،وطوبى لأجوف تحمل هذا، وطوبى لألسنة تتكلم بهذا)) رواه الدرامي.

(14/425)


2169- (41) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ حم الدخان في ليلة،
ما يذكر لفظ القرآن إنما يراد به نفس الكلام لا يراد به التكلم بالكلام والقراءة به، وعلى هذا فإنما أطلق القرآن على طه ويس تفخيما لشأنهما. وقيل: إنه يطلق حقيقة على البعض لأنه موضوع للمقدار المشترك بين الكل والأجزاء. وقيل: المراد القرآن كله فلما وجدوا فيه طه ويس قالوا (طوبى) فعلى من الطيب يعني الراحة والطيب حاصل (لأمة ينزل) بصيغة المجهول أو المعلوم (هذا) أي القرآن فإنه أقرب مذكور أو ما ذكر من طه ويس خصوصا وهو ظاهر من السياق. وقيل: المراد بطوبي شجرة في الجنة في كل بيت من بيوت الجنة منها غصن (تحمل هذا) أي بالحفظ والمحافظة (تتكلم بهذا) أي تقرأه غيبا أو نظرا (رواه الدارمي) عن إبراهيم ابن المنذر عن إبراهيم بن المهاجر بن المسمار عن عمر بن حفص بن ذكران عن مولى الحرقة (عبدالرحمن بن يعقوب) عن أبي هريرة وإبراهيم بن المهاجر هذا ضعيف، وشيخه عمر بن حفص. قال أحمد: تركنا حديثه وحرقناه. وقال علي: ليس بثقة. وقال النسائي متروك. وقال الدارقطني: ضعيف. فالحديث ضعيف جدا، والحديث زاد نسبته في الكنز إلى ابن خزيمة وابن أبي عاصم والعقيلي في الضعفاء والطبراني في الأوسط وابن عدي في الكامل وابن مردوية والبيهقي في الشعب وغيره. وقال: قال العقيلي: فيه إبراهيم بن المهاجر بن مسمار منكر الحديث، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، ونقل عن ابن حبان أنه موضوع وتعقبه ابن حجر- انتهى. قلت قال الذهبي في الميزان: (ج1ص32) في ترجمة إبراهيم بن المهاجر بعد ذكر هذا الحديث: قال البخاري إنه منكر الحديث. وقال النسائي: ضعيف. وروى عن عثمان بن سعيد عن يحيى ليس به بأس وانفرد عنه بهذا الحديث إبراهيم بن المنذر الحزامي وقال الحافظ في اللسان: (ج1ص115) قال ابن حبان: في هذا الحديث إنه متن موضوع. وقال في الضعفاء إبراهيم بن المهاجر بن مسمار منكر الحديث

(14/426)


جدا، لا يعجبني الاحتجاج به إذا انفرد، وكان ابن معين عرض القول فيه- انتهى. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: (ج7ص56) بعد عزو الحديث إلى الطبراني، فيه إبراهيم بن مهاجر بن مسمار، وضعفه البخاري بهذا الحديث ووثقه ابن معين.
2169- قوله: (من قرأ حم الدخان في ليلة) أي ليلة كانت. وقال في الأزهار المراد بالليلة المبهمة ليلة الجمعة المبينة في الحديث الآتي، والدليل على ذلك قوله عليه السلام في الحديث الأول يعني هذا الحديث يستغفر له سبعون ألف ملك، وفي الحديث الثاني يعني الآتي غفر له، والظاهر إن هذا مبين- انتهى. قال شيخنا: ليس في قوله "ليلة"
أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب، وعمر بن أبي خثعم الراوي يضعف، وقال محمد- يعني البخاري- هو منكر الحديث.
2170 - (42) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة غفر له)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب ضعيف.

(14/427)


في هذا الحديث إبهام حتى يقال إن قوله في ليلة الجمعة في الحديث الآتي مبين له فتفكر- انتهى. وقال في أشعة اللمعات: وقع في الحديث الثاني التخصيص بليلة الجمعة، وفي الحديث الأول التعميم فقراءتها في ليلة الجمعة أولى لتحصل الفضيلة المذكورة قطعا (أصبح) أي دخل في الصباح أو صار بعد القراءة (يستغفر له سبعون ألف ملك) أي يطلبون له من الله المغفرة (رواه الترمذي) من طريق عمر بن أبي خثعم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وأخرجه أيضا محمد بن نصر في كتاب الصلاة والأصبهاني ورواه الدارقطني كما في اللآلي (ج1ص121) من طريق عمر بن راشد عن يحيى بن أبي كثير قال وعمر يضع الحديث (وقال هذا حديث غريب) وبعده لا نعرفه إلا من هذا الوجه (وعمر بن أبي خثعم) بفتح خاء معجمة وسكون مثلثة وفتح مهملة هو عمر بن عبدالله بن أبي خثعم نسب ههنا إلى جده (الراوي) لهذا الحديث (يضعف) أي في الحديث قلت. قال أبوزرعة: هو واهي الحديث حدث عن يحيى بن أبي كثير ثلاثة أحاديث لو كانت في خمسمائة حديث لأفسدتها. وقال ابن عدي: منكر الحديث. وبعض حديثه لا يتابع عليه (وقال محمد) أي ابن إسماعيل (يعني) أي يريد الترمذي بمحمد (البخاري) وهذا من كلام المصنف (هو) أي عمر ابن أبي خثعم (منكر الحديث) وقد تقدم في (ص152) في باب السنن وفضائلها من الجزء الثاني إن البخاري يطلق هذا اللفظ على من لا تحل الرواية عنه كما في التدريب (ص127) واعلم أن ابن الجوزي أورد هذا الحديث في موضوعاته، وقال إن عمر هذا هو عمر بن راشد تبع فيه ابن حبان. وقد رد ذلك الدارقطني فقال خلط أبوحاتم أي جعلها واحدا، وإنهما اثنان. وقال الذهبي: عمر ابن راشد غير عمر بن خثعم ذاك عمر بن عبدالله وهو صاحب حديث سورة الدخان- انتهى. قال السيوطي: ولم يجرح بكذب فلا يلزم أن يكون حديثه موضوعا.

(14/428)


2170- قوله: (غفر له) ذنوبه أي الصغائر (رواه الترمذي) من طريق زيد بن حباب عن هشام أبي المقدام عن الحسن عن أبي هريرة، وأخرجه أيضا ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص218) وابن أبي داود والبيهقي وغيره كما في الآلي (ج1ص121، 122) (وقال هذا حديث غريب ضعيف) وفي بعض النسخ غريب
وهشام أبوالمقدام الراوي يضعف.
2171 - (43) وعن العرباض بن سارية، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد، يقول: إن فيهن آية خير من ألف آية)). رواه الترمذي،
فقط، وفي بعضها "ضعيف" فقط والذي في الترمذي هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه (وهشام أبوالمقدام الراوي يضعف) قال الحافظ في التقريب: هشام بن زياد بن أبي يزيد وهو هشام بن أبي هشام أبوالمقدام ويقال له أيضا هشام بن أبي الوليد المدني متروك- انتهى. قلت: ضعفه عبدالله بن أحمد والنسائي وأبوزرعة وأبوحاتم والدارقطني وابن سعد والعجلي ويعقوب بن سفيان. وقال الدوري عن ابن معين: ليس بثقة. وقال في موضع آخر: ضعيف ليس بشي: وقال البخاري: يتكلمون فيه. وقال أبوداود": غير ثقة. وقال النسائي وعلى بن الجنيد الأزدي: متروك الحديث. وقال النسائي: أيضا ليس بثقة ومرة ليس بشي، ويقال أنه أخذ كتاب حفص المنقري عن الحسن، فروى عن الحسن وعنده عن الحسن أحاديث منكرة. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات لا يجوز الاحتجاج به، وترك ابن المبارك حديثه.وقال أبوبكر بن خزيمة لا يحتج بحديثه كذا في تهذيب التهذيب، قال الترمذي: ولم يسمع الحسن من أبي هريرة- انتهى. فالحديث ضعيف من وجهين. وقد أورده ابن الجوزي في الموضوعات. وقال باطل. فيه محمد بن زكريا (عند ابن أبي داود) وهو وضاع وتعقبه السيوطي فقال الحديث له طرق كثيرة عن أبي هريرة بعضها على شرط الصحيح أخرجه الترمذي والبيهقي في الشعب من عدة طرق.

(14/429)


2171- قوله: (كان يقرأ المسبحات) بكسر الباء نسبة مجازية وهي السور التي في أوائلها سبحان أو سبح بالماضي أو يسبح أو سبح بالأمر، وهي سبعة ?سبحان الذي أسرى بعبده? [الإسراء: 1] والحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن والأعلى (قبل أن يرقد) بضم القاف من نصر أي ينام (يقول) استئناف لبيان الحامل له على قراءة تلك السور كل ليلة قبل أن ينام (إن فيهن) أي في السور المسبحات (آية) أي عظيمة (خير) أي هي خير (من ألف آية) قيل: هي لو أنزلنا هذا القرآن وهذا مثل اسم الله الأعظم من بين سائر الأسماء في الفضيلة فعلى هذا "فيهن" أي في مجموعهن وعن الحافظ ابن كثير إنها ?هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم? [الحديد: 3]- انتهى. قال القاري: والأظهر إنها هي الآية التي صدرت بالتسبيح "وفيهن" بمعنى جميعهن والخيرية لمعنى الصفة التنزيهية الملتزمة للنعوت الإثباتية. وقال الطيبي: أخفى الآية فيها كإخفاء ليلة القدر في الليالي وإخفاء ساعة الإجابة في يوم الجمعة محافظة على قراءة الكل لئلا تشذ تلك الآية (رواه الترمذي) في فضائل القرآن
وأبوداود. ورواه الدارمي عن خالد بن معدان مرسلا. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
2172- (44) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن سورة في القرآن، ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي تبارك الذي بيده الملك)) رواه أحمد،

(14/430)


والدعوات (وأبوداود) في الأدب وأخرجه النسائي في الكبرى وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص219) كلهم من طريق بقية بن الوليد عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن عبدالله بن أبي بلال عن العرباض بن سارية (ورواه الدارمي) أي من طريق معاوية بن صالح عن بحير بن سعد (عن خالد بن معدان) بفتح الميم وسكون العين وخفة الدال المهملتين الكلاعي أبوعبدالله الشامي الحمصي ثقة عابد يرسل كثيرا من أوساط التابعي. قال: أدركت سبعين رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مات سنة ثلاث ومائة، وقيل بعد ذلك. (مرسلا) أي بحذف الصحابي (وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب) قال المنذري في مختصر السنن بعد نقل تحسين الترمذي: وفي إسناده بقية بن الوليد عن بحير بن سعد، وبقية فيه مقال وأخرجه النسائي من حديث معاوية بن صالح عن بحير بن سعد مرسلا- انتهى. قلت: بقية كثير التدليس وروى هذا الحديث عن بحير بالعنعنة.

(14/431)


2172- قوله: (إن سورة) أي عظمية (في القرآن) أي كائنة فيه، وفي الترمذي من القرآن (ثلاثون آية) خبر مبتدأ محذوف أي هي ثلاثون، والجملة صفة لاسم إن (شفعت) بالتخفيف خبر إن قاله الطيبي. وقيل: خبر إن هو "ثلاثون" وقوله "شفعت" خبر ثان (لرجل حتى غفر له) متعلق بشفعت وهو يحتمل أن يكون بمعنى المضي في الخبر يعني كان رجل يقرؤها ويعظم قدرها، فلما مات شفعت له حتى دفع عنه عذابه. ويحتمل أن يكون الماضي بمعنى المستقبل أي تشفع لمن يقرؤها في القبر أو يوم القيامة كذا في المرقاة. وقال في اللمعات: إن حمل قوله "شفعت لرجل" على معنى المضي كما هو ظاهر كان إخبارا عن الغيب، وأن يجعل بمعنى تشفع (كما في قوله تعالى) :?ونادى أصحاب الجنة? [الأعراف: 44] كان تحريضا على المواظبة عليها، ويحمل رجل على العموم كما في تمرة خير من جرادة (وهي تبارك الذي بيده الملك) أي إلى آخرها وفي سوق الكلام على الإبهام ثم التفسير تفخيم للسورة، إذ لو قيل: إن سورة تبارك شفعت لم تكن بهذه المنزلة. وقد استدل بهذا الحديث من قال البسملة ليست من السورة وآية تامة منها، لأن كونها ثلاثين آية إنما يصح على تقدير كونها آية تامة منها، والحال إنها ثلاثون من غير كونها آية تامة منها فهي إما ليست بآية منها كمذهب أبي حنيفة ومالك والأكثرين، وإما ليست بآية تامة بل هي جزء من الآية الأولى كرواية في مذهب الشافعي (رواه أحمد) (ج2ص298)
والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
2173 - (45) وعن ابن عباس، قال: ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر،

(14/432)


(والترمذي وأبوداود والنسائي) في الكبرى (وابن ماجه) في باب ثواب القرآن وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه والحاكم(ج1ص565) وابن الضريس وابن مردوية والبيهقي في شعب الإيمان. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقد سقط لي في سماعي هذا الحرف، وهي سورة الملك ووافقه الذهبي على تصحيحه. واعلم أنه اختلف في اسم راوي هذا الحديث عباس الجشمي عن أبي هريرة أهو عباس بالموحدة والسين المهملة أم عياش بالياء التحتية والشين المعجمة، ورجح الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على المسند (ج15ص128) بعد البحث عن ذلك أنه عياش بالتحتية والشين المعجمة. وقال بعد ذكر تخريج الحديث وتصحيحه: والعجب للحافظ المنذري لم يعترض في الترغيب على تحسين الترمذي وتصحيح ابن حبان، والحاكم، ولم يعقب عليهم. ثم جاء في تهذيب السنن بعد أن خرج الحديث وأشار إلى تحسين الترمذي فنقل شيئا لا ندري من أين جاء به فقال "وقد ذكره البخاري في التاريخ الكبير من رواية عياش الجشمي عن أبي هريرة كما أخرجه أبوداود ومن ذكر معه. وقال لم يذكر سماعا عن أبي هريرة" يريد أن عياشا الجشمي روى هذا الحديث عن أبي هريرة ولم يذكر فيه أنه سمعه من أبي هريرة، فهذا الكلام الذي نسبه للتاريخ الكبير لم نجده فيه (أي في ترجمة عباس الجشمي من باب عباس وترجمة عياش من باب عياش) ثم هو لم يترجم له في الصغير ولا ذكره في الضعفاء فلا ندري أنى له هذا الكلام عن البخاري؟ إلا أن يكون في الكبير في موضع آخر غير مظنته والله اعلم.

(14/433)


2173- قوله: (ضرب بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خباءه) بكسر الخاء المعجمة والمد أي خيمته. قال الطيبي: الخباء، أحد بيوت العرب من وبر أو صوف ولا يكون من شعر ويكون على عمودين أو ثلاثة (على قبر) أي موضع قبر (وهو) أي الصحابي (لا يحسب) بفتح السين وكسرها أي لا يظن (أنه قبر) أي إن ذلك الموضع موضع قبر قد تقدم أن البناء والجلوس على القبور والمشي والوطأ عليها ممنوع، سواء كانت القبور ظاهرة بحدبتها أو مندرسة مستوية بالأرض بحيث لا يظهر لها أثر فقوله، وهو لا يحسب أنه قبر محمول على الاعتذار من ضرب الخباء على القبر، وأما عدم ذكر تقويض خيمته وتنحيه عن ذلك الموضع بعد العلم، فهو لا يستلزم عدم وقوعه في نفس الأمر. وأما من ذهب إلى جواز ذلك بعد إندراس القبور فحمل قوله "وهو لا يحسب" أنه قبر على مجرد بيان الحال، ولا يخفي ما فيه. وهذه القراءة المسموعة كالتسبيح للملائكة على وجه الالتذاذ لا على سبيل التكليف
فإذا فيه إنسان يقرأ سورة تبارك الذي بيده الملك، حتى ختمها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هي المانعة، هي المنجية، تنجيه من عذاب الله)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب.
2174- (46) وعن جابر، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ ألم تنزيل، وتبارك الذي بيده الملك)).

(14/434)


لتحصيل الأجر والثواب، فإن البرزخ أمر غيبي وليس بعالم التكليف. وأما قوله عليه السلام هي "المنجية" فمعناه إن تلاوة هذه السورة في الحياة الدنيا تكون سببا لنجاة تاليها من عذاب القبر والله أعلم (فإذا) للمفاجأة (فيه) أي في ذلك المكان (إنسان يقرأ سورة تبارك الذي بيده الملك حتى ختمها) وفي الترمذي فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها (فأتى النبي صلى الله عليه وسلم) أي صاحب الخيمة (فأخبره) أي بما سمعه، وفي الترمذي فقال يا رسول الله! ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر فإذا فيه إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها (فقال النبي صلى الله عليه وسلم) أي سورة الملك (المانعة) أي تمنع من عذاب القبر أو من المعاصي التي توجب عذاب القبر. وقال في المفاتيح: أي هذه السورة تمنع من قارئها العذاب (هي المنجية) يحتمل أن تكون مؤكدة لقوله هي المانعة وأن تكون مفسرة ومن ثمة عقبه بقوله "تنجيه من عذاب القبر" (من عذاب الله) كذا في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة، وفي الترمذي من عذاب القبر، وهكذا نقله المنذري في الترغيب وابن القيم في كتاب الروح (ص128) والجزري في جامع الأصول (ج9ص365) والشوكاني في تحفة الذاكرين (ص272) (وقال هذا حديث غريب) في سنده يحيى بن عمرو بن مالك النكري بضم النون وهو ضعيف، ويقال إن حماد بن زيد كذبه كذا في التقريب فالحديث ضعيف، وفي الباب عن أبي هريرة وأنس وابن مسعود ذكر أحاديثهم في الكنز (ج1ص517، 528، 526).

(14/435)


2174- قوله: (كان لا ينام حتى يقرأ ألم تنزيل) بالرفع على الحكاية وفي رواية حتى يقرأ تنزيل السجدة والمراد سورة السجدة (وتبارك الذي بيده الملك) أي سورة الملك. قال الطيبي: حتى غاية لا ينام ويحتمل أن يكون المعنى إذا دخل وقت النوم لا ينام حتى يقرأهما وأن يكون لا ينام مطلقا حتى يقرأهما، والمعنى لم يكن من عادته النوم قبل القراءة فتقع القراءة قبل دخول وقت النوم أي وقت كان، ولو قيل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرؤهما بالليل لم يفد هذه الفائدة- انتهى. قال القاري: والفائدة هي إفادة القبلية ولا يشك إن الاحتمال الثاني
رواه أحمد، والترمذي، والدارمي. وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. وكذا في شرح السنة، وفي المصابيح غريب.
2175- 2176- (47- 48) وعن ابن عباس، وأنس بن مالك، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا زلزلت تعدل نصف القرآن،

(14/436)


أظهر لعدم احتياجه إلى تقدير يفضي إلى تضييق (رواه أحمد) (ج3ص340) (والترمذي) في فضائل القرآن وفي الدعوات (والدارمي) وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد والنسائي وابن السني في اليوم والليلة (ص217) كلهم من حديث أبي الزبير عن جابر. وذكر السيوطي هذا الحديث في الدر. وقال أخرجه أبوعبيد في فضائله وأحمد وعبد بن حميد والدارمي والترمذي والنسائي والحاكم وصححه وابن مردوية (وقال الترمذي هذا حديث صحيح) كذا وقع في جميع النسخ من المشكاة لكن ليس في جامع الترمذي تصحيح هذا الحديث ولا تحسينه، بل كلام الترمذي يدل على أنه حديث مضطرب الإسناد ولذا قال المناوي بعد تخريجه وفيه اضطرب انتهى. قلت قال الترمذي: هكذا روى الثوري وغير واحد هذا الحديث عن ليث (بن أبي سليم) عن أبي الزبير عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه، وروى زهير هذا الحديث عن أبي الزبير قال قلت له أسمعته من جابر قال لم أسمعه من جابر، إنما سمعته من صفوان أو ابن صفوان، وكأن زهيرا أنكر أن يكون هذا الحديث عن أبي الزبير عن جابر. قال الترمذي: وقد روى شبابة عن مغيرة بن مسلم عن أبي الزبير عن جابر نحو حديث ليث- انتهى. قلت: روايته زهير أخرجه الحاكم (ج2ص412) قال حدثنا جعفر بن محمد نا الحارث بن أبي أسامة نا أبوالنصر نا أبوخيثمة زهير بن معاوية. قال: قلت: لأبي الزبير أسمعت إن جابرا يذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا ينام حتى يقرأ ألم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك. فقال أبوالزبير: حدثنيه صفوان أو أبوصفوان هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه لأن مداره على حديث ليث بن أبي سليم عن أبي الزبير (وكذا) أي هو (في شرح السنة وفي المصابيح غريب) أي هو غريب. قال الطيبي: هذا لا ينافي كونه صحيحا لأن الغريب قد يكون صحيحا- انتهى. قلت: نعم الغرابة لا تنافي الصحة لكن في كون هذا الحديث صحيحا نظر، لأن مداره على ليث بن أبي سليم ولا يبعد أن

(14/437)


يكون صحيحا لغيره أي لتعدد طرقه.
2175- 2176- قوله: (إذ زلزلت) أي سورة إذا زلزلت (تعدل) أي تساوي وتماثل (نصف القرآن إلخ) قيل: يحتمل إن سورة الزلزلة تعدل نصف القرآن لأن أحكام القرآن تنقسم إلى أحكام الدنيا وأحكام الآخرة وهذه السورة تشمل على أحكام الآخرة كلها إجمالا وزادت على القارعة بإخراج الأثقال وتحديث
وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن)) رواه الترمذي.
الأخبار. وأما تسميتها في حديث أنس عند الترمذي وابن أبي شيبة وأبي الشيخ ربع القرآن، فلأن الإيمان بالبعث ربع الإيمان في الحديث الذي رواه الترمذي لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع، يشهد أن لا إله إلا الله وإني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر فاقتضى هذا الحديث إن الإيمان بالبعث الذي قررته هذه السورة ربع الإيمان الكامل الذي دعا إليه القرآن فهي ربع من وجه ونصف من وجه. وقال الطيبي: يحتمل أن يقال المقصود الأعظم بالذات من القرآن بيان المبدأ والمعاد. وإذا زلزلت مقصورة على ذكر المعاد مستقلة ببيان أحواله فيعادل من طريق المعنى نصفه، وما جاء إنها ربع القرآن فتقريره أن يقال القرآن يشتمل على تقرير التوحيد والنبوات وبيان أحكام المعاش وأحوال المعاد، وذلك إتمام أربعة. وهذه السورة إجمالا مشتملة على القسم الأخير من الأربع، وقل يا أيها الكافرون محتوية على القسم الأول منها، لأن البراءة عن الشرك والتدين بدين الحق إثبات للتوحيد، فتكون كل واحدة منها كأنها ربع القرآن. وهذا تلخيص كلام التوربشتي. فإن قلت هلا حملوا المعادلة على التسوية في الثواب على المقدار المنصوص عليه؟ قلت: منعهم من ذلك لزوم فضل إذا زلزلت على سورة إخلاص والقول الجامع ما ذكره الشيخ التوربشتي من قوله "ونحن وإن سلكنا هذا المسلك بمبلغ علمنا نعتقد ونعترف إن بيان ذلك على الحقيقة إنما يتلقى من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم

(14/438)


فإنه هو الذي ينتهي إليه في معرفة حقائق الأشياء والكشف عن خفيات العلوم. فأما القول الذي نحن بصدده ونحوم حوله على مقدار فهمنا وإن سلم من الخلل والزلل لا يتعدى عن ضرب من الاحتمال- انتهى. (وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن) لأن علوم القرآن. ثلاثة علم التوحيد، وعلم الشرائع والأحكام، وعلم الأخبار والقصص. وهذه السورة مشتملة على القسم الأول فكانت ثلاثا بهذا الاعتبار، وقيل في بيان وجهه غير ذلك (وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن) قيل: السر في كون سورة الكافرون ربعا، وسورة الإخلاص ثلاثا، مع أن كلام منهما يسمى الإخلاص إن سورة الإخلاص اشتملت من صفات الله ما لم تشتمل عليه الكافرون، وأيضا فالتوحيد إثبات إلهية المعبود وتقديسه ونفي إلهية ما سواه. وقد صرحت الإخلاص بالإثبات والتقديس ولوحت إلى نفي عبادة غيره، والكافرون صرحت بالنفي ولوحت بالإثبات والتقديس، فكان بين الرتبتين من التصريحتين والتلويحين ما بين الثلث والربع (رواه الترمذي) في فضائل القرآن واللفظ المذكور لحديث ابن عباس رواه الترمذي وكذا ابن الضريس ومحمد بن نصر والحاكم (ج1ص566) وأبوالشيخ والبيهقي في الشعب كلهم من رواية يمان بن المغيرة العنزي عن عطاء عن ابن عباس. قال الحاكم: صحيح الإسناد. وتعقبه المناوي فقال ليس كذلك فإن مداره على يمان ويمان ضعيف. وقال الذهبي في تلخيصه بعد نقل تصحيح الحاكم: بل يمان ضعفوه. وقال الشوكاني بعد ذكر جروح الأئمة في يمان: فالعجب من الحاكم حيث صحح حديثه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه
2177- (49) وعن معقل بن يسار، ((عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا. ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة)).

(14/439)


إلا من حديث يمان بن المغيرة- انتهى. قلت قال البخاري وأبو حاتم عن يمان: هذا هو منكر الحديث يروي المناكير التي لا أصول لها فاستحق الترك. وقال ابن معين: ليس حديثه بشي. وقال أبوزرعة وأبوحاتم: ضعيف الحديث. وأما ابن عدي فقال لا أرى به بأسا كذا في تهذيب التهذيب والميزان. وأما حديث أنس فأخرجه الترمذي وكذا ابن مردوية والبيهقي من طريق الحسن بن سلم بن صالح العجلي عن ثابت البناني عنه بلفظ من قرأ إذا زلزلت عدلت له بنصف القرآن ومن قرأ قل يا أيها الكافرون عدلت له ربع القرآن ومن قرأ قل هو الله أحد عدلت له بثلث القرآن. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن سلم- انتهى. والحسن هذا مجهول. قال في تهذيب التهذيب: هو شيخ مجهول له حديث واحد في فضل إذا زلزلت، رواه عن ثابت وعنه محمد بن موسى الحرشي أخرجه الترمذي واستغربه وكذا فعله الحاكم أبوأحمد-انتهى. وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه ابن السني.

(14/440)


2177- قوله: (من قال حين يصبح) أي يدخل في الصباح (ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم) التكرار للإلحاح في الدعاء فإنه خبر لفظا دعاء معنى أو التثليث لمناسبة الآيات الثلاث حتى لا يمنع القاري عن قراءتها والتدبر في معانيها والتخلق بأخلاق ما فيها (فقرأ) قال القاري: أي بعد التعوذ المذكور وبه يندفع أخذ الظاهرية بظاهر قوله: ?فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله? [النحل: 98] قال الطيبي هذه الفاء مقابلة لما في قوله تعالى: ?فاستعذ بالله? لأن الآية توجب تقديم القراءة على الاستعاذة ظاهرا، والحديث بخلافه فاقتضى ذلك أن يقال فإذا أردت القراءة فاستعذ، ولا يحسن هذا التأويل في الحديث- انتهى. قلت قوله "فقرأ" كذا في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة بالفاء، والذي في جامع الترمذي، وقرأ بالواو وهكذا في جامع الأصول (ج9ص356) وتحفة الذاكرين (ص60) نقلا عن الترمذي وكذا وقع عند أحمد (ج5ص26) وابن السني (ص218) (ثلاث آيات من آخر سورة الحشر) أي من قوله: ?هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب? [الحشر: 22] إلى آخر السورة فإنها مشتملة على الاسم الأعظم عند كثيرين (يصلون عليه) أي يدعون له بتوفيق الخير ودفع الشرار يستغفرون له (ومن قاله) أي الكلمات المذكورة (كان بتلك المنزلة) أي
رواه الترمذي والدارمي، وقال الترمذي: هذا حديث غريب.
2178- (50) وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من قرأ كل يوم مائتي مرة قل هو الله أحد محي عنه ذنوب خمسين سنة، إلا أن يكون عليه دين)). رواه الترمذي، والدارمي، وفي روايته: خمسين مرة، ولم يذكر إلا أن يكون عليه دين.

(14/441)


بالمرتبة المسطورة والظاهر أن هذا نقل بالمعنى اقتصارا من بعض الرواة، وهذا لفظ الترمذي، وللدارمي وإن قالها مساء فمثل ذلك حتى يصبح (رواه الترمذي والدارمي) في فضائل القرآن وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص26) وابن السني (ص218) كلهم من طريق خالد بن طهمان عن نافع بن أبي نافع عن معقل بن يسار وخالد ابن طهمان صدوق وكان قد خلط قبل موته بعشر سنين (وقال الترمذي هذا حديث غريب) كذا في جميع النسخ الحاضرة ووقع في نسخ الترمذي الموجودة عندنا هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وكذا نقله الشوكاني في تحفة الذاكرين. وقال وأخرجه أيضا الدارمي وابن السني، قال النووي في الأذكار: بإسناد فيه ضعف. وقال المنذري في الترغيب: رواه الترمذي من رواية خالد بن طهمان وقال: حديث غريب وفي بعض النسخ حسن غريب.

(14/442)


2178- قوله: (من قرأ كل يوم مائتي مرة قل هو الله أحد) أي إلى آخره أو هذه السورة (محي عنه) أي عن كتاب أعماله (إلا أن يكون عليه دين) قال الشيخ عبدالحق الدهلوي في أشعة اللمعات ما محصله: إن لهذا الاستثناء معنيين. أحدهما، إن هذا الذنب أي الدين لا يمحى عنه ولا يغفر، وجعل الدين من جنس الذنوب تهويلا لأمره وتشديدا. والثاني، إنه لا يمحى عنه ذنوبه إذا كان عليه الدين ولا توثر قراءة هذه السورة في محوها والله أعلم (رواه الترمذي) في فضائل القرآن عن محمد بن مرزوق البصري عن حاتم بن ميمون أبي سهل عن ثابت البناني عن أنس، وأخرجه أيضا محمد بن نصر من هذا الطريق كما في اللآلئ (ج1ص124) قال الترمذي: هذا حديث غريب. قلت: حاتم بن ميمون ضعيف. قال البخاري: روى منكرا كانوا يتقون مثل هؤلاء المشائخ. وقال ابن حبان: منكر الحديث، على قلته يروي عن ثابت ما لا يشبه حديثه، لا يجوز الاحتجاج به كذا في تهذيب التهذيب. (والدارمي) من طريق أم كثير الأنصارية عن أنس وأخرجه أيضا أبويعلى ومحمد بن نصر كما في اللآلي (ج1ص124) وابن السني (ص221) (وفي روايته) أي الدارمي وكذا في رواية ابن السني (خمسين مرة) أي بدل "مائتي مرة" قال القاري: وهي أظهر في المناسبة بين الثواب والعمل المترتب عليه، ووجه الرواية الأولى مفوض إليه صلى الله عليه وسلم (ولم يذكر) أي الدارمي في روايته (إلا أن يكون عليه دين) للحديث طرق وألفاظ
2179- (51) وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: ((من أراد أن ينام على فراشه، فنام على يمينه، ثم قرأ مائة مرة ?قل هو الله أحد? إذا كان يوم القيامة يقول له الرب: يا عبدي! أدخل على يمينك الجنة)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب.
2180- (52) وعن أبي هريرة، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقرأ ?قل هو الله أحد? فقال: وجبت. قلت: وما وجبت. قال الجنة))

(14/443)


عند ابن عدي وابن عساكر والإسماعيلي والخطيب وابن الضريس والبيهقي والبزار وغيرهم ذكرها على المتقى في الكنز والسيوطي في اللآلي وفي تعقباته على ابن الجوزي وفي كلها مقال من شاء الوقوف عليها رجع إلى اللآلي.
2179- قوله: (فنام) عطف على أراد والفاء للتعقيب (على يمينه) أي على وجه السنة (ثم قرأ مائة مرة) ثم للتراخي في الرتبة (إذا كان) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وكذا نقله الجزري في الحصن وفي الترمذي فإذا كان (يوم القيامة يقول له الرب) الشرط مع جزاءه الذي هو يقول جزاء للشرط الأول الذي هو من، ولم يعمل الشرط الثاني في جزاءه أعني يقول، لأن الشرط ماض فلم يعمل فيه إذا فلا يعمل في الجزاء كما في قول الشاعر:
وإن أتاه خليل يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حرم
(أدخل على يمينك الجنة) قال الطيبي: قوله "على يمينك" حال من فاعل أدخل فطابق هذا قوله "فنام على يمينه" يعني إذا أطعت رسولي واضطجعت على يمينك وقرأت السورة التي فيها صفاتي فأنت اليوم من أصحاب اليمين فاذهب من جانب يمينك إلى الجنة (رواه الترمذي) في فضائل القرآن بإسناد الحديث السابق فهو ضعيف أيضا كالأول (وقال هذا حديث حسن غريب) كذا في أكثر النسخ من المشكاة وفي بعضها حديث غريب كما في نسخ الترمذي الحاضرة، ويمكن أن يوجه ما في أكثر نسخ المشكاة إن كان صوابا بأنه حسنه لتعدد طرقه فقد قال الترمذي بعد ذلك: وقد روى هذا الحديث من غير هذا الوجه أيضا عن ثابت.
2180- قوله: (سمع رجلا) لم يعرف اسمه (يقرأ قل هو الله أحد) أي السورة بتمامها (وجبت) أي له (قلت وما وجبت) أي وما معنى قولك جزاء لقراءته وجبت أو ما فاعل وجبت وفي رواية مالك والحاكم فسألته ماذا يا رسول الله! أي ماذا أردت بقولك وجبت (قال الجنة) أي بمقتضى وعد الله وفضله الذي لا يخلفه كما قال تعالى: ?إن الله لا يخلف الميعاد? [آل عمران: 9] قال الباجي: يحتمل أن يريد بذلك تنبيه أبي هريرة ومن كان

(14/444)


رواه مالك، والترمذي، والنسائي.
2181 - (53) وعن فروة بن نوفل، عن أبيه، أنه قال: ((يا رسول الله! علمني شيئا أقوله إذا أويت إلى فراشي. فقال إقرأ ?قل يا أيها الكافرون? فإنها براءة من الشرك)). رواه الترمذي، وأبوداود، والدارمي.
معه على كثرة فضل هذه السورة وكثرة الثواب لقاريها،وزاد في رواية مالك قال أبوهريرة: فأردت أن أذهب إلى الرجل فأبشره ثم فرقت أن يفوتني الغداء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآثرت الغداء مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ذهبت إلى الرجل فوجدته قد ذهب (رواه مالك) في أواخر الصلاة عن عبيدالله بن عبدالرحمن عن عبيد بن حنين عن أبي هريرة قال: أقبلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع رجلا الخ (والترمذي) في فضائل القرآن (والنسائي) في عمل اليوم والليلة وأخرجه أيضا ابن السني (ص221) والحاكم (ج1ص566) كلهم من طريق مالك بن أنس. قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث مالك بن أنس يعني وهو إمام حافظ فلا يضره التفرد.

(14/445)


2181- قوله: (وعن فروة بن نوفل) الأشجعي الكوفي مختلف في صحبته والصواب إن الصحبة لأبيه وهو من الطبقة الواسطى من التابعين قاله في التقريب. وقال في تهذيب التهذيب: ذكره ابن حبان في ثقات التابعين قتل في خلافة معاوية سنة خمس وأربعين (عن أبيه) نوفل بن فروة الأشجعي صحابي نزل الكوفة روى عنه بنوه فروة وعبدالرحمن وسحيم (إذا أويت) بالقصر (إلى فراشي) بكسر الفاء وهذا لفظ الترمذي وفي رواية الدارمي وكذا أحمد وابن السني والحاكم عند منامى (إقرأ) أي إذا أخذت مضجعك كما في رواية الدارمي (قل يأيها الكافرون) أي إلى آخرها، زاد في رواية أبي داود وأحمد والدارمي وابن السني ثم نم على خاتمتها (فإنها) أي هذه السورة (براءة من الشرك) أي ومفيدة للتوحيد. قال الشوكاني: وإنما كانت براءة من الشرك لما فيها من التبري من عبادة ما يعبده المشركون (رواه الترمذي) في فضائل القرآن (وأبوداود) في أواخر الأدب (والدارمي) وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص456) وابن حبان والحاكم (ج1ص565و ج2ص538) وابن السني (ص220) كلهم من طريق أبي إسحاق عن فروة بن نوفل عن أبيه. واختلف فيه على أبي إسحاق في وصله وإرساله، فروى بعض أصحابه عنه عن فروة بن نوفل أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي وابن حبان والنسائي، وروى بعضهم عنه عن فروة بن نوفل عن أبيه أي موصولا. قال ابن عبدالبر في الاستيعاب: حديث نوفل في قل يا أيها الكافرون مختلف فيه مضطرب الإسناد لا يثبت، وتعقبه الحافظ في الإصابة. فقال في ترجمته: نوفل زعم ابن
2182- (54) وعن عقبة بن عامر، قال: ((بينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الجحفة والأبواء، إذ غشيتنا ريح وظلمة شديدة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ ?بأعوذ برب الفلق?

(14/446)


عبدالبر بأنه حديث مضطرب وليس كما قال، بل الرواية التي فيها عن أبيه أرجح وهي الموصولة رواته ثقات فلا يضره مخالفة من أرسله، وشرط الاضطراب أن تتساوى الوجوه في الاختلاف، وأما إذا تفاوتت فالحكم للراجح بلا خلاف. وقد أخرجه ابن أبي شيبة من طريق أبي مالك الأشجعي عن عبدالرحمن بن نوفل الأشجعي عن أبيه-انتهى. وقد ذكر الترمذي هذا الاختلاف ثم رجح الرواية الموصولة حيث قال هذا أي الموصول يعني بذكر عن أبيه أشبه وأصح، وفي الباب أحاديث ذكرها الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص86) والهيثمي مجمع الزوائد (ج10ص121).

(14/447)


2182- قوله: (بين الجحفة) بضم الجيم وسكون الحاء المهملة قرية خربة قريبة من البحر بينها وبين مكة خمس مراحل أو ستة، وفي وفاء الوفاء هي قرية كانت كبيرة ذات منبر على نحو خمس مراحل وثلثي مرحلة من المدينة وعلى نحو أربع مراحل ونصف من مكة، وفي المحلى قرية جامعة على اثنين وثمانين ميلا من مكة، وكان اسمها مهيعة (كمرحلة وقيل كمعيشة) فاجحف السيل بأهلها فسميت الجحفة. قال ابن الكلبي: كان العماليق يسكنون يثرب فوقع بينهم وبين بني عبيل وهم إخوة عاد حرب فأخرجوهم من يثرب فنزلوا الجحفة وكان اسمها يومئذ مهيعة فجاءهم سيل واجتحفهم أي استأصلهم فسميت الجحفة كذا في الفتح، وهي التي دعا النبي صلى الله عليه وسلم بنقل حمى المدينة إليها فانتقلت إليها فلا يمر بها أحد إلا حم وهي ميقات أهل الشام قديما ومصر والمغرب، والموضع الذي يحرم المصريون الآن، رابغ بوزن فاعل، قريب من الجحفة. قيل: بينها وبينه نحو ستة أميال (والأبواء) بفتح الهمزة وسكون الموحدة والمد كحلواء جبل بين مكة والمدينة وعنده بلد ينسب إليه. وقيل: قرية من أعمال الفرع وبه توفيت أم النبي صلى الله عليه وسلم بينها وبين الجحفة عشرون أو ثلاثون ميلا. قيل: سميت بذلك لأن السيول تتبوؤها أي تحلها. وقيل: لما كان فيها من الوباء وهي على القلب وإلا لقيل الوباء وأرجع إلى وفاء الوفاء (ص1016، 1017- 1118، 1119) (فجعل) أي طفق وشرع (يتعوذ بأعوذ برب الفلق) أي الصبح. وقيل: الخلق. وقيل: سجن أو واد أو جب في جهنم. وقيل الفلق كل ما أنفلق أي انشق عن شي من الحيوان والصبح والحب والنوى وكل شي من نبات وغيره. قيل: تفسيره بالصبح أولى لأن مقصود العائذ من الاستعاذة أن يتغير حاله بالخروج من الخوف إلى الأمن وبالتخلص عن وحشة الهم والحزن إلى الفرح والسرور والصبح أدل على هذا لما فيه من زوال الظلمة بإشراق أنوار الصبح وتغير وحشة الليل وثقله بسرور الصبح وخفته

(14/448)


و?أعوذ برب الناس? ويقول! يا عقبة: تعوذ بهما، فما تعوذ متعوذ بمثلهما)) رواه أبوداود.
2183- (55) وعن عبدالله بن خبيب، قال: خرجنا في ليلة مطر وظلمة شديدة نطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدركناه، فقال: (قل) قلت: ما أقول؟ قال: ?قل هو الله أحد? والمعوذتين حين تصبح وحين تمسي ثلث مرات تكفيك من كل شي)). رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي.
(وأعوذ برب الناس) أي بهاتين السورتين المشتملتين على ذلك (فما تعوذ متعوذ بمثلهما)أي بل هما أفضل التعاويذ ومن ثم لما سحر عليه الصلاة والسلام مكث مسحورا سنة حتى أنزل الله عليه ملكين يعلمانه أنه يتعوذ بهما ففعل فزال ما يجده من السحر (رواه أبوداود) في أواخر الصلاة وفيه محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن.

(14/449)


2183- قوله: (وعن عبدالله بن خبيب) بمعجمة وموحدتين مصغرا الجهني حليف الأنصار صحابي (في ليلة مطر) وفي رواية، في ليلة مطيرة أو ذات مطر (وظلمة) أي وفي ظلمة (فطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي ليصلي لنا كما في رواية أبي داود والترمذي وعند عبدالله بن أحمد والنسائي قال أي عبدالله بن خبيب أصابنا طش وظلمة فانتظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي بنا، وللنسائي أيضا قال كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طريق مكة فأصبت خلوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فدنوت منه فقال، قل (فأدركناه) أي لحقناه (فقال قل) أي إقرأ (قلت ما أقول) أي ما أقرأ؟ (قال قل هو الله أحد) محل قل هو الله أحد نصب بإقرأ مقدرا وقوله (والمعوذتين) بكسر الواو وتفتح عطف عليه، والمراد بهما قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس السورتان. قال السندي: جملة قل هو الله أحد أريد بها السورة المعهودة على أنها مفعول لفعل مقدر مثل قل أي قل هذه السورة المصدرة بقل هو الله أحد المعوذتين عطف عليها (حين تصبح) من الإصباح ظرف للفعل المقدر (وحين تمسي) من الإمساء (تكفيك) بالتأنيث أي السور الثلاث (من كل شي) قال الطيبي: أي تدفع عنك كل سوء "فمن" زائدة في الإثبات على مذهب جماعة وعلى مذهب الجمهور أيضا لأن تكفيك متضمنة للنفي كما يعلم من تفسيرها بتدفع. ويصح أن تكون لابتداء الغاية أي تدفع عنك من أول مراتب السوء إلى آخرها، أو تبعيضية أي بعض كل نوع من أنواع السوء، ويحتمل أن يكون المعنى تغنيك عما سواها أي مما يتعلق بالتعوذ من الأوراد. قلت: وقع في رواية النسائي تكفيك كل شي أي بحذف من. وفي الحديث دليل على أن تلاوة هذه السور عند المساء وعند الصباح تكفي التالي من كل شي يخشى منه كائنا ما كان (رواه الترمذي) في الدعوات (وأبوداود) في أواخر الأدب (والنسائي) في الاستعاذة وأخرجه أيضا عبدالله بن أحمد في زياداته على المسند (ج5ص362) كلهم من

(14/450)


طريق أبي سعيد أسيد بن أبي أسيد البراد عن معاذ بن عبدالله عن أبيه، وأخرجه البخاري
2184- (56) وعن عقبة بن عامر، قال: قلت: يا رسول الله! إقرأ سورة هود أو سورة يوسف قال: ((لن تقرأ شيئا أبلغ عند الله من قل أعوذ برب الفلق)). رواه أحمد والنسائي، والدارمي
?الفصل الثالث?
2185- (57) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعربوا القرآن،
في التاريخ والنسائي أيضا من طريق زيد بن أسلم عن معاذ. وأورده من وجهين عن معاذ بن عبدالله عن أبيه عن عقبة بن عامر وله عن عقبة طرق أخرى عند النسائي وغيره مطولا ومختصرا. قال الحافظ في الإصابة: (ج2ص303) ولا يبعد أن يكون الحديث محفوظا من الوجهين فإنه جاء أيضا من حديث ابن عابس الجهني، ومن حديث جابر ابن عبدالله الأنصاري- انتهى. والحديث صححه الترمذي ونقل المنذري في مختصر السنن والترغيب تصحيح الترمذي وأقره.

(14/451)


2184- قوله: (اقرأ) بحذف همزة الاستفهام أي أأقرأ ويحتمل أن يقرأ المرسوم بالمد فيفيد الاستفهام من غير حذف (سورة هود أو سورة يوسف) أي إقرأ إحداهما لدفع السوء عني وقوله "إقرأ" كذا في النسخ الحاضرة وهكذا هو في رواية الحاكم، لكن الذي عند أحمد والنسائي والدارمي إقرئني سورة هود وسورة يوسف وكذا عند ابن حبان وابن السني وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج9ص370) (لن تقرأ شيئا أبلغ عند الله) أي أتم وأعظم في باب التعوذ لدفع السوء وغيره وهذا لفظ النسائي وأحمد في رواية، وللدارمي وأحمد في رواية أخرى لن تقرأ من القرآن سورة أحب إلى الله ولا أبلغ عنده وكذا عند ابن حبان والحاكم (من قل أعوذ برب الفلق) أي من هذه السورة. وقال الطيبي: أي من هاتين السورتين على طريقة قوله تعوذ بهما الخ وقال ابن الملك: والمراد التحريض على التعوذ بهاتين السورتين- انتهى. وكأنهما أراد إن الحديث من باب الاكتفاء بإحدى القرينتين عن الأخرى وليتفق الحديثان ويطابقا ما في حديث مسلم في المعوذتين لم ير مثلهن (روه أحمد) (ج4ص149، 155) (والنسائي) في الاستعاذة (والدارمي) وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه وابن السني (ص222) والحاكم (ج2ص540) وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي والحديث عزاه في الكنز للبيهقي والطبراني أيضا.
2185- قوله: (أعربوا) بفتح الهمزة وسكون العين المهملة وكسر الراء (القرآن) المراد بأعراب القرآن معرفة معاني ألفاظه وتبيينها، وليس المراد الإعراب المصطلح عليه عند النحاة وهو ما يقابل اللحن. قال في اللمعات:
واتبعوا غرائبه، وغرائبه فرائضه وحدوده)).
2176- (58) وعن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قراءة القرآن في الصلاة أفضل من قراءة القرآن في غير الصلاة، وقراءة القرآن في غير الصلاة أفضل من التسبيح والتكبير، والتسبيح أفضل من الصدقة،

(14/452)


أي بينوا معانيه وأظهروها، والإعراب الإبانة والإفصاح وهذا يشترك فيه جميع من يعرف لسان العرب ثم ذكر ما يخص بأهل الشريعة من المسلمين بقوله (واتبعوا غرائبه) وفسر الغرائب بالفرائض من الأحكام الواجبة والحدود الشاملة لها ولغيرها حتى السنن والآداب وسماها غرائب لاختصاصها بأهل الدين أو لأن الإيمان غريب فأحكامه تكون غرائب- انتهى. وقيل المعنى أعربوا القرآن أي بينوا ما في القرآن من غرائب اللغة وبدائع الإعراب وقوله "واتبعوا غرائبه" لم يرد به غرائب اللغة لئلا يلزم التكرار ولهذا فسره بقوله وغرائبه فرائضه وحدوده، والمراد بالفرائض المأمورات وبالحدود المنهيات. وقال الطيبي: يجوز أن يراد بالفرائض فرائض المواريث بالحدود حدود الأحكام، أو يراد بالفرائض ما يجب على المكلف إتباعه وبالحدود ما يطلع به على الأسرار الخفية والرموز الدقيقة. قال وهذا التأويل قريب من معنى خبر أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل آية منها ظهر وبطن، الحديث فقوله أعربوا القرآن إشارة إلى ما ظهر منه وفرائضه وحدوده إلى ما بطن منه- انتهى. وقال القاري: وحاصل المعنى بينوا ما دلت عليه آياته من غرائب الأحكام وبدائع الحكم وخوارق المعجزات ومحاسن الآداب وأماكن المواعظ من الوعد والوعيد وما يترتب عليه من الترغيب والترهيب، أو بينوا إعراب مشكل ألفاظه وعباراته ومحامل مجملاته ومكنونات إشاراته وما يرتبط بتلك الإعرابات من المعاني المختلفة باختلافها لأن المعنى تبع للإعراب.

(14/453)


2186- قوله: (قراءة القرآن في الصلاة) فرضا كانت أو نفلا (أفضل من قراءة القرآن في غير الصلاة) لكونها منضمنة إلى عبادة أخرى ولأن الصلاة محل مناجاة الرب وأفضل عبادات البدن الظاهرة، ولكون القراءة فيها بالحضور أقرب وأحرى (وقراءة القرآن في غير الصلاة أفضل من التسبيح والتكبير) أي وإن كانا في الصلاة والمراد التسبيح والتكبير وأمثالهما من سائر الأذكار لكون القرآن كلام الله وفيه حكمة وأحكامه. وقيل لأن التسبيح والتكبير والتحميد والتهليل بعض القرآن، ولذلك فضلوا القيام في الصلاة على الركوع والسجود من جهة أن القيام فيها محل قراءة القرآن وهذه الأفضلية إنما هي فيما لم يرد فيه ذكر بخصوصه أي هذا الحكم إنما هو في غير الأوقات التي يطلب فيها التسبيح ونحوه فهو عقب الصلاة أفضل من قراءة القرآن، وأما ذات القرآن فهي أفضل من غيرها مطلقا والكلام إنما هو في الاشتغال (والتسبيح) أي ونحوه وترك التكبير اكتفاء (أفضل من الصدقة) وقد اشتهر
والصدقة أفضل من الصوم، والصوم جنة من النار)).
2187- (59) وعن عثمان بن عبدالله بن أوس الثقفي عن جده، قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(14/454)


إن العبادة المتعدية أفضل من اللازمة لكن ينبغي أن يخص هذا الحكم بما عدا ذكر الله فيستثنى الذكر منه قاله في اللمعات. وقال القاري: قوله "من الصدقة" أي من الصدقة المالية المجردة عن الذكر لأن المقصود من جميع العبادات والخير ذكر الله (والصدقة أفضل من الصوم) أي صوم التطوع قيل: أي في بعض الأحيان وإلا فصدقة بتمرة على غير مضطر لا تساوي صوم يوم لما يترتب عليه من المشقة. وقيل: لأن الصدقة نفع متعد والصوم قاصر. وقال في اللمعات: جعلها أفضل منه من جهة أن الصوم إمساك المال عن نفسه ثم إنفاقه عليها وفي الصدقة إنفاق على الغير وجهة أفضلية الصوم المشار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم (كل عمل بني آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها. إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به باقية). ولا شك إن اختلاف الجهات يعتبر في أمثال هذه السائل وإلى هذا أشار بقوله والصوم جنة- انتهى. وقال الطيبي: قيل ما تقدم من أن كل عمل بني آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها. الحديث يدل على أن الصوم أفضل، ووجه الجمع أنه إذا نظر إلى نفس العبادة كانت الصلاة أفضل من الصدقة، والصدقة أفضل من الصوم. وإذا نظر إلى كل واحد منها وما يؤل إليه من الخاصة التي لم يشاركها غيره فيها كان الصوم أفضل- انتهى. (والصوم جنة) أي وقاية من النار أي مما يجر إليها في الدنيا ومن عذاب الله في العقبى، وإذا كان هذا من فوائد الصوم للفضول فما بالك بالصدقة التي هي أفضل منه.

(14/455)


2187- قوله: (وعن عثمان بن عبدالله بن أوس) بن أبي أوس الثقفي الطائفي. قال في التقريب: مقبول من أوساط التابعين. وقال في تهذيب التهذيب: ذكره ابن حبان في الثقات (عن جده) أي أوس بن أبي أوس الثقفي الصحابي وهو غير أوس بن أوس الثقفي الصحابي الذي تقدم حديثه في الفصل الثاني من باب الجمعة (ج2ص280) قال في التقريب: أوس بن أبي أوس واسم أبي أوس حذيفة الثقفي صحابي وهو غير الذي قبله (يعني أوس بن أوس) على الصحيح. وقال في تهذيب التهذيب (ج1ص381) والإصابة (ج1ص89) في ترجمة أوس بن أوس الثقفي نقل عباس الدوري عن ابن معين أن أوس بن أوس الثقفي وأوس بن أبي أوس واحد. وقيل: إن ابن معين أخطأ في ذلك وإن الصواب إنهما اثنان وقد تبع ابن معين جماعة على ذلك منهم أبوداود، والتحقيق إنهما اثنان، ومن قال في أوس بن أوس، أوس بن أبي أوس أخطأ كما قيل في أوس بن أبي أوس، أوس بن أوس وهو خطأ. وأما أوس بن أبي أوس فاسم والده حذيفة كما سيأتي. وقال في (ج1ص82) من الإصابة أوس بن حذيفة بن ربيعة الثقفي هو أوس بن أبي أوس وهو والد عمر بن أوس وجد عثمان بن عبدالله بن أوس. قال أحمد في مسنده: (ج4ص8) أوس بن أبي
((قراءة الرجل القرآن في غير المصحف ألف درجة، وقراءته في المصحف تضعف على ذلك إلى ألفي درجة)).
2188- (60) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد إذا أصابه الماء. قيل يا رسول الله! وما جلاؤها؟ قال:

(14/456)


أوس هو أوس بن حذيفة. وقال البخاري في تاريخه: (ج1ص16، 17) أوس بن حذيفة الثقفي والد عمرو بن أوس ويقال أوس بن أبي أوس ويقال أوس بن أوس له صحبة وكذا قال ابن حبان في الصحابة. وقال أبونعيم في معرفة الصحابة: اختلف المتقدمون في أوس هذا، فمنهم من قال أوس بن حذيفة، ومنهم من قال أوس بن أبي أوس، وكنى أباه، ومنهم من قال أوس بن أوس. وأما أوس بن أوس الثقفي (الذي تقدم حديثه في الجمعة) فروى عنه الشاميون. وقيل: فيه أوس بن أبي أوس أيضا قال، وتوفي أوس بن حذيفة سنة تسع وخمسين- انتهى. (قراءة الرجل) المراد بالرجل الشخص فيشمل الأنثى والخنثى فهو وصف طردي (القرآن في غير المصحف) أي من حفظه (ألف درجة) أي ذات ألف درجة. قال الطيبي: ألف درجة خبر لقوله قراءة الرجل على تقدير مضاف أي ذات ألف درجة ليصح الحمل كما في قوله تعالى هم درجات أي ذوو درجات (تضعف) بتشديد العين أي تزاد، وفي الجامع الصغير ومجمع الزوائد تضاعف أي تتضاعف في الثواب (على ذلك) أي على ما ذكر من القراءة في غير المصحف (إلى ألفي درجة) لحظ النظر في المصحف وحمله ومسه. قيل: ومحل ذلك إذا كانت قراءته في المصحف إخشع كما هو الغالب فإن كان عن ظهر قلب إخشع كان أفضل. قال النووي في الأذكار قال أصحابنا: قراءة القرآن في المصحف أفضل من القراءة من حفظه وهو المشهور عن السلف رضي الله عنهم، وهذا ليس على إطلاقه بل إن كان القاري من حفظه يحصل له من التدبر والتفكر وجمع القلب والبصر أكبر مما يحصل من المصحف، فالقراءة من الحفظ أفضل وإن استويا فمن المصحف أفضل أي لأنه ضم إلى عبادة القراءة عبادة النظر في المصحف فلاشتمال هذه على عبادتين كان أفضل، قال وهذا مراد السلف. وقيل: إن زاد خشوعه وتدبره وإخلاصه في أحدهما فهو الأفضل وإلا فالنظر، ويدل كلام الطيبي على أن التمكن من التفكر والتدبر واستنباط المعاني في صورة القراءة من المصحف أكثر. قال في اللمعات وفي كليته نظر.

(14/457)


2188- قوله: (تصدأ) بالهمز أي يعرض لها دنس ووسخ بتراكم الغفلات وتزاحم الشهوات (كما يصدأ) أي يتوسخ من صدى الحديد كسمع وصدؤككرم علاه الصدأ، وهو مادة لونها يأخذ من الحمرة والشقرة تتكون على وجه الحديد ونحوه بسبب رطوبة الهواء (وما جلاءها) بكسر الجيم أي آلة جلاء صدأ القلوب
كثرة ذكر الموت، وتلاوة القرآن)) روى البيهقي الأحاديث الأربعة في شعب الإيمان.
2189- (61) وعن أيفع بن عبد الكلاعي، قال: ((قال رجل يا رسول الله!

(14/458)


من وسخ العيوب (كثرة ذكر الموت) وهو الواعظ الصامت ويوافقه الحديث المشهور أكثر ذكر هادم اللذات بالمهملة والمعجمة أي قاطعها أو مزيلها من أصلها (وتلاوة القرآن) بالرفع ويجوز جره وهو الواعظ الناطق فهما بلسان الحال وبيان القال يبردان عن قلوب الرجال أوساخ محبة الغير من الجاه والمال (روى البيهقي الأحاديث الأربعة الخ) الحديث الأول أي حديث أبي هريرة أخرجه الحاكم أيضا (ج2ص439) بلفظ: أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه، وفي سنده عبدالله بن سعيد المقبري، ونسبه السيوطي في الجامع الصغير، وعلى المتقى في كنز العمال لابن أبي شيبة أيضا، ونسبه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج7ص163) إلى أبي يعلى وقال فيه عبدالله ابن سعيد بن أبي سعيد المقبري وهو متروك. وقد ذكره الثلاثة بلفظ: التمسوا غرائبه بدل قوله اتبعوا غرائبه ورواه أيضا البيهقي في الشعب والديلمي بأطول من هذا كما في الكنز. وفي الباب عن ابن مسعود عند الطبراني في الأوسط ذكره الهيثمي وقال فيه نهشل وهو متروك. والحديث الثاني أي حديث عائشة عزاه في الجامع الصغير وكنز العمال إلى الدار قطني في الإفراد والبيهقي في الشعب، ولا يدري حال سنده. والحديث الثالث أي حديث عثمان بن عبدالله بن أوس عن جده، أخرجه أيضا ابن عدي والطبراني في الكبير كما في الجامع الصغير والكنز ومجمع الزوائد قال الهيثمي: وفيه أبوسعيد بن عوذ وثقه ابن معين في رواية وضعفه في أخرى وبقية رجاله ثقات. قلت: قال الذهبي في الميزان (ج2ص163) والحافظ في اللسان (ج6ص383) أبوسعيد بن عوذ المكتب حدث عن بعض التابعين اسمه رجاء بن الحارث ضعيف، روى أحمد أبي مريم عن يحيى بن معين ليس به بأس وروى غيره عن ابن معين ضعيف. ثم ذكرا هذا الحديث ونقلا عن ابن عدي أنه قال مقدار ما يرويه أبوسعيد بن عوذ غير محفوظ وفي الباب عن أبي سعيد أخرجه الحكيم الترمذي والبيهقي في الشعب بإسناد ضعيف، وعن عمرو بن أوس أخرجه ابن مردوية، وعن ابن

(14/459)


مسعود أخرجه أبونعيم في الحلية والبيهقي في الشعب، وعن عبادة بن الصامت أخرجه الحكيم الترمذي كما في الجامع الصغير. والحديث الرابع أي حديث ابن عمر رواه أيضا محمد بن نصر وأبونعيم في الحلية والخرائطي في اعتلال القلوب والخطيب في التاريخ كما في الكنز ولم أقف على حال سنده.
2189- قوله: (وعن أيفع) بفتح الهمزة وسكون التحتانية وفتح الفاء بعدها عين مهملة بوزن أحمد (ابن عبد) بالتنوين (الكلاعي) بفتح الكاف وخففة اللام وبالعين المهملة منسوب إلى ذي الكلاع قبيلة في اليمن. وقيل: موضع منه وأيفع هذا ذكره الحافظ في الإصابة في القسم الرابع من حرف الألف وهو مخصوص
أي سورة القرآن أعظم؟ قال: (قل هو الله أحد)

(14/460)


يمن ذكر في الكتب المؤلفة في الصحابة على سبيل الوهم والغلط. قال في (ج1ص135) أيفع بن عبد الكلاعي تابعي صغير استدركه أبوموسى المديني. وقال أخرجه الإسماعيلي في الصحابة. قال الإسماعيلي: حدثنا أحمد بن الحسن حدثنا الحكم بن موسى عن الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو السكسكي الحمصي، قال سمعت أيفع بن عبد الكلاعي على منبر حمص يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أدخل الله أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. قال: يا أهل الجنة كم لبثتم في الأرض عدد سنين - الحديث. وقد تابعه أبويعلى عن الهيثم بن خارجة عن الوليد رجال إسناده ثقات إلا أنه مرسل أو معضل ولا يصح لأيفع سماع من صحابي، وإنما ذكر ابن أبي حاتم روايته عن راشد بن سعد (المقرئي الحمصي من ثقات أوساط التابعين) وقال عبدان سمعت محمد ابن المثنى يقول مات أيفع سنة ست ومائة. وقال الدارمي في مسنده: أخبرنا يزيد بن هارون عن حريز بن عثمان عن أيفع بن عبد عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل آية الكرسي وهو مرسل أيضا أو معضل- انتهى كلام الحافظ. هذا وقد ظن المصنف والجزري وغيرهما إن أيفع بن عبد هذا هو أيفع بن ناكورا (بالنون وضم الكاف) المعرف بذي الكلاع الحميري وهذا خطأ والصواب أنه غيره الأول متأخر وهذا زمنه متقدم عليه، واختلف في اسمه واسم أبيه فقيل أسميفع سميفع، ويقال أيفع بن ناكورا. وقيل ابن حوشب بن عمرو بن يعفر بن يزيد الحميري وكان يكنى أبا شرحبيل ويقال أبا شراحيل بعث إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - جريرا فأسلم. قال ابن عبدالبر: كان يعني أيفع بن ناكورا المعروف بذي الكلاع رئيسا في قومه مطاعا متبوعا نكتب إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في التعاون على الأسود ومسيلمة وطليحة وكان الرسول إليه جرير بن عبدالله البجلي فأسلم وخرج مع جرير (وذي عمر) إلى النبي صلى الله عليه وسلم فمات النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يصلا إليه. قال ابن عبدالبر: ولا

(14/461)


أعلم لذي الكلاع صحبة أكثر من إسلامه وإتباعه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وقدم في زمن عمر فروى عنه وشهد صفين مع معاوية وقتل بها سنة سبع وثلاثين قتله الأشتر النخعي، وقيل غيره. قال ولا أعلم له رواية إلا عن عمر وعوف بن مالك، ونقل الحافظ عن معجم الشعراء للمرزباني أنه قال أسميفع بن الأكور ذو الكلاع الأصغر مخضرم له مع عمر أخبار ثم بقي إلى أيام معاوية (أي سورة القرآن أعظم) أي في شأن التوحيد فلا ينافي ما مر في الفاتحة إنها أعظم سورة القرآن. وقيل إنها أعظم بعد الفاتحة. وقال ابن حجر: حديث الفاتحة طرقه كلها صحيحة بخلاف هذا الحديث. وقال في اللمعات: قد سبق إن أعظم سورة في القرآن فاتحة الكتاب فيعتبر تعدد الجهات ففاتحة الكتاب أعظم من جهة جامعيتها المقاصد القرآن ووجوب قراءتها في الصلاة، وقل هو الله أحد لبيان توحيد الحق سبحانه وآية الكرسي لجامعية صفاته الثبوتية والسلبية وعظمته وجلالته وخواتيم سورة البقرة لاشتمالها على الدعاء
قال: فأي آية في القرآن أعظم؟ قال: آية الكرسي (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) قال: فبآي آية يا نبي الله! تحب أن تصيبك وأمتك؟ قال: خاتمة سورة البقرة، فإنها من خزائن رحمة الله تعالى من تحت عرشه، أعطاها هذه الأمة، لم تترك خيرا من خير الدنيا والآخرة إلا اشتملت عليه)) رواه الدارمي.
2190- (62) وعن عبدالملك بن عمير مرسلا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((في فاتحة الكتاب شفاء من كل داء))

(14/462)


الجامع لخير الدنيا والآخرة والله تعالى أعلم (فأي آية في القرآن أعظم) أي في بيان صفاته تعالى (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) أي إلى آخرها (تحب أن تصيبك وأمتك) أي خيرها وبركتها وقيل: ثوابها وفائدتها (قال خاتمة سورة البقرة) أي من آمن الرسول أي هي التي أحب أن تنالني وأمتي فائدتها قبل بقية القرآن (من تحت عرشه) خبر بعد خبر أي نزولها من تحت عرشه أو التقدير من خزائن رحمة الله الكائنة أو كائنة من تحت عرشه وهذا بحسب الإعراب، وأما معناه فأنا على حقيقة إدراكه في حجاب (أعطاها هذه الأمة) أي بخصوصها (إلا اشتملت) أي تلك الخاتمة (عليه) أي على ذلك الخير عبارة وإشارة. قال الطيبي: أما خير الآخرة فإن قوله: ?آمن الرسول? إلى قوله ?لا نفرق بين أحد من رسله? إشارة إلى الإيمان والتصديق وقوله: ?سمعنا وأطعنا? إلى الإسلام والانقياد والأعمال الظاهرة وقوله: ?إليك المصير? إشارة إلى جزاء العمل في الآخرة وقوله: ?لا يكلف الله نفسا? إلى قوله: ?وانصرنا على القوم الكافرين? إشارة إلى المنافع الدنيوية والله أعلم (رواه الدارمي) في فضائل القرآن. قال حدثنا أبوالمغيرة (عبدالقدوس بن الحجاج الحمصي) ثنا صفوان ابن عمرو (السكسكي) حدثني أيفع بن عبد الكلاعي قال، قال رجل يا رسول الله! الخ ورجاله ثقات إلا أنه مرسل أو معضل كما تقدم ولم أقف على من خرجه غيره.

(14/463)


2190- قوله: (وعن عبدالملك بن عمير) بضم عين مهملة وفتح ميم مصغرا ابن سويد اللخمي حليف بني عدي الكوفي، ويقال الفرسي بفتح الفاء والراء ثم مهملة نسبة إلى فرس له سابق كان يقال القبطي بكسر القاف وسكون الموحدة، وربما قيل ذلك لعبدالملك ثقة فقيه تغير حفظه، وربما دلس من أوساط التابعين مات سنة ست وثلاثين وله مائة وثلاث سنين كذا في التقريب. (شفاء من كل داء) أي جسماني وروحاني بأن تقرأ وتتلى ثم يتفل في المريض أو تكتب وتمحي وتسقي وتخلف الشفاء لسوء الطوية وضعف الإيمان واليقين وعدم الإخلاص
رواه الدارمي، والبيهقي في شعب الإيمان.
2191- (63) وعن عثمان بن عفان، قال: ((من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة)).
2192- (64) وعن مكحول، قال: ((من قرأ سورة آل عمران يوم الجمعة صلت عليه الملائكة إلى الليل)). رواهما الدارمي.
قال الطيبي: يشمل داء الجهل والكفر والمعاصي والأمراض الظاهرة. ولقد بين ابن القيم في كتابه الطب النبوي وجه كون الفاتحة شفاء من الأدواء سيما من السم فعليك أن تراجع ما كتب فيه في رقية اللديغ بالفاتحة. وأما مسألة شرب المريض ما كتب في الإناء من القرآن بعد غسله للاستشفاء فراجع لذلك (الإتقان ج2ص166) (رواه الدارمي) عن قبيصة بن عقبة السواءي عن الثوري عن عبدالملك بن عمير ورجاله ثقات إلا أنه مرسل (والبيهقي إلخ) قال السيوطي في الإتقان (ج2ص163) أخرج البيهقي وغيره من حديث عبدالله بن جابر في فاتحة الكتاب شفاء من كل داء، وأخرج الخلعي في فوائده من حديث جابر بن عبدالله فاتحة الكتاب شفاء من كل شي إلا السام والسام الموت. وأخرج سعيد بن منصور في سننه والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد وأبوالشيخ في الثواب عن أبي هريرة وأبي سعيد معا فاتحة الكتاب شفاء من السم.

(14/464)


2191- قوله: (من قرأ آخر آل عمران) أي من قوله تعالى: ?إن في خلق السموات والأرض? [آل عمران: 19] إلى آخر السورة ( في ليلة) أي أولها أو آخرها، وقد ثبت قرائته عليه الصلاة والسلام أول ما استيقظ من نومه من الليل لصلاة التهجد (كتب له قيام ليلة) أي ثواب صلاة التهجد. وقال القاري: أي كتب من القائمين بالليل.
2192- قوله: (وعن مكحول) الشامي التابعي المشهور (صلت عليه الملائكة) أي دعت له واستغفرت (رواهما الدارمي) أما أثر عثمان فرواه عن إسحاق بن عيسى عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عثمان وابن لهيعة قد تقدم الكلام فيه. وأما أثر مكحول فرواه عن محمد بن المبارك عن صدقة بن خالد عن يحيى بن الحارث (الذماري الغساني الشامي) عن مكحول وهو مقطوع، والمقطوع في اصطلاحهم ما جاء عن التابعي أو من دونه من قوله أو فعله موقوفا عليه وهو ليس بحجة كالموقوف (وهو المروي عن الصحابي قولا له أو فعلا أو تقريرا) إلا إذا كان ذلك مما لا مجال للاجتهاد فيه فيكون في حكم المرفوع كالأخبار عما يحصل بفعله ثواب مخصوص مثلا والأمر ههنا كذلك وهكذا يقال في أثر عثمان.
2193- (65) وعن جبير بن نفير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطيتهما من كنزه الذي تحت العرش، فتعلموهن وعلموهن نساءكم، فإنها صلاة وقربان ودعاء)). رواه الدارمي مرسلا.

(14/465)


2193- قوله: (وعن جبير) بضم الجيم وفتح الموحدة وسكون التحتية وبالراء مصغرا (بن نفير) بضم النون وفتح الفاء وسكون التحتانية وبالراء ابن مالك بن عامر الحضرمي الحمصي ثقة جليل من كبار تابعي أهل الشام مخضرم، ولأبيه صحبة فكأنه ما وفد إلا في عهد عمر مات سنة ثمانين، وقيل بعدها قاله في التقريب. وقال في التهذيب: أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه وعن أبي بكر الصديق مرسلا وعن عمر بن الخطاب وفي سماعه منه نظر، وعن أبيه وأبي ذر وخلق وعنه ابنه عبدالرحمن ومكحول وأبوالزاهرية وغيرهم (أعطيتهما) بصيغة المجهول وفي رواية الحاكم أعطانيهما (من كنزه) أي المعنوي أو الحسي (فتعلموهن) أي كلماتهما (وعلموهن نساءكم) لعل تخصصهن لكونهن أولى بتعليمهن من غيرهن لا لأن غيرهن لا يعلمهن، وزاد في رواية الحاكم وأبناءكم (فإنها) أي كلماتهما أو كل واحدة من الآيتين وفي بعض النسخ من السنن للدارمي فإنهما أي بضمير التثنية (صلاة) أي رحمة خاصة لقائلها أو رحمة عظيمة لما فيها من النص على رفع الاصر عن هذه الأمة أو استغفار أو ما يصلي بها. قال القاري: وهو الأظهر لأن الاستغفار دعاء فيتكرر (وقربان) بضم القاف وكسرها أي ما يتقرب به إلى الله تعالى وقوله "قربان" كذا في النسخ الحاضرة من المشكاة وهكذا في بعض النسخ من سنن الدارمي، ووقع في بعضها "قرآن" بدل "قربان" وهكذا وقع في رواية الحاكم، والمعنى إنها صلاة أي جملة الآيتين يصلي بهما يعني يقرأ بهما المصلى في صلاته وقرآن أي يتلى بهما قرآنا يعني يتلو بهما التالي في تلاوته. والحاصل إنهما لفظ منزل عليه صلى الله عليه وسلم متعبد بتلاوته كغيرهما (ودعاء) أي ويدعى بهما يعني يدعو بهما الداعي في دعاءه، والمراد إنهما مشتملتان على الدعاء وهذا لا ينافي إن غيرهما منه ما هو مشتمل على الدعاء. قال الطيبي: الضمير في أنها راجع إلى معنى الجماعة من الكلمات والحروف في قوله بآيتين على طريقة قوله

(14/466)


تعالى: ?وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا? [الحجرات:9] ولم يرد بالصلاة الأركان لأنها غيرها ولا الدعاء للتكرار بل أراد الاستغفار نحو غفرانك واغفر لنا. وأما القربان فإما إلى الله كقوله ?وإليك المصير? وإما إلى الرسول كقوله ?آمن الرسول? (رواه الدارمي مرسلا) وكذا الحاكم (ج1ص562) وأبوداود فسي مراسيله، وأخرجه الحاكم أيضا مسندا موصولا عن جبير بن نفير عن أبي ذر ومدار المرسل والموصول على معاوية بن صالح الراوي عن أبي الزاهرية عن جبير. قال الحاكم بعد روايته عن أبي ذر: هذا حديث
2194- (66) وعن كعب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اقرؤا سورة هود يوم الجمعة)). رواه الدارمي.
2195- (67) وعن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له النور ما بين الجمعتين)) رواه البيهقي في الدعوات الكبير.
صحيح على شرط البخاري. قال الذهبي: كذا قال: ومعاوية لم يحتج به البخاري. وقال المنذري في الترغيب معاوية بن صالح لم يحتج به البخاري، إنما احتج به مسلم. قلت: قال أبوحاتم لا يحتج به، وكان يحيى بن سعيد لا يرضاه. وقال أبوإسحاق الفزاري: ما كان بأهل أن يروي عنه. ووثقه أحمد وابن معين وعبدالرحمن بن مهدي وأبوزرعة والنسائي والعجلي والبزار وابن حبان، وأخرج له مسلم في صحيحه والتعديل مقدم على الجرح المبهم سيما إذا كان من متعنت فحديثه صحيح أو حسن لذاته.
2194- قوله: (وعن كعب) هو كعب بن ماقع الحميري المعروف بكعب الأحبار من ثقات كبار التابعين مخضرم قد سبق ترجمته (إقرؤا سورة هود) يصرف ولا يصرف (يوم الجمعة) لم يذكر ثواب قراءتها لظهوره أو أشار إلى كثرته وعدم إحصاءه والله أعلم (رواه الدارمي) من طريق عبدالله بن رباح عن كعب وهو مرسل ونسبه السيوطي في الجامع الصغير إلى البيهقي في الشعب. وقال أخرجه عن كعب الأحبار مرسلا. قال العزيزي: قال الحافظ ابن حجر مرسل صحيح الإسناد.

(14/467)


2195- قوله: (أضاء له) أي في قلبه أو قبره أو يوم حشره في الجمع الأكبر قاله القاري (النور) قيل أي نور السورة أو نور أجرها.وقيل أي نور الهداية والإيمان والحمل على ظاهره أولى لعدم ما ينافيه عقلا وشرعا كما لا يخفى (ما بين الجمعتين) أي مقدار ما بينهما من الزمان. قال الطيبي: قوله "أضاء" له يجوز أن يكون لازما وقوله "ما بين الجمعتين" ظرف فيكون إشراق ضوء النور فيما بين الجمعتين بمنزلة إشراق النور نفسه مبالغة ويجوز أن يكون متعديا فيكون ما بين مفعولا به وعلى الوجهين فسرت الآية فلما أضاءت ما حوله- انتهى. وقوله أضاء له النور كذا في النسخ الحاضرة من المشكاة ووقع عند الحاكم (ج2ص368) والبيهقي في سننه (ج3ص249) أضاء له من النور وهكذا نقله الجزري في الحصن والسيوطي في الجامع الصغير والشوكاني في تحفة الذاكرين وعلى المتقى في الكنز فالظاهر في نسخ المشكاة إن "ما بين" فاعل لأضاء على كونه لازما ومفعول على كونه متعديا. قال الشوكاني: معنى إضاءة النور له ما بين الجمعتين إنه لا يزال عليه أثرها وثوابها في جميع الأسبوع (رواه البيهقي في الدعوات الكبير) وأخرجه أيضا الحاكم (ج2ص368) من رواية نعيم بن حماد الخزاعي المروزي عن
2196- (68) وعن خالد بن معدان، قال: ((اقرؤا المنجية وهي ألم تنزيل، فإنه بلغني أن رجلا كان يقرأها ما يقرأ شيئا غيرها، وكان كثير الخطايا، فنشرت

(14/468)


هشيم عن أبي هاشم يحيى بن دينار الرماني عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي سعيد الخدري ومن طريق الحاكم أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (ج3ص249) قال الحاكم: صحيح الإسناد. وقال الذهبي: نعيم ذو مناكير. قلت: نعيم بن حماد هذا من الحفاظ الكبار كان أحمد يوثقه وقال ابن معين: كان من أهل الصدق إلا أنه يتوهم الشيء فيخطئ فيه. وقال العجلي: ثقة. وقال أبوحاتم: صدوق. روى عنه البخاري مقرونا، وروى له مسلم في المقدمة موضعا واحدا، وأصحاب السنن إلا النسائي. وقال النسائي: ضعيف. ونسبه أبوبشر الدولابي إلى الوضع وتعقب ذلك ابن عدي بأن الدولابي كان متعصبا عليه لأنه كان شديدا على أهل الرأي. قال الحافظ: هذا هو الصواب. وقال في التقريب: صدوق يخطئ كثيرا فقيه عارف بالفرائض. وقد تتبع ابن عدي ما أخطأ فيه. وقال باقي حديثه مستقيم والحديث عزاه المنذري في الترغيب للنسائي أيضا ورواه الدارمي وسعيد بن منصور عن هشيم عن أبي هاشم بإسناده موقوفا على أبي سعيد بلفظ: من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق، ورواه البيهقي في الشعب عن أبي سعيد بهذا اللفظ مرفوعا. وروى النسائي في اليوم والليلة والطبراني في الأوسط والحاكم أيضا (ج1ص564) من طريق يحيى بن أبي كثير عن شعبه عن أبي هاشم بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قرأ سورة الكهف كما أنزلت كانت له نورا يوم القيامة من مقامه إلى مكة ومن قرأ عشر آيات من آخرها ثم خرج الدجال لم يسلط عليه الحديث. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي وقال الهيثمي (ج7ص53) بعد عزوه للطبراني ورجاله رجال الصحيح. قال الحاكم والبيهقي: وبمعناه رواه سفيان الثوري عن أبي هاشم فأوقفه. وقال النسائي بعد تخريجه: رفعه خطأ والصواب موقوفا، ثم رواه من رواية الثوري وغندر عن شعبة موقوفا ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج1ص239) وفي أسانيدهم كلها كما ترى أبوهاشم يحيى بن

(14/469)


دينار الرماني والأكثرون بل كلهم على توثيقه. قال ابن عبدالبر: اجمعوا على أنه ثقة. وروى أحمد (ج3ص439) وابن السني (ص217) والطبراني من حديث معاذ بن أنس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نورا من قدمه إلى رأسه، ومن قرأها كلها كانت له نورا ما بين السماء والأرض وفي إسناده ابن لهيعة، وقد سبق الكلام فيه واختلف أيضا في رفعه ووقفه.
2196- قوله: (وعن خالد بن معدان) تقدم أنه تابعي (اقرؤا) أي في أول الليل كما يشعر به صنيع خالد وعمله (المنجية) أي من عذاب القبر وعقاب الحشر وقيل من عذاب الدنيا والآخرة (وهي ألم تنزيل) التي فيها آية السجدة (فإنه) أي الشأن (بلغني) قيل أي عن الصحابة فإنه لقي سبعين منهم (إن رجلا) أي من هذه الأمة (كان يقرأها ما يقرأ شيئا غيرها) أي لم يجعل لنفسه وردا غيرها (فنشرت) أي بعد ما تصورت السورة أو
جناحها عليه، قالت: رب اغفر له فإنه كان يكثر قرأتي، فشفعها الرب تعالى فيه، وقال: اكتبوا له بكل خطيئة حسنة، وارفعوا له درجة.
2197- (69) وقال أيضا إنها تجادل عن صاحبها في القبر، تقول: ((اللهم إن كنت من كتابك فشفعني فيه، وإن لم أكن من كتابك فامحني عنه، وإنها تكون كالطير تجعل جناحها عليه فتشفع له، فتمنعه من عذاب القبر. وقال في تبارك مثله. وكان خالد لا يبيت حتى يقرأهما)).
2198- (70) وقال طاووس: فضلتا
ثوابها على صورة طير (جناحها عليه) أي لتظله أو جناح رحمتها على الرجل القاري حماية له (قالت) بلسان القال وهو بدل بعض أو اشتمال من نشرت، لأن النشر مشتمل على الشفاعة الحاصلة بقولها رب اغفرلي (يكثر) من الإكثار (فشفعها) بالتشديد أي قبل شفاعتها (فيه) أي في حقه (بكل خطيئة) أي بدلها (حسنة) أي فضلا وإحسانا وكرما وإمتنانا.

(14/470)


2197- قوله: (وقال) أي خالد (أيضا) أي مثل قوله الأول موقوفا (إنها) أي السورة ألم تنزيل (تجادل) أي تخاصم وتدفع غضب الرب وعذاب القبر (عن صاحبها) أي من يكثر قراءتها فإن صاحب الشيء ملازم له (تقول) بيان المجادلة (اللهم إن كنت) أي إذ كنت (من كتابك) أي القرآن المكتوب في اللوح المحفوظ (فشفعني فيه) بالتشديد أي فاقبل شفاعتي في حقه (وإن لم أكن من كتابك) أي على الفرض والتقدير (فامحني) بضم الحاء (عنه) أي عن كتابك فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. قال ابن حجر: ونظير ذلك تدلل بعض خواص الملك عليه بقوله إن كنت عبدك فشفعني في كذا وإلا فبعني. وقال الطيبي: هو كما يقول الأب لابنه الذي لم يراع حقه إن كنت لك أبا فراع حقي وإن لم أكن لك أبا فلن تراعي حقي- انتهى. ومراده إن المراعاة لازمة واقعة البتة فلا ترديد في الحقيقة، ولما كانت مراعاة حق الأب ألزم من مراعاة الابن لم يقل كما يقول الابن لأبيه مع أنه كان أظهر في المناسبة قاله القاري (وإنها) أي وقال خالد إنها (تكون) أي في القبر (كالطير تجعل جناحها عليه) حماية له وقيل لتظله (فتشفع) بسكون الشين وفتح الفاء (وقال) أي خالد (في تبارك) أي في فضيلة سورته (مثله) أي مثل ما قال في سورة السجدة (وكان) في سنن الدارمي فكان (لا يبيت) أي لا يرقد.
2198- قوله: (وقال طاووس) أي ابن كيسان التابعي المشهور (فضلتا) بالتشديد أي سورة ألم تنزل
على كل في سورة القرآن بستين حسنة)). رواه الدارمي.

(14/471)


وسورة تبارك (على كل سورة في القرآن بستين حسنة) قال القاري: هذا لا ينافي الخبر الصحيح إن البقرة أفضل سور القرآن بعد الفاتحة، إذ قد يكون في المفضول مزية لا توجد في الفاضل أوله خصوصية بزمان أو حال كما لا يخفى على أرباب الكمال، أما ترى إن قراءة سبح والكافرون والإخلاص في الوتر أفضل من غيرها، وكذا سورة السجدة والدهر بخصوص فجر الجمعة أفضل من غيرهما، فلا يحتاج في الجواب إلى ما قاله ابن حجر إن ذاك حديث صحيح وهذا ليس كذلك انتهى كلام القاري. قال شيخنا في شرح الترمذي (ج4ص48) ما ذكره القاري من وجه الجمع بين هذين الحديثين لا ينفي الاحتياج إلى ما ذكر ابن حجر فتفكر- انتهى. وقيل: المراد تفضيلهما في الانجاء من عذاب القبر والمنع منه (رواه الدارمي) أي مقطوعا يعني موقوفا على التابعي من قوله ولكنه في حكم المرفوع المرسل فإن مثله لا يقال بالرأي. واعلم أن ما ذكره المصنف عن خالد بن معدان إنما هو حديثان، أحدهما قد تم على قوله درجة، ورواه الدارمي عن أبي المغيرة عن عبدة عن خالد بن معدان ورجاله لا بأس بهم، والثاني تم على قوله حتى يقرأهما، رواه الدارمي عن عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح الحضرمي عن أبي خالد عامر بن جشيب وبحير بن سعد عن خالد بن معدان به وعبدالله بن صالح المصري كاتب الليث صدوق كثير الغلط ثبت في كتابه وكانت فيه غفلة قاله في التقريب، وقول طاووس أثر ثالث رواه الدارمي وكذا ابن السني (ص217) من طريق ليث بن أبي سليم عن طاووس، وأخرجه الترمذي من هذا الطريق بلفظ: تفضلان على كل سورة من القرآن بسبعين حسنة. وليث بن أبي سليم. قال الحافظ: إنه صدوق اختلط أخيرا ولم يتميز حديثه فترك، وكان الأولى أن يفصل المصنف بين الآثار الثلاثة ويقول في الآخر روى الأحاديث أو الآثار الثلاثة الدارمي كعادته في مثل هذا. وأما ما وقع في رواية الترمذي بسبعين فالظاهر أنه من تصحيف الناسخ والله أعلم يدل على ذلك إنه ذكره السيوطي

(14/472)


في الدر بلفظ: بستين كما في المشكاة وعزاه للترمذي والدارمي وابن مردوية ويدل عليه أيضا رواية ابن السني. وفي الباب عن ابن مسعود أخرجه الحاكم (ج2ص498) وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي قال يؤتي الرجل في قبره فتوتي رجلاه ليس لكم على ما قبلي سبيل كان يقوم يقرأ بي سورة الملك ثم يؤتي من قبل صدره أو قال بطنه فيقول ليس لكم على ما قبلي سبيل كان يقرأ بي سورة الملك ثم يؤتي رأسه فيقول ليس لكم على ما قبلي سبيل كان يقرأ بي سورة الملك قال فهي المانعة تمنع من عذاب القبر وهي في التوراة سورة الملك من قرأها في ليلة، فقد أكثر وأطاب. وأخرجه النسائي مختصرا بلفظ: من قرأ ?تبارك الذي بيده الملك? [الملك:1] كل ليلة منعه الله عزوجل بها من عذاب القبر، وكنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نسميها المانعة لأنها في كتاب الله عزوجل سورة المانعة من قرأها في كل ليلة فقد أكثر وأطاب.
2199- (71) وعن عطاء بن أبي رباح، قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قرأ يس في صدر النهار قضيت حوائجه)). رواه الدارمي مرسلا.
2200- (72) وعن معقل بن يسار المزني، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قرأ يس ابتغاء وجه الله تعالى غفر له ما تقدم من ذنبه، فاقرأوها عند موتاكم)). رواه البيهقي في شعب الإيمان.
2201- (73) وعن عبدالله بن مسعود، أنه قال: ((إن لكل شي سناما، وإن سنام القرآن سورة البقرة،

(14/473)


2199- قوله: (وعن عطاء بن أبي رباح) بفتح الراء والموحدة وعطاء هذا من مشاهير التابعين تقدم ترجمته (من قرأ يس) بالسكون (في صدر النهار) أي أوله (قضيت حوائجه) أي دينية ودنيوية أو آخرة أو مطلقا وهو الأظهر (رواه الدارمي مرسلا) رجال إسناده ثقات إلا شجاع بن الوليد بن قيس السكوني وهو صدوق ورع له أوهام كذا في التقريب وفي الباب عن ابن عباس عند أبي الشيخ بلفظ: من قرأ يس ليلة ضعف على غيرها من القرآن عشرا، ومن قرأها في صدر النهار وقدمها بين يدي حاجته قضيت.
2200- قوله: (وعن معقل) بفتح الميم وسكون المهملة وكسر القاف (بن يسار) بفتح التحتية (المزني) بضم الميم وفتح الزاي (ابتغاء وجه الله) أي طلبا لرضاه لا غرضا سواه. وقال المناوي أي ابتغاء النظر إلى وجه الله تعالى في الآخرة أي لا للنجاة من النار ولا للفوز بالجنة، ويؤيد الأول رواية أحمد والنسائي وغيرهما بلفظ: يس قلب القرآن ولا يقرأها رجل يريد بها الله والدار الآخرة إلا غفر له فاقرؤها على موتاكم (غفر له ما تقدم من ذنبه) أي الصغائر وكذا الكبائر إن شاء قاله القاري (فاقرؤها عند موتاكم) أي من حضره الموت قال الطيبي: الفاء جواب شرط محذوف أي إذا كانت قراءة يس بالإخلاص تمحو الذنوب فاقرؤها عند من شارف الموت حتى يسمعها ويجريها على القلب فيغفر له ما قد سلف (رواه البيهقي في شعب الإيمان) وأخرجه نحوه أحمد والنسائي وغيرهما كما تقدم، وفي الباب عن جندب بن عبدالله عند ابن حبان وغيره وعن أبي هريرة عند الدارمي وابن السني (ص217) والطبراني والبيهقي والعقيلي وغيرهم.
2201- قوله: (إن لكل شي سناما) بفتح السين أي علوا ورفعة مستعار من سنام البعير، ثم كثر استعماله فيها حتى صار مثلا (وإن سنام القرآن سورة البقرة) إما لطولها واحتوائها على أحكام كثيرة أو لما فيها
وإن لكل شي لبابا، وإن لباب القرآن المفصل)). رواه الدارمي.

(14/474)


2202- (74) وعن علي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لكل شي عروس، وعروس القرآن الرحمن)).
2203- (75) وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا)).
من الأمر بالجهاد وبه الرفعة الكبيرة قاله القاري. وقال الشوكاني: سنام الشيء أعلاه فالمعنى إن سورة البقرة أعلى القرآن وأرفعه قيل: والمراد بكونها سناما للقرآن إنها جمعت من الأحكام ما لم يجمعه غيرها. وقيل لطولها طولا يزيد على كل سورة من سور القرآن. والظاهر أن هذه الفضيلة لها ثابتة من غير نظر إلى طولها أو جمعها لكثير من الأحكام ولهذا كان أخذها بركة وكان الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه (وإن لكل شي) أي مما يصح أن يكون له لب (لبابا) بضم اللام أي خلاصة هي المقصودة منه. قال الدارمي اللباب الخالص (وإن لباب القرآن المفصل) لأنه فصل فيها ما أجمل في غيره وهو من الحجرات إلى آخر القرآن على المشهور (رواه الدارمي) أي موقوفا وأخرجه أيضا الطبراني وفي سندهما عاصم بن بهدلة المقريء وهو صدوق له أوهام حجة في القراءة وحديثه في الصحيحين مقرون قاله الحافظ في التقريب. وقال الهيثمي بعد عزو الحديث للطبراني: وفيه عاصم ابن بهدلة وهو ثقة وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح- انتهى. وأخرجه الحاكم (ج1ص561) وفيه أيضا عاصم بن بهدلة وليس فيه ذكر لباب القرآن وفي الباب عن أبي هريرة عند الترمذي والحاكم (ج1ص560) وليس فيه أيضا ذكر لباب القرآن وعن معقل بن يسار عند أحمد والطبراني كما في الكنز وليس فيه أيضا ذكر تلك الجملة.

(14/475)


2022- قوله: (لكل شي) أي مما يصح أن يكون له عروس (عروس) أي جمال وزينة وحسن وبهاء (وعروس القرآن الرحمن) وذلك لتكرر قوله ?فبأي آلاء ربكما تكذبان? [الرحمن: 13] قاله في اللمعات. وقال القاري: لاشتمالها على النعماء الدنيوية والآلاء الأخروية ولاحتوائها على أوصاف الحور العين التي من عرائس أهل الجنة ونعوت حليهن وحللهن. وقال الطيبي: العروس يطلق على الرجل والمرأة عند دخول أحدهما على الآخر وأراد الزينة فإن العروس تحلى بالحلي وتزين بالثياب أو أراد الزلفى إلى المحبوب والوصول إلى المطلوب. وقال الحفني: العروس مما يستوي فيه المذكر والمؤنث فشبه سورة الرحمن بالعروس بجامع الحسن والميل والطرب بكل فإن العارف إذا قرأ سورة الرحمن وتذكر النعم المكررة فيها حصل له الطرب بقدر مقامه وصفاء باله.
2203- قوله: (لم تصبه فاقة) أي حاجة وفقر (أبدأ) قال القاري: أي لم يضره فقر لما يعطي من
وكان ابن مسعود يأمر بناته يقرأن بها في كل ليلة)) رواهما البيهقي في شعب الإيمان.
2204- (76) وعن علي، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذه السورة ?سبح اسم ربك الأعلى?)). رواه أحمد.

(14/476)


الصبر الجميل والوعد الجزيل أو لم يصبه فقر قلبي لما يعطي من سعة القلب والمعرفة بالرب والتوكل والاعتماد عليه وتسليم النفس وتفويض الأمر إليه لما يستفيد من آيات هذه السورة سيما ما يتعلق فيها بخصوص ذكر الرزق من قوله تعالى: ?أفرأيتم ما تحرثون? [الواقعة: 63]وقوله عزوجل: ?وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون? [الواقعة:82]- انتهى. وقال في اللمعات: قد حض الشارع على بعض العبادات المؤثرة في الأمور الدنيوية التي حصولها ممد ومعين على الدين وأمور الآخرة وليكونوا مشغولين بالعبادة على أي وجه كان فذلك يورث المحبة بها ومحبتها تفضى إلى محبة من أتى بها لأن محبة المنعم جبلية، ومن هذه الجهة إمتنانه تعالى بقوله: ?أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون? [الشعراء: 133- 134] وأمثال ذلك (في كل ليلة) وفي بعض النسخ كل ليلة أي بإسقاط في (رواهما) أي الحديثين (البيهقي) حديث على لم أقف على سنده ولا على من خرجه غير البيهقي. وقال العزيزي: إسناده حسن وحديث ابن مسعود أخرجه أيضا ابن السني (ص218) ونسبه السيوطي في الإتقان (ج2ص165) للبيهقي والحارث ابن أبي أسامة وأبي عبيد وإسناد ابن السني حسن.

(14/477)


2204- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب هذه السورة) سورة ?سبح اسم ربك الأعلى? قال القاري أي محبة زائدة وهي نظير ما ورد في سورة الفتح هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس رواه البخاري وغيره عن عمر مرفوعا فزيادة المحبة في الفتح لما فيها من البشارة بالفتح والإشارة بالمغفرة، وفي هذه السورة لاشتمالها على تيسير الأمور في كل معسور بقوله ?ونيسرك لليسرى? وكان صلى الله عليه وسلم يواظب على قراءتها في أول ركعات الوتر وقراءة الإخلاصين في الركعتين الأخريين، ويمكن أن يكون محبته صلى الله عليه وسلم لها لما فيها من قوله: ?إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى? [الأعلى: 18- 19] وهو شاهد على كون القرآن حقا وحجة على المشركين وأهل الكتاب (رواه أحمد) (ج1ص96) من طريق ثوير بالمثلثة مصغرا ابن أبي فاختة عن أبيه عن على وثوير ضعيف متروك، فالحديث ضعيف الإسناد جدا. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج7ص36) بعد ذكره رواه أحمد وفيه ثوير بن أبي فاختة وهو متروك وذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره وقال تفرد به أحمد ولم يعله وعلى المتقى في كنز العمال ونسبه أيضا للبزار والدورقي وابن مردويه وأعله بثوير بن أبي فاختة.
2205- (77) وعن عبدالله بن عمرو، قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال أقرؤني يا رسول الله! فقال: ((اقرأ ثلاثا من ذوات (الرا) فقال: كبرت سني، واشتد قلبي، وغلظ لساني: فقال: فاقرأ ثلاثا من ذوات (حم) فقال مثل مقالته، قال الرجل: يا رسول الله! اقرءني سورة جامعة، فاقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم ?إذا زلزلت?

(14/478)


2205- قوله: (أتى رجل) لم يسم وفي رواية مختصرة من حديث أنس ذكره الجزري في جامع الأصول وعزاه لرزين. قال أي أنس بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه إعرابي (أقرئني) بفتح الهمزة وكسر الراء من الإقراء أي علمني (إقرأ ثلاثا) أي ثلاث سور (من ذوات الرا) بغير المد وهي رواية أحمد لكن بإفراد لفظه ذات بدل ذوات، وفي بعض النسخ من المشكاة من ذوات الراء بالمد والهمزة وهي رواية أبي داود والحاكم وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج5ص366) أي من السورة التي تبدأ بهذه الحروف الثلاثة التي تقرأ مقطعة ألف، لام، را، والذي في القرآن منها خمس سور هي مع أرقام ترتيبها في المصحف 10يونس، 11هود، 12يوسف، 14إبراهيم، 15الحجر (كبرت) بضم الباء وتكسر (سني) أي كثر عمري (واشتد قلبي) أي غلب عليه قلة الحفظ وكثرة النسيان (وغلظ) بضم اللام (لساني) أي ثقل بحيث لم يطاوعني في تعلم القرآن لا تعلم السور الطوال (قال) فإن كنت لا تستطيع قراءتهن (فاقرأ ثلثا من ذوات حم) فإن اقصر ذوات حم اقصر من ذوات الرا وفي المسند من ذات حم أي من السور التي تبدأ بهذين الحرفين حا، ميم، وهي في القرآن سبع سور، 40 غافر، 41 فصلت، 42 الشورى، 43 الزخرف، 44 الدخان، 45 الجاثية، 46 الأحقاف، (فقال) الرجل (مثل مقالته) الأولى ووقع عند أحمد وأبي داود وغيرهما بعد ذلك، فقال إقرأ ثلثا من المسبحات فقال مثل مقالته، والمراد من المسبحات السورة التي تبدأ بمادة التسبيح وهي سبع سور، 17 الإسراء 57 الحديد 59الحشر، 61 الصف، 62 الجمعة، 64 التغابن، 87الأعلى، (أقرئني سورة جامعة) أي بين وجازة المباني وغزارة المعاني أو للمطالب الدنيوية والأخروية والثواب والعقاب على سبيل الإيجاز (فاقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زلزلت) كأنه طلبه لما يحصل به الفلاح إذا عمل به فلذلك قال سورة جامعة، وفي هذه السورة آية زائدة لا مزيد عليها ?فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره?

(14/479)


[الزلزال: 8] والآية ولأجل هذا الجمع الذي لا حد له قال صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الحمر الأهلية لم ينزل على فيها شي إلا هذه الآية الجامعة الفاذة ?فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره? وبيان ذلك
حتى فرغ منها، فقال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليه أبدا ثم أدبر الرجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح الرويجل مرتين)). رواه أحمد، وأبوداود.
إنها وردت لبيان الاستقصاء في عرض الأعمال والجزاء عليها كقوله تعالى: ?ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين? [الأنبياء: 47] (حتى فرغ منها) أي النبي أو الرجل (فقال الرجل) هذا لفظ أبي داود وعند أحمد حتى إذا فرغ منها قال الرجل (والذي بعثك بالحق لا أزيد عليه أبدا) أي على العمل بما دل عليه ما أقرأتينه من فعل الخير وترك الشر ولعل القصد بالحلف تأكيد العزم لا سيما بحضوره صلى الله عليه وسلم الذي بمنزلة للبايعة والعهد. قال الطيبي: فكأنه قال حسبي ما سمعت ولا أبالي أن لا أسمع غيرها وقوله: "لا أزيد عليه" كذا في النسخ الحاضرة من المشكاة والذي في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود "لا أزيد عليها" وهكذا وقع في رواية الحاكم وابن السني وكذا نقله الجزري في جامع الأصول وفي الحصن والحافظ ابن كثير في تفسيره والشوكاني في فتح القدير (ثم أدبر الرجل) أي ولى دبره وذهب (أفلح) أي فاز وظفر بالمطلوب (الرويجل) تصغير رجل. قال في اللسان: وتصغيره رجيل ورويجل على غير قياس حكاه سيبويه، وفي التهذيب تصغير الرجل رجيل وعامتهم يقولون رويجل صدق ورويجل سوء على غير قياس يرجعون أي الراجل كذا حكاه الشيخ أحمد محمد شاكر في شرح مسند الإمام أحمد. قال الطيبي: هو تصغير تعظيم لعبد غوره وقوة إدراكه وهو تصغير شاذ إذ قياسه رجيل (مرتين) إما للتأكيد أو مرة للدنيا ومرة للآخرة. وقيل: لشدة إعجابه عليه

(14/480)


الصلاة والسلام منه وقوله: "قال أفلح الرويجل مرتين كذا في سنن أبي داود وعند أحمد وكذا ابن السني قال أفلح الرويجل أفلح الرويجل أي وقع مكررا وهكذا ذكره الشوكاني (رواه أحمد) (ج2ص169) (وأبو داود) في أواخر الصلاة وأخرجه أيضا الحاكم (ج2ص536) وابن السني (ص219) وابن عبدالحكم في فتوح مصر (ص258- 259) وابن حبان في صحيحه كما ذكره الشيخ أحمد محمد شاكر في شرح المسند ونسبه المنذري في مختصر السنن والحافظ ابن كثير في تفسيره والجزري في الحصن والشوكاني في فتح القدير (ج5ص465) للنسائي أيضا ونسبه أيضا الشوكاني لمحمد بن نصر والطبراني وابن مردويه والبيهقي، والحديث إسناده صحيح سكت عليه أبوداود والمنذري. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين واستدرك عليه الذهبي فقال "بل صحيح" قال الشيخ أحمد شاكر: يريد أنه صحيح ولكن ليس على شرطهما، وهو كما قال فإن عياش بن عباس روى له مسلم فقط وعيسى بن هلال (راوي الحديث عن عبدالله بن عمرو) لم يرو له واحد منهما.
2206- (78) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم؟ قالوا: ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية في كل يوم؟ قال: أما يستطيع أحدكم أن يقرأ ألهكم التكاثر؟)) رواه البيهقي في شعب الإيمان.
2207- (79) وعن سعيد بن المسيب، مرسلا، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قرأ ?قل هو الله أحد? عشر مرات بنى له بها قصر في الجنة، ومن قرأ عشرين مرة بنى له بها قصران في الجنة، ومن قرأها ثلثين مرة بنى له بها ثلاثة قصور في الجنة. فقال عمر بن الخطاب: والله يا رسول الله إذا لنكثرن قصورنا.

(14/481)


2206- قوله: (قالوا ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية في كل يوم) أي لا يستطيع كل أحد هذه القراءة على طريق المواظبة (قال أما يستطيع أحدكم أن يقرأ ألهكم التكاثر) أي إلى آخرها، أو هذه السورة فإنها كقراءة ألف آية في الثواب أو في التزهيد عن الدنيا والترغيب في علم اليقين بالعقبى (رواه البيهقي في شعب الإيمان) وأخرجه أيضا الحاكم (ج1ص566- 567) من طريق حفص بن ميسرة عن عقبة بن محمد بن عقبة عن نافع عن ابن عمر. قال الحاكم: رواة هذا الحديث كلهم ثقات وعقبة هذا غير مشهور وذكر الذهبي في تلخيص المستدرك والحافظ في اللسان (ج4ص179) كلام الحاكم، هذا وأقواه والحديث ذكره المنذري في الترغيب ونسبه للحاكم وقال رجال إسناده ثقات إلا أن عقبة لا أعرفه.
2207- قوله: (وعن سعيد بن المسيب) التابعي الكبير المشهور (مرسلا) بحذف الصحابي، وقد تقدم أن مراسيل سعيد بن المسيب أصح المرسلات على ما ذكره عن السيوطي الإمام أحمد. وقال الحاكم في علوم الحديث (ص25- 26) أصح المراسيل كما قال ابن معين مراسيل ابن المسيب، لأنه من أولاد الصحابة وأدرك العشرة وفقيه أهل الحجاز وأول الفقهاء السبعة الذين يعتد مالك بإجماعهم كإجماع كافة الناس، وقد تأمل الأئمة المتقدمون مراسيله فوجدوها بأسانيد صحيحة وهذه الشرائط لم توجد في مراسيل غيره. (ومن قرأها) أي السورة (ثلاثين مرة بنى له ثلاثة قصور في الجنة) لعله كور ليعلم إن كل ما زاد من الأعداد زيد له من الإمداد (إذا) بالتنوين جواب وجزاء فيه معنى التعجب (لنكثرن) من الإكثار (قصورنا) قال الطيبي: أي إذا كان الأمر على ما ذكرت من أن جزاء عشر مرات قصر في الجنة فأنا نكثر قصورنا بكثرة قراءة هذه السورة فلا حد للقصور
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أوسع من ذلك)). رواه الدارمي.

(14/482)


2208- (80) وعن الحسن، مرسلا، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قرأ في ليلة مائة آية لم يحاجه القرآن تلك الليلة، ومن قرأ في ليلة مائتي آية كتب له قنوت ليلة، ومن قرأ في ليلة خمسمائة إلى الألف أصبح وله قنطار من الأجر.
حينئذ ولا أوسع من الجنة شي (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسع) أي أكثر عطاء (من ذلك) أو قدرته ورحمته أوسع فلا تعجب. وقال في اللمعات: الظاهر أن يكون غرض عمر رضي الله عنه إظهار الميل والرغبة في تكثير الثواب كما يظهر من قوله إذا لنكثرن مع تضمنه شيئا من الاستبعاد فيكون الجواب إن ثواب الله وفضله ورحمته أوسع فارغبوا فيه ولا تستعبدوه. وكلام الطيبي منحصر في التعجب والاستبعاد وما ذكرنا أظهر فتدبر- انتهى. (رواه الدارمي) عن عبدالله بن يزيد عن حيوة عن أبي عقيل زهرة بن معبد. قال الدارمي: وكان من الإبدال أنه سمع سعيد بن المسيب يقول إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال من قرأ إلخ. قال الحافظ ابن كثير بعد ذكره: وهذا مرسل جيد- انتهى. وروى الإمام أحمد (ج3ص437) وابن السني (ص221) من طريق ابن لهيعة عن زبان بن فائد عن سهل بن معاذ عن أبيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال: من قرأ ?قل هو الله أحد? حتى يختمها عشر مرات بنى الله له قصرا في الجنة، فقال عمر إذا نستكثر يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر وأطيب، وابن لهيعة فيه كلام وزبان ضعيف فالحديث ضعيف ولهذا صدره المنذري في الترغيب بلفظه روى.

(14/483)


2208- قوله: (وعن الحسن) أي البصري (مرسلا) لأنه تابعي حذف الصحابي (من قرأ في ليلة مائة آية يحاجه القرآن) بتشديد الجيم من المحاجة وهي المخاصمة أي لم يخاصمه في تقصيره (تلك الليلة) أي من جهتها. وقال في اللمعات: أي لم يأخذه الله ولم يسأله عن أداء حق القرآن في تلك الليلة يعني إن قراءة هذا القدر من القرآن في ليلة تكفي في دفع مخاصمة القرآن وأداء حقه في تلك الليلة. وقيل: المراد به الحث على قيام الليل. وعليه يدل صنيع المنذري في الترغيب والهيثمي في مجمع الزوائد حيث أوردا أمثال هذا الحديث في باب صلاة الليل وتقدم حديث عبدالله بن عمرو مختصرا بنحو ذلك في الفصل الثاني من باب صلاة الليل (قنوت ليلة) أي طاعتها أو قيامها (أصبح وله قنطار) أي ثواب بعدده أو بوزنه (من الأجر) قال في اللمعات: القنطار وزن أربعين أوقية من ذهب أو ألف ومائتا دينار أو ملأ مسك الثور ذهبا أو فضة كذا في القاموس، والمقصود المبالغة في كثرة الثواب والمناسب حمله على المعنى الأخير. قلت: ويؤيده ما وقع في حديث أبي سعيد الخدري عند الدارمي من قوله
قالوا: وما القنطار؟ قال: اثنا عشر ألفا)). رواه الدارمي.
(1) باب
?الفصل الأول?
2209- (1) عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعاهدوا القرآن

(14/484)


القنطار ملء مسك الثور ذهبا (قالوا) أي الصحابة (وما القنطار قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون ضمير قالوا لأصحاب الحسن وضمير قال للحسن (اثنا عشر ألفا) أي دينارا، وروى ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة مرفوعا القنطار اثنا عشر ألف أوقية، والأوقية خير مما بين السماء والأرض، وروى الطبراني عن أبي أمامة مثله. (رواه الدارمي) عن أبي النعمان عن وهب عن يونس عن الحسن أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال من قرأ في ليلة إلخ. وقد سبق الكلام في مراسيل الحسن البصري وذكرنا هناك أن الإمام أحمد قال: إنها من أضعف المراسيل. وقال العراقي: مراسيل الحسن عندهم شبه الريح. وقال ابن المديني: مرسلات الحسن البصري التي رواها عنه الثقات صحاح ما أقل ما يسقط منها. وقال أبوزرعة: كل شي. قال الحسن: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجدت له أصلا ثابتا ما خلا أربعة أحاديث. وقال يحيى بن سعيد القطان: ما قال الحسن في حديثه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إلا وجدنا له أصلا إلا حديثا أو حديثين. قال الحافظ: ولعله أراد ما جزم به الحسن. قلت: والحديث المذكور ههنا مما رواه عنه الثقة وأيضا قد جزم به الحسن حيث قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم فالظاهر إن مرسله هذا ليس من مراسيله التي لا أصل لها. ويؤيده ما ورد في الباب عن عبدالله بن عمرو بن العاص وأبي أمامة وأبي هريرة وأنس وأبي الدرداء وتميم الداري وفضالة بن عبيد وعبدالله بن مسعود مرفوعا وموقوفا بنحو ذلك بألفاظ وطرق مختصرا ومطولا من شاء الوقوف عليها رجع إلى الترغيب للمنذري ومجمع الزوائد وعمل اليوم والليلة لابن السني والسنن للدارمي.
(باب) بالتنوين ويسكن وهو في توابع فضائل القرآن من الأحكام التي مراعاتها من الفواضل وغير ذلك، ووقع في بعض النسخ باب آداب التلاوة ودروس القرآن.

(14/485)


2209- قوله: (تعاهدوا القرآن) مثل تعهدوه أي تفقدوه وراعوه بالمحافظة وواظبوا على قراءته وداوموا على تكرار دراسته لئلا ينسى. قال التوربشتي: العهد والتعاهد هو التحفظ بالشيء وتجديد العهد به، ومعناه
فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من الإبل في عقلها)) متفق عليه.
2210- (2) وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بئس ما لأحدهم
ههنا التوصية بتجديد العهد بقراءته لئلا يذهب عنه (لهو) اللام لتوكيد القسم أي القرآن (أشد تفصيا) بفتح الفاء وكسر الصاد المهملة المشددة وتخفيف التحتية بعدها منصوب على التمييز أي أسرع تفلتا وتخلصا وذهابا وخروجا. قال التوربشتي: التفصى من الشيء التخلص منه تقول تفصيت من الديون إذا خرجت منها (من الإبل في عقلها) وفي رواية بعقلها وفي أخرى من عقلها وهي بضمتين ويجوز سكون القاف جمع عقال بكسر أوله ككتب وكتاب وهو الحبل الذي يشد به ذراع البعير، يقال عقلت البعير أعقله عقلا إذا ثنيت وظيفة إلى ذراعه فتشدهما جميعا في وسط الذراع وذلك الحبل هو العقال، والمعنى إن صاحب القرآن إذا لم يتعهده بتلاوته والتحفظ به والتذكر حالا فحالا كان أشد ذهابا من الإبل إذا تخلصت من العقال فإنها تنفلت حتى لا تكاد تلحق. قال القرطبي: من رواه من عقلها فهو على الأصل الذي يقتضيه التعدي من لفظ التفصي ومن رواه بالباء أو بكلمة "في" يحتمل أن يكون بمعنى "من" أو بمعنى الظرف أو بمعنى المصاحبة يعني مع عقلها. والحاصل تشبيه من يتفلت منه القرآن بالناقة التي تفلتت من عقالها وبقيت متعلقة به كذا قال، والتحرير إن التشبيه وقع بين ثلاثة بثلاثة فحامل القرآن شبه بصاحب الناقة، والقرآن بالناقة والحفظ بالربط. قال الطيبي: ليس بين القرآن والناقة مناسبة لأنه قديم وهي حادثة لكن وقع التشبيه في المعنى. وفي هذا الحديث وكذا في الحديث الذي يليه زيادة على حديث ابن عمر الآتي بعدهما، لأن في حديث ابن عمر تشبيه

(14/486)


أحد الأمرين بالآخر وفي هذا إن هذا أبلغ في النفور من الإبل لأن من شأن الإبل تطلب التفلت ما أمكنها فمتى لم يتعاهدها صاحبها برباطها تفلتت فكذلك حافظ القرآن إذا لم يتعاهده تفلت بل هو أشد في ذلك. وقال ابن بطال: هذا الحديث يوافق الآيتين قوله تعالى: ?إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا? [المزمل: 5] وقوله: ?ولقد يسرنا القرآن للذكر? [القمر: 17] فمن أقبل عليه بالمحافظة والتعاهد يسر له ومن أعرض عنه تفلت منه. قال الطيبي: وإنما كان كذلك لأن القرآن ليس من كلام البشر بل هو من كلام خالق القوي والقدر وليس بينه وبين البشر مناسبة قريبة لأنه حادث وهو قديم لكن الله سبحانه وتعالى بلطفه العميم وكرمه القديم من عليهم ومنحهم هذه النعمة العظيمة فينبغي له أن يتعاهده بالحفظ والمواظبة عليه ما أمكنه فقد يسره تعالى للذكر وإلا فالطاقة البشرية تعجز قواها عن حفظه. وفيه وفي حديثي ابن مسعود وابن عمر الحض على محافظة القرآن بدوام دراسته وتكرار تلاوته وضرب الأمثال لإيضاح المقاصد (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد (ج4ص397، 411).
2210- قوله: (بئس ما) "ما" نكرة موصوفة مفسرة لفاعل بئس (لأحدهم) أي لأحد الناس
أن يقول نسيت آية كيت وكيت. بل نسي،

(14/487)


(أن يقول) هو المخصوص بالذم كقوله تعالى: ?بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله? [البقرة: 90] أي بئس الشيء شيئا كائنا لأحدهم قوله (نسيت) بفتح النون وكسر السين مخففة (آية كيت وكيت) أي آية كذا وكذا وهو بفتح التاء على المشهور وحكى الجوهري فتحها وكسرها عن أبي عبيدة. قال القرطبي: كيت وكيت يعبر بهما عن الجمل الكثيرة، والحديث الطويل. وأطلق ههنا باعتبار كون الآية مشتملة على مضمون جملة وإلا فالظاهر آية كذا وكذا (بل نسى) بضم النون وتشديد المهملة المكسورة. قال القرطبي: رواه بعض رواة مسلم مخففا. قال الحافظ: وكذا هو في مسند أبي يعلى وكذا أخرجه ابن أبي داود في كتاب الشريعة من طرق متعددة مضبوطة بخط موثوق به على كل سين علامة التخفيف. قلت: (قائله الحافظ) والتثقيل هو الذي وقع في جميع الروايات في البخاري وكذا في أكثر الروايات في غيره ويؤيده ما وقع في رواية أبي عبيد في الغريب بعد قوله كيت وكيت ليس هو نسى ولكنه نسى الأول بفتح النون وتخفيف السين، والثاني بضم النون وتثقيل السين. قال الخطابي: نسي يعني عوقب بالنسيان على ذنب كان منه أو على سوء تعهده بالقرآن حتى نسيه. وقال القرطبي: التثقيل معناه إنه عوقب بوقوع النسيان عليه لتفريطه في معاهدته واستذكاره قال: ومعنى التخفيف إن الرجل ترك غير ملتفت إليه وهو كقوله: ?نسوا الله فنسيهم? [التوبة: 67] أي تركهم في العذاب أو تركهم من الرحمة. وقال في اللمعات: بئس ما لأحدهم الخ أي بئس شيئا كائنا لأحدهم قوله نسيت آية "كيت وكيت" فإنه يشعر بتركه وعدم مبالاته بها بل يقول نسي بلفظ المجهول من التفعيل تحسرا أو إظهارا للخذلان على تقصيره في إحراز هذه السعادة وحفظها أو تحرزا عن التصريح بارتكاب المعصية وتأدبا مع القرآن العظيم- انتهى. وأعلم أنه اختلف في متعلق الذم من قوله بئس على أوجه ذكرها الحافظ في الفتح وأرجحها عنده إن سبب الذم ما فيه من الأشعار بعدم

(14/488)


الاعتناء بالقرآن إذ لا يقع النسيان إلا بترك التعاهد وكثرة الغفلة، فلو تعاهده بالتلاوة والقيام به في الصلاة لدام حفظه وتذكره، فإذا قال الإنسان نسيت الآية الفلانية فكأنه شهد على نفسه بالتفريط فيكون متعلق الذم ترك الاستذكار والتعاهد لأنه الذي يورث النسيان. وقال عياض: أولى ما يتأول عليه الحديث ذم الحال لا ذم القول أي بئست الحالة حالة من حفظ القرآن فغفل عنه حتى نسيه. وقد عقد البخاري في صحيحه باب نسيان القرآن وهل يقول نسيت آية كذا وكذا، ثم أورد فيه حديث عائشة قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ في سورة بالليل فقال يرحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا. قال الحافظ: وفي رواية معمر عن هشام عند الإسماعيلي كنت نسيتها بفتح النون ليس قبلها همزة. ثم ذكر البخاري حديث ابن مسعود هذا الذي نحن في شرحه. قال الحافظ: كأنه يريد أي بهذه الترجمة إن النهي عن قول نسيت آية كذا وكذا ليس للزجر عن هذا اللفظ بل للزجر عن تعاطي أسباب النسيان المقتضية لقول هذا اللفظ. ويحتمل أن ينزل المنع
واستذكروا القرآن فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم)). متفق عليه، وزاد مسلم بعقلها.
2211-(3) وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما مثل صاحب القرآن

(14/489)


والإباحة عن حالتين فمن نشأ نسيانه عن اشتغاله بأمر ديني كالجهاد لم يمتنع عليه قول ذلك، لأن النسيان لم ينشأ عن إهمال أمر ديني وعلى ذلك يحمل ما ورد من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من نسبة النسيان إلى نفسه ومن نشأ نسيانه عن اشتغاله بأمر دنيوي ولا سيما إن كان محظورا امتنع عليه لتعاطيه أسباب النسيان- انتهى. وقال النووي: في حديث ابن مسعود كراهة قوله "نسيت" آية كذا، وهي كراهة تنزيه وإنه لا يكره قوله "أنسيتها" وإنما نهى عن نسيتها لأنه يتضمن التساهل فيها والتغافل عنها وقال الله تعالى: ?أتتك آياتنا فنسيتها? [طه: 126] (واستذكروا القرآن) السين للمبالغة أي واظبوا على تلاوته واطلبوا من أنفسكم المذاكرة والمحافظة به. قال الطيبي: وهو عطف من حيث المعنى على قوله بئس ما لأحدهم أي لا تقصروا في معاهدته واستذكروه وفي رواية مسلم استذكروا بغير واو (فإنه) وفي رواية مسلم فهو (أشد تفصيا) أي تفلتا وتشردا (من صدور الرجال) من متعلق بتفصيا وتخصيص الرجال بالذكر لأن حفظ القرآن من شأنهم (من النعم) بفتحتين. قال النووي: النعم أصلها الإبل والبقرة والغنم والمراد هنا الإبل خاصة لأنها التي تعقل- انتهى. وهو متعلق "بأشد" أي أشد من تفصي النعم المعقلة (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد (ج1ص381- 417- 423- 429، 438- 449- 463) والترمذي في القراءات والنسائي وغيرهم (وزاد مسلم بعقلها) بضمتين ووقعت هذه الزيادة عند أحمد والترمذي أيضا لكن عند الترمذي بلفظ: من عقله، وكذا عند مسلم في الموقوف، ولأحمد في رواية من عقلها وفي أخرى بعقله أو من عقله. قال النووي: المراد برواية الباء من كما في قوله تعالى: ?عينا يشرب بها عباد الله? [الإنسان: 6] على أحد القولين في معناها، وقوله "عقله" صحيح أيضا أي لأن النعم تذكر وتؤنث.

(14/490)


2211- قوله: (إنما مثل صاحب القرآن) أي مع القرآن والمراد بالصاحب الذي ألفه. قال عياض: المؤالفة المصاحبة وهو كقوله أصحاب الجنة وقوله "ألفه" أي ألف تلاوته وهو أعم من أن يألفها نظرا من المصحف أو عن ظهر قلب فإن الذي يداوم على ذلك يذل له لسانه ويسهل عليه قراءته فإذا هجره ثقلت عليه القراءة وشقت عليه وقوله "إنما" يقتضي الحصر على الراجح لكنه حصر مخصوص بالنسبة إلى الحفظ والنسيان بالتلاوة والترك (كمثل صاحب الإبل المعقلة) أي مع إبله المعقلة. والمعقلة بضم الميم وفتح العين المهملة وتشديد القاف المفتوحة أي المشدودة بالعقال شبه درس القرآن واستمرار تلاوته بربط البعير الذي يخشى منه الشراد والهروب فما زال التعاهد موجودا فالحفظ موجود كما أن البعير ما دام مشدودا بالعقال فهو محفوظ، وخص الإبل بالذكر
كمثل صاحب الإبل المعلقة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت)). متفق عليه.
2212 - (4) وعن جندب بن عبدالله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقرؤا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه)). متفق عليه.
2213- (5) وعن قتادة، قال: سئل أنس
لأنها أشد الحيوان الأنسي نفورا وفي تحصيلها بعد استمكان نفورها صعوبة (إن عاهد عليها) أي تعهدها ولازمها (أمسكها) أي استمر إمساكه لها يعني أبقاها على نفسه (وإن أطلقها) أي أرسلها وحلها من عقلها (ذهبت) أي انفلتت، وفي رواية ابن ماجه إن تعاهدها صاحبها بعقلها أمسكها عليه، وإن أطلق عقلها ذهبت. وفي رواية لمسلم وإذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره وإن لم يقم به نسيه. وفي الحديث حض على درس القرآن وتعاهده (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد (ج1ص17- 23- 30- 36- 64- 112) ومالك في أواخر الصلاة والنسائي وابن ماجه في ثواب القرآن.

(14/491)


2212- قوله: (اقرؤا القرآن) أي داوموا على قراءته (ما ائتلفت) أي اجتمعت (عليه قلوبكم) أي ما دامت قلوبكم تألف القراءة (فإذا اختلفتم) بأن صارت قلوبكم في فكرة شيء سوى قراءتكم وصارت القراءة باللسان مع غيبة الجنان يعنى صار القلب مخالفا للسان (فقوموا عنه) أي أتركوا قراءته حتى ترجع قلوبكم. قال الطيبي: قوله "اقرؤا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم إلخ" يعني اقرؤا على نشاط منكم وخواطركم مجموعة فإذا حصل لكم ملالة وتفرق القلوب فاتركوه فإنه أسلم من أن يقرأ أحد من غير حضور القلب يقال. قام بالأمر إذا جد فيه وداوم عليه وقام عن الأمر إذا تركه وتجاوز عنه. ويحتمل كما في الفتح أن يكون المعنى اقرؤا وألزموا الائتلاف على ما دل عليه وقاد إليه، فإذا وقع الاختلاف أي أو عرض عارض شبهة يقتضي المنازعة الداعية إلى الافتراق فاتركوا القراءة وتمسكوا بالمحكم الموجب للألفة وأعرضوا عن المتشابه المؤدي إلى الفرقة، قال: وهو كقوله - صلى الله عليه وسلم - فإذا رأيتم الذين يتبعون المتشابه منه فاحذروهم، قال ويحتمل أنه نهى عن القراءة إذا وقع الاختلاف في كيفية الأداء بأن يتفرقوا عند الاختلاف ويستمر كل منهم على قراءته، ومثله ما تقدم عن ابن مسعود لما وقع بينه وبين الصحابيين الأخرين الاختلاف في الأداء فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كلكم محسن- انتهى. قال ابن الجوزي: كان اختلاف الصحابة يقع في القراءات واللغات فأمروا بالقيام عند الاختلاف لئلا يجحد أحدهم ما يقرأه الآخر فيكون جاحدا لما أنزل الله عزوجل (متفق عليه) أخرجه البخاري في فضائل القرآن وفي الاعتصام، ومسلم في القدر وأخرجه أيضا أحمد (ج4ص313) والنسائي .
2213- قوله: (وعن قتادة قال سئل أنس) بضم السين مبنيا للمفعول والسائل هو قتادة كما يدل عليه
كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كانت مدا مدا،

(14/492)


رواية البخاري عن قتادة قال سألت أنس بن مالك عن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال كان يمد مدا أي يمد الحرف الذي يستحق المد (كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم) أي على أي صفته كانت هل كانت ممدودة أو مقصورة أو متوسطة (فقال كانت مدا) بالتنوين من غير همز أي ممدودة أو ذات مد لكن لما يستحق المد، والمراد بالمد هنا المد الطبيعي الذي يقال له المد الذاتي والأصلي لكونه لازما لذوات حروف المد وطبائعها، وهو أشباع الحروف الذي بعد ألف أو واو أو ياء كالألف والواو في قالوا، والياء في قيل. ويحصل هذا المد بإتمام الحركة أو أشباع الحروف بقدر ألف لأنه إن لم يقرأ كذلك لم يتم النطق بذلك الحرف. وأما المد المعروف الذي يبحث عنه أصحاب علم التجويد فهو المد الفرعي، وله سببان، وقوع السكون والهمزة بعد حروف المد، والسكون إما أن يكون لازميا سواء كان من جهة الإدغام كما في دابة ولا الضالين، أو من غير إدغام كما في حروف المد التي وقعت في أوائل السور مثل ألف، لام، ميم، كاف، صاد، نون، قاف، أو يكون السكون عارضيا كما في نستعين والمفلحون وأولي الألباب. وأما الهمزة فهي إما أن تكون في نفس الكلمة مثل السماء والسوء وجيء أو في كلمة أخرى نحو ما أنزل وقالوا آمنا وفي أنفسهم. واختلف القراء في مقدار هذا المد، فقال بعضهم: يمد بقدر ألف ونصف وقال بعضهم: يمد بقدر ألفين ونصف ألف إلى ثلاث ألفات أو أربع ألفات وتفصيل ذلك في كتب التجويد كذا في أشعة اللمعات. وقال الحافظ: المد عند القراء على ضربين أصلي، وهو إشباع الحرف الذي بعده ألف أو واو أو ياء، وغير أصلي وهو ما إذا أعقب الحرف الذي هذه صفته همزة وهو متصل ومنفصل، فالمتصل ما كان من نفس الكلمة، والمنفصل ما كان بكلمة أخرى فالأول يؤتي فيه بالألف والواو والياء ممكنات من غير زيادة، والثاني يزاد في تمكين الألف. والواو والياء زيادة على المد الذي لا يمكن النطق بها إلا به من غير

(14/493)


إسراف والمذهب الأعدل أنه يمد كل حرف منها ضعفي ما كان يمده أولا. وقد يزاد على ذلك قليلا وما أفرط فهو غير محمود، والمراد هنا الضرب الأول- انتهى. وقال القاري: إذا وجد حرف المد الذي هو شرط المد ولم يوجد أحد السببين الموجبين للزيادة وهما الهمز والسكون فلا بد من المد بقدر ألف اتفاقا وقدر بمقدار قولك أو كتابتك ألف أو عقد أصبع ويسمى طبيعيا وذاتيا وأصليا، وإذا وجد أحد السببين فلا بد من الزيادة ويسمى فرعيا، ثم إن كان السبب الهمز ففي مقدار الزيادة على الأصل خلاف كثير بين القراء في مراتب المتصل والمنفصل مع اتفاقهم على مطلق المد هو في المتصل وخلاف بعضهم في المنفصل، وأقل الزيادة ألف ونصف وأكثرها أربع وإن كان السبب هو السكون فإن كان لازميا سواء كان يكون مشددا أو مخففا نحو دابة وصاد فكلهم يقرؤن على نهج واحد وهو مقدار ثلاث ألفات، وإن كان عارضيا نحو يعملون فيجوز فيه القصر وهو قدر ألف والتوسط وهو ألفان والمد وهو ثلاثة
ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، يمد ببسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم)). رواه البخاري.
2214- (6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أذن الله لشي ما أذن لنبي

(14/494)


وللمسألة تفصيل طويل يجر بسطها إلى ملالة وتثقيل (ثم قرأ) أي أنس (يمد ببسم الله) أي اللام التي قبل الهاء من الجلالة الشريفة. وقال القاري: أي في ألف الجلالة مدا أصليا بقدر ألف (ويمد بالرحمن) أي بالميم التي قبل النون (ويمد بالرحيم) أي بالحاء المد الطبيعي الذي لا يمكن النطق بالحرف إلا به من غير زيادة عليه لا كما يفعله بعضهم من الزيادة عليه نعم إذا كان بعد حرف المد همز متصل بكلمته أو سكون لازم كاولائك والحاقة وجب زيادة المد أو منفصل عنها أو سكون عارض كياأيها أو الوقف على الرحيم جاز قاله القسطلاني. وقال القاري: قوله "ويمد بالرحيم" أي في ياءه مدا أصليا أو عارضيا فإنه يجوز في نحوه حالة الوقف ثلاثة أوجه الطول والتوسط والقصر مع الإسكان، ووجه آخر بالقصر والروم وهو إتيان بعض الحركة بصوت خفي، وقوله "ببسم الله" بموحدة قبل الموحدة التي في بسم الله كأنه حكى لفظ بسم الله كما حكى لفظ الرحمن في قوله ويمد بالرحمن أو جعله كالكلمة الواحدة علما لذلك، ووقع عند أبي نعيم يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحمن ويمد الرحيم من غير موحدة في الثلاثة (رواه البخاري) في فضائل القرآن، وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي وابن ماجه في الصلاة، والترمذي في الشمائل. وأخرج ابن أبي داود من طريق قطبة بن مالك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الفجر ق فمر بهذا الحرف لها طلع نضيد فمد نضيد وهو شاهد جيدا حديث أنس.
2214- قوله: (ما أذن الله) بكسر الذال المعجمة من الأذن بفتحتين ومعناه الاستماع والاصغاء ومنه قوله تعالى: ?وأذنت لربها? [الانشقاق:2] وقال الشاعر:
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا

(14/495)


وأما الأذن بمعنى الإطلاق والإباحة فهو بكسر الهمزة وسكون الذال وليس ذلك مرادا هنا، وكلاهما مشترك في أن الماضي بكسر الذال المضارع بفتحها كفرح يفرح (لشي) بالشين المعجمة (ما أذن لنبي) "ما" الأولى نافية والثانية مصدرية أي ما استمع لشي كاستماعه لصوت نبي. قال السندي: ما أذن الله الخ أي ما استمع لشي مسموع كاستماعه لنبي والمراد جنس النبي والقرآن القراءة أو كلام الله مطلقا. ولما كان الاستماع بمعنى الإصغاء على الله تعالى محالا، لأنه من شأن من يختلف سماعه بكثرة التوجه وقلته وسماعه تعالى لا يختلف. قالوا: هذا كناية عن تقريبه القاري وإجزال ثوابه أي لأن ذلك ثمرة الإصغاء- انتهى. قلت: لا حاجة إلى هذا التأويل فإنه يفضي ويؤدي
يتغنى بالقرآن)) متفق عليه.

(14/496)


إلى نفي صفة الاستماع بل نحمله على ظاهره ونفوض حقيقة معناه إلى الله تعالى (يتغنى بالقرآن) هو من التغني بمعنى الترنم والتطريب أي يحسن صوته ويرتقه ويحزنه. قال في اللمعات: المراد بالتغني تحسين الصوت وتطييبه وتزيينه وترقيقة وتحزينة بحيث يورث الخشية ويجمع الهم ويزيد الحضور ويبعث الشوق ويرق القلب ويؤثر في السامعين مع رعاية قوانين التجويد ومراعاة النظم في الكلمات والحروف كما جاء في الحديث أي الناس أحسن صوتا للقرآن قال من إذا سمعته يقرأ أريت أنه يخشى وهو الصوت الطبيعي للعرب بحسن غاية الطبيعية المراد بلحن العرب، وإليه الإشارة بقول أبي موسى الأشعري لحبرته تحبيرا. وأما التكلف برعاية قوانين الموسيقي فمكروه، وإذا أدى إلى تغير القرآن فحرام بلا شبهة وسيأتي من الأحاديث ما يدل على ذلك- انتهى. قلت: اختلف في معنى التغني على أقوال كما سيأتي، ومعناه عند الشافعي وأصحابه وأكثر العلماء هو تحسين الصوت به. قال ابن بطال: وبذلك فسره ابن أبي مليكة وعبدالله بن المبارك والنضر بن شميل ويؤيده في الرواية الأخرى قوله يجهر به. قال الطيبي: لأنها جملة مبينة لقوله بيان يتغنى بالقرآن فلم يكن المبين على خلاف البيان كذلك يتغنى بالقرآن في هذه الرواية بيان لقوله ما أذن الله لنبي أي صوته فكيف يحمل على غير حسن الصوت. وقال الحافظ: ظواهر الإخبار ترجح أن المراد تحسين الصوت ويؤيده قوله "يجهر" به فإنها إن كانت مرفوعة قامت الحجة وإن كانت غير مرفوعة فالرواي أعرف بمعنى الخبر من غيره، ولا سيما إذا كان فقيها. وقد جزم الحليمي بأنها من قول أبي هريرة والعرب تقول سمعت فلانا يتغنى بكذا أي يجهر به ويشهد أيضا لما قال الشافعي الحديث الآخر زينوا القرآن بأصواتكم، ويؤيده أيضا رواية الطبراني لحديث الباب بلفظ: ما أذن الله لنبي في الترنم في القرآن وعنده في رواية أخرى ما أذن الله لنبي حسن الصوت، وهذا اللفظ عند مسلم أيضا كما سيأتي. وعند

(14/497)


ابن أبي داود والطحاوي حسن الترنم بالقرآن قال الطبري: والترنم لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه القاري وطرب به قال، ولو كان معناه الاستغناء كما قيل لما كان لذكر الصوت ولا لذكر الجهر معنى، وأخرج ابن ماجه والكجى وصححه ابن حبان والحاكم من حديث فضالة بن عبيد مرفوعا الله أشد أذنا أي استماعا للرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينتة، والقينة المغنية. وروى عمر بن شبة عن عبيد بن عمير قال: كان داود عليه السلام يتغنى يعني حين يقرأ يبكي ويبكي، وعن ابن عباس إن داود كان يقرأ الزبور بسبعين لحنا ويقرأ قراءة يطرب منها المحموم، وكان إذا أراد أن يبكي نفسه لم يبق دابة في بر ولا بحر إلا انصتت له واستمعت وبكت (متفق عليه) أخرجه البخاري في فضائل القرآن وفي التوحيد ومسلم في فضائل القرآن وأخرجه أيضا أحمد في مواضع وأبو داود والنسائي في الصلاة والدارمي وغيرهم.
2215- (7) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أذن الله لشي ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن، يجهر به)). متفق عليه.
2216- (8) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن))

(14/498)


2215- قوله: (ما أذن الله لشي) أي ما استمع الله لشي (ما أذن) أي ما استمع (لنبي حسن الصوت) صفة كاشفة قاله القاري. وقال التوربشتي: لا أرى هذه الزيادة وردت مورد الاشتراط لإذن الله بل ورد مورد البيان لكون كل نبي حسن الصوت ومنه الحديث ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه حسن الصوت (بالقرآن) حال كونه (يجهر به) أي في صلاته أو تلاوته أو حين تبليغ رسالته ولا بد من تقدير مضاف عند قوله لنبي أي لصوت نبي والنبي جنس شائع في كل نبي فالمراد بالقرآن القراءة قاله القسطلاني واللفظ المذكور للبخاري في باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة) ورواه مسلم بلفظ: ما أذن الله لشي ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به، وفي رواية للبخاري ما أذن الله لنبي ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن. وقال صاحب له يريد يجهر به والضمير في "له" لأبي هريرة، والصاحب المذكور هو أبوسلمة الراوي عن أبي هريرة كما يدل عليه ما رواه ابن أبي داود عن محمد بن يحيى الذهلي في الزهريات بلفظ: ما أذن الله لشي ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن. قال ابن شهاب وأخبرني عبدالحميد بن عبدالرحمن عن أبي سلمة يتغنى بالقرآن يجهر به، فالظاهر إن التفسير المذكور في تلك الرواية مدرج من قول أبي سلمة. وقد تقدم في كلام الحافظ إن الحليمي جزم بأنه من قول أبي هريرة وظاهر الرواية التي نحن في شرحها إن قوله "يجهر به" من أصل الحديث أي مرفوع من قول النبي صلى الله عليه وسلم لا مدرج من قول الراوي والله أعلم (متفق عليه) واللفظ للبخاري كما تقدم وأخرجه أبوداود والنسائي بلفظ مسلم.

(14/499)


2216- قوله: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) أي لم يحسن صوته به فسر بذلك الشافعي كما تقدم. وقيل أي لم يجهر به فسر بذلك راوي الحديث كما سبق أيضا وقيل أي لم يستغن به عن الناس أو عن غيره من أخبار الأمم الماضية والكتب المتقدمة فسر به وكيع وابن عيينة واختاره ابن حبان حيث ترجم في صحيحه (ج1ص283) لحديث سعد بن وقاص المروي بلفظ: الحديث الذي نحن في شرحه "ذكر الزجر عن أن لا يستغنى المرأ بما أوتي من كتاب الله جل وعلا وارتضاه أبوعبيد، وقال إنه جائز في كلام العرب واستشهد لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم في الخيل ورجل ربطها تغنيا وتعففا، ولا خلاف في هذا أنه مصدر تغني بمعنى استغنى يعني طلب الغنى بها عن الناس بقرينة قوله تعففا، ورجحه التوربشتي أيضا. وقال المعنى ليس من أهل سنتنا وممن تبعنا في أمرنا وهو وعيد، ولا خلاف بين الأمة إن قاريء القرآن مثاب على قراءته مأجور من غير تحسين
صوته، فكيف يحمل على كونه مستحقا للوعيد وهو مثاب مأجور- انتهى. وقيل أي لم يترنم به وقيل أي لم يتحزن ويؤيده ما رواه أبويعلى والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية بسند ضعيف عن بريدة مرفوعا إقرؤا القرآن بالحزن فإنه نزل بالحزن. وقيل المراد بالتغني التلذذ والاستحلاء له كما يستلذ أهل الطرب بالغناء فاطلق عليه تغنيا من حيث أنه يفعل عنده ما يفعل عند الغناء قاله ابن الأنباري في الزاهر. وقيل: معناه التشاغل به تقول العرب تغني بالمكان أقام به ويؤيده بيت الأعشى:
وكنت أمرأ زمنا بالعراق خفيف المناخ طويل التغني

(14/500)


أي طويل الإقامة فيكون معنى الحديث الحث على ملازمة القرآن وأن لا يتعدى إلى غيره وقيل هو أن يجعله هجيراه كما يجعل المسافر والفارغ هجيراه الغناء. قال ابن الأعرابي: كانت العرب إذا ركبت الإبل تتغنى وإذا جلست في أفيتها، وفي أكثر أحوالها فلما نزل القرآن أحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون هجيراهم القراءة مكان التغني وقيل المراد من لم يغنه القرآن ولم ينفعه في إيمانه ولم يصدق بما فيه من وعد ووعيد وقيل معناه من لم يرتح لقراءته وسماعه وقيل المعنى من لم يطلب غنى النفس وهو الغنى المعنوي لا المحسوس الذي هو ضد الفقر وقيل معناه من لم يتطلب غنى اليد ولم يرجه بملازمة تلاوته. قال الحافظ بعد بسط الكلام في سرد هذه الأقوال التأويلات: وفي الجملة ما فسر به ابن عيينة ليس بمدفوع وإن كانت ظواهر الأخبار ترجح إن المراد تحسين الصوت، ويؤيده قوله يجهر به إلى آخر ما ذكرنا من كلامه في شرح الرواية الأولى. ثم قال الحافظ والحاصل أنه يمكن الجمع بين أكثر هذه التأويلات المذكورة وهو أنه يحسن به صوته جاهرا به مترنما على طريق التحزن مستغنيا به عن غيره من الأخبار طالبا به غنى النفس راجيا به غنى اليد، ولا شك أن النفوس تميل إلى سماع القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم لأن للتطريب تأثيرا في رقة القلب وإجراء الدمع وكان بين السلف اختلاف في جواز القرآن بالإلحان إما تحسين الصوت وتقديم حسن الصوت على غيره فلا نزاع في ذلك، قال والذي يتحصل من الأدلة إن حسن الصوت بالقرآن مطلوب فإن لم يكن حسنا فليحسنه ما استطاع، كما قال ابن مليكة أحد رواة حديث سعد بن أبي وقاص. وقد أخرج ذلك عنه أبوداود بإسناد صحيح. ومن جملة تحسينه أن يراعي فيه قوانين النغم فإن الصوت الحسن يزداد حسنا بذلك وإن خرج عنها أثر ذلك في حسنه وغير الحسن ربما انجبر بمراعاتها ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراءات فإن خرج عنها لم يقف تحسين الصوت

(15/1)


بقبح الأداء. ولعل هذا مستند من كرة القراءة بالأنغام لأن الغالب على من راعي الأنغام أن لا يراعي الأداء فإن وجد من يراعيهما معا فلا شك أنه أرجح من غيره، لأنه يأتي بالمطلوب من تحسين الصوت ويجتنب الممنوع من حرمة
رواه البخاري.
الأداء والله أعلم- انتهى. وقال ابن القيم بعد ذكر الاختلاف في تفسير التغني بالقرآن: وفي مسألة تحسين الصوت به وقراءته بالإلحان، وذكر احتجاج كل فريق ما لفظه، وفصل النزاع أن يقال التطريب والتغني على وجهين. أحدهما ما اقتضته الطبيعة وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين وتعليم بل إذا خلى وطبعه واسترسلت طبيعتة جاءت بذلك التطريب والتلحين فذلك جائز، وإن أعان طبيعته فضل تزيين وتحسين كما قال أبوموسى للنبي - صلى الله عليه وسلم - وعلمت إنك تسمع لحبرته تحبيرا والحزين، ومن هاجه الطرب والحب والشوق لا يملك من نفسه دفع التحزين والتطريب في القراءة، ولكن النفوس تقلبه وتستحليه لموافقته الطبع وعدم التكلف والتصنع فهو مطبوع لا متطبع وكلف لا متكلف، فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستمعونه وهو التغني الممدوح المحمود، وهو الذي يتأثر به السامع والتالي وعلى هذا الوجه تحمل أدلة أرباب هذا القول كلها. والوجه الثاني ما كان من ذلك صناعة من الصنائع وليس في الطبع السماحة به بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الإلحان البسيطة، والمركبة على إيقاعات مخصوصة وأوزان مخترعة لا تحصل إلا بتعليم والتكلف فهذه هي التي كرهها السلف وعابوها وذموها ومنعوا القراءة بها وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه، وبهذا التفصيل يزول الاشتباه ويتبين الصواب من غيره، وكل من له علم بأحوال السلف يعلم قطعا أنهم براء من القراءة بإلحان الموسيقية المتكلفة التي هي إيقاع وحركات موزونة معدودة محدودة، وإنهم اتقى لله من أن يقرؤا بها ويسوغوها ويعلم قطعا أنهم كانوا يقرؤن بالتحزين والتطريب، ويحسنون

(15/2)


أصواتهم بالقرآن ويقرؤنه بشجي تارة وبطرب تارة وبشوق تارة، وهذا أمر في الطبائع تقاضيه ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضي الطبائع له بل أرشد إليه وندب إليه وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به. وقال ليس منا من لم يتغن بالقرآن وفيه وجهان، أحدهما أنه إخبار بالواقع الذي كلنا نفعله، والثاني أنه نفي لهدى من لم يفعله عن هديه وطريقته صلى الله عليه وسلم- انتهى. (رواه البخاري) في باب قول الله تعالى: ?وأسروا قولكم أو اجهروا به? [الملك: 13] من كتاب التوحيد. قال الحافظ في شرح هذا الحديث بعد ذكر الروايتين المتقدمتين: الحديث واحد إلا أن بعضهم رواه بلفظ: ما أذن الله، بعضهم رواه بلفظ ليس منا- انتهى. وروى بلفظ: ليس منا عن سعد بن أبي وقاص وأخرجه أحمد (ج1ص172- 175) وأبوداود وابن ماجه والدارمي وابن حبان (ج1ص483) والحاكم (ج1ص569 570) وغيرهم وعن أبي لبابة بن عبدالمنذر أخرجه أبوداود من طريقه البيهقي (ج2ص54) وعن ابن عباس أخرجه الحاكم (ج1ص570) والبزار والطبراني، قال الهيثمي: رجال البزار رجال الصحيح، وعن عائشة أخرجه أبويعلى والبزار بسند ضعيف وعن ابن الزبير أخرجه البزار أيضا.
2217- (9) وعن عبدالله بن مسعود، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على المنبر: ((اقرأ علي. قال: اقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال إني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأت النساء حتى أتيت إلى هذه الآية ?فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا?

(15/3)


2217- قوله: ( وهو على المنبر) جملة حالية (اقرأ عليك) أي اقرأ عليك (وعليك أنزل) بضم الهمزة أي القرآن والجملة حالية، أي جريان الحكمة على لسان الحكيم أحلى، وكلام المحبوب على لسان الحبيب أولى (إني أحب) أي في بعض الأحوال (أن أسمعه من غيري) قال ابن بطال: يحتمل أن يكون أحب أن يسمعه من غيره ليكون عرض القرآن سنة. ويحتمل أن يكون لكي يتدبره ويتفهمه وذلك إن المستمع أقوى على التدبر ونفسه أخلى وانشط لذلك من القاري لاشتغاله بالقراءة وأحكامها، وهذا بخلاف قراءته هو صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب فإنه أراد أن يعلمه كيفية أداء القراءة، ومخارج الحروف ونحو ذلك (فقرأت) عليه (سورة النساء) أي من أولها كما في رواية لمسلم (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد) أي أحضرنا منهم شهيدا يشهد عليهم بما فعلوا وهو نبيهم وهو استفهام توبيخ أي فكيف حال هؤلاء الكفار أو صنيعهم إذا جئنا من كل أمة بنبيهم يشهد على كفرهم كقوله تعالى: ?وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم? [المائدة: 117] فكيف في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف، والعامل في إذا هو هذا المقدار، أو في محل نصب بفعل محذوف أي فكيف يكونون، أو يصنعون ويجري فيها الوجهان النصب على التشبيه بالحال كما هو مذهب سيبويه، أو على التشبيه بالظرفية كما هو مذهب الأخفش وهو العامل في إذا أيضا "ومن كل أمة" متعلق بجئنا والمعنى أنه يوتي بنبي كل أمة يشهد عليها ولها (وجئنا بك) يا محمد (على هؤلاء) أي أمتك (شهيدا) حال أي شاهدا على من آمن بالإيمان وعلى من كفر بالكفر وعلى من نافق بالنفاق. وقيل: أي تشهد على صدق هؤلاء الشهداء لحصول علمك بعقائدهم لدلالة كتابك وشرعك على قواعدهم. قال أبوحيان: الأظهر إن هذه الجملة في موضع جر عطفا على جئنا الأول أي فكيف يصنعون في وقت المجيئين. قال الحافظ: وقع في رواية محمد بن فضالة الظفري إن ذلك كان وهو صلى الله عليه وسلم في بني ظفر، أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني

(15/4)


وغيرهما من طريق يونس بن محمد بن فضالة عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاهم في بني ظفر ومعه ابن مسعود وناس من أصحابه فأمر قارئا فقرأ فأتى على هذه الآية فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا فبكى حتى ضرب لحياة وجنتاه فقال: يا رب! هذا على من أنا بين ظهريه فكيف بمن لم أره. وأخرج ابن المبارك في الزهد من طريق سعيد بن المسيب قال: ليس من يوم إلا يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوة وعشية فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم فلذلك يشهد عليهم ففي هذا المرسل ما يرفع
قال: حسبك الآن فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان)) متفق عليه.
2218- (10) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأبي بن كعب: ((
الأشكال الذي تضمنه حديث ابن فضالة- انتهى كلام الحافظ. (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (حسبك) أي يكفيك ما قرأته. قال الجزري: حسبك بمعنى أسكت وحقيقته كافيك (الآن) أي إذا وصلت إلى هذه الآية فلا تقرأ شيئا آخر فإني مشغول بالتفكر في هذه الآية وجاءني البكاء والحالة المانعة من استماع القرآن. وفي رواية للبخاري أمسك وفي أخرى قال لي كف أو أمسك على الشك (فإذا عيناه تذرفان) بسكون الذال المعجمة وكسر الراء أي تطلقان دمعهما يعني تسيلان دمعا، يقال ذرفت العين تذرف إذا جرى دمعها وهو خبر المبتدأ وهو عيناه "وإذا" للمفاجأة وهذا لفظ البخاري. ولمسلم فرأيت دموعه تسيل وبكاءه صلى الله عليه وسلم لفرط رحمته على المفرطين أو لعظم ما تضمنته الآية من هول المطع وشدة الأمر. وقال في فتوح الغيب عن الزمخشري: إن هذا كان بكاء فرح لا بكاء جزع لأنه تعالى جعل أمته شهداء على سائر الأمم كما قال الشاعر:
طفح السرور على حتى أنه من عظم ما قد سرني أبكاني

(15/5)


وقال ابن بطال إنما بكى - صلى الله عليه وسلم - عند تلاوة هذه الآية لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بالتصديق وسؤاله الشفاعة لأهل الموقف وهو أمر يحق له طول البكاء- انتهى. قال الحافظ: والذي يظهر أنه أبكى رحمة لأمته لأنه علم أنه لا بد أن يشهد عليهم بعلمهم وعملهم قد لا يكون مستقيما فقد يفضى إلى تعذيبهم- انتهى. وفي الحديث استحباب استماع القراءة والإصغاء إليها والبكاء عندها والتدبر فيها. قال النووي: البكاء عند قراءة القرآن صفة العارفين وشعار الصالحين قال الله تعالى: ?يخرون للأذقان يبكون? [الإسراء: 109] ?خروا سجدا وبكيا? [مريم: 58] والأحاديث فيه كثيرة قال: فإن عز عليه البكاء تباكى لخبر أحمد والبيهقي إن هذا القرآن نزل بحزن وكأبة فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا - الحديث. وقال الغزالي يستحب البكاء مع القراءة وعندها. وطريق تحصيله أن يحضر قلبه الحزن والخوف بتأمل ما فيه من التهديد والوعيد الشديد والوثائق والعهود ثم ينظر تقصيره في ذلك، فإن لم يحضره حزن فليبك على فقد ذلك وإنه من أعظم المصائب (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب قول المقري للقاري حسبك من فضائل القرآن إلا قوله "فإني أحب أن أسمعه من غيري" فإنه وقع عنده في رواية أخرى وإلا قوله وهو على المنبر فإنه لمسلم وحده. والحديث أخرجه أيضا البخاري في التفسير وأحمد (ج1ص374- 380) والترمذي في التفسير وأبو داود في آخر العلم وابن ماجه في الزهد.
2218- قوله: (قال لأبي بن كعب) الأنصاري الخزرجي النجاري الصحابي الجليل رضي الله عنه
إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن، قال: آلله سماني لك؟ قال: نعم قال: وقد ذكرت عند رب العالمين؟ قال: نعم. فذرفت عيناه، وفي رواية إن الله أمرني أن أقرأ عليك ?لم يكن الذين كفروا?

(15/6)


(إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن) مطلق فيتناول ?لم يكن الذين كفروا? [البينة: 1] وغيرها قوله "اقرأ عليك"كذا وقع في عامة الروايات والسياق المذكور هنا للبخاري في التفسير من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس لكن فيها إن الله أمرني أن أقرئك القرآن أي أعلمك بقراءتي عليك كيف تقرأ فلا منافاة بين قوله إقرأ عليك وأقرئك. قال أبوعبيد: المراد بالعرض على أبي ليتعلم أبي منه القراءة ويتثبت فيها وليكون عرض القرآن سنة وللتنبيه على فضيلة أبي بن كعب وتقدمه في حفظ القرآن وليس المراد أن يستذكر منه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا بذلك العرض. قال القاري: ووجه تخصيصه بذلك إنه بذل جهده في حفظ القرآن وما ينبغي له حتى قال - صلى الله عليه وسلم - أقرؤكم أبي، ولما قيض له من الإمامة في هذا الشأن أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه ليأخذ عنه رسم التلاوة كما أخذه النبي- صلى الله عليه وسلم - عن جبريل ثم يأخذه على هذا النمط الآخر عن الأول والخلف عن السلف وقد أخذ عن أبي بشر كثيرون من التابعين ثم عنهم من بعدهم، وهكذا فسرى سر تلك القراءة عليه حتى سرى سره في الأمة إلى الساعة (قال آلله) بمد الهمزة وكان في الأصل أألله بهمزتين وكان الأولى للإستفهام وقلبت الثانية الفا ويجوز حذفها للعلم بها وهذا معنى قول الطيبي بالمد بلا حذف وبالحذف بلا مد (سماني لك) أي ذكرني باسمي لك. قال الحافظ: أي هل نص على باسمي أو قال إقرأ على واحد من أصحابك فأخترتني أنت. قال القرطبي: تعجب أبي من ذلك لأن تسمية الله له ونصه عليه ليقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم تشريف عظيم فلذلك بكى إما فرحا وإما خشوعا. وقال الطيبي: والمقصود التعجب إما هضما أي أنى لي هذه المرتبة وإما استلذاذا بهذه المنزلة الرفيعة (قال نعم) وفي رواية لهما قال الله سماك لي. قال الحافظ: وفي رواية للطبراني من وجه آخر عن أبي بن كعب قال نعم باسمك ونسبك في

(15/7)


الملأ الأعلى (قال وقد ذكرت) بصيغة المجهول أي أوقع ذلك والحال إني قد ذكرت على الخصوص وبهذا الوجه المخصوص. قال الطيبي: تقريب للتعجب (عند رب العالمين) أي مع عظمته وحقارتي (فذرفت عيناه) بفتح المعجمة والراء أي تساقطتا بالدموع إما فرحا وسرورا بذلك وإما خشوعا وخوفا من التقصير في شكر تلك النعمة. وفي الحديث استحباب القراءة على أهل العلم وإن كان القاري أفضل من المقروء عليه (وفي رواية) للشيخين (إن الله أمرني أن أقرأ عليك لم يكن الذين كفروا) كذا في هذه الرواية وهي رواية شعبة عن قتادة عن أنس وبين في رواية همام عن قتادة عند البخاري إن تسمية السورة لم يحمله قتادة عن أنس فإنه قال في آخر الحديث (بعد روايته بلفظ إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن قال الله سماني
قال: وسماني؟ قال: نعم. فبكى)). متفق عليه.
2219- (11) وعن ابن عمر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو))

(15/8)


لك قال الله سماك فجعل أبي يبكي) "قال قتادة: فانبئت أنه قرأ عليه لم يكن الذين كفروا" وسقط بيان ذلك من رواية سعيد بن أبي عروبة عند البخاري. قال الحافظ: وقد أخرجه الحاكم وأحمد والترمذي من طريق زر بن حبش عن أبي نفسه مطولا، ولفظه إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن قال فقرأ عليه لم يكن الذين كفروا والجمع بين الروايتين حمل المطلق على المقيد لقراءته لم يكن دون غيرها- انتهى. وقال القاري: يحتمل إن هذه الرواية مبينة للقرآن في الرواية الأولى ويحتمل أن يكون قضية أخرى- انتهى. قلت: الاحتمال الأول هو الظاهر. قال القرطبي: خص هذه السورة بالذكر لما اشتملت عليه من التوحيد والرسالة والإخلاص والصحف والكتب المنزلة على الأنبياء وذكر الصلاة والزكاة والمعاد وبيان أهل الجنة والنار مع وجازتها ولتحقيق قوله تعالى فيها: ?رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة? [البينة: 2] قال الحافظ في تخصيص أبي بن كعب: الننوية به في أنه أقرأ لصحابة فإذا قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم مع عظيم منزلته كان غيره بطريق التبع له (قال وسماني) أي لك كما في رواية (فبكى) سرورا وفرحا بتسمية الله إياه في أمر القراءة أو خوفا من العجز عن قيام شكر تلك النعمة (متفق عليه) سياق الرواية الأولى للبخاري كما تقدم وسياق الرواية الثانية لكليهما. والحديث أخرجه البخاري في المناقب وفي التفسير ومسلم في فضائل القرآن وفي كتاب الفضائل وفي كتاب الفضائل أي المناقب وأخرجه أيضا أحمد والترمذي في المناقب والنسائي وغيرهم وفي الباب عن أبي حبة البدري أخرجه أحمد (ج3ص489) وابن قانع في معجم الصحابة والطبراني وابن مردوية ذكره الشوكاني في فتح القدير.

(15/9)


2219- قوله: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسافر) بفتح الفاء أي يسافر أحد والسفر اسم واقع للغزو وغيره (بالقرآن) قال الطيبي: الباء زائدة لأنها دخلت على المفعول به الذي ناب عن الفاعل وليست هي كما في قوله لا تسافروا فإنها حال أي حال كونكم مصاحبين له ذكره القاري. وقال في اللمعات: قوله بالقرآن أي في الرواية الأولى حال والباء للمصاحبة أي مصاحبا بالقرآن (إلى أرض العدو) أي الكفار يعني دار الحرب خوفا من الاستهانة به. قيل المراد بالقرآن بعض ما نسخ وكتب في عهده وقد كان يكتب بعض الصحابة لنفسه للحفظ أو للتلاوة، وإن لم يكن مجموعا كله في مصحف واحد، فالمراد بالقرآن الصحف التي كتب عليها أو كان هذا إخبارا عن الغيب. وقال الباجي. يريد المصحف لما كان القرآن مكتوبا فيه سماه قرآنا ولم يرد ما كان منه محفوظا في
متفق عليه.
الصدور لأنه لا خلاف أنه يجوز لحافظ القرآن الغزو وإنما كان ذلك لأنه لا إهانة للقرآن في قتل الغازي.

(15/10)


وإنما الإهانة للقرآن بالعبث بالمصحف والاستخفاف به وقد روى مفسرا نهى أن يسافر بالمصحف رواه عبدالرحمن ابن مهدي عن مالك عن نافع عن ابن عمر- انتهى. قال الأبي لم يكن المصحف مكتوبا حينئذ فلعله من الأخبار عن مغيب أو لعله كان مكتوبا في رقاع فيصح، ويتقرر النهي عن السفر بالقليل والكثير منه لا سيما على القول إن القرآن اسم جنس يصدق على القليل والكثير. وأما على القول بأنه اسم للجمع فيتعلق النهي بالقليل لمشاركته الكل في العلة فإن حرمة القليل منه كالكثير- انتهى. قلت: روى مفسرا أي بلفظ: المصحف محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عند أحمد (ج2ص76) وعقد البخاري في صحيحه باب كراهة السفر بالمصاحف إلى أرض العدو وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى أرض العدو وهم يعلمون القرآن. قال الحافظ: أشار البخاري بذلك إلى أن المراد بالنهي عن السفر بالقرآن السفر بالمصحف خشية أن يناله العدو ولا السفر بالقرآن نفسه، قال وادعى المهلب أن مراد البخاري بذلك تقوية القول بالتفرقة بين العسكر الكثير والطائفة القليلة فيجوز في تلك دون هذه والله أعلم. قال النووي: في الحديث النهي عن المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار للعلة المذكورة في الحديث (الآتي) وهي خوف أن ينالوه فينتهكوا حرمته فإن أمنت هذه العلة بأن يدخل في جيش المسلمين الظاهر عليهم فلا كراهة ولا منع عنه حينئذ لعدم العلة هذا هو الصحيح وبه قال أبوحنيفة والبخاري وآخرون: وقال مالك وجماعة من أصحابنا: بالنهي مطلقا. وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة الجواز مطلقا والصحيح عنه ما سبق. واتفق العلماء على أنه يجوز أن يكتب إليهم كتاب فيه آية أو آيات والحجة فيه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل- انتهى. وقال ابن عبدالبر: اجمع الفقهاء أن لا يسافر بالمصحف في السرايا والعسكر الصغير المخوف عليه، واختلفوا في الكبير المأمون عليه فمنع مالك أيضا مطلقا وفصل أبوحنيفة وأدار

(15/11)


الشافعية الكراهة مع الخوف وجودا وعدما. وقال بعضهم: كالمالكية واستدل به على منع بيع المصحف من الكافر لوجود المعنى المذكور فيه، وهو التمكن من الاستهانة به ولا خلاف في تحريم ذلك وإنما وقع الاختلاف هل يصح لو وقع ويؤمر بإزالة ملكه عنه أم لا. واستدل به على منع تعليم الكافر القرآن وبه قال مالك مطلقا وأجاز الحنفية مطلقا، وعن الشافعي قولان وفصل بعض المالكية بين القليل لأجل مصلحة قيام الحجة عليهم فأجازه وبين الكثير فمنعه، ويؤيده قصة هرقل حيث كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم بعض الآيات. ونقل النووي الاتفاق على جواز الكتابة إليهم بمثل ذلك كذا في الفتح. قال الباجي: لا يجوز أن يعلم أحدا من ذراري الكفار القرآن لأن ذلك سبب لتمكنهم منه ولا بأس أن يقرأ عليهم احتجاجا عليهم به ولا بأس أن يكتب إليهم بالآية ونحوها على سبيل الوعظ كما كتب - صلى الله عليه وسلم - إلى ملك الروم ?يا أهل الكتاب! تعالوا إلى كلمة? الآية [آل عمران: 64] - انتهى. (متفق عليه)
وفي رواية لمسلم لا تسافروا بالقرآن فإني لا آمن أن يناله العدو.
?الفصل الثاني?
2220- (12) عن أبي سعيد الخدري، قال: ((جلست في عصابة

(15/12)


رواه البخاري عن القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر ومسلم من طريق يحيى بن يحيى عن مالك به وأخرجه أحمد (ج2ص7- 63) وابن ماجه من طريق عبدالرحمن بن مهدي عن مالك وزاد مخافة أن يناله العدو ورواه ابن وهب عن مالك فقال: خشية أن يناله العدو. وأخرجه أبوداود عن القعنبي عن مالك فقال قال مالك: أراه مخافة فذكره قال أبوعمر كذا قال يحيى بن يحيى الأندلسي ويحيي بن بكير وأكثر الرواة عن مالك جعلوا التعليل من كلامه ولم يرفعوه. وأشار إلى أن ابن وهب تفرد برفعها وليس كذلك لما تقدم من رواية أحمد وابن ماجه وهذه الزيادة رفعها أيضا عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أخرجها إسحاق بن راهوية في مسنده عن محمد بن بشر وأحمد في مسنده (ج2ص55) عن يحيى بن سعيد عن عبيدالله وكذلك أخرجها مسلم والنسائي وابن ماجه من طريق الليث عن نافع ومسلم من طريق حماد عن أيوب عن نافع بلفظ: فإني لا آمن أن يناله العدو وأحمد (ج2ص6) من طريق ابن علية و(ج2ص10) من طريق سفيان عن أيوب بلفظ فإني أخاف أن يناله العدو، وكذا رواها مسلم من طريق ابن علية والثقفي عن أيوب ورفعها أيضا عبدالله بن دينار عن ابن عمر أخرجها أحمد (ج2ص128) من طريق سليمان بن بلال عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو. قال الحافظ بعد ذكر جملة من هذه الروايات: فصح أنه مرفوع وليس بمدرج ولعل مالكا كان يجزم به ثم صار يشك في رفعه فجعله من تفسير نفسه- انتهى. قيل: ولم يذكر البخاري ومسلم التعليل المذكور في روايتهما عن مالك للاختلاف عليه في رفعه ووقفه. وقد تقدم إن الحفاظ غير مالك اثبتوا رفعه فيكون هو الراجح المعتمد (وفي رواية لمسلم) رواها من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر (لا تسافروا بالقرآن) أي المصحف لا القرآن نفسه والمراد بالمصحف ما كتب فيه القرآن كله أو بعضه متميز إلا في ضمن كلام آخر، فلا ينافيه ما

(15/13)


كتبه صلى الله عليه وسلم في كتابه إلى هرقل من قوله (يا أهل الكتاب) الآية (فإني لا آمن أن يناله العدو) أي من أن يصيبه الكافر فلا يراعي حرمته بل يحقره أو يحرقه أو يلقيه في مكان غير لائق به وهذه الرواية أخرجها أيضا أحمد (ج2ص6، 10).
2220- قوله: (جلست في عصابة) بالكسر أي جماعة. قال الجزري: العصابة الجماعة من الناس
من ضعفاء المهاجرين، وإن بعضهم ليستتر ببعض من العرى، وقاري يقرأ علينا إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام علينا، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت القاري فسلم، ثم قال: ما كنتم تصنعون. قلنا: كنا نستمع إلى كتاب الله فقال: الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم قال فجلس وسطنا ليعدل بنفسه فينا. ثم قال: بيده هكذا فتحلقوا

(15/14)


وكذلك من الخيل والطير (من ضعفاء المهاجرين) يعني أصحاب الصفة (ليستتر) بلام التأكيد المفتوحة من الاستتار (من العرى) أي من أجله بضم العين وسكون الراء أي من كان ثوبه أقل من ثوب صاحبه كان يجلس خلف صاحبه تسترا به، والمقصود بيان فقرهم واحتياجهم وإنه لم يكن على أبدانهم ثياب تكفي للتستر ومن أجل ذلك كان يجلس بعضهم خلف بعض ليحصل الاستتار. وقيل: المراد العرى مما عدا العورة فالتستر لمكان المروءة فإنها لا تسمح بانكشاف ما لا يعتاد كشفه (وقاري يقرأ علينا) القرآن لنستمع ونتعلم (إذ جاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ) إذ للمفاجأة (فقام علينا) أي وقف يعني كنا غافلين عن مجيئه فنظرنا فإذا هو قائم فوق رؤسنا يستمع إلى كتاب الله (سكت القاري) أي تأدبا لحضوره وانتظارا لما يقع من أموره (فسلم) أي فلما سكت القاري سلم الرسول واستدل بذلك على كراهة السلام على قاري القرآن لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يسلم عليهم إلا إذا سكت القاري فتأمل, (ما كنتم تصنعون) إنما سألهم مع علمه بهم ليجيبهم بما أجابهم مرتبا على حالهم (قلنا كنا نستمع إلى كتاب الله) في أبي داود. قلنا: يا رسول الله! أنه كان قاري لنا يقرأ علينا فكنا نستمع إلى كتاب الله أي إلى قراءته أو إلى قارئه (جعل من أمتي من أمرت) بصيغة المجهول (أن أصبر نفسي معهم) أي أحبس نفسي معهم إشارة إلى قوله تعالى: ?واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه? [الكهف: 28] أراد به زمرة الفقراء الملازمين لكتاب الله المتوكلين على الله المقربين عند الله (قال) أي أبوسعيد (فجلس) رسول الله- صلى الله عليه وسلم - (وسطنا) بسكون السين وقد يفتح أي بيننا لا بجنب أحدنا (ليعدل) بكسر الدال أي ليسوى (بنفسه) أي نفسه الكريمة بجلوسه (فينا) أي يسوى نفسه ويجعلها عديلة مماثلة لنا بجلوسه فينا تواضعا ورغبة فيما نحن فيه. قال الطيبي: أي ليجعل نفسه عديلا ممن جلس إليهم ويسوى بينه

(15/15)


وبين أولئك الزمرة رغبة فيما كانوا فيه وتواضعا لربه سبحانه وتعالى- انتهى. وقيل: معناه جلس النبي - صلى الله عليه وسلم - وسط الحلقة ليسوى بنفسه الشريفة جماعتنا ليكون القرب من النبي صلى الله عليه وسلم لكل رجل منا سواء أو قريبا من السواء يقال عدل فلان بفلان سوى بينهما (ثم قال) أي أشار (بيده هكذا) أي أجلسوا حلقا (فتحلقوا) أي قبالة وجهه عليه الصلاة والسلام دل عليه قوله
وبرزت وجوههم له، فقال: أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين: بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك خمسمائة سنة)) .

(15/16)


(وبرزت) أي ظهرت (وجوههم له) بحيث يرى عليه الصلاة والسلام وجه كل أحد منهم قاله القاري. وقال الجزري: تحلقوا أي صاروا حلقة مستديرة (أبشروا) أمر من الابشار أي افرحوا (يا معشر صعاليك المهاجرين) بفتح الصاد المهملة أي جماعة الفقراء من المهاجرين الصابرين جمع صعلوك بضم الصاد وهو الفقير (بالنور التام يوم القيامة) تلميح إلى قوله تعالى: ?نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا? [التحريم: 8] (تدخلون الجنة) استئناف فيه معنى التعليل (قبل أغنياء الناس) أي الشاكرين المؤدين حقوق أموالهم بعد تحصيلها مما أحل الله لهم فإنهم يوقفون في العرصات للحساب من أين حصلوا المال وفي أين صرفوه (وذلك) أي نصف يوم القيامة (خمس مائة سنة) لقوله تعالى: ?وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون? [الحج: 47] وإما في قوله تعالى: ?في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة? [المعارج: 3] فمخصوص بالكافرين ?فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير? [المدثر: 9] وروى أحمد ومسلم عن عبدالله بن عمرو مرفوعا إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفا أي سنة. ووجه الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد أن يقال المراد بكل من العددين إنما هو التكثير لا التحديد فتارة عبر به وأخرى بغيره تفننا ومألهما واحدا أو أخبر أو لا بأربعين كما أوحى إليه ثم أخبر بخمس مائة عام زيادة من فضله على الفقراء ببركته - صلى الله عليه وسلم - أو التقدير بأربعين خريفا إشارة إلى أقل المراتب وبخمسمائة عام إلى أكثرها. ويدل عليه ما رواه الطبراني عن مسلمة بن مخلد ولفظه سبق المهاجرون الناس بأربعين خريفا إلى الجنة ثم يكون الزمرة الثانية مائة خريف، فالمعنى أن يكون الزمرة الثالثة مائتين وهلم جرا، وكأنهم محصورون في خمس زمر أو الاختلاف باختلاف مراتب أشخاص الفقراء في حال صبرهم ورضاهم وشكرهم وهو الأظهر المطابق لما في جامع الأصول (ج5ص486)

(15/17)


حيث قال وجه الجمع بينهما إن الأربعين أراد به تقدم الفقير الحريص على الغني الحريص وأراد بخمسمائة تقدم الفقير الزاهد على الغني الرغب فكان الفقير الحريص على درجتين من خمس وعشرين درجة من الفقير الزاهد. وهذه نسبة الأربعين إلى الخمسمائة ولا تظنن إن هذا التقدير وأمثاله يجري على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم جزافا ولا بالاتفاق بل لسر أدركه ونسبة أحاط بها علمه فإنه لا ينطق عن الهوى، فإن فطن أحد من العلماء إلى شي من هذه المناسبات وإلا فليس طعنا في صحتها- انتهى. وقال العلقمي: ويمكن الجمع بينهما بأن سباق الفقراء يسبقون سباق الأغنياء بأربعين عاما وغير سباق الأغنياء بخمسمائة عام إذ في كل صنف من الفريقين سباق. وقال بعض المتأخرين: يجمع بأن هذا السبق يختلف بحسب أحوال الفقراء والأغنياء فمنهم من يسبق بأربع، ومنهم من يسبق بخمسمائة كما يتأخر مكث
رواه أبوداود.
2221- (13) وعن البراء بن عازب، قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: زينوا القرآن بأصواتكم))

(15/18)


العصاة من الموحدين في النار بحسب جرائمهم، ولا يلزم من سبقهم في الدخول ارتفاع منازلهم بل قد يكون المتأخر أعلى منزلة وإن سبقه غيره في الدخول، فالمزية مزيتان. مزية سبق، ومزية رفعة. قد تجتمعان وقد تنفردان- انتهى. (رواه أبوداود) في أواخر العلم وفي إسناده المعلى بن زياد القردوسي البصري. قال المنذري في مختصر السنن: فيه مقال. قلت قال الحافظ في التقريب: هو صدوق قليل الحديث زاهد اختلف قول ابن معين فيه. وقال في التهذيب (ج10ص237) قال إسحاق بن منصور عن ابن معين وأبو حاتم ثقة. وقال أحمد بن سعيد بن مريم: سألت ابن معين عن معلى بن زياد فقال ليس بشي ولا يكتسب حديثه. وقال ابن عدي: هو معدود من زهاد أهل البصرة ولا أرى برواياته بأسا ولا أدري من أين. قال ابن معين: لا يكتسب حديثه- انتهى. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال أبوبكر البزار: ثقة- انتهى. والحديث أخرج الترمذي وابن ماجه منه، آخره من طريق عطية عن أبي سعيد قال (قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام)، وفي الباب عن أبي هريرة عند الترمذي وابن ماجه وابن حبان يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام نصف يوم لفظ الترمذي، ولفظ ابن ماجه فقراء المؤمنين. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال المنذري في الترغيب بعد ذكر تصحيح الترمذي: رواته محتج بهم في الصحيح.

(15/19)


2221- قوله(زينوا القرآن بأصواتكم) أي بتحسين أصواتكم عند القراءة فإن الكلام الحسن يزيد حسنا وزينة بالصوت الحسن، وهذا أمر مشاهد ولما رأى بعضهم إن القرآن أعظم من أن يحسن بالصوت بل لصوت أحق بأن يحسن بالقرآن قال معناه زينوا أصواتكم بالقرآن. قال الخطابي: هكذا فسره غير واحد من أئمة الحديث وزعموا إنه من باب المقلوب كما يقال عرضت الناقة على الحوض وإنما هو عرضت الحوض على الناقة وكقولهم إذا طلعت الشعري واستوى العود على الحرباء أي استوى الحرباء على العود. ثم روى بإسناده عن شعبة قال نهاني أيوب أن أحدث زينوا القرآن بأصواتكم، قال ورواه معمر عن منصور عن طلحة عن البراء فقدم الأصوات على القرآن وهو الصحيح ثم أسنده الخطابي من طريق عبدالرزاق عن معمر بلفظ: زينوا أصواتكم بالقرآن. وأخرج بهذا اللفظ الحاكم (ج1ص571، 572) أيضا. قال الخطابي: والمعنى أشغلوا أصواتكم بالقرآن والهجوا به واتخذوه شعارا وزينة، يعنى ارفعوا به أصواتكم واجعلوا ذلك هجيراكم ليكون ذلك زينة لها قلت: لا حاجة إلى حمله على القلب بل هو محمول على ظاهره لما يأتي من قوله - صلى الله عليه وسلم - فإن الصوت الحسن يزيد
رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والدارمي.
2222- (14) وعن سعد بن عبادة، قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من إمرىء يقرأ القرآن ثم ينساه إلا لقي الله يوم القيامة أجذم)).

(15/20)


القرآن حسنا. قال في اللمعات: ولا محذور في ذلك لأن ما يزين الشيء يكون تابعا له وملحقا به كالحلي بالنسبة إلى العروس، وأيضا المراد بالقرآن قراءته وهو فعل العبد. وفيه دليل على أن تحسين الصوت بالقرآن مستحب وذلك مقيد برعاية التجويد وعدم التغيير- انتهى. وقال المناوي: قيل معنى الحديث الحث على الترتيل الذي أمر به في قوله تعالى: ?ورتل القرآن ترتيلا? [المزمل: 4] والمعنى زينوا القرآن بالترتيل والتجويد وتلين الصوت وتحزينه. وقيل أراد بالقرآن القراءة والمعنى زينوا قراءة القرآن بأصواتكم الحسنة ويشهد لصحة هذا وإن القلب لا وجه له حديث أبي موسى إن النبي- صلى الله عليه وسلم - استمع قراءته فقال لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود فقال لو علمت إنك تسمع لحبرته لك تحبيرا أي حسنت قرأته تحسينا وزينتها، ويؤيد ذلك تأييدا لا شبهة فيه حديث ابن مسعود مرفوعا إن حسن الصوت يزين القرآن أخرجه البزار بسند ضعيف، ورواه الطبراني بلفظ: حسن الصوت زينة القرآن ويؤيده أيضا حديث ابن عباس عند الطبراني بسند ضعيف لكل شي حلية وحلية القرآن حسن الصوت حديث أنس لكل شي حلية وحلية القرآن الصوت الحسن أخرجه البزار بإسناد ضعيف. قال القاري: يعني كما إن الحلل والحلي يزيد الحسناء حسنا وهو أمر مشاهد فدل على أن رواية العكس محمولة على القلب لا العكس فتدبر ولا منع من الجمع- انتهى. (رواه أحمد) (ج4ص283، 285، 296، 304) (وأبو داود) والنسائي (وابن ماجه) في الصلاة (والدارمي) في فضائل القرآن كلهم من طريق طلحة عن عبدالرحمن بن عوسجة عن البراء وعلقه البخاري في باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة من كتاب التوحيد ووصله في خلق أفعال العباد وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم وبسط طرقه، والبيهقي (ج2ص53) وفي الباب عن ابن عباس أخرجه الطبراني في الكبير والدار قطني في الإفراد، وعن أبي

(15/21)


هريرة أخرجه أبونصر السخبري في الإبانة وعن عائشة عند أبي نعيم في الحلية.
2222- قوله (ما من إمريء يقرأ القرآن) أي بالنظر أو بالغيب يعني يحفظه على ظهر قلبه (ثم ينساه) أي بالنظر أو بالغيب أو المعنى ثم يترك قراءته نسي أو ما نسي. قال في اللمعات: ظاهر الحديث نسيانه بعد حفظه فقد عد ذلك من الكبائر. وقيل: المراد به جهله بحيث لا يعرف القراءة. وقيل: النسيان يكون بمعنى الذهول وبمعنى الترك وهو ههنا بمعنى الترك أي ترك العمل وقراءته. قلت: المتبادر من النسيان الواقع في هذا الحديث وأمثاله هو النسيان بعد الحفظ عن ظهر القلب فهو المراد منه (إلا لقي الله يوم القيامة أجذم) من الجزم بمعنى القطع وذكر
رواه أبوداود، والدارمي.

(15/22)


في تفسيره أقوال. فقيل مقطوع اليد قاله أبوعبيد. وقيل الأجذم ههنا بمعنى المجذوم أي مقطوع الأعضاء يعني الذي ذهبت أعضاءه كلها إذ ليست يد القاري أولى من سائر أعضاءه يقال رجل أجذم إذا تساقطت أعضاءه من الجذام. وقيل المراد به أجذم الحجة أي لا حجة له ولا لسان يتكلم به يقال ليس له يد أي لا حجة له. وقيل: خالي اليد من الخير صفرها من الثواب كني بالنيه عما تحويه اليد. قال الحافظ: في معنى أجذم فقيل مقطوع اليد. وقيل مقطوع الحجة. وقيل مقطوع السبب من الخير. وقيل خالي اليد من الخير وهي متقاربة. وقيل: يحشر مجذوما حقيقة ويؤيده إن في رواية زائدة بن قدامة عند عبد بن حميد أتى الله يوم القيامة وهو مجذوم- انتهى. والحديث فيه وعيد شديد لمن حفظ القرآن ثم نسيه وقد عد الرافعي وغيره نسيان القرآن من الكبائر. قال الحافظ: اختلف السلف في نسيان القرآن فمنهم من جعل ذلك من الكبائر وأخرج أبوعبيد من طريق الضحاك بن مزاحم موقوفا. قال ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا بذنب أحدثه لأن الله يقول ?ما أصابك من مصيبة فبما كسبت أيديكم? [الشورى: 30] ونسيان القرآن من أعظم المصائب واحتجوا أيضا بما أخرجه أبوداود والترمذي من حديث أنس مرفوعا عرضت على ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة القرآن أويتها رجل ثم نسيها وفي إسناده ضعف. وقد أخرج ابن أبي داود من وجه آخر مرسل نحوه ولفظه أعظم من حامل القرآن وتاركه (أي بعد ما كان حامله ثم نسيه) ومن طريق أبي العالية موقوفا كنا نعد من أعظم الذنوب أن يتعلم الرجل القرآن ثم ينام عنه حتى ينساه وإسناده جيد ومن طريق ابن سيرين بإسناد صحيح في الذي ينسى القرآن كانوا يكرهونه ويقولون فيه قولا شديدا ولأبي داود عن سعد بن عبادة مرفوعا من قرأ القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم، وفي إسناده أيضا مقال، وقد قال به من الشافعية أبوالمكارم والرؤياني. واحتج بأن الأعراض عن التلاوة يتسبب عنه نسيان القرآن

(15/23)


ونسيانه يدل على عدم الاعتناء به والتهاون بأمره. وقال القرطبي: من حفظ القرآن أو بعضه فقد علت رتبته بالنسبة إلى من لم يحفظه فإذا أخل بهذه الرتبة الدينية حتى تزحزح عنها ناسب أن يعاقب على ذلك فإن ترك معاهدة القرآن يفضي إلى الجهل والرجوع إلى الجهل بعد العلم شديد- انتهى. قلت: حديث أنس عند أبي داود والترمذي قد تقدم في باب المساجد. وقد بينا هناك ما فيه من الكلام وتزيد ههنا إن الدار قطني بين أن فيه انقطاعا آخر، وهو إن ابن جريج رواية عن المطلب بن عبدالله لم يسمع من المطلب كما إن المطلب لم يسمع من أنس شيئا فلم يثبت الحديث بسبب ذلك ذكره ابن حجر المكي في الزواجر (ج1ص111) (رواه أبوداود) في أواخر الصلاة من طريق ابن إدريس عن يزيد بن أبي زياد عن عيسى ابن فائد عن سعد بن عبادة (والدارمي) في فضائل القرآن من طريق شعبة عن يزيد عن عيسى عن رجل عن سعد ابن عبادة، وكذا أخرجه أحمد (ج5ص284- 285) وقد سكت عليه أبوداود. وتقدم عن الحافظ أنه قال أن في إسناده مقالا. وقال المنذري في إسناده. يزيد بن أبي زياد الهاشمي. مولاهم الكوفي ولا يحتج بحديثه.
2223- (15) وعن عبدالله بن عمرو، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث)).

(15/24)


وقال عبدالرحمن بن أبي حاتم. عيسى بن فائد رواه عن من سمع سعد بن عبادة ففي سند أبي داود انقطاع، وفي سند أحمد والدارمي جهالة لكون الواسطة بين عيسى وسعد رجلا مبهما لا يدري من هو وأيضا، عيسى هذا مجهول. قال الحافظ في التقريب: عيسى بن فائد أمير الرقة مجهول وروايته عن الصحابة مرسلة وقال في تهذيب التهذيب عيسى: بن فائد عن سعد بن عبادة في الذي ينسى القرآن. وقيل عن رجل عن سعد. وقيل: عن عبادة ابن الصامت. وقيل غير ذلك. قال ابن المديني: لم يرو عنه غير يزيد بن أبي زياد وقال ابن عبدالبر هذا إسناد روى في هذا المعنى وعيسى بن فائد لم يسمع من سعد بن عبادة ولا أدركه قلت (قائله الحافظ) وقال ابن المديني مجهول- انتهى. وقال في الميزان: عيسى بن فائد لا يدري من هو عن سعد بن عبادة حديث من قرأ القرآن ونسيه لقي الله وهو أجذم رواه ابن إدريس عن يزيد بن أبي زياد عنه وهذا منقطع وعيسى يتأمل حاله. ثم قد رواه شعبة وجرير وخالد بن عبدالله وابن فضيل عن يزيد فادخلوا رجلا بين ابن فائد وبين سعد. وقيل غير ذلك- انتهى. وعلى هذا فسكوت أبي داود على هذا الحديث معترض، ورواية يزيد عن عيسى عن عبادة بن الصامت أخرجها عبدالله بن أحمد (ج5ص322- 327- 328).

(15/25)


2223- قوله (لم يفقه) بفتح القاف وهذا لفظ الترمذي وابن ماجه ورواه أبوداود والدارمي بلفظ: لا يفقه (من قرأ القرآن في أقل من ثلاث) لأن من قرأ في دون هذه المدة لا بد أن يسرع في التلاوة فيغفل عن التدبر فيه ولا يكون له هم إلا أداء الألفاظ. قال في المجمع: لم يفقه الخ أي لم يفهم ظاهر معانيه من قرأه في أقل من هذه المدة، وأما فهم مقائقة فلا يفي به الأعمار والمراد نفي الفهم لا نفي الثواب- انتهى. قال السندي: قوله "لم يفقه" أخبار بأنه لا يحصل الفهم والفقه المقصود من قراءة القرآن فيما دون ثلاث أو دعاء عليه، بأن لا يعطيه الله تعالى الفهم وعلى التقديرين فظاهر الحديث كراهة الختم في ما دون ثلاث وكثير منهم أراد ذلك في الأعم الأغلب. وأما من غلبه الشغل فيجوز له ذلك- انتهى. قلت: لا شك في أن الظاهر الحديث كراهة ختم القرآن في أقل من الثلاث، ويؤيده ما روى عن عائشة إنها قالت ولا أعلم نبي الله قرأ القرآن كله في ليلة رواه مسلم. قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختم القرآن في أقل من ثلاث رواه أبوعبيد في فضائل القرآن، ويؤيده أيضا ما روى ابن أبي داود وسعيد بن منصور عن عبدالله بن مسعود موقوفا لا تقرؤا القرآن في أقل من ثلاث. ورواه الطبراني في الكبير بلفظ: لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث اقرؤه في سبع. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وروى أبوعبيد عن معاذ بن جبل إنه كان يكره أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث وقد اختلف السلف
رواه الترمذي، وأبوداود، والدارمي.

(15/26)


في مدة الختم. قال الترمذي قال بعض أهل العلم: لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث للحديث الذي روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ورخص فيه بعض أهل العلم وروى عن عثمان بن عفان إنه كان يقرأ القرآن في ركعة يوتر بها، وروى عن سعيد بن جبير أنه قرأ القرآن في ركعة في الكعبة- انتهى. قلت: ذهب أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة إلى كراهة ختم القرآن فيما دون الثلاث. وذهب جماعة على جواز ذلك منهم عثمان وتميم الداري وعبدالله بن الزبير وسعيد بن المسيب وثابت البناني وسعيد بن جبير وعطاء بن السائب وغيرهم ذكرهم محمد بن نصر في قيام الليل. قال الحافظ بعد ذكر حديث عبدالله بن عمر: والذي نحن في شرحه وشاهده عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن ابن مسعود اقرؤا القرآن في سبع ولا تقرؤه في أقل من ثلث، ولأبي عبيد من طريق الطيب بن سليمان عن عمرة عن عائشة إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يختم القرآن في أقل من ثلث وهذا اختيار أحمد وأبي عبيد وإسحاق ابن راهوية وغيرهم. وثبت عن كثير من السلف إقرؤا القرآن في دون ذلك قال وأغرب بعض الظاهرية فقال يحرم أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث. وقال النووي: أكثر العلماء على أنه لا تقدير في ذلك، وإنما هو بحسب النشاط والقوة فعلى هذا يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والله أعلم- انتهى كلام الحافظ. قلت: قال النووي في الأذكار بعد ذكر عادات السلف: المختلفة في القدر الذي كانوا يختمون فيه القرآن والمختار إن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر يحصل له معه كمال فهم ما يقرؤه وكذا من كان مشغولا بنشر العلم أو فصل الحكومات ما بين المسلمين أو غير ذلك من مهمات الدين والمصالح العامة للمسلمين فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له ولا فوات كماله، من لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل أو الهذرمة في القراءة. وقد كره

(15/27)


جماعة من المتقدمين الختم في يوم وليلة، ويدل عليه ما روينا بالأسانيد الصحيحة في سنن أبي داود والترمذي والنسائي وغيرها عن عبدالله ابن عمرو بن العاص مرفوعا لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث- انتهى. وقال القاري: جرى على ظاهر الحديث جماعة من السلف فكانوا يختمون القرآن في ثلاث دائما. وكرهوا الختم في أقل من ثلاث ولم يأخذ به آخرون نظرا إلى أن مفهوم العدد ليس بحجة فختمة جماعة في يوم وليلة مرة وآخرون مرتين وآخرون ثلاث مرات وختمه في ركعة من لا يحصون كثرة وزاد آخرون على الثلاث- انتهى. قلت: والمختار عندي ما اختاره الإمام أحمد وإسحاق بن راهوية وأبو عبيد وغيرهم وذلك لحديث عبدالله بن عمرو وحديث عائشة والنبي - صلى الله عليه وسلم - أحق أن يتبع (رواه الترمذي) في أواخر القراءات (وأبوداود والدارمي) في الصلاة وكذا ابن ماجه وأخرجه أحمد (ج2ص164- 165- 189، 193، 195) وأبوداود الطيالسي والنسائي في فضائل القرآن وصححه الترمذي، ونقل المنذري والحافظ والنووي تصحيح الترمذي وسكتوا عليه.
2224- (16) وعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة. والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة)).

(15/28)


2224- قوله: (الجاهر بالقرآن) أي بقراءته (كالجاهر بالصدقة) أي كالمعلن بإعطاءها (والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة) وقد قال الله تعالى: ?إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم? [البقرة: 271] فالظاهر من الحديث إن السر أفضل من الجهر كما أشار إليه النسائي حيث عقد على هذا الحديث باب فضل السر على الجهر لكن الذي يقتضيه أمره صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ارفع من صوتك إن الاعتدال في القراءة أفضل، فإما أن يحمل الجهر في الحديث على المبالغة والسر على الاعتدال أو على أن هذا الحديث محمول على ما إذا كان الحال تقتضي السر وإلا فالاعتدال في ذاته أفضل قاله السندي. وقال الترمذي: معنى هذا الحديث إن الذي يسر بالقراءة القرآن أفضل من الذي يجهر بقراءة القرآن لأن صدقة السر أفضل عند أهل العلم من صدقة العلانية، وإنما معنى هذا عند أهل العلم لكي يأمن الرجل من العجب لأن الذي ييسر بالعمل لا يخاف عليه بالعجب ما يخاف عليه في العلانية- انتهى. قلت: وردت أحاديث تقتضي استحباب رفع الصوت بالقراءة وأحاديث تقتضي الأسرار وخفض الصوت فمن الأول ما تقدم من حديث أبي هريرة عند الشيخين ما أذن الله لشي ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به، ومن الثاني حديث عقبة هذا وحديث معاذ بن جبل أخرجه الحاكم (ج1ص555) بلفظ: حديث عقبة وصححه على شرط البخاري ووافقه الذهبي. قال النووي في الأذكار: والجمع بينهما إن الأسرار أبعد من الرياء فهو أفضل في حق من يخاف ذلك، فإن لم يخف الرياء فالجهر أفضل بشرط أن لا يؤذي غيره من مصل أو نائم أو غيرهما يعني إن الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء أو تأذى مصلون أو نيام بجهره، والجهر أفضل في غير ذلك لأن العمل فيه أكبر ولأنه يتعدى نفعه إلى غيره أي من استماع أو تعلم أو إقتداء أو انزجار أو كونه شعارا للدين، ولأنه يوقظ قلب القاري ويجمع همه إلى الفكر ويصرف سمعه إليه ولأنه يطرد النوم عنه ويزيد في

(15/29)


النشاط ويوقظ غيره من نائم وغافل وينشطه فمتى حضره شي من هذه النيات فالجهر أفضل- انتهى. قال السيوطي: ويدل لهذا الجمع حديث أبي داود بسند صحيح عن أبي سعيد اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر. وقال ألا أن كلكم مناج لربه فلا يؤذين بعضكم بعضا ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة. قلت: ويدل له أيضا ما روى الديلمي في مسند الفردوس عن ابن عمر مرفوعا السر أفضل من العلانية والعلانية أفضل لمن أراد الإقتداء به ذكره الذهبي في ترجمة عبدالملك بن مهران عن عثمان بن زائدة عن نافع عن ابن عمر. قال السيوطي: وقال بعضهم يستحب الجهر ببعض القراءة والأسرار وببعضها لأن المسر قد يميل فيأنس بالجهر والجاهر قد
رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
2225- (17) وعن صهيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما آمن بالقرآن من استحل محارمه)) رواه الترمذي. وقال: هذا حديث ليس إسناده بالقوي.

(15/30)


بكل فيستريح بالأسرار (رواه الترمذي وأبوداود والنسائي وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب) الحديث أخرجه الترمذي في فضائل القرآن وأبوداود في الصلاة كلاهما من طريق إسماعيل بن عياش عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة الحضرمي عن عقبة وحسنه الترمذي وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: في إسناده إسماعيل بن عياش، وفيه مقال، ومنهم من يصحح حديثه عن الشاميين وهذا الحديث شامي الإسناد- انتهى. وأخرجه النسائي في الزكاة من طريق معاوية بن صالح عن بحير بن سعد وكذا عبدالله بن أحمد (ج4ص151- 158) وأخرجه النسائي أيضا في الصلاة من طريق زيد بن واقد عن كثير بن مرة وعبدالله بن أحمد (ج4ص201) من طريق زيد بن واقد عن سليمان بن موسى عن كثير بن مرة،، فالحديث حسن بل صحيح، وفي الباب عن معاذ بن جبل أخرجه الحاكم وصححه، وعن أبي أمامة رواه الطبراني في الكبير من طريقين في أحدهما بشير بن نمير وهو متروك وفي الأخرى إسحاق بن مالك ضعفه الأزدي كذا في مجمع الزوائد.

(15/31)


2225- قوله: (وعن صهيب) بالتصغير (ما آمن بالقرآن من استحل محارمه) جمع محرم بمعنى الحرام الذي هو المحرم والضمير للقرآن والمراد فردا من هذا الجنس يعني هو كافر لاستحلاله الحرام المنصوص عليه في القرآن وخص القرآن لعظمته وإلا فمن استحل المجمع على تحريمه المعلوم ضرورة كافر أيضا. قال الطيبي: من استحل ما حرمه الله فقد كفر مطلقا وخص ذكر القرآن لعظمته وجلالته (رواه الترمذي) في فضائل القرآن عن محمد بن إسماعيل الواسطي نا وكيع نا أبوفروة يزيد بن سنان عن أبي المبارك عن صهيب (وقال: هذا حديث ليس إسناده بالقوي) في نسخ الترمذي الموجودة عندنا "ليس إسناده بذاك" يعني ليس بالقوي فكأن المصنف ذكره بالمعنى. وقال الترمذي أيضا بعد ذكر الاختلاف في سنده. وأبو المبارك رجل مجهول. قلت: ولم يدرك صهيبا فالحديث منقطع أيضا. قال الحافظ في التقريب: أبوالمبارك عن عطاء مجهول، وروايته عن صهيب مرسلة. وقال في التهذيب: أبوالمبارك روى عن عطاء بن أبي رباح وأرسل عن صهيب. قال الترمذي: مجهول. وذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال هو شبيه بالمجهول. وقال الذهبي في الميزان في أبي المبارك: هذا لا يدري من هو وخبره منكر. وقال بعد ذكر الحديث من طريق الترمذي المذكورة هو منقطع. قال الترمذي: ليس إسناده بالقوي. قال الذهبي وأبو المبارك: لا تقوم به حجة لجهالته- انتهى. قال الترمذي: وقد خولف وكيع في روايته فروى محمد بن يزيد بن سنان عن أبيه فزاد في الإسناد عن مجاهد عن سعيد المسيب عن
2226- (18) وعن الليث بن سعد، عن ابن أبي مليكة، عن يعلى بن مملك، أنه سأل أم سلمة عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا.

(15/32)


صهيب ولا يتابع محمد بن يزيد على روايته. وقال البخاري: يزيد بن سنان ليس بحديثه بأس إلا رواية ابنه محمد عنه فإنه يروي عنه مناكير- انتهى. قلت: رواه من هذا الطريق الذهبي في الميزان والبيهقي في شعب الإيمان. قال الذهبي: محمد بن يزيد الذي جود سنده ليس بعمدة كأبيه- انتهى. قلت: يزيد بن سنان والد محمد بن يزيد ضعفه أحمد وابن المديني وأبو داود والدار قطني والنسائي وقال ابن معين: ليس بشي. وقال أبوحاتم: محله الصدق وكان الغالب عليه الغفلة يكتب حديثه ولا يحتج به فالحديث بطريقيه ضعيف. قال في تنقيع الرواة وفي الباب عن أنس عند أبي نعيم وعن جابر عند الخطيب في تاريخه.

(15/33)


2226- قوله: (وعن الليث بن سعد) بن عبدالرحمن الفهمي يكنى أبا الحارث فقيه أهل مصر. قال في التقريب: ثقة ثبت فقيه إمام مشهور ولد في قرية في أسفل مصر يوم الخميس لأربع عشرة من شعبان سنة أربع وتسعين روى عن ابن أبي مليكة وعطاء والزهري وغيرهم وحدث عنه خلق كثير، منهم ابن المبارك، قدم بغداد سنة إحدى وستين ومائة وعرض عليه المنصور ولاية مصر فأبى واستعفاه. قال يحيى بن بكير: رأيت من رأيت فلم أر مثل الليث، وفي رواية ما رأيت أكمل من الليث وقال أيضا الليث أفقه من مالك ولكن كانت الحظوة لمالك، وقال نحو ذلك الشافعي، قال ابن حبان في الثقات: كان من سادات أهل زمانه فقها وورعا وعلما وفضلا وسخاء، كان دخله كل سنة ثمانين ألف دينار ما وجبت عليه زكاة مات في يوم الجمعة نصف شعبان سنة خمس وسبعين ومائة وقد أفرد الحافظ ترجمة رسالة سماها الرحمة الغيثية بالترجمة الليثية، طبعت ببولاق مصر مع الخلاصة في أسماء الرجال للخزرجي (عن ابن أبي مليكة) بالتصغير (عن يعلى) بفتح التحتية وسكون المهملة وفتح اللام والقصر كيرضى (بن مملك) بفتح الميم الأولى واللام بعدها كاف عن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي عن صفتها (فإذا هي تنعت) أي تصف وتبين بالقول أو بالفعل بأن تقرأ كقراءته صلى الله عليه وسلم (قراءة مفسرة) بفتح السين المشددة من الفسر وهو البيان أي مبينة (حرفا حرفا) أي مرتلة مجردة مميزة غير مخالطة بل كان يقرأ بحيث يمكن عد حروف ما يقرأ، والمراد حسن الترتيل والتلاوة على نعت التجويد "وحرفا حرفا" حال أي حال كونها مفصولة الحروف نحو أدخلتهم رجلا رجلا أي منفردين. قال الطيبي: نعتها لقراءته صلى الله عليه وسلم يحتمل وجهين. أحدهما أن تقول كانت قراءته كيت وكيت. والثاني أن تقرأ قراءة مرتلة مبينة وتقول كان النبي يقرأ مثل هذه القراءة. والحديث يدل على استحباب قراءة القرآن مرتلة مبينة. قال في شرح المهذب: قد اتفقوا على كراهة

(15/34)


الإفراط في الإسراع. قالوا: وقراءة جزع بترتيل أفضل من قراء جزءين في قدر ذلك الزمان
رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي.
2227- (19) وعن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته، يقول: ?الحمد لله رب العالمين? ثم يقف، ثم يقول: ?الرحمن الرحيم? ثم يقف.
بلا ترتيل، قالوا: واستحباب الترتيل للتدبر لأنه أقرب إلى الإجلال والتوقير وأشد تأثيرا في القلب، ولهذا يستحب للأعجمي الذي لا يفهم معناه. وقال الجزري في النشر: اختلف هل الأفضل الترتيل وقلة القراءة لو السرعة مع كثرتها وأحسن بعض أئمتنا. فقال إن ثواب قراءة الترتيل أجل قدرا وثواب الكثرة أكثر عددا لأن بكل حرف عشر حسنات- انتهى. قال القاري: ولا شك إن اعتبار الكيفية أولى من اعتبار الكمية وقد بسط الكلام في ذلك ابن القيم في زاد المعاد (ج1ص90) فأجاد فعليك أن تراجعه (رواه الترمذي) في أواخر فضائل القرآن وأخرجه أيضا في الشمائل (وأبو داود والنسائي) في الصلاة وأخرجه أيضا عبدالله بن أحمد (ج6ص294-300) والحاكم (ج1ص310) والحديث سكت عنه أبوداود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ونقل المنذري كلام الترمذي هذا وأقره. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي والحديث قطعة من حديث طويل تقدم في آخر باب صلاة الليل.

(15/35)


2227- قوله: (وعن ابن جريج) بالتصغير (يقطع) من التقطيع وهو جعل الشيء قطعا قطعا (قراءته) زاد في رواية أحمد وأبي داود والحاكم آية آية يقف عند رأس كل آية وإن تعلقت بما بعدها فيسن الوقف على رؤس الآي وإن تعلقت بما بعدها كما صرح به البيهقي وغيره خلافا لبعض القراء حيث منع الوقف إذا تعلقت بما بعدها وجعله بعضهم خلاف الأولى. وقال القاري: قوله "يقطع قراءته" أي يقرأ بالوقف على رؤس الآيات (يقول الحمد لله رب العالمين ثم يقف ثم يقول الرحمن الرحيم ثم يقف) كذا في جميع النسخ الحاضرة، وهكذا وقع في الشمائل للترمذي ولفظه في جامعه "يقرأ الحمد لله رب العالمين ثم يقف الرحمن الرحيم ثم يقف" وذكر في جامع الأصول (ج3ص17) بلفظ: يقول بدل يقرأ وقوله "ثم يقف" أي يمسك عن القراءة قليلا ثم يقرأ الآية التي بعدها وهكذا إلى آخر السورة، وهذا بيان لقوله "يقطع" بدل أو حال أو استئناف واعلم أن الوقف عند القراء عبارة عن قطع الصوت عن الكلمة زمنا يتنفس فيه عادة بنية استئناف القراءة لا بنية الأعراض ويكون في رؤس الآي وأوسطها ولا يأتي في وسط الكلمة ولا فيما اتصل رسما. ثم إنهم اختلفوا في أنواع الوقف والابتداء. فقال ابن الأنباري: الوقف على ثلاثة أوجه تام وحسن وقبيح، وقال غيره الوقف

(15/36)


ينقسم إلى أربعة أقسام تام مختار، وكاف جائز، وحسن مفهوم، وقبيح متروك. وقال السجاوندي: الوقف على خمس مراتب. لازم، ومطلق، وجائز، ومجوز بوجه، ومرخص ضرورة. وقال ابن الجزري: أكثر ما ذكر الناس في أقسام الوقف غير منضبط ولا منحصر ثم بين ما هو أقرب إلى الضبط عنده وقال في ما ذكر لضبطه وإن كان التعلق بما بعده من جهة اللفظ أي لا من جهة المعنى فهو المسمى بالحسن لأنه في نفسه حسن مفيد يجوز الوقف عليه دون الابتداء مما بعده للتعلق اللفظي إلا أن يكون رأس آية فإنه يجوز في اختيار أكثر أهل الأداء لمجيئة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة يعني الذي نحن في شرحه. وقال القاري: الوقف المستحسن على أنواع ثلاثة، الحسن، والكافي، والتام. فيجوز الوقف على كل نوع عند القراء. وقد أشار إليها الجزري بقوله:
وهي لما تم فإن لم يوجد تعلق أو كان معنى فابتد
فالتام فالكافي ولفظا فامنعن إلا رؤس الآي جوز فالحسن

(15/37)


وشرحه يطول قال. وهذا الوقف يعني المذكور في حديث أم سلمة يسمى حسنا- انتهى. ومن أحب الوقوف على تعريفات أنواع الوقف والابتداء وما فيها من الاختلاف رجع إلى الإتقان وغيره من كتب هذا الفن. قال القاري: اختلف أرباب الفن في الوقف على رأس الآية إذا كان هناك تعلق لفظي كما نحن فيه (من تعلق الصفة والموصوف) واستدل له بهذا الحديث وعليه الشافعي، وأجاب الجمهور عنه بأن وقفه كان لبيان للسامعين رؤس الآي، فالجمهور على أن الوصل أولى فيها والجزري على أنه يستحب الوقف عليها بالانفصال- انتهى. قلت: وإليه ذهب أبوعمرو من القراء. قال السيوطي في الاتقان (ص87) بعد ذكر مذاهب القراء في الوقف، والابتداء: وكان أبوعمرو يتعمد رؤس الآي ويقول هو أحب إلى فقد قال بعضهم إن الوقف عليه سنة. وقال البيهقي في الشعب وآخرون: الأفضل الوقف على رؤس الآيات وإن تعلقت بما بعدها اتباعا لهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته. ثم ذكر السيوطي حديث أم سلمة. وقال ابن القيم في زاد المعاد: (ج1ص90) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف عند كل آية وذكر الزهري إن قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كانت آية آية وهذا هو الأفضل الوقوف على رؤس الآيات وإن تعلقت بما بعدها. وذهب بعض القراء إلى تتبع الأغراض والمقاصد والوقوف عند انتهاءها واتباع هدى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته أولى، وممن ذكر البيهقي في شعب الإيمان وغيره. ورجح الوقوف على رؤس الآي وإن تعلقت بما بعدها- انتهى. وقال الشيخ عبدالحق الدهلوي في أشعة اللمعات (ج2ص164) وعلى القواعد المقررة عند أرباب القراءة الوصل في أمثال هذه الآيات أرجح، لكن إذا كان على رؤس الآي فالوقف عليها والابتداء بما بعدها سنة- انتهى. قلت: لا شك في كون هذا سنه فيكون هو الأرجح
رواه الترمذي. وقال: ليس إسناده بمتصل، لأن الليث روى هذا الحديث عن ابن أبي مليكة، عن يعلى بن مملك، عن أم سلمة. وحديث الليث أصح.

(15/38)


?الفصل الثالث?
2228- (20) عن جابر، قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن، وفينا
والأولى لأن الفضل والكمال في متابعة في كل حال، وما تفوه به التوربشتي والطيبي ههنا ليس مما يلتفت إليه (رواه الترمذي) في أول القراءات من جامعة، ورواه أيضا في شمائله وأخرجه أيضا عبدالله بن أحمد (ج6ص302) وأبوداود في الحروف والحاكم (ج2ص231- 232) كلهم من طريق يحيى بن سعيد الأموي وهو ثقة عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة (لأن الليث) بن سعد (روى هذا الحديث عن ابن أبي مليكة عن يعلى بن مملك عن أم سلمة) إنها وصفت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم حرفا حرفا، يعني فزاد الليث بين ابن أبي مليكة وأم سلمة يعلى بن مملك، فعلم إن إسناد حديث يحيى بن سعيد الأموي بدون ذكر يعلى بن مملك بينهما منقطع (وحديث الليث أصح) أي من حديث يحيى بن سعيد الأموي عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة يعني فيحمل على أن يحيى بن سعيد الأموي، أو ابن جريج ترك ذكر يعلى بن مملك فصار سند حديثه منقطعا. قلت: الحديث سكت عنه أبوداود. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي ونقل المنذري كلام الترمذي وأقره، وقد تعقبه الشيخ في شرح الترمذي بما توضيحه إن في البخاري "قال ابن أبي مليكة أدركت ثلاثين من الصحابة" وقال ابن حبان في الثقات: رأى ثمانين من الصحابة، وتوفي سنة سبع عشرة ومائة وتوفيت أم سلمة اثنتين وستين أو في آخر إحدى وستين. وصرح الحافظ في تهذيبه إن ابن أبي مليكة روى عن أسماء وعائشة وأم سلمة وعلى هذا فلا يبعد سماعه من أم سلمة فيجوز أن يكون ابن أبي مليكة سمع حديث التقطيع من أم سلمة مباشرة بلا واسطة، وحدث به ابن جريج كما سمعه وسمع حديث وصف القراءة حرفا حرفا بواسطة يعلى بن مملك، وحدث به الليث بن سعد كما سمعه. والحاصل إنهما حديثان مختلفا السياق، والمعنى مرويان عن أم سلمة، أحدهما حديث نعت القراءة

(15/39)


حرفا حرفا حدثت به أم سلمة يعلى بن مملك وهو حدث به ابن أبي مليكة ورواه عنه الليث، والثاني حديث التقطيع حدثت به ابن أبي مليكة وهو حدث به ابن جريج، وعلى هذا فالحديثان متصلان صحيحان ثابتان. وقيل: رواية الليث بن سعد من المزيد في متصل الأسانيد لتحقق سماع ابن أبي مليكة من أم سلمة عند علماء الرجال. وقيل: رواية ابن جريج أصح لأنه تابعه على إسناده نافع ابن عمر الجمعحي وهو ثقة ثبت. وقد صحح حديث ابن جريج الدارقطني وغيره والله أعلم.
2228- قوله: (ونحن نقرأ) جملة حالية (وفينا) أي معشر القراء أو في جماعة الصحابة الموجودين
الأعرابي والعجمي. فقال: إقرؤا فكل حسن . وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح،

(15/40)


(الأعرابي) بفتح الهمزة أي البدوي ويجمع على الأعراب والأعاريب والنسبة إلى الأعراب أعرابي.وإنما قيل في النسب إلى الأعراب أعرابي لأنه لا واحد له على هذا المعنى ألا ترى إنك تقول العرب فلا يكون على هذا المعنى، وحكى الأزهري رجل عربي إذا كان نسبه في العرب ثابتا، وإن لم يكن فصيحا وجمعه العرب كما تقول رجل موسى ويهودي، والجمع بحذف ياء النسبة المجوس واليهود ورجل معرب إذا كان فصيحا وإن كان عجمي النسب ورجل أعرابي بالألف إذا كان بدويا سواء كان من العرب أو من مواليهم، والأعرابي إذا قيل له يا عربي هش له، والعربي إذا قيل يا أعرابي غضب له، فمن نزل البادية أو جاور البادين وظعن بظعنهم وانتوى بانتوائهم فهم أعراب، ومن نزل بلاد الريف واستوطن المدن والقرى العربية وغيرها ممن ينتمي إلى العرب فهم عرب وإن لم يكونوا فصحاء (والعجمي) نسبة إلى العجم أي غير العربي من الفارسي والرومي والحبشي كسلمان وصهيب وبلال قاله الطيبي. قال الطيبي: وقوله: "فينا" يحتمل احتمالين أحدهما إن كلهم منحصرون في هذين الصنفين، وثانيهما إن فينا معشر العرب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو فيما بيننا تانك الطائفتان وهذا الوجه أظهر لأنه عليه الصلاة والسلام فرق بين الأعرابي والعربي بمثل ما في خطبته مهاجر ليس بأعرابي حيث جعل المهاجر ضد الأعرابي، والأعراب ساكن البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة، والعرب اسم لهذا الجيل المعروف من الناس ولا واحد له من لفظه سواء أقام بالبادية أو المدن- انتهى. وحاصله إن العرب أعم من الأعراب وهم أخص ومنه قوله تعالى: ?الأعراب أشد كفرا ونفاقا? [التوبة: 97] ?وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله? (فقال اقرؤا) أي القرآن كما تقرؤن، وفي رواية أحمد (ج3ص397) قال (أي جابر) فاستمع فقال اقرؤا (فكل حسن) أي فكل قراءة من قراءتكم حسنة مرجوة أو محصلة للثواب إذا آثرتم الآجلة على

(15/41)


العاجلة ولا عليكم أن لا تقيموا ألسنتكم إقامة القدح وهو السهم قبل أن يعمل له ريش ولا نصل، والمقصود إن قراءة الأعرابي والعجمي وإن كانت بالنظر إلى خروج الألفاظ عن مخارجها ورعاية صفاتها وقواعد لسان العرب غير مستقيمة، ولكن باعتبار ترتب الثواب عليها والقبول عند الله معتبرة (وسيجيء أقوام يقيمونه) أي حروفه وألفاظه ويجودونها بتفخيم المخارج وتمطيط الأصوات. وقال القاري: أي يصلحون ألفاظه وكلماته ويتكلفون في مراعاة مخارجه وصفاته (كما يقام القدح) بكسر القاف وسكون الدال أي يبالغون في عمل القراءة كمال المبالغة لأجل الرياء والسمعة والمباهاة والشهرة. والحاصل إنهم يبالغون في التحسين والتطريب ويجهدون غاية جهدهم في إصلاح الألفاظ ومراعاة صفاتها ومراعاة قواعد الفن رياء وسمعة ومباهاة وشهرة فليس غرضهم بهذا إلا طلب الدنيا. وفي الحديث رفع الحرج وبناء الآمر على المساهلة فيما يتعلق بقراءة الألفاظ
يتعجلونه ولا يتأجلونه)). رواه أبوداود، والبيهقي في شعب الإيمان.
2229- (21) وعن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إقرؤا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل العشق،

(15/42)


والحروف على السجية والفطرة والحرص كل الحرص على فهم المعاني والعلم بالمقاصد والإتباع لشرائعه وأحكامه.قال الطيبي: فيه رفع الجرح وبناء الأمر على المساهلة في الظاهر وتحري الحسبة والإخلاص في العمل والتفكر في معاني القرآن والغوص في عجائب أمره (يتعجلونه) أي يطلبون جزاءه وثوابه في الدنيا فهو على حذف مضاف وقيل: أي يشترون بآياته ثمنا قليلا (ولا يتأجلونه) قال الجزري: التأجل تفعل من الأجل أي لا يؤخرونه إلى أجل والأجل مدة معينة- انتهى. قال القاري: لا يتأجلونه أي بطلب الأجر في العقبي بل يؤثرون العاجلة على الآجلة ويتأكلونه ولا يتوكلون. والحديث رواه عبدالله بن أحمد (ج3ص357) بلفظ: دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا فيه قوم يقرؤن القرآن قال إقرؤا القرآن وابتغوا به الله عزوجل) قال العزيزي: أي إقرؤه على الكيفية التي يسهل على ألسنتكم النطق بها مع اختلاف ألسنتكم فصاحة ولثغة ولكنة من غير تكلف ولا مشقة في مخارج الحروف ولا مبالغة ولا إفراط في المد والهمز والإشباع فقد كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين له سهلة (من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه) أي يطلبون بقراءته العاجلة أي عرض الدنيا والرفعة فيها ولا يلتفتون إلى الأجر في الدار الآخرة وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم فإنه أخبار عن غيب قبل مجيئه (رواه أبوداود) في الصلاة (والبيهقي) وأخرجه أيضا عبدالله بن أحمد (ج3ص357- 397) وسكت عنه أبوداود والمنذري وفي الباب عن هل بن سعد عند أحمد (ج5ص338) وأبي داود وغيرهما.

(15/43)


2229- قوله: (اقرؤا القرآن بلحون العرب) قال الجزري: اللحون والإلحان جمع لحن، وهو التطريب وترجيع الصوت وتحسين قراءة القرآن أو الشعر أو الغناء (وأصواتها) أي ترنماتها الحسنة التي لا يختل معها شي من الحروف عن مخرجه لأن ذلك يضاعف النشاط قال القاري: وأصواتها عطف تفسيري أي بلا تكلف النغمات من المدات والحركات الطبيعة الساذجة عن التكلفات (وإياكم ولحون أهل العشق) أي أصحاب الفسق من المسلمين الذين يخرجون القرآن عن موضعه بالتمطيط بحيث يزيد أو ينقص حرفا فإنه حرام إجماعا وراجع الفتح من باب من لم يتغن بالقرآن. وزاد المعاد (ص137) فإنهما بسطا الكلام في ذكر اختلاف العلماء في القراءة بالألحان. قيل: المراد بلحون أهل العشق ما يقرأ بها الرجل في مغازلة النساء في الأشعار برعاية القواعد الموسيقية والتكلف
ولحون أهل الكتابين، وسيجيء بعدي قوم يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم)).

(15/44)


بها، ووقع في مجمع الزوائد والجامع الصغير والإتقان والكنز أهل الفسق أي بالفاء ثم السين المهملة بدل العشق وهو تصحيف والصحيح أهل العشق (ولحون أهل الكتابين) أي التوراة والإنجيل وهم اليهود والنصارى وكانوا يقرؤن كتبهم نحوا من ذلك ويتكلفون لذلك ومن تشبه بقوم فهو منهم. قال في جامع الأصول (ج3ص164) ويشبه أن يكون ما يفعله القراء في زماننا بين يدي الوعاظ وفي المجالس من اللحون الأعجمية التي يقرؤن بها نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (يرجعون) بالتشديد أي يرددون أصواتهم (بالقرآن) قال الجزري: الترجيع ترديد الحروف كقراءة النصارى (ترجيع الغناء) بالكسر والمد بمعنى النغمة أي كترجيع أهل الغناء (والنوح) بفتح النون أي وأهل النياحة. قال القاري: المراد ترديدا مخرجا لها عن موضوعها إذ لم يتأت تلحينهم على أصول النغمات إلا بذلك. وقد عقد البخاري في صحيحه باب الترجيع، وذكر فيه حديث عبدالله بن مغفل قال رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ وهو على ناقته أو جمله وهي تسير به وهو يقرأ سورة الفتح قراءة لينة يقرأ وهو يرجع. قال الحافظ: الترجيع هو تقارب ضروب الحركات في القراءة وأصله الترديد وترجيع الصوت ترديده في الحلق، وقد فسره في حديث عبدالله بن مغفل في كتاب التوحيد بقوله أاأ بهمزة مفتوحة بعدها ألف ساكنة ثم همزة أخرى وهو محمول على إشباع المد في محله، وكان هذا الترجيع منه صلى الله عليه وسلم اختيارا لا اضطرارا لهز الناقة له فإنه لو كان لهز الناقة لما كان داخلا تحت الاختيار فلم يكن عبدالله بن مغفل يفعله ويحكيه اختيارا ليتأسى به وهو يراه من هز الناقة له، ثم يقول كان يرجع في قراءته فنسب الترجيع إلى فعله. وقد ثبت في رواية الإسماعيلي فقال لولا أن يجتمع الناس علينا لقرأت ذلك اللحن أي النغم وفي حديث أم هانيء المروي في شمائل الترمذي وسنن النسائي وابن ماجه وابن أبي داود واللفظ له كنت أسمع صوت النبي - صلى

(15/45)


الله عليه وسلم - وهو يقرأ وأنا نائمة على فراشي يرجع القرآن. وقال ابن أبي جمرة: معنى الترجيع تحسين التلاوة لا ترجيع الغناء لأن القراءة بترجيع الغناء تنافي الخشوع الذي هو مقصود التلاوة (لا يجاوز) أي قراءتهم (حناجرهم) جمع حنجرة وهي الحلقوم مجرى النفس وهو كناية عن عدم القبول. قال الطيبي: التجاوز يحتمل الصعود والحدور أي لا يصعد عنها إلى السماء ولا يرفعها الله بالقبول أو لا يصل ولا ينحدر قراءتهم إلى قلوبهم ليدبروا آياته ويتفكروا فيها ويعملوا بمقتضاه (مفتونة) بالنصب على الحالية ويرفع على أنه صفة أخرى لقوم أي مبتلى بحب الدنيا وتحسين الناس لهم (قلوبهم) بالرفع على الفاعلية وعطف عليه قوله (وقلوب الذين يعجبهم شأنهم) أي يستحسنون قراءتهم ويستمعون تلاوتهم
رواه البيهقي في شعب الإيمان.
2230- (22) وعن البراء بن عازب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا)). رواه الدارمي.
2231- (23) وعن طاووس، مرسلا، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أحسن صوتا للقرآن؟ وأحسن قراءة؟ قال: ((من إذا سمعته يقرأ أريت أنه يخشى الله)). قال طاووس: وكان طلق كذلك.
(رواه البيهقي في شعب الإيمان) وكذا الطبراني في الأوسط. قال الهيثمي: وفيه راو لم يسم (ورزين في كتابه) أي بلا سند ولا يوجد في شيء من أصوله.

(15/46)


2230- قوله: (حسنوا القرآن) أي زينوه ففي رواية الحاكم زينوا القرآن (بأصواتكم) قال الطيبي. وذلك بالترتيل وتحسين الصوت بالتليين والتحزين وهذا الحديث لا يحتمل القلب كما احتمله الحديث السابق لقوله (فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا) وفيه طلب الجهر بالقراءة وتحسين الصوت ومحله فيمن أمن من الرياء ولم يؤذ نحو مصل أو نائم (رواه الدارمي) من طريق محمد بن بكر عن صدقة بن أبي عمران عن علقمة بن مرثد عن زاذان عن البراء، وكذا الحاكم (ج1 575) ونسبه في الجامع الصغير والكنز لمحمد بن نصر أيضا.
2231- قوله: (من إذا سمعته يقرأ أريت) بصيغة المجهول من الإراءة أي حسبته وظننته (إنه يخشى الله) أي إذا قرأ حصل له الخوف لما يتدبره من المواعظ ولما فيه من الوعيد. قال السندي: أي المطلوب من تحسين الصوت بالقرآن أن تنتج قراءته خشية الله فمن رأيتم فيه الخشية فقد حسن الصوت بالقرآن المطلوب شرعا فيعد من أحسن الناس صوتا- انتهى. وقال في اللمعات: حاصل الجواب إنه يظهر في حسن صوته آثار الخشية والتحزن فالخشية إنما يفهم من صوته وقراءته على الصفة المخصوصة فمن يوجد في صوته هذه الصفة فهو أحسن صوتا، فليس الجواب على الأسلوب الحكيم، كما قال الطيبي حيث اشتغل بالجواب عن الصوت الحسن بما يظهر الخشية في القاري والمستمع (وكان طلق) بسكون اللام (كذلك) أي بهذا الوصف وطلق هذا هو طلق بن حييب العنزي البصري صدوق من أوساط التابعين روى عن ابن عباس وابن الزبير وابن عمرو بن العاص وجابر وأنس وغيرهم وعنه طاووس وهو من أقرانه والأعمش ومنصور وغيرهم. قال مالك بن أنس: بلغني إن طلق بن حبيب كان من العباد وإنه هو وسعيد بن جبير وقراء كانوا معهم طلبهم الحجاج وقتلهم وذكره ابن حبان
رواه الدارمي.
2232- (24) وعن عبيدة المليكي، وكانت له صحبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أهل القرآن! لا تتوسدوا القرآن)).

(15/47)


في الثقات وقال كان مرجيا عابدا. وقال العجلي: مكي تابعي ثقة كان من أعبد أهل زمانه. وقال طاووس: كان طلق ممن يخشى الله تعالى كذا في تهذيب التهذيب (رواه الدارمي) من طريق جعفر بن عون عن مسعر عن عبدالكريم عن طاووس قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم، قال في تنقيح الرواة: وأخرجه أيضا عبدالرزاق مرسلا. قال: وأخرجه محمد بن نصر في كتاب الصلاة والبيهقي في الشعب والخطيب متصلا عن ابن عباس، وقال: أي الخطيب تفرد بوصله عن مسعر إسمعيل بن عمرو البجلي نزيل أصبهان، ورواه غيره عن مسعر عن طاووس مرسلا لم يذكر فيه ابن عباس- انتهى. وإسمعيل المذكور ضعفه أبوحاتم والدارقطني وابن عقدة والعقيلي والأزدي. وقال الخطيب صاحب غرائب ومناكير عن الثوري وذكره ابن حبان في الثقات فقال يغرب كثيرا. وقال أبوالشيخ في طبقات الأصبهانيين: غرائب حديثه تكثره وذكره إبراهيم بن أرومة فأثنى عليه كذا في تهذيب التهذيب واللسان. وفي الباب عن جابر عند ابن ماجه، قال في الزوائد: إسناده ضعيف لضعف إبراهيم بن اسمعيل بن مجمع والراوي عنه، وعن ابن عمر عند السجزي والخطيب كما في جامع الصغير والكنز ونسبه الهيثمي للطبراني في الأوسط. وقال: فيه حميد بن حماد وثقه ابن حبان وربما أخطأ، وعن عائشة عند الديلمي في مسند الفردوس فالحديث حسن لشواهده.

(15/48)


2232- قوله: ( وعن عبيدة) بفتح المهملة وكسر الموحدة وبعدها ياء تحتها نقطتان وآخرها هاء (المليكي) بالتصغير (وكانت له صحبة) أي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والجملة معترضة من كلام البيهقي أو غيره ولم يذكره المصنف في أسماءه. قال الحافظ في الإصابة: (ج2ص450) عبيدة بفتح أوله الأملوكي. وقيل: المليكي روى عنه المهاجر بن حبيب. قال ابن السكن: يقال له صحبة وأخرج البخاري في التاريخ (ج3ص83) من طريق أبي بكر بن أبي مريم عن المهاجر عن عبيدة عن عبيدة المليكي صاحب النبي صلى الله عليه وسلم قال لا توسدوا القرآن لم يرفعه، وأخرجه الطبراني من هذا الوجه فقال عن عبيدة المليكي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه كان يقول مر أهل القرآن لا توسدوا القرآن فرفعه، ولم يقل صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بن أبي مريم ضعيف- انتهى. (يا أهل القرآن) خصوا بالخطاب لأنهم يجب عليهم المبالغة في أداء حقوقه أكثر من غيرهم لاختلاطه بلحمهم ودمهم، ويحتمل أن يراد بهم المؤمنون كلهم لأنهم ما يخلوا عن بعض القرآن، أو المراد بأهل القرآن المؤمنون به كما في قوله "يا أهل البقرة" (لا تتوسدوا القرآن) يقال توسد فلان ذراعه إذا نام عليها وجعلها كالوسادة له، وهو كناية عن التكاسل والنوم
واتلوه حق تلاوته، من آناء الليل والنهار، وافشوه وتغنوه وتدبروا ما فيعه لعلكم تفلحون ولا تعجلوا، ثوابه، فإن له ثوابا)). رواه البيهقي "في شعب الإيمان"
(2) باب
?الفصل الأول?
2233- (1) عن عمر بن الخطاب، قال: ((سمعت هشام بن حكيم بن حزام

(15/49)


عن تلاوة القرآن والتغافل عن القيام بحقوقه أي لا تهملوا تلاوة القرآن والانتفاع بهداه فإن الذي يجعل القرآن وسادة أو يضعه تحت وسادته للنوم فإنما يعرض عن الانتفاع بمعانيه وعن الاهتداء بهداه فإن الوسادة ممتهنة جعلت للاتكاء عليها ووضع الرأس في النوم عليها. قال القاري: أي لا تجعلوه وسادة لكم تنامون عليه وتغفلون عنه وعن القيام بحقوقه وتتكاسلون في ذلك بل قوموا بحقه لفظا وفهما وعملا وعلما (واتلوه حق تلاوته) أي إقرؤه حق قراءته واتبعوه حق متابعته (من آناء الليل والنهار) أي اتلوه تلاوة كثيرة مستوفية لحقوقها في ساعات الليل والنهار أو اتلوه حق تلاوته حال كونها في ساعات هذا وهذا: قال الطيبي: "لا تتوسدوا" يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون كناية رمزية عن التكاسل أي لا تجعلوه وسادة تنامون عنه بل قوموا به واتلوه آناء الليل وأطراف النهار. وثانيهما أن يكون كناية تلويحية عن التغافل فإن من جعل القرآن وسادة يلزم منه النوم فيلزم منه لغفلة يعني لا تغفلوا عن تدبر معانيه وكشف أسراره ولا تتوانوا في العمل بمقتضاه والإخلاص فيه (وافشوه) أي بالاسماع والتعليم والكتابة والتفسير والمدارسة والعمل (وتغنوه) كذا في جميع النسخ الحاضرة وذكره في الكنز بلفظ: تغنوا به أي حسنوا الصوت وترنموا به أو استغنوا به عن غيره (تدبروا ما فيه) أي من الآيات الباهرة والزواجر البالغة والمواعيد الكاملة (ولا تعجلوا) قال القاري: بتشديد الجيم المكسورة وفي نسخة بفتح التاء والجيم المشددة المفتوحة أي لا تستعجلوا (ثوابه) قال الطيبي: أي لا تجعلوه من الحظوظ العاجلة (فإن له ثوابا) أي مثوبة عظيمة آجلة (رواه البيهقي) أي مرفوعا ورواه موقوفا أيضا كما في الإتقان وقد تقدم أنه أخرجه البخاري في التاريخ الكبير موقوفا والطبراني مرفوعا وسنده ضعيف وعزاه في الكنز لأبي نعيم وابن عساكر أيضا.

(15/50)


(باب) بالرفع والوقف أي في توابع أخرى كاختلاف القراءات وجمع القرآن.
2233- قوله: (سمعت هشام بن حكيم بن حزام) بكسر الحاء المهملة وتخفيف الزاي المعجمة ابن خويلد
يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها، فكدت أن أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم لببته بردائه
ابن أسد القرشي الأسدي صحابي ابن صحابي وكان إسلامهما يوم الفتح وكان هشام من فضلاء الصحابة وخيارهم ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ذكر الزهري أن عمر بن الخطاب كان يقول إذا بلغه أمر ينكره أما ما بقيت أنا وهشام بن حكيم فلا يكون ذلك، قال كان هشام بن حكيم في نفر من أهل الشام يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ليس لأحد عليهم إمارة. قال مالك: كانوا يمشون في الأرض بالإصلاح والنصيحة، قال وكان هشام بن حكيم كالسائح لم يتخذ أهلا ولا ولدا. قال ابن سعد: وكان رجلا مهيبا مات قبل أبيه، ووهم من زعم أنه استشهد باجنادين. قال الحافظ ليس له في البخاري رواية وأخرج له مسلم حديثا واحدا مرفوعا من رواية عروة عنه وهذا يدل على أنه تأخر إلى خلافة عثمان وعلي، ووهم من زعم أنه استشهد في خلافة أبي بكر أو عمر (يقرأ سورة الفرقان) أي في الصلاة كما في رواية أحمد (ج1ص40) (على غير ما أقرأها) أي من القراءة (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم) هو الذي (أقرأنيها) أي سورة الفرقان، وهذه رواية مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عبدالرحمن بن عبد القاري عن عمر بن الخطاب، وفي رواية عقيل عن ابن شهاب يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن البر: في هذه الرواية بيان أن اختلافهما كان في حروف من السورة لا في السورة كلها، وهي تفسير لرواية مالك لأن سورة واحدة لا تقرأ حروفها كلها على سبعة بل لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه

(15/51)


إلا قليل (فكدت أن أعجل عليه) بفتح الهمزة وسكون العين وفتح الجيم. قال القسطلاني: ولأبي ذر في نسخة بضم الهمزة وفتح العين وتشديد الجيم المكسورة أي أن أخاصمه وأظهر بوادر غضبي عليه، وقيل كدت أن أعجل عليه أي في الإنكار عليه والتعرض له. قال ابن البر: فيه دليل على تشددهم في أمر القرآن واهتمامهم بحفظ حروفه ولغاته وضبطهم لقراءته المنسوبة حتى بلغ ذلك لهم إن كاد عمر يعجل على هشام بن حكيم في صلاته (ثم أمهلته حتى انصرف) قال العيني: كالكرماني أي من القراءة وفيه نظر، فإن في رواية عقيل عن ابن شهاب "فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم" فيكون المراد هنا حتى انصرف من الصلاة (ثم لببته) بفتح اللام وموحدتين الأولى مشددة، والثانية ساكنة مأخوذ من اللبة بفتح اللام وهي المنحر يقال لببت الرجل بالتشديد تلبيبا إذا جمعت ثيابه عند نحره في الخصومة ثم جررته (برداءه) أي جمعته في موضع لبته أي عنقه وأمسكته وجذبته به، ووقع في سنن أبي داود "فلببته بردائي" فيمكن الجمع بأن التلبيب وقع بالردائين جميعا وكان هذا من عمر على عادته في الشدة بالأمر بالمعروف وفعل ذلك عن اجتهاد منه
فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت يا رسول الله! إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتينها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسله اقرأ، فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت ثم قال لي اقرأ، فقرأت. فقال: هكذا أنزلت.

(15/52)


لظنه أن هشاما خالف الصواب ولهذا لم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم بل قال له أرسله (فجئت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) في رواية عقيل فلببته برداءه فقلت من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ قال إقرأنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت كذبت، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أقرأنيها على غير ما قرأت فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحافظ: قوله: "كذبت" فيه إطلاق ذلك على غلبة الظن أو المراد بقوله: "كذبت أي أخطأت لأن أهل الحجاز يطلقون الكذب في موضع الخطأ، وقوله: "فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها" إلخ. هذا قاله عمر استدلالا على ما ذهب إليه من تخطئه هشام. وإنما ساغ له ذلك لرسوخ قدمه في الإسلام وسابقته بخلاف هشام فإنه كان قريب العهد بالإسلام فخشى عمر أن لا يكون أتقن القراءة بخلاف نفسه فإنه قد كان أتقن ما سمع وكأن سبب اختلاف قراءتهما إن عمر حفظ هذه السورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قديما ثم لم يسمح ما نزل فيها بخلاف ما حفظه وشاهده، ولأن هشاما من مسلمة الفتح فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرأه على ما نزل أخيرا فنشأ اختلافهما من ذلك ومبادرة عمر للإنكار محمولة على أنه لم يكن سمع حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف إلا في هذه الواقعة (أرسله) بهمزة قطع وهو خطاب لعمر أي أطلق هشاما لأنه كان ممسوكا بيده، وإنما أمره بإرسال قبل أن يقرأ لتسكن نفسه ويثبت جاشه ويتمكن من إيراد القراءة التي قرأ لئلا يدركه من الانزعاج ما يمنعه من ذلك قاله الباجي: قال القاري: وإنما سومح عمر في فعله لأنه ما فعل لحظ نفسه بل غضبا لله بناء على ظنه (اقرأ) يا هشام (فقرأ) أي هشام (القراءة التي سمعته) أي سمعت هشاما إياها على حذف المفعول الثاني قاله القاري (يقرأ) أي يقرؤها (هكذا أنزلت) أي السورة وهذا تصويب منه - صلى الله عليه وسلم - لقراءة هشام (ثم قال لي

(15/53)


إقرأ) أنت يا عمر أمره بالقراءة لأنه يحتمل أن يكون الخطأ والتغيير من جهته (فقرأت) وفي رواية فقرأتها وفي رواية عقيل فقرأت القراءة التي أقرأني (فقال هكذا أنزلت) قال الزرقاني: لم يقع في شي من الطرق تفسير الأحرف التي اختلف فيها عمر وهشام من سورة الفرقان. نعم اختلف الصحابة فمن دونهم في أحرف كثيرة من هذه السورة كما بينه ابن عبدالبر في التمهيد بما يطول. وقال الحافظ: لم أقف في شيء من طرق حديث عمر على تعيين الأحرف التي اختلف فيها عمر وهشام من سورة الفرقان وقد تتبع أبوعمر ابن عبدالبر ما اختلف
إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف.

(15/54)


فيه من القراء من ذلك من لدن الصحابة ومن بعدهم من هذه السورة، ثم أورده الحافظ ملخصا في شرح باب أنزل القرآن على سبعة أحرف من فضائل القرآن،وزاد عليه زيادة كثيرة حتى بلغ جملة ما ذكر مما اختلف فيه من المتواتر والشاذ على نحو من مائة وثلاثين موضعا. قال ابن عبدالبر بعد ذكر ما ذكر من الاختلاف في حروف هذه السورة: والله أعلم بما أنكر منها عمر على هشام وما قرأ به عمر (إن هذا القرآن أنزل إلخ) هذا أورده النبي - صلى الله عليه وسلم - تطمينا لعمر وتطييبا لقلبه وتبيينا لوجه تصويب الأمرين المختلفين. قال الحافظ: وقد وقع عند الطبري من طريق إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة عن أبيه عن جده قال قرأ رجل فغير عليه عمر فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل ألم تقرئني يا رسول الله! قال بلى، قال فوقع في صدر عمر شي عرفه النبي - صلى الله عليه وسلم - في وجهه قال فضرب في صدره وقال: أبعد شيطانا قالها ثلاثا ثم قال يا عمر القرآن كله صواب ما لم تجعل رحمة عذابا أو عذابا رحمة. ومن طريق ابن عمر سمع عمر رجلا يقرأ فذكر نحوه ولم يذكر فوقع في صدر عمر لكن قال في آخره أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها كاف شاف، ووقع لجماعة من الصحابة نظير ما وقع لعمر مع هشام كأبي بن كعب مع ابن مسعود في سورة النحل عند الطبري وعمرو بن العاص مع رجل في آية من الفرقان عند أحمد وابن مسعود مع رجل في سورة من آل حم رواه ابن حبان والحاكم- انتهى. ملخصا (على سبعة أحرف) قد تواترت الأحاديث بلفظ: سبعة أحرف إلا في حديث الحسن عن سمرة رفعه أنزل القرآن على ثلاثة أحرف رواه الحاكم (ج2ص223) وقال حديث صحيح وليس له علة وأقره الذهبي. قال أبوشامة: يحتمل أن يكون بعضه أنزل على ثلاثة أحرف كجذوة والرهب، أو أراد أنزل ابتداء على ثلاثة أحرف ثم زيد إلى سبعة توسعة على العباد قال القسطلاني والزرقاني والأبي: الأكثر على أن لفظ السبع للحصر. وقيل: ليس المراد

(15/55)


حقيقة العدد بل التسهيل والتوسعة والتيسير والشرف والرحمة، وإلى هذا جنح عياض ومن تبعه. ويرده ما يأتي من حديث ابن عباس وحديث أبي بن كعب. قال الزرقاني: وفي حديث أبي بكرة عند أحمد فنظرت إلى ميكائيل فسكت فعلمت أنه قد انتهت العدة فهذا يدل على أراد حقيقة العدد وانحصاره- انتهى. قلت: ليس هذا اللفظ في حديث أبي بكرة عند أحمد في مسنده (ص41- 51) ولا ذكره الهيثمي (ج7ص151) هذا وقد تقدم شي من الكلام في بيان معناه وما هو الراجح عندنا في كتاب العلم ولا بأس لو توسع القول ههنا ليزداد بصيرة وطمأنينة من يريد البسط والله الموفق فنقول قد اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة على أقوال كثيرة بلغها أبوحاتم بن حبان البستي إلى خمسة وثلاثين قولا حكاها ابن النقيب في مقدمة تفسيره عنه بواسطة الشرف المزني المرسى كما في الإتقان. قال المنذري: وأكثرها غير مختار. وقال ابن العربي: لم يأت في ذلك نص ولا أثر. وقال المرسى

(15/56)


بعد ذكرها: هذه الوجوه أكثرها متداخلة ولا أدري مستندها ولا عمن نقلت ومنها أشياء لا أفهم معناها على الحقيقة وأكثرها معارضة حديث عمر وهشام بن حكيم الذي في الصحيح. وقال السيوطي في الإتقان: اختلف في معنى الحديث على نحو أربعين قولا. وقال القاري: قيل اختلف في معناه على أحد وأربعين قولا منها إنه من المشكل الذي لا يدري معناه لأن الحرف يصدق لغة على حرف الهجاء وعلى الكلمة وعلى المعنى وعلى الجهة. قلت: وهذا قول أبي جعفر محمد بن سعد إن النحوي ورجحه السيوطي أيضا حيث قال المختار إن هذا من المتشابه الذي لا يدري تأويله ومن جملة هذه الأقوال إن المراد بسبعة أحرف سبع لغات مشهورة بالفصاحة من لغات العرب وليس المراد إن كل كلمة تقرأ على سبع لغات بل اللغات السبع مفرقة في القرآن، وإلى هذا ذهب أبوعبيد وآخرون منهم ثعلب وأبوحاتم السجستاني واختاره ابن عطية وصححه البيهقي في الشعب. وقال الأزهري وابن حبان: إنه المختار واختاره أيضا التوربشتي والسندي ثم اختلف من ذهب إلى ذلك فقال بعضهم سبع لغات منها خمس في هوازن واثنتان لسائر العرب. وقيل سبع لغات متفرقة لجميع العرب كل حرف منها لقبيلة مشهورة. وقيل سبع لغات أربع لعجز هوازن سعد بن بكر وجشم بن بكر ونصر بن معاوية وثقيف وثلاث لقريش وقيل سبع لغات لغة لقريش ولغة لليمن ولغة لحرهم ولغة لهوازن ولغة لقضاعة ولغة لتميم ولغة لطي وقيل لغة الكعبين كعب بن عمرو وكعب بن لوي ولهما سبع لغات وقيل نزل بلغة قريش وهذيل وتيم الرباب والأزد وربيعة وهوازن وسعد بن بكر واستنكر ذلك ابن قتيبة وقال لم ينزل القرآن إلا بلغة قريش واحتج بقوله تعالى: ?وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه? [إبراهيم: 4] فعلى هذا تكون اللغات السبع في بطون قريش وبذلك جزم أبوعلي الأهوازي وأجيب بأنه لا يلزم من هذه الآية أن يكون أرسل بلسان قريش فقط لكونهم قومه بل أرسل بلسان جميع العرب ولا يرد عليه كونه بعث إلى الناس كافة

(15/57)


عربا وعجما لأن القرآن أنزل باللغة العربية وهو بلغه إلى طوائف العرب وهم يترجمونه لغير العرب بألسنتهم وقيل نزل بلغة مضر خاصة لقول عمر نزل القرآن بلغة مضر. وعين بعضهم فيما حكاه ابن عبدالبر السبع من مضر أنهم هذيل وكنانة وقيس وضبة وتيم الرباب وأسد بن خزيمة وقريش فهذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات ونقل أبوشامة عن بعض الشيوخ إنه قال أنزل القرآن أولا بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء ثم أبيح للعرب أن يقرؤه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والأعراب ولم يكلف أحد منهم الانتقال من لغته إلى لغة أخرى للمشقة. ولما كان فيهم من الحمية ولطلب تسهيل فهم المراد كل ذلك مع اتفاق

(15/58)


المعنى وزاد غيره إن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي بأن يغير كل أحد الكلمة بمرادفها في لغته بل المراعي في ذلك السماع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ويشير إلى ذلك قول كل من عمر وهشام في حديث الباب أقرأني النبي - صلى الله عليه وسلم - ولئن سلم إطلاق الإباحة بقراءة المرادف ولو لم يسمع لكن الإجماع من الصحابة في زمن عثمان الموافق للعرضة الأخيرة يمنع ذلك. قال الحافظ: ثبت عن غير واحد من الصحابة إنه كان يقرأ بالمرادف ولو لم يكن مسموعا له ومن ثم أنكر عمر على ابن مسعود قراءته عتى حين، أي حتى حين، وكتب إليه إن القرآن لم ينزل بلغة هذيل فأقريء الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل وكان ذلك قبل أن يجمع عثمان الناس على قراءة واحدة. قال ابن عبدالبر بعد أن أخرجه من طريق أبي داود بسنده: يحتمل أن يكون هذا من عمر على سبيل الاختيار لا أن الذي قرأ به ابن مسعود لا يجوز قال، وإذا أبيحت قراءته على سبعة أوجه أنزلت جاز الاختيار فيما أنزل. قال أبوشامة: ويحتمل أن يكون مراد عمر ثم عثمان بقولهما نزل بلسان قريش، إن ذلك كان أول نزوله ثم إن الله تعالى سهله على الناس فجوز لهم أن يقرؤه على لغاتهم على أن لا يخرج ذلك عن لغات العرب لكونه بلسان عربي مبين فأما من أراد قراءته من غير العرب فالاختيار له أن يقرأه بلسان قريش لأنه الأولى، وعلى هذا يحمل ما كتب عمر إلى ابن مسعود، لأن جميع اللغات بالنسبة لغير العربي مستوية في التعبير، فإذا لا بد من واحدة فلتكن بلغة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما العربي المجبول على لغته فلو كلف قراءته قريش لعسر عليه التحول مع إباحة الله له أن يقرأه بلغته. ويشير إلى هذا قوله في حديث أبي هون على أمتي وقوله "إن أمتك لا تطيق ذلك" وكأنه انتهى عند السبع لعلمه أنه لا تحتاج لفظة من ألفاظه إلى أكثر من ذلك العدد غالبا، وليس المراد إن كل لفظة منه تقرأ على سبعة أوجه. قال ابن عبدالبر: وهذا مجمع

(15/59)


عليه بل هو غير ممكن بل لا يوجد في القرآن كلمة على سبعة أوجه إلا الشيء القليل مثل عبد الطاغوت. قال الحافظ: وحاصل ما ذهب هؤلاء أي الذين قالوا إن المراد بالأحرف اللغات إن معنى قوله أنزل على سبعة أحرف أي أنزل موسعا على القاري أن يقرأه على سبعة أوجه، أي يقرأ بأي حرف أراد منها على البدل من صاحبه كأنه قال أنزل على هذا الشرط أو على هذه التوسعة، وذلك لتسهيل قراءته إذ لو أخذوا بأن يقرؤه على حرف واحد لشق عليهم كما تقدم. قال ابن قتيبة: في أول تفسير المشكل له كان من تيسير الله إن أمر نبيه أن يقرأ كل قوم بلغتهم فالهذلي يقرأ عتى حين يريد حتى حين، والأسدي يقرأ تعلمون بكسر أوله، والتميمي يهمز والقرشي لا يهمز، قال ولو أراد كل فريق منهم أن يزول عن لغته وما جرى عليه لسانه طفلا وناشئا وكهلا لشق عليه غاية المشقة فيسر عليهم ذلك بمنة. ولو كان المراد إن كل كلمة منه تقرأ على سبعة أوجه لقال مثلا أنزل سبعة أحرف. وإنما المراد أن يأتي في الكلمة وجه أو وجهان أو ثلاثة أو أكثر إلى سبعة-انتهى. وبعد هذا كله رد هذا القول بأن عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم كلاهما قرشي من لغة واحدة - وقبيلة

(15/60)


واحدة - وقد اختلفت قراءتهما، ومحال أن ينكر عليه عمر لغته فدل على أن المراد بالأحرف السبعة غير اللغات ومن جملة الأقوال المحكية في معنى الأحرف إن المراد بها سبعة أوجه من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة نحو أقبل وتعالى وهلم وعجل وأسرع، وإلى هذا ذهب سفيان بن عيينة وابن جرير وابن وهب وخلائق، ونسبه ابن عبدالبر لأكثر العلماء لكن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي بل ذلك مقصور على السماع. قال ابن عبدالبر: أنكر أكثر أهل العلم أن يكون معنى الأحرف اللغات لما تقدم من اختلاف هشام وعمر ولغتهما واحدة، قالوا وإنما المعنى سبعة أوجه من المعاني المتفقة بالألفاظ المختلفة نحو أقبل وتعالى وهلم، ثم ساق الأحاديث الدالة على هذا، وقد ذكرها السيوطي في الإتقان (ج1ص46، 47) والحافظ في شرح حديث ابن عباس الآتي قال الحافظ: ويمكن الجمع بين القولين بأن يكون المراد بالأحرف تغاير الألفاظ مع اتفاق المعنى مع انحصار ذلك في سبع لغات- انتهى. ومنها إن المراد بها الأوجه التي يقع التغاير في سبعة أشياء ذكره ابن قتيبة. قال: فأولها ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته مثل ولا يضار كاتب بنصب الراء ورفعها. وثانيها ما يتغير بتغير الفعل مثل بعد بين أسفارنا وباعد بلفظ الطلب والماضي. وثالثها ما يتغير بنقط بعض الحروف المهملة مثل ثم ننشرها بالراء والزاي. ورابعها ما يتغير بإبدال حرف قريب من مخرج الآخر مثل طلح منضود في قراءة على وطلع منضود. وخامسها ما يتغير بالتقديم والتأخير مثل ?وجاءت سكرة الموت بالحق? [ق: 19] وجاءت سكرة الحق بالموت. وسادسها ما يتغير بزيادة أو نقصان مثل والذكر والأنثى وما خلق الذكر والأنثى. وسابعها ما يتغير بإبدال كلمة بكلمة ترادفها مثل ?كالعهن المنفوش? [القارعة: 5] والصوف المنفوش. وقال أبوالفضل الرازي في اللوائح: الكلام لا يخرج عن سبعة أوجه في الاختلاف: الأول الاختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع أو تذكير وتأنيث:

(15/61)


الثاني اختلاف تصريف الأفعال من ماض ومضارع وأمر. الثالث وجوه الإعراب. الرابع. النقص والزيادة. الخامس التقديم والتأخير. السادس الإبدال. السابع اختلاف اللغات كالفتح والإمالة والتفخيم والترقيق والإدغام والإظهار ونحو ذلك. قال الحافظ بعد ذكر ذلك: قد أخذ أبوالفضل كلام ابن قتيبة ونقحه. قلت: وقريب من ذلك ما ذكره ابن الجزري حيث قال قد تتبعت القراءات صحيحها وشاذها وضعيفها ومنكرها فإذا هي يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه لا يخرج عنها، وذلك إما في الحركات بلا تغير في المعنى والصورة نحو البخل بأربعة أوجه ويحسب بوجهين أو بتغير في المعنى فقط نحو ?فتلقى آدم من ربه كلمات? [البقرة: 37] وأما في الحروف بتغير المعنى لا الصورة نحوه تبلو وتتلو أو عكس ذلك نحو الصراط والسراط أو بتغيرهما نحو فامضوا فاسعوا. وأما في التقديم والتأخير نحو جاءت سكرة الحق بالموت أو في الزيادة والنقصان نحو أوصى ووصى والذكر والأنثى فهذه سبعة لا يخرج الاختلاف عنها قال. وأما نحو اختلاف الإظهار والإدغام

(15/62)


والروم والإشمام والتسهيل والنقل والإبدال مما يعبر عنه بالأصول فهذا ليس من الاختلاف الذي يتنوع فيه اللفظ والمعنى،لأن هذه الصفات المتنوعة في أداءه لا تخرجه عن أن يكون لفظا واحدا ولئن فرض فيكون من الأول - انتهى. ومنها إن المراد بها سبعة أصناف من الكلام أي سبعة أنواع كل نوع منها جزء من أجزاء القرآن. والقائلون به اختلفوا في تعيين السبعة. فقيل أمر ونهى ووعد ووعيد وقصص وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال، واحتجوا بما أخرجه أبوعبيد والحاكم والطحاوي والبيهقي من حديث أبي سلمة بن عبدالرحمن عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وقولوا ?آمنا به كل من عند ربنا? [آل عمران: 7] وقد صححه ابن حبان والحاكم وفي تصحيحه نظر لانقطاعه بين أبي سلمة وابن مسعود. قال الذهبي بعد ذكر تصحيح الحاكم: قلت منقطع. وقال الطحاوي: كان أهل العلم يدفعون هذا الإسناد بانقطاعه، لأن أبا سلمة لا يتهيأ في سنه لقاء عبدالله ابن مسعود ولا أخذه إياه عنه، وقال ابن عبدالبر: هذا حديث لا يثبت لأنه لم يلق أبوسلمة بن عبدالرحمن ابن مسعود، فالحديث ضعيف والقول المبني عليه فاسد. وقد رده قوم من أهل النظر منهم أبوجعفر أحمد بن أبي عمران وابن عطية والماوردي والمازري وأطنب الطبري في مقدمة تفسيره في الرد على من قال به، وحاصله إنه يستحيل أن يجتمع في الحرف الواحد هذه الأوجه السبعة، ومن أراد البسط فليرجع إليه وإلى الفتح والإتقان وسنذكر شيئا منه في شرح حديث ابن عباس من هذا الفصل. ومنها إن المراد بها سبع قراءات روى ذلك عن الخليل بن أحمد وتعقب بأنه لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه إلا

(15/63)


القليل مثل عبدالطاغوت ?فلا تقل لهما أف? [الإسراء: 23] وأجيب بأن المراد إن كل كلمة تقرأ بوجه أو وجهين أو ثلاثة أو أكثر إلى سبعة، ويشكل على هذا إن في الكلمات ما قري على أكثر كذا في الإتقان. وقال القسطلاني: هذا القول أضعف الوجوه فقد بين الطبري وغيره إن اختلاف القراء إنما هو حرف واحد من الأحرف السبعة. ومنها إن المراد بها الاختلاف في كيفية النطق بكلماتها من إدغام وإظهار وتفخيم وترقيق وإمالة وإشباع ومد وقصر وتليين وتحقيق وتشديد وتخفيف، لأن العرب كانت مختلفة اللغات في هذه الوجوه فيسر الله تعالى عليهم ليقرأ كل إنسان بما يوافق لغته ويسهل عليه، ذكره النووي في شرح مسلم. وقال الطيبي: هو أصح الأقوال وأقربها إلى معنى الحديث- انتهى. قال القاري بعد ذكره عن شرح مسلم: وفيه إن هذا ليس على إطلاقه فإن الإدغام مثلا في مواضع لا يجوز الإظهار فيها، وفي مواضع لا يجوز الإدغام فيها، وكذلك البواقي- انتهى. ومن شاء الوقوف على بقية الأقوال رجع إلى الإتقان. تنبيهات الأول قد تقدم في بيان

(15/64)


القول الأول إن أول نزول القرآن كان بلسان قريش ثم سهله الله تعالى على الناس فجوز لهم أن يقرؤه على لغاتهم.قال الحافظ: وذلك بعد أن كثر دخول العرب في الإسلام فقد ثبت إن ورود التخفيف بذلك كان بعد الهجرة كما في حديث أبي كعب، إن جبريل لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عند إضاءة بني غفار فقال الله يأمرك أن تقرأ على أمتك القرآن على حرف، فقال أسأل الله معافاته ومغفرته فإن أمتي لا تطيق ذلك- الحديث. أخرجه مسلم وإضاءة بني غفار بفتح الهمزة والضاد المعجمة بغير همز وآخره تاء تأنيث هو مستنقع الماء كالغدير، وجمعه إضا كعصا. وقيل: بالمد والهمز مثل إناء وهو موضع بالمدينة النبوية ينسب إلى بني غفار بكسر المعجمة وتخفيف الفاء لأنهم نزلوا عنده. الثاني قد اختلفوا إن الأحرف السبعة المذكورة في الحديث هل هي باقية إلى الآن يقرأ بها أم كان ذلك ثم استقر الأمر على بعضها. قال القسطلاني: وإلى الثاني ذهب الأكثر كسفيان بن عيينة وابن وهب والطبري والطحاوي- انتهى. قلت قال الطحاوي. وإنما كان ذلك رخصة لما كان يتعسر على كثير منهم التلاوة بلفظ واحد لعدم علمهم بالكتابة والضبط وإتقان الحفظ ثم نسخ بزوال العذر وتيسر الكتابة والحفظ وكذا قال ابن عبدالبر والباقلاني وآخرون كذا في المرقاة والإتقان. قلت: وإلى الأول ذهب الباجي حيث قال فإن قيل هل تقولون إن جميع هذه السبعة الأحرف ثابتة في المصحف فالقراءة بجميعها جائزة قيل لهم كذلك، نقول والدليل على صحة ذلك قول الله عزوجل ?إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون? [الحجر: 9] ولا يصح انفصال الذكر المنزل من قراءته فيمكن حفظه دونها، ومما يدل على صحته ما ذهبنا إليه إن ظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على أن القرآن أنزل على سبعة أحرف تيسيرا على من أراد قراءته ليقرأ كل رجل منهم بما تيسر عليه وبما هو أخف على طبعه وأقرب إلى لغته، ونحن اليوم مع عجمة ألسنتنا وبعدنا عن فصاحة العرب

(15/65)


أحوج إلى ذلك- انتهى بتغيير يسير. وقال العيني: اختلف الأصوليون هل يقرأ اليوم على سبعة أحرف فمنعه الطبري وغيره، وقال إنما يجوز بحرف واحد اليوم وهو حرف زيد ونحى إليه القاضي أبوبكر. وقال الشيخ أبوالحسن الأشعري: اجمع المسلمون على أنه لا يجوز حظر ما وسعه الله تعالى من القراءات بالأحرف التي أنزلها الله، ولا يسوغ للأمة أن تمنع ما أطلقه الله بل هي موجودة في قراءتنا وهي مفرقة في القرآن غير معلومة بأعيانها فيجوز على هذا، وبه قال القاضي أن يقرأ بكل من نقله أهل التواتر من غير تمييز حرف من حرف فيحفظ حرف نافع بحرف الكسائي وحمزة ولا حرج في ذلك، لأن الله تعالى أنزلها تيسيرا على عبده ورفقا وقال الخطابي: الأشبه فيه ما قيل إن القرآن أنزل مرخصا للقاري بأن يقرأ بسبعة أحرف على ما تيسر وذلك إنما هو فيما اتفق فيه المعنى أو تقارب، وهذا قبل إجماع الصحابة رضي الله عنهم، فأما الآن فلا يسعهم أن يقرؤه على خلاف ما أجمعوا عليه. الثالث اختلف القائلون باستقرار الأمر على بعض الأحرف السبعة هل استقر ذلك في زمن النبوي أم بعده. قال القسطلاني:

(15/66)


والزرقاني: الأكثر على الأول واختاره أبوبكر الباقلاني وابن عبدالبر وابن العربي وغيرهم، لأن ضرورة اختلاف اللغات ومشقة نطقهم بغير لغتهم اقتضت التوسعة عليهم في أول الأمر فإذن. لكل أن يقرأ على حرفه أي طريقته في اللغة إلى أن انضبط الأمر وقد ربت الألسن وتمكن الناس من الاقتصار على لغة واحدة فعارض جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن مرتين في السنة الأخيرة، واستقر ما هو عليه الآن فنسخ الله تعالى تلك القراءة الماذون فيها بما أوجبه من الاقتصار على هذه القراءة التي تلقاها الناس- انتهى. قلت: وهو اختيار الطحاوي كما يدل عليه كلامه الذي ذكرنا في التنبيه الثاني، وحكى السيوطي في الإتقان عن الطبري أنه قال: القراءة على الأحرف السعة لم تكن واجبة على الأمة، وإنما كان جائزا لهم ومرخصا لهم فيهم، فلما رأى الصحابة إن الأمة تفترق وتختلف إذا لم يجمعوا على حرف واحد اجتمعوا على ذلك إجماعا شائعا وهم معصومون من الضلالة ولم يكن في ذلك ترك واجب ولا فعل حرام. ولا شك أن القرآن نسخ منه في العرضة الأخيرة فاتفق رأى الصحابة على أن كتبوا ما تحققوا إنه قرآن مستقر في العرضة الأخيرة وتركوا ما سوى ذلك- انتهى. وقال البغوي في شرح السنة كما في الفتح المصحف الذي استقر عليه الأمر هو آخر العرضات على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر عثمان بنسخة في المصاحف وجمع الناس عليه وأذهب ما سوى ذلك قطعا لمادة الخلاف فصار ما يخالف خط المصحف في حكم المنسوخ والمرفوع كسائر ما نسخ ورفع فليس لأحد أن يعد وفي اللفظ إلى ما هو خارج عن الرسم- انتهى. الرابع اختلف في أن القراءات السبعة التي يقرأها الناس اليوم هل هذه الأحرف السبعة المذكورة في الحديث أو هي حرف واحد منها؟ قال الأبي في الإكمال: الأول ظاهر قول الباقلاني والثاني نص قول ابن أبي صفرة وهو ظاهر قول الطحاوي، والأظهر في المسألة مختار أبي عبدالله بن عرفة إن المراد بالأحرف

(15/67)


المذكورة في الحديث أحرف قراءات السبع اليوم، وقراءة يعقوب داخلة في ذلك، لأنه أخذها عن أبي عمرو ولأن بذلك يظهر التسهيل والتيسير الذي هو سبب نزوله عليها وبه أيضا معجزة قوله ?إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون? [الحجر: 9] لأنها محفوظة مع مرور مئين من السنين وبه أيضا تعرف ضعف قول ابن أبي صفرة لأنها لو كانت واحدة من تلك الأحرف لزم أن توجد بقيتها وإن لم تحفظ لاقتضاء الآية ذلك- انتهى. وقال الحافظ قال أبوشامة: ظن قوم إن قراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل قال وقد بالغ أبوطاهر بن أبي هاشم في الرد على من نسب إلى ابن مجاهد أن مراده بالقراءات السبع الأحرف السبعة المذكورة في الحديث، قال ابن أبي هاشم: إن السبب في اختلاف القراءات السبع وغيرها إن الجهات التي وجهت إليها المصاحف كان بها من الصحابة من حمل عنه أهل تلك الجهة، وكانت المصاحف خالية من النقط والشكل قال، فثبت أهل كل ناحية على ما كانوا تلقوه سماعا عن الصحابة بشرط موافقة الخط وتركوا
?فاقرؤا ما تيسر منه?)). متفق عليه واللفظ لمسلم.

(15/68)


ما يخالف الخط امتثالا لأمر عثمان الذي وافقه عليه الصحابة لما رأو في ذلك من الاحتياط للقرآن. فمن ثم نشأ الاختلاف بين قراء الأمصار مع كونهم متمسكين بحرف واحد من السبعة.وقال مكي بن أبي طالب: هذه القراءات التي يقرأ بها اليوم وصحت رواياتها عن الأئمة جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ثم ساق نحو ما تقدم قال، وأما من ظن أن قراءة هؤلاء القراء كنافع وعاصم هي الأحرف السبعة التي في الحديث فقد غلط غلطا عظيما قال، ويلزم من هذا إن ما خرج من قراءة هؤلاء السبعة مما ثبت عن الأئمة غيرهم ووافق خط المصحف أن لا يكون قرآنا وهذا غلط عظيم- انتهى. وقد بسط الحافظ الكلام في هذا في الفتح (ج2ص431، 432) فعليك أن تراجعه فإنه مفيد جدا الخامس وهو تتمة الرابع قال أبوشامة المقدسي: قد اختلف السلف في الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن هل مجموعة في المصحف الذي بأيدي الناس اليوم أو ليس فيها الأحرف واحد منها، مال ابن الباقلاني إلى الأول وصرح الطبري، وجماعة بالثاني: قال الحافظ وهو المعتمد قال: والحق أن الذي جمع في المصحف هو المتفق على إنزاله المقطوع به المكتوب بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه بعض ما اختلف فيه الأحرف السبعة لا جميعها قال، وما عدا ذلك من القراءات مما لا يوافق الرسم فهو مما كانت القراءة جوزت به توسعه على الناس وتسهيلا، فلما آل الحال إلى ما وقع من الاختلاف في زمن عثمان وكفر بعضهم بعضا اختار الاقتصار على المأذون في كتابته وتركوا الباقي. قال الطبري: وصار ما اتفق عليه الصحابة من الاقتصار كمن اقتصر مما خير فيه على خصلة واحدة لأن أمرهم بالقراءة على الأوجه المذكورة لم يكن على سبيل الإيجاب بل على سبيل الرخصة، قال الحافظ: ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب ?فاقرؤا ما تيسر منه? [المزمل: 20] وقد قرر الطبري ذلك تقريرا أطنب فيه ووهى من قال بخلافه ووافقه على ذلك جماعة، منهم

(15/69)


أبوالعباس بن عمار في شرح الهداية، وقال أصح ما عليه الحذاق إن الذي يقرأ الآن بعض الحروف السبعة المأذون في قراءتها لا كلها إلى آخر ما قال (فاقرؤا ما تيسر منه) أي من أنواع القراءات بخلاف قوله تعالى ?فاقرؤا ما تيسر منه? فإن المراد به الأعم من المقدار والجنس والنوع قاله القاري. وقال القسطلاني: أي من الأحرف المنزل بها فالمراد بالتيسير في الآية غير المراد به في الحديث، لأن الذي في الآية المراد به القلة والكثرة، والذي في الحديث ما يستحضره القاري من القراءات فالأول من الكمية والثاني من الكيفية.وقال الحافظ: قوله" منه" أي من المنزل (بالسبعة) وفيه إشارة إلى الحكمة في التعدد المذكور، وإنه للتيسير على القاري وهذا يقوى قول من قال المراد بالأحرف تأدية المعنى باللفظ المرادف، ولو كان من لغة واحدة، لأن لغة هشام بلسان قريش، وكذلك عمرو، مع ذلك فقد اختلف قراءتهما نبه على ذلك ابن عبدالبر- انتهى (متفق عليه) أي معنى (واللفظ لمسلم) أخرجه مسلم بهذا اللفظ في فضائل القرآن عن يحيى بن يحيى عن مالك عن ابن شهاب، وأخرجه البخاري في
2234- (2) وعن ابن مسعود، قال: سمعت رجلا قرأ، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فجئت به النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فعرفت في وجهه الكراهية، فقال:

(15/70)


الخصومات عن عبدالله بن يوسف التنيسي عن مالك بنحوه، وأخرجه أيضا في فضائل القرآن والتوحيد من طريق عقيل عن ابن شهاب،وفي فضائل القرآن أيضا من طريق شعيب عنه وفي استتابة المرتدين من طريق يونس عنه وأخرجه أيضا أحمد (ج1ص24، 40، 43) ومالك في أواخر الصلاة والترمذي في القراءة، وأبوداود والنسائي في الصلاة، والطيالسي وأبوعوانة وابن حبان وابن جرير والبيهقي (ج2ص383) قال السيوطي في الإتقان: ورد حديث نزل القرآن على سبعة أحرف من رواية جمع من الصحابة فسرد أسمائهم ثم قال فهؤلاء أحد وعشرون صحابيا، وقد نص أبوعبيدة على تواترة. وقال القاري: حديث نزل القرآن على سبعة أحرف ادعى أبوعبيدة تواتره لأنه ورد من أحد وعشرين صحابيا، ومراده التواتر اللفظي، وإما تواتره المعنوي فلا خلاف فيه- انتهى. قلت: ذكر الهيثمي في أواخر التفسير أحاديث ثلاثة عشر صحابيا منهم مع الكلام فيها من أراد الوقوف عليها فليرجع إلى مجمع الزوائد (ج7ص150- 154).

(15/71)


2234- قوله: (سمعت رجلا قرأ) أي آية كما في رواية وفي أخرى يقرأ آية. قال الحافظ. هذا الرجل يحتمل أن يكون هو أبي بن كعب فقد أخرج الطبري من حديث أبي بن كعب أنه سمع ابن مسعود يقرأ آية قرأ خلافها، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كلا كما محسن- انتهى. قلت: لكن بين الطبري من هذه الطريق إن السورة المذكورة سورة النحل ويظهر من روايات أحمد إن الاختلاف كان في سورة من آل حم يعني الأحقاف فقد روى هو (ج1ص421، 452) من طريق زر بن حبيش عن ابن مسعود في هذه القصة. قال أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الأحقاف وأقرأها رجلا آخر فخالفني في آية منها وعنده (ج1ص419) من طريق زر أيضا اقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة من الثلاثين من آل حم يعني الأحقاف. قال: وكانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سميت الثلاثين- الحديث. وعنده أيضا (ج1ص401) من طريق أبي وائل عن عبدالله قال: سمعت رجلا يقرأ حم الثلاثين يعني الأحقاف إلخ، وذكر العيني رواية لابن مسعود من صحيح ابن حبان تدل على أن تلك الآية من سورة الرحمن والله أعلم (يقرأ خلافها) أي غير قراءة ذلك الرجل والضمير راجع إلى المصدر المفهوم من قرأ (فجئت به) أي أحضرته وفي رواية فأخذت بيده فأتيت به (فأخبرته) أي بما سمعت من الخلاف (فعرفت في وجهه الكراهية) بتخفيف الياء أي آثار الكراهة خوفا من الاختلاف المتشابه باختلاف أهل الكتاب لأن الصحابة كلهم عدول، ونقلهم صحيح فلا وجه للخلاف قاله القاري.
((كلا كما محسن، فلا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)). رواه البخاري.

(15/72)


وقال الطيبي: أي للجدال الواقع بينهما، وفي رواية زر المذكورة فغضب وتمعر وجهه (كلا كما محسن) قال القاري: أي في رواية القراءة وأفراد الخبر باعتبار لفظ كلا. وقال القسطلاني فإن قلت: كيف يستقيم هذا القول مع إظهار الكراهية، أجيب بأن معنى الإحسان راجع إلى ذلك لقراءته وإلة ابن مسعود لسماعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم تحريه الاحتياط، والكراهية راجعة إلى جداله مع ذلك الرجل كما فعل عمر بهشام، كما تقدم، لأن ذلك مسبوق بالاختلاف. وكان الواجب عليه أن يقره على قراءته ثم يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وجهها. وقال المظهري: الاختلاف في القرآن غير جائز لأن كل لفظ منه إذا جاز قراءته على وجهين أو أكثر فلو أنكر واحد أحدا من ذينك الوجهين أو الوجوه فقد أنكر القرآن ولا يجوز في القرآن القول بالرأي، لأن القرآن سنة متبعة بل عليهما أن يسألا عن ذلك ممن هو أعلم منهما- انتهى. وقال ابن الملك: إنما كره اختلاف ابن مسعود مع ذلك الرجل في القرآن، لأن قراءته على وجوه مختلفة جائزة فإنكار بعض تلك الوجوه إنكار للقرآن وهو غير جائز. قال القاري: هذا وقع من ابن مسعود قبل العلم بجواز الوجوه المختلفة وإلا فحاشاه أن ينكر بعد العلم ما يوجب إنكاره وإنكار القرآن وهو من أجل الصحابة بعلم القرآن وافقهم بأحكامه، ولعل وجه ظهور الكراهية في وجهه عليه الصلاة والسلام إحضاره الرجل، فإنه كان حقه أن يحسن الظن به ويسأل النبي صلى الله عليه وسلم عما وقع له، ويمكن أنه ظهرت الكراهية في وجهه عليه الصلاة والسلام عندما صنع عمر أيضا لكن عمر لشدة غضبه ما شعر أو حلم عليه الصلاة والسلام لما رأى به من الشدة. (فلا تختلفوا) أي أيها الصحابة أو أيها الأمة وصدقوا بعضكم بعضا في الرواية بشروطها المعتبرة قاله القاري، وقال القسطلاني: أي لا تختلفوا اختلافا يؤدي إلى الكفر أو البدعة كالاختلاف في نفس القرآن، وفيما جازت قراءته بوجهين وفيما

(15/73)


يوقع في الفتنة أو الشبهة. (فإن من كان قبلكم) أي من بني إسرائيل (اختلفوا) بتكذيب بعضهم بعضا (فهلكوا) أي باختلافهم وفي رواية فأهلكوا بضم أوله وفي أخرى فأهلكهم أي الله بسبب الاختلاف. قال الحافظ: وعند ابن حبان والحاكم (ج2ص224) من طريق زر بن حبيش عن ابن مسعود في هذه القصة فإنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف-انتهى. وكذا وقع عند أحمد (ج1ص419) وفي رواية أخرى له (ج1ص421، 542) فإنما هلك أو أهلك من كان قبلكم بالاختلاف. قال الحافظ: وفي الحديث الحض على الجماعة والتحذير من الفرقة والاختلاف والنهي عن المراء في القرآن بغير حق، ومن شر ذلك أن يظهر دلالة الآية على شيء يخالف الرأي فبتوسل بالنظر وتدقيقه إلى تأويلها وحملها على ذلك الرأي ويقع اللجاج في ذلك والمناضلة عليه- انتهى. (رواه البخاري) في أول الخصومات وفي ذكر بني إسرائيل وفي آخر فضائل القرآن من طريق عبدالملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة عن عبدالله بن مسعود،
2235- (3) وعن أبي بن كعب، قال: ((كنت في المسجد، فدخل رجل يصلي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة، دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه. فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ، فحسن شأنهما فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية،
واللفظ المذكور له في الخصومات وأخرجه أيضا أحمد من هذا الطريق (ج1ص393، 411- 412 ، 456) قال العيني: وأخرجه النسائي في فضائل القرآن.

(15/74)


2235- قوله: (كنت في المسجد) أي النبوي (فدخل رجل) وعند أحمد (ج5ص124) والطبري والبيهقي (ج2ص385) من وجه آخر إن هذا الرجل هو عبدالله بن مسعود والله أعلم (يصلي) استئناف أو حال (فقرأ قراءة أنكرتها عليه) أي بالجنان أو باللسان (ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه) أي فانكرتها عليه أيضا. وقيل: الظاهر إنه لم تكن قراءة هذا الآخر منكرة عند أبي وإلا لذكر الإنكار عليه أيضا (فلما قضينا الصلاة) دل على أن أبيا أيضا كان في الصلاة، والظاهر إنها صلاة الضحى أو نحوها من النوافل قاله القاري (دخلنا جميعا) أي كلنا أو مجتمعون (على رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في حجرة من حجراته (فقرأ) بلفظ التثنية أي كلاهما (فحسن) من التحسين (شأنهما) أي قال كلا كما محسن أو قال لكل واحد منهما أحسنت وعند البيهقي فقال أحسنتما أو أصبتما، وفي رواية لعبدالله بن أحمد قال: قد أحسنتم (فسقط في نفسي من التكذيب) أي خطر في قلبي من التكذيب من جهة تحسينه صلى الله عليه وسلم قراءتهما ظنا مني إن كلام الله الواحد يكون على وجه واحد ولا يجوز أن يقرأه كل رجل كيفما شاء (ولا إذ كنت في الجاهلية) أي ولا وقع في نفسي التكذيب والوسوسة إذ كنت في الجاهلية وهذا مبالغة "لأنه كان في الجاهلية جاهلا فلا يستبعد وقوع التكذيب والوسوسة إذ ذاك. وأما بعد حصول اليقين والمعرفة فهو بعيد وأمر عظيم. قال النووي: معناه وسوس لي الشيطان تكذيبا للنبوة أشد مما كنت عليه في الجاهلية، لأنه في الجاهلية كان غافلا أو متشككا فوسوس له الشيطان الجزم بالتكذيب. وقال القاضي عياض: معنى قوله "سقط في نفسي" إنه اعترته حيرة ودهشة قال: وقوله: "ولا إذ كنت في الجاهلية" معناه إن الشيطان نزغ في نفسه تكذيبا لم يعتقده قال: وهذه الخواطر إذا لم يستمر عليها لا يواخذ بها. قال القاضي قال المازري: معنى هذا إنه وقع في نفس أبي بن كعب نزغة من الشيطان غير مستقرة ثم زالت في الحال حين

(15/75)


ضرب
فلما رآى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشبني، ضرب في صدري، ففضت عرقا، وكأنما أنظر إلى الله فرقا، فقال لي: يا أبي: أرسل إلى: أن أقرأ القرآن على حرف. فرددت إليه: أن هون على
أمتي،
النبي صلى الله عليه وسلم بيده في صدره ففاض عرقا- انتهى. وقال الطيبي: يعني وقع في خاطري من تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم لتحسينه بشأنهما تكذيبا أكثر من تكذيبي إياه قبل الإسلام لأنه كان قبل الإسلام غافلا أو مشككا. وإنما استعظم هذه الحالة لأن الشك الذي داخله في أمر الدين إنما ورد على مورد اليقين. وقيل: فاعل سقط محذوف أي وقع في نفسي من التكذيب ما لم أقدر على وصفه ولم أعهد بمثله ولا وجدت مثله إذ كنت في الجاهلية وكان أبي من أكابر الصحابة وكان ما وقع له نزغة من نزغات الشيطان، فلما ناله بركة يد النبي صلى الله عليه وسلم زال عنه الغفلة والإنكار وصار في مقام الحضور والمشاهدة-انتهى. قلت: وفي رواية عند أحمد ما تخلج في نفسي من الإسلام ما تخلج يومئذ، وفي أخرى ما حك في صدري شيء منذ أسلمت إلا إني قرأت آية وقرأها رجل آخر غير قراءتي-الحديث. وفي رواية عند الطبري فوجدت في نفسي وسوسة الشيطان حتى أحمر وجهي فضرب في صدري فقال اللهم اخسأ عنه الشيطان (فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني) أي اعترافي وحصل لي من وسوسة الشيطان ونزغته (ضرب في صدري) قال القاضي: ضربه صلى الله عليه وسلم في صدره تثبيتا له حين رآه قد غشيه ذلك الخاطر المذموم (ففضت) بكسر الفاء الثانية وسكون الضاد المعجمة (عرقا) بالتحريك تمييز أي فجري وسأل عرقي من جميع بدني من فاض الماء يفيض فيضا إذا كثر حتى سأل وهذا أبلغ من فاض عرقي، فإن في الأول إشارة إلى أن العرق فاض منه حتى كأن النفس فاضت منه، ومثله قول القائل سألت عيني دمعا (وكأنما أنظر إلى الله فوقا) أي خوفا. قيل: تمييز والأظهر إن نصبه على المفعول له قاله القاري. قال التوربشتي.

(15/76)


الفرق بالتحريك الخوف أي أصابني من خشية الله والهيبة فيما قد غشيني ما أوقفني موقف الناظر إلى الله إجلالا وحياء. وقال الطيبي: كان أبي رضي الله عنه من أفضل الصحابة ومن الموقنين وإنما طرأ عليه ذلك التلويث بسبب الاختلاف نزغة من الشيطان، فلما أصابته بركة ضربه صلى الله عليه وسلم بيده على صدره ذهبت تلك الهاجسة وخرجت مع العرق فرجع إلى اليقين، فنظر إلى الله تعالى خوفا وخجلا مما غشيه من الشيطان (فقال لي) أي تسكينا وتبيينا (أرسل إلى) على بناء المجهول أي أرسل الله جبريل، وفي بعض النسخ من المشكاة على بناء المعلوم أي أرسل الله إلى قاله القاري قلت: وعند أحمد إن ربي تبارك وتعالى أرسل إلى (أن أقرأ القرآن) بلفظ الأمر أو المتكلم المعلوم. قال الطيبي: "إن" مفسرة وجوز كونها مصدرية على مذهب سيبويه وإن كانت داخلة على الأمر (فرددت إليه) أي جبريل إلى الله تعالى (أن هون) أي سهل ويسر. قال
فرد إلى الثانية: أقرأه على حرفين: فرددت إليه: أن هون على أمتي، فرد إلى الثالثة: أقرأه على سبعة أحرف، ولك بكل ردة رددتكها مسألة تسألينها، فقلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي،

(15/77)


القاري "أن" مصدرية ولا يضر كون مدخولها أمرا، لأنها تدخل عليه عند سيبويه، أو مفسرة لما في رددت من معنى القول يقال رد إليه إذا رجع قلت قال الأبي: إن مفسرة لأن رددت في معنى القول وهو رجع أي فرجعت إليه القول إن هون من معنى قوله في الحديث الآخر (عند مسلم) فقلت اسأل الله معافاته ومغفرته (فرد إلى الثانية) ماض مجهول أو معلوم أي رد الله إلى إلإرسالة الثانية (اقرأه) بصيغة الأمر أو المتكلم وهو بدون إن في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة، وفي مسلم إن أقرأه أي بإثبات أن وكذا نقله في جامع الأصول (ج3ص34) وهكذا وقع في مسند الإمام أحمد والسنن للبيهقي .(فرد إلى الثالثة أقرأه على سبعة أحرف) كذا في هذه الرواية، وهي رواية عبدالله بن عيسى عن عبدالرحمن بن أبي ليلي عن أبي بن كعب، ووقع في طريق مجاهد عن ابن أبي ليلي عند مسلم أيضا بعده ثم جاءه الرابعة، فقال إن الله يأمرك أن تقرأ أن أمتك القرآن على سبعة أحرف. قال النووي: هذا مما يشكل معناه. وأقرب ما يقال في الجمع بين الروايتين إن قوله في الرواية الأولى "فرد إلى الثالثة" المراد بالثالثة الأخيرة وهي الرابعة فسماها ثالثة مجازا، وحملنا على هذا التأويل تصريحه في الرواية الثانية إن الأحرف السبعة إنما كانت في المرة الرابعة وهي الأخيرة ويكون قد حذف في الرواية الأولى أيضا بعض المرات- انتهى (ولك بكل ردة رددتكها) قال النووي: هذا يدل على سقط في الرواية الأولى ذكر بعض الرواة الثلاث وقد جاءت مبينة في الرواية الثانية- انتهى. أي لك بمقابلة كل دفعة رجعت إلى ورودتكها بمعنى أرجعتك إليها بحيث ما هونت على أمتك من أول الأمر (مسألة تسألنيها) أي إجابة مسألة أي مسألة كانت. وقال النووي: معناه مسألة مجابة قطعا. وأما باقي الدعوات فمرجوة ليست قطعية الإجابة. وقال الأبي تقدم (أي في كتاب الإيمان) ما في حديث لكل نبي دعوة إن معناه إن تلك الدعوة محققة الإجابة وإن غيرها على الرجاء

(15/78)


وإن كونها محققة الإجابة لا يمنع من قبول غيرها ومن قبول غيرها هذا الحديث، لأنه لو لم تكن الأولى والثانية هنا مقبولتين لم يكن لقوله لك بكل ردة مسألة فائدة. وقال الطيبي: أي ينبغي لك أن تسألنيها فأجيبك إليها (اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي) قالها مرتين قيل: الأولى لأهل الكبائر والأخرى لأهل الصغائر. وقيل: بالعكس. وقيل: لما انقسم المحتاج إلى المغفرة من أمته إلى مفرط ومفرط استغفر صلى الله عليه وسلم للمقتصد المفرط في الطاعة وأخرى للظالم المفرط في المعصية، أو الأولى للخواص لأن كل أحد لا يخلو عن تقصير ما في حقه تعالى كما قال تعالى: ?كلا لما يقض ما أمره?
وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلى الخلق كلهم حتى إبراهيم عليه السلام)). رواه مسلم.
2236- (4) وعن ابن عباس، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني: حتى انتهت إلى سبعة أحرف. قال ابن شهاب،
[عبس:23] والثانية للعوام، أو الأولى في الدنيا، والأخرى في العقبي. (وأخرت الثالثة) أي المسألة الثالثة وهي الشفاعة الكبرى (ليوم) أي لأجل يوم أو إلى يوم (يرغب إلى) بتشديد الياء أي يحتاج إلى شفاعتي (الخلق كلهم) حين يقولون نفسي نفسي (حتى إبراهيم عليه السلام) بالرفع معطوف على الخلق، وفيه دليل على رفعة إبراهيم على سائر الأنبياء وتفضيل نبينا على الكل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين (رواه مسلم) من طريق عبدالله بن عيسى عن ابن أبي ليلي عن أبي بن كعب، وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص127، 128، 129) والبيهقي (ج2ص383) وأخرجه أبوداود والنسائي في الصلاة والطحاوي في مشكله (ج4ص191) ومسلم وأحمد (ج5ص127) أيضا من طريق مجاهد عن ابن أبي ليلي نحوه.

(15/79)


2236- قوله: (وعن ابن عباس قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) قال الحافظ: هذا مما لم يصرح ابن عباس بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه سمعه من أبي بن كعب فقد أخرج النسائي من طريق عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب نحوه، والحديث مشهور عن أبي أخرجه مسلم وغيره من حديثه كما تقدم وسيأتي أيضا (أقرأني جبريل) عليه السلام القرآن (على حرف) واحد أي أولا (فراجعته) أي الله أو جبريل، وفي رواية أبي التقدمة فرددت عليه أن هون على أمتي، وفي رواية له عند مسلم أيضا إن أمتي لا تطيق ذالك (فلم أزل أستزيده) أي أطلب من الله الزيادة أو أطلب من جبريل أن يطلب من الله الزيادة في الأحرف للتوسعة والتخفيف (ويزيدني) أي ويسأل جبرئيل ربه تعالى فيزيدني (حتى انتهي) أي طلب الزيادة والإجابة أو أمر القرآن (إلى سبعة أحرف) أي أوجه يجوز أن يقرأ بكل وجه منها. وقد تقدم الكلام في المراد منه وتحقيق ما هو الراجح منه، وفي رواية سليمان بن صرد عن أبي عند عبدالله بن أحمد (ج5ص124) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبي إن ملكين أتياني فقال أحدهما أقرأ على حرف فقال الآخر زده فقلت زدني قال اقرأ على حرفين فقال الآخر زده قال اقرأ على ثلاثة فقال الآخر زده فقلت زدني قال اقرأ على أربعة أحرف قال الآخر زده قلت زدني، قال اقرأ على خمسة أحرف، قال الآخر زده قلت زدني، قال اقرأ على ستة، قال الآخر زده قال اقرأ على سبعة أحرف، فالقرآن أنزل على سبعة أحرف (قال ابن شهاب) أي الزهري راوي الحديث (عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن ابن عباس)
بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي في الأمر تكون واحدا لا تختلف في حلال ولا حرام.
(بلغني) وجعل في رواية أحمد والبيهقي القول الآتي من كلام الزهري نفسه حيث وقع فيها عقب الحديث.

(15/80)


قال الزهري: وإنما هذه الأحرف الخ (إن تلك سبعة الأحرف) بالنصب على الوصفية. وقيل: بالجر على الإضافة (في الأمر تكون واحدا لا تختلف في حلال ولا حرام) كذا في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة والذي في صحيح مسلم "في الأمر الذي يكون واحدا لا يختلف في حلال ولا حرام" وهكذا وقع في جامع الأصول (ج3ص38) والفتح، وعند الطحاوي "إن تلك السبعة الأحرف إنما تكون في الأمر الذي يكون واحدا لا يختلف في حلال ولا حرام" ولأحمد والبيهقي "وإنما هذه الأحرف في الأمر الواحد وليس يختلف في حلال ولا حرام" ومعنى هذا الكلام إن مرجع الجميع واحد في المعنى، وإن اختلف اللفظ في هيأته، وأما الإختلاف بأن يصير المثبت منفيا والحلال حراما فذلك لا يجوز في القرآن. قال تعالى: ?ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا? [النساء: 82] وهذا لما كان من عند الله فلم يجدوا فيه اختلافا يسيرا، وكأن ابن شهاب قصد بذلك رد ما سبق في شرح حديث عمر من قول طائفة في بيان معنى الحديث، إن المراد بالأحرف السبعة إن القرآن أنزل على سبعة أصناف من الكلام. واختلف القائلون به فقيل أمر ونهى وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال، واحتجوا بما ذكرنا هناك من حديث ابن مسعود، وعند أبي عبيد وغيره مرفوعا. قال كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال-الحديث. وقد تقدم إن هذا الحديث منقطع وأجاب عنه آخرون من جهة النظر فقال البيهقي: إن صح فمعنى قوله في هذا الحديث سبعة أحرف أي سبعة أوجه كما فسرت في الحديث، وليس المراد الأحرف السبعة التي تقدم ذكرها في الأحاديث الأخرى، لأن سياق تلك الأحاديث يأبى حملها على هذا، بل هي ظاهرة في أن المراد إن الكلمة الواحدة تقرأ على الوجهين وثلاثة وأربعة إلى سبعة تهوينا وتيسيرا، والشيء الواحد لا يكون حراما وحلالا في حالة واحدة. وقال ابن

(15/81)


أبي عمر: إن من أول السبعة الأحرف بهذا فهو عندي فاسد، وممن ضعف هذا القول ابن عطية، فقال الإجماع على أن التوسعة لم تقع في تحليل حرام ولا تحريم حلال ولا في تغيير شيء من المعاني المذكورة، وبه صرح الماوردي حيث قال هذا القول خطأ لأنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى جواز القراءة بكل واحد من الحروف وإبدال حرف بحرف. وقد اجمع المسلمون على تحريم إبدال آية أمثال بآية أحكام. وقال أبوعلي الأهوازي و أبوالعلاء الهمداني: قوله في الحديث زاجر وآمر الخ. استئناف كلام آخر أي هو زاجر أي القرآن ولم يرد به تفسير الأحرف السبعة، وإنما توهم ذلك من توهمه من جهة الاتفاق في العدد، ويؤيده أنه جاء في بعض طرقه زاجرا وآمرا بالنصب أي نزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف حال كونه زاجرا الخ. وقال أبوشامة: يحتمل أن التفسير المذكور للأبواب لا للأحرف أي هي سبعة أبواب من
متفق عليه.
?الفصل الثاني?
2237- (5) عن أبي بن كعب، قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرئيل، فقال: ((يا جبرئيل! إني بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز، والشيخ الكبير، والغلام، والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط. قال: يا محمد! إن القرآن أنزل على سبعة أحرف)). رواه الترمذي.
أبواب الكلام وأقسامه أي أنزله الله على هذه الأصناف لم يقتصر منها على صنف واحد كغيره من الكتب-انتهى. قال القاري: وهو الظاهر المتبادر. وقال الحافظ: ومما يوضح أن قوله زاجر وآمر الخ ليس تفسير للأحرف السبعة ما وقع في مسلم من طريق يونس عن ابن شهاب عقب حديث ابن عباس، قال ابن شهاب: بلغني أن تلك الأحرف السبعة الخ (متفق عليه) أخرجه البخاري في ذكر الملائكة من بدء الخلق وفي فضائل القرآن ومسلم في فضائل القرآن وبلاغ الزهري من أفراد مسلم، والحديث مع هذه الزيادة أخرجه أحمد (ج1ص313) والطحاوي في مشكله (ج4ص190) والبيهقي (ج2ص384) وأخرجه أيضا أحمد (ج1ص263، 264، 299) بدون ذلك.

(15/82)


2237- قوله: (لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبرئيل) أي عند أحجار المراء كما في رواية أحمد (ج5ص132) وكذا وقع في حديث حذيفة عند أحمد (ج5ص385، 400، 405) والبزار كما في مجمع الزوائد (ج7) (ص50) وأحجار المراء موضع بقباء قاله المجد. وقال في النهاية: فيه إنه صلى الله عليه وسلم كان يلقي جبرئيل بأحجار المراء. قال مجاهد: هي قباء، وقد تقدم أنه وقع في رواية مجاهد عن ابن أبي ليلي عن أبي بن كعب عند مسلم وغيره إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عند إضاءة بني غفار، فأتاه جبريل- الحديث. (إني بعثت) بصيغة المجهول (إلى أمة أميين) أي لا يحسنون القراءة للمكتوب. قال تعالى: ?هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم? [الجمعة: 2] والأمي من لا يكتب ولا يقرأ كتابا، وقال - صلى الله عليه وسلم -: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، أراد أنهم على أصل ولادة أمهم لم يتعلموا الكتابة والحساب فهم على جبلتهم الأولى (منهم العجوز) بفتح المهملة وهي المرأة المسنة (والشيخ الكبير) وهما عاجزان عن التعلم للكبر (والغلام والجارية) وهما غير متمكنين من القراءة للصغر (والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط) المعنى إني بعثت إلى أمة أميين منهم هؤلاء المذكورون فلو اقرأتهم على قراءة واحدة لا يقدرون عليها (قال يا محمد إن القرآن انزل على سبعة أحرف) أي فليقرأ كل بما يسهل عليه (رواه الترمذي) في القراءات
وفي رواية لأحمد، وأبي داود قال: ليس منها إلا شاف كاف وفي رواية للنسائي، قال: إن جبرئيل وميكائيل أتياني، فقعد جبرئيل عن يميني وميكائيل عن يساري، فقال جبرئيل: اقرأ القرآن على حرف، قال ميكائيل: استزده حتى بلغ سبعة أحرف، فكل حرف شاف كاف.
2238- (6) وعن عمران بن حصين، إنه مر على قاص يقرأ ثم يسأل.

(15/83)


وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص132) كلاهما من رواية عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. قلت: عاصم هذا. قال في التقريب إنه صدوق له أوهام وحديثه في الصحيحين مقرون. وقال العجلي: كان يختلف عليه في زر وأبي وائل. قلت: قد اختلف هنا على عاصم. فقال شيبان النحوي وزائدة عن عاصم عن زر عن أبي بن كعب. وقال حماد بن سلمة: عنه عن زر عن حذيفة، أخرجه احمد (ج5ص400، 405) والطحاوي في مشكله (ج4ص183) والبزار، والحديث مشهور عن أبي. قال القاري: الظاهر إن رواية أبي عن جبرئيل هذا الإجمال رواية عنه بالمعنى والظاهر إن أبيا سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - يحكي عن جبريل ما مر عنه من التفصيل إنه لم يزل يستزيده حتى انتهى إلى السبعة فروى هنا حاصل ذلك فهو إنه بعد الاستزادة نزل على سبعة أحرف (وفي رواية لأحمد) (ج5ص124) أخرجاها من طريق سليمان بن صرد عن أبي بن كعب وأخرجها أيضا الطحاوي (ج4ص189) وقد سكت عنها أبوداود والمنذري (قال) أي جبريل بعد قوله سبعة أحرف (ليس منها) أي ليس حرف من تلك الأحرف (إلا شاف) أي لأمراض الجهل (كاف) في أجزاء الصلاة أو شاف للعليل في فهم المقصود كاف للإعجاز في إظهار البلاغة. وقيل: أي شاف لصدور المؤمنين للاتفاق في المعنى وكاف في الحجة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم كذا في المرقاة (وفي رواية للنسائي) أخرجها من طريق أنس عن أبي بن كعب، وأخرجها أيضا أحمد (ج5ص122) (فقال) لي (جبريل اقرأ القرآن على حرف) واحد (قال ميكائيل استزده) أي اطلب زيادة قراءة القرآن على حرف واحد من الله، أو من جبريل ليعرض على الله بناء على أنه واسطة ثم لا يزال يقول له ذلك. وهو يطلب الزيادة ويجاب. (حتى بلغ سبعة أحرف فكل حرف شاف) أي في إثبات المطلوب للمؤمنين (كاف) في الحجة على الكافرين.

(15/84)


2238- قوله: (مر على قاص) بتشديد الصاد وهذا لفظ أحمد، وعند الترمذي مر على قاري، والقاص من يحكي القصص والأخبار، ويطلق القصاص على الوعاظ أيضا. والمراد به هنا الواعظ بالقرآن بقرينة ما بعده (يقرأ) أي القرآن على قوم وهو حال (ثم يسأل) أي يطلب منهم شيئا من مال الدنيا بالقرآن وقوله
فاسترجع ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قرأ القرآن فليسأل الله به، فإنه سيجيء أقوام يقرؤن القرآن يسألون به الناس)). رواه أحمد والترمذي.
?الفصل الثالث?
2239- (7) عن بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ القرآن يتأكل به الناس، جاء يوم القيامة ووجهه عظم ليس عليه لحم)). رواه البيهقي "في شعب الإيمان"

(15/85)


يسأل بلفظ: المضارع في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة، وكذا نقله الجزري عن الترمذي والذي في نسخ الترمذي الموجودة عندنا، ثم سأل أي بلفظ الماضي، وهكذا وقع عند أحمد (فاسترجع) أي قال عمران ?إنا لله وإنا إليه راجعون? [البقرة: 156] لابتلاء القاص بهذا المصيبة التي هي السؤال من أموال الناس بالقرآن، لأنه بدعة ومعصية، وظهور البدعة والمعصية بين المسلمين مصيبة. أو لابتلاء عمران بمشاهدة هذه الحالة الشنيعة وهي مصيبة. (من قرأ القرآن فليسأل الله به) أي فليطلب من الله تعالى بالقرآن ما شاء من أمور الدنيا والآخرة، لا من الناس. أو المراد أنه إذا مر بآية رحمة فليسألها من الله تعالى، أو بآية عقوبة فيتعوذ إليه بها منها. وإما أن يدعوا الله عقيب القراءة بالأدعية الماثورة، وينبغي أن يكون الدعاء في أمر الآخرة وإصلاح المسلمين في معاشهم ومعادهم. (فإنه) أي الشأن (سيجيء أقوام يقرؤن القرآن يسألون به الناس) أي بلسان القال أو ببيان الحال (رواه أحمد) (ج4ص432، 436، 439، 445) (والترمذي) في فضائل القرآن كلاهما عن خيثمة بن أبي خيثمة البصري عن الحسن البصري عن عمران بن حصين، وخيثمة هذا قال في التقريب عنه لين الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وقد أخرجه أيضا الطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان كما في الكنز.

(15/86)


2239- قوله: (من قرأ القرآن يتأكل به الناس) أي يطلب به الأكل من الناس. قال الطيبي: يعني يستأكل كتعجل بمعنى استعجل، والباء في "به" للآلة أي أموالهم (جاء يوم القيامة ووجهه عظم) بفتح العين وسكون الظاء (ليس عليه لحم) أي من جعل القرآن وسيلة إلى حطام الدنيا جاء يوم القيامة على أقبح صورة وأسوأ حالة حيث عكس، وجعل أشرف الأشياء وأعزها واسطة إلى أذل الأشياء وأحقرها، وذريعة إلى أردئها وأدونها، وفي الحديث وعيد شديد لمن يستأكل بالقرآن (رواه البيهقي في شعب الإيمان) قال العزيزي: بإسناد ضعيف وقد أخرج أبوعبيد في فضائل القرآن عن أبي سعيد وصححه الحاكم رفعه تعلموا القرآن وأسألوا الله به،
2240- (8) وعن ابن عباس، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه ?بسم الله الرحمن الرحيم? رواه أبوداود.
قبل أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا، فإن القرآن يتعلمه ثلاث نفر، رجل يباهي به، ورجل يستأكل به، ورجل يأكله لله. وأخرجه أحمد وأبو يعلى والبزار عن عبدالرحمن بن شبل رفعه إقرؤه القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به- الحديث. قال الحافظ: سنده قوى. وقال الهيثمي: رجال أحمد ثقات. وأخرج أبوعبيد عن عبدالله بن مسعود سيجيء زمان يسئل فيه بالقرآن فإذا سألوكم فلا تعطوهم. وأخرج الطبراني في الأوسط (عن شيخة المقدام بن داود وهو ضعيف) عن أبي هريرة رفعه إقرؤا القرآن ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به ولا تخفوا عنه-الحديث. وهذه الأحاديث شواهد لحديث بريدة وحديث عمران بن حصين المتقدم في الفصل الثاني.

(15/87)


2240- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف فصل السورة) بالصاد المهملة أي انفصالها وانقضاءها أو فصلها عن سورة أخرى (حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم) ورواه الحاكم بلفظ: كان لا يعلم ختم السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم، ورواه البزار بلفظ: كان لا يعرف خاتمة السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم فإذا نزل بسم الله الرحمن الرحيم علم أن السورة قد ختمت واستقبلت وابتدئت سورة أخرى. واستدل به الحنفية لما هو المختار عندهم في هذه المسئلة من أن البسملة آية مستقلة في القرآن وليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، وإنما أنزلت لافتتاح القراءة بها، وللفصل بين السورتين. قال الطيبي: هذا الحديث وما سرد في آخر هذا الباب دليلان ظاهر أن على أن البسملة آية من كل سورة أنزلت مكررة للفصل. قال صاحب اللمعات: في دلالتهما على أنها جزء من كل سورة كما هو مذهب الشافعي خفاء ظاهر نعم يدلان على أنها من القرآن أنزلت للفصل كما هو مذهبنا والله أعلم. قلت: ويدل على كونها آية من القرآن في كل موضع كتبت فيه إجماع المسلمين على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى والوفاق على إثباتها في المصاحف بخط القرآن مع المبالغة في تجريد القرآن عما ليس منه أسماء السور وأعداد الآي ولفظة آمين، واتفاق أئمة القراءات على قراءة البسملة في ابتداء كل سورة سواء الفاتحة أو غيرها من السور سوى براءة هذا. وقد تقدم الكلام في ذلك في باب القراءة في الصلاة فراجعة (رواه أبوداود) في الصلاة من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس وسكت عنه، ورواه أيضا في مراسيله عن سعيد بن جبير أي مرسلا. وقال المرسل أصح وأخرجه أيضا الحاكم (ج1ص231) والبيهقي (ج2ص42) قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وقال الذهبي في تلخيصه: قلت: أما هذا فثابت، ورواه البزار أيضا. قال الهيثمي (ج60ص310) بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح.

(15/88)


2241- (9) وعن علقمة، قال كنا بحمص، فقرأ ابن مسعود سورة يوسف، فقال رجل: ما هكذا أنزلت. فقال عبدالله: ((والله لقرأتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أحسنت فبينا هو يكلمه إذا وجد منه ريح الخمر. فقال: أتشرب الخمر. وتكذب بالكتاب؟
2241- قوله: (وعن علقمة) بن قيس النخعي أنه (قال كنا بحمص) بكسر الحاء وسكون الميم وهو غير منصرف، وقد ينصرف بلدة من بلاد الشام مشهورة (فقرأ ابن مسعود سورة يوسف) قال الحافظ: قوله "كنا بحمص" فقرأ ابن مسعود الخ هذا ظاهره إن علقمة حضر القصة، وكذا أخرجه الإسماعيلي، وأخرجه أبونعيم فقال فيه عن علقمة قال كان عبدالله بحمص. وقد أخرجه مسلم بلفظ: عن علقمة عن عبدالله قال كنت بحمص فقرأت فذكر الحديث، وهذا يقتضي إن علقمة لم يحضر القصة وإنما نقلها عن ابن مسعود وكذا أخرجه أبوعوانة ولفظه كنت جالسا بحمص. وعند أحمد (ج1ص378) عن عبدالله أنه قرأ سورة يوسف بحمص (فقال رجل ما هكذا أنزلت) أي السورة ولم يعرف الحافظ اسم هذا الرجل المبهم نعم، قيل أنه نهيك بن سنان. قال الحافظ: ولم أر ذلك صريحا، وفي رواية مسلم فقال لي بعض القوم إقرأ علينا فقرأت عليهم سورة يوسف، فقال رجل من القوم والله ما هكذا أنزلت وعند أحمد (ج1ص425) عن علقمة قال أتى عبدالله الشام فقال له ناس من أهل حمص إقرأ علينا فقرأ عليهم سورة يوسف فقال رجل من القوم والله ما هكذا أنزلت، وفيه مبهم آخر وهو السائل ولم يعرف اسمه أيضا (فقال عبدالله والله لقرأتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في حضرته وهو يسمع وهذا السياق هكذا وقع في جميع نسخ المشكاة الحاضرة عندنا، والذي في صحيح البخاري قال "قرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" وفي رواية مسلم "قال قلت: ويحك والله لقد قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم" وعند أحمد (ج1ص425) "فقال عبدالله ويحك والله لقد قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا" وله

(15/89)


أيضا (ج1ص378) "قال: والله لكهذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم" (فقال) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم لي (أحسنت) هذه منقبة عظيمة لم يذكرها افتخارا بل تحديثا بنعمة الله واحتجاجا على عدو الله (فبينا هو) أي ابن مسعود (يكلمه) أي ذلك الرجل ويحتمل العكس قاله القاري (إذ وجد) أي ابن مسعود (منه) أي من ذلك الرجل (ريح الخمر) قوله فبينا هو يكلمه الخ، كذا وقع في جميع النسخ من المشكاة وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج3ص40) والمجد بن تيمية في المنتقى ولفظ البخاري "فقال أحسنت ووجد منه ريح الخمر" ولمسلم "فبينما أنا أكلمه إذ وجدت منه ريح الخمر" والظاهر إن المصنف تبع في ذلك الجزري (فقال) في رواية مسلم قال فقلت (أتشرب الخمر وتكذب بالكتاب) هذا لفظ مسلم، وللبخاري "فقال: أتجمع أن تكذب بكتاب الله وتشرب الخمر" قال في اللمعات. لا شك إن ما ثبت كونه من كتاب الله
فضربه الحد)).

(15/90)


يقينا تكذيبه كفر، وكان ذلك معلوما قطعا عند الصحابة، خصوصا لأمثال ابن مسعود وبعدهم يثبت ذلك بالتواتر. وقد ادعى الجمهور ذلك في القراءات السبع، وبعضهم في العشرة وإن لم يكن ما قرأ ابن مسعود في هذه القصة من هذا القبيل، فإطلاق تكذيب الكتاب المستلزم للكفر تغليظ وتشديد، ولذا لم يحكم بارتداده والله أعلم – انتهى. وسيأتي مزيد الكلام في ذلك (فضربه الحد) أي فضربه ابن مسعود حد شرب الخمر وهذا لفظ البخاري، وفي رواية مسلم "لا تبرح حتى أجلدك قال فجلدته الحد" وفي رواية لأحمد "لا أدعك حتى أجلدك حدا قال فضربه الحد" قال النووي: هذا محمول على أن ابن مسعود كانت له ولاية إقامة الحدود نيابة عن الإمام إما عموما وإما خصوصا. وعلى أن الرجل اعترف بشربها بلا عذر وإلا فلا يجب الحد بمجرد ريحها. وعلى أن التكذيب كان بإنكار بعضه جاهلا إذ لو كذب به حقيقة لكفر فقد أجمعوا على أن من جحد حرفا مجمعا عليه من القرآن كفر – انتهى. قال الحافظ: الاحتمال الأول جيد ويحتمل أيضا أن يكون قوله فضربه الحد أي رفعه إلى الأمير فضربه فأسند الضرب إلى نفسه مجازا لكونه كان سببا فيه. وقال القرطبي: إنما أقام عليه الحد لأنه جعل له ذلك من له الولاية أو لأنه رأى أنه قال عن الإمام بواجب أو لأنه كان ذلك في زمان ولايته الكوفة فإنه وليها في زمن عمر وصدرا من خلافة عثمان – انتهى. والاحتمال الثاني موجه وفي الأخير غفلة عما في أول الخبر إن ذلك كان بحمص ولم يلها ابن مسعود وإنما دخلها غازيا وكان ذلك في خلافة عمر. وأما الجواب الثاني عن الرائحة فيرده النقل عن ابن مسعود إنه كان يرى وجوب الحد بمجرد وجود الرائحة، وقد وقع مثل ذلك لعثمان في قصة الوليد بن عقبة، ووقع عند الإسماعيلي أثر هذا الحديث النقل عن علي أنه أنكر على ابن مسعود جلده الرجل بالرائحة وحدها إذ لم يقر ولم يشهد عليه. وقال القرطبي: في الحديث حجة على من يمنع وجوب الحد بالرائحة

(15/91)


كالحنفية وقد قال به مالك وأصحابه وجماعة من أهل الحجاز. قلت: (قائله الحافظ) والمسئلة خلافية شهيرة وللمانع أن يقول إذا احتمل أن يكون أقر سقط الاستدلال بذلك، ولما حكى الموفق في المغنى (ج8ص309 ) الخلاف في وجوب الحد بمجرد الرائحة اختار أن لا يحد بالرائحة وحدها، بل لا بد معها من قرينة كان يوجد سكران أو يتقيأها ونحوه أن يوجد جماعة شهر وبالفسق ويوجد معهم خمر، ويوجد من أحدهم رائحة الخمر. وحكى ابن المنذر عن بعض السلف أن الذي يجب عليه الحد بمجرد الرائحة من يكون مشهورا بإدمان شرب الخمر. وأما الجواب عن الثالث فجيد أيضا لكن يحتمل أن يكون ابن مسعود كان لا يرى بمؤاخذة السكران بما يصدر منه من الكلام في حال سكره. وقال القرطبي: يحتمل أن يكون الرجل كذب ابن مسعود ولم يكذب بالقرآن وهو الذي يظهر من قوله ما هكذا أنزلت فإن ظاهره إنه أثبت إنزالها ونفي الكيفية التي أوردها ابن مسعود. وقال الرجل ذلك إما جهلا منه أو قلة حفظ أو عدم تثبت بعثه عليه السكر – انتهى. وقال القاري: ظاهر الحديث
متفق عليه.
2242- (10) وعن زيد بن ثابت، قال: ((أرسل إلى أبوبكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبوبكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى إن استحر القتل

(15/92)


إنه ضربه حد الخمر بناء على ثبوت شربه بالرائحة وهو مذهب جماعة ومذهبنا ومذهب الشافعي خلافة لأن الريح نحوه التفاح الحامض، وكذا السفرجل يشبه رائحة الخمر ولاحتمال إنه شربها إكراها أو اضطرارا، وقد صح الخبر ادرؤا الحد بالشبهات ولعله حصل منه اقرارا أو قام عليه بينة – انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في فضائل القرآن، ومسلم في الصلاة وقد عرفت ما وقع من التصرف من المصنف في ألفاظ الحديث فإن السياق المذكور بتمامه ليس لهما ولا لأحدهما بل بعضه للبخاري وبعضه لمسلم، إلا قوله على عهد رسول الله فإنه ليس لأحد منهما ولم أجد زيادة لفظ "عهد" عند أحد ممن أورد هذا الحديث في كتابه، وقد أخرجه أحمد (ج1ص378، 425) و أبوعوانة وغيرهما.

(15/93)


2242- قوله: (أرسل إلى) بتشديد الياء أي رجلا. قال الحافظ: لم أقف على اسم الرسول إليه بذلك (أبوبكر) الصديق في خلافته (مقتل أهل اليمامة) هو مفعل من القتل ونصب على أنه ظرف زمان بمعنى أو إن قتلهم، والمراد عقب زمان قتل أهل اليمامة، واليمامة بفتح التحتية وتخفيف الميم اسم مدينة باليمن وسميت باسم المصلوبة على بابها، وهي التي كانت تبصر من مسيرة ثلاثة أيام وتعرف بالزرقاء لزرقة عينها، واسمها عنزة. وقال في النهاية، اليمامة هي الصقع المعروف شرقي الحجاز ومدينتها العظمى حجر اليمامة، والمراد بأهل اليمامة هنا من قتل بها من الصحابة في الوقعة مع مسيلمة ادعى النبوة وقوى أمره بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بارتداد كثير من العرب فجهز إليه أبوبكر الصديق خالد بن الوليد في جمع كثير من الصحابة فحاربوه أشد محاربة إلى أن خذله الله وقتله وقتل في غضون ذلك من الصحابة جماعة كثيرة. قيل سبع مائة، وقيل أكثر. (فإذا عمر) كلمة "إذا" للمفاجأة أي قال زيد فجئته فإذا عمر (عنده) أي عند أبي بكر (قد استحر) بسين مهملة ساكنة ومثناة مفتوحة بعدها حاء مهملة مفتوحة ثم راء ثقيلة أي اشتد وكثر استفعل من الحر، لأن المكروه غالبا يضاف إلى الحر، كما أن المحبوب يضاف إلى البرد يقولون أسخن الله عينه وأقر عينه ومنه المثل تولى حارها من تولى قارها (يوم اليمامة)أي وقعة اليمامة أو يوم القتال الواقع في اليمامة (بقراءة القرآن) سمى منهم في رواية سفيان عن الزهري عن عبيد عن زيد بن ثابت في فوائد لدعا قولي سالما مولى أبي حذيفة (وإني أخشى أن استحر القتل) بفتح همزة أن وتكسر وفي البخاري أن يستحر القتل. قال القسطلاني: بلفظ المضارع أي يشتد ولأبي ذر
بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

(15/94)


أن استحر (بالقراء) متعلق بالفعل أو القتل (بالمواطن) أي في المواطن أي الأماكن التي يقع فيها القتال مع الكفار، وفي رواية سفيان وأنا أخشى أن لا يلقى المسلمون زحفا آخر إلا استحر القتل بأهل القرآن. قال الطيبي قوله " أخشى أن استحر القتل" أي أخشى استحراره. والمراد الزيادة على ما كان يوم اليمامة، لأن الخشية إنما تكون مما لم يوجد من المكاره فقوله (إن استحر" مفعول أخشى، والفاء في "فيذهب" للتعقيب، ويحتمل أن يكون إن بالكسر، والجملة الشرطية دالة على مفعول أخشى (فيذهب كثير من القرآن) بقتل حفظته أي إلا أن يجمعوه قبل أن يقتل الباقون. قال القاري: قوله "فيذهب" في بعض النسخ بالنصب، وهو ظاهر لفظا ومعنى عطفا على استحر على أن إن مصدرية وهي الرواية الصحيحة، وفي أكثر النسخ المصححة المقروءة على المشائخ بالرفع مع فتح الهمزة في أن، فقيل رفعه على أنه جواب شرط محذوف أي فإذا استحر فيذهب، أو عطف على محل إني أخشى أي فيذهب حينئذ كثير من القرآن بذهاب كثير من قراء الزمان – انتهى. قال الحافظ: هذا يدل على أن كثيرا ممن قتل في وقعة اليمامة كان قد حفظ القرآن لكن يمكن أن يكون المراد إن مجموعهم جمعة لا أنه كل فرد فرد جمعه (وإن أرى أن تأمر) من الرأي أي أذهب إلى أن تأمر كتبه الوحي (بجمع القرآن) قبل تفرق القراء (قلت) خطاب أبي بكر لعمر حكاه ثانيا لزيد بن ثابت لما أرسل إليه وهو كلام من يؤثر الإتباع وينفر من الابتداع أي قال أبوبكر قلت (لعمر كيف تفعل) بصيغة الخطاب، وقيل بالتكلم أي أنت أو نحن، وفي رواية كيف أفعل (شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم) هذا لا ينافي ما ذكره الحاكم في مستدركه جمع القرآن ثلاث مرات، إحداها بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخرج بسند على شرط الشيخين عن زيد كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - نؤلف القرآن في الرقاع – الحديث. لأن ذلك الجمع غير الجمع الذي نحن فيه، ولذا قال البيهقي:

(15/95)


يشبه أن يكون المراد تأليف ما نزل من الآيات المفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم كذا في المرقاة. قال الحافظ في الفتح قال الخطابي وغيره: يحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - إنما لم يجمع القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته - صلى الله عليه وسلم - ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك وفاء لوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة المحمدية زادها الله شرفا، فكان ابتداء ذلك على يد الصديق رضي الله عنه بمشورة عمر. ويؤيده ما أخرجه ابن أبي داود في المصاحف بإسناد حسن عن عبد خير قال سمعت عليا يقول: أعظم الناس في المصاحف أجرا أبوبكر رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله. وأما ما أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن)) – الحديث.
قال: فقال عمر: هذا والله خير. فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال زيد قال أبوبكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك،

(15/96)


فلا ينافي ذلك، لأن الكلام في كتابة مخصوصة على صفة مخصوصة. وقد كان القرآن كله كتب في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن غير مجموع في موضع واحد ولا مرتب السور. وأما ما أخرجه ابن أبي داود في المصاحف من طريق ابن سيرين قال قال علي: لما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آليت أن لا أخذ على ردائي إلا لصلاة جمعة حتى أجمع القرآن فجمعه فإسناده ضعيف لانقطاعه وعلى تقدير أن يكون محفوظا، فمراده بجمعه حفظه في صدره قال، والذي وقع في بعض طرقه حتى جمعته بين اللوحين وهم من رواته. وقال الحافظ: ورواية عبد خير يعني التي تقدمت آنفا أصح فهو المعتمد ووقع عند ابن أبي داود أيضا بيان السبب في إشارة عمر بن الخطاب بذلك فأخرج من طريق الحسن إن عمر سأل عن آية من كتاب الله قيل كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة فقال إنا لله وأمر بجمع القرآن فكان أول من جمعه في المصحف، وهذا منقطع فإن كان محفوظا حمل على أن المراد بقوله، فكان أول من جمعه أي أشار بجمعه في خلافة أبي بكر فنسب الجمع إليه لذلك – انتهى. (هذا) أي جمع القرآن في مصحف واحد (خير) من تركه فإن قلت كيف ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما هو خير؟ قلت هذا خير في هذا الزمان وتركه كان خيرا في زمانه - صلى الله عليه وسلم - لعدم تمام النزول واحتمال النسخ كما تقدم الإشارة إليه (فلم يزل عمر يراجعني) في ذلك أي في جمع القرآن (حتى شرح الله صدري لذلك) الذي شرح له صدر عمر (ورأيت في ذلك الذي رأى عمر) اذهوا من النصح لله ولرسوله ولكتابه ولعامة المسلمين وإذن فيه عليه الصلاة والسلام بقوله في حديث أبي سعيد عند مسلم لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن، وقد أعلم الله في القرآن بأنه مجموع في الصحف في قوله ?يتلوا صحفا مطهرة? الآية [البينة: 2] وكان القرآن مكتوبا في الصحف لكن كانت مفرقة فجمعها أبوبكر في مكان واحد، فغاية ما فعله أبوبكر جمع ما كان مكتوبا قبل في مصحف، فلا يتوجه

(15/97)


اعتراض الرافضة على الصديق. قال الحارث المحاسبي في كتاب فهم السنن: كتابة القرآن ليست بمحدثة فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته ولكنه كان مفرقا في الرقاع وإلاكتاف والعسب، فإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعا وكان ذلك بمنزلة أوراق. وجدت في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها القرآن منتشرا فجمعها جامع وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شي كذا في الإتقان (ج1ص58) (قال زيد) أي ابن ثابت (قال أبوبكر) أي لي بعد أن ذكر الأمر الذي هو توطئة للأمر بالجمع (إنك رجل شاب) أشار إلى نشاطه وقوته وضبطه وإتقانه وحدة نظره وبعده عن النسيان، وإنما قال شاب لأن عمره كان حينئذ ما دون خمس وعشرين سنة، وهي أيام الشاب (عاقل) تعني المراد أشار به إلى غزارة علمه وشدة تحقيقه (لا نتهمك) بتشديد التاء أي لا ندخل عليك التهمة لعدالتك في شي مما تنقله، يقال إتهمه بكذا كافتعله
وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه. فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن. قال: قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال! هو والله خير. فلم يزل أبوبكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف

(15/98)


أدخل عليه التهمة وظنه به، والتهمة بفتح الهاء وسكونها اسم من الاتهام وما يتهم عليه، وأشار به إلى عدم كذبه وإنه صدوق (وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم) قال الحافظ: ذكر له أربع صفات مقتضية خصوصيته بذلك كونه شابا فيكون أنشط لما يطلب منه، وكونه عاقلا فيكون أوعى له، وكونه لا يتهم فتركن النفس إليه، وكونه كان يكتب الوحي فكون أكثر ممارسة له، وهذه الصفات التي اجتمعت له قد توجد في غيره لكن مفرقة. (فتتبع القرآن) أمر من باب التفعل (فأجمعه) بصيغة الأمر أي جمعا كليا في مصحف واحد، وقد كان القرآن كله كتب في العهد النبوي لكن غير مجموع في موضع واحد. (فو الله) أي قال زيد فو الله (لو كلفوني) أي أبوبكر وعمر ومن تبعهما أو بناء على أن أقل الجمع اثنان، أو المراد به أبوبكر والجمع للتعظيم (نقل جبل من الجبال ما كان) نقله (أثقل علي مما أمرني به) قال الحافظ: كأنه جمع أولا باعتبار أبي بكر ومن وافقه وأفرد باعتبار أنه الآمر وحده بذلك، ووقع في رواية لو كلفني بالإفراد أيضا. وإنما قال زيد بن ثابت ذلك لما خشية من التقصير في إحصاء ما أمر بجمعه لكن الله تعالى يسر له ذلك. (قال) أي زيد (قلت) لهم (كيف تفعلون) وفي رواية كيف تفعلان (فلم يزل أبوبكر يراجعني) أي يذكر أبوبكر السبب وأنا أدفعه (فتتبعت القرآن أجمعه) حال من الفاعل أو المفعول أي حال كوني اجمعه وقت التتبع من الأشياء التي عندي وعند غيري (من العسب) بضم المهملتين ثم موحدة جمع عسيب وهو جريد النخل كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف العريض وقيل: العسيب طرف الجريدة العريض الذي لم ينبت عليه الخوص والذي ينبت عليه الخوص هو السعف، ووقع في رواية ابن عيينة عن الزهري القصب والعسب والكرانيف وجرائد النخل، والكرانيف جمع كرناف، وهي أصول سعف النخل تبقى في الجذع بعد قطع السعف من النخلة، ووقع في رواية للبخاري من الرقاع والأكتاف، والرقاع بكسر الراء جمع رقعة،

(15/99)


وقد يكون من جلد أو ورق أو كاغذ، والأكتاف جمع كتف وهو العظم العريض الذي يكون في أصل كتف الحيوان كانوا إذا جف كتبوا فيه، وفي رواية وقطع الأديم، وفي رواية ابن أبي داود والصحف (واللخاف) بكسر اللام ثم خاء معجمة خفيفة وأخره فاء جمع لخفة بفتح اللام وسكون الخاء المعجمة وهي الحجر الأبيض الرقيق. وقيل: الخزف. وقال
وصدور الرجال،
الخطابي: اللخاف صفائح الحجارة الرقاق، وفي رواية ابن أبي داود والأضلاع وعنده من وجه آخر، والأقتاب بقاف ومثناة وآخره موحدة جمع قتب بفتحتين، وهو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه، وعند ابن أبي داود أيضا في المصاحف من طريق يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب قال: قام عمر فقال من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن فليأت به وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب. قال وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شاهدان، وهذا يدل على أن زيدا كان لا يكتفي بمجرد وجدانه مكتوبا حتى يشهد به من تلقاه سماعا مع كون زيد كان يحفظه وكان يفعل ذلك مبالغة في الاحتياط. وعند ابن أبي داود أيضا من طريق هشام بن عروة عن أبيه إن أبا بكر قال لعمر ولزيد: اقعدا على باب المسجد فمن جاءكم بشاهدين على شي من كتاب الله فاكتباه ورجاله ثقات مع انقطاعه. وكأن المراد بالشاهدين الحفظ والكتاب، أو المراد إنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو المراد إنهما يشهدان على أن ذلك من الوجوه التي نزل بها القرآن وكان غرضهم أن لا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - لا من مجرد الحفظ، ولذلك قال في آخر سورة التوبة كما سيأتي لم أجدها مع غيره، لأنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة. قال السيوطي: أو المراد إنهما يشهدان على أن ذلك مما عرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - عام وفاته كما يستفاد مما أخرجه ابن اشته في المصاحف وابن أبي شيبة في فضائله

(15/100)


من طريق ابن سيرين عن عبيدة السلماني. قال القراءة التي عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي قبض فيه هي القراءة التي يقرأها الناس اليوم، وأخرج ابن اشته أيضا عن ابن سيرين قال كان جبريل يعارض النبي - صلى الله عليه وسلم - كل سنة في شهر رمضان مرة، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه مرتين فيرون أن تكون قراءتنا هذه العرضة الأخيرة. قال البغوي: يقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة. التي بين فيها ما نسخ وما بقي وكتبها للرسول - صلى الله عليه وسلم - وقرأها عليه وكان يقري الناس بها حتى مات ولذلك اعتمده أبوبكر وعمر وجمعه وولاه عثمان كتب المصاحف - انتهى. (وصدور الرجال) أي الحفاظ منهم "والواو" بمعنى مع أي اكتبه من المكتوب الموافق للمحفوظ في الصدور. قال القسطلاني: المراد بصدور الرجال الذين جمعوا القرآن وحفظوه في صدورهم كاملا في حياته صلى الله عليه وسلم كأبي بن كعب ومعاذ بن جبل، فيكون ما في الرقاع والأكتاف وغيرها تقريرا على تقرير - انتهى. وقال في اللمعات: قوله "وصدور الرجال" هذا هو الأصل المعتمد ووجدانه من العسب واللخاف وغيرها تقرير على تقرير، وقوله "لم أجدها مع غيره" يعني مكتوبة لا محفوظة، وكذا ما ورد في بعض الروايات إنهم يحلفون من عنده آية من القرآن أو قام على ذلك شاهد إن المراد به التأكيد والتحقيق والمبالغة في الاحتياط
حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره.

(15/101)


وإلا فقد كان زيد وعدة من الأصحاب كأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وغيرهم حافظين له في حياته صلى الله عليه وسلم، أقول لا شبهة إن القرآن كان معلوما بالقطع ومعروفا عندهم ومتميزا عما سواه وكان مجمعا عليه ومقطوعا به، لا أنه كان مشتبها وكان بعضه عند أحد ولا يعرفه آخر أو ينكر كونه قرآنا ويثبت بالحلف والشهادة حاشا من ذلك وكانوا يبدون عن تأليف معجز ونظم معروف، وقد شاهدوا تلاوته من النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث وعشرين سنة فكان عن تزوير ما ليس منه مأمونا، وإنما كان الخوف من ذهاب شي من صحفه – انتهى. (حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة) بضم الخاء وفتح الزاء (الأنصاري) النجاري. قال الحافظ: وقع في رواية عبدالرحمن بن مهدي عن إبراهيم بن سعد عن الزهري (عن عبيد عن زيد بن ثابت) "مع خزيمة بن ثابت" أخرجه أحمد والترمذي، ووقع في رواية شعيب عن الزهري كما تقدم في سورة التوبة (عند البخاري) "مع خزيمة الأنصاري". وقد أخرجه الطبراني في مسند الشاميين من طريق أبي اليمان عن شعيب فقال فيه "خزيمة بن ثابت الأنصاري". وكذا أخرجه ابن أبي داود من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب وقول من قال عن إبراهيم بن سعد "مع أبي خزيمة" أصح، وقد تقدم البحث فيه في تفسير سورة التوبة وإن الذي وجد معه آخر سورة التوبة غير الذي وجد معه الآية التي في الأحزاب، فالأول اختلف الرواة فيه على الزهري، فمن قائل "مع خزيمة" ومن قائل "مع أبي خزيمة" ومن شاك فيه يقول "خزيمة أو أبي خزيمة" والأرجح إن الذي وجد معه آخر سورة التوبة أبوخزيمة بالكنية، والذي وجد معه الآية من الأحزاب خزيمة. وأبو خزيمة هذا هو ابن أوس بن زيد بن أصرم بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار مشهور بكنيته لا يعرف اسمه شهد بدرا وما بعدها من المشاهد، وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه وهو أخو مسعود بن أوس. وقيل: هو الحارث ابن خزيمة وفيه نظر وأما خزيمة فهو ابن ثابت بن

(15/102)


الفاكه الخطمي الأنصاري الأوسي يعرف بذي الشهادتين جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته كشهادة رجلين يكنى أبا عمارة شهد بدرا وما بعدها من المشاهد، وكانت راية خطمة بيده يوم الفتح شهد صفين مع علي رضي الله عنه وقتل يومئذ سنة سبع وثلاثين، روى عنه ابناه عبدالله وعمارة وجابر بن عبدالله (لم أجدها مع أحد غيره) بالجر على البدلية أي لم أجدها مكتوبة مع غيره لما تقدم من أنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة، ولا يلزم من عدم وجدانه إياها حينئذ أن لا تكون تواترت عند من لم يتلقها من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان زيد يطلب التثبت عمن تلقاها بغير واسطة، ولعلهم لما وجدها زيد عند أبي خزيمة تذكروها كما تذكرها زيد، وفائدة التتبع المبالغة في الاستظهار والوقوف عند ما كتب بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولقد اجتمع في هذه الآية زيد بن ثابت وعمر وأبو خزيمة وأبي بن كعب كما ورد ذلك في
?لقد جاءكم رسول من أنفسكم? حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حبوته، ثم عند حفصة بنت عمر)). رواه البخاري.
2243- (11) وعن أنس بن مالك، ((إن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وآذر بيجان مع أهل العراق،

(15/103)


الروايات (لقد جاءكم) بدل من آخر (فكانت الصحف) أي التي جمع فيها زيد بن ثابت القرآن (عند أبي بكر حتى توفاه الله) في موطأ ابن وهب عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبدالله بن عمر قال جمع أبوبكر القرآن في قراطيس، وكان سأل زيد بن ثابت في ذلك فأبى حتى استعان عليه بعمر ففعل (ثم عند عمر حياته) أي ثم كانت عند عمر بن الخطاب مدة حياته (ثم عند حفصة بنت عمر) أي ثم بعد عمر كانت عند حفصة بنت عمر في خلافة عثمان إلى أن شرع في كتابة المصحف. وإنما كانت عند حفصة لأن عمر أوصى بذلك فاستمر ما كان عنده عندها إلى أن طلبه منها من له طلب ذلك (رواه البخاري) في تفسير سورة براءة وفضائل القرآن والأحكام والتوحيد. وأخرجه أيضا أحمد (ج1ص10- 13) والترمذي في تفسير سورة التوبة، وعزاه في التنقيح للنسائي والطيالسي وابن سعد وابن أبي داود وابن المنذر وابن حبان والطبراني والبيهقي أيضا.

(15/104)


2243- قوله: (قدم على عثمان) أي المدينة في خلافته (وكان) أي عثمان (يغازي) أي يغزى (أهل الشام) بالنصب على المفعولية (في فتح أرمينية وآذر بيجان مع أهل العراق) أي كان عثمان يجهز أهل الشام وأهل العراق لغزو أرمينية وآذر بيجان وفتحهما. قال الحافظ: إن أرمينية فتحت في خلافة عثمان وكان أمير العسكر من أهل العراق سلمان بن ربيعة الباهلي، وكان عثمان أمر أهل الشام وأهل العراق أن يجتمعوا على ذلك وكان أمير أهل الشام على ذلك العسكر حبيب بن مسلمة الفهري، وكان حذيفة من جملة من غزا معهم وكان هو على أهل المدائن وهي من جملة أعمال العراق. وأرمينية بكسر الهمزة وسكون الراء وكسر الميم بعدها تحتانية ساكنة ثم نون مكسورة ثم تحتانية مفتوحة خفيفة، وقد تثقل. وقال ابن السمعاني: بفتح الهمزة. قال أبوعبيد هي بلد معروف يضم كورا كثيرة. وقيل: مدينة عظيمة بين بلاد الروم وخلاط. وقال ابن السمعاني: هي من جهة بلاد الروم يضرب بحسنها وطيب هوائها وكثرة مياهها وشجرها المثل. وقيل: إنها من بنا أرمين من ولد يافث بن نوح والنسبة إليها أرمني بفتح الهمزة. قال الرشاطي: افتتحت سنة أربع وعشرين في خلافة عثمان رضي الله عنه على يد سلمان بن ربيعة. وآذر بيجان قال الحافظ: بفتح الهمزة والذال المعجمة وسكون الراء. وقيل: بسكون الذال وفتح الراء وبكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم جيم خفيفة وبعد الألف نون، وحكى ابن مكي كسر أوله
فافرغ حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان! يا أمير المؤمنين! أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف،

(15/105)


وضبطها صاحب المطالع ونقله عن ابن الأعرابي بسكون الذال وفتح الراء بلد كبير من نواحي جبال العراق وهي الآن تبريز وقصباتها وهي تلي أرمينية من جهة غربيها واتفق غزوهما في سنة واحدة واجتمع في غزوة كل منهما أهل الشام وأهل العراق والذي ذكرته الأشهر في ضبطها، وقد تمد الهمزة وقد تحذف، وقد تفتح الموحدة، وقد يزاد بعدها ألف مع مد الأولى حكاه الهجري وأنكره الجواليقي – انتهى. وقال الكرماني: الأشهر عند العجم آذر بيجان بالمد والألف بين الموحدة والتحتانية هو بلدة تبريز وقصباتها. وقال القسطلاني: هو اسم اجتمعت فيه خمس موانع من الصرف العجمة والتعريف والتأنيث والتركيب ولحاق الألف والنون وهو إقليم واسع، ومن مشهور مدنه تبريز وهو صقع جليل ومملكة عظيمة (فافزغ) من الافزاغ (حذيفة) بالنصب مفعوله (اختلافهم) بالرفع فاعله أي أوقعه في الفزع والخوف اختلاف أهل العراق وأهل الشام (في القراءة) أي قراءة القرآن وذكر الحافظ هنا روايات توضح ما كان فيهم من الاختلاف حيث قال وقع في رواية فيتنازعون في القرآن حتى سمع حذيفة من اختلافهم ما ذعره. وفي رواية فتذاكروا القرآن فاختلفوا فيه حتى كاد يكون بينهم فتنة، وفي رواية إن حذيفة قدم من غزوة فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان فقال يا أمير المؤمنين! أدرك الناس قال وما ذاك؟ قال غزوت فرج أرمينية فإذا أهل الشام يقرؤن بقراءة أبي بن كعب فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرؤن بقراءة عبدالله بن مسعود فيأتون بما لم يسمع أهل الشام فيكفر بعضهم بعضا. وفي رواية إنه سمع رجلا يقول قراءة عبدالله بن مسعود وسمع آخر يقول قراءة أبي موسى الأشعري فغضب ثم قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: هكذا كان من قبلكم اختلفوا والله لأركبن إلى أمير المؤمنين. وفي رواية إن اثنين اختلفا في آية من سورة البقرة قرأ هذا ?وأتموا الحج والعمرة لله? [البقرة: 196] وقرأ هذا وأتموا الحج والعمرة للبيت فغضب حذيفة

(15/106)


وأحمرت عيناه. وفي رواية قال حذيفة يقول أهل الكوفة قراءة ابن مسعود، ويقول أهل البصرة قراءة أبي موسى، والله لئن قدمت على أمير المؤمنين لامرته أن يجعلها قراءة واحدة (أدرك هذه الأمة) أمر من الإدراك بمعنى التدارك، ومعناه بالفارسية درياب أمت راودستكيري كن (قبل أن يختلفوا في الكتاب) أي القرآن (اختلاف اليهود والنصارى) بالنصب أي كاختلافهم في التوراة والإنجيل إلى أن حرفوا وزادوا ونقصوا (فأرسل عثمان إلى حفصة) بنت عمر بن الخطاب (أن أرسلي إلينا بالصحف) التي كان أبوبكر أمر زيدا بجمعها وكانت بعد ما جمعه عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة
ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبدالله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف،

(15/107)


بنت عمر كما تقدم (ننسخها) بالجزم ويرفع أي ننقلها في المصاحف ثم نردها) بضم الدال وفتحها (إليك) والمصاحف جمع مصحف. قيل: الفرق بين الصحف والمصحف إن الصحف هي الأوراق المجردة التي جمع فيها القرآن في عهد أبي بكر وكانت سورا مفرقة كل سورة مرتبة بآياتها على حدة لكن لم يرتب بعضها أثر بعض فلما نسخت ورتب بعضها أثر بعض صارت مصحفا. وقد جاء عن عثمان إنه إنما فعل ذلك بعد أن استشار الصحابة فأخرج ابن أبي داود بإسناد صحيح من طريق سويد بن غفلة قال: قال علي لا تقولوا في عثمان إلا خيرا فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأمنا. قال: ما تقولون في هذه القراءة فقد بلغني إن بعضهم يقول إن قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كفرا قلنا: فما ترى قال نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف قلنا فنعم ما رأيت (فأمر) عثمان (زيد بن ثابت) هو الأنصاري والبقية قرشيون وتقدم ترجمة زيد ابن ثابت في (ص125) من الجزء الأول (وعبدالله بن الزبير) تقدم ترجمته في (ص662) من الجزء الأول (وسعيد بن العاص) سبق ترجمته في (ص343) من الجزء الثاني (وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام) بن المغيرة المخزومي المدني له رؤية وكان من كبار ثقات التابعين روى عن أبيه وعمر وعثمان وعلي وأبي هريرة وحفصة وعائشة وأم سلمة وآخرين وروى عنه أولاده أبوبكر وعكرمة والمغيرة والشعبي وآخرون ذكره ابن سعد فيمن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ورآه ولم يحفظ عنه شيئا. قال الواقدي: أحسبه كان ابن عشر سنين حين قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - وجزم بذلك مصعب الزبيري. قالت عائشة: كان عبدالرحمن رجلا سريا. وقال ابن سعد: كان من أشراف قريش مات أبوه في طاعون عمواس، فخلف عمر بن الخطاب على امرأته فاطمة بنت الوليد بن المغيرة فكان عبد الرحمن في حجره مات سنة ثلاث وأربعين، ووقع في النسخ الحاضرة من المشكاة عبدالله بدل عبدالرحمن وهو غلط (فنسخوها) أي

(15/108)


الصحف أي ما في الصحف التي أرسلتها حفصة إلى عثمان (في المصاحف) أي المتعددة في كتاب المصاحف لابن أبي داود من طريق محمد بن سيرين. قال: جمع عثمان اثنى عشر رجلا من قريش والأنصار منهم أبي بن كعب، وفي رواية مصعب بن سعد فقال: عثمان من اكتب الناس قالوا: كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت. قال: فأي الناس أعرب، وفي رواية أفصح قالوا: سعيد بن العاص قال عثمان: فليمل سعيد. وليكتب زيد. ووقع عند أبي داود تسمية جماعة ممن كتب أو أملى، منهم مالك بن أبي عامر جد مالك بن أنس وكثير بن أفلح وأبي بن كعب وأنس بن مالك وعبدالله بن عباس. قال الحافظ بعد ذكرهم: فهؤلاء تسعة عرفنا تسميتهم من الاثنى عشر، وكأن ابتداء الأمر كان لزيد وسعيد للمعنى المذكور
وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شي من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم،

(15/109)


فيهما في رواية مصعب، ثم احتاجوا إلى من يساعد في الكتابة بحسب الحاجة إلى عدد المصاحف التي ترسل إلى الآفاق فأضافوا إلى زيد من ذكر ثم استظهروا، بأبي بن كعب في الإملاء، وقد شق على ابن مسعود صرفه عن كتابة المصحف حتى قال ما أخرجه الترمذي في آخر هذا الحديث، إن عبدالله بن مسعود كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف، وقال: يا معشر المسلمين: أعزل عن ننسخ كتابة المصاحف ويتولاها رجل، والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر يريد زيد بن ثابت. وأخرج ابن أبي داود من طريق خمير بن مالك سمعت ابن مسعود يقول: لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة وإن زيد بن ثابت لصبي من الصبيان، ومن طريق أبي وائل عن ابن مسعود بضعا وسبعين سورة، والعذر لعثمان في ذلك إنه فعله بالمدينة وعبدالله بالكوفة ولم يؤخر ما عزم عليه من ذلك إلى أن يرسل إليه ويحضر، وأيضا فإن عثمان إنما أراد نسخ الصحف التي كانت جمعت في عهد أبي بكر وأن يجعلها مصحفا واحدا، وكان الذي نسخ ذلك في عهد أبي بكر هو زيد بن ثابت كما تقدم لكونه كان كاتب الوحي، فكانت له في ذلك أولية ليست لغيره. وقد أخرج الترمذي في آخر الحديث المذكور عن ابن شهاب قال بلغني إنه كره ذلك من مقالة عبدالله بن مسعود رجال من أفاضل الصحابة – انتهى كلام الحافظ. (وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة) يعني عبدالله وسعيد أو عبدالرحمن لأن الأول أسدى، والثاني أموي، والثالث مخزومي، وكلها من بطون قريش (في شي من القرآن) وفي رواية في عربية من عربية القرآن، وزاد الترمذي في روايته. قال ابن شهاب: فاختلفوا يومئذ في التابوت، والتابوه، فقال القرشييون التابوت وقال زيد التابوه، فرفع اختلافهم إلى عثمان فقال اكتبوه التابوت، فإنه نزل بلسان قريش (فإنما نزل بلسانهم) أي لغة قريش. قال القاضي أبوبكر بن الباقلاني: معنى قول عثمان نزل القرآن بلسان قريش أي معظمه وإنه لم تقم دلالة قاطعة إن جميعه بلسان قريش

(15/110)


فإن ظاهر قوله تعالى: ?إن جعلناه قرآنا عربيا? [الزخرف: 3] إنه نزل بجميع السنة العرب، ومن زعم أنه أراد مضر دون ربيعة أو هما دون اليمن أو قريشا دون غيرهم فعليه البيان، لأن اسم العرب يتناول الجميع تناولا واحدا ولو ساغت هذه الدعوى لساغ للآخر أن يقول نزل بلسان بني هاشم مثلا، لأنهم أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم نسبا من سائر قريش. وقال أبوشامة: يحتمل أن يكون قوله: "نزل بلسان قريش" أي ابتداء نزوله ثم أبيح أن يقرأ بلغة غيرهم. كما تقدم تقريره في شرح حديث نزل القرآن على سبعة أحرف – انتهى. وتكملته أن يقال إنه نزل أولا بلسان قريش أحد الحروف السبعة، ثم نزل بالأحرف السبعة المأذون في قراءتها تسهيلا وتيسيرا كما سبق بيانه، فلما جمع عثمان الناس على حرف واحد رأى
ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق
بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.

(15/111)


أن الحرف الذي نزل القرآن أولا بلسانه أولى الأحرف فحمل الناس عليه لكونه لسان النبي صلى الله عليه وسلم ولما له من الألوية المذكورة (ففعلوا) ذلك كما أمرهم. قال القاري: فإن قيل فلم أضاف عثمان هؤلاء النفر إلى زيد ولم يفعل ذلك أبوبكر قلت كان غرض الصديق جمع القرآن بجميع أحرفه ووجوهه التي نزل بها، وذلك على لغة قريش وغيرها، وكان غرض عثمان تجريد لغة قريش من تلك القراءات فجمع أبي بكر غير جمع عثمان، فإن قيل فما قصد بإحضار تلك الصحف؟ وقد كان زيد ومن أضيف إليه حفظة قلت: الغرض بذلك سد باب المقال وأن يزعم زاعم إن في المصحف قرآنا لم يكتب ولئلا يرى إنسان فيما كتبوه شيئا مما لم يقرأ به فينكره فالصحف شاهدة بصحة جميع ما كتبوه (حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة) فكانت عندها حتى توفيت فأخذها مروان حين كان أميرا على المدينة من قبل معاوية فأمر بها فشققت. وقال إنما فعلت هذا لأني خشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب، رواه ابن أبي داود وغيره، ووقع في رواية فشقها وحرقها، وفي أخرى فغسلها غسلا. قال الحافظ: ويجمع بأنه صنع بالصحف جميع ذلك من تشقيق ثم غسل ثم تحريق، ويحتمل أن يكون خرقها بالخاء المعجمة فيكون مزقها ثم غسلها (وأرسل إلى كل أفق) بضمتين أي ناحية ويجمع على آفاق (بمصحف مما نسخوا) وفي رواية فأرسل إلى كل جند من أجناد المسلمين بمصحف، واختلف في عدة المصاحف التي اكتبتها عثمان، فالمشهور إنها خمسة أرسل منها أربعة وأمسك واحدا. وقال الداني في المقنع: أكثر العلماء إنها أربعة أرسل واحدا للكوفة، وآخر للبصرة. وآخر للشام، وترك واحدا عنده. وقال أبوحاتم السجستاني: فيما رواه عنه ابن أبي داود كتبت سبعة مصاحف إلى مكة والشام واليمن والبحرين والبصرة والكوفة وحبس بالمدينة واحدا (وأمر بما سواه) أي بما سوى المصحف الذي استكبته والمصاحف التي نقلت منه وسوى الصحف التي كانت عند

(15/112)


حفصة وردها إليها، ولهذا استدرك مروان الأمر بعدها وأعدمها أيضا خشية أن يقع لأحد منهم توهم أن فيها ما يخالف المصحف الذي استقر الأمر عليه كما تقدم (من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق) بسكون الحاء المهملة وفتح الراء، ولأبي ذر عن الحموي والمستلي يحرق بفتح المهملة وتشديد الراء مبالغة في إذهابها وسدا لمادة الاختلاف. ووقع في رواية سويد ابن غفلة عن علي قال لا تقولوا لعثمان في إحراق المصاحف إلا خيرا، ومن طريق مصعب بن سعد قال أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك، أو قال لم ينكر ذلك منهم أحد. قال ابن بطال: في هذا الحديث جواز تحريق الكتب التي فيها اسم الله بالنار، وإن ذلك إكرام لها وصون عن وطئها بالأقدام. وقد
قال ابن شهاب: فأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت: أنه سمع زيد بن ثابت قال: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف،

(15/113)


أخرج عبد الرزاق من طريق طاوس إنه كان يحرق الرسائل التي فيها البسملة إذا اجتمعت، وكذا فعل عروة وكرهه إبراهيم. وقال ابن عطية: هذا أي التحريق كان في ذلك الوقت وأما الآن فالغسل أولى إذا دعت الحاجة إلى إزالته. قال العيني: وقال أصحابنا الحنفية إن المصحف إذا بلى بحيث لا ينتفع به يدفن في مكان طاهر بعيد عن وطء الناس. وقال القاري: يتعين الغسل بل ينبغي أن يشرب ماءه. قال شيخنا في شرح الترمذي بعد نقل كلام العيني: لو تأملت عرفت أن الاحتياط هو في الإحراق دون الدفن ولهذا اختار عثمان رضي الله عنه ذلك دون هذا والله تعالى أعلم. قلت: وإحراقه بقصد صيانته بالكلية لا امتهان فيه بوجه بل فيه دفع سائر صور الإهانة فهو الأولى بل المتعين، وأما القول بتعين الغسل ففساده ظاهر مع أنه لا يمكن في الأوراق المطبوعة كما لا يخفى. قال البغوي في شرح السنة: في هذا الحديث البيان الواضح إن الصحابة رضي الله عنهم جمعوا بين الدفتين القرآن المنزل من غير أن يكونوا زادوا أو نقصوا منه شيئا باتفاق منهم من غير أن يقدموا شيئا أو يؤخروه بل كتبوه في المصاحف على الترتيب المكتوب في اللوح المحفوظ بتوقيف جبريل عليه السلام على ذلك، وإعلامه عند نزول كل آية بموضعها وأين تكتب. وقال أبوعبدالرحمن السلمي: كان قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة، وهي التي قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان زيد شهد العرضة الأخيرة وكان يقري الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده الصديق في جمعه وولاه عثمان كتبة المصاحف. قال السفاقسي: فكان جمع أبي بكر خوف ذهاب شي من القرآن بذهاب حملته إذ أنه لم يكن مجموعا في موضع واحد وجمع عثمان لما كثر الاختلاف في وجوه قراءته حين قرؤا بلغاتهم حتى أدى ذلك إلى تخطيئة بعضهم بعضا، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مقتصرا من اللغات على لغة قريش إذ هي أرجحها كذا في شرح

(15/114)


البخاري للقسطلاني (قال ابن شهاب) أي الزهري وهذه القصة موصولة بالإسناد الذي روى به الحديث الأول أي قصة جمع عثمان ونسخه القرآن في المصاحف. وقد رواها البخاري موصولة مفردة في الجهاد، وفي المغازي في باب غزوة أحد وفي تفسير سورة الأحزاب (فأخبرني) هذا لأبي ذر ولغيره وأخبرني بالواو (خارجة بن زيد بن ثابت) الأنصاري النجاري أبوزيد المدني من كبار ثقات التابعين أدرك زمن عثمان وسمع أباه وغيره من الصحابة وهو أحد فقهاء المدينة السبعة روى عنه الزهري وغيره مات سنة مائة وقيل: سنة تسع وتسعين (إنه سمع) أباه (زيد بن ثابت قال فقدت) بفتح القاف (آية من الأحزاب حين نسخنا) أي أنا والقرشيون الثلاثة (المصحف) أي المصاحف في زمن عثمان
قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فالتمسناها، فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري ?من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه? فألحقناها في سورتها في المصحف.

(15/115)


لا في زمن أبي بكر لأن الذي فقده في خلافة أبي بكر الآيتان من آخر سورة براءة (قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها) قال الحافظ: هذا يدل على أن زيدا لم يكن يعتمد في جمع القرآن على علمه ولا يقتصر على حفظه لكن فيه إشكال لأن ظاهره إنه اكتفى مع ذلك بخزيمة وحده، والقرآن إنما يثبت بالتواتر والذي يظهر في الجواب إن الذي أشار إليه أن فقده فقد وجودها مكتوبة لا فقد وجودها محفوظة عنده وعند غيره. ويدل على هذا قوله في حديث جمع القرآن فأخذت اتتبعه من الرقاع والعسب - انتهى. (فالتمسناها) أي طلبناها (مع خزيمة) بضم الخاء وفتح الزاي المعجمتين (بن ثابت) بن الفاكه (الأنصاري) الخطمي الأوسي المعروف بذي الشهادتين من كبار الصحابة شهد بدرا مع علي يوم صفين، فلما قتل عمار بن ياسر جرد سيفه فقاتل حتى قتل، وتقدم شي من ترجمته في شرح حديث زيد بن ثابت، وهو غير أبي خزيمة بالكنية الذي وجد معه آخر التوبة كما بين هناك. ?من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه? [الزخرف: 23] من الثبات مع النبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد إلى آخر الآية (فألحقناها في سورتها في المصحف) قال القاري: فيه إشكال وهو إنه بظاهره يدل على أن تلك الآية ما كانت موجودة في الصحف (أي الأولى التي كتبت في الجمع الأول جمع أبي بكر) وإنما كتبت في المصحف بعد ذلك (أي زمن في عثمان) وهذا مستبعد جدا، فالصواب أن يراد بالمصحف الصحف التي كتبت في الجمع الأول ويكون ضمير المتكلم بالنون تعظيما – انتهى. قلت: قد وقع في نسخة القسطلاني من صحيح البخاري الصحف بدل المصحف. قال القسطلاني: قوله "في الصحف" بضم الصاد من غير ميم في الفرع، والذي في اليونينة بالميم انتهى. ويؤيد ذلك ما وقع في رواية إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن ابن شهاب إن فقده آية الأحزاب إنما كان في خلافة أبي بكر، وقد جزم بذلك ابن كثير لكن هذا كله يخالف ما حققه الحافظ في الفتح، حيث قال تحت

(15/116)


هذا الحديث: ظاهر حديث زيد بن ثابت هذا إنه فقد آية الأحزاب من الصحف التي كان نسخها في خلافة أبي بكر حتى وجدها مع خزيمة بن ثابت. ووقع في رواية إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع إن فقده إياها إنما كان في خلافة أبي بكر وهو وهم منه، والصحيح ما في الصحيح وإن الذي فقده في خلافة أبي بكر الآيتان من آخر براءة. وأما التي في الأحزاب ففقدها لما كتب المصحف في خلافة عثمان، وجزم ابن كثير بما وقع في رواية ابن مجمع وليس كذلك والله أعلم – انتهى. وتأول الحديث بعضهم بوجه يرتفع به الإشكال الذي أبداه القاري إذ قال إن زيد بن ثابت قد التزم في كتابته الأولى أي في جمعه القرآن وكتابته في الصحف في عهد أبي بكر أن يسمع الآية من جماعة من الحفاظ ويجدها مكتوبة عند اثنين، ولا يكتفي
رواه البخاري.
2244- (12) وعن ابن عباس، قال: قلت لعثمان: ((ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال، وهي من المثاني،

(15/117)


بمجرد الحفظ دون الكتابة ولا بمجرد وجدانها مكتوبة عند واحد إلا أنه لم يجد آخر سورة براءة مكتوبا إلا عند أبي خزيمة وإن كان قد سمعه من جماعة من الحفاظ وكان يحفظه بنفسه أيضا، ووقع مثل هذا التفرد حين كتبت الصحف في المصاحف في عهد عثمان، وكان هذا التفرد في آية ?من المؤمنين رجال? الآية وكان زيد قد التزم في كتابته الثانية أيضا مثل ما التزمه في الأولى مع أمر زائد، وهو العرض والمقابلة مع الصحف التي كتبت أولا أي في عهد أبي بكر فاتفق أنه لم يجد آية ?من المؤمنين رجال? مكتوبة عند اثنين وإن كانت مكتوبة في المصحف ومحفوظة في صدور الرجال والله أعلم (رواه البخاري) في باب جمع القرآن من فضائل القرآن. وأخرجه أيضا الترمذي في تفسير سورة التوبة والبيهقي (ج2ص41، 42) ونسبه في التنقيح للنسائي وابن سعد وابن أبي داود وابن الأنباري والبيهقي وابن حبان أيضا، تنبيه قال ابن التين وغيره: الفرق بين جمع أبي بكر وبين جمع عثمان: إن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب من القرآن شي بذهاب حملته، لأنه لم يكن مجموعا في موضع واحد فجمعه في صحائف مرتبا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القرآن حين قرؤه بلغاتهم على اتساع اللغات فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض، فخشي من تفاقم الأمر في ذلك فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتبا لسوره، واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش محتجا بأنه نزل بلغتهم، وإن كان قد وسع في قراءته بلغة غيرهم رفعا للحرج والمشقة في ابتداء الأمر فرأى إن الحاجة إلى ذلك انتهت فاقتصر على لغة واحدة، وكانت لغة قريش أرجح اللغات فاقتصر عليها. وقال الحارث المحاسبي: المشهور عند الناس إن جامع القرآن عثمان وليس كذلك إنما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد على اختيار وقع بينة وبين من شهده من المهاجرين والأنصار لما خشي الفتنة عند اختلاف

(15/118)


أهل العراق والشام في حروف القراءات، فأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن، فأما السابق إلى جمع الجملة فهو الصديق وقد قال علي لو وليت لعملت بالمصاحف التي عمل بها عثمان كذا في الإتقان.
2244- قوله: (قلت لعثمان) بن عفان (ما حملكم) أي ما الباعث لكم (على أن عمدتم) بفتح الميم أي قصدتم، وهذا لفظ أحمد، وعند الترمذي وأبي داود ما حملكم إن عمدتم أي بدون علي (إلا الأنفال) أي سورة الأنفال (وهي من المثاني) المثاني من القرآن ما كان من سوره أقل من المئين، فإنهم قسموا القرآن إلى أربعة
وإلى براءة، وهي من المائين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر ?بسم الله الرحمن الرحيم? ووضعتموها في السبع الطول؟ ما حملكم على ذلك؟

(15/119)


أقسام وجعلوا لكل قسم منه اسما، فقالوا أول القرآن السبع الطول، ثم ذوات المئين أي ذوات مائة آية ونحوها، ثم المثاني ثم المفصل. والسبع الطول هي من البقرة إلى الأعراف ست سور، واختلف في السابعة فقيل الفاتحة عدت منها مع قصرها لكثرة معانيها.وقيل: مجموع الأنفال وبراءة فهما كالسورة الواحدة، ولذا لم يفصل بينهما ببسملة وسيأتي مزيد الكلام في ذلك، ويقال للقسم الثاني المئون أيضا، وسميت بذلك لأن كل سورة منها تزيد على مائة آية أو تقاربها وهي إحدى عشرة سورة، والمثاني ما لم يبلغ مائة آية وهي عشرون سورة سميت بذلك لأنها ثنت المئين أي كانت بعدها فهي لها ثوان والمئون لها أوائل. قال في النهاية: المثاني السورة التي تقصر عن المئين وتزيد على المفصل كان المئين جعلت مبادى والتي تليها مثاني – انتهى. ويسمى جميع القرآن مثاني لاقتران آية الرحمة بآية العذاب. وقيل لأن فيه بيان القصص الماضية فهو ثان لما تقدمه. وقيل: لتكرار القصص والمواعظ فيه. وقيل: لغير ذلك وتسمى الفاتحة مثاني أي لأنها تثني في الصلاة. وقيل لغير ذلك وقد بسطه في الإتقان (ج1ص53) فراجعه إن شئت وأما المفصل فسمي بذلك لكثرة الفصول التي بين السور بالبسملة. وقيل: لقلة المنسوخ منه، ولهذا يسمى بالمحكم أيضا (وإلى براءة) هي سورة التوبة وهي أشهر أسماءها، ولها أسماء أخرى تزيد على العشرة ذكرها السيوطي في الإتقان (ج1ص54) (وهي من المئين) لكونها مائة وثلاثين آية والمئين جمع المائة، وأصل المائة مائي كمعي والهاء عوض عن الياء، وإذا جمعت المائة قلت مئون ولو قلت مآت جاز (فقرنتم بينهما) أي جمعتموهما (ووضعتموها) كذا وقع في رواية أحمد والترمذي، ولأبي داود فجعلتموهما بضمير التثنية وفي بعض النسخ من سنن أبي داود فجعلتموها أي بضمير الوحدة، فضمير التثنية بإعتبار إنهما سورتان وضمير الوحدة بإعتبار أنهما سورة واحدة من حيث المعنى والقصة (في السبع الطول) بضم ففتح قال ابن

(15/120)


الأثير: جمع الطولي مثل الكبر في الكبرى وهذا البناء يلزمه الألف واللام والإضافة وهذا عند الترمذي وأبي داود وفي رواية أحمد الطوال أي بكسر الطاء وبالألف بعد الواو (ما حملكم على ذلك) تكرير للتأكيد. قال القاري: توجيه السؤال إن الأنفال ليست من السبع الطول لقصرها عن المئين، لأنها سبع وسبعون آية وليست غيرها لعدم الفصل بينها وبين براءة. قلت: المراد بقول ابن عباس إن الأنفال سورة قصيرة من المثاني أي السورة التي لا تبلغ آيها مائة لأنها سبع وسبعون آية فجعلتموها داخلة السبع الطول، وبراءة سورة طويلة لأنها مائة وثلاثون آية فينبغي لها أن تكون من الطول فجعلتموها من المئين، ثم بعد تقدير هذا الجعل لم تكتبوا بينهما سطر ?بسم الله الرحمن الرحيم? فكأنه سأل سؤالين وأجاب عثمان بما حاصله إنه وقع الاشتباه في أمر هاتين
قال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان، وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، وكان إذا نزل عليه شي دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا. فإذا نزلت عليه الآية فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا.

(15/121)


السورتين، فإنه يحتمل أن تكونا سورة واحدة، وعلى هذا فيصح وضعها في السبع الطول، وعدم كتابة البسملة بينهما ويحتمل أن تكونا سورتين فصح وضع الفاصلة بينهما بالبياض لمكان الاشتباه والاحتمال لعدم القطع بكونهما سورة واحدة فافهم (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يأتي عليه الزمان) أي الزمان الطويل ولا ينزل عليه شي وربما يأتي عليه الزمان (وهو) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - والواو للحال (ينزل عليه) بصيغة المجهول وذكره الجزري بلفظ التأنيث فيكون معلوما (السور) كذا للترمذي وعند أحمد من السور (ذوات العدد) صفة للسور على الروايتين أي السور للتعددة أو ذوات الآيات المتعددة (وكان إذا نزل عليه شي) في جامع الترمذي فكان إذا نزل عليه الشي، ولأحمد وكان إذا أنزل عليه الشي أي من القرآن (دعا بعض من كان يكتب) أي الوحي وهذا لفظ الترمذي، وعند أحمد يدعوا بعض من يكتب عنده، ولفظ أبي داود كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مما تنزل عليه الآيات فيدعوا بعض من كان يكتب له (فيقول ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا فإذا نزلت عليه الآية فيقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا) هذا لفظ الترمذي، ووقع عند أحمد ذكر الأمر بالوضع ثلاث مرات. وهذا زيادة جواب تبرع به رضي الله عنه للدلالة على أن ترتيب الآيات توقيفي وعليه الإجماع والنصوص المترادفة. أما الإجماع فنقله غير واحد منهم الزركشي في البرهان وأبو جعفر بن الزبير في مناسبته، وعبارته ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه - صلى الله عليه وسلم - ، وأمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين – انتهى. وأما النصوص الدالة على ذلك تفصيلا أو إجمالا فقد سردها السيوطي في الإتقان (ج1ص60، 61) وأما ترتيب السورة على ما هو عليه الآن فهل هو توقيفي أيضا أو هو باجتهاد من الصحابة ففيه خلاف فذهب طائفة من العلماء إلى الثاني منهم مالك والقاضي أبوبكر في أحد

(15/122)


قوليه وابن فارس وذهب جماعة إلى الأول منهم القاضي في أحد قوليه وأبو بكر بن الأنباري والبغوي وأبو جعفر النحاس وابن الحصار والكرماني والطيبي إن شئت الوقوف على أقوال هؤلاء وعلى النصوص التي احتجوا لما ذهبوا إليه فارجع إلى الإتقان (ج1ص62، 63) قال الزركشي في البرهان: والخلاف بين الفريقين لفظي، لأن القائل بالثاني يقول إنه رمز إليهم ذلك لعلمهم بأسباب نزوله ومواقع كلماته ولهذا قال مالك: إنما الفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي
وكانت الأنفال من أوائل ما نزلت بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها،

(15/123)


- صلى الله عليه وسلم - مع قوله بأن ترتيب السور باجتهاد منهم فآل الخلاف إلى أنه هل هو بتوقيف قولي أو بمجرد إسناد فعلي بحيث يبقى لهم فيه مجال للنظر وسبقه إلى ذلك أبوجعفر بن الزبير. وقال البيهقي في المدخل: كان القرآن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتبا سوره وآياته على هذا الترتيب إلا الأنفال وبراءة لحديث عثمان يعني الذي نحن في شرحه ومال السيوطي إلى قول البيهقي حيث قال في الإتقان (ج1ص63) بعد بسط الخلاف وسرد أقوال العلماء في ذلك والذي ينشرح له الصدر ما ذهب إليه البيهقي، وهو أن جميع السور ترتيبها توقيفي إلا براءة والأنفال – انتهى. والقول الراجح المعول عليه عندنا هو ما ذهب إليه البغوي وابن الأنباري والكرماني وغيرهم إن ترتيب المصحف على ما هو عليه الآن تولاه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أخبر به جبرئيل عن أمر ربه فجميع السور ترتيبها توقيفي، وكل ما يدل على خلاف هذا فهو مدفوع، وحديث ابن عباس الذي نحن في شرحه مدخول أيضا كما ستعرف (وكانت الأنفال من أوائل ما نزلت) كذا عند الترمذي، ولأحمد ما أنزل أي من الإنزال ولأبي داود من أول ما نزل عليه (بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا) كذا في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة بزيادة نزولا بعد لفظ القرآن، وهكذا ذكره الجزري في جامع الأصول (ج2ص232) والسيوطي في الإتقان (ج1ص60) والشوكاني في فتح القدير (ج2ص316) وكذا وقع في رواية البيهقي (ج2ص42) ولم يقع هذا اللفظ عند أحمد والترمذي ولا ذكره الحافظ في الفتح، ولفظ أبي داود وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن. قال القاري: أي فهي مدنية أيضا وبينهما النسبة الترتيبية بالأولية والآخرية، فهذا أحد وجوه الجمع بينهما، ويؤيده ما وقع في رواية بعد ذلك فظننت أنها منها، وكأن هذا مستند من قال إنهما سورة واحدة وهو ما أخرجه أبوالشيخ عن دوق وأبويعلى عن مجاهد وابن أبي حاتم عن سفيان وابن لهيعة كانوا يقولون: إن

(15/124)


براءة من الأنفال ولهذا لم تكتب البسملة بينهما مع اشتباه طرقها، ورد بتسمية النبي صلى الله عليه وسلم لكل منها باسم مستقل قال القشيري: الصحيح إن التسمية لم تكن فيها لأن جبريل عليه السلام لم ينزل بها فيها، وعن ابن عباس لم تكتب البسملة في براءة لأنها أمان وبراءة نزلت بالسيف وعن مالك إن أولها لما سقط سقطت معه البسملة، فقد ثبت إنها كانت تعدل البقرة لطولها. وقيل: إنها ثابتة أولها في مصحف ابن مسعود ولا يعول على ذلك - انتهى. قلت: قوله "فظننت أنها منها" ثابت في هذه الرواية عند الثلاثة الذين عزى إليهم – الحديث. وكذا عند الحاكم والبيهقي، والظاهر إن المصنف تبع في ذلك الجزري حيث ذكر هذا الحديث في جامع الأصول بدون تلك الجملة (وكانت قصتها) أي الأنفال (شبيهة بقصتها)
فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم اكتب السطر ?بسم الله الرحمن الرحيم? ووضعتها في السبع الطول)). رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود.

(15/125)


أي براءة ويجوز العكس قاله القاري. قلت: في رواية ابن حبان فوجدت قصتها شبيها بقصة الأنفال وهذا وجه آخر معنوي، ولعل وجه كون قصتها شبيهة بقصتها إن في الأنفال ذكر العهود، وفي البراءة نبذها فضمت إليها (ولم يبين لنا أنها منها) أي لم يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن التوبة من الأنفال أو ليست منها (فمن أجل ذلك) أي لما ذكر من عدم تبيينه ووجود ما ظهر لنا من المناسبة بينهما (قرنت بينهما ولم اكتب) أي بينهما وسقط هذا اللفظ في جميع النسخ من المشكاة وهو ثابت عند الثلاثة، والمصنف تبع في ذلك الجزري (سطر بسم الله الرحمن الرحيم) أي لعدم العلم بأنها سورة مستقلة لأن البسملة كانت تنزل عليه صلى الله عليه وسلم للفصل ولم تنزل ولم اكتب (ووضعتها في السبع الطول) أي ولكن فصلت بينهما بسطر لا كتابة فيه للاشتباه في أمرهما. قال الطيبي: دل هذا الكلام على أنهما نزلتا منزلة سورة واحدة وكمل السبع الطول بها. قلت: حاصل الكلام هنا إن ترك البسملة لعدم الجزم بكونهما سورتين، وجعل الفرجة والفصل بينهما بالبياض لعدم الجزم بكونهما سورة واحدة، وأما الوضع في الطول فلأنهما إن كانتا سورتين فلا بأس في وضعهما هناك. فقد تخلل بعض المئين في المثاني كسورة الرعد وسورة إبراهيم، وإن كانتا سورة واحدة فهي في محلها بخلاف ما لو وضعتها في المثاني، فإن وضعها ثمة لم يكن مناسبا فلذلك أخرتها عن الست الطوال وقدمتها على المئين لأجل الاشتباه. ثم قيل: السبع الطول هي البقرة وبراءة وما بينهما وهو المشهور، ولكن روى النسائي والحاكم عن ابن عباس إنها البقرة والأعراف وما بينهما. قال الراوي: وذكر السابعة فنسيتها وهو يحتمل أن تكون الفاتحة فإنها من السبع المثاني أو هي السبع المثاني ونزلت سبعتها منزلة المئين، ويحتمل أن تكون الأنفال بإنفرادها أو بانضمام ما بعدها إليها، وصح عن ابن جبير إنها يونس، وجاء مثله عن ابن عباس ولعل وجهه إن الأنفال وما بعدها

(15/126)


مختلف في كونها من المثاني، وإن كلا منهما سورة أو هما سورتان كذا في المرقاة. قال الحافظ: هذا الحديث يدل على أن ترتيب الآيات في كل سورة كان توقيفا، ولما لم يفصح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر براءة أضافها عثمان إلى الأنفال اجتهادا منه رضي الله تعالى عنه. يعني فيكون دليلا على أن ترتيب بعض السور كان من اجتهاد الصحابة، لا بتوقيف النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن الحديث ليس مما يصلح أن يؤخذ به في ترتيب القرآن الذي يطلب فيه التواتر (رواه أحمد) (ج1ص57) (والترمذي) في تفسير سورة التوبة (وأبوداود) في باب من جهر ببسم الله الرحمن الرحيم من كتاب الصلاة، وأخرجه أيضا الحاكم (ج2ص221- 330) والبيهقي (ج2ص42) وابن حبان (ج1ص186، 187) وابن أبي داود في كتاب المصاحف (ص31، 32) كلهم من طريق عوف بن أبي جميلة عن يزيد الفارسي عن ابن

(15/127)


عباس ونسبه السيوطي أيضا في الدر المنثور (ج3ص70) لابن أبي شيبة والنسائي وابن المنذر وابن الأنباري وأبي عبيد وغيرهم. والحديث قد حسنه الترمذي. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وسكت عليه أبوداود. وقال المنذري في مختصر السنن: أخرجه الترمذي. وقال هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث عوف عن يزيد الفارسي عن ابن عباس، ويزيد الفارسي قد روى عن ابن عباس غير حديث. ويقال هو يزيد بن هرمز وهذا الذي حكاه الترمذي هو الذي قاله عبدالرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وذكر غيرهما إنهما اثنان، وإن الفارسي غير ابن هرمز، وإن ابن هرمز ثقة، والفارسي لا بأس به - انتهى كلام المنذري. قلت: يزيد بن هرمز من رجال مسلم متفق على توثيقه، ويزيد الفارسي من رجال السنن، قال أبوحاتم عنه: لا بأس به كما في التهذيب (ج11ص374) وقال في التقريب: إنه مقبول. ونقل الحافظ حديث ابن عباس هذا في الفتح (ج20ص437) في معرض الاحتجاج به على كون ترتيب الآيات في كل سورة توقيفا وكون ترتيب بعض سور القرآن من اجتهاد الصحابة، وهذا يدل على أن الحديث حسن أو صحيح عنده، وعليه يدل صنيع البيهقي في المدخل والسيوطي في الإتقان كما سبق، وذكره الحافظ ابن كثير في التفسير وفي فضائل القرآن ولم يتكلم فيه، وكذا نقله الشوكاني في تفسيره من غير كلام فيه، ولم أجد أحدا من العلماء المتقدمين والمتأخرين إنه ضعفه أو أشار إلى ضعفه غير أن البخاري ذكر يزيد الفارسي، هذا في كتاب الضعفاء الصغير (ص37) وضعف الحديث جدا العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر وبسط الكلام في ذلك، ولنورد كلامه فإنه مهم جدا. والمسألة تحتاج إلى عناية كبيرة فإن هذا الحديث مما يتطرق به المستشرقون وعبيدهم المتفرنجون إلى الطعن والتشكيك في ثبوت القرآن وترتيبه، فإن التواتر المعلوم من الدين بالضرورة إن القرآن بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته سورا معروفة مفصلة مبينة مواضعها، يفصل بين كل سورتين

(15/128)


منها بالبسملة إلا في أول براءة، لأن جبريل لم ينزل بها فيها ليس لعثمان رضي الله عنه ولا لغيره أن يرتب فيه شيئا، ولا أن يبين موضع سورة أو يثبت البسملة ويتركها برأيه. قال العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر في شرح المسند (ج1ص329، 330) تحت هذا الحديث: "في إسناده نظر كثير بل هو عندي ضعيف جدا بل هو حديث لا أصل له يدور إسناده في كل رواياته على يزيد الفارسي الذي رواه عن ابن عباس تفرد به عنه عوف بن أبي جميلة وهو ثقة، قال: ويزيد الفارسي هذا اختلف فيه أهو يزيد بن هرمز أم غيره؟ قال البخاري في التاريخ الكبير: قال لي علي قال عبدالرحمن: يزيد الفارسي هو ابن هرمز، قال: فذكرته ليحيي فلم يعرفه قال وكان يكون مع الأمراء" وفي تهذيب التهذيب" قال ابن أبي حاتم: اختلفوا هل هو يعني ابن هرمز يزيد الفارسي أو غيره، فقال ابن مهدي وأحمد: هو ابن هرمز وأنكر يحيى بن سعيد القطان أن يكونا واحدا، وسمعت أبي يقول يزيد بن هرمز هذا ليس بيزيد الفارسي هو سواه" وذكر البخاري أيضا في كتاب الضعفاء الصغير (ص37) وقال نحوا من قوله في التاريخ الكبير: فهذا يزيد الفارسي الذي انفرد

(15/129)


برواية هذا الحديث يكاد يكون مجهولا حتى شبه على مثل ابن مهدي وأحمد والبخاري أن يكون هو ابن هرمز أو غيره، ويذكره البخاري في الضعفاء فلا يقبل منه مثل هذا الحديث ينفرد به، وفيه تشكيك في معرفة سور القرآن الثابتة بالتواتر القطعي قراءة وسماعا وكتابة في المصاحف، وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور، كأن عثمان كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه وحاشاه من ذلك فلا علينا إذا قلنا إنه "حديث لا أصل له" تطبيقا للقواعد الصحيحة التي لا خلاف فيها بين أئمة الحديث. قال السيوطي في تدريب الراوي (ص99) في الكلام على إمارات الحديث الموضوع أن "يكون منافيا لدلالة الكتاب القطعية أو السنة المتواترة أو الإجماع القطعي". وقال الحافظ في شرح النخبة": ومنها ما يؤخذ من حال المروي كأن يكون مناقضا لنص القرآن أو السنة المتواترة أو الإجماع القطعي". وقال الخطيب في كتاب الكفاية: (ص432) "ولا يقبل خبر الواحد في منافاة حكم العقل وحكم القرآن الثابت المحكم والسنة المعلومة والفعل الجاري مجرى السنة وكل دليل مقطوع به" وكثيرا يضعف أئمة الحديث راويا لإنفراده برواية حديث منكر يخالف المعلوم من الدين بالضرورة، أو يخالف المشهور من الروايات فأولى أن نضعف يزيد الفارسي هذا بروايته هذا الحديث منفردا به إلى أن البخاري ذكره في الضعفاء، وينقل عن يحيى القطان أنه كان يكون مع الأمراء ثم بعد كتابة ما تقدم وجدت الحافظ ابن كثير نقل هذا الحديث في التفسير، وفي كتاب فضائل القرآن المطبوع آخر التفسير، ووجدت أستاذنا العلامة السيد محمد رشيد رضا رحمة الله عليه علق عليه في الموضعين. فقال في الموضع الأول بعد الكلام على يزيد الفارسي": فلا يصح أن يكون ما انفرد به معتبرا في ترتيب القرآن الذي يطلب فيه التواتر". وقال في الموضع الثاني: "فمثل هذا الرجل لا يصح أن تكون روايته التي انفرد بها مما يؤخذ به في ترتيب القرآن المتواتر" وهذا يكاد يوافق ما

(15/130)


ذهبنا إليه فلا عبرة بعد هذا كله في هذا الموضع بتحسين الترمذي، ولا بتصحيح الحاكم، ولا بموافقة الذهبي، وإنما العبرة للحجة والدليل والحمد لله على التوفيق – انتهى كلامه باختصار يسير.
(9) كتاب الدعوات
(9) (كتاب الدعوات) بفتح الدال والعين المهملتين، جمع دعوة بفتح أوله، وهو مصدر يراد به الدعاء وهو هنا السؤال، يقال دعوت الله أي سألته. قال القاري: الدعوة بمعنى الدعاء وهو طلب الأدنى بالقول من الأعلى شيئا على جهة الاستكانة – انتهى. وقال الشيخ أبوالقاسم القشيري في شرح الأسماء الحسنى ما ملخصه: جاء الدعاء في القرآن على وجوه، منها العبادة ?ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك? [يونس: 10] ومنها الاستغاثة ?وادعوا شهداءكم? [البقرة: 23] ومنها السؤال ?ادعوني أستجب لكم? [غافر: 60] ومنها، القول دعواهم فيها ?سبحانك اللهم? [يونس: 10] والنداء ?يوم يدعوكم? [الإسراء: 52] والثناء ?قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن? [الإسراء: 110] اعلم أن الدعاء والتضرع من أشرف أنواع الطاعات وأفضل العبادات أمر الله تعالى به عباده فضلا وكرما وتكفل لهم بالإجابة، وحكى القشيري في الرسالة، الخلاف في المسألة فقال: اختلف الناس في أن الأفضل الدعاء أم السكوت والرضا؟ فمنهم من قال الدعاء في نفسه عبادة قال صلى الله عليه وسلم الدعاء هو العبادة، وقال الدعاء مخ العبادة، فالإتيان بما هو عبادة أولى من تركها ثم هو حق الحق سبحانه وتعالى فإن لم يستحب للعبد ولم يصل إلى حظ نفسه فلقد قام بحق ربه، لأن الدعاء إظهار فاقة العبودية. قال الحافظ: وهذا القول هو الذي ينبغي ترجيحه لكثرة الأدلة الواردة في الحث عليه ولما فيه من إظهار الخضوع والافتقار وقالت طائفة: السكوت والخمود تحت جريان الحكم أتم والرضا بما سبق به القدر أولى لما في التسليم من الفضل. قال الحافظ: وشبهتهم أن الداعي لا يعرف ما قدر له فدعاءه إن كان على وقف المقدور فهو تحصيل الحاصل، وإن

(15/131)


كان على خلافه فهو معاندة. والجواب عن الأول إن الدعاء من جملة العبادة لما فيه من الخضوع والافتقار، وعن الثاني إنه إذا اعتقد إنه لا يقع إلا ما قدر الله تعالى كان إذعانا لا معاندة، وفائدة الدعاء تحصيل الثواب بامتثال الأمر ولاحتمال أن يكون المدعو به موقوفا على الدعاء، لأن الله خالق الأسباب ومسبباتها. قال القشيري: وقالت طائفة: ينبغي أن يكون صاحب دعاء بلسانه وصاحب رضي بقلبه ليأتي بالأمرين جميعا. قال الأولى: أن يقال الأوقات مختلفة ففي بعض الأحوال الدعاء أفضل من السكوت وهو الأدب، وفي بعض الأحوال السكوت أفضل من الدعاء وهو الأدب. وإنما يعرف ذلك بالوقت فإذا وجد في قلبه إلى الدعاء فالدعاء أولى به، وإذا وجد إشارة إلى السكوت فالسكوت أتم. قال الحافظ: القول الأول

(15/132)


أعلى المقامات أن يدعو بلسانه ويرضي بقلبه، والثاني لا يتأتي من كل أحد بل ينبغي أن يختص به الكمل قال القشيري ويصح أن يقال ما كان للمسلمين فيه نصيب أو لله سبحانه وتعالى فيه حق فالدعاء أولى لكونه عبادة وإن كان لنفسك فيه حظ فالسكوت أتم، وعبر ابن بطال عن هذا القول لما حكاه بقوله يستحب أن يدعوا لغيره وبترك لنفسه يعني إن دعا لغيره من المسلمين فحسن وإن دعا لنفسه فالأولى تركه. قال النووي في شرح مسلم: القول باستحباب الدعاء مطلقا هو القول الصحيح الذي أجمع عليه العلماء وأهل الفتاوى في الأمصار في كل الأعصار، ودليلهم ظواهر القرآن والسنة في الأمر بالدعاء وفعله، والأخبار عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بفعله. وقال في الأذكار: المذهب المختار الذي عليه الفقهاء والمحدثون وجماهير العلماء من الطوائف كلها من السلف والخلف إن الدعاء مستحب. قال الله تعالى وقال ربكم ?ادعوني استجب لكم? وقال تعالى ?ادعوا ربكم تضرعا وخفية? [الأعراف: 55] والآيات في ذلك كثير مشهورة. وأما الأحاديث الصحيحة فهي أشهر من أن تشهر، وأظهر من أن تذكر واعلم أن للدعاء آدابا يجب على الداعي مراعاتها، وقد ذكرها الجزري في الحصن والنووي في الأذكار وبسط الكلام عليها مع البحث عن أدلتها الشوكاني في تحفة الذاكرين، وكذا الغزالي في الإحياء والزبيدي في شرحه فعليك أن تراجع هذه الكتب، وسيأتي التنبيه على بعض آداب الدعاء وشرائطه في شرح أحاديث الباب. قال الغزالي في الإحياء (ج1ص198) فإن قلت فما فائدة الدعاء مع أن القضاء لا مرد له، فاعلم أن من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء، فالدعاء سبب لرد البلاء واستجلاب الرحمة، كما أن الترس سبب لرد السهم، والماء سبب لخروج النبات من الأرض، فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان، فكذلك الدعاء والبلاء يتعالجان، وليس من شرط الاعتراف بقضاء الله تعالى أن لا يجعل السلاح. وقد قال تعالى: ?خذوا حذركم? [النساء: 71]

(15/133)


ولا أن لا يسقى الأرض بعد بث البذر، فيقال إن سبق القضاء بالنبات نبت البذر وإن لم يسبق لم ينبت، بل ربط الأسباب بالمسببات هو القضاء الأول الذي هو كلمح البصر، وترتيب تفصيل المسببات على تفاصيل الأسباب على التدريج، والتقدير هو القدر والذي قدر الخير قدره بسبب، والذي قدر الشر قدر لدفعه سببا، فلا تناقض بين هذه الأمور عند من انفتحت بصيرته. ثم في الدعاء من الفائدة (أي زيادة على الفائدة التي هي الإتيان بالسبب في رد البلاء) ما ذكرناه في الذكر وهو حضور القلب مع الله تعالى وهو منتهى العبادات، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: الدعاء مخ العبادة، والغالب على الخلق إنه لا تنصرف قلوبهم إلى ذكر الله إلا عند إلمام حاجة وإرهاق ملمة، فإن الإنسان إذا مسه الشر فذو دعاء عريض فالحاجة تحوج إلى الدعاء، والدعاء يرد القلب إلى الله عزوجل بالتضرع والاستكانة، فيحصل به الذكر الذي هو أشرف العبادات، ولذلك صار البلاء موكلا بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل، لأنه يرد القلب بالافتقار والتضرع إلى الله وتمنع من نسيانه ويذكر بنعمته وإحسانه.
?الفصل الأول?
2245- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي إلى يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا)).

(15/134)


2245- قوله: (لكل نبي دعوة مستجابة) قال النووي: معناه إن كل نبي له دعوة متيقنة الإجابة، وهو على يقين من إجابتها. وأما باقي دعواتهم فهم على طمع من إجابتها، وبعضها يجاب وبعضها لا يجاب، وذكر القاضي عياض أنه يحتمل أن يكون المراد لكل نبي دعوة لأمته كما في الروايتين الأخيريتين يعني من روايات مسلم بلفظ: لكل نبي دعوة دعا بها في أمته، وبلفظ: لكل نبي دعوة دعاها لأمته. والمراد إن لكل منهم دعوة عامة مستجابة في حق الأمة إما بإهلاكهم وإما بنجاتهم. وأما الدعوات الخاصة فمنها ما يستجاب، ومنها ما لا يستجاب. وقيل معناه إن لكل منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه كقول نوح ?رب لا تذر على الأرض? [نوح: 26] وقول زكريا ?فهب لي من لدنك وليا يرثني? [مريم: 5] وقول سليمان ?رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي? [ص35] حكاه ابن التين (فتجعل كل نبي دعوته) أي استعجل في دعوته المقطوع بإجابتها وإني اختبأت دعوتي) أي ادخرت دعوتي المقطوع بالإجابة وجعلتها خبيئة من الاختباء وهو الستر. ووقع في رواية للشيخين، وإني أريد أن اختبىء، وفي حديث أنس عند البخاري فجعلت دعوتي. قال الحافظ: وكأنه - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يؤخرها ثم عزم ففعل ورجا وقوع ذلك فأعلمه الله به فجزم به (شفاعة لأمتي) أي أمة الإجابة يعني لأجل أن أصرفها لهم خاصة بعد العامة وفي جهة الشفاعة أو حال كونها شفاعة (إلى يوم القيامة) أي مؤخرة إلى ذلك اليوم وفي نسخة يوم القيامة على أنه ظرف للشفاعة قاله القاري. قلت: وفي صحيح مسلم يوم القيامة أي بدون إلى وكذا وقع في المصابيح، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج11ص 122) فالظاهر إن ما وقع في أكثر نسخ المشكاة بذكر إلى غلط من النساخ فهي) أي الشفاعة (نائلة) أي واصلة حاصلة (إن شاء الله) قاله - صلى الله عليه وسلم - على جهة التبرك والامتثال لقوله تعالى: ?ولا تقولن لشي إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله? [الكهف: 23]

(15/135)


(من مات) في محل نصب على أنه مفعول به لنائلة (لا يشرك بالله) حال من فاعل مات (شيئا) أي من الأشياء أو من الإشراك وهي أقسام. عدم دخول قوم النار. وتخفيف لبثهم فيها. وتعجيل دخولهم الجنة. ورفع درجات فيها. قال ابن بطال: في هذا الحديث بيان فضل نبينا - صلى الله عليه وسلم - على سائر الأنبياء حيث آثر أمته على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة، ولم يجعلها أيضا دعاء عليهم بالهلاك، كما وقع لغيره ممن تقدم. وقال ابن الجوزي:
رواه مسلم وللبخاري أقصر منه.
2246- (2) وعنه،قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني اتخذت عندك عهدا لن تخلفينه،

(15/136)


هذا من حسن تصرفه - صلى الله عليه وسلم - لأنه جعل الدعوة فيما ينبغي ومن كثرة كرمه لأنه آثر أمته على نفسه ومن صحة نظره، لأنه جعلها للمذنبين من أمته لكونهم أحوج إليها من الطائعين. وقال النووي: فيه كمال شفقة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته ورأفته بهم واعتناءه بالنظر في مصالحهم المهمة فأخر دعوته لأمته إلى أهم أوقات حاجتهم. وأما قوله فهي نائلة" الخ ففيه دليل لمذهب أهل الحق أهل السنة إن كل من مات غير مشرك بالله تعالى لا يخلد في النار ولو مات مصرا على الكبائر، يعني ففيه رد على من أنكر ذلك، ويرى أن الشفاعة لرفع الدرجات وغيره، ولا شفاعة لأهل الكبائر بل هم مخلدون في النار (رواه مسلم) في أواخر الإيمان (وللبخاري أقصر منه) فقد رواه في أول الدعوات بلفظ: لكل نبي دعوة يدعوا بها، وأريد أن أختبىء دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة، وفي باب المشيئة والإرادة من كتاب التوحيد بلفظ: لكل نبي دعوة فأريد إن شاء الله أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة. وأخرجه مسلم مطولا كما في المشكاة ومقتصرا أيضا كما عند البخاري. وأخرجه أحمد في مواضع منها في (ج2ص275) ومنها في صحيفة همام بن منبه (ج2ص313) ومالك في أواخر الصلاة والترمذي في الدعوات وابن ماجه في ذكر الشفاعة والخطيب في تاريخ بغداد (ج3ص424، ج11ص 141) وفي الباب عن أنس عند الشيخين وجابر عند مسلم، وابن عباس ضمن حديث مطول عند أبي يعلى وأحمد (ج1ص281- 295) وعبدالله بن عمرو بن العاص ضمن حديث أيضا عند أحمد (ج2ص222) وعبادة بن الصامت عند أحمد والطبراني وعبدالرحمن بن أبي عقيل الثقفي عند الحاكم، والطبراني والبزار، وأبي سعيد عند أحمد والبزار وأبي يعلى والطبراني وأبي ذر عند البزار، وأبي موسى عند أحمد والطبراني وابن عمر عند الطبراني.

(15/137)


2246- قوله: (اللهم إني اتخذت) وقع في رواية لمسلم في أول الحديث، اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر، وإني قد اتخذت عند الله الخ. وأخرج مسلم من حديث عائشة بيان سبب هذا الحديث قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان فكلماه بشي لا أدري ما هو، فأغضباه فسبهما ولعنهما فلما خرجا قلت له: فقال أو ما علمت ما شارطت عليه ربي. قلت: اللهم إنما أنا بشر فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجرا، وقوله "اتخذت" كذا في جميع النسخ بلفظ الماضي، وفي المصابيح اتخذ أي بصيغة المضارع كما في صحيح مسلم، وهكذا نقله الجزري (ج11ص330) نعم وقع في روايات أخرى لمسلم اتخذت أي بصيغة الماضي (عندك عهدا) أي أخذت منك وعدا أو أمانا (لن تخلفنيه) من الإخلاف لأن الكريم لا يخلف وعده قيل
فإنما أنا بشر، فأي المؤمنين آذيته: شتمته لعنته جلدته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك
يوم القيامة)).

(15/138)


أصل الكلام إني طلبت منك حاجة اسعفني بها ولا تخيبني فيها، فوضع العهد موضع الحاجة مبالغة في كونها مقضية ووضع لن تخلفنيه موضع لا تخيبني. وقيل وضع العهد موضع الوعد مبالغة وإشعارا بأنه وعد لا يتطرق إليه الخلف كالعهد ولذلك استعمل فيه الخلف لا النقض لزيادة التأكيد. وقيل أراد بالعهد الأمان، والمعنى أسألك أمانا لن تجعله خلاف ما أترقبه وأرتجيه بأن تجعل ما بدر مني مما يناسب ضعف البشرية إلى مؤمن من أذية أنحوها نحوه أو دعوة أدعوا بها عليه قربة تقربه بها إليك، فإنما أنا بشر أتكلم في الرضا والغضب فلا آمن أن أدعوا على مسلم فيستضر به، وهذه الرأفة التي أكرم الله بها وجهه حتى حظي بها المسيء فما ظنك بالمحسن، وإنما وضع الاتخاذ موضع السؤال تحقيقا للرجاء بأنه حاصل إذ كان موعودا بإجابة الدعاء، ولهذا قال لن تخلفنيه أحل العهد المسؤل محل الشيء الموعود. ثم أشار إلى أن وعد الله لا يتأتي فيه الخلف فإن الألوهية تنافيه (فإنما أنا بشر) تمهيد لمعذرته فيما يندر عنه صلوات الله وسلامه عليه، يعني فيصدر مني ما يصدر من البشر، فأغضب نادرا في بعض الأحيان بحكم البشرية (فأي المؤمنين) وفي رواية فأي رجل من المسلمين وهو بيان وتفصيل لما كان يلتمسه - صلى الله عليه وسلم - بقوله اتخذت عندك عهدا (آذيته) أي بأي نوع من أنواع الأذى (شتمته إلخ) بيان لقوله آذيته وتفصيل له، ولذا لم يعطف. ومن ثم أفرد الضمير في فاجعلها ردا إلى الأذية. (لعنته جلدته) أي ضربته. قال الطيبي: ذكر هذه الأمور أي أنواع الإيذاء الثلاثة على سبيل التعداد من غير عاطف كقولك واحد اثنان ثلاثة، وقابلها بما يقابلها من أنواع التعطف والألطاف متناسقة أي بإثبات العاطف ليجمعها بإزاء كل واحد من تلك الأمور على سبيل الاستقلال، وليس من باب اللف والنشر - انتهى. قلت: وقع في الروايات الأخرى ذكر هذه الأمور بلفظ: "أو" ففي رواية لمسلم فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته

(15/139)


فاجعلها له كفارة وقربة، وفي أخرى له فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها زكاة ورحمة، وفي حديث عائشة فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله زكاة وأجرا (فاجعلها) أي تلك الأذية التي صدرت بمقتضى ضعف البشرية. وقيل: أي الكلمات المفهمة شتما أو نحو لعنة (له) أي لمن آذيته من المؤمنين (صلاة) أي رحمة ورأفة تخصه بها وإكراما وتلطفا وتعطفا توصله به إلى المقامات العلية (وزكاة) أي طهارة له من الذنوب ونماء وبركة في الأعمال والأموال (وقربة تقربه) أي تجعل ذلك المؤمن مقربا (بها) أي بتلك القربة أو بكل واحدة من الصلاة وأختيها (إليك يوم القيامة) أي ولا تعاقبه بها في العقبى. ووقع في حديث أنس عند مسلم تقييد المدعو عليه بأن يكون ليس لذلك بأهل، ولفظه إنما أنا بشر أرضى كما يرضي البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها ==

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج3.كتاب المزهر في معرفة اللغة للسيوطي الجزء الثالث والاخير{من النوع الحادي والأربعون معرفة آداب اللغوي الي الخاتمة}

  النوع الحادي والأربعون معرفة آداب اللغوي  أول ما يلزمه الإخلاص وتصحيح النية لقوله ﷺ: « الأعمال بالنيات » ثم التحري في الأخذ عن الثقات لق...