15. مرعاة المفاتيح
الشمس، وكذلك إدبار النهار. فمن ثم قيد بقوله "وغربت الشمس" إشارة إلى تحقق الإقبال والابادر وإنهما بواسطة غروب الشمس لا بسبب آخر (فقد أفطر الصائم) أي أنقضى صومه شرعا وتم ولا يوصف الآن بأنه صائم فإن بغروب الشمس خرج النهار ودخل الليل والليل ليس محلا للصوم قاله النووي. وقال الحافظ: أي دخل في وقت الفطر وجاز له أن يفطر كما يقال أنجد إذا أقام بنجد وأتهم إذا أقام بتهامة (وأصبح إذا دخل في وقت الصبح وأمسى وأظهر كذلك). ويحتمل أن يكون معناه فقد صار مفطرا في الحكم (وإن لم يفطر حسا) لكون الليل ليس ظرفا للصيام الشرعي. وقد رد هذا الإحتمال ابن خزيمة. وأومأ إلى ترجيح الأول (من المعنيين اللذين ذكرهما الحافظ) فقال قوله فقد "أفطر الصائم" لفظ خبر ومعناه الأمر أي فليفطر الصائم ولو كان المراد فقد صار مفطرا كان فطر جميع الصوام واحدا ولم يكن للترغيب في تعجيل الافطار معنى - انتهى.و رجح الحافظ المعنى الأول بما وقع في حديث عبدالله بن أبي أوفى عند أحمد (ج4:ص382) من طريق شعبة عن سليمان الشيباني بلفظ: إذا جاء الليل من ههنا فقد حل الافطار. وقال الطيبي: ويمكن أن يحمل الأخبار على الإنشاء إظهارا للحرص على وقوع المأمور به. قال ابن حجر: أي إذا أقبل الليل فليفطر الصائم وذلك إن الخيرية منوطة بتعجيل الافطار فكأنه قد وقع وحصل وهو يخبر عنه (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد (ج1:ص28-35-48-54) والترمذي وأبوداود والدارمي وابن خزيمة والبيهقي (ج4:ص216-237).
(12/355)
2006- قوله: (نهى عن الوصال في
الصوم) هو تتابع الصوم من غير فطر بالليل. وقال الحافظ: هو الترك في ليالي الصيام
لما يفطر بالنهار بالقصد فيخرج من أمسك اتفاقا ويدخل من أمسك جميع الليل أو بعضه-
انتهى. وقال الطحاوي: هو أن يصوم ولا يفطر بعد الغروب أصلا حتى يتصل صوم الغد
بالأمس والفرق بين صيام الوصال وصيام الدهر، إن من صام يومين أو أكثر ولم يفطر
ليلتهما فهو مواصل، وليس هذا صوم الدهر ومن صام عمره وأفطر جميع لياله هو صائم
الدهر، وليس بمواصل. فهما حقيقتان مختلفان متغائرتان. والحديث دليل على تحريم
الوصال لأنه الأصل في النهى. واختلف العلماء في ذلك على أقوال كما ستعرف، وقد أبيح
الوصال إلى السحر لحديث أبي سعيد عند البخاري ومسلم لا تواصلوا فأيكم أراد أن
يواصل فليواصل حتى السحر، وفي حديث أبي سعيد هذا دليل على أن إمساك بعض الليل
مواصلة واختلف العلماء في حكم الوصال بترك الافطار مطلقا
...................................
(12/356)
فذهب أهل الظاهر إلى القول بتحريمه صرح به ابن حزم وصححه ابن العربي من المالكية، وللشافعية فيه وجهان، التحريم والكراهة التنزيهه، والراجح الأصح عندهم التحريم. قال ابن قدامة: ظاهر قول الشافعي أنه محرم تقريرا لظاهر النهى - انتهى. وذهب مالك وأحمد وأبوحنيفة وإتباعهم إلى أنه غير محرم بل مكروه تنزيها وذهب جماعة من السلف إلى جوازه مطلقا وقيل محرم في حق من يشق عليه ويباح لمن لا يشق عليه. قال الحافظ: اختلف في المنع المذكور في أحاديث النهى عن الوصال. فقيل على سبيل التحريم. وقيل: على سبيل الكراهة. وقيل: يحرم على من شق عليه ويباح لمن لا يشق عليه، وقد اختلف السلف (أي الصحابة والتابعون) في ذلك فنقل التفصيل عن عبدالله بن الزبير وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عنه أنه كان يواصل خمسة عشر يوما، وذهب إليه من الصحابة أيضا أخت أبي سعيد الخدري، ومن التابعين عبدالرحمن بن أبي نعم وعامر بن الزبير وإبراهيم بن يزيد التيمي وأبوالجوزاء كما نقله أبونعيم في ترجمته في الحلية وغيرهم رواه الطبري وغيره من حجتهم في ذلك ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه واصل بأصحابه بعد النهى لما أبو أن ينتهوا عن الوصال فواصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال. فقال: لو تأخر لزدتكم كالتنكيل لهم حين أبو أن ينتهوا، فلو كان النهى للتحريم لما أقرهم على فعله، فعلم أنه أراد بالنهى الرحمة لهم والتخفيف عنهم كما صرحت به عائشة في حديثها عند الشيخين، حيث قالت نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال رحمة لهم، وهذا مثل ما نهاهم عن قيام الليل خشية أن يفرض عليهم ولم ينكر على من بلغه أنه فعله ممن لم يشق عليه فمن لم يشق عليه ولم يقصد موافقة أهل الكتاب ولا رغب عن السنة في تعجيل الفطر لم يمنع من الوصال ويدل على أنه ليس بمحرم حديث أبي داود عن رجل من الصحابة، قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة والمواصلة ولم يحرمهما أبقاء على
(12/357)
أصحابه إسناده صحيح كما قال
الحافظ: وأبقاءه متعلق بقوله نهى وروى البزار والطبراني من حديث سمرة نهى النبي -
صلى الله عليه وسلم - عن الوصال وليس بالعزيمة وإسناده ضعيف كما قال الهيثمي: لكنه
يصلح شاهدا للحديث السابق ومن أدلة الجواز إقدام الصحابة على الوصال بعد النهى فإن
ذلك يدل على أنهم فهموا أن النهى للتنزيه لا للتحريم وإلا لما لقدموا عليه ويؤيد
أنه ليس بمحرم أيضا ما روى أحمد والطبراني وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي
حاتم في تفسيريهما بإسناد صحيح إلى ليلى امرأة بشير بن الخصاصية، قالت أردت أن
أصوم يومين مواصلة فمنعني بشير. وقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن
هذا، وقال يفعل ذلك النصارى ولكن صوموا كما أمركم الله تعالى:?أتموا الصيام إلى
الليل?[البقرة: 187] فإذا كان الليل فأفطروا لفظ ابن أبي حاتم قال الحافظ: فيه أنه
- صلى الله عليه وسلم - سوى في علة النهى بين الوصال وبين تأخير الفطر حيث قال في
كل منهما أنه فعل أهل الكتاب ولم يقل أحد بتحريم تأخير الفطر سوى بعض من لا يعتد
به من أهل
...................................
(12/358)
الظاهر- انتهى. قال الشوكاني: فلا أقل من أن تكون هذه الأدلة التي ذكروها صارفة للنهى عن الوصال عن حقيقته- انتهى. قال الحافظ: ويدل على أنه ليس بمحرم من حيث المعنى ما فيه من فطم النفس عن شهواتها وقمعها عن ملذاتها فلهذا استمر على القول بجوازه مطلقا أو مقيدا بمن لم يشق عليه من تقدم ذكره - انتهى. واحتج من ذهب إلى تحريم الوصال بما ثبت من النهى عنه في حديث أبي هريرة وحديث أنس وحديث ابن عمر وحديث عائشة متفق عليهن، فإن النهى حقيقة في التحريم. وقد تقدم الجواب عن هذا في كلام الشوكاني فتفكر. واحتجوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمر المتقدم إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم إذ لم يجعل الليل محلا لسوى الفطر، فالصوم فيه مخالفة لوضعه كيوم الفطر وأجاب هؤلاء عن قول عائشة رحمة لهم بأن هذا لا يمنع التحريم فإن من رحمته لهم إن حرمه عليهم. وأما مواصلته بأصحابه بعد نهيه فلم يكن تقريرا بل تقريعا وتنكيلا فاحتمل منهم ذلك لأجل مصلحة النهى في تأكيد زجرهم، لأنهم إذا باشروه ظهرت لهم حكمة النهى. وكان ذلك ادعى إلى قلوبهم لما يترتب عليهم من الملل في العبادة، والتقصير فيما هو أهم منه وأرجح من وظائف الصلاة والقراءة وغير ذلك والجوع الشديد ينافي ذلك، وقد صرح بأن الوصال يختص به لقوله: "لست في ذلك مثلكم" وقوله:"لست كهيئتكم" هذا مع ما انضم إلى ذلك من استحباب تعجيل الفطر كما تقدم كذا في الفتح والأقرب من الأقوال المذكورة عندي هو التفصيل والله تعالى أعلم. وأما الوصال إلى السحر فاختلفوا فيه أيضا. قال مالك: أنه مكروه لعموم النهى. وقال أحمد: لا يكره بل يجوز لكن تعجيل الفطر أفضل أي ترك الوصال إلى السحر أولى ولم يتعرض له فقهاء الحنفية، والذي يظهر من كلامهم وكلام الشافعية أن الوصال إلى السحر ليس بشيء. قال الحافظ: ذهب أحمد وإسحاق وابن المنذر وابن خزيمة وجماعة من المالكية (والبخاري
(12/359)
وطائفة من أهل الحديث) إلى
جواز الوصال إلى السحر لحديث أبي سعيد المذكور، وهذا الوصال لا يترتب عليه شيء مما
يترتب على غيره (أي الوصال بعدم الافطار مطلقا) لأنه في الحقيقة بمنزلة عشاءه إلا
أنه يؤخره لأن الصائم له في اليوم والليلة، أكلة فإذا أكلها في السحر كان قد نقلها
من أول الليل إلى آخره وكان أخف لجسمه في قيام الليل، ولا يخفى إن محل ذلك ما لم
يشق على الصائم وإلا فلا يكون قربة وانفصل أكثر الشافعية عن ذلك بأن الإمساك إلى
السحر ليس وصالا بل الوصال أن يمسك في الليل جميعه كما يمسك في النهار، وإنما أطلق
على الإمساك إلى السحر وصالا لمشابهته الوصال في الصورة. ويحتاج إلى ثبوت الدعوى
بأن الوصال إنما هو حقيقة في إمساك جميع الليل. وقد ورد أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - كان يواصل من سحر إلى سحر أخرجه أحمد وعبدالرزاق من حديث علي، والطبراني من
حديث جابر، وأخرجه سعيد بن منصور مرسلا - انتهى. والقول الراجح عندي هو
فقال له رجل إنك تواصل يا رسول الله! قال: وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي
ويسقيني)).
(12/360)
ما ذهب إليه أحمد والله تعالى أعلم (فقال له رجل) كذا في هذه الرواية وفي أكثر الأحاديث قالوا: بالجمع. قال الحافظ: وكأن القائل واحد، ونسب القول إلى الجميع لرضاهم به ولم أقف على تسمية القائل في شيء من الطرق (إنك تواصل يا رسول الله) أي ووصلك دال على إباحته فأجابهم صلى الله عليه وسلم بأن ذ لك من خصائصه حيث (قال وأيكم مثلي) بكسر الميم، وفي رواية لمسلم لستم في ذلك مثلي، وفي حديث أنس لست كأحد منكم، وفي حديث ابن عمر لست مثلكم، وفي حديث أبي سعيد لست كهيئتكم، قال الحافظ: بعد ذكر رواية الكتاب وهذا الاستفهام يفيد التوبيخ المشعر بالاستبعاد وقوله: "مثلي" أي على صفتي أو منزلتي من ربي (إني) استيناف مبين لنفي المساواة بعد نفيها بالاستفهام الإنكاري (أبيت) وفي حديث أنس عند البخاري في التمنى إني أظل، وهو محمول على مطلق الكون لا على حقيقة اللفظ، لأن المتحدث عنه هو الإمساك ليلا لا، نهارا، وأكثر الروايات إنما هو بلفظ: أبيت فكأن بعض الرواة عبر عنها بلفظ: أظل نظرا إلى اشتراكهما في مطلق الكون يقولون كثيرا أضحى فلان كذا مثلا، ولا يريدون تخصيص ذلك بوقت الضحى ومنه قوله تعالى: ?وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا?[النحل:58] فإن المراد به مطلق الوقت ولا اختصاص لذلك بنهار دون ليل (يطعمني ربي) قال الطيبي: إما خبر وإما حال إن كان تامة وفي التعبير بالرب إشارة إلى خصيصة المقام بشأن الربوبية (ويسقيني) بفتح الياء ويضم، واختلف في معنى قوله: "يطعمني ويسقيني" على قولين الأول أنه على ظاهره وحقيقته وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يؤتى بطعام وشراب من عند الله كرامة له يتناولهما في ليالي صيامه وتعقبه ابن بطال والقرطبي وابن قدامة ومن تبعهم بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلا لأنه حينئذ يكون مفطرا وقد أقرهم على قولهم إنك تواصل وأجيب بأن ما يؤتى به الرسول على سبيل الكرامة من طعام الجنة وشرابها لا تجري عليه أحكام
(12/361)
المكلفين فيه كما غسل صدره -
صلى الله عليه وسلم - في طست الذهب، مع أن استعمال أواني الذهب الدينيوية حرام.
وقال ابن المنير: الذي يفطر شرعا إنما هو الطعام المعتاد وأما الخارق للعادة
كالمحضر من الجنة فعلى غير هذا المعنى وليس تعاطيه من جنس الأعمال،و إنما هو من
جنس الثواب كأكل أهل الجنة، والكرامة لا تبطل العبادة وثانيهما وهو قول الجمهور
إنه مجاز واختلفوا في توجيهه على أقوال. أحدها أنه مجاز عن لازم الطعام والشراب
وهو القوة فكأنه قال يعطيني قوة الآكل والشارب ويفيض علي ما يسد مسد الطعام
والشراب ويقوي على أنواع الطاعات من غير ضعف في القوة ولإكلال في الأعضاء والثاني
إن الله يخلق فيه من الشبع والرى ما يغنيه عن الطعام والشراب فلا يحس بجوع ولا عطش
والفرق بينه وبين الأول أنه على الأول يعطى القوة من غير شبع ولا ري مع الجوع
متفق عليه.
?الفصل الثاني?
2007- (6) عن حفصة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يجمع الصيام
والظمأ. وعلى الثاني يعطي القوة مع الشبع والري، ورجح الأول بأن الثاني ينافي حال
الصائم ويفوت المقصود من الصيام والوصال لأن الجوع هو روح هذه العبادة بخصوصها.
قال القرطبي: ويبعده أيضا النظر إلى حاله - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان يجوع
أكثر مما يشبع ويربط على بطنه الحجارة من الجوع والثالث إن المراد أنه يشغلني
بالتفكر في عظمته والتملى بمشاهدته والتغذى بمعارفه وقرة العين بمحبته والاستغراق
في مناجاته والإقبال عليه عن الطعام والشراب وإلى هذا جنح ابن القيم حيث قال
المراد به ما يغذيه الله به من المعارف وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة
عينه بقربه وتنعمه بحبه والشوق إليه وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب
ونعيم الأرواح وقرة العين وبهجة النفوس وللروح والقلب بها أعظم غذاء وأجوده
وأنفعه. وقد يقوى هذا الغذاء حتى يغنى عن غذاء الأجسام مرة من الزمان كما قيل:
(12/362)
لها أحاديث من ذكراك تشغلها…عن
الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور يستضاء به…ومن حديثك في أعقابها حاد
إذا اشتكت من كلال السير أوعدها…روح القدوم فتحيا عند ميعاد
ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء
الحيواني، ولاسيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قد قرت عينه بمحبوبه وتنعم
بقربه والرضا عنه وألطف محبوبه وهداياه وتحفه تصل إليه كل وقت ومحبوبه حفى به معتز
بأمره مكرم له غاية الإكرام مع المحبة التامة له أفليس في هذا أعظم غذاء لهذا
المحب فكيف بالحبيب الذي لا شيء أجل منه ولا أعظم ولا أجمل ولا أكمل ولا أعظم
إحسانا إذا امتلأ قلب المحب بحبه وملك حبه جميع أجزاء قلبه وجوارحه وتمكن منه حبه
أعظم تمكن وهذا حاله مع حبيبه أفليس هذا المحب عند حبيبه يطعمه ويسقيه ليلا
ونهارا- انتهى. وفي الحديث دليل على أن الوصال من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -
وعلى أن غيره ممنوع منه إلا ما وقع فيه الترخيص من الإذن فيه إلى السحر. واختلف في
المنع المذكور على أقوال تقدم ذكرها وبيان ما هو الراجح منها (متفق عليه) أخرجه
البخاري في الصيام وفي التغرير من كتاب المحاربين وفي التمنى والاعتصام ومسلم في
الصيام، وأخرجه أيضا أحمد ومالك والدارمي والبيهقي (ج4:ص282).
2007- قوله: (من لم يجمع الصيام) بضم الياء وسكون الجيم من الإجماع. قال الخطابي،
والمنذري
قبل الفجر فلا صيام له)).
(12/363)
والجزري: الإجماع أحكام النية والعزيمة يقال أجمعت الرأي وأزمعته وعزمت عليه بمعنى- انتهى. وهذا يدل على أن الإجماع والإزماع والعزم بمعنى واحد وهو أحكام النية. قال القاري: وقيل: الإجماع هو العزم التام وحقيقته جمع رأيه عليه- انتهى. وقال الطيبي: يقال أجمع الأمر وعلى الأمر وأزمع على الأمر وأزمعه أيضا إذا صمم عزمه ومنه قوله تعالى: ?وما كنت لديهم إذا أجمعوا أمرهم?[يوسف:112] أي أحكموه بالعزيمة حتى اجتعمت أراءهم عليه. والمعنى من لم يصمم العزم على الصوم (قبل الفجر) أي قبل الصبح الصادق وفي رواية من لم يبيت الصيام من الليل من التبييت وهو أن ينوي الصيام من الليل (فلا صيام له) فيه دليل على عدم صحة صوم من لا يبيت النية لأن الظاهر إن النفي متوجه إلى الصحة لأنها أقرب المجازين إلى الذات أو متوجه إلى نفي الذات الشرعية. قال الأمير اليماني: الحديث يدل على أنه لا يصح الصيام، إلا بتبييت النية وهو أن ينوي الصيام في أي جزء من الليل وأول وقتها الغروب وذلك لأن الصوم عمل والأعمال بالنيات وأجزاء النهار غير منفصلة من الليل بفاصل يتحقق فلا يتحقق إلا إذا كانت النية واقعة في جزء من الليل- انتهى. والحديث عام للفرض والنفل والقضاء والكفارة والنذر معينا ومطلقا: وفيه خلاف وتفاصيل. قال القاري: ظاهر الحديث أنه لا يصح الصوم بلا نية قبل الفجر فرضا كان أو نفلا، وإليه ذهب ابن عمر وجابر بن زيد ومالك والمزني وداود. وذهب الباقون إلى جواز النفل بنية من النهار وخصصوا هذا الحديث بما روى عن عائشة أنها قالت كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتيني فيقول أعندك غداء؟ فأقول لا فيقول إني صائم. وفي رواية إني أذن لصائم وإذن للاستقبال وهو جواب وجزاء- انتهى. والغداء اسم لما يؤكل قبل الزوال ومن ثمة لم تجز النية بعد الزوال ولا معه. والصحيح أن توجد النية في أكثر النهار الشرعي فيكون قبل الضحوة الكبرى. قال ابن حجر: وفي قول الشافعي
(12/364)
وغيره إن نية صوم النفل تصح
قبل الغروب لما صح عن فعل حذيفة- انتهى. قلت: هذا أحد القولين للشافعي والذي نص
عليه في معظم كتبه التفرقة بين أن ينوي قبل منتصف النهار فيجزئه وبين أن ينوي بعد
الزوال فلا يجزئه، وهذا هو الأصح عند الشافعية. قاله الحافظ: واتفقوا على اشتراط
التبييت في فرض لم يتعلق بزمان معين كالقضاء والكفارة والنذر المطلق واختلفوا فيما
له زمان معين كرمضان والنذر المعين فكذا عند الشافعي وأحمد، وعند أبي حنيفة يجوز
بنية قبل نصف النهار الشرعي كذا في المرقاة. وقال ابن رشد في البداية (ج1 ص201-
202) أما اختلافهم في وقت النية فإن مالكا رآى أنه لا يجزي الصيام إلا بنية قبل
الفجر وذلك في جميع أنواع الصوم وقال الشافعي (وأحمد): تجزي النية بعد الفجر في
النافلة ولا تجزي في الفروض وقال أبوحنيفة: تجزي النية بعد الفجر في الصيام
المتعلق وجوبه بوقت معين كرمضان ونذر أيام محدودة وكذلك في النافلة ولا تجزي في
الواجب من الذمة. والسبب في
...................................
(12/365)
اختلافهم تعارض الآثار. أحدها: ما روى عن حفصة أنه قال عليه الصلاة والسلام: من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له، ورواه مالك موقوفا. قال أبوعمر بن عبدالبر: حديث حفصة في إسناده اضطراب. والثاني: ما رواه مسلم عن عائشة قالت: قال لي: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم يا عائشة! هل عندكم شيء قلت: يا رسول الله! ما عندنا شيء قال فإني صائم. فمن ذهب مذهب الترجيح أخذ بحديث حفصة ومن ذهب مذهب الجمع فرق بين الفرض والنفل أعنى حمل حديث حفصة على الفرض وحديث عائشة على النفل وإنما فرق أبوحنيفة بين الواجب المعين والواجب في الذمة لأن الواجب المعين له وقت مخصوص يقوم مقام النية في التعيين بخلاف ما ليس له وقت مخصوص فوجب التعيين بالنية - انتهى. بتغيير يسير. قلت: احتج مالك ومن وافقه بحديث حفصة فإنه عام يشمل الفرض والنافلة ورجحه المالكية بحديث إنما الأعمال بالنيات، وبالقياس على الصلاة إذ فرضها ونفلها في وقت النية سواء واحتج الجمهور لعدم وجوب التثبييت في التطوع أي لجواز النافلة بنية من النهار بحديث عائشة المتقدم، وبما روى في ذلك من آثار الصحابة والتابعين كعائشة وابن عمر وابن عباس وأنس وأبي طلحة وأبي أيوب ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وابن مسعود وحذيفة وابن المسيب وعطاء بن أبي باح ومجاهد والشعبي والحسن البصري. قالوا: فحديث حفصة يحمل على الفرض ويخص عموم فلا صيام له بحديث عائشة. قال ابن قدامة (ج3 ص96) صوم التطوع يجوز بنية من النهار عند إمامنا (الإمام أحمد) وأبي حنيفة والشافعي. وروى ذلك عن أبي الدرداء وأبي طلحة وابن مسعود وحذيفة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وأصحاب الرأي. وقال مالك وداود: لا يجوز إلا بنية من الليل لحديث حفصة. ولأن الصلاة يتفق وقت النية لفرضها ونفلها وكذلك الصوم ولنا حديث عائشة (المتقدم ذكره في كلام القاري وابن رشد) وحديثهم نخصه بحديثنا على أن حديثنا أصح من حديثهم. والصلاة يتفق وقت
(12/366)
النية لنفلها وفرضها لأن
اشتراط النية في أول الصلاة لا يفضي إلى تقليلها بخلاف الصوم فإنه يعين له الصوم
في النهار فعفي عنه كما لو جوزنا التنفل قاعدا وعلى الراحلة لهذه العلة - انتهى
مختصرا. وأجاب المالكية ومن وافقهم عن حديث عائشة بأنه - صلى الله عليه وسلم - قد
كان نوى الصوم من الليل. وإنما أراد الفطر لما ضعف عن الصوم وهو محتمل لاسيما على
رواية فلقد أصبحت صائما. وقال الأمير اليماني: حديث عائشة أعم من أن يكون بيت
الصوم أولا فيحمل على التبييت لأن المحتمل يرد إلى العام ونحوه على أن في روايات
حديثها إني كنت قد أصبحت صائما. وقال ابن حزم (ج6 ص172) ليس في هذا الحديث أنه
عليه الصلاة والسلام لم يكن نوى الصيام من الليل وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام
لا صيام لمن لم يبيته من الليل فلم يجز أن نترك هذا اليقين لظن كاذب وأما ما روى
الدارقطني (ص236) عن عائشة قالت: ربما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
بغدائه فلا يجده فيفرض
...........................
(12/367)
عليه صوم ذلك اليوم وما روى الجصاص في أحكام القرآن (ج1 ص199) عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصبح ولم يجمع الصوم ثم يبدو له فيصوم ففيه إن في حديث عائشة ليث بن أبي سليم عن عبدالله وليث هذا اختلط بآخره ولم يتميز حديثه وعبدالله. قال الدارقطني: ليس بمعروف وفي حديث ابن عباس عمر بن هارون وهو ضعيف جدا هذا.وقال ابن قدامة: وأي وقت من النهار نوى أجزأه سواء في ذلك ما قبل الزوال وبعده هذا ظاهر كلام أحمد والخرقي وهو ظاهر قول ابن مسعود. وروى عن ابن عباس عند الطحاوي وعن حذيفة عند عبدالرزاق وابن أبي شيبة والطحاوي. واختار القاضي في المحرر أنه لا تجزئه النية بعد الزوال وهذا مذهب أبي حنيفة والمشهور من قولي الشافعي لأن معظم النهار مضى من غير نية بخلاف الناوي قبل الزوال فإنه قد أدرك معظم العبادة ولهذا تأثير في الأصول. ولنا أنه نوى في جزء من النهار فأشبه ما لو نوى في أوله إذا ثبت هذا فإنه يحكم له بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية في المنصوص عن أحمد وهو قول بعض أصحاب الشافعي. وقال أبوالخطاب في الهداية: يحكم له بذلك من أول النهار لأن الصوم لا يتبعض في اليوم - انتهى مختصرا. واحتج الحنفية لما ذهبوا إليه من أن الصوم الواجب المتعين يكفي فيه النية نهارا بقوله تعالى: ?أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نساءكم? إلى قوله: ?ثم أتموا الصيام إلى الليل?[البقرة:187] قال الكاساني: أباح للمؤمنين الأكل والشرب والجماع في ليالي رمضان إلى طلوع الفجر وأمر بالصيام عنها بعد طلوع الفجر متأخرا عنه، لأن كلمة ثم للتعقيب مع التراخي فكان هذا أمرا بالصوم متراخيا عن أول النهار. والأمر بالصوم أمر بالنية إذ لا قيمة للصوم شرعا بدون النية فكان هذا أمرا بالصوم بنية متأخرة عن أول النهار وقد أتى به فقد أتى بالمأمور به فيخرج عن العهدة - انتهى. وقال في التلويح: (ص187) في بحث إشارة النص ومن أمثلة الإشارة قوله
(12/368)
تعالى: ?ثم أتموا الصيام إلى
الليل? قالوا: فيه إشارة إلى جواز النية بالنهار لأن كلمة "ثم" للتراخي
فإذا ابتديء الصوم بعد تبين الفجر حصلت النية بعد مضى جزء من النهار، لأن الأصل
اقتران النية بالعبادة فكان موجب ذلك وجوب النية بالنهار إلا أنه جاز بالليل
إجماعا عملا بالسنة، وصار أفضل لما فيه من المسارعة والأخذ بالاحتياط. قال الشيخ
أبوالمعين إن أبا جعفر الخباز السمرقندي هو الذي استدل بالآية على الوجه المذكور
أي على جواز النية بالنهار: لكن للخصم أن يقول أمر الله تعالى بالصيام بعد
الانفجار، وهو أي الصوم اسم للركن لا لشرط (وهو النية فينبغي كون الركن بعد
الانفجار والشرط يكون متقدما على المشروط) وأيضا ينبغي أن يوجد الإمساك الذي هو
الصوم الشرعي عقيب آخر جزء من الليل متصلا ليصير المأمور ممتثلا ولا يكون الإمساك
صوما شرعيا بدون النية فلا بد منها في أول جزء من أجزاء النهار حقيقة بأن تتصل به،
أو حكما بأن تحصل في الليل وتجعل باقية إلى الآن
.......................
(12/369)
واحتجوا أيضا بحديث سلمة بن الأكوع والربيع عند الشيخين إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر رجلا، من أسلم يوم عاشوراء إن أذن في الناس من أكل فليمسك أو فليصم بقية يومه ومن لم يأكل فليصم. قالوا: فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بصوم عاشوراء في أثناء النهار وكان فرضا في يوم بعينه فدل على أن النية لا تشترط في الليل في الصوم المفروض في يوم معين، وإن من تعين عليه صوم يوم ولم ينوه ليلا أنه يجزيه نهارا. ومن ذلك شهر رمضان فهو فرض في أيام معينة كصوم عاشوراء إذ كان فرضا في يوم بعينه، ومن ذلك أيضا صوم النذر في أيام معينة. قالوا: ونسخ وجوب صوم عاشوراء لا يرفع سائر الأحكام، فبقي حكم الأجزاء بنية من النهار غير منسوخ لأن الحديث دل على شيئين. أحدهما: وجوب صوم عاشوراء. والثاني: إن الصوم الواجب في يوم بعينه يصح بنية من نهار، والمنسوخ هو الأول ولا يلزم من نسخه نسخ الثاني ولا دليل على نسخه أيضا. وأجيب عن هذا بأنه إنما صحت النية في نهار عاشوراء لكون الرجوع إلى الليل غير مقدور. والنزاع فيما كان مقدورا، فيخص الجواز بمثل هذه الصورة أعنى من أنكشف له في النهار إن ذلك اليوم من رمضان وكمن ظهر له وجوب الصوم عليه من النهار كالمجنون يفيق والصبي يحتلم والكافر يسلم قاله الشوكاني، وقال السندي: الحديث يقتضي أن وجوب الصوم عليهم ما كان معلوما من الليل، وإنما علم من النهار وحينئذ صار إعتبار النية من النهار في حقهم ضروريا كما إذا شهد الشهود بالهلال يوم الشك فلا يلزم جواز الصوم بنية من النهار بلا ضرورة وهو المطلوب - انتهى. قلت: وأصل هذا الجواب لابن حزم ذكره في المحلى (ج6 ص164، 166) ولابن القيم ذكره في زاد المعاد (ج1 ص171) وقيل في الجواب أيضا إن أجزاء صوم عاشوراء بنية من النهار كان قبل فرض رمضان وقبل فرض التبييت من الليل ثم نسخ وجوب صومه برمضان وتجدد حكم وجوب التبييت وأجاب الحنفية عن حديث حفصة
(12/370)
بوجوه أحدها: أنه اختلف في
رفعه ووقفه واضطراب إسناده إضطرابا شديدا وفيه إن الرفع زيادة والزيادة من الثقة
مقبولة ومجرد الاختلاف لا يوجب الاضطراب القادح كما لا يخفي. ثانيها: أنه مخصوص
بالصوم الواجب الغير المتعين كقضاء رمضان والكفارة والنذر المطلق لحديث سلمة
والربيع المتقدم، ولأنه لو لم يخص بذلك يلزم منه النسخ لمطلق الكتاب بخبر الواحد،
فلا يجوز ذلك وقد تقدم بيانه. ثالثها: أنه محمول على نفي الكمال. قال الكاساني:
أما حديث حفصة فهو من الآحاد فلا يصلح ناسخا للكتاب لكنه يصلح مكملا له فيحمل على
نفي الكمال ليكون عملا بالدليلين بقدر الإمكان وفيه أن حمله على نفي الكمال خلاف الظاهر
فإن الظاهر أن النفي متوجه إلى نفي الصحة أو إلى نفي الذات الشرعية، ولا دليل في
قوله تعالى: ?أحل لكم ليلة الصيام الرفث? [البقرة:187] الآية، على أجزاء صوم رمضان
بنية من النهار كما تقدم. وأما حديث سلمة والربيع في صوم عاشوراء
رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، والدارمي، وقال: أبوداود وقفه على حفصة معمر،
(12/371)
فهو وارد في صورة خاصة، أي فيمن لم ينكشف له أن اليوم يوم صوم واجب إلا في النهار فلا معارضة بين الحديثين، وقد أتضح بهذا أنه لا دليل في حديث عاشوراء على كون حديث حفصة خاصا بالصوم الواجب الغير المتعين ولا وجه لتخصيص القضاء والنذر المطلق والكفارات بوجوب التبييت بل هو واجب في كل صوم إلا في تلك الصورة التي ذكرناها، أعنى فيمن لم ينكشف له أن اليوم من رمضان إلا في النهار وفي صوم التطوع لحديث عائشة المتقدم وهذا هو القول الراجح عندنا. ورابعها: إن معناه لا صيام لمن لم ينو أنه صائم من الليل يعني أنه نفي لصوم من نوى أنه صائم نصف اليوم مثلا. قال صاحب الهداية: ما رواه محمول على نفي الفضيلة والكمال أو معناه لم ينو أنه صوم من الليل - انتهى. وهذا تأويل فاسد وتكلف بعيد يرده ألفاظ الحديث. وأعلم أنه في أي جزء من الليل نوى أجزأه وسواء فعل بعد النية ما ينافي الصوم من الأكل والشرب والجماع أم لم يفعل لعموم حديث حفصة وإطلاقه. واشترط بعض أصحاب الشافعي أن لا يأتي بعد النية بمناف للصوم. واشترط بعضهم وجود النية في النصف الأخير من الليل وهذا كله تحكم من غير دليل، وإن نوى من النهار صوم الغد لم تجزئه تلك النية إلا أن يستصحبها إلى جزء من الليل لظاهر حديث حفصة. ولا بد من التبييت لكل يوم لظاهر حديثها أيضا ولأن صوم كل يوم عبادة مستقلة مسقطة لفرض يومها ويتخلل بين يومين ما ينافي الصوم ويناقضه. وبه قال أحمد والشافعي وأبوحنيفة. وقال مالك وإسحاق. تجزئه نية واحدة في أول ليلة من رمضان لجميع الشهر في حق الحاضر الصحيح ولا بدمن كون النية جازمة معينة في كل صوم واجب، وهو أن يعتقد أنه يصوم غدا من رمضان أو من قضاءه أو من كفارة أو نذر وإليه ذهب أحمد ومالك والشافعي. وقال الحنفية: لا يشترط التعيين. (رواه الترمذي وأبوداود والنسائي والدارمي) واللفظ للترمذي وأبي داود ولفظ النسائي والدارمي من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام
(12/372)
له، وفي رواية للنسائي من لم
يجمع الصيام قبل طلوع الفجر فلا يصوم والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج6 ص287) وابن ماجه
ولفظه لا صيام لمن لم يفرضه من الليل وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني (ص234)
والبخاري في التاريخ الصغير (ص67) والطبراني والحاكم في الأربعين وابن حزم (ج6
ص162)والبيهقي (ج4 ص202) والحاوي (ج1 ص325) (وقال أبوداود) أي بعد ما رواه من طريق
ابن وهب عن ابن لهيعة ويحي بن أيوب عن عبدالله بن أبي بكر بن حزم عن الزهري عن
سالم عن أبيه عن حفصة مرفوعا. وبعد ما قال رواه الليث وإسحاق بن حازم أيضا جميعا
عن عبدالله بن أبي بكر مثله يعني مرفوعا كما رواه عنه ابن لهيعة ويحيى بن أيوب
(وقفه على حفصة معمر) بسكون العين فتحتي الميمين وهو معمر بن راشد يكنى أبا عروة
البصري الأزدي مولاهم نزيل اليمن شهد جنازة الحسن البصري روى عن الزهري وقتادة
وهمام بن منبه وغيرهم، وروى عنه الثوري وابن عيينة وشعبة وغيرهم. قال الحافظ في
التقريب: ثقة ثبت فاضل إلا أن في
والزبيدي، وابن عيينة، ويونس الأبلي كلهم عن الزهري.
(12/373)
روايته عن ثابت البناني والأعمش وهشام بن عروة شيئا وكذا فيما حدث به بالبصرة. مات سنة (154) وهو ابن ثمان وخمسين سنة وبسط في ترجمته في تهذيب التهذيب (والزبيدي) بالزاي والموحدة مصغرا وهو محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي أبوالهذيل الحمصي القاضي ثقة ثبت من كبار أصحاب الزهري أقام معه عشر سنين حتى احتوى على علمه وهو من الطبقة الأولى من أصحاب الزهري، وكان الأوزاعي يفضله على جميع من سمع من الزهري مات سنة ست أو سبع أو تسع وأربعين ومائة (وابن عيينة) بضم العين مصغرا وهو سفيان بن عيينة وقد تقدم ترجمته (ويونس الأبلي) بفتح الهمزة وسكون التحتانية بعدها لام منسوب إلى أيلة بلد من الشام، وهو يونس بن يزيد بن أبي النجاد يكنى أبا يزيد مولى آل أبي سفيان من رواه الستة. قال في التقريب: ثقة إلا أن في روايته عن الزهري وهما قليلا، وفي غير الزهري خطأ مات سنة (159) على الصحيح وقيل: سنة (160) وبسط في ترجمته في تهذيب التهذيب. وقال في مقدمة الفتح: بعد ذكر كلمات القوم فيه. قلت: وثقه الجمهور مطلقا، وإنما ضعفوا بعض روايته حيث يخالف أقرانه ويحدث من حفظه فإذا حدث من كتابه فهو حجة. قال ابن البرقي: سمعت ابن المديني يقول أثبت الناس في الزهري مالك وابن عيينة ومعمر وزياد بن سعد ويونس من كتابه وقد وثقه أحمد مطلقا وابن معين والعجلي والنسائي ويعقوب بن شيبة والجمهور واحتج به الجماعة - انتهى. (كلهم عن الزهري) بضم الزاي هو محمد بن مسلم بن شهاب وتقدم ترجمته. قلت: رواية الليث عند الطبراني ورواية إسحاق بن حازم عند ابن ماجه والدارقطني وروايات معمر وابن عيينة ويونس عند النسائي، وروى الدارقطني أيضا من طريق ابن عيينة ولم أقف على من أخرجه من رواية الزبيدي. وقد بسط في ذكر الاختلاف في رفعه ووقفه وفي ذكر الاختلاف في إسناده الدارقطني في سننه والنسائي في الكبرى والمجتبى والبيهقي في سننه. وقد نقله الزيلعي في نصب الراية عن السنن
(12/374)
الكبرى للنسائي. قال الحافظ في
الفتح: اختلف في رفعه ووقفه ورجح الترمذي والنسائي الموقوف بعد أن أطنب النسائي في
تخريجه وحكى الترمذي في العلل عن البخاري ترجيح وقفه وعمل بظاهر الإسناد جماعة من
الأئمة فصححوا الحديث المذكور أي مرفوعا، منهم ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن
حزم - انتهى. وقال في الدراية (ص171): إسناده صحيح إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه
وصوب النسائي وقفه ومنهم من لم يذكر فيه حفصة، وقد أخرجه مالك عن نافع عن ابن عمر
موقوفا وعن الزهري عن حفصة (وعائشة) موقوفا. وقال أبوحاتم: روى عن حفصة قولها وهو
عندي أشبه - انتهى. وقال في التلخيص (ص188) اختلف الأئمة في رفعه ووقفه، فقال ابن
أبي حاتم عن أبيه: لا أدري أيهما أصح يعني رواية يحيى بن أيوب عن عبدالله بن أبي
بكر عن الزهري عن سالم، أو رواية إسحاق بن حازم عن عبدالله بن أبي بكر عن الزهري
بغير وساطة الزهري لكن الوقف أشبه.وقال أبوداود: لا يصح رفعه. وقال الترمذي:
الموقوف أصح ونقل في العلل
2008-(7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمع النداء
أحدكم
والإناء في يده،
(12/375)
عن البخاري أنه قال هو خطأ وهو حديث فيه اضطراب والصحيح عن ابن عمر موقوف. وقال النسائي: (في الكبرى) الصواب عندي موقوف ولم يصح رفعه. وقال أحمد: ماله عندي ذلك الإسناد. وقال الحاكم في الأربعين: صحيح على شرط الشيخين. وقال في المستدرك صحيح على شرط البخاري: وقال البيهقي: رواته ثقات إلا أنه روى موقوفا. وقال الخطابي في المعالم (ج2 ص133) أسنده عبدالله بن أبي بكر وزيادة الثقة مقبولة. وقال ابن حزم: الاختلاف فيه يزيد الخبر قوة. وقال الدارقطني. كلهم ثقات- انتهى. قلت: قال الدارقطني (ص234) رفعه عبد لله بن أبي بكر وهو من الثقات الرفعاء. وقال البيهقي (ج4 ص202) اختلف على الزهري في إسناده وفي رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعبدالله بن أبي بكر أقام إسناده ورفعه وهو من الثقات الإثبات - انتهى. وقال ابن حزم (ج6 ص16) بعد روايته من طريق النسائي عن أحمد بن الأزهر عبدالرزاق عن ابن جريج عن الزهري عن سالم عن أبيه عن حفصة مرفوعا ما لفظه، وهذا إسناد صحيح ولا يضر إسناد ابن جريج له، إن أوقفه معمر ومالك وعبيدالله ويونس وابن عيينة فابن جريج لا يتأخر عن أحد من هؤلاء في الثقة والحفظ والزهري واسع الرواية، فمرة يرويه عن سالم عن أبيه، ومرة عن حمزة عن أبيه وكلاهما ثقة، وابن عمر كذلك مرة رواه مسندا ومرة روى إن حفصة أفتت به، ومرة أفتى هو به وكل هذا قوة للخبر - انتهى. وقال النووي: الحديث صحيح قال: ورواه أصحاب السنن وغيرهم بأسانيد كثيرة رفعا ووقفا وصحة وضعفا لكن كثير منها صحيح معتمد عليه لأن معها زيادة علم برفعه فوجب قبوله. وقد قال الدارقطني: في بعض طرقه الموصولة رجال إسناده كلهم أجلة ثقات كذا في المرقاة. وقال الشوكاني في السيل الجرار: بعد حكاية تصحيح ابن خزيمة وابن حبان والحاكم ليس فيه علة قادحة إلا ما قيل: من الاختلاف في الرفع والوقف، والرفع زيادة. وقد صحح المرفوع هؤلاء الأئمة الثلاثة. وقال في النيل بعد
(12/376)
ذكر كلام الحافظ السابق عن
التلخيص: وقد تقرر في الأصول إن الرفع من الثقة زيادة مقبولة. وفي الباب عن عائشة
عند الدارقطني وفيه عبدالله بن عباد وهو مجهول وذكره ابن حبان في الضعفاء، وعن
ميمونة بنت سعد عند الدارقطني أيضا، وفيه الواقدي كذا في التلخيص.
2008- قوله: (إذا سمع النداء) أي أذان الفجر (أحدكم) كذا في جميع النسخ الحاضرة
وكذا وقع في المصابيح، وفي أبي داود إذا سمع أحدكم النداء، وهكذا وقع عند
الدارقطني والحاكم والبيهقي وكذا نقله الخطابي في المعالم والجزري في جامع الأصول
(ج7 ص244) والسيوطي في الجامع الصغير (والإناء) أي الذي يأكل منه أو يشرب منه يعني
إناء الطعام أو الشراب وهو مبتدأ وخبره قوله (في يده) كذا في بعض النسخ من سنن
فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه)).
(12/377)
أبي داود وفي بعضها على يده، وهكذا عند الدارقطني والحاكم والبيهقي وكذا نقله الخطابي والسيوطي والجزري والجملة حالية (فلا يضعه) أي الإناء قيل هو بالجزم نهي ( حتى يقضي حاجته منه) أي بالأكل والشرب، وفيه إباحة الأكل والشرب من الإناء الذي في يده عند سماع الأذان للفجر وأن لا يضعه حتى يقضي حاجته قيل المراد بالنداء الأذان الأول أي أذان بلال قبل الفجر لقوله - صلى الله عليه وسلم - إن بلالا يؤذن بليل فكلوا وأشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم. قال البيهقي (ج4 ص218) هذا الحديث إن صح فهو محمول عند عوام أهل العلم على أنه - صلى الله عليه وسلم - علم أن المنادي كان ينادي قبل طلوع الفجر بحيث يقع شربه قبيل طلوع الفجر وقوله هذا خبر عن النداء الأول. وقال الخطابي (ج2 ص106) هذا على قوله إن بلالا يؤذن بليل فكلوا وأشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم - انتهى. وفيه أنه لا يظهر حينئذ فائدة التقييد بقوله والإناء في يده وقيل هو محمول على من سمع الأذان وهو يشك في طلوع الفجر وبقاء الليل ويتردد فيهما فيجوز له الأكل والشرب، لأن الأصل بقاء الليل حتى يتبين له طلوع الفجر الصادق باليقين أو بالظن الغالب وهذا عند الشافعية. قال الخطابي: أو يكون معناه أن يسمع الأذان وهو يشك في الصبح مثل أن تكون السماء متغيمة فلا يقع له العلم بأذانه إن الفجر قد طلع لعلمه إن دلائل الفجر معدومة ولو ظهرت للمؤذن لظهرت له أيضا، فأما إذا علم إنفجار الصبح فلا حاجة به إلى أذان الصارخ: لأنه مأمور بأن يمسك عن الطعام والشراب إذا تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر - انتهى. وقيل المقصود من الحديث إن تحريم الأكل والشرب إنما يتعلق بالفجر لا بالأذان، فإن المؤذن قد يبادر بالأذان قبل الفجر لضعف في بصره أو لشيء آخر، فلا عبرة بالأذان إذا لم يعلم بطلوع الفجر. وإنما العبرة في تحريم الأكل بالفجر لكن هذا الحكم للخواص الذين يعرفون الفجر، وأما العوام الذين
(12/378)
لا يعرفونه فعليهم الاحتياط
وقيل الحديث وارد على وفق من يقول من العلماء إن المعتبر في تحريم الأكل والشرب في
الصوم هو تبين الفجر لا طلوعه، فالأذان مشروع في أول طلوع الفجر وهو ليس بمانع من
الأكل والشرب. وإنما المانع تبين الفجر خلافا لجمهور العلماء فإن المعتبر عندهم
أول طلوع الفجر، ولا شك إن القول الأول أوفق والحديث مبني على الرفق، قال في فتح
الودود: من يتأمل في هذا الحديث، وكذا حديث "وكلوا وأشربوا حتى يؤذن"
ابن أم مكتوم، وكذا ظاهر قوله تعالى: ?حتى يتبن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود
من الفجر?[البقرة:187] يرى أن المدار هو تبين الفجر وهو يتأخر عن أوائل الفجر بشيء
والمؤذن لانتظاره يصادف أوائل الفجر أي فيؤذن، فيجوز الشرب حينئذ إلى أن يتبن لكن
هذا خلاف المشهور بين العلماء فلا اعتماد عليه عندهم - انتهى.
رواه أبوداود.
2009-(8) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى أحب
عبادي إلي
أعجلهم فطرا)).
(12/379)
وقيل المراد بالنداء أذان المغرب والمقصود من الحديث طلب تعجيل الفطر، أي إذا سمع أحدكم نداء المغرب، وصادف ذلك إن الإناء في يده لحاجة أخرى فليبادر بالفطر منه ولا يؤخر إلى وضعه، وبهذا يندفع قول الطيبي يشعر دليل الخطاب بأنه لا يفطر إذا لم يكن الإناء في يده، وقد سبق إن تعجيل الفطر مسنون لكن هذا من مفهوم اللقب فلا يعمل به ووجه إندفاعه إن قوله والإناء في يده ليس للتقييد بل للمبالغة في السرعة كذا نقله القاري عن ابن حجر ثم تعقبه. وقال: فالصواب إنه قيد احترازي في وقت الصبح إلى آخر ما قال وأبعد من قال إن الحديث محمول على غير حالة الصوم ولا تعلق له بالفجر ولا بالمغرب خاصة، بل هو وارد في أمر الصلاة مطلقا كقوله - صلى الله عليه وسلم -" إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤا بالعشاء" فقد وردا على نمط واحد والمرعى فيهما قطع الشغل بغير أمر الصلاة عن بال المصلي ودفع التشويش المفضي إلى ترك الخشوع. والراجح عندي هو المعنى الثالث ثم الرابع ثم الثاني والله تعالى أعلم (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد والدارقطني (ص231) والحاكم (ج1 ص426) والبيهقي (ج4 ص218) وسكت عنه أبوداود والمنذري وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وفي الباب عن أبي الزبير قال سألت جابرا عن الرجل يريد الصيام، والإناء في يده يشرب منه فيسمع النداء فقال جابر: كنا نتحدث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يشرب، رواه أحمد قال الهيثمي: إسناده حسن.
(12/380)
2009- قوله: (أحب عبادي إلي
أعجلهم فطرا) أي أكثرهم تعجيلا في الإفطار وأسرعهم مبادرة إلى الفطر بعد تحقق غروب
الشمس بالرؤية أو بإخبار من يجوز العمل بقوله. قال الطيبي: لعل السبب في هذه
الأحبية المتابعة للسنة والمباعدة عن البدعة والمخالفة لأهل الكتاب - انتهى. قال
القاري: وفيه إيماء إلى أن أفضلية هذه الأمة لأن متابعة الحديث توجب محبة الله
تعالى: ?قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله?[آل عمران:31] وإليه الإشارة
بالحديث الآتي: لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر الخ. وقال ابن الملك:
ولأنه إذا أفطر قبل الصلاة يؤديها عن حضور القلب وطمأنينة النفس ومن كان بهذه
الصفة فهو أحب إلى الله ممن لم يكن كذلك - انتهى. قال الأمير اليماني: الحديث دال
على أن تعجيل الإفطار أحب إلى الله من تأخيره وإن إباحة المواصلة إلى السحر لا
تكون أفضل من تعجيل الإفطار أو يراد بعبادي الذين يفطرون ولا يواصلون إلى السحر.
وأما
رواه الترمذي.
2010- (9) وعن سلمان بن عامر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا
أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإنه بركة، فإن لم يجد فليفطر على ماء، فإنه طهور)).
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه خارج عن عموم هذا الحديث لتصريحه - صلى
الله عليه وسلم - بأنه ليس مثلهم كما تقدم، فهو أحب الصائمين إلى الله تعالى وإن
لم يكن أعجلهم فطرا لأنه قد أذن له في الوصال ولو أياما متصلة كما سبق (رواه
الترمذي) وحسنه، وأخرجه أيضا أحمد، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والبيهقي (ج4
ص237).
(12/381)
2010 – قوله: (إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر) أي على تمرة اكتفاء بأصل السنة وإلا فأدنى كمالها ثلث كما روى أبويعلى عن أنس قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يفطر على ثلاث تمرات أو شيء لم تصبه النار، وفيه عبدالواحد بن ثابت وهو ضعيف. وقيل: المراد جنس التمر فيصدق بالواحدة وهذا عند فقد الرطب فإن وجد فهو أفضل كما يدل عليه حديث أنس التالي. قال الشوكاني: حديثا أنس وسلمان يدلان على مشروعية الإفطار بالتمر، فإن عدم فبالماء ولكن حديث أنس فيه دليل على أن الرطب من التمر أولى من اليابس فيقدم عليه إن وجد - انتهى. والأمر للندب. قال البخاري في صحيحه: باب يفطر بما يتسير من الماء وغيره ثم ذكر حديث عبدالله بن أبي أوفى قال سرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو صائم فلما غربت الشمس قال أنزل فاجدح لنا الخ. قال الحافظ: لعل البخاري أشار إلى أن الأمر في قوله من وجد تمرا فليفطر عليه ومن لا فليفطر على الماء ليس على الوجوب وقد شذ ابن حزم فأوجب الفطر على التمر وإلا فعلى الماء - انتهى. وإنما شرع الإفطار بالتمر لأنه حلو وقوت والنفس قد تعبت بمرارة الجوع والبصر قد ضعف بالصوم والحلاء يسرع النفوذ إلى القوى لاسيما قوة الباصرة، فأمر بإزالة هذا التعب والضعف بما هو قوت وحلو. قال الشوكاني: وإذا كانت العلة كونه حلوا والحلو له ذلك التأثير فليحق به الحلويات كلها، أما ما كان أشد منه في الحلاوة فبفحوى الخطاب وما كان مساويا له فبلحنه (فإنه بركة) أي فإن التمر ذو بركة وخير كثير أو أريد به المبالغة قاله القاري وقال الطيبي: أي فإن الإفطار على التمر فيه ثواب كثير وبركة (فإن لم يجد) أي التمر ونحوه من الحلويات (فليفطر على ماء) قراح (فإنه طهور) بفتح الطاء أي مطهر محصل للمقصود. وقال القاري: أي بالغ في الطهارة فيبتدئ به تفاؤلا بطهارة الظاهر والباطن. وقال الطيبي أي لأنه مزيل المانع من أداء العبادة ولذا من الله
(12/382)
تعالى على عباده ?وأنزلنا من
السماء ماء طهورا? [الفرقان:48] قال ابن القيم: هذا أي الأمر بالإفطار بالتمر
والماء من
رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود وابن ماجه، والدارمي. ولم يذكر فإنه بركة غير
الترمذي. في رواية أخرى.
2011-(10) وعن أنس، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفطر قبل أن يصلي على
رطبات، فإن لم تكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات
كمال شفقته - صلى الله عليه وسلم - على أمته ونصحهم، فإن إعطاء الطبيعة الشيء
الحلو مع خلو المعدة إدعى إلى قبوله وانتفاع القوى به لاسيما قوة الباصرة فإنها
تقوى به. وأما الماء فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس فإن رطبت بالماء كما
انتفاعها بالغذاء بعده، هذا مع ما في التمر، والماء من الخاصية التي لها تأثير في
صلاح القلب لا يعلمها إلا أطباء القلوب (رواه أحمد) (ج4 ص17- 18-213- 214)
(والترمذي) في الزكاة لزيادة في آخره وهي قوله، وقال الصدقة على المسكين صدقة وهي
على ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة. وقد تقدم هذا في باب أفضل الصدقة والجزء الأول
أخرجه أيضا الترمذي في الصيام بدون قوله فإنه بركة (وأبوداود) الخ. وأخرجه أيضا
ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم (ج1 ص431، 432) وابن حزم (ج7 ص31)
والبيهقي (ج4 ص238، 239) وحسنه الترمذي في الزكاة وصححه في الصيام وصححه أيضا ابن
خزيمة وابن حبان، وأبوحاتم الرازي، والحاكم على شرط البخاري ووافقه الذهبي وسكت
عنه أبوداود. ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره، وروى ابن عدي عن عمران بن حصين
بمعناه وإسناده ضعيف، وروى الترمذي والحاكم ابن خزيمة والبيهقي عن أنس مثل حديث
سلمان وتكلم فيه الترمذي والبيهقي. قال الترمذي: هو حديث غير محفوظ، والصحيح حديث
حفصة بنت سيرين عن الرباب عن سلمان بن عامر - انتهى. وصححه الحاكم على شرط الشيخين
ووافقه الذهبي (ولم يذكر) أي أحد قوله (فإنه بركة غير الترمذي) قال القاري: وفي
نسخة ولم يذكروا بصيغة الجمع
(12/383)
فغير منصوب على الاستثناء (في
رواية أخرى) يعني في كتاب الزكاة. وأما في الصيام فأخرجه بدون هذه الزيادة مثل
الآخرين. قال القاري: وهذا أي قوله في رواية أخرى غير موجود في أكثر النسخ.
2011- قوله: (يفطر) أي من صومه (قبل أن يصلي) أي المغرب وفيه إشارة إلى كمال
المبالغة في استحباب تعجيل الفطر. وأما ما صح أن عمر وعثمان رضي الله عنهما كانا
برمضان يصليان المغرب حين ينظران إلى الليل الأسود ثم يفطران بعد الصلاة، فهو
لبيان جواز التأخير لئلا يظن وجوب التعجيل (على رطبات) بضم الراء وفتح الطاء (فإن
لم تكن رطبات) بالرفع أي موجودة أو إن لم تحصل ولم تتيسر (فتميرات) بالتصغير
وبالجر أي فيفطر على تميرات وفي نسخة بالرفع أي فتميرات عوضها قاله القاري. وهذا
لفظ الترمذي،
حسا حسوات من ماء)). رواه الترمذي، وأبوداود، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
2012-(11) وعن زيد بن خالد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من فطر
صائما، أو جهز غازيا، فله مثل أجره)). رواه البيهقي في شعب الإيمان، ومحي السنة في
شرح السنة. وقال: صحيح.
(12/384)
ولأبي داود فعلى تمرات وكذا عند الدارقطني والحاكم (حسا) أي شرب (حسوات) بفتحتين أي شربات (من ماء) قال العلقمي: حسوات، بحاء وسين مهملتين جمع حسوة بالفتح، وهي المرة من الشرب. والحسوة بالضم الجرعة من الشراب بقدر ما يحسي - انتهى. وقال في لسان العرب: الحسوة، المرة الواحدة. وقيل: الحسوة والحسوة لغتان. قال ابن السكيت: حسوت شربت حسوا وحساء والحسوة ملء الفم - انتهى. والحديث دليل على استحباب الافطار بالرطب فإن عدم فبالتمر فإن عدم فبالماء، قال: وقول من قال السنة بمكة تقديم ماء زمزم على التمر أو خلطه به فمردود بأنه خلاف الإتباع، وبأنه - صلى الله عليه وسلم - صام عام الفتح أياما كثيرة ولم ينقل أنه خالف عادته التي هي تقديم التمر على الماء. ولو كان لنقل - انتهى. (رواه الترمذي وأبوداود) وأخرجه أيضا أحمد والدارقطني (ص240) والحاكم (ج1 ص432) وابن حزم (ج7 ص31) من طريق أبي داود والبيهقي (ج4 ص239) (وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب) وسكت عليه أبوداود والحاكم والذهبي وصححه الدارقطني. وقال المنذري: بعد نقل كلام الترمذي. وقال أبوبكر البزار: وهذا حديث لا يعلم رواه عن ثابت عن أنس إلا جعفر بن سليمان وذكره ابن عدي أيضا في أفراد جعفر عن ثابت - انتهى. قلت: جعفر هذا صدوق زاهد حسن الحديث لكنه كان يتشيع.
(12/385)
2012- قوله: (وعن زيد بن خالد)
أي الجهني (من فطر صائما) من التفطير وهو جعل أحد مفطرا أي من أطعم صائما عند إفطاره
(أو جهز غازيا) من التجهيز أي هيأ أسباب سفره وأعطاه ما يحتاج إليه في غزوه من
السلاح والفرس والنفقة. قال السندي: تجهيز الغازي تحميله وإعداد ما يحتاج إليه في
غزوه (فله) أي لمن فطر أو جهز (مثل أجره) أي الصائم أو الغازي، و"أو"
للتنويع وهذا الثواب لأنه من باب التعاون على البر والتقوى. قال الطيبي: نظم
الصائم في سلك الغازي لانخراطهما في معنى المجاهدة مع أعداء الله. وقدم الجهاد
الأكبر - انتهى. قيل: والمراد مثل أجره كما، لا كيفا وزاد في رواية غير أنه لا
ينقص من أجر الصائم شيئا (رواه البيهقي في شعب الإيمان ومحي السنة) أي صاحب
المصابيح (في شرح السنة وقال صحيح) قال الجزري: ورواه النسائي بلفظه جملة والترمذي
وابن ماجه مقطعا. وقال الترمذي: في كل منهما حسن صحيح كذا في المرقاة وقال المنذري
في الترغيب: عن زيد بن خالد الجهني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من فطر
صائما كان له مثل
2013-(12) وعن ابن عمر، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أفطر قال:
((ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله)). رواه أبوداود.
(12/386)
أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء، رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. وقال الترمذي: حديث صحيح، ولفظ ابن خزيمة والنسائي من جهز غازيا أو جهز حاجا أو خلفه في أهله أو فطر صائما كان له مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء - انتهى. قلت: الحديث أخرجه أيضا أحمد (ج4 ص114- 115- 116 وج5 ص192) والبيهقي (ج4 ص240) مطولا ومختصرا بألفاظ، وأخرجه الدارمي مقطعا في الصيام والجهاد، وكذا الترمذي وابن ماجه. وأخرج النسائي في الجهاد من المجتبى تجهيز الغازي فقط، ولم يخرج في الصيام أصلا ولعله أخرجه في الكبرى. قال ميرك: بعد نقل السياقين المذكورين عن الترغيب وكأن المصنف أي صاحب المشكاة لم يقف على هذين الطريقين فعزا الحديث إلى البيهقي وشرح السنة والعزو إلى أصحاب السنن أولى وأصوب والله أعلم - انتهى. وتعقبه القاري فقال: وفيه أنه إنما نسب إليهما لأن لفظهما مغاير للفظ الطريقين فإن الأول مختصر، والثاني مطول مع قطع النظر عن ومخالفة بقية الألفاظ - انتهى. فتأمل.
(12/387)
2013 – قوله: (إذا أفطر) من
صومه (قال) أي بعد الإفطار (ذهب الظمأ) بفتحتين فهمز أي العطش أو شدته. قال
النووي: في الأذكار الظمأ مهموز الآخر مقصور وهو العطش، وإنما ذكرت هذا وإن كان
ظاهرا لأني رأيت من اشتبه عليه فتوهمه ممدودا - انتهى. وفيه أنه قريء لا يصيبهم
ظمأ بالمد والقصر. وفي القاموس ظمى، كفرح ظمأ وظماء وظماءة عطش أو أشد العطش ولعل
كلام النووي محمول على أنه خلاف الرواية لا أنه غير موجود في اللغة قاله القاري
(وابتلت العروق) أي صارت رطبة بزوال اليبوسة الحاصلة بالعطش، قيل: لم يقل وذهب
الجوع لأن أرض الحجاز حارة فكانوا يصبرون على قلة الطعام لا العطش (وثبت الأجر) أي
زال التعب وحصل الثواب. قال الطيبي: ذكر ثبوت الأجر بعد زوال التعب استلذاذ أي
استلذاذ ونظيره قوله تعالى حكاية عن أهل الجنة ?الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن
ربنا لغفور شكور?[فاطر:34] – انتهى. (إن شاء الله) ثبوته بأن تقبل الصوم وتولى
جزاءه بنفسه كما وعد. وقال القاري: قوله: "إن شاء الله" متعلق بالأخير
على سبيل التبرك ويصح التعليق لعدم وجوب الأجر عليه تعالى ردا على المعتزلة، ويمكن
أن يكون إن بمعنى إذ فتتعلق بجميع ما سبق (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا الدارقطني
(ص240) والحاكم (ج1 ص422) وابن السني (ص153) والبيهقي (ج4 ص239) وسكت عنه أبوداود
والمنذري وحسنه الدارقطني وصححه الحاكم وأقره الذهبي: قال الجزري في جامع الأصول:
(ج7 ص248) زاد رزين الحمد لله في أول الحديث.
2014-(13) وعن معاذ بن زهرة، قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان إذا أفطر
قال: ((اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت)). رواه أبوداود مرسلا.
(12/388)
2014- قوله: (وعن معاذ) بضم الميم (بن زهرة) بضم الزاي وسكون الهاء ويقال معاذ أبوزهرة. قال في التقريب: مقبول من أوساط التابعين أرسل حديثا فوهم من ذكره في الصحابة. وقال في تهذيب التهذيب معاذ بن زهرة ويقال معاذ أبوزهرة الضبى تابعي أرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القول عند الإفطار، وعنه حصين بن عبدالرحمن وذكره ابن حبان في الثقات، قلت (قائله الحافظ) والذي ذكره بلفظ الكنية البخاري في التاريخ وتبعه ابن أبي حاتم، والذي ذكر أن زهرة اسم والده هو الذي وقع في السنن لأبي داود، وفي المراسيل لكن وقع عنده عن معاذ بن زهرة أنه بلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أخرج ابن السني - الحديث. (ص153) من وجه آخر عن حصين بلفظ آخر. ولم يقل في سياقه أنه بلغه (قال إن النبي - صلى الله عليه وسلم -) كذا في جميع النسخ الحاضرة وفي السنن لأبي داود عن معاذ بن زهرة أنه بلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان إذا أفطر قال) أي دعا. وقال ابن الملك: أي قرأ بعد الإفطار (اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت) قال المظهر. يعني لم يكن صومي رياء بل كان خالصا لك لأنك الرازق فإذا أكلت رزقك ولا رازق غيرك فلا ينبغي العبادة لغيرك. وقال الطيبي: قدم الجار والمجرور في القرينتين على العامل دلالة على الاختصاص إظهار للاختصاص في الافتتاح، وإبداء لشكر الصنيع المختص به في الاختتام (رواه أبوداود مرسلا) في السنن وفي المراسيل لكن وقع عنده هكذا عن معاذ ابن زهرة أنه بلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - الخ وتسميته مرسلا لا يخلو عن خفاء لأن قول معاذ التابعي بلغه يقتضي ثبوت مبلغ، ويحتمل أن يكون واحدا فهو حينئذ متصل في إسناده مجهول فتأمل، وأخرجه ابن السني (ص53) بلفظ كان إذا أفطر قال الحمد لله الذي أعانني فصمت ورزقني فأفطرت وليس في سياقه قوله إنه بلغه. وأخرجه البيهقي (ج4 ص239) من طريق أبي داود بسياقه سواء. قال ابن حجر: وهو مع
(12/389)
إرساله حجة في مثل ذلك على أن
الدارقطني والطبراني روياه عن ابن عباس بسند متصل لكنه ضعيف وهو حجة أيضا. قال
القاري: وأما ما اشتهر على الألسنة اللهم لك صمت وبك آمنت وعلى رزقك أفطرت فزيادة.
"وبك آمنت" لا أصل لها وإن كان معناها صحيحا، وكذا زيادة "وعليك
توكلت لصوم غد نويت" بل النية باللسان من البدعة الحسنة - انتهى. قلت لا أصل
للنية باللسان للصوم وكذا للصلاة لا من كتاب ولا من سنة ولا من صحابي بل هو مجرد
رأي، فهي بدعة شرعية، وكل بدعة شرعية سيئة فيتعين تركها، وحديث ابن عباس أخرجه ابن
السني أيضا وفي الباب عن أنس أخرجه الطبراني في الأوسط، وهو أيضا ضعيف. ويكون هو
وحديث ابن عباس شاهدا لحديث معاذ يقوى بهما.
?الفصل الثالث?
2015-(14) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال الدين
ظاهرا ما عجل الناس الفطر. لأن اليهود والنصارى يؤخرون)). رواه أبوداود، وابن
ماجه.
2016-(15) وعن أبي عطية، قال: دخلت أنا ومسروق على عائشة، فقلنا: يا أم المؤمنين!
رجلان
(12/390)
2015- قوله: (لا يزال الدين ظاهرا) أي غالبا وعاليا ولابن ماجه لا يزال الناس بخير (ما عجل الناس الفطر) أي مدة تعجيلهم الفطر. قال القاري: وسببه والله تعالى أعلم إن هذه الملة الحنيفية سمحاء سهلة ليس فيها حرج فيسهل قيامهم بها والمداومة عليها بخلاف أهل الكتاب فإنهم شدوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فغلبوا ولم يقدروا أن يقيموا الدين- انتهى. (لأن اليهود والنصارى يؤخرون) أي الفطر إلى اشتباك النجوم وتبعهم الرافضة في زماننا. قال السندي: هذا تعليل لما ذكر بأن فيه مخالفة لأعداء الله فما داموا يراعون مخالفة أعداء الله تعالى ينصرهم الله ويظهر دينهم. وقال الطيبي: في هذا التعليل دليل على أن قوام الدين الحنيف على مخالفة الأعداء من أهل الكتاب، وإن في موافقتهم تلفا للدين قال تعالى: ?يآيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم?[المائدة:51] (رواه أبوداود وابن ماجه) واللفظ لأبي داود وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم (ج1 ص431) والبيهقي (ج4 ص237) وسكت عنه أبوداود والمنذري. وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي ونقل السندي عن الزوائد إن إسناده صحيح على شرط الشيخين. وقال المنذري: وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث سهل بمن سعد بنحوه - انتهى.
(12/391)
2016- قوله: (وعن أبي عطية)
بفتح العين وكسر طاء وشدة ياء، هو أبوعطية الوادعي الهمداني الكوفي واسمه مالك بن
عامر أو ابن أبي عامر أو ابن عوف. وقيل: ابن حمزة. وقيل: ابن أبي حمزة. وقيل: اسمه
عمرو بن جندب. ويقال: ابن أبي جندب. وقيل: إنهما اثنان روى عن ابن مسعود وأبي موسى
وعائشة ومسروق بن الأجدع وعنه عمارة بن عمير والأعمش وآخرون ثقة من كبار التابعين
وثقة ابن معين وأبوداود وابن سعد وابن حبان شهد مشاهد على ومات في ولاية عبدالملك.
وقيل: في ولاية مصعب على الكوفة. وقال في التقريب: مات في حدود السبعين (ومسروق)
أي ابن الأجدع وتقدم (رجلان) مبتدأ
من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: أحدهما: يعجل الإفطار ويعجل الصلاة، والآخر:
يؤخر الإفطار ويؤخر الصلاة. قالت: أيهما يعجل الإفطار ويعجل الصلاة؟ قلنا: عبد
الله بن مسعود، قالت: هكذا صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والآخر
أبوموسى)). رواه مسلم.
2017-(16) وعن العرباض بن سارية، قال: دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى
السحور في رمضان، فقال: ((هلم إلى الغداء المبارك)). رواه أبوداود، والنسائي.
(12/392)
(من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -) صفة وهي مسوغة لكون المبتدأ نكرة والخبر جملة قوله (أحدهما يعجل الإفطار ويعجل الصلاة) أي صلاة المغرب (والآخر يؤخر الإفطار ويؤخر الصلاة) أي يختار تأخيرهما والظاهر إن الترتيب الذكرى يفيد الترتيب الفعلى في العملين (والآخر أبوموسى) قال الطيبي: الأول عمل بالعزيمة والسنة والثاني بالرخصة - انتهى. قال القاري: وهذا إنما يصح لو كان الاختلاف في الفعل فقط. أما إذا كان الاختلاف قوليا فيحمل على أن ابن مسعود اختار المبالغة في التعجيل وأبوموسى اختار عدم المبالغة فيه، وإلا فالرخصة متفق عليها عند الكل والأحسن أن يحمل عمل ابن مسعود على السنة وعمل أبي موسى على بيان الجواز كما سبق من عمل عمر وعثمان رضي الله عنهما - انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج4 ص237).
(12/393)
2017- قوله: (وعن العرباض)
بكسر العين المهملة وسكون الراء وبالموحدة والضاد المعجمة (إلى السحور) بفتح السين
ويجوز ضمها (فقال) عطف أو تفسير وبيان (هلم) أي تعالى وفيه لغتان فأهل الحجاز
يطلقونه على الواحد. والجمع والاثنين بلفظ: واحد مبني على الفتح وبنو تميم تثني
وتجمع وتؤنث فتقول هلم وهلمي وهلما وهلموا قاله الجزري في النهاية. ونزل القرآن
بلغة الحجاز ?قل لهم هلم شهداءكم الذين يشهدون إن الله حرم هذا? أي أحضروهم وقال:
?والقائلين لإخوانهم هلم إلينا? (إلى الغداء المبارك) بفتح الغين المعجمة والدال
المهملة والمد وهو طعام يؤكل أول النهار سمي به السحور لأنه للصائم بمنزلته
للمفطر. وقال الخطابي (ج2 ص104) إنما غداء لأن الصائم يتقوى به على صيام النهار
فكأنه قد تغدي. والعرب تقول غدا فلان لحاجته إذا بكر فيها وذلك من لدن وقت السحر
إلى طلوع الشمس (رواه أبوداود والنسائي) واللفظ لأبي داود ولفظ النسائي عن العرباض
قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يدعو إلى السحور في شهر رمضان
قال: هلموا إلى الغداء المبارك والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج4 ص126) وابن خزيمة وابن
حبان في صحيحيهما والبيهقي
2018-(17) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم سحور
المؤمن التمر)). رواه أبوداود.
(3) باب تنزيه الصوم
((الفصل الأول))
2019-(1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يدع قول
الزور
(12/394)
(ج4 ص236) كلهم عن الحارث بن
زياد عن أبي رهم عن العرباض والحارث لم يرو عنه غير يونس بن سيف الكلاعي. وقال
أبوعمر النمري: الحارث هذا مجهول يروي عن أبي رهم حديثه منكر كذا ذكره المنذري في
مختصر السنن وفي الترغيب. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: الحارث بن زياد شامي أخرج
له أبوداود والنسائي حديثا واحدا في الصوم ذكره ابن حبان في ثقات التابعين. وقال
أدرك أباأمامة. قال الحافظ: وقرأت بخط الذهبي في الميزان مجهول وشرطه أن لا يطلق
هذه اللفظة إلا إذا كان أبوحاتم الرازي قالها والذي قال أبوحاتم أنه مجهول آخر
غيره فيما يظهر لي. نعم، قال أبوعمر بن عبدالبر: في صاحب هذه الترجمة مجهول حديثه
منكر - انتهى. وقال في التقريب: الحارث بن زياد الشامي لين الحديث.
2018- قوله: (نعم سحور المؤمن) بفتح السين لا غير (التمر) أي فإن التسحر به بركة
عظيمة وثوابا كثيرا فيطلب تقديمه في السحور وكذا في الفطور إن لم يوجد رطب وإلا
فهو أفضل في زمنه. قال الطيبي: وإنما مدح التمر في هذا الوقت؛ لأن في نفس السحور
ببركة وتخصيصه بالتمر بركة على بركة كما سبق: إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإنه
بركة ليكون المبدوء به والمنتهي إليه البركة والله تعالى أعلم (رواه أبوداود) قال
المزي: هذا الحديث في رواية أبي بكر بن داسة ولم يذكره أبوالقاسم ذكره في عون
المعبود نقلا عن غاية المقصود. والحديث أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه والبيهقي (ج4
ص237) ورواه البزار وأبونعيم في الحلية عن جابر قال الهيثمي بعد عزوه إلى البزار:
رجاله رجال الصحيح، ورواه الطبراني في الكبير بسند ضعيف عن السائب بن يزيد وزاد
وقال: يرحم الله المتسحرين ذكره المنذري والهيثمي.
(باب تنزيه الصوم) أي في بيان ما يدل على ما يجب تبعيد الصوم عنه مما يبطله من
أصله أو يبطل ثوابه أو ينقصه.
(12/395)
2019- قوله: (من لم يدع) بفتح
التحتية والدال المهملة أي لم يترك (قول الزور) أي الباطل وهو ما فيه إثم والإضافة
بيانية قاله القاري. وقال الطيبي: الزور الكذب والبهتان أي من لم يترك القول
الباطل من
والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)).
قول الكفر وشهادة الزور والإفتراء والغيبة والبهتان والقذف والسب والشتم واللعن
وأمثالها مما يجب على الإنسان إجتنابها ويحرم عليه ارتكابها (والعمل) بالنصب (به)
أي بالزور يعني الفواحش من الأعمال لأنها في الإثم كالزور. وقال الطيبي: هو العمل
بمقتضاه من الفواحش وما نهى الله عنه، وزاد في رواية البخاري في الأدب والجهل،
ولابن ماجه من لم يدع قول الزور، والجهل والعمل به فالضمير في "به" يعود
على الجهل لكونه أقرب مذكور أو على الزور فقط وإن بعد لإتفاق الروايات عليه أو
عليهما، وأفرد الضمير لاشتراكهما في تنقيص الصوم قاله العراقي. وقال الحافظ:
الضمير في رواية ابن ماجه يعود على الجهل، وفي رواية البخاري يعود على قول الزور
والمعنى متقارب. والمراد بالجهل السفة. وقيل: أي صفات الجهل أو أحوال الجهل
والمعاصي كلها عمل بالجهل فيدخل الغيبة فيها، وفي الأوسط للطبراني بسند رجاله ثقات
من حديث أنس من لم يدع الخنى والكذب. قال السندي: قيل يحتمل أن المراد من لم يدع ذلك
مطلقا غير مقيد بصوم أي من لم يترك المعاصي ماذا يصنع بطاعته، ويحتمل أن المراد من
لم يترك حالة الصوم وهو الموافق لبعض الروايات - انتهى. ويشير بذلك إلى ما وقع في
رواية للنسائي والجهل في الصوم (فليس لله حاجة) أي التفات ومبالاة وهو مجاز عن عدم
القبول بنفي السبب وإرادة نفي المسبب وإلا فلا حاجة لله تعالى إلى عبادة أحد (في
أن يدع طعامه وشرابه) فإنهما مباحان في الجملة فإذا تركهما وارتكب أمرا حراما من
أصله استحق المقت وعدم القبول طاعته في وقت فإن المطلوب منه ترك المعاصي مطلقا لا
تركا دون ترك. قال القاضي
(12/396)
البيضاوي: ليس المقصود من
شرعية الصوم نفس الجوع والعطش بل ما يتبعه من كسر الشهوات وتطويع النفس الأمارة
للنفس المطمئنة، فإذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إليه نظر القبول، فقوله "ليس
لله حاجة" مجاز عن عدم قبول فنفي السبب وأرادة المسبب وإلا فالله تعالى لا
يحتاج إلى شيء. وقال ابن بطال: ليس معناه يؤمر بأن يدع صيامه وإنما معناه التحذير
من قول الزور، وما ذكر معه وهو مثل قوله من باع الخمر فليشقص الخنازير أي يذبحها
ولم يأمره بذبحها ولكنه على التحذير والتعظيم لإثم بائع الخمر، وكذلك حذر الصائم
من قول الزور والعمل به ليتم له أجر صيامه - انتهى. وأعلم أن الجمهور على أن الكذب
والغيبة والنميمة لا تفسد الصوم، وعن الثوري والأوزاعي إن الغيبة تفسده والراجح
الأول. نعم هذه الأفعال تنقص الصوم وقول بعضهم أنها صغائر تكفر باجتناب الكبائر
أجاب عنه الشيخ تقي الدين السبكي بأن في حديث الباب والذي مضى في أول الصوم دلالة
قوية لذلك أي لقول الجمهور، لأن الرفث والصخب وقول الزور والعمل به مما علم النهي
عنه مطلقا. والصوم مأمور به مطلقا فلو كانت هذه الأمور إذا حصلت فيه لم يتأثر بها
لم يكن لذكرها فيه مشروطة به معنى نفهمه، فلما ذكرت في هذين الحديثين نبهتنا على
أمرين
رواه البخاري.
2020- (2) وعن عائشة، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وهو
صائم، وكان أملككم لإربه)).
(12/397)
أحدهما زيادة قبحها في الصوم على غيره، والثاني الحث على سلامة الصوم عنها، وإن سلامته منها صفة كمال فيه وقوة الكلام تقتضي أن يقبح ذلك لأجل الصوم. فمقتضى ذلك أن الصوم يكمل بالسلامة عنها فإذا لم يسلم عنها نقص. ثم قال: ولا شك إن التكاليف قد ترد بأشياء وينبه على أخرى بطريق الإشارة وليس المقصود من الصوم العدم المحض كما في المنهيات، لأنه يشترط له النية بالإجماع. ولعل القصد به في الأصل الإمساك عن جميع المخالفات، لكن لما كان ذلك يشق خفف الله وأمر بالإمساك عن المفطرات ونبه العاقل بلك على الإمساك عن المخالفات، وأرشد إلى ما تضمنته أحاديث المبين عن الله مراده فيكون اجتناب المفطرات واجبا واجتناب ما عداها من المخالفات هم المكملات كذا نقله الحافظ في الفتح (رواه البخاري) في الصوم والأدب وأخرجه أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي في الكبرى وابن ماجه، وأخرجه البيهقي (ج4ص270) من طريق أبي داود وابن حزم من طريق البخاري.
(12/398)
2020- قوله: (كان رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - يقبل) من التقبيل أي نفسها كما في بعض الروايات أو بعض
أزواجه كما في روايات أخرى (ويباشر) أي بعض نسائه يعني يلصق ويمس بشرتها ببشرته
كوضع الخد على الخد ونحوه. وليس المراد المباشرة الفاحشة. قال ابن الملك: أي يلمس
نساءه بيده. وأصل المباشرة التقاء البشرتين سواء أولج أو لم يولج، وقد يستعمل في
الجماع وليس بمراد هنا. قال الشوكاني: المراد بالمباشرة المذكورة في الحديث ما هو
أعم من التقبيل ما لم يبلغ إلى حد الجماع فيكون قوله: كان يقبل ويباشر من ذكر
العام بعد الخاص، لأن المباشرة في الأصل التقاء البشرتين (وهو صائم) وفي رواية
عمرو بن ميمون عن عائشة: كان يقبل في شهر الصوم، أخرجه مسلم والترمذي والنسائي
وغيرهم. وفي رواية لمسلم: كان يقبل في رمضان وهو صائم فأشارت بذلك إلى عدم التفرقة
بين الصوم الفرض والنفل قاله الحافظ (وكان أملككم) أي أغلبكم وأقدركم (لإربه)
أكثرهم يرويه بفتحتين بمعنى الحاجة، أي حاجة النفس ووطرها تريد حاجة الجماع،
وبعضهم يرويه بكسر فسكون وهو يحتمل معنى الحاجة والعضو أي الذكر. قال الحافظ: قوله
"لأربه" بفتح الهمزة والراء وبالموحدة أي حاجته، ويروى بكسر الهمزة
وسكون أي عضوه والأول أشهر وإلى ترجيحه أشار البخاري بما أورده من التفسير- انتهى.
قلت: قال البخاري بعد رواية هذا الحديث. قال ابن عباس: أرب حاجة وقال طاووس: غير
أولى
.................................
(12/399)
الأربة الأحمق لا حاجة له في النساء. وقال الجزري في النهاية: لأربه أي لحاجته تعنى إنه كان غالبا لهواه. وأكثر المحدثين يروونه بفتح الهمزة والراء يعنون الحاجة، وبعضهم يرويه بكسر الهمزة وسكون الراء وله تأويلان، أحدهما أنه الحاجة. والثاني: أرادت به العضو وعنت به من الأعضاء الذكر خاصة - انتهى. ورد تفسيره بالعضو بأنه خارج عن سنن الأدب. قال التوربشتي: حمل الأرب ساكن الراء على العضو في هذا الحديث غير سديد لا يغتربه إلا جاهل بوجوه حسن الخطاب مائل عن سنن الأدب ونهج الصواب وأجاب الطيبي بأنها ذكرت أنواع الشهوة مترقية من الأدنى إلى الأعلى فبدأت بمقدمتها التي هي القبلة ثم ثنت بالمباشرة التي هي المداعبة والمعانقة وأرادت أن تعبر عن المجامعة فكنت عنها بالإرب وأي عبارة أحسن منها - انتهى. وفيه أن المستحسن إذا إن الأرب بمعنى الحاجة كناية عن المجامعة. وأما ذكر الذكر فغير ملائم للأنثى كما لا يخفى لاسيما في حضور الرجال قاله القاري. وفي الموطأ أيكم أملك لنفسه، وبذلك فسر الترمذي في جامعه فقال ومعنى لإربه يعني لنفسه. قال العراقي: وهو أولى الأقوال بالصواب لأن أولى ما فسر به الغريب ما ورد في بعض طرق الحديث - انتهى. وقال شيخنا بعد ذكر كلام الترمذي: المذكور هذا بيان حاصل المعنى وقد عرفت أصل معنى لإربه- انتهى. واختلف في بيان معنى قول عائشة ومقصودها. فقيل أرادت أنه مع هذه المباشرة كان يأمن من الإنزال والوقاع فليس لغيره ذلك فهذا إشارة إلى علة عدم إلحاق الغير به في ذلك وعلى هذا فيكره لغيره القبلة والمباشرة وقيل المعنى أنه كان قادرا على حفظ نفسه عن القبلة والمباشرة لأنه كان أغلب الناس على هواة، ومع ذلك كان يقبل ويباشر وغيره قلما يصبر على تركهما، لأن غيره قلما يملك هواه فكيف لا يباح لغيره ففي قولها إشارة إلى أن غيره له ذلك بالأولى فسره بذلك من يجيزها للغير، ويجعل قولها علة في إلحاق الغير به - صلى الله
(12/400)
عليه وسلم - ويؤيد هذا المعنى
ما ذكره البخاري في صحيحه تعليقا قالت عائشة: يحرم عليها فرجها. قال الحافظ: وصله
الطحاوي عن حكيم بن عقال، قال سألت عائشة: ما يحرم علي من امرأتي وأنا صائم قالت
فرجها وإسناده إلى حكيم صحيح، ويؤدي معناه ما رواه عبدالرزاق بإسناد صحيح عن مسروق
سألت عائشة ما يحل للرجل من امرأته صائما قالت كل شيء إلا الجماع - انتهى ويؤيده
أيضا ما روى مالك عن أبي النضر عن عائشة بنت طلحة أخبرته أنها كانت عند عائشة زوج
النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل عليها زوجها، وهو عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي
بكر وهو صائم فقالت له عائشة ما يمنعك أن تدنو من أهلك فتلاعبها وتقبلها. قال:
أقبلها وأنا صائم قالت نعم. ولا يخفى أن محل هذا الأمن من الوقوع في الجماع أو
الإنزال. وأما ما روى النسائي والبيهقي (ج3
...............................
(12/401)
ص232) عن الأسود قال: قلت لعائشة أيباشر الصائم قالت لا: قلت أليس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يباشر، وهو صائم قالت: أنه كان أملككم لإربه. وظاهر هذا أنها اعتقدت خصوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال القرطبي: هذا اجتهاد من عائشة، وقول أم سلمة كان يقبلها وهو صائم أولى أن يؤخذ به لأنه نص في الواقعة وقال الحافظ: قد ثبت عن عائشة صريحا إباحة ذلك فيجمع بين هذا وبين قولها المتقدم أنه يحل له كل شيء إلا الجماع بحمل النهي على كراهة التنزيه، فإنها لا تنافي الإباحة وفي كتاب الصيام ليوسف القاضي من طريق حماد بن سلمة عن حماد سألت عائشة عن المباشرة للصائم فكرهتها. قال الحافظ: ويدل على أنها كانت لا ترى بتحريمها ولا بكونها من الخصائص ما رواه مالك في الموطأ عن أبي النضر فذكر الأثر المتقدم. وقال ابن حزم: بعد ذكر هذا الأثر وقول عائشة يحل له كل شيء إلا الجماع ما لفظه فهذان الخيران يكذبان قول من يقول إنها أرادت بقولها، وأيكم أملك لإربه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النهي عن القبلة والمباشرة للصائم - انتهى. وقد اختلف في القبلة والمباشرة بغير الجماع على أقوال الأول إنها مكروهة مطلقا، وهو مشهور عند المالكية، ورواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر الثاني إنها محرمة واستدل لذلك بقوله تعالى: ?فالآن باشروهن?[البقرة:187] قيل قد منع من المباشرة في هذه الآية نهارا، وأجيب عن ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المبين عن الله تعالى، وقد أباح المباشرة نهارا بفعله كما أفاده حديث الباب فدل على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع لا ما دونه من قبله ونحوها. قال الحافظ: وممن أفتى بإفطار من قبل صائم وهو عبدالله بن شبرمة أحد فقهاء الكوفة ونقله الطحاوي عن قوم لم يسمهم - انتهى. قلت: وروى ذلك أيضا عن ابن مسعود كما في مجمع الزوائد (ج3 ص166) والبيهقي (ج4 ص234) الثالث إنها مباحة مطلقا. قال
(12/402)
الحافظ: وهو المنقول صحيحا عن
أبي هريرة وبه قال سعيد وسعد بن أبي وقاص وطائفة بل بالغ بعض أهل الظاهر (لعله
أراد به ابن حزم، فإنه قال إنها حسنة مستحبة سنة من السنن وقربة من القرب إلى الله
تعالى) فاستحبها - انتهى. ويدل لإباحة القبلة مطلقا، ما روى عن عمر رضي الله عنه
قال هشهشت. يوما فقبلت وأنا صائم فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت صنعت
اليوم أمرا عظيما قبلت وأنا صائم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت لو
تمضمضت بماء وأنت صائم قلت: لا بأس بذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ففيم. أخرجه أحمد (ج1 ص21- 52) وأبوداود والنسائي والحاكم (ج1 ص431) والدارمي وابن
حزم (ج6 ص209) وسكت عنه أبوداود وابن حزم. وقال النسائي إنه منكر وصححه ابن خزيمة
وابن حبان والحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. قال المازري: فيه إشارة إلى فقه
بديع وهو إن المضمضة لا تنقض الصوم وهو أول الشرب ومفتاحه كما إن القبلة من دواعي
الجماع ومفتاحه والشرب يفسد
............................
(12/403)
الصوم كما يفسده الجماع وكما ثبت عندهم إن أوائل الشرب لا يفسد الصيام فكذلك أوائل الجماع كذا في الفتح. الرابع التفصيل فتكره للشاب وتباح للشيخ وهو مشهور عن ابن عباس أخرجه مالك وسعيد بن منصور وغيرهما وجاء فيه ثلاثة أحاديث مرفوعة، أخرج أحدها أبوداود من حديث أبي هريرة. وسيأتي في الفصل الثاني. والثاني أحمد (ج2 ص185) والطبراني من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص، قال كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء شاب. فقال: أقبل يا رسول الله: وأنا صائم قال لا، قال فجاء شيخ فقال أقبل وأنا صائم قال نعم فنظر بعضنا إلى بعض فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قد علمت لم نظر بعضكم إلى بعض إن الشيخ يملك نفسه، وفي إسناده ابن لهيعة مختلف في الاحتجاج. والثالث البيهقي (ج4 ص232) من حديث عائشة. قال الزرقاني والقسطلاني: بإسناد صحيح إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في القبلة للشيخ وهو صائم ونهى عنها الشاب. وقال: الشيخ يملك إربه، والشاب يفسد صومه والخامس إن ملك نفسه جازت له وإلا فلا كما أشارت إليه عائشة في حديث الباب. قال الترمذي: ورأى بعض أهل العلم إن للصائم إذا ملك نفسه أن يقبل وإلا فلا، ليسلم له صومه وهو قول سفيان الثوري والشافعي - انتهى. قلت: وهو قول أبي حنيفة. قال محمد بن الحسن في موطأه: لا بأس بالقبلة للصائم إذا ملك نفسه بالجماع فإن خاف أن لا يملك نفسه فالكف أفضل وهو قول أبي حنيفة والعامة قبلنا - انتهى. وهو قول أحمد أيضا قال ابن قدامة (ج3 ص112) المقبل إذا كان ذا شهوة مفرطة بحيث يغلب على ظنه أنه إذا قبل أنزل لم تحل له القبلة؛ لأنها مفسدة لصومه فحرمت كالأكل وإن كان ذا شهوة لكن لا يغلب على ظنه ذلك كره له التقبيل لأنه يعرض صومه للفطر ولا يأمن عليه الفساد ولا تحرم القبلة في هذه الحال لحديث عطاء بن يسار الآتي. ولأن إفضاءه إلى إفساد الصوم مشكوك فيه، ولا يثبت التحريم بالشك. فأما إن كان ممن لا تحرك
(12/404)
القبلة شهوته كالشيخ الهرم
ففيه روايتان أحدهما لا يكره له ذلك وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، لأن النبي - صلى
الله عليه وسلم - كان يقبل وهو صائم لما كان مالكا لإربه وغير ذي الشهوة في معناه.
والثانية يكره لأنه لا يأمن حدوث الشهوة، فأما اللمس لغير شهوة كلمس يدها ليعرف
مرضها فليس بمكروه بحال، لأن ذلك لا يكره في الإحرام فلا يكره في الصيام كلمس ثوبها
- انتهى مختصرا. وفي الروض المربع تكره القبلة ودواعي الوطى لمن تحرك شهوته، لأنه
عليه الصلاة والسلام نهى عنها شابا. ورخص لشيخ وغير ذي الشهوة في معنى الشيخ -
انتهى مختصرا. قلت: واستدل لهذا القول بما رواه مسلم من طريق عمر بن أبي سلمة وهو
ربيب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أيقبل الصائم؟ فقال: سل هذه لأم سلمة فأخبرته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يصنع ذلك فقال: يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: أما
والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له. قال الحافظ بعد ذكره: دل ذلك على أن الشاب
والشيخ سواء، لأن عمر حينئذ كان
متفق عليه.
(12/405)
شابا ولعله كان أول ما بلغ، وفيه دلالة على أنه ليس من الخصائص، وروى عبدالرزاق بإسناد صحيح عن عطاء بن يسار عن رجل من الأنصار أنه قبل امرأته وهو صائم فأمر امرأته أن تسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فسألته فقال إني أفعل ذلك فقال زوجها يرخص الله لنبيه فيما شاء فرجعت فقال أنا أعلمكم بحدود الله وأتقاكم وأخرجه مالك لكنه أرسله. قال عن عطاء إن رجلا فذكر نحوه مطولا - انتهى. السادس إنها مباحة في النفل مكروهة في الفرض وهي رواية ابن وهب عن مالك. وقد ظهر مما ذكرنا إن أعدل الأقوال وأقواها هو ما ذهب إليه الشافعي ومن وافقه من التفريق بين من يملك نفسه ومن لا يملك وبه يحصل الجمع بين الأحاديث المختلفة ويفهم من التعليل المذكور في حديثي عبدالله بن عمرو بن العاص وعائشة المذكورين في القول الرابع، إن الإباحة والكراهة دائرة مع ملك النفس وعدمه وعلى هذا فليس كبير فرق بين القول الرابع والخامس فالتعبير بالشيخ والشاب جرى على الغالب من أحوال الشيوخ في انكسار شهوتهم ومن أحوال الشباب في قوة شهوتهم فلو انعكس الأمر انعكس الحكم، لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما وروى النسائي من طريق طلحة بن عبدالله التميمي عن عائشة. قالت: أهوى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقبلني فقلت إني صائمة فقال وأنا صائم فقبلني، وهذا يؤيد ما تقدم إن النظر في ذلك لمن لا يتأثر بالمباشرة والتقبيل لا للتفرقة بين الشاب والشيخ، لأن عائشة كانت شابة. نعم لما كان الشباب مظنة لهيجان الشهوة فرق من فرق. وقال المازري: ينبغي أن يعتبر حال المقبل فإن أثارت منه القبلة الإنزال حرمت عليه؛ لأن الإنزال يمنع منه الصائم فكذلك ما أدى إليه وإن كان عنها المذي. فمن رأى القضاء منه قال يحرم في حقه، ومن رأى أن لا قضاء. قال: يكره وإن لم تؤد القبلة إلى شيء فلا معنى للمنع منها إلا على القول بسد الذريعة. وقال النووي: القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم
(12/406)
تحرك شهوته لكن الأولى له
تركها، وأما من حركت شهوته فهي حرام في حقه على الأصح وقيل: مكروهة - انتهى. واختلف
فيما إذا باشر أو قبل أو نظر فأنزل أو أمذى فقال الكوفيون والشافعي: يقضي إذا أنزل
في غير النظر ولا قضاء في الإمذاء. وقال مالك وإسحاق: يقضي في كل ذلك ويكفر إلا في
الإمذاء فيقضي فقط. وروى عيسى بن دينار عن ابن القاسم عن مالك وجوب القضاء فيمن
باشر أو قبل فانعظ ولم يمذ ولا أنزل، وأنكره غيره عن مالك. وقال ابن قدامة: إن قبل
فأنزل أفطر بلا خلاف كذا قال وفيه نظر. فقد حكى ابن حزم أنه لا يفطر ولو أنزل وقوى
ذلك وذهب إليه كذا في الفتح (متفق عليه) وأخرجه أحمد ومالك والترمذي وأبوداود
والنسائي في الكبرى والدارمي والطحاوي والبيهقي والدارقطني بألفاظ. وفي الباب عن
حفصة عند مسلم وأم سلمة عند الشيخين.
2021-(3) وعنها، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يدركه الفجر في
رمضان وهو جنب من غير حلم، فيغسل ويصوم)).
(12/407)
2021- قوله: (يدركه الفجر) أي الصبح (في رمضان) أي في بعض الأحيان (وهو) أي والحال أنه (جنب) بضمتين (من غير حلم) بضمتين ويجوز سكون اللام. قال القاري: وهو صفة مميزة أي من غير احتلام بل من جماع فإن الثاني أمر اختياري فيعرف حكم الأول بطريق الأولى، بل ولو وقع الاحتلام في حال الصيام لا يضر - انتهى. وهذا لفظ مسلم. وللبخاري يدركه الفجر جنبا في رمضان من غير حلم. قال القسطلاني: أي من جنابة غير حلم فاسقط الموصوف وهو جنابة اكتفاء بالصفة عند لظهوره - انتهى. وفي رواية لمسلم والموطأ كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام في رمضان. وفي حديث أم سلمة عند النسائي كان يصبح جنبا منى فيصوم ويأمرني بالصيام. قال الحافظ: أرادت بالتقييد بالجماع المبالغة في الرد على من زعم أن فاعل ذلك عمدا يفطر. وإذا كان فاعل ذلك عمدا لا يفطر، فالذي ينسي الاغتسال أو ينام عنه أولى بذلك. قال ابن دقيق العيد: لما كان الاحتلام يأتي للمرأ على غير اختياره فقد يتمسك به من يرخص لغير المتعمد الجماع، فيبن في هذا الحديث إن ذلك كان من جماع لإزالة هذا الاحتمال. وقال القرطبي: في هذا فائدتان: إحداهما: أنه كان يجامع في رمضان ويؤخر الغسل إلى بعد طلوع الفجر بيانا للجواز. والثاني: إن ذلك كان من جماع لا من احتلام، لأنه كان لا يحتلم إذا الاحتلام من الشيطان وهو معصوم منه. وقال غيره: في قولها من غير احتلام إشارة إلى جواز الاحتلام عليه وإلا لما كان للاستثناء معنى ورد بأن الاحتلام من الشيطان وهو معصوم منه. وأجيب بأن الاحتلام يطلق على الإنزال، وقد يقع الإنزال بغير رؤية شيء في المنام - انتهى. وقال النووي: احتج به من أجاز الاحتلام على الأنبياء، وفيه خلاف والأشهر امتناعه؛ لأنه من تلاعب الشيطان. وتألوا الحديث على أن المعنى يصبح جنبا من جماع ولا يجنب من احتلام لإمتناعه منه وهو قريب من قوله تعالى: ?ويقتلون النبيين بغير حق?[آل عمران:21] ومعلوم إن
(12/408)
قتلهم لا يكون بحق - انتهى.
وقال ابن حجر: النفي في قولهم الأنبياء لا يحتلمون ليس على إطلاقه، بل المراد أنهم
لا يحتلمون برؤية جماع؛ لأن ذلك من تلاعب الشيطان بالنائم وهم معصومون عن ذلك.
وأما الاحتلام بمعنى نزول المني في النوم من غير رؤية وقاع فهو غير مستجيل عليهم
لأنه ينشأ عن نحو امتلاء البدن فهو من الأمور الخلقية والعادية التي يستوي فيها
الأنبياء وغيرهم - انتهى. (فيغتسل) أي بعد طلوع الفجر (ويصوم) أي يتم صومه. وفيه
دليل على صحة صوم من دخل في الصباح وهو جنب من احتلام أو من جماع أهله وإلى هذا ذهب
الجمهور. قال ابن عبدالبر: عليه جماعة فقهاء الأمصار بالعراق والحجاز وأئمة الفتوى
بالأمصار مالك وأبوحنيفة والشافعي والثوري والأوزاعي والليث وأصحابهم وأحمد وإسحاق
وأبوثور وابن علية وأبوعبيد وداود وابن جرير الطبري وجماعة
.......................
(12/409)
من أهل الحديث. وقال ابن قدامة: هو قول عامة أهل العلم، منهم علي وابن مسعود وزيد وأبوالدرداء وأبوذر وابن عمر وابن عباس وعائشة وأم سلمة، وبه قال مالك والشافعي في أهل الحجاز، وأبوحنيفة والثوري في أهل العراق، والأوزاعي في أهل الشام، في أهل الشام، والليث في أهل مصر، وإسحاق وأبوعبيد في أهل الحديث، وداود في أهل الظاهر، وكان أبوهريرة يقول لا صوم له. ويروي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم رجع عنه. قال سعيد بن المسيب: رجع أبوهريرة عن فتياه، وحكى عن حسن وسالم بن عبدالله قالا يتم صومه ويقضي. وعن النخعي في رواية يقضي في الفرض دون التطوع، وعن عروة وطاووس إن علم بجنابته في رمضان فلم يغتسل حتى أصبح فهو مفطر، وإن لم يعلم فهو صائم - انتهى. وقال الحافظ: قد بقي على مقالة أبي هريرة بعض التابعين كما نقله الترمذي (من غير ذكر أسماءهم) ثم ارتفع ذلك الخلاف واستقر الإجماع على خلافه كما جزم به النووي. (والأبي في شرح مسلم) وأما ابن دقيق العيد فقال صار ذلك إجماعا أو كالإجماع - انتهى. قلت: وذهب ابن حزم إلى أنه لا يبطل صومه إلا أن تطلع عليه الشمس. وقيل: أن يغتسل ويصلي فيبطل صومه. قال: ذلك بناء على مذهبه في أن المعصية عمدا تبطل الصوم واحتج من قال بفساد صيام الجنب، بما روى أحمد وابن حبان عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا نودي للصلاة صلاة الصبح، وأحدكم جنب، فلا يصم حينئذ. وأخرجه النسائي والطبراني وعبدالرزاق بلفظ: قال أبوهريرة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بالفطر إذا أصبح الرجل جنبا، وقد بين أبوهريرة كما فغي رواية البخاري والنسائي وغيرهما أنه لم يسمع ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما سمعه بواسطة الفضل بن عباس وأسامة وكأنه كان لشدة وثوقه بخبرهما يرويه من غير واسطة. وحمل هؤلاء حديث عائشة وأم سلمة على أنه من الخصائص النبوية، وإن حكم النبي - صلى الله
(12/410)
عليه وسلم - على ما ذكرت عائشة
وأم سلمة، وحكم الناس على ما حكى أبوهريرة. ورد هذا بأن الخصائص لا تثبت إلا
بدليل، وبأنه قد ورد صريحا ما يدل على عدمها، وهو ما أخرجه مالك ومسلم وأبوداود
والنسائي وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم عن عائشة، إن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله
عليه وسلم -، يستفتيه، وهي تسمع من وراء الباب فقال: يا رسول الله! تدركني الصلاة
أي صلاة الصبح وأنا جنب أفأصوم؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: وأنا تدركني
الصلاة وأنا جنب فأصوم فقال: لست مثلنا يا رسول الله! قد غفر الله لك ما تقدم من
ذنبك وما تأخر فقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلم بما أتقى. وأجاب
الجمهور عن حديث أبي هريرة بأنه منسوخ وإن أباهريرة رجع عنه لما روى له حديث عائشة
وأم سلمة وأفتى بقولهما، قال ابن خزيمة إن الخبر منسوخ، لأن الله تعالى عند ابتداء
فرض الصوم كان منع في ليل الصوم من الأكل والشرب والجماع بعد النوم. قال فيحتمل أن
يكون خبر الفضل حينئذ، ثم أباح الله ذلك
....................................
(12/411)
كله إلى طلوع الفجر، فكان للمجامع أن يستمر إلى طلوعه فيلزم أن يقع اغتساله بعد طلوع الفجر. فدل على أن حديث عائشة ناسخ لحديث الفضل، ولم يبلغ الفضل ولا أباهريرة الناسخ فاستمر أبوهريرة على الفتيا به، ثم رجع عند بعد ذلك لما بلغه. قال الحافظ: ويقويه إن في حديث عائشة المتقدم في الرد على دعوى الخصوصية ما يشعر بأن ذلك كان بعد الحديبية، لقوله فيها: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وأشار إلى آية الفتح، وهي إنما نزلت بعد عام الحديبية سنة ست، وابتداء فرض الصيام كان في السنة الثانية. وإلى دعوى النسخ فيه ذهب ابن المنذر والخطابي وغير واحد، وقرره ابن دقيق العيد بأن قوله تعالى: ?أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نساءكم?[البقرة:187] يقتضى إباحة الوطى في ليلة الصوم، ومن جملتها الوقت المقارن لطلوع الفجر فيلزم إباحة الجماع فيه. ومن ضرورته أن يصبح فاعل ذلك جنبا ولا يفسد صومه، فإن إباحة التسبب للشيء إباحة لذلك الشيء، ورد البخاري حديث أبي هريرة بأن حديث عائشة أقوى إسنادا. قال الحافظ: وهو من حديث الرجحان كذلك، لأن حديث عائشة وأم سلمة في ذلك جاءا عنهما من طرق كثيرة جدا بمعنى واحد،حتى قال ابن عبدالبر أنه صح وتواتر. وأما حديث أبي هريرة فأكثر الروايات أنه كان يفتى به، ورواية الرفع أقل، وعند تعارض الترجيح بكثرة الطرق وقوتها. وقال بعضهم: إن حديث عائشة أرجح لموافقة أم سلمة لها على ذلك، ورواية اثنين تقدم على رواية واحد، ولاسيما وهما زوجتان وهما أعلم بذلك من الرجال، ولأنهما ترويان ذلك عن مشاهدة بخلاف غيرهما، ولأن روايتهما توافق المنقول وهو ما تقدم من مدلول الآية والمعقول، وهو أن الغسل شيء وجب بالإنزال، وليس في فعله شيء يحرم على صائم فقد يحتلم بالنهار فيجب عليه الغسل ولا يحرم عليه بل يتم صومه إجماعا، فكذلك إذا احتلم ليلا بل هو من باب الأولى. وإنما يمنع الصائم من تعمد الجماع نهارا. قال الحافظ:
(12/412)
القول بالنسخ أولى من سلوك
الترجيح بين الخبرين. وجمع بعضهم بينهما بأن الأمر في حديث أبي هريرة إرشاد إلى
الأفضل، فإن الأفضل أن يغتسل قبل الفجر، فلو خالف جاز ويحمل حديث عائشة على بيان
الجواز. ويعكر عليه التصريح في كثير من طرق حديث أبي هريرة بالأمر بالفطر وبالنهي
عن الصيام فكيف يصح الحمل على الإرشاد إذا وقع ذلك في رمضان. وقيل: هو محمول على
من أدركه الفجر مجامعا فاستدام بعد طلوعه عالما بذلك ويعكر عليه ما رواه النسائي
إن أباهريرة كان يقول: من احتلم وعلم باحتلامه ولم يغتسل حتى أصبح فلا يصوم. فائدة
في معنى الجنب الحائض والنفساء إذا انقطع دمها ليلا ثم طلع الفجر قبل اغتسالها.
وهو مذهب العلماء كافة، إلا ما حكى عن بعض السلف أنه لا يصح صومها. قال ابن قدامة
(ج3 ص138) الحكم في المرأة إذا انقطع حيضها من الليل كالحكم في الجنب سواء، ويشترط
أن ينقطع حيضها قبل طلوع الفجر؛ لأنه إن وجد جزء منه في النهار
متفق عليه.
2022 -(4) وعن ابن عباس، قال: ((إن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم،
واحتجم وهو صائم)). متفق عليه.
أفسد الصوم، ويشترط أن تنوى الصوم أيضا من الليل بعد انقطاعه؛ لأنه لا صيام لمن
يبيت الصيام من الليل. وقال الأوزاعي والحسن بن حي وعبدالملك بن الماجشون
والعنبري: تقضي فرطت في الاغتسال أو لم تفرط، لأن حدث الحيض يمنع الصوم بخلاف
الجنابة. ولنا أنه حديث يوجب الغسل فتأخير الغسل منه إلى أن يصبح لا يمنع صحة
الصوم كالجنابة وما ذكروه لا يصح، فإن من طهرت من الحيض ليست حائضا. وإنما عليها
حدث موجب الغسل، فهي كالجنب فإن الجماع الموجب للغسل لو وجد في الصوم أفسده
كالحيض، وبقاء وجوب الغسل منه كبقاء وجوب الغسل من الحيض - انتهى. (متفق عليه)
واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضا أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي في الكبرى
والدارمي والطحاوي والبيهقي وغيرهم.
(12/413)
2022- قوله: (احتجم) أي طلب
الحجامة بالكسر ككتابة من الحجم وهو المص، يقال حجم الصبي ثدي أمه أي مصه، يحجم
ويحجم حجما، والحجام والحاجم من يتعاطى الحجامة، وهي المداواة والمعالجة بالمحجم
بكسر الميم. قال ابن الأثير: هي الآلة التي يجمع فيها دم الحجامة عند المص، وحرفته
وفعله الحجامة. وقال المجد: المحجم والمحجمة ما يحجم به، وحرفته الحجامة ككتابة
واحتج طلبها (وهو محرم) جملة حالية فيه جواز الحجامة للمحرم كما سيأتى الكلام فيه
إنشاء الله في باب ما يجتنبه المحرم من كتاب الحج (واحتج) أيضا (وهو صائم) حكى
القاري عن الجزري أنه قال: مراد ابن عباس أنه احتجم في حال اجتماع الصوم مع
الإحرام، لما رواه أبوداود حديثه أيضا أنه عليه الصلاة والسلام احتجم صائما محرما.
ورواه الترمذي بلفظ: وهو محرم صائم - انتهى. وقال الأمير اليماني: قيل ظاهره أي
ظاهر حديث الباب أنه وقع منه الأمران المذكوران مفترقين، وأنه احتجم وهو صائم
واحتجم وهو محرم، ولكنه لم يقع ذلك في وقت واحد؛ لأنه لم يكن صائما في إحرامه إذا
أريد إحرامه وهو في حجة الوداع، إذ ليس في رمضان، ولا كان محرما في سفره في رمضان
عام الفتح، ولا في شيء من عمره التي اعتمرها، وإن احتمل أنه صام نفلا إلا أنه لم
يعرف ذلك. قال والحديث إخبار عن كل جملة عليحدة، وإن المراد احتجم وهو محرم في وقت
واحتجم وهو صائم في وقت آخر والقرينة على هذا معرفة أنه لم يتفق له اجتماع الإحرام
والصيام - انتهى. قلت: حديث ابن عباس روى على أربعة أوجه كما حكاه الزيلعي في نصب
الراية (ج2 ص278) عن صاحب التنقيح الأول احتجم وهو محرم، الثاني احتجم وهو صائم،
..........................
(12/414)
الثالث احتجم وهو صائم واحتجم وهو محرم، الرابع احتجم وهو صائم محرم، فالأول، روى من طرق شتى عن ابن عباس عند أحمد والشيخين وغيرهم، واتفقا عليه من حديث عبدالله بن بحينة، وفي النسائي وغيره من حديث أنس وجابر. والثاني: رواه البخاري وأصحاب السنن. والثالث رواه البخاري. قال الحافظ: والظاهر إن الراوي جمع بين الحديثين. والرابع رواه أحمد وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم وصححه الترمذي، وأعله أحمد وعلي بن المديني وغيرهما. فقال أحمد: إن أصحاب ابن عباس لا يذكرون صياما يعني ليس عندهم صائم، وإنما هو محرم. وقال أبوحاتم: هذا خطأ أخطأ فيه شريك، إنما هو احتجم وأعطى الحجمام أجرته، كذلك رواه جماعة عن عاصم. وشريك حدث من حفظه وقد ساء حفظه فغلط فيه. وقال الحميدي: هذا ريح لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن صائما محرما لأنه خرج في رمضان في غزوة الفتح ولم يكن محرما. وقال الحافظ: استشكل النسائي كونه - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الصيام والإحرام لأنه لم يكن من شأنه التطوع بالصيام في السفر ولم يكن محرما إلا وهو مسافر، ولم يسافر في رمضان إلى جهة الإحرام إلا في غزاة الفتح، ولم يكن حينئذ محرما قلت (فقائله الحافظ) وفي الجملة الأولى نظر، فما المانع من ذلك فلعله فعل مرة لبيان الجواز، وبمثل هذا لا ترد الإخبار الصحيصة، ثم ظهر لي إن بعض الرواة جمع بين الأمرين في الذكر، فأولهم أنهما وقعا معا والأصوب رواية البخاري احتجم وهو صائم، واحتجم وهو محرما، فيحمل على أن كل واحد منهما وقع في حالة مستقله، وهذا لا مانع منه، فقد صح أنه - صلى الله عليه وسلم - صام في رمضان وهو مسافر، وهو في الصحيحين بلفظ: وما فينا صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبدالله بن رواحة، ويقوى ذلك إن غالب الأحاديث ورد مفصلا كما تقدم. وقد اختلف في الحجامة للصائم: فذهب الجمهور منهم مالك والشافعي وأبوحنيفة إلى أنه لا بأس بها عند
(12/415)
الأمن وإنها لا تفطر الصوم
مطلقا، وحجتهم حديث ابن عباس وما وافقه. وقال: عطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق
وأبوثور وابن خزيمة وابن المنذر وأبولبيد النيسابوري وابن حبان: أنه يفطر الحاجم
والمحجوم ويجب عليهما القضاء وشذ عطاء فأوجب الكفارة أيضا، واحتج هؤلاء بحديث أفطر
الحاجم والمحجوم وقال قوم: منهم مسروق والحسن وابن سيرين يكره الحجامة للصائم
مطلقا، ولا يفسد الصوم بها، نعم ينقص أجر صيامهما بإرتكاب هذا المكروه وأجاب
القائلون بعدم الفطر عن حديث أفطر الحاجم والمحجوم بوجهين أحدهما ادعاء النسخ قال
ابن عبدالبر: أنه منسوخ لحديث ابن عباس، لأن في حديث شداد وغيره أنه - صلى الله
عليه وسلم - مر عام الفتح على من يحتجم لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان، فقال أفطر
الحاجم والمحجوم. وابن عباس شهد معه حجة الوداع سنة عشر، وشهد حجامته حينئذ وهو
محرم صائم. وحديث ابن عباس لا مدفع فيه عند أهل الحديث فهو ناسخ لا محالة
.........................
(12/416)
لأنه لم يدرك بعد ذلك رمضان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - - انتهى. وسبق إلى ذلك الشافعي كما حكاه البيهقي عنه في المعرفة وفي السنن الكبرى (ج4 ص268) واعترض بأنه قد اختلف التوقيت في حديث شداد ففي رواية عند البيهقي أنه كان عام الفتح والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان حينئذ بمكة، وفي حديثه عند أبي داود والبيهقي أيضا إن ذلك كان بالبقيع وهو بالمدينة، وكذا وقع في حديث ثوبان عند البيهقي (ج4 ص266) ففي دعوى النسخ على هذا نظر. وأيضا في حديث ابن عباس إنه احتجم صائما محرما ولم يكن محرما وهو مقيم، وإنما كان محرما وهو ومسافر وللمسافر أن يفطر على ما شاء من طعام وجماع وحجامة، وكذا للمتطوع بالصوم أن يفطر متى شاء بالحجامة وغيرها. قال ابن حبان: لا يعارض حديث ابن عباس حديث أفطر الحاجم والمحجوم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن قط محرما إلا وهو مسافر والمسافر يباح له الإفطار. وقال ابن خزيمة في هذا الحديث: أنه كان صائما محرما، قال: ولم يكن قط محرما. وهو مقيم ببلده، إنما كان محرما وهو مسافر، والمسافر إن كان ناويا للصوم فمضى عليه بعض النهار وهو صائم أبيح له الأكل والشرب على الصحيح، فإذا جاز له ذلك جاز له أن يحتجم وهو مسافر في بعض نهار الصوم. وإن كانت الحجامة تفطره - انتهى. قال الزيلعي (ج2 ص478) لفظ البخاري ربما يدفع هذا التأويل؛ لأنه فرق بين الخبرين فقال احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم فلينظر في ذلك. وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر تأويل ابن خزيمة. وتعقب بأن الحديث ما ورد هكذا لا لفائدة، فالظاهر أنه وجدت من الحجامة وهو صائم لم يتحلل من صومه واستمر. وقال الخطابي في المعالم (ج2 ص111) متعقبا على ابن خزيمة هذا التأويل غير صحيح، لأنه قد أثبته حين احتجم صائما، ولو كان يفسد صومه بالحجامة لكان يقال أنه أفطر بالحجامة، كما يقال أفطر الصائم بشرب الماء وبأكل التمر وما أشبههما، ولا يقال شرب ماء
(12/417)
صائما ولا أكل تمرا وهو صائم -
انتهى وحاصله إن قوله "وهو صائم" دال على بقاء الصوم. قال الحافظ في
التلخيص (ص190) بعد ذكره قلت: ولا مانع من إطلاق ذلك باعتبار ما كان حالة الاحتجام
لأنه على هذا التأويل إنما أفطر بالاحتجام والله أعلم- انتهى. وقال ابن حزم في
المحلى (ج6 ص204) صح حديث أفطر الحاجم والمحجوم، فوجب الأخذ به إلا أن يصح نسخة ثم
رد على من ادعى نسخة بحديث ابن عباس. ثم قال لكن وجدنا من حديث أبي سعيد أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - أرخص في الحجامة للصائم، وإسنادة صحيح. فوجب الأخذ به
لأن الرخصة لا تكون إلا بعد العزيمة، فدل على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجما
أو محجوما - انتهى مختصرا. والحديث المذكور أخرجه النسائي وابن خزيمة والدارقطني
والبزار والطبراني في الأوسط والبيهقي. قال الحافظ في الفتح: رجاله ثقات. ولكن
اختلف في رفعه ووقفه وله شاهد من حديث أنس أخرجه الدارقطني، ولفظه أول ما كرهت
الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به
.......................
(12/418)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أفطر هذان. ثم رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك في الحجامة للصائم. وكان أنس يحتجم وهو صائم، ورواته كلهم من رجال البخاري إلا أن في المتن ما ينكر، لأن فيه إن ذلك في الفتح وجعفر كان قتل قبل ذلك، ومن أحسن ما ورد في ذلك ما رواه عبد الرزاق وأبوداود عن عبدالرحمن ابن أبي ليلى عن رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحجامة للصائم، وعن المواصلة ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه إسناده صحيح. والجهالة بالصحابي لا تضر، وقوله "إبقاء على أصحابه" يتعلق بقوله نهي، وقد رواه ابن أبي شيبة بلفظ: عن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - قالوا: إنما نهى النبي عن الحجامة للصائم وكرهها للضعيف أي لئلا يضعف- انتهى كلام الحافظ. الوجه الثاني الجمع والتأويل. قال الخطابي (ج2 ص110) وتأول بعضهم حديث أفطر الحاجم والمحجوم. فقال: معناه تعرضا للإفطار. أما المحجوم فللضعف الذي يلحقه من ذلك فيؤديه إلى أن يعجز من الصوم. وأما الحاجم فلأنه لا يؤمن أن يصل إلى جوفه من طعم الدم أو من بعض إجراحه إذا ضم شفتيه على قصب الملازم، وهذا كما يقال للرجل يتعرض للمهالك قد هلك فلان وإن كان باقيا سالما. وإنما يراد أنه قد أشرف على الهلاك، وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين، يريد أنه قد تعرض للذبح - انتهى. وبنحوه قال البغوي كما سيأتي في الفصل الثاني. ورده ابن تيمية بأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: أفطر الحاجم والمحجوم له نص في حصول الفطر لهما فلا يجوز أن يعتقد بقاء صومهما، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مخبر عنهما بالفطر لاسيما، وقد أطلق هذا القول إطلاقا من غير أن يقرنه بقرينة تدل على أن ظاهره غير مراد، فلو جاز أن يريد مقاربة الفطر دون حقيقته، لكان ذلك تلبيسا لا تبيينا للحكم - انتهى. قال الأمير اليماني: بعد ذكر هذا
(12/419)
قلت: ولا ريب في أن هذا هو
الذي دل له قوله في حديث أنس في قصة احتجام جعفر أفطر هذان ثم رخص النبي - صلى
الله عليه وسلم - بعد في الحجامة، وتقدم أنه من أدلة نسخ حديث أفطر الحاجم
والمحجوم. وقيل في تأويله بأن المراد بذلك رجلان بعينهما كان مشتغيلين بالغيبة
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفطر الحاجم والمحجوم أي للغيبة لا
للحجامة، أخرجه الطحاوي وعثمان الدارمي والبزار والبيهقي في المعرفة، وفي السنن
وغيرهم. وفيه يزيد بن أبي ربيعة وهو متروك. وحكم علي بن المديني بأنه حديث باطل.
وقال ابن خزيمة: في هذا التأويل إنه أعجوبة لأن القائل به لا يقول إن الغيبة تفطر
الصائم. وقال أحمد: ومن سلم من الغيبة ولو كانت الغيبة تفطر ما كان لنا صوم، وقد
وجه الشافعي هذا القول وحمل الإفطار بالغيبة على سقوط أجر الصوم مثل قوله - صلى
الله عليه وسلم - للمتكلم، والخطيب يخطب لا جمعة له ولم يأمره بالإعادة، فدل على
أنه أراد سقوط الأجر، وحينئذ فلا وجه لجعله أحجوبة كما قال ابن خزيمة. وقيل في
تأويله أيضا إن الحجامة كانت مع الغروب أي مر بهما - صلى الله عليه وسلم - مساء،
فقال: أفطر الحاجم والمحجوم كأنه عذرهما
متفق عليه.
2023-(5) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نسي وهو
صائم فأكل أو شرب
(12/420)
بهذا القول إذ كانا قد أمسيا ودخلا في وقت الإفطار، كما يقال أصبح الرجل وأظهر وأمسى إذا دخل في هذه الأوقات. ويدل عليه ما روى ابن حبان والطبراني في الأوسط عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أباطيبة فوضع المحاجم مع غيبوبة الشمس، ثم أمره مع إفطار الصائم فحجم- الحديث. قال الهيثمي بعد عزوه إلى الطبراني: رجاله رجال الصحيح. وقيل معنى أفطرا فعلا مكروها، وهو الحجامة فصار كأنهما غير متلبسين بالعبادة. قال الخطابي: قال بعضهم: هذا على التغليظ لهما والدعاء عليهما كقوله فيمن صام الدهر، لا صام ولا أفطر فمعنى قوله أفطر الحاجم والمحجوم على هذا التأويل أي بطل أجر صيامهما فكأنهما صارا مفطرين غير صائمين. وقيل معناه حان لهما أن يفطرا كقوله أحصد الزرع إذا حان له أن يحصد وأركب المهر إذا حان له أن يركب ذكره الخطابي أيضا. وقال الشوكاني: حديث ابن عباس لا يصلح لنسخ أحاديث الإفطار؛ لأنه لم يعلم تأخره نعم حديث ابن أبي ليلى وأنس وأبي سعيد يدل على أن الحجامة غير محرمة ولا موجبة لإفطار الحاجم ولا المحجوم، فيجمع بين الأحاديث بأن الحجامة مكروهة (بكراهة التنزيه) في حق من كان يضعف بها وتزداد الكراهة إذا كان الضعف يبلغ إلى حد يكون سببا للإفطار، ولا تكره في حق من كان لا يضعف بها وعلى كل تجنب الحجامة للصائم أولى فيتعين حمل قوله أفطر الحاجم والمحجوم على المجاز لهذه الأدلة الصارفة له عن معناه الحقيقي - انتهى. (متفق عليه) فيه نظر، فإن الحديث من أفراد البخاري وليس عند مسلم ذكر الاحتجام في حالة الصوم أصلا، ولذلك نسبة المجد في المنتقى والحافظ في بلوغ المرام والتلخيص والنابلسي في الذخائر إلى البخاري فقط. والظاهر إن المنصف قلد في ذلك ابن الأثير الجزري إذ عزاه في جامع الأصول (ج7 ص191) إلى البخاري ومسلم وكليهما ولا شك في أن هذا وهم منه. وقد تقدم ذكر من أخرجه غير البخاري. وفي جواز الحجامة للصائم أحاديث عن جماعة
(12/421)
من الصحابة ذكرها العيني في
شرح البخاري (ج11 ص40) والهيثمي في مجمع الزوائد (ج3 ص170).
2023- قوله: (من نسي) أي أنه في الصوم (وهو صائم فأكل أو شرب) سواء كان قليلا أو
كثيرا كما رجحه النووي لظاهر إطلاق الحديث. قال العيني: لا فرق عندنا وعند الشافعي
بين القليل والكثير. وقال الرافعي فيه وجهان، كالوجهين. في بطلان الصلاة بالكلام
الكثير - انتهى. وقد روى أحمد من حديث أم إسحاق إنها كانت عند النبي - صلى الله
عليه وسلم - فأتى بقصعة من ثريد فأكلت معه ثم تذكرت إنما كانت صائمة. فقال: لها ذو
اليدين الآن بعد ما
فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)).
(12/422)
شبعت؟ فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتمي صومك فإنما هو رزق ساقه الله إليك: قال الحافظ: بعد ذكره وفي هذا رد على من فرق بين قليل الأكل وكثيرة- انتهى. ويروي وشرب واقتصر عليهما دون باقي المفطرات؛ لأنهما الغالب في النسيان (فليتم صومه) وفي رواية الترمذي فلا يفطر، قال العراقي يجوز أن يكون "لا" في جواب الشرط للنهي ويفطر مجزوما، ويجوز أن تكون "لا" نافية ويفطر مرفوعا، وهو أولى فإنه لم يرد به النهي عن الأفطار، وإنما المراد أنه لم يحصل إفطار الناسي بالأكل ويكون تقديره من أكل أو شرب ناسيا لم يفطر - انتهى. ثم لما لم يكن أكله وشربه باختياره المقتضي لفساد صومه بل لأجل إنساءه تعالى له لطفا به وتيسيرا عليه بدفع الحرج عن نفسه علله - صلى الله عليه وسلم - بقوله (فإنما أطعمه الله وسقاه) أي ليس له فيه مدخل قال السندي: كأن المراد قطع نسبة ذلك الفعل إلى العبد بواسطة النسيان، فلا يعد فعله جناية منه على صومه مفسدا له وإلا فهذا القدر موجود في كل طعام وشراب يأكله الإنسان أكله عمدا أو سهوا وقال الخطابي: النسيان من باب الضرورة، والأفعال الضرورية غير مضافة في الحكم إلى فاعلها، ولا يؤاخذ بها. وفي رواية الترمذي فإنما هو رزق رزقه الله. قال العيني: قوله فإنما تعليل لكون الناسي لا يفطر، ووجه ذلك إلى الرزق لما كان من الله ليس فيه للعبد تحيل فلا ينسب إليه شبه الأكل ناسيا به، لأنه لا صنع للعبد فيه وإلا فالأكل متعمدا حيث جاز له الفطر رزق من الله تعالى بإجماع العلماء وكذلك هو رزق وإن لم يجز له الفطر على مذهب أهل السنة - انتهى. والحديث دليل على أن من أكل أو شرب ناسيا لصومه فإنه لا يفطره ولا يوجب القضاء، وإليه ذهب الجمهور الشافعي وأحمد وأبوحنيفة وإسحاق والأوزاعي والثوري وعطاء وطاووس. وقال مالك: يبطل صومه ويجب عليه القضاء وهو قوله شيخه ربيعة وجميع أصحاب مالك لكن فرقوا بين الفرض والنفل واحتج
(12/423)
الجمهور لقولهم بحديث الباب؛
لأنه أمر بالإتمام وسمي الذي يتمه صوما، وظاهره حمله على الحقيقة الشرعية فيتمسك
به حتى يدل دليل على أن المراد بالصوم هنا حقيقته اللغوية، وإذا كان صوما وقع
مجزئا ويلزم من ذلك عدم وجوب القضاء كذا قرره ابن دقيق العيد (ج2 ص212) قال وقوله
"إنما أطعمه الله وسقاه" يستدل به على صحة الصوم، فإن فيه إشعارا بأن
الفعل الصادر منه مسلوب الإضافة إليه، والحكم بالفطر يلزمه الإضافة إليه - انتهى.
واستدل لمن ذهب إلى الفطر وإيجاب القضاء بأن ركن الصوم هو الإمساك عن المفطرات
فإذا فات ركنه يفسد الصوم كيف ما كان. قال ابن دقيق العيد (ج2ص 211) ذهب مالك إلى
إيجاب القضاء وهو القياس، فإن الصوم قد فات ركنه وهو من باب المأمورات. والقاعدة
تقتضي أن النسيان لا يؤثر في باب المأمورات. وقال ابن العربي: تمسك جميع الفقهاء
بظاهر هذا الحديث وتطلع مالك
.............................
(12/424)
إلى مسألة من طريقها فأشرف عليه، لأن الفطر ضد الصوم والإمساك ركن الصوم، فأشبه ما لو نسي ركعة من الصلاة وسيأتي الجواب عن هذا الاستدلال. واعتذر المالكية عن حديث الباب بوجوه. منها إن المراد فليتم إمساكه عن المفطرات يعني إن الصوم محمول على معناه اللغوي فيكون أمرا بالإمساك بقية يومه كالحائض إذا طهرت في أثناء اليوم وهو مدفوع أولا، بأن الاتفاق على أن الحمل على المفهوم الشرعي حيث أمكن في لفظ الشارع واجب، فإن قيل يجب ذلك الدليل على البطلان وهو القياس الذي تقدم ذكره، قلنا حقيقة النص مقدم على القياس لو تم فكيف وهو لا يتم، فإنه لا يلزم من البطلان مع النسيان فيما له هيئة مذكرة البطلان معه فيما لا مذكر له وهيئة الإحرام والاعتكاف والصلاة مذكرة فإنها تخالف الهيئة العادية ولا كذلك الصوم والنسيان غالب للإنسان، فلا يلزم من عدم عذره بالنسيان مع تلك عدم عذره به مع الصوم. وثانيا، بأن نفس اللفظ يدفعه وهو قوله "فليتم صومه" وصومه إنما كان الشرعي فإتمام ذلك إنما يكون بالشرعي. وثالثا: بما ورد من نفي القضاء صريحا كما سيأتي. ومنها إنه محمول على التطوع حكاه ابن التين عن ابن شعبان، وكذا قال ابن القصار: واعتل بأنه لم يقع في الحديث تعيين رمضان فيحمل على التطوع. ومنها أنه محمول على رفع الإثم وسقوط المؤاخذة. قال القرطبي: احتج بالحديث من أسقط القضاء، وأجيب بأنه لم يتعرض فيه للقضاء فيحمل على سقوط المؤاخذة لأن المطلوب صيام يوم لا خرم فيه. ومنها إن المراد منه سقوط الكفارة عنه. قال المهلب وغيره: لم يذكر في الحديث إسقاط القضاء فيحمل على سقوط الكفارة عنه وإثبات عذره ورفع الإثم عنه وبقاء نيته التي بيتها - انتهى. والجواب عن ذلك كله بما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم (ج1 ص430) وصححه والدارقطني (ص237) والطبراني في الأوسط والبيهقي (ج4 ص229) من طريق محمد بن عبدالله الأنصاري عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عن أبي
(12/425)
هريرة بلفظ: من أفطر في شهر
رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة فعين رمضان وصرح بإسقاط القضاء، وقد انفرد
بذكر إسقاط القضاء الأنصاري وهو ثقة. وأخرجه النسائي من طريق علي بن بكار عن محمد
بن عمرو، ولفظه في الرجل يأكل في شهر رمضان ناسيا فقال الله أطعمه وسقاه. وقد ورد
إسقاط القضاء من وجه آخر عن أبي هريرة، أخرجه الدارقطني من رواية محمد بن عيسى بن
الطباع عن ابن علية عن هشام عن ابن سيرين ولفظه فإنما هو رزق ساقه الله إليه ولا
قضاء عليه. وقال: بعد تخريجه هذا إسناد صحيح وكلهم ثقات. قال الحافظ: ولكن الحديث
عند مسلم وغيره من طريق ابن علية وليس فيه هذه الزيادة، وروى الدارقطني أيضا إسقاط
القضاء من رواية أبي رافع وأبي سعيد المقبري والوليد بن عبدالرحمن وعطاء بن يسار
كلهم عن أبي هريرة وأخرج (ص237) أيضا (وكذا الطبراني في الأوسط) من حديث أبي سعيد
رفعه من أكل
.............................
(12/426)
في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه، وإسناده، وإن كلن ضعيفا (لأن فيه محمد بن عبيدالله العزرمي الفزاري وهو ضعيف) لكنه صالح للمتابعة فأقل درجات الحديث بهذه الزيادة أن يكون حسنا فيصلح للاحتجاج به. وقد وقع الاحتجاج في كثير من المسائل بما دونه في القوة ويعتضد أيضا بأنه قد أفتى به جماعة من الصحابة من غير مخالفة لهم منهم، كما قاله ابن المنذر وابن حزم وغيرهما علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبوهريرة وابن عمر. ثم هو موافق لقوله تعالى: ?ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم?[البقرة:225] فالنسيان ليس من كسب القلب وموافق للقياس في إبطال الصلاة بعمد الأكل لا بنسيانه فكذلك الصيام. وأما القياس الذي ذكره ابن العربي فهو في مقابلة النص فلا يقبل – انتهى كلام الحافظ. وتأول المالكية حديث سقوط القضاء على أن معناه لا قضاء عليه الآن وهذا تعسف ظاهر وأجاب عنه ابن العربي بأن خبر الواحد إذا جاء بخلاف القواعد لم يعمل به، فلما جاء الحديث الأول الموافق للقاعدة في رفع الإثم عملنا به، وأما الثاني فلا يوافقها فلم نعمل به. وتعقبه الحافظ بأن رد الحديث مع صحته بكونه خبر واحد. خالف القاعدة ليس بمسلم. لأنه قاعدة مستقلة بالصيام، فمن عارضه بالقياس على الصلاة أدخل قاعدة في قاعدة، ولو فتح باب رد الأحاديث الصحيحة بمثل هذا لما بقي من الحديث إلا القليل ولرد من شاء ما شاء. قال الشوكاني: وأما اعتذار ابن دقيق العيد فيجاب عنه بأن غاية هذه القاعدة المدعاة أن تكون بمنزلة الدليل، فيكون حديث الباب مخصصا لها - انتهى. وفي الحديث لطف الله بعباده والتيسير عليهم ورفع المشقة والحرج عنهم واختلفوا فيما إذا جامع ناسيا في نهار رمضان فقال الثوري وأصحاب الرأي والشافعي وإسحاق: مثل قولهم فيمن أكل أو شرب ناسيا، وإليه ذهب الحسن ومجاهد، واستدل لهم بأن الحديث وإن ورد في الأكل والشرب لكنه معلول بمعنى يوجد في الكل أي الأكل والشرب والجماع، وهو أنه فعل
(12/427)
مضاف إلى الله تعالى على طريق
التمحيض بقوله: فإنما أطعمه الله وسقاه قطع إضافته عن العبد بوقوعه فيه من غير
قصده واختياره. وهذا المعنى يوجد في الكل والعلة إذا كانت منصوصا عليها كان الحكم
منصوصا عليه، ويتعمم الحكم بعموم العلة، وكذا معنى الحرج يوجد في الكل. واستدل لهم
أيضا بما تقدم في رواية ابن خزيمة وغيره من قوله "من أفطر في شهر رمضان"
لأن الفطر أعم من أن يكون بأكل أو شرب أو جماع. وإنما خص الأكل والشرب بالذكر في
الطريق الأخرى لكونهما أغلب وقوعا ولعدم الاستغناء عنهما غالبا. قال ابن دقيق
العيد: تعليق الحكم بالأكل والشرب للغالب لأن نسيان الجماع نادر بالنسبة إليهما
وذكر الغالب لا يقتضي مفهوما - انتهى. وقال عطاء والأوزاعي ومالك والليث بن سعد:
عليه القضاء أي بدون الكفارة وقال أحمد عليه القضاء والكفارة، واحتج له بأن النبي
- صلى الله عليه وسلم - لم يسأل الذي وقع على أهله أنسيت أم
متفق عليه.
2024-(6) وعنه، قال بينما نحن جلوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل
فقال: يا رسول الله! هلكت.
عمدت، ولو افترق الحال لسأل واستفصل. وتعقبه الخطابي (ج2 ص121) بأن معناه في هذا
اقتضاء العموم من الفعل، والعموم إنما يقتضي من القول دون الفعل. وإنما جاء الحديث
بذكر حال وحكاية فعل فلا يجوز وقوعه على العمد والنسيان معا فبطل أن يكون له عموم.
ومن مذهب أبي عبدالله يعني الإمام أحمد أنه إذا أكل ناسيا لم يفسد صومه لأن الأكل
لم يحصل منه على وجه المعصية، فكذلك إذا جامع ناسيا. فإما المتعمد لذلك فقد حصل
منه الفعل على وجه المعصية فلذلك وجبت عليه الكفارة - انتهى. وأجيب أيضا بأن الأصل
في الأفعال أن تكون عن عمد، وإن الناسي لابد أن يذكر النسيان إذا استفتى؛ لأنه عذر
ولا يحتاج إلى السؤال عنه (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أحمد والترمذي
وأبوداود والنسائي في الكبرى وابن ماجه والدارمي وغيرهم.
(12/428)
2024- قوله: (بينما) أصله بين
فأشبعت فتحة النون وصار بينا ثم زيد فيه الميم فصار بي بينما ويضاف إلى جملة اسمية
وفعلية، ويحتاج إلى جواب يتم به المعنى والأفصح في جوابها أن لا يكون فيه "إذ
وإذا" ولكن كثير مجيئها كذلك ومنه قوله هنا (إذ جاءه رجل) قيل الرجل هو سلمة
بن صخر البياضي جزم به عبدالغني في المبهمات، وتبعه ابن بشكوال واستند إلى ما
أخرجه ابن أبي شيبة وغيره من طريق سيلمان بن يسار عن سلمة ابن صخر أنه ظاهر من
امرأته في رمضان وإنه وطئها. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: حرر رقبة -
الحديث. وانتقد بأن ذلك هو المظاهر في رمضان أتى أهله في الليل رأى خلخالها في
القمر، وفي تمهيد ابن عبدالبر عن سعيد بن المسيب إن الرجل الذي وقع على امرأته في
رمضان سلمان بن صخر أحد بني بياضة. قال وأظن هذا وهما أتى من الراوي أي؛ لأن ذلك
إنما هو في المظاهر وقع على امرأته في الليل. وأما المجامع فإعرابي فهما واقعتان
فإن في قصة المجامع في حديث الباب إنه كان صائما كما سيأتي وفي قصة سلمة بن صخر
أنه كان ذلك ليلا كما عند الترمذي فافترقا، ولا يلزم من اجتماعهما في كونهما من
بني بياضة وفي صفة الكفارة، وكونها مرتبة، وفي كون كل منهما كان لا يقدر على شيء
من خصالها إتحاد القصتين. (فقال يا رسول الله هلكت) وقع في رواية البيهقي (ج4
ص226) وأبي عوانة والجوزقي جاء رجل وهو ينتف شهره ويدق صدره ويقول هلك الأبعد.
ولأحمد (ج2 ص516) والدارقطني في العلل يلطم وجه وللبيهقي (ج4 ص226) وأحمد (ج2
ص208) يدعو ويله وفي مرسل ابن المسيب عند مالك في الموطأ يضرب نحره وعند الدارقطني
ويحثى على رأسه التراب. واستدل
قال: مالك؟ قال: وقعت علي امرأتي
(12/429)
بهذا على جواز هذا الفعل، والقول ممن وقعت له معصية، ويفرق بذلك بين مصيبة الدين والدنيا، فيجوز في مصيبة الدين لما يشعر به الحال من شدة الندم. وصحة الإقلاع، ويحتمل أن تكون هذه الواقعة قبل النهي عن لطم الخدود وحلق الشعر عند المصيبة قاله الحافظ. ووقع في حديث عائشة عند البخاري وغيره احترقت واستدل به على أنه كان عامدا؛ لأن الهلاك والاحتراق مجاز عن العصيان المؤدى إلى ذلك فكأنه جعل المتوقع كالواقع وبالغ فعبر عنه بلفظ الماضي، وإذا تقرر ذلك فليس فيه حجة على وجوب الكفارة على الناسي وهو مشهور قول مالك والجمهور، وعن أحمد وبعض المالكية يجب على الناسي وتمسكوا بترك استفساره عن جماعة هل كان عن عمد أو نسيان وترك الاستفصال في الفعل ينزل منزلة العموم في القول كما اشتهر. وقد تقدم جوابه عن الخطابي في شرح الحديث السابق، وأجاب الحافظ عنه بأنه قد تبين حاله بقوله هلكت واحترقت فدل على أنه كان عامدا عارفا بالتحريم، وأيضا فدخول النسيان في الجماع في نهار رمضان في غاية البعد - انتهى. قال ابن دقيق العيد (ج2 ص214) إن حالة النسيان بالنسبة إلى الجماع ومحاولة مقدماته وطول زمانه وعدم إعتياده في كل وقت مما يبعد في حالة النسيان، فلا يحتاج إلى الاستفصال على الظاهر. لاسيما وقد قال الأعرابي هلكت فإنه يشعر بتعمده ظاهرا ومعرفته بالتحريم - انتهى قال الحافظ. واستدل بهذا على أن من ارتكب معصية، لا حد فيها وجاء مستفتيا إنه لا يعزر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعاقبه مع اعترافه بالمعصية. وقد ترجم لذلك البخاري في الحدود. وأشار إلى هذه القصة وتوجيهه إن مجيئة مستفتيا يقتضي الندم والتوبة والتعزير إنما جعل الاستصلاح ولا استصلاح مع الصلاح، وأيضا فلو عوقب المستفتي لكان سببا لترك الاستفتاء وهي مفسدة عظيمة، فاقتضى ذلك أن لا يعاقب هكذا قرره ابن دقيق العيد. لكن وقع في شرح السنة للبغوي إن من جامع متعمدا في رمضان فسد
(12/430)
صومه وعليه القضاء والكفارة،
ويعزر على سوء صنيعه وهو محمول على من لم يقع منه ما وقع من صاحب هذه القصة من
الندم والتوبة - انتهى (قال مالك) بفتح اللام "وما" استفهامية محلها
بالابتداء أي أي شيء حصل أو وقع لك ولابن خزيمة ويحك ما شأنك ولأحمد (ج2 ص516) وما
الذي أهلكك وفي الأدب عند البخاري ويحك ما صنعت (وقعت على امرأتي) وعند البزار
أصبت أهلي، وفي حديث عائشة وطئت امرأتي، ووقع في رواية مالك وابن جريج وغيرهما عند
مسلم وغيره إن رجلا أفطر في رمضان فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - - الحديث.
واستدل به على إيجاب الكفارة على من أفسد صيامه مطلقا بأي شيء كان، وهو قول
المالكية والحنيفة. واختلف الأئمة فيه، فحكى عن عطاء والحسن والثوري والزهري
والأوزاعي وإسحاق، إن الفطر بالأكل والشرب عمدا، يوجب ما يوجبه الجماع من القضاء
والكفارة، وبه قال مالك وأبوحنيفة وأصحابهما. وذهب سعيد بن
وأنا صائم
(12/431)
جبير والنخعي وابن سيرين وحماد والشافعي وأحمد وأهل الظاهر، إلى أن الكفارة إنما تلزم في الإفطار بالجماع فقط. فحملوا قوله "أفطر" ههنا على المقيد في الرواية الأخرى، وهو قوله وقعت علي امرأتي وكأنه قال أفطر بجماع واحتج من أوجب الكفارة مطلقا بقياس الآكل على المجامع بجامع ما بينهما من انتهاك حرمة الصوم، وبأن من أكره على الأكل فسد صومه كما يفسد صوم من أكره على الجماع بجامع ما بينهما. وتعقب بأن الفرق بين الانتهاك بالجماع والأكل ظاهر فلا يصح هذا القياس. قال ابن قدامة: لا يصح قياسه على الجماع؛ لأن الحاجة إلى الزجر عنه أمس والحكم في التعدي به آكد، ولهذا يجب به الحد إذا كان محرما. ويختص بإفساد الحج دون سائر محظوراته، ووجوب البدنة. ولأنه في الغالب يفسد صوم اثنين بخلاف غيره - انتهى. وقد وقع في حديث عائشة نظير ما وقع في حديث أبي هريرة، فمعظم الروايات فيها وطئت امرأتي ونحو ذلك، وفي رواية ساق مسلم إسنادها وساق أبوعوانة في مستخرجة متنها أنه قال أفطرت في رمضان، والقصة واحدة ومخرجها متحد، فيحمل على أنه أراد أفطرت في رمضان بجماع. وقد وقع في مرسل سعيد بن المسيب عند سعيد بن منصور أصبت امرأتي ظهرا في رمضان وبتعين رمضان، يفهم الفرق في وجوب كفارة الجماع في الصوم بين رمضان وغيره من الواجبات كالنذر هذا. وقد استدل لمذهب الحنفية ابن الهمام بقوله أفطر في بعض الروايات والكاساني بالمواقعة المذكورة في أكثر الروايات وبالقياس عليها، وأطالا الكلام في تقرير ذلك من شاء الوقوف عليه رجع إلى فتح القدير والبدائع. وقال صاحب فتح الملهم: بعد ذكر تقرير ابن الهمام. والحق إن هذه الأدلة لا تخلو عن ضعف إسناد وضعف دلالة على المطلوب فلا تصلح أن تكون دعامة لإثبات المسألة وأساسا له نعم، تعتبر في معرض الاستشهاد والتأئيد بعد ثبوت أصل المسألة ثم ذكر تقرير صاحب البدائع وابن الهمام لإثبات أصل المسألة بالجماع المذكور في الروايات
(12/432)
وبالقياس عليه ثم قال: ولكن
يختلج في قلب العبد الضعيف إن الوصف المؤثر الذي هو مناط الحكم في المنصوص هل هو
إفساد الصوم بالجماع خاصة أو إفساده بالمفطر الكامل مطلقا والظاهر من إيجاب
التكفير بكفارة الظهار هو الأول، فإن المظاهر يحرم إمراته على نفسه تحريما غليظا
بإفحاش القول فيه، ثم يعود لما قاله فيجب عليه كفارة الظهار. وهكذا الصائم في
رمضان لما حرم على نفسه الجماع تحريما غليظا بنيته ومصادفته ذلك الوقت الشريف
المبارك، ثم وقع فيه صار مثل المظاهر وصار حكمهما واحدا، وليس كل من حرم على نفسه
أكل شيء أو شربه بأغلظ الأقوال وأفحشها ثم حنث فيه يجب عليه ما يجب على المظاهر،
فافترق الجماع، والأكل ضرورة فكيف يكون المفطر بالأكل ملحقا بالمظاهر في وجوب
الكفارة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب - انتهى. (وأنا صائم) جملة حالية من
قوله: " وقعت" فيؤخذ منه إنه لا يشترط في إطلاق اسم المشتق بقاء المعنى
المشتق منه حقيقة لاستحالة كونه صائما مجامعا في حالة واحدة، فعلى هذا قوله وطئت
أي شرعت في الوطء
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، قال فهل
تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: هل تجد إطعام ستين مسكينا قال: لا،
(12/433)
أو أراد جامعت بعد إذ أنا صائم قاله الحافظ (هل تجد رقبة تعتقها) أي تقدر فالمراد الوجود الشرعي ليدخل فيه القدرة بالشراء ونحوه، ويخرج عنه مالك الرقبة المحتاج إليها بطريق معتبر شرعا. وفي رواية لأحمد أتستطيع أن تعتق رقبة (قال) الرجل (لا) أجد رقبة، وفي حديث ابن عمر عند أبي يعلى والطبراني. فقال: والذي بعثك بالحق ما ملكت رقبة قط. واستدل به من أجاز إعتاق الرقبة الكافرة في الكفارة لأجل الإطلاق وهم الحنفية وابن حزم، ومن يشترط الإيمان وهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، يقيد الإطلاق ههنا بالتقييد في كفارة القتل، وهو ينبني على أن السبب إذا اختلف واتحد الحكم، هل يقيد المطلق أم لا؟ وإذا قيد فهل هو بالقياس أم لا؟ والمسألة مشهورة في أصول الفقه. والأقرب أنه إن قيد فبالقياس، ويؤيده التقييد في مواضع أخرى (فهل تستطيع) أي تقوى وتقدر (أن تصوم شهرين متتابعين) وفي رواية للبخاري قال: فصم شهرين متتابعين، وفيه اشتراط التتابع، وعلى هذا جمهور الفقهاء. وقال ابن أبي ليلى: ليس التتابع بلازم في ذلك، والحديث حجة عليه (قال لا) وفي رواية لا أقدر عليه، وللبزار وهل لقيت ما لقيت إلا من الصيام. قال ابن دقيق العيد: لا إشكال في الانتقال عن الصوم إلى الإطعام، لكن رواية البزار هذه افتضت إن عدم استطاعته لشدة شبقه وعدم صبره عن الوقاع، فنشأ للشافعية نظر هل يكون ذلك أي شدة الشبق عذرا، حتى يعد صاحبه غير مستطيع للصوم أو لا؟ والصحيح عندهم اعتبار ذلك. ويلتحق به من يجد رقبة لا غنى به عنها فإنه يسوغ له الانتقال إلى الصوم مع وجودها لكونه في حكم غير الواجد كذا في الفتح (قال هل) وفي البخاري قال فهل (تجد إطعام ستين مسكينا قال لا) وفي رواية فهل تستطيع إطعام وفي أخرى فتطعم ستين مسكينا. قال: لا أجد. ولأحمد أفتستطيع أن تطعم ستين مسكينا قال لا، وذكر الحاجة. وفي حديث ابن عمر قال والذي بعثك بالحق ما أشبع أهلي، والمراد بالمسكين
(12/434)
هنا أعم من الفقير، لأن كلا
منهما حيث أفرد يشمل الآخر. وإنما يفترقان عند اجتماعهما نحو ?إنما الصدقات
للفقراء والمساكين?[التوبة:60] والخلاف في معناهما حينئذ معروف. قال ابن دقيق
العيد: قوله: "إطعام ستين مسكينا، يدل على وجوب إطعام هذ العدد؛ لأنه أضاف
الإطعام الذي هو مصدر أطعم إلى ستين، فلا يكون ذلك موجودا في حق من أطعم عشرين
مسكينا ثلاثة أيام مثلا. ومن أجاز ذلك فكأنه استنبط من النص معنى يعود بالإبطال،
والمشهور عن الحنفية الإجزاء حتى لو أطعم الجميع مسكينا واحدا في ستين يوما كفى.
قال الحافظ: والمراد بالإطعام الإعطاء لا اشتراط حقيقة
........................
(12/435)
الإطعام من وضع المطعوم في الفم. بل يكفي الوضع بين يديه بلا خلاف، وفي إطلاق الإطعام ما يدل على الاكتفاء بوجود الإطعام من غير اشتراط مناولة بخلاف زكاة الفرض، فإن فيها النص على الإيتاء. وصدقة الفطر فإن فيها النص على الأداء، وفي ذكر الإطعام ما يدل على وجود طاعمين فيخرج الطفل الذي لم يطعم كقول الحنفية، ونظر الشافعي إلى النوع فقال: يسلم لوليه وذكر الستين ليفهم أنه لا يجب ما زاد عليها، ومن لم يقل بالمفهوم تمسك بالإجماع على ذلك. والحكمة في هذه الخصال الثلاث في الكفارة على ما ذكر إن من انتهك حرمة الصوم بالجماع فقد أهلك نفسه بالمعصية، فناسب أن يعتق رقبة فيفدى نفسه. وقد صح أن من اعتق رقبة اعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار. وأما الصيام فمناسبته ظاهرة؛ لأنه كالمقاصة بجنس الجناية. وأما كونه شهرين فلأنه لما أمر بمصابرة النفس في حفظ كل يوم من شهر رمضان على الولاء، فلما أفسد منه يوما كان كمن أفسد الشهر كله من حيث أنه عبادة واحدة بالنوع، فكلف بشهرين مضاعفة على سبيل المقابلة لنقيض قصده. وأما الإطعام فمناسبته ظاهرة؛ لأنه مقابلة كل يوم بإطعام مسكين. وفي الحديث دليل على جريان الخصال الثلاث المذكورة، في الكفارة وإليه ذهب جمهور العلماء، واختلفت الرواية عن مالك في ذلك، فالمشهور عنه الجزم في كفارة الجماع في رمضان بالإطعام دون غيره من الصيام والعتق، وعنه يكفر بالأكل بالتخيير، وفي الجماع بالإطعام فقط. وعنه التخيير مطلقا، وفي المدونة. ولا يعرف مالك غير الإطعام ولا يأخذ بعتق ولا صيام. قال ابن دقيق العيد: وهي معضلة لا يهتدي إلى توجيهها مع مصادمة الحديث الثابت غير أن بعض المحققين من أصحابه حمل هذا اللفظ وتأوله على الاستحباب في تقديم الطعام على غيره من الخصال، ووجهوا ترجيح الطعام على غيره بوجوه فذكرها ثم قال: وكل هذه الوجوه لا تقاوم ما ورد في الحديث من تقديم العتق على الصيام، ثم الإطعام سواء،
(12/436)
قلنا الكفارة على الترتيب أو
التخيير فإن هذه البداءة إن لم تقتض وجوب الترتيب فلا أقل من أن تقتضي استحبابه،
واحتج لمالك أيضا بأن حديث عائشة لم يقع فيه سوى الإطعام، وجوابه أنه اختصار من
بعض الرواة، وقد ورد فيه من وجه آخر ذكر العتيق أيضا، ووقع في حديث أبي هريرة ذكر
العتق وصيام شهرين أيضا، والقصة واحدة. ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. ومن المالكية
من وافق على هذا الاستحباب، ومنهم من قال إن الكفارة تختلف باختلاف الأوقات، ففي
وقت الشدة تكون بالإطعام، وفي غيرها تكون بالعتق والصوم، ونقلوه عن محققي
المتأخرين. ومنهم من قال الإفطار بالجماع يكفر بالخصال الثلاث وبغيره لا يكفر إلا
بالإطعام وهو قول أبي مصعب. وقال ابن جرير الطبري: هو مخير بين العتيق والصوم، ولا
يطعم إلا عند العجز عنهما. وفي الحديث أنه لا مدخل لغير هذه الثلاث في الكفارة
وجاء عن بعض المتقدمين إهداء البدنة عند تعذر الرقبة، وربما أيده بعضهم بإلحاق
إفساد
قال "أجلس" ومكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن على ذلك، أتى
النبي صلى الله عليه وسلم
(12/437)
الصيام بإفساد الحج. وورد ذكر البدنة في مرسل سعيد بن المسيب عند مالك في الموطأ وهو مع إرساله قد رده سعيد بن المسيب، وكذب من نقله عنه كما روى سعيد بن منصور. ورواه ابن عبدالبر من طريق مجاهد عن أبي هريرة موصولا، لكنه من رواية ليث بن أبي سليم عن مجاهد، وليث ضعيف، وقد اضطرب في روايته سندا ومتنا فلا حجة فيه. واختلف في أن الكفارة بالخصال الثلاث على الترتيب أو على التخيير، والمراد بالترتيب أن لا ينتقل المكلف إلى المؤخر في الذكر إلا بعد العجز عن الذي قبله، وبالتخيير أن يفعل منها ما شاء ابتداء من غير عجز، فذهب مالك إلى أنها على التخيير. وقال الشافعي وأحمد وأبوحنيفة: هي مرتبة فالعتق أولا، فإن لم يجد فالصيام، فإن لم يستطع فالإطعام، واحتجوا بحديث الباب. قال ابن العربي: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نقله من أمر بعد عدمه لأمر آخر، وليس هذا شأن التخيير، ونازع عياض في ظهور دلالة الترتيب في السؤال عن ذلك. فقال: إن مثل هذا السؤال قد يستعمل فيما هو على التخيير، وقرره ابن المنير بأن شخصا لو حنث فاستفتى. فقال المفتى: أعتق رقبة فقال: لا أجد فقال: صم ثلاثة أيام إلى آخره، لم يكن مخالفا لحقيقة التخيير بل يحمل على أن إرشاده إلى العتق لكونه أقرب لتنجيز الكفارة. وقال البيضاوي: ترتيب الثاني بالفاء على فقد الأول، ثم الثالث بالفاء على فقد الثاني، يدل على عدم التخيير مع كونها في معرض البيان، وجواب السؤال فينزل منزلة الشرط للحكم. قال الحافظ: وسلك الجمهور في ذلك مسلك الترجيح، بأن الذين رووا الترتيب عن الزهري أكثر ممن روى التخيير فإن الذين رووا الترتيب عنه هم تمام ثلاثين نفسا أو أزيد، ورجح الترتيب أيضا بأن راويه حكى لفظ القصة على وجهها فمعه زيادة علم من صورة الواقعة، وراوي التخيير حكى لفظ راوي الحديث، فدل على أنه من تصرف بعض الرواة، إما لقصد الاختصار أو لغير ذلك، ويترجح الترتيب أيضا بأنه أحوط
(12/438)
لأن الأخذ به مجزيء سواء قلنا
بالتخيير أولا بخلاف العكس. وقيل: أو في الرواية الأخرى ليست للتخيير، وإنما هي
للتفسير والتقدير أمر رجلا أن يعتق رقبة أو يصوم إن عجز عن العتق أو يطعم إن عجز
عنهما (قال: إجلس) قيل: إنما أمره بالجلوس لانتظار الوحي في حقه أو كان عرف أنه
سيؤتي بشيء يعينه به (ومكث) بضم الكاف وفتحها (النبي - صلى الله عليه وسلم -) لفظ
البخاري في هذه الرواية التي ساقها في الصيام في باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له
شيء فتصدق عليه فليكفر قال (أي أبوهريرة) فمكث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي
بعض النسخ فمكث عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية ابن عيينة عند
البخاري في النذور. قال: اجلس فجلس، فجمع المصنف هنا بين الروايتين تقليدا لما في
جامع الأصول للجزري (ج7 ص278) (فبينا) بغير ميم (نحن على ذلك) أي ما ذكر من الجلوس
والمكث وجواب بينا قوله (أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -) بضم الهمزة مبنيا
للمفعول ولم يسم الآتي وعند البخاري في
بعرق فيه تمر- والعرق: المكتل الضخم-
(12/439)
الكفارات فجاء رجل من الأنصار (بعرق) بفتح العين والراء بعدها قاف. قال ابن التين: كذا لأكثر الرواة، وفي رواية أبي الحسن القابسي بإسكان الراء. قال عياض: والصواب الفتح. وقال ابن التين: أنكر بعضهم الإسكان لأن الذي بالإسكان هو العظم الذي عليه اللحم. قال الحافظ: إن كان الإنكار من جهة الاشتراك مع العظم فلينكر الفتح؛ لأنه يشترك مع الماء يتحلب من الجسد، نعم الراجح من حيث الرواية الفتح، ومن حيث اللغة أيضا، إلا أن الإسكان ليس بمنكر، بل أثبته بعض أهل اللغة كالقزاز - انتهى. قال الجزري في جامع الأصول (ج7 ص547) العرق بفتح الراء خوص منسوج مضفور يعمل منه الزنبيل عرقا فسمي الزنبيل؛ لأنه يعمل منه (فيه تمر) أي من تمر الصدقة ويروي فيها بالتأنيث على معنى القفة. قال عياض: المكتل والقفة والزنبيل سواء (والعرق المكتل) بكسر الميم وسكون الكاف وفتح المثناة بعدها لام الزنبيل الكبير (الضخم) بفتح الضاد وسكون الخاء أي العظيم وهذا لفظ البخاري في النذور. ووقع في الصيام في هذه الرواية، والعرق المكتل، أي بحذف لفظ الضخم، وههنا أيضا تقلد المصنف الجزري. قال الحافظ: وهو تفسير من أحد رواته وظاهر هذا الرواية إنه الصحابي لكن في رواية ابن عيينة ما يشعر بأنه الزهري، وفي رواية فأتى بمكتل يدعى العرق، وفي أخرى فأتى بعرق فيه تمر، وهو الزبيل، ولأحمد فأتى بزبيل وهو المكتل. قال الأخفش: سمي المكتل عرقا لأنه يضفر عرقه عرقة، فالعرق جمع عرقة كعلق وعلقه، والعرقة الضفيرة من الخوص، بضم الخاء ورق النخل. والزبيل بوزن رغيف هو المكتل سمي زبيلا لحمل الزبل فيه. وفيه لغة أخرى زنبيل بكسر الزاي أوله وزيادة نون ساكنة. وقد تدغم النون فتشدد الباء مع بقاء وزنه، وجمعه على اللغات الثلاث زنابيل قال الحافظ: ووقع في بعض طرق حديث عائشة عند مسلم فجاءه عرقان، والمشهور في غيرها عرق، ورجحه البيهقي (في السنن ج4 ص225) وجمع غيره بينهما بتعدد الواقعة وهو
(12/440)
جمع لا نرضاه لاتحاد مخرج
الحديث، والأصل عدد التعدد. والذي يظهر أن التمر كان قدر عرق، لكنه كان في عرقين
في حال التحميل على الدابة ليكون أسهل في الحمل فيتحمل أن الآتي به لما وصل أفرغ
أحدهما في الآخر فمن قال عرقان أراد ابتداء الحال: ومن قال عرق أراد ما آل إليه
والله أعلم. قال ولم يعين في هذه الرواية مقدار ما في المكتل من التمر بل ولا في
شيء من طرق الصحيحين في حديث أبي هريرة، ووقع في رواية ابن أبي حفصة (عند أحمد ج2
ص516) والدارقطني (ص252) والبيهقي (ج4 ص222) فيه خمسة عشر صاعا، وفي رواية مؤمل عن
سفيان فيه خمسة عشر أو نحو ذلك، وفي رواية مهران بن أبي عمر عن الثوري عند ابن
خزيمة فيه خمسة عشر أو عشرون، وكذا هو عند مالك وعبدالرزاق في مرسل سعيد بن
المسيب، وفي مرسله عند
قال: أين السائل؟
(12/441)
الدارقطني الجزم بعشرين صاعا. ووقع في حديث عائشة عند ابن خزيمة (والبيهقي ج4 ص223) فأتى بعرق فيه عشرون صاعا. قال البيهقي: قوله: عشرون صاعا بلاغ بلغ به محمد بن جعفر يعني بعض رواته وقد بين ذلك محمد بن إسحاق عنه فذكر الحديث، وقال في آخره قال محمد بن جعفر: فحدثت بعد أن تلك الصدقة كانت عشرين صاعا من تمر قلت (قائله الحافظ) ووقع في مرسل عطاء بن أبي رباح وغيره عند مسدد فأمر له ببعضه، وهذا يجمع الروايات فمن قال أنه كان عشرين أراد أصل ما كان فيه، ومن قال خمسة عشر أراد ما تقع به الكفارة ويبين ذلك حديث على عند الدارقطني (ص251) تطعم ستين مسكينا لكل مسكين مد. وفيه فأتى بخمسة عشر صاعا فقال أطعمه ستين مسكينا، وكذا في رواية حجاج عن الزهري عند الدارقطني (ص242) والبيهقي (ج4 ص226) في حديث أبي هريرة. وفيه رد على الكوفيين (أي أبوحنيفة وأصحابه) في قولهم إن واجبه من القمح ثلاثون صاعا ومن غيره ستون صاعا، ولقول عطاء إن أفطر بالأكل أطعم عشرين صاعا أو بالجماع أطعم خمسة عشر وعلى أشهب في قوله لو غداهم أو عشاهم كفى لصدق الإطعام ولقول الحسن يطعم أربعين مسكينا عشرين صاعا - انتهى. واحتج الكوفيون بما وقع في بعض طرق حديث عائشة عند مسلم والبيهقي (ج4 ص224) فجاءه عرقان فيهما طعام فأمره أن يتصدق به فإن العرق إذا كان خمسة عشر صاعا، فالعرقان ثلاثون صاعا على ستين مسكينا لكل مسكين نصف صاع، وتعقبه العيني فقال ليت شعري كيف فيه رد على الكوفيين. وهم قد احتجوا بما رواه مسلم فجاءه عرقان فيهما طعام وقد ذكرنا أن العرقيين يكون ثلاثين صاعا فيعطى لكل مسكين نصف صاع بل الرد على أئمتهم حيث احتجوا فيما ذهبوا إليه بالروايات المضطربة وفي بعضها الشك فالعجب أنه يرد على الكوفيين مع علمه إن احتجاجهم قوي صحيح – انتهى. قال صاحب فتح الملهم، بعد ذكره قلت: والإنصاف إن الاحتجاج بحديث العرقيين يتوقف على إثبات إن المراد بلفظ:
(12/442)
الطعام الوارد فيه القمح وهو
غير ظاهر بل الظاهر أنه التمر، كما صرح به في حديث أبي هريرة ولا يكفي منه ثلاثون
صاعا عند الكوفيين أيضا اللهم إلا أن يقال بتعدد القصة في حديثي أبي هريرة وعائشة،
نعم وقع في قصة المظاهر عند أبوداود قوله - صلى الله عليه وسلم -: فأطعم وسقا من
تمر بين ستين مسكينا والوسق ستون صاعا وكفارة الظهار هي كفارة الصوم، فبهذا ينتهض
الاستدلال للكوفيين والله تعالى أعلم - انتهى. قلت: دعوى التعدد مخدوشة لكونها
خلاف الظاهر والأصل. وأما رواية أبي داود في قصة المظاهر ففي إسنادها محمد بن
إسحاق وقد عنعن وفيه أيضا سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر. قال البخاري: هو مرسل
سليمان بن يسار لم يدرك سلمة بن صخر ودعوى الاضطراب في حديث أبي هريرة مدفوعة كما
رأيت في كلام الحافظ (أين السائل) أطلق عليه ذلك لأن كلامه متضمن للسؤال فإن مراده
هلكت فما ينجيني وما
قال: أنا، قال: خذ هذا فتصدق به،
(12/443)
يخلصني مثلا وفي حديث عائشة أين المحترق وقد سبق توجيهه (قال أنا) أي أنا هو أو أنا السائل (خذ هذا فتصدق به) أي بالتمر الذي فيه على المساكين. وفيه دليل لما ذهب إليه الجمهور من أن الإعسار لا يسقط الكفارة وسيأتي الكلام في هذه المسألة. قال الحافظ: وزاد ابن إسحاق (عند البزار) فتصدق به عن نفسك ويؤيده رواية منصور في الصيام عند البخاري بلفظ: أطعم هذا عنك ونحوه في مرسل سعيد بن المسيب عند الدارقطني. واستدل بأفراده بذلك على أن الكفارة عليه وحده دون الموطوءة، وكذا قوله في المراجعة هل تستطيع وهل تجد وغير ذلك وهو الأصح من قولي الشافعية وبه قال الأوزاعي. وقال الجمهور: (مالك وأبوحنيفة وأحمد في الروايتين عنه) وأبوثور وابن المنذر تجب الكفارة على المرأة أيضا على الاختلاف وتفاصيل لهم في الحرة والأمة والمطاوعة والمكرهة وهل هي عليها أو على الرجل عنها واستدل الشافعية بسكوته عليه الصلاة والسلام عن إعلام المرأة بوجوب الكفارة مع الحاجة. وأجيب بمنع وجود الحاجة إذ ذاك؛ لأنها لم تعترف ولم تسأل، واعتراف الزوج عليها لا يوجب عليها حكما ما لم تعترف وبأنها قضية حال فالسكوت عنها لا يدل على الحكم لاحتمال أن تكون المرأة لم تكن صائمة لعذر من الأعذار. ثم إن بيان الحكم للرجل بيان في حقها لاشتراكهما في تحريم الفطر وانتهاك حرمة الصوم كما لم يأمره بالغسل والتنصيص على الحكم في حق بعض المكلفين كاف عن ذكره في حق الباقين، ويحتمل أن يكون سبب السكوت عن حكم المرأة ما عرفه من كلام زوجها بأنها لا قدرة لها على شيء - انتهى كلام الحافظ. وبنحو هذا ذكر ابن دقيق العيد (ج2 ص219- 220) وقال الخطابي (ج2 ص117) في أمره الرجل بالكفارة لما كان منه من الجناية دليل على أن على المرأة كفارة مثلها، لأن الشريعة قد سوت بين الناس في الأحكام إلا في مواضع قام عليها دليل التخصيص وإذا لزمها القضاء؛ لأنها أفطرت بجماع متعمد كما وجب على الرجل وجبت
(12/444)
عليها الكفارة لهذه العلة
كالرجل سواء وهذا مذهب أكثر العلماء. وقال الشافعي: يجزيهما كفارة واحدة وهي على
الرجل دونها وكذلك قال الأوزاعي إلا أنه قال: إن كانت الكفارة بالصيام كان على كل
واحد منهما صوم شهرين واحتجوا بأن قول الرجل أصبت أهلي سؤال عن حكمه وحكمها؛ لأن
الإصابة معناها إنه واقعها وجامعها وإذا كان هذا الفعل قد حصل منه، ومنه معا. ثم
أجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المسألة فأوجب فيها كفارة واحدة على الرجل
ولم يعرض لها بذكر دل على أنه لا شيء عليها وإنها مجزئة في الأمرين معا ألا ترى
أنه بعث أنيسا إلى المرأة التي رميت بالزنا وقال إن اعترفت فارجمها فلم يهمل حكمها
لغيبتها عن حضرته. فدل هذا على أنه لو رأى عليها كفارة لألزمها ذلك ولم يسكت عنها
قلت (قائله الخطابي) وهذا غير لازم
...................
(12/445)
لأن هذا حكاية حال لا عموم لها وقد يمكن أن تكون المرأة مفطرة بعد زمن مرض أو سفر أو تكون مكرهة أو ناسية لصومها أو نحو ذلك من الأمور وإذا كان كذلك لم يكن ما ذكروه حجة يلزم الحكم بها. واحتجوا أيضا في هذا بحرف يروونه في هذا الحديث وهو قوله: هلكت وأهلكت، قالوا: دل قوله: "وأهلكت" على مشاركة المرأة إياه في الجناية لأن الإهلاك يقتضي الهلاك ضرورة، كما أن القطع يقتضي الانقطاع قلت (قائله الخطابي) وهذه اللفظة غير محفوظة والمعلى بن منصور الذي روى هذا الحديث بهذا الحرف ليس بذاك في الحفظ والإتقان - انتهى. قلت: حكى العيني (ج11 ص30) عن شيخه العراقي أنه قال وردت هذه اللفظة مسندة من طرق ثلاثة. أحدها، ذكره الخطابي وقد رواها الدارقطني (ص251) من رواية أبي ثور. قال حدثنا معلى بن منصور حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري فذكره. قال الدارقطني: تفرد به أبوثور عن معلى بن منصور عن ابن عيينة بقوله "وأهلكت" وكلهم ثقات. الطريق الثاني، من رواية الأوزاعي عن الزهري، وقد رواها البيهقي بسنده (ج4 ص227) ثم نقل عن الحاكم إنه ضعف هذه اللفظة وحملها على أنها أدخلت على محمد بن المسيب الأرغياني، ثم استدل على ذلك. والطريق الثالث، من رواية عقيل عن الزهري رواها الدارقطني في غير السنن، قال حدثنا النيسابوري حدثنا محمد بن عزيز حدثني سلامه بن روح عن عقيل عن الزهري فذكره، وقد تكلم في سماع محمد بن عزيز من سلامة، وفي سماع سلامة من عقيل وتكلم فيهما. ثم ذكر الكلام فيهما، ثم قال وأجود طرق هذه اللفظة طريق المعلى بن منصور على أن المعلى بن منصور على أن المعلى وإن اتفق الشيخان على إخراج حديثه فقد تركه أحمد. وقال لم أكتب عنه كان يحدث بما وافق الرأي، وكان كل يوم يخطىء في حديثين أو ثلاثة - انتهى. قلت: معلى بن منصور هذا وثقة ابن معين والعجلي ويعقوب بن شيبة وابن سعد لكن قال اختلف فيه أصحاب الحديث فمنهم من يروي عنه. ومنهم من لا يروي عنه. وقال
(12/446)
أبوحاتم الرازي: كان صدوقا في
الحديث. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به لأني لم أجد له حديثا منكرا وذكره ابن
حبان في الثقات، وروى له البخاري حديثين. وأما محمد بن عزيز فضعفه النسائي مرة،
وقال مرة: لا بأس به، ووثقه العقيلي وسعيد بن عثمان ومسلمة. وقال أبوأحمد الحاكم.
فيه نظر. وقال الذهبي: صدوق إنشاء الله. وقال الحافظ في التقريب: فيه ضعف، وقد
تكلموا في صحة سماعة من عمه سلامة - انتهى. وأما سلامة فقال أبوزرعة: ضعيف منكر
الحديث يكتب حديثه على الاعتبار. وقال أبوحاتم: ليس بالقوى محله عندي محل الغفلة.
وقال ابن قانع: ضعيف. وقال مسلمة بن قاسم: لا بأس به. وذكره ابن حبان في الثقات،
وقال مستقيم الحديث. وقال في التقريب: صدوق له أوهام. وقيل لم يسمع من عمه عقيل،
وإنما يحدث من كتبه - انتهى. وقال الحافظ في الفتح لا يلزم من قوله
"وأهلكت" إيجاب الكفارة على المرأة
فقال الرجل: أعلي أفقر مني يا رسول الله! فوالله، ما بين لابيتها- يريد الحرتين-
أهل بيت أفقر من أهل بيتي،
(12/447)
بل يحتمل أن يريد بقوله "هلكت" أثمت وأهلكت أي كنت سببا في تأثيم من طاوعتني فواقعتها إذ لا ريب في حصول الإثم على المطاوعة ولا يلزم من ذلك إثبات الكفارة ولا نفيها أو المعنى هلكت، أي حيث وقعت في شيء لا أقدر على كفارته "وأهلكت" أي نفسي بفعل الذي جر علي الإثم، وهذا كله بعد ثبوت الزيادة المذكورة وقد ذكر البيهقي إن للحاكم في بطلانها ثلاثة أجزاء، ومحصل القول فيها إنها وردت من طريق الأوزاعي، ومن طريق ابن عيينة. أما الأوزاعي فتفرد بها محمد بن المسيب عن عبدالسلام بن عبدالحميد عن عمر بن عبدالواحد والوليد ابن مسلم وعن محمد بن عقبة بن علقمة عن أبيه ثلاثتهم عن الأوزاعي. قال البيهقي: رواه جميع أصحاب الأوزاعي بدونها وكذلك جميع الرواة عن الوليد وعقبة وعمرو محمد بن المسيب كان حافظا مكثرا إلا أنه كان في آخر أمره عمي فلعل هذه اللفظة أدخلت عليه وقد رواه أبوعلي النيسابوري عنه بدونها، ويدل على بطلانها ما رواه العباس بن الوليد عن أبيه. قال سئل عن رجل جامع امرأته في رمضان قال: عليهما كفارة واحدة إلا الصيام. قيل له فإن استكرهها قال: عليه الصيام وحده. وأما ابن عيينة فتفرد بها أبوثور عن معلى بن منصور عنه. قال الخطابي: المعلى ليس بذاك الحافظ، وتعقبه ابن الجوزي بأنه لا يعرف أحد طعن في المعلى، وغفل عن قول الإمام أحمد أنه كان يخطىء كل يوم في حديثين أو ثلاثة فلعله حدث من حفظه بهذا فوهم. وقد قال الحاكم: وقفت على كتاب الصيام للمعلى بحظ موثوق به وليست هذه اللفظة فيه، وزعم ابن الجوزي إن الدارقطني أخرجه من طريق عقيل أيضا وهو غلط منه، فإن الدارقطني لم يخرج طريق عقيل في السنن، وقد ساقه في العلل بالإسناد الذي ذكره عنه ابن الجوزي بدونها - انتهى. كلام الحافظ. وراجع السنن الكبرى للبيهقي (ج4 ص227) مع الجوهر النقي (أعلى أفقر مني) بهمزة الاستفهام والمجرور متعلق بمحذوف، أي أأتصدق على شخص أكثر حاجة مني. وقال الشيخ
(12/448)
زكريا الأنصاري في شرح
البخاري: هو بتقدير همزة الاستفهام التعجبي الداخلة على فعل حذف للعلم به من قوله
"فتصدق به" قال الحافظ: وهذا يشعر بأنه فهم الإذن له في التصدق على من
يتصف بالفقر وقد بين ابن عمر في حديثه ذلك فزاد فيه إلى من ادفعه قال إلى أفقر من
تعلم أخرجه البزار والطبراني في الأوسط. وفي رواية إبراهيم بن سعد أعلى أفقر من
أهلي ولابن مسافر عند الطحاوي أعلى أهل بيت أفقر مني، ولمنصور أعلى أحوج منا (ما
بين لابيتها) بغير همزة تثنية لابة، بالباء الموحدة المفتوحة، ثم التاء المثناة من
فوق، والضمير للمدينة. قال الجزري في جامع الأصول (ج7 ص547) اللابة، الأرض ذات
الحجارة السود الكثيرة، وهي الحرة ولابتا المدينة حرتاها من جانبيها - انتهى.
(يريد) أي الرجل باللابتين وهذا من كلام بعض رواته (الحرتين) بفتح الحاء المهملة
وتشديد الراء تثنية حرة وهي الأرض ذات الحجارة السود، والمدينة بين حرتين (أهل بيت
أفقر من أهل بيتي) برفع أهل اسم "ما"
فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك)).
(12/449)
النافية وأفقر بالنصب على أنه خبرها إن أجعلت "ما" حجازية، وبالرفع إن جعلتها تميمية قاله الزركشي وغيره. وقال البدر الدماميني: وكذا إن جعلتها حجازية ملغاة من عمل النصب بناء على أن قوله "ما بين لابيتها" خير مقدم، وأهل بيت مبتدأ مؤخر، وأفقر صفة له، وفي رواية عقيل: ما أحد أحق به من أهلي ما أحد أحوج إليه مني، وفي مرسل سعيد: والله ما لعيالي من طعام، وفي حديث عائشة عند ابن خزيمة: ما لنا عشاء ليلة (فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت) أي ظهرت (أنيابه) جمع ناب، وهو السن الذي بعد الرباعية، وهي أربعة. وفي رواية ابن إسحاق حتى بدت نواجذه. قيل: إن ضحكة - صلى الله عليه وسلم - كان تعجبا من تباين حال الرجال حيث جاء خائفا على نفسه، راغبا في فداءهما مهما أمكنه، فلما وجد الرخصة طمع في أن يأكل ما أعطيه من الكفارة. وقيل: ضحك من حال الرجل في مقاطع كلامه وحسن تأنيه وتلطفه في الخطاب، وحسن توسله في توصله إلى مقصوده. قيل: وقد يكون من رحمة الله تعالى وتوسعة عليه وإطعامه له هذا الطعام، وإحلاله له بعد أن كلف إخراجه، والضحك، غير التبسم. وقد ورد إن ضحكه كان تبسما أي في غالب أحواله (أطعمه) أي ما في العرق من التمر (أهلك) أي من تلزمك نفقته أو مطلق أقاربك، ولابن عيينة عند البخاري في الكفارات أطعمه عيالك، ولأبي قرة عن ابن جريج ثم قال كله. ولابن إسحاق خذها وكلها وأنفقها على عيالك، ونحوه في رواية عبدالجبار ابن عمر وحجاج بن أرطاة وهشام بن سعد كلهم عن الزهري عند البيهقي (ج4 ص226) وغيره. واستدل به على سقوط الكفارة عن المعسر وهو أحد قولي الشافعية وإحدى الروايتين عن أحمد وبه جزم عيسى بن دينار من المالكية وهو قول الأوزاعي. قال ابن قدامة (ج3 ص132) وإن عجز عن العتق والصيام والإطعام سقطت الكفارة عنه في إحدى الروايتين (عن أحمد) بدليل إن الأعرابي لما دفع إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - التمر وأخبره بحاجته إليه
(12/450)
قال أطعمه أهلك ولم يأمره
بكفارة أخرى، وهذا قول الأوزاعي. وقال الزهري: لابد من التكفير وهذا خاص لذلك
الأعرابي لا يتعداه بدليل أنه أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعساره قبل أن
يدفع إليه العرق، ولم يسقط عنه؛ ولأنها كفارة واجبة فلم تسقط بالعجز عنها كسائر
الكفارات، وهذا رواية ثانية عن أحمد، وهو قياس قول أبي حنيفة والثوري وأبي ثور وعن
الشافعي كالمذهبين. ولنا الحديث المذكور ودعوى التخصيص لا تسمع بغير دليل، وقولهم
إنه أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعجزه فلم يسقطها، قلنا قد أسقطها عنه بعد
ذلك وهذا آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يصح القياس على
سائر الكفارات. لأنه إطراح للنص بالقياس والنص أولى - انتهى. قلت آخر الحديث ليس
نصا في إسقاط الكفارة عند الإعسار بل هو محتمل لوجوه أخرى كما سيأتي، وأول
......................
(12/451)
الحديث نص في عدم سقوط الكفارة بالإعسار فلا يترك بالمحتمل. وقال ابن دقيق العيد (ج2 ص218) تباينت المذاهب فيه أي في قوله أطعمه أهلك. فقيل: إنه دليل على سقوط الكفارة بالإعسار المقارن لسبب وجوبها؛ لأن الكفارة لا تصرف إلى النفس ولا إلى العيال ولم يبين النبي - صلى الله عليه وسلم - استقرارها في ذمته إلى حين يساره ويتأيد ذلك بصدقة الفطر حيث تسقط بالإعسار المقارن بسبب وجوبها وهو هلال الفطر لكن الفرق بينهما إن صدقة الفطر لها أمد تنتهي إليه، وكفارة الجماع لا أمد لها فتستقر في الذمة. وليس في الخبر ما يدل على إسقاطها بل فيه ما يدل على استمرارها على العاجز. وقيل لا تسقط الكفارة بالإعسار المقارن وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والصحيح من مذهب الشافعي أيضا، وبعد قول بهذا المذهب. ففيه طريقان، أحدهما منع أن لا تكون الكفارة أخرجت في هذه الواقعة، يعني إن الذي أذن له في التصرف فيه كان على سبيل الكفارة. ثم اختلفوا فقال بعضهم: هذا خاص بهذا الرجل أي كونه أكله من صدقة نفسه وإطعام أهله منها مجزئا عن كفارته مخصوص بهذا الرجل لا يتعداه. ورد بأن الأصل عدم الخصوصية. وقال بعضهم: هو منسوخ وهذا أيضا مردود. لأنه لا دليل على النسخ. وقال بعضهم: المراد بالأهل الذين أمر بصرفها إليهم من لا تلزمه نفقته من أقاربه، وضعف بالرواية التي فيها عيالك. وبالرواية المصرحة بالإذن له في الأكل من ذلك. وقال بعضهم: لما كان فقيرا عاجزا لا يجب عليه النفقة لغيره وكان أهله فقراء أيضا جاز أعطاء الكفارة عن نفسه لهم. وقد جوز بعض الشافعية لمن لزمته الكفارة مع الفقر أن يصرفها إلى أهله وأولاده. وضعف أيضا بالرواية التي فيها تصريح بالإذن له في الأكل من ذلك. الطريق الثاني، وهو الأقرب الأقوى أن يجعل إعطاءه إياها لا على جهة الكفارة بل على جهة التصدق عليه وعلى أهله بتلك الصدقة لما ظهر من حاجتهم. وأما الكفارة فلم تسقط بذلك ولكن ليس استقرارها في
(12/452)
ذمته مأخوذا من هذا الحديث.
وأما ما اعتلوا به من تأخير البيان فلا دلالة فيه لأن العلم بالوجوب قد تقدم، ولم
يرد في الحديث ما يدل على الإسقاط، لأنه لما أخبره بعجزه ثم أمره بإخراج العرق دل
على أن لا سقوط عن العاجز ولعله أخر البيان إلى وقت الحاجة: وهو القدرة كذا في
الفتح. وقد ورد ما يدل على إسقاط الكفارة أو على أجزاءها عنه بإنفاقه إياها على
عياله وهو قوله في حديث علي، وكله أنت وعيالك فقد كفر الله عنك، ولكنه حديث ضعيف
لا يحتج بما انفرد به. قال القسطلاني: ولابن إسحاق خذها وكلها وأنفقها على عيالك
أي لا عن الكفارة بل هو تمليك مطلق بالنسبة إليه وإلى عياله وأخذهم إياه بصفة
الفقر، وذلك لأنه لما عجز عن العتق لإعساره وعن الصيام لضعفه، فلما حضر ما يتصدق
به ذكر أنه وعياله محتاجون فتصدق به عليه الصلاة والسلام عليه، وأذن له في أكله
وإطعام عياله وكان من مال الصدقة. وبقيت الكفارة في ذمته - انتهى. وحكى عن الشعبي
والنخعي وسعيد
متفق عليه.
(12/453)
ابن جبير أن الكفارة غير واجبة أصلا لا على موسر ولا معسر. قالوا: لأنه أباح له أن يأكل منها ولو كانت واجبة لما جاز ذلك وهو استدلال غير ناهض، لأن الحديث ظاهر في الوجوب وإباحة الأكل لا تدل على أنها كفارة، بل فيها الاحتمالات التي سلفت. وأعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره في هذه الرواية بقضاء اليوم الذي جامع فيه إلا أنه ورد الأمر بالقضاء في حديث أبي هريرة عند أبي داود والبيهقي والدارقطني وفي حديث عمرو بن شعيب عند البيهقي وابن أبي شيبة، وإليه ذهب أكثر العلماء. قال الزرقاني: إيجاب الكفارة القضاء مع الكفارة هو قول الأئمة الأربعة والجمهور، وأسقطه بعضهم. لأنه لم يرد في خبر أبي هريرة ولا خبر عائشة ولا في نقل الحفاظ لهما ذكر القضاء. وأجيب بأنه جاء من طرق يعرف بمجموعها إن لهذه الزيادة أصلا يصلح للاحتجاج وعن الأوزاعي إن كفر بعتق أو إطعام قضى اليوم، وإن صام شهرين دخل فيهما قضاء ذلك اليوم - انتهى. وقال الحافظ في الفتح: استدل بالحديث على سقوط قضاء اليوم الذي أفسده المجامع إكتفاء بالكفارة إذ لم يقع التصريح في الصحيحين بقضاءه وهو محكى في مذهب الشافعي. وعن الأوزاعي يقضي إن كفر بغير الصوم وهو وجه للشافعية أيضا. قال ابن العربي: إسقاط القضاء لا يشبه منصب الشافعي إذ لا كلام في القضاء لكونه أفسد العبادة. وأما الكفارة فإنما هي لما اقترف من الإثم. قال: وأما كلام الأوزاعي فليس بشيء. قال الحافظ: وقد ورد الأمر بالقضاء في هذا الحديث في رواية أبي أويس وعبدالجبار بن عمر وهشام بن سعد كلهم عن الزهري (عند البيهقي ج4 ص226) وأخرجه البيهقي من طريق إبراهيم بن سعد عن الليث عن الزهري. وحديث إبراهيم بن سعد في الصحيح عن الزهري نفسه بغير هذه الزيادة، وحديث الليث عن الزهري في الصحيحين بدونها، ووقعت الزيادة أيضا في مرسل سعيد بن المسيب ونافع ابن جبير، والحسن ومحمد بن كعب. وبمجموع هذه الطرق يعرف أن لهذه الزيادة
(12/454)
أصلا. ويؤخذ من قوله صم يوما
عدم اشتراط الفورية للتنكير في قوله يوما - انتهى. وهذا الخلاف في الرجل، فأما
المرأة فيجب عليها القضاء من غير خلاف عندهم. وأعلم أن هذا الحديث جليل كثير
الفوائد. قال الحافظ في الفتح: قد اعتنى بعض المتأخرين ممن أدركه شيوخنا بهذا
الحديث فتكلم عليه في مجلدين جمع فيهما ألف فائدة وفائدة - انتهى. وما ذكرناه فيه
كفاية (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق
عليه فليكفر من كتاب الصيام إلا قوله إجلس وقوله الضخم. وقد سبق التنبيه على هذا،
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الهبة والنفقات والأدب والنذور والمحاربين، وأخرجه أيضا
أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي في الكبرى وابن ماجه والدارمي والدارقطني وابن
خزيمة وأبوعوانة والبيهقي والطحاوي والبزار وغيرهم.
?الفصل الثاني?
2025-(7) عن عائشة، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم، ويمص
لسانها)). رواه أبوداود.
(12/455)
2025- قوله: (كان يقبلها وهو صائم) أي في رمضان وغيره (ويمص) بفتح الميم ويجوز ضمه (لسانها) قال ميرك: قيل إن ابتلاع ريق الغير يفطر إجماعا، وأجيب على تقدير صحة الحديث إنه واقعة حال فعلية محتملة أنه عليه الصلاة والسلام كان يبصقه ولا يبتلعه وكان يمصه ويلقي جميع ما في فمه في فمها، والواقعة فعلية إذا احتملت لا دليل فيها - انتهى. قال القاري: ولا يخفى أن الوجه الثاني مع بعده إنما يتصور فيما إذا كانت غير صائمة - انتهى. وقال الحافظ في الفتح: إسناده ضعيف ولو صح فهو محمول على من يبتلع ريقه الذي خالط ريقها والله أعلم. وقال في فتح الودود: إن صح يحمل على غير حالة الصوم (إذ ليس فيه تصريح بأنه كان يفعل ذلك وهو صائم) أو على أنه يخرج ذلك الريق. قال ابن قدامة (ج3 ص106- 107) إن بلع ريق غيره أفطر. وأما حديث عائشة إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبلها وهو صائم، ويمص لسانها. فقد روى عن أبي داود أنه قال، هذا إسناد ليس بصحيح، ويجوز أنه كان يقبل في الصوم ويمص لسانها في غيره ويجوز أن يمصه ثم لا يبتلعه، ولأنه لم يتحقق إنفصال ما على لسانها من البلل إلى فمه فأشبه ما لوترك حصاة مبلولة في فيه أو لو تمضمض بماء ثم مجه (رواه أبوداود) قال الحافظ في الفتح: رواه أبوداود وحده وإسناده ضعيف. وقال في تهذيب التهذيب: (ج9 ص156) قال النسائي: في حديث عائشة كان يقبلها ويمص لسانها هذه اللفظة لا توجد إلا في رواية محمد بن دينار - انتهى. والحديث عند أحمد وأبي داود - انتهى كلام الحافظ. وكتب على هامش عون المعبود (ج2 ص285) إنه وجدت العبارة الآتية بعد هذا الحديث في نسخة "قال ابن الأعرابي: بلغني عن أبي داود أنه قال هذا الإسناد ليس بصحيح" وقال المنذري: في إسناده محمد بن دينار الطاحي البصري. قال يحيى بن معين: ضعيف. وفي رواية ليس به بأس ولم يكن له كتاب. وقال غيره صدوق. وقال ابن عدي: قوله يمص لسانها في المتن لا يقوله إلا محمد بن
(12/456)
دينار وهو الذي رواه وفي
إسناده أيضا سعد بن أوس. قال ابن معين: بصري ضعيف - انتهى. قلت: محمد بن دينار
هذا. قال في التقريب ترجمته: إنه صدوق سيء الحفظ رمى بالقدر وتغير قبل موته. وأما
سعد بن أوس وهو العدوي، ويقال العبدي البصري فذكره ابن حبان في الثقات. وقال
الساجي: صدوق، ذكره في تهذيب التهذيب. وقال في التقريب: صدوق. له أغاليط والحديث
أخرجه أيضا البيهقي (ج4 ص234).
2026-(89 وعن أبي هريرة، ((أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة
للصائم، فرخص له. وأتاه آخر فسأله فنهاه، فإذا الذي رخص له شيخ، وإذا الذي نهاه
شاب)). رواه أبوداود.
2027-(9) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ذرعه القيء وهو صائم،
فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدا فليقض)).
2026- قوله: (عن المباشرة) قيل: هي مس الزوج المرأة فيما دون الفرج. وقيل: هي
القبلة واللمس باليد (فسأله) أي عن المباشرة (فنهاه) أي عنها (فإذا الذي رخص) أي
فيها (شيخ وإذا الذي نهاه) عنها (شاب) فيه إشارة إلى أنه - صلى الله عليه وسلم -
أجابهما بمقتضى الحكمة، إذا الغالب على الشيخ سكون الشهوة وأمن الفتنة فأجاز له
بخلاف الشاب فنهاه إهتماما له، وفيه حجة لمن فرق بين الشيخ والشاب في المباشرة،
والقبلة. وقد تقدم البسط في هذه المسألة (رواه أبوداود) وكذا البيهقي (ج4 ص231)
وسكت عنه أبوداود والمنذري والحافظ في التلخيص (ص191) وقال في الفتح: فيه ضعف قلت:
في سنده أبوالعنبس الكوفي العدوي الحارث بن عبيد ذكره ابن حبان في الثقات. وقال في
التقريب: مقبول وقد أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس ولم يصرح برفعه والبيهقي من حديث
عائشة وأحمد والطبراني من حديث عبدالله بن عمرو وقد تقدم لفظهما.
(12/457)
2027- قوله: (من ذرعه القيء)
بالذال المعجمة أي غلب عليه القيء فخرج بغير اختيار منه (فليس عليه قضاء) لأنه لا
تقصير منه (ومن استقاء عمدا) أي تسبب لخروجه قصدا يعني طلب القيء وأخرجه باختياره.
قال ابن قدامة: معنى استقاء تقيأ مستدعيا للقيء وذرعه خرج من غير اختيار منه
(فليقض) وفي رواية فعليه القضاء. والحديث دليل على أنه لا يبطل صوم من غلبه القيء
لقوله فلا قضاء عليه إذ عدم القضاء فرع الصحة. وعلى أنه يبطل صوم من تعمد إخراجه
ولم يغلبه لأمره بالقضاء وإليه ذهب الجمهور، منهم الشافعي وأحمد ومالك وإسحاق،
وحكى ابن المنذر الإجماع على بطلان الصوم بتعمد القيء، لكن روى عن ابن عباس وابن
مسعود وربيعة وعكرمة إن القيء لا يفطر مطلقا، سواء كان غالبا أو مستخرجا ما لم
يرجع منه شيء باختياره وهي إحدى الروايتين عن مالك. ونقل ابن المنذر الإجماع على
ترك القضاء على من ذرعه القيء، وذهب قوم إلى أن القيء يفطر مطلقا سواء كان غالبا أو
مستخرجا واستدلوا لذلك بحديث أبي الدرداء التالي وسيأتي الكلام فيه. قال ابن قدامة
(ص117) من استقاء فعليه القضاء؛ لأن صومه يفسد به ومن ذرعه فلا شيء عليه، وهذا قول
عامة أهل العلم. قال الخطابي: (ج2 ص112) لا أعلم خلافا بين أهل العلم فيه، ولكن
اختلفوا في الكفارة على من استقاء عامدا. فقال عامة أهل العلم ليس عليه غير
رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه، والدارمي.
(12/458)
القضاء. وقال عطاء: عليه القضاء والكفارة، وحكى عن الأوزاعي وهو قول أبي ثور. وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على إبطال صوم من استقاء عامدا، وحكى عن ابن مسعود وابن عباس إن القيء لا يفطر لما روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ثلاث لا يفطرن الصائم الحجامة والقيء والاحتلام، ولأن الفطر مما دخل لا مما خرج. ولنا ما روى أبوهريرة مرفوعا من ذرعه القيء فليس عليه قضاء - الحديث، وحديثهم غير محفوظ (كما ستعرف) والمعنى الذي ذكر لهم يبطل بالحيض والمنى - انتهى. قلت: ويجاب عن حديث الثلاث بعد تسليم صلاحيته للاستدلال بأنه محمول على من ذرعه القيء جمعا بين الأدلة وحملا للعام على الخاص. قال ابن قدامة: وقليل القيء وكثيرة سواء في ظاهر قول الخرقي وهو إحدى الروايات عن أحمد، والرواية الثانية لا يفطر إلا بملء الفم، والثالثة نصف الفم والأولى أولى لظاهر حديث أبي ظاهر، ولأن سائر المفطرات لا فرق بين قليلها وكثيرها انتهى مختصرا. وقال الباجي (ج2 ص64) من استقاء يلزمه القضاء هذا قول مالك واختلف أصحابه في ذلك فقال الأبهري: هو على الاستحباب. وقال أبويعقوب الرازي: هو على الوجوب وبه قال الشافعي وأبوحنيفة، والدليل على وجوب ذلك إن المتعمد للقيء والمكروه لنفسه عليه لا يسلم في الغالب من رجوع شيء إلى حلقة فيقع به فطره، فلما كان ذلك الغالب من حاله حمل سائره على ذلك كالنوم في الحدث فإذا قلنا بوجوب القضاء فهل تلزمه الكفارة. قال أبوبكر عن ابن الماجشون عليه الكفارة. وقال القاضي أبومحمد: من قال من أصحابنا إن القضاء على الوجوب فإنه تلزمه الكفارة. وقال أبوالفرج: لو سئل عنه مالك لأوجب عليه الكفارة. قال الباجي: وفيه نظر. ويبطل عندي من وجهين أحدهما، أننا نوجب عليه القضاء لأننا لا نتيقن سلامة صومه فلابد له من القضاء لتبرأ ذمته من الصوم الذي لزمها، ونحن لا نتيقين فساد صومه فتوجب عليه الكفارة، والكفارة لم تثبت في ذمته قبل
(12/459)
ذلك بأمر واجب. والثاني إن
الكفارة إنما تجب إذا كان الفطر نفسه باختيار الصائم، فأما إذا فعل فعلا يؤدي إلى
وقوع الفطر منه بغير اختيار فلا تجب به عليه الكفارة - انتهى. وقيل: الجمع بين ما
روى عن ابن عباس وابن مسعود وعلى من أن الفطر مما دخل لا مما خرج، وبين حديث الباب
إن في الاستقاء يتحقق رجوع شيء مما يخرج، وإن قل حتى لا يحس به فلاعتباره يفطر،
وفيما إذا ذرعه إن تحقق ذلك أيضا لكن لا صنع له فيه، ولغيره من العباد فكان
كالنسيان والخطأ (رواه الترمذي وأبوداود) الخ واللفظ للترمذي وأخرجه أيضا أحمد (ج2
ص498) والنسائي في الكبرى وابن حبان والدارقطني (ص240) والحاكم (ج1 ص427) والبيهقي
(ج4 ص219) وابن الجارود في المنتقى (ص198) والطحاوي (ج1 ص347) وابن حزم في المحلى
(ج6 ص175) وإسحاق بن راهويه في مسنده جميعا من طريق عيسى بن يونس عن هشام بن
وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عيسى بن يونس. وقال محمد- يعني
البخاري- لا أراه محفوظا.
(12/460)
حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة (وقال الترمذي هذا حديث غريب) كذا في جميع النسخ الحاضرة عندنا وكذا ذكره الحافظ في الفتح. ووقع في نسخ الترمذي الموجودة عندنا حديث حسن غريب، وكذا وقع في نقل المنذري في مختصر السنن، والزيلعي في نصب الراية (ج2 ص448) والعيني في شرح البخاري (ج11 ص35) وابن الهمام في فتح القدير، وهذا يدل على اختلاف نسخ الترمذي في ذلك. ولعل الصواب وجود لفظ الحسن فإن الظاهر إن الحديث لا ينحط عن درجة الحسن كما ستعرف (لا نعرفه) أي من حديث هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (إلا من حديث عيسى بن يونس) هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الكوفي أخو إسرائيل نزل الشام مرابطا ثقة مأمون من رجال الستة وثقة أحمد، وأبوحاتم ويعقوب بن شيبة وابن خراش وابن عمار والعجلي وأبوهمام وأبوزرعة وابن سعد وابن حبان والحاكم أبوأحمد والدارقطني وآخرون مات سنة (187) وقيل سنة (191) ودعوى تفرد عيسى بن يونس بهذا الحديث خطأ، لأنه قد تابعه عن هشام حفص بن غياث عند ابن ماجه والحاكم. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المحلى: (ج1 ص175- 176) قد غلط الترمذي في دعوى انفراد عيسى به فقد رواه ابن ماجه من طريق الحكم بن موسى عن عيسى بن يونس ومن طريق أبي الشعثاء عن حفص بن غياث كلاهما عن هشام بن حسان به. وكذا رواه الحاكم (ج1 ص426 - 227) من طريق علي بن حجر عن عيسى، ومن طريق يحيى بن سليمان الجعفي عن حفص. وقال أبوداود: بعد حديث عيسى "ورواه أيضا حفص بن غياث عن هشام مثله" فسقطت دعوى تفرد عيسى بروايته بل نقل الدارمي (وكذا إسحاق بن راهويه في مسنده كما في تخريج الهداية للزيلعي (ج2 ص449) عن عيسى أنه قال "زعم أهل البصرة أن هشاما أوهم فيه فموضع الخلاف ههنا" وهشام ثقة حجة (من أثبت الناس في ابن سيرين) قال ابن أبي عروبة: ما رأيت أحفظ عن ابن سيرين من هشام. وقال أبوداود: إنما تكلموا في حديثه عن الحسن
(12/461)
وعطاء، لأنه كان يرسل عنهما
والذي هنا من رواية ابن سيرين وليس الحكم بالوهم على الراوي الثقة بالهين ولذلك
صححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وهو الحق - انتهى. قلت: وسكت عنه
أبوداود وقواه الدارقطني وابن حزم حيث قال الدارقطني: بعد روايته طريق من عيسى بن
يونس رواته ثقات كلهم. وقال ابن حزم: عيسى ابن يونس ثقة. (وقال محمد يعني البخاري:
لا أراه) بضم الهمزة أي لا أظنه (محفوظا) قال الطيبي: الضمير راجع إلى الحديث وهو
عبارة عن كونه منكرا - انتهى. وحكى الحافظ في الفتح عن البخاري أنه قال بعد رواية
الحديث من طريق عيسى "لم يصح" وإنما يروي عن عبدالله بن سعيد المقبري عن
أبيه عن أبي هريرة وعبدالله ضعيف جدا
2028-(10) وعن معدان بن طلحة، أنا أباالدرداء، حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - قاء فأفطر.
(12/462)
– انتهى. وقال البيهقي (ج4 ص219) بعد روايته من طريق عيسى وحفص تفرد به هشام بن حسان، وقد أخرجه أبوداود وبعض الحفاظ لا يراه محفوظا. قال أبوداود سمعت أحمد بن حنبل يقول: ليس من ذا شيء. قال الخطابي (ج2 ص112) يريد أن الحديث غير محفوظ. وقال الحافظ في بلوغ المرام: أعله أحمد. وقال في التلخيص (ص188) وأنكره أحمد. وقال في رواية ليس من ذا شيء وقال مهنأ عن أحمد حدث به عيسى وليس هو في كتابه غلط فيه وليس هو من حديثه. وقال الحاكم: صحيح على شرطهما، وأخرجه من حديث حفص بن غياث أيضا - انتهى. وقال النسائي: وقفه عطاء عن أبي هريرة. وقال ابن عبدالبر: الأصح إنه موقوف على أبي هريرة: قلت: لم يظهر لي وجه كون الوقف أرجح ولا وجه كون رواية عيسى غلطا. وقد ثبت أنه تابعه حفص بن غياث وهما من ثقات الرواة ومن رجال الستة وكذا هشام بن حسان فلا يضر تفرده، فالظاهر إن الحديث حسن كما قال الترمذي أو صحيح كما قال الحاكم والذهبي. قال الترمذي: قد روى هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة مرفوعا ولا يصح إسناده. وقال البيهقي: قد روى من وجه آخر ضعيف عن أبي هريرة مرفوعا - انتهى. قلت يشير أن بذلك إلى ما أشار إليه البخاري من رواية عبدالله بن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة، ومن هذا الطريق أخرجه أبويعلى في مسنده وابن أبي شيبة في مصنفه كما في نصب الراية والدارقطني (ص240) ولا شك أن هذا الطريق ضعيف. وفي الباب عن ابن عمر موقوفا عند مالك في الموطأ والشافعي، وأخرجه البيهقي من طريق الشافعي وعن على موقوفا أخرجه عبدالرزاق والبيهقي.
(12/463)
2028- قوله: (وعن معدان) بفتح
الميم (بن طلحة) كذا وقع في رواية أبي داود، ووقع عند الترمذي والدارمي "ابن
أبي طلحة" ورجحه الترمذي ورجح ابن معين "معدان بن طلحة" (إن
أباالدرداء حدثه) أي أخبره كما في رواية لأحمد (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- قاء فأفطر) قد استدل به على أن القيء يفطر مطلقا، سواء كان غالبا أو مستخرجا.
ووجه الاستدلال إن "الفاء" تدل على أن الإفطار كان مرتبا على القيء،
وبسببه وهو المطلوب فتكون هي للسببية وأجيب عن هذا بوجوه منها إن في سنده إضطرابا
لا يصلح لذلك للاحتجاج. قال البيهقي: (ج1 ص144) إسناد هذا الحديث مضطرب، واختلفوا
فيه اختلافا شديدا، وحكى الحافظ عنه في التلخيص (ص188) أنه قال إسناده مضطرب، ولا
تقوم به حجة - انتهى. وتعقب بأن وجوه الاختلاف ههنا ليست بمستوية كما لا يخفى على
من نظر في طرقها ولا تعذر الجمع بينهما، فدعوى الاضطراب مردودة. وقد صححه ابن
منده. وقال الترمذي: هو أصح شيء في هذا الباب. وكذا قال أحمد ومنها إن قوله
"قاء فأفطر" ليس نصا صريحا، في أن القيء مفطر للصوم لاحتمال أن تكون
"الفاء" للتعقيب من دون أن تكون للسببية. قال
قال: ((فلقيت ثوبان في مسجد دمشق، فقلت: إن أباالدرداء حدثني أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - قاء فأفطر.قال: صدق، وأنا صببت له وضوءه)).
(12/464)
الطحاوي (ص348) ليس فيه دليل على أن القيء كان مفطرا له، إنما فيه أنه قاء فأفطر بعد ذلك. قال: يجوز أن يكون قوله: "قاء فأفطر" أي قاء فضعف فأفطر. وقال الترمذي: معناه إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان صائما متطوعا فقاء فضعف، فأفطر لذلك هكذا روى في بعض الحديث مفسرا - انتهى. وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: (ج1 ص146) لو كانت الفاء للسببية لم تدل أيضا على نقض الصوم بالقيء؛ لأنه قد يفطر الإنسان لما ينوبه من الضعف والتراخي مما لا يستطيع معه إحتمال مشقة الصوم أو خشية الضرر والمرض، فالقيء سبب له. ولكنه سبب عادي طبيعي، ولا يكون سببا شرعيا إلا بنص صريح من الشارع - انتهى. وبهذا يندفع ما قال ابن المنير متعقبا على الطحاوي، من أن الحكم إذا عقب بالفاء دل على أنه العلة كقولهم سها فسجد. ومنها إن قوله قاء أي عمدا لما تقدم من أن من ذرعه ليس عليه قضاء. قال البيهقي (ج4 ص220) هذا حديث مختلف في إسناده فإن صح فهو محمول على أنه تقيأ عامدا. وكأنه - صلى الله عليه وسلم - كان متطوعا بصومه - انتهى. وقال الحافظ في التلخيص (ص188) حديث أبي درداء إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر أي استقاء. وقال في الفتح: ويمكن الجمع بين قول أبي هريرة إذا قاء لا يفطر وبين قوله أنه يفطر بما فصل في حديثه المرفوع المتقدم، فيحتمل قوله إذا قاء يفطر أنه تعمد القيء. واستدعى به وبهذا أيضا يتأول قوله في حديث أبي الدرداء الذي أخرجه أصحاب السنن مصححا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر أي استقاء عمدا وهو أولى من تأويل من أوله بأن المعنى قاء فضعف فأفطر والله أعلم - انتهى. قلت: ويؤيد حمل قوله قاء على القيء عامدا رواية أحمد (ج6 ص449) بلفظ: عن أبي الدرداء قال استقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفطر فأتى بماء فتوضأ (فلقيت ثوبان) مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (صدق) أي أبو الدرداء
(12/465)
(وأنا صببت له) أي للنبي - صلى
الله عليه وسلم - (وضوءه) بالفتح أي ماء وضوءه، وهذا يدل على أن الوضوء وإن لم
يذكر في اللفظ بعد قوله قاء لكنه ثابت في المعنى لأن قول ثوبان تصديقا لأبي
الدرداء "صدق وأنا صببت له وضوءه" دليل على أن الوضوء مذكور في أصل
الحديث، وإن اختصر في الرواية لأن ثوبان يؤكد الرواية بأنه هو الذي صب له الوضوء
بعد القيء، وأما رواية الترمذي في الطهارة بلفظ: قاء فتوضأ ففي كون لفظ فتوضأ فيها
محفوظا نظر، فإن حديث أبي الدرداء هذا ذكره الترمذي في الصيام بلفظ: قاء فأفطر
وبهذا اللفظ رواه أحمد (ج5 ص195- 277و ج6 ص443- 449) وأبوداود والنسائي في الكبرى
وابن حبان والطبراني وابن منده كما في التلخيص (ص188) والحاكم (ج1 ص226) والطحاوي
(ج1 ص347- 348) والدارقطني (ص57- 58- و238) وابن الجارود (ص15) والبيهقي (ج1 ص144و
ج4 ص220) واختلفت نسخ الترمذي في رواية كتاب الطهارة
رواه أبوداود، والترمذي، والدارمي.
2029-(11) وعن عامر بن ربيعة، قال: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لا
أحصى يتسوك
(12/466)
كما ذكره الشيخ شاكر في تعليقه على الترمذي (ج1 ص143- 145) ففي بعضها قاء فتوضأ وفي بعضها قاء فأفطر فتوضأ، ويؤيد هذه النسخة رواية أحمد في (ج6 ص449) بلفظ: استقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفطر فأتى بماء فتوضأ وفي بعضها قاء فأفطر. ويؤيده سائر الروايات المذكورة، ويؤيده أيضا أن أصل الحديث ورد عن ثوبان من وجه آخر بلفظ: قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر أخرجه أحمد (ج5:ص276) والطيالسي والطحاوي (ج1:ص348) والبيهقي (ج4:ص220) بسند جيد. وهذا كله يورث الشك والتردد في كون لفظ فتوضأ محفوظا. واستدل الحنفية بهذا على كون القيء ناقضا للوضوء وقد ذكرنا جوابه في الطهارة وإن شئت البسط في الجواب فارجع إلى تعليق الترمذي للعلامة الشيخ أحمد شاكر وشرحه لشيخنا الأجل المباركفوري رحمهما الله تعالى. (رواه أبوداود والترمذي والدارمي) واللفظ لأبي داود ورواه الثلاثة من طريق حسين المعلم عن يحيى بن أبي كثير عن عبدالرحمن بن عمرو والأوزاعي عن يعيش بن الوليد عن أبيه عن معدان بن طلحة ومن هذا الطريق رواه أحمد (ج6:ص443) والطحاوي (ج1:ص147-148) والحاكم (ج1:ص426) والدارقطني (ص57-58-238) والبيهقي (ج1:ص144 وج4: ص220) وابن الجارود (ص15) وابن مندة وابن حبان وله طرق أخرى عند بعضهم. وقد سكت عنه أبوداود. وقال الترمذي: في كتاب الطهارة: قد جود حسين المعلم هذا الحديث وحديث حسين أصح شيء في هذا الباب. ونقل المنذري كلام الترمذي هذا وأقره وزاد. وقال الإمام أحمد بن حنبل: حسين المعلم يجوده. وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين. ولم يخرجاه لخلاف في سنده ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في التلخيص (ص188) قال ابن منده: إسناده صحيح متصل وتركه الشيخان لاختلاف في إسناده.ثم قال الحافظ بعد ذكر كلام الترمذي: المتقدم. وكذا قال أحمد، وفيه اختلاف كثير قد ذكره الطبراني وغيره. ثم ذكر كلام البيهقي السابق فيما يتعلق باضطراب إسناده. وأجاب
(12/467)
عنه ابن التركماني (ج1:ص143)
بأن الترمذي قال قد جوده حسين المعلم عن يحيى بن أبي كثير وحديث حسين أصح شيء في
هذا الباب. وقال ابن منده هذا إسناد متصل صحيح. قال ابن التركماني: وإذا أقام
إسنادا ثقة اعتمد ولم يبال بالاختلاف، وكثير من أحاديث الصحيحين لم تسلم من مثل
هذا الاختلاف، وقد فعل البيهقي مثل هذا في حديث "هو الطهور ماؤه" حيث
بين الاختلاف الواقع فيه. ثم قال: إلا أن الذي أقام إسناده ثقة، أودعه مالك في الموطأ
وأخرجه أبوداود في السنن - انتهى.
2029- قوله: (ما لا أحصى) أي مقدارا لا أقدر على إحصائه وعده لكثرته (يتسوك) مفعول
ثان.
وهو صائم)).
(12/468)
لأنه خبر على الحقيقة و"ما" موصوفة ولا أحصى صفتها وهي ظرف ليتسوك أي يتسوك مرات لا أقدر على عدها قاله الطيبي. قال ميرك: ولعله حمل الرؤية على معنى العلم فجعل يتسوك مفعولا ثانيا، ويحتمل أن تكون بمعنى الأبصار ويتسوك حينئذ حال وقوله (وهو صائم) حال أيضا إما مترادفة وإما متداخلة كذا في المرقاة وهذا لفظ الترمذي، ولأبي داود رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك وهو صائم مالا أعد ولا أحصى. والحديث يدل بعمومه على جواز الاستياك للصائم مطلقا، سواء كان الاستياك بالسواك الرطب أو اليابس. وسواء كان صائما فرضا أو تطوعا، وسواء كان في أول النهار أو في آخره. وإليه ذهب الثوري والأوزاعي وابن علية وأبوحنيفة وأصحابه وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي، وروى عن ابن عمر كما في ابن أبي شيبة وحكاه الترمذي عن الشافعي وهو اختيار أبي شامة وابن عبدالسلام والنووي والمزني، وإليه ذهب البخاري حيث قال باب السواك الرطب اليابس للصائم، ويذكر عن عامر بن ربيعة قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك وهو صائم مالا أحصى أو أعد. وقال أبوهريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء. ويروي نحوه عن جابر وزيد بن خالد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يخص الصائم من غيره. وقالت عائشة: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - السواك مطهرة للفم مرضاة للرب. وقال عطاء وقتادة: يبتلع ريقه - انتهى. قال الحافظ: أشار بهذه الترجمة إلى الرد على من كره للصائم الاستياك بالسواك الرطب كالمالكية والشعبي، وقد تقدم في باب اغتسال الصائم قياس ابن سيرين السواك الرطب على الماء الذي يتمضمض به، ومنه تظهر النكتة في إيراد حديث عثمان في صفة الوضوء في هذا الباب فإن فيه أنه تمضمض واستنشق. وقال فيه: من توضأ وضوئي هذا، ولم يفرق بين صائم ومفطر ويتأيد ذلك بما ذكر في حديث أبي هريرة في الباب. قال ومناسبة
(12/469)
حديث عامر للترجمة إشعاره
بملازمة السواك، ولم يخص رطبا من يابس، وهذا على طريقة المصنف يعني البخاري في أن
المطلق يسلك به مسلك العموم أو إن العام في الأشخاص عام في الأحوال. وقد أشار إلى
ذلك بقوله في أواخر الترجمة المذكورة ولم يخص صائما من غيره أي ولم يخص أيضا رطبا
من يابس وبهذا التقرير يظهر مناسبة جميع ما أورده في هذا الباب للترجمة، والجامع
لذلك كله قوله في حديث أبي هريرة لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء فإنه يقتضى إباحته
في كل وقت وعلى كل حال. قال ابن المنير: أخذ البخاري شرعية السواك للصائم بالدليل
الخاص، ثم انتزعه من الأدلة العامة التي تناولت أحوال متناول السواك وأحوال ما
يستاك به، ثم انتزع ذلك من أعم من السواك وهو المضمضة إذ هي أبلغ من السواك الرطب.
قال الحافظ: ومناسبة أثر عطاء وقتادة للترجمة من جهة أن أقصى ما يخشى من السواك
الرطب أن يتحلل منه شيء في الفم وذلك الشيء كماء المضمضة فإذا قذفه من فيه لا يضره
بعد ذلك
....................
(12/470)
أن يبتلع ريقه - انتهى. واستدل لهذا القول أيضا بما رواه ابن ماجه والدارقطني (ص248) والبيهقي (ج4:ص272) من حديث عائشة مرفوعا من خير خصال الصائم السواك . قال في التلخيص (ص24) هو ضعيف ورواه أبونعيم من طريقين آخرين عنها. قلت: في سنده عند الثلاثة مجالد بن سعيد وضعفه الجمهور، وواثقه النسائي. وروى له مسلم مقرونا بغيره، واستشهد لهذا القول بما رواه النسائي في الكنى والعقيلي وابن حبان في الضعفاء، والدارقطني (ص248) والبيهقي (ج4:ص272) من طريق عاصم الأحول عن أنس يستاك الصائم أول النهار وآخره برطب السواك ويابسه ورفعه، وفيه أبوإسحاق إبراهيم بن بيطار. قال الدارقطني: ضعيف. وقال البيهقي: تفرد به إبراهيم بن بيطار، ويقال إبراهيم بن عبدالرحمن قاضي خوارزم. وقد حدث عن عاصم بالمناكير لا يحتج به، وقد روى عنه من وجه آخر ليس فيه ذكر أول النهار وآخره ثم ساقه من طريق ابن عدي كذلك. وقال ابن حبان: لا يصح ولا أصل له من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من حديث أنس وذكره ابن الجوزي في الموضوعات. قلت وله شاهد من حديث معاذ عند الطبراني في الكبير وسيأتي. وبما روى ابن حبان في الضعفاء عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك آخر النهار وهو صائم، وأعله بأحمد بن عبدالله بن ميسرة الحراني، وقال لا يحتج به ورفعه باطل.والصحيح عن ابن عمر من فعله كذا في نصب الراية (ج2:ص460) واللسان (ج1:ص195) وبما روى أحمد بن منيع بسنده عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تسوك وهو صائم ذكره الحافظ في التلخيص (ص24) وسكت عنه. وذهب أبوثور والشافعي في المشهور من مذهبه وفي أصح قوليه أنه يكره السواك رطبا كان أو يابسا للصائم بعد الزوال، ويستحب قبله برطب أو يابس. وقد روى عن علي قال: إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشى فإنه ليس من صائم تيبس شفتاه بالعشى إلا كانت نورا بين عينيه يوم القيامة أخرجه الدارقطني
(12/471)
(ص249) والبيهقي (ج4:ص274)
والطبراني والبزار. قال في التلخيص (ص193) ضعفه الدارقطني والبيهقي. وقال في (ص22)
إسناده ضعيف. قلت: في سنده كيسان أبوعمر القصار ضعفه أحمد والساجي. وقال
الدارقطني: ليس بالقوى. ووثقه ابن معين، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال في
التقريب أنه ضعيف، وفيه أيضا يزيد بن بلال. قال البخاري: فيه نظر، وقال ابن حبان:
لا يحتج به. وقال الأزدى: منكر الحديث. وقال الذهبي: حديثه منكر. وقال الدارقطني: يزيد
بن بلال غير معروف، وقال في التقريب إنه ضعيف. وذهب أحمد وإسحاق بن راهويه إلى
كراهة السواك للصائم بعد الزوال مطلقا، وكراهة الرطب للصائم مطلقا. قال ابن قدامة
(ج3:ص110): لم ير أهل العلم بالسواك أول النهار بأسا إذا كان العود يابسا، واستحب
أحمد وإسحاق ترك السواك بعد العشى. واختلفت الرواية عنه في التسوك بالعود الرطب
فرويت عنه الكراهة وهو قول قتادة والشعبي والحكم وإسحاق ومالك وفي رواية، وروى عنه
أنه لا يكره، وبه
......................
(12/472)
قال الثوري والأوزاعي وأبوحنيفة - انتهى مختصرا. والمشهور من مذهب مالك وأصحابه أنه يكره بالرطب دون غيره سواء كان أول النهار أو آخره، واستدل لهم بما روى البيهقي (ج4:ص272) عن زياد بن حدير قال: ما رأيت أحدا آداب سواكا وهو صائم من عمر أراه قال بعود قد ذوى. قال أبوعبيد: يعني يبس ولأنه مغرر بصومه لاحتمال أن يتحلل منه أجزاء إلى حلقه فيفطره وفيه ما قال ابن سيرين لا بأس بالسواك الرطب. قيل: له طعم قال والماء له طعم وأنت تمضمض به ذكره البخاري واستدل لكراهة السواك بعد الزوال بما رواه الدارقطني (ص249) والبيهقي (ج4:ص274) والطبراني من حديث جناب مرفوعا مثل قول علي المتقدم. قال الحافظ في التلخيص: ضعفه الدارقطني والبيهقي. قلت: فيه كيسان أبوعمر القصار المذكور وقد عرفت حاله. واستدل لذلك أيضا بحديث الخلوف المتقدم في أوائل الصوم، لأن في الاستياك بعد الزوال إزالة الخلوف المحمود. وأجيب عنه بوجوه. منها ما قاله ابن العربي من أن الخلوف تغير رائحة فم الصائم وإنما يحدث من خلو المعدة يترك الأكل ولا يذهب بالسواك؛ لأنها رائحة النفس الخارجة من المعدة. وإنما يذهب بالسواك ما كان في الأسنان من التغيير أي الوسخ: وقال ابن الهمام: إنما يزيل السواك أثره الظاهر عن السن من الاصفرار وهذا؛ لأن سبب الخلوف خلو المعدة من الطعام والسواك لا يفيد شغلها بطعام ليرتفع السبب، ولهذا روى عن معاذ مثل ما قلنا روى الطبراني في الكبير عن عبدالرحمن بن غنم قال: سألت معاذ بن جبل أتسوك وأنا صائم قال نعم قلت أي النهار أتسوك قال أي النهار شئت غدوة أو عشية، قلت إن الناس يكرهونه عشية، ويقولون إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، فقال سبحان الله لقد أمرهم بالسواك وهو يعلم أنه لابد أن يكون بقي الصائم خلوف وإن أستاك، وما كان بالذي يأمرهم أن ينتنوا أفواههم عمدا ما في ذلك من الخير شيء بل فيه شر
(12/473)
إلا من ابتلى بلاء لا يجد منه
بدا - انتهى. قال الحافظ في التلخيص: (ص193) إسناده جيد وقال الهيثمي (ج3:ص165):
فيه بكر بن خنيس وهو ضعيف، وقد وثقه ابن معين في رواية. قلت: ووثقه أيضا العجلي
وضعفه غيرهما. وقال في التقريب: هو كوفي عابد سكن بغداد صدوق، له أغلاط - انتهى.
وقد تعقب الحافظ في التلخيص (ص22) على هذا الجواب فقال في قول ابن العربي السواك
لا يزيل الخلوف، وإنما يزيل وسخ الأسنان نظر، لأنه يزيل المتصعد إلى الأسنان
الناشيء عن خلو المعدة ولا يخفى ما فيه؛ لأن المضمضة أيضا تزيل هذا وهم لا
يكرهونها. ومنها ما قاله ابن العربي أيضا إن الحديث لم يسق لكراهية السواك، وإنما
سيق لترك كراهة مخاطبة الصائم. وقال الزرقاني: إنما مدح الخلوف نهيا للناس عن تقذر
مكالمة الصائم بسبب الخلوف لا نهيا للصائم عن السواك والله غني عن وصول الروائح
الطيبة إليه، فعلمنا يقينا أنه
....................
(12/474)
لم يرد استبقاء الرائحة، وإنما أراد نهى الناس عن كراهتها وهذا التأويل أولى، لأن فيه إكراما للصائم ولا تعرض فيه للسواك فيذكر أو يتأول - انتهى. وقد تعقب الحافظ على هذا الجواب أيضا فقال بعد ذكر كلام ابن العربي: فيه نظر، لما رواه الدارقطني (ص248) والبيهقي (ج4:ص274) عن أبي هريرة راوي حديث الخلوف أنه قال لك السواك إلى العصر فإذا صليت العصر فالقه فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: خلوف الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وفيه إن هذا الأثر ضعيف جدا، فإن في سنده عمر بن قيس المعروف بسنده وهو واه. قال أحمد والنسائي والفلاس وغيرهم: متروك. وقال أحمد: أحاديثه بواطيل لا تساوي شيئا. وقال البيهقي: ضعيف، لا يحتج به، ومع ضعفه فقد عارضه ما هو أقوى منه من أثر معاذ بن جبل عند الطبراني وقد تقدم لفظه. ومنها إن في السواك تطهيرا وإجلالا للرب حال مناجاته في الصلاة، لأن مخاطبة العظماء مع طهارة الفم تعظيم وليس في الخلوف تعظيم ولا إجلال، وهذه المسألة من قاعدة إزدحام المصالح التي يتعذر الجمع بينها، ويدل على أن مصلحة تطهير الفم بالسواك أعظم من مصلحة الخلوف قوله - صلى الله عليه وسلم -: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، فيقدم السواك. وما ذكره الشافعي ومن وافقه هو تخصيص للعمومات بمجرد كونه مزيلا للخلوف، وهذا معارض بالمعنى الذي ذكرناه. وقال العز بن عبدالسلام في قواعده الكبرى (ج1:ص36-37) قد فضل الشافعي تحمل الصائم مشقة رائحة الخلوف على إزالته بالسواك مستدلا بأن ثوابه أطيب من ريح المسك، ولم يوافق الشافعي على ذلك، إذ لا يلزم من ذكر ثواب العمل أن يكون أفضل من غيره، لأنه لا يلزم من ذكر الفضيلة حصول الرجحان بالأفضلية. ألا ترى الوتر عند الشافعي في قوله الجديد أفضل من ركعتي الفجر، مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها، وكم من عبادة قد أثنى الشارع عليها
(12/475)
وذكر فضيلتها مع أن غيرها أفضل
منها وهذا من باب تزاحم المصلحتين اللتين لا يمكن الجمع بينهما فإن السواك نوع من
التطهر المشروع لإجلال الرب سبحانه وتعالى، لأن مخاطبة العظماء مع طهارة الأفواه
تعظيم، لا شك فيه، ولأجله شرع السواك. وليس في الخلوف تعظيم ولا إجلال فكيف يقال
إن فضيلة الخلوف تربى على تعظيم ذي الجلال بتطييب الأفواه إلى أن قال والذي ذكره
الشافعي تخصيص للعام بمجرد الاستدلال المذكور المعارض لما ذكرناه كذا في النيل.
وقال ابن دقيق العيد: من يكره السواك بعد الزوال يحتاج إلى دليل خاص بهذا الوقت
يخص به عموم عند كل صلاة، وفي تخصيصه بحديث الخلوف بحث - انتهى. وقال القاري: إذا
ورد عن الشارع أحاديث مطلقة شاملة لما قبل الزوال وما بعده، وعن الصحابة فعلهم
وإفتاءهم على جوازه بعد الزوال، فكيف يصلح بعد هذا كله أن يكون حديث الخلوف دليلا
للشافعي، ومن تبعه على منع السواك بعد الزوال وصرف الإطلاق إلى ما قبل الزوال من
غير دليل صريح أو تعليل صحيح - انتهى. وقد ظهر بما ذكرنا أن القول الراجح المعول
عليه هو ما ذهب إليه
رواه الترمذي، وأبوداود.
2030- (12) وعن أنس، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اشتكيت
عيني، أفأكتحل وأنا صائم؟ قال: نعم)).
(12/476)
أبوحنيفة ومن وافقه (رواه الترمذي وأبوداود) واللفظ للترمذي وأخرجه أحمد (ج3:ص445) وابن خزيمة في صحيحه والدارقطني (ص248) والبيهقي (ج4:ص272) وإسحاق بن راهويه وأبويعلى والبزار والطبراني، وعلقه البخاري بصيغة التمريض كما تقدم. وقد سكت عنه أبوداود وحسنه الترمذي. وقال المنذري: بعد نقل تحسين الترمذي: في إسناده عاصم بن عبيدالله، وقد تكلم فيه غير واحد. وذكر البخاري هذا الحديث في صحيحه معلقا في الترجمة فقال: ويذكر عن عامر بن ربيعة. و قال الحافظ في التلخيص في (ص22) إسناده حسن وفي (ص24) فيه عاصم بن عبيدالله وهو ضعيف. فقال ابن خزيمة: أنا ابرأ من عهدته لكن حسن الحديث غيره -انتهى. وحكى في الفتح عن ابن خزيمة أنه قال كنت لا أخرج حديث عاصم ثم نظرت فإذا شعبة والثوري قد رويا عنه، وروى يحيى وعبدالرحمن عن الثوري، وروى مالك عنه خبرا في غير الموطأ. قال الحافظ: وضعفه ابن معين والذهلي والبخاري وغير واحد - انتهى. وقال ابن القطان: لم يمنع من صحة هذا الحديث إلا اختلافهم في عاصم بن عبيدالله. وقال النووي في الخلاصة: بعد أن حكى عن الترمذي أنه حسنه لكن مداره على عاصم بن عبيدالله وقد ضعفه الجمهور فلعله اعتضد - انتهى. قلت: تكلم فيه أحمد وابن معين وابن سعد وأبوحاتم والجوزجاني وابن خراش والبيهقي والساجي وابن نمير. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال الدارقطني: متروك وهو مغفل. وقال ابن خزيمة: لست احتج به لسوء حفظه. وقال ابن حبان: كان سيء الحفظ كثير الوهم فاحش الخطأ فترك من أجل كثرة خطأه. وقال المزي: وأحسن ما قيل فيه قول العجلي لا بأس به، وقول ابن عدي قد روى عنه ثقات الناس واحتملوه وهو مع ضعفه يكتب حديثه - انتهى. قلت: الظاهر أن الترمذي إنما حسن هذا الحديث لما اعتضد به من شواهده التي قدمنا ذكرها، والله تعالى أعلم.
(12/477)
2030- قوله: (اشتكيت عيني) قال
القاري: بالتشديد، وفي نسخة بالتخفيف، أي أشكو من وجع عيني (قال نعم) فيه جواز
الإكتحال بلا كراهة للصائم، وبه قال الأكثرون، وذكر العيني (ج11:ص15) في مسألة
الكحل للصائم أقوالا، فقال لم ير الشافعي به بأسا وجد طعم الكحل في الحلق أم لا،
واختلف قول مالك فيه في الجواز والكراهة، قال في المدونة: يفطر ما وصل إلى الحلق
من العين. وقال أبومصعب: لا يفطر، وذهب الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق إلى
كراهة الكحل للصائم، وحكى عن أحمد أنه إذا وجد طعمه في
................................
(12/478)
الحلق أفطر، وعن عطاء والحسن البصري والنخعي والأوزاعي وأبي حنيفة وأبي ثور يجوز بلا كراهة، وأنه لا يفطر به سواء وجد طعمه أم لا، وحكى ابن المنذر عن سليمان التيمي ومنصور بن المعتمر وابن شيرمة وابن أبي ليلى إنهم قالوا: يبطل صومه. وقال ابن قتادة: يجوز بالأثمد ويكره بالصبر. وفي سنن أبي داود عن الأعمش قال: ما رأيت أحدا من أصحابنا يكره الكحل للصائم - انتهى كلام العيني. وقال ابن قدامة (ج3:ص105-106) أما الكحل فما وجد طعمه في حلقه أو علم وصوله إليه فطره وإلا لم يفطره نص عليه أحمد. وقال ابن أبي موسى: ما يجد طعمه كالذرور والصبر والقطور أفطر، وإن اكتحل باليسير من الأثمد غير المطيب كالميل ونحوه لم يفطر نص عليه أحمد. وقال ابن أبي عقيل إن كان الكحل حادا فطره وإلا فلا، ونحو ما ذكرناه. قال أصحاب مالك وعن ابن أبي ليلى وابن شبرمة: إن الكحل يفطر الصائم. وقال أبوحنيفة والشافعي، لا يفطره لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اكتحل في رمضان وهو صائم، ولأن العين ليست منفذا، فلم يفطر بالداخل منها كما لو دهن رأسه- انتهى. قلت: قد استدل من ذهب إلى كراهة الكحل للصائم أو إلى كونه مفسدا للصوم بما رواه أبوداود والبخاري في تاريخه (ج4:ص398) والبيهقي (ج4:ص262) من طريق عبدالرحمن بن النعمان بن معبد بن هوذة عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالأثمد المروح عند النوم وقال ليتقه الصائم. وأجيب عن هذا الحديث بأنه ضعيف. لا يصلح للإستدلال. قال أبوداود: قال لي يحيى بن معين هو حديث منكر - انتهى. وقال الأثرم: عن أحمد هذا حديث منكر - انتهى. وعبدالرحمن بن النعمان، قال ابن المديني فيه مجهول، وقال ابن معين: ضعيف. وقال أبوحاتم صدوق. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال في التقريب صدوق، وربما غلط وأبوالنعمان بن معبد ذكره ابن حبان في الثقات. وقال في التقريب: هو مجهول. وقال صاحب التنقيح هو كالمجهول. واستدلوا
(12/479)
أيضا بما علقه البخاري ووصله
البيهقي والدارقطني وابن أبي شيبة من حديث ابن عباس بلفظ: الفطر مما دخل، والوضوء
مما خرج، قالوا وإذا وجد طعمه فقد دخل وأجيب بأن هذا الحديث موقوف ثم المراد
بالدخول دخول شيء بعينه من منفذ إلى جوف البطن أي المعدة لا وصول أثر شيء من
المسامات إلى الباطن، ولذا لا يفطر تدهين الرأس وشم العطر، وليس للعين منفذ إلى
جوف البطن، كذا قيل. واحتج لأبي حنيفة والشافعي ومن وافقهما على جواز الاكتحال
للصائم بحديث الباب وهو حديث ضعيف كما ستعرف، لكن له شواهد يقوي بعضها بعضا وتصلح
بمجموعها للإستدل، فمنها ما رواه ابن ماجه والبيهقي (ج4:ص262) عن عائشة قالت:
اكتحل النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم، وفيه سعيد بن أبي سعيد عبدالجبار
الزبيدي الحمصي وهو ضعيف. قاله الحافظ في التلخيص (ص189) وقال الزيلعي (ج2:ص456)
قال في
رواه الترمذي، وقال: ليس إسناده بالقوى، وأبوعاتكة الراوي يضعف.
2031 - (13) وعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لقد رأيت النبي صلى
الله عليه وسلم بالعرج يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحر)).
(12/480)
التنقيح: هو مجمع على ضعفه - انتهى. قال صاحب الإمام: ذكر الحافظ أبوبكر الخطيب سعيد بن أبي سعيد هذا فقال إسم أبيه عبدالجبار وكان ثقة وذكره ابن حبان في الثقات كذا في الجوهر النقي (ج1:ص253 و ج4:ص262) ومنها ما رواه ابن عدي في الكامل والبيهقي من طريقه (ج4:ص262) والطبراني في الكبير من طريق محمد بن عبيدالله بن أبي رافع عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكتحل وهو صائم. قال أبوحاتم: هذا حديث منكر. وقال في محمد أنه منكر الحديث وكذا قال البخاري، ورواه ابن حبان في الضعفاء من حديث ابن عمر. قال في التلخيص وسنده مقارب. ومنها ما روى عن بريرة مولاة عائشة قالت رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يكتحل بالأثمد وهو صائم أخرجه الطبراني في الأوسط. قال الهيثمي (ج3:ص167): فيه جماعة لم أعرفهم- انتهى. فهذه الأحاديث وإن كان لا يخلو واحد منها من كلام، لكنها يقوي بعضها بعضا. وتنتهض بمجموعها للاحتجاج على جواز الاكتحال للصائم، وليس في كراهته حديث صحيح أو حسن، فالراجح هو القول بالجواز من غير كراهة والله تعالى أعلم، (رواه الترمذي وقال ليس إسناده بالقوى) وقال ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب شيء. وقال في التنقيح حديث واه جدا وأشار البيهقي (ج4:ص262) إلى هذا الحديث فقال روى عن أنس بن مالك مرفوعا بإسناد ضعيف بمرة أنه لم ير به (أي بالكحل للصائم) بأسا (وأبوعاتكة الراوي يضعف) قال في التنقيح: هو مجمع على ضعفه وإسمه طريف بن سليمان ويقال سليمان بن طريف. قال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الرازي: ذاهب الحديث- انتهى. ورواه أبوداود من فعل أنس وسكت عنه هو والمنذري. وقال في التنقيح: إسناده مقارب وكذا قال الحافظ في التلخيص (ص189).
(12/481)
2031- قوله: (وعن بعض أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم) إبهام الصحابي والجهالة به لا تضر لأنهم كلهم عدول
بالإتفاق (بالعرج) بفتح العين وسكون الراء المهملتين، وبالجيم موضع بين مكة
والمدينة. وقيل: موضع بالمدينة. وقال ابن حجر: محل قريب من المدينة كذا في
المرقاة. وقال في العون: قرية جامعة من أعمال الفرع على أيام من المدينة- انتهى.
وقيل: على نحو ثلاث مراحل من المدينة (يصب) بصيغة المعلوم والمجهول (على رأسه
الماء وهو صائم من العطش أو من الحر) أي ليتقوى به على صومه وليدفع به ألم الحر أو
العطش. و"أو" للشك من الراوي، وفي رواية للبيهقي (ج4:ص263) من العطش أو
قال من الحر أي قال هذا اللفظ
..........................................
(12/482)
أو ذاك. قال الباجي: هذا أصل في استعمال ما يتقوى به الصائم على صومه مما لا يقع به الفطر من التبرد بالماء والمضمضة به، لأن ذلك يعينه على الصوم ولا يقع به الفطر. وقال ابن الملك: هذا يدل على أن لا يكره للصائم أن يصب على رأسه الماء وأن ينغمس فيه وإن ظهرت برودته في باطنه. وقال الشوكاني: فيه دليل على أنه يجوز للصائم أن يكسر الحر يصب الماء على بعض بدنه أو كله. وقد ذهب إلى ذلك الجمهور ولم يفرقوا بين الاغتسال الواجبة والمسنونة والمباحة. وقالت الحنفية: يكره الاغتسال للصائم. واستدلوا بما أخرجه عبدالرزاق عن علي من النهى عن دخول الصائم الحمام وفي إسناده ضعف. كما قال الحافظ في الفتح - انتهى. وقال ابن الهمام: ولو اكتحل لم يفطر سواء وجد طعمه في حلقه. أو لا، لأن الموجود في حلقه أثره داخلا من المسام، والمفطر الداخل من المنافذ كالمدخل والمخرج، لا من المسام الذي هو جميع البدن للاتفاق فيمن شرع في الماء يجد برده في باطنه أنه لا يفطر. وإنما كره أبوحنيفة ذلك أعنى الدخول في الماء والتلفف بالثوب المبلول، لما فيه من إظهار الضجر في إقامة العبادة لا لأنه قريب من الافطار- انتهى. قال القاري: كلام الإمام أبي حنيفة محمول على كراهة التنزيه، وخلاف الأولى، وهو عليه السلام فعل ذلك لبيان الجواز- انتهى. قلت: الكراهة حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل من الكتاب أو السنة، ولم يقم دليل على كراهة الدخول في الماء أو التلفف بالثوب المبلول، بل ثبت خلافه فالقول بكراهته مردود على قائله. وقال الكاساني في البدائع: أما الاستنشاق والاغتسال وصب الماء على الرأس والتلفف بالثوب المبلول فقد قال أبوحنيفة أنه يكره. وقال أبويوسف: لا يكره، واحتج بما روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صب على رأسه ماء من شدة الحر وهو صائم وعن ابن عمر (عند البخاري في صحيحه معلقا وفي تاريخه موصولا وكذا عند ابن أبي شيبة) أنه كان يبل الثوب ويتلفف به وهو صائم
(12/483)
ولأنه ليس فيه إلا دفع أذى
الحر فلا يكره كما لو استظل، ولأبي حنيفة إن فيه إظهار الضجر من العبادة والإمتناع
عن تحمل مشقتها، وفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محمول على حال مخصوصة، وهي
حال خوف الافطار من شدة الحر، وكذا فعل ابن عمر محمول على مثل هذه الحالة ولا كلام
في هذه الحالة - انتهى. قلت: يحتاج هذا الحمل إلى قرينة وليس شيء هنا يدل على ذلك
إلا قول أبي حنيفة بالكراهة مع أنها رواية عنه غير معتبرة، والفتوى عند الحنفية
على قول أبي يوسف ففي الدر المختار لا تكره حجامة وتلفف بثوب مبتل، واستنشاق
واغتسال للتبرد عند الثاني. وبه يفتي شرنبلالية عن البرهان. قال ابن عابدين لرواية
أبي داود (يعني التي نحن في شرحها) ولفعل ابن عمر ولأن هذه الأشياء فيها عون على
العبادة ودفع الضجر الطبيعي، وكذا حكى عليه الفتوى صاحب مراقى الفلاح وغيره. وقال
العيني: كراهة الاغتسال للصائم رواية عن أبي حنيفة غير معتمد عليها، والمذهب
المختار أنه لا يكره ذكره الحسن عن أبي حنيفة نبه عليه صاحب الواقعات، وذكر في
الروضة وجوامع الفقة لا يكره الاغتسال وبل الثوب وصب الماء
رواه مالك، وأبوداود.
2032- (14) وعن شداد بن أوس، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى رجلا بالبقيع،
وهو يحتجم، وهو آخذ بيدي لثماني عشرة خلت من رمضان، فقال: أفطر الحاجم والمحجوم)).
رواه أبوداود، وابن ماجه، والدارمي.
(12/484)
على الرأس بالحر، ثم ذكر العيني حديث أبي داود هذا (رواه مالك) عن سمي مولى أبي بكر بن عبدالرحمن عن أبي بكر بن عبدالرحمن عن بعض أصحاب للنبي صلى الله عليه وسلم (وأبوداود) وأخرجه أحمد (ج3:ص475) والطحاوي (ج1:ص331) والحاكم (ج1:ص432) والبيهقي (ج4: ص246-363) كلهم من طريق مالك، وهو مختصر من حديث طويل عندهم. وقد سكت عنه أبوداود والمنذري. وقال الشوكاني: رجال إسناده رجال الصحيح. وقال العيني: رواه أبوداود بسند صحيح ورواه الحاكم من طريق محمد بن نعيم السعدي عن مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعرج يصب على رأسه الماء من الحر وهو صائم. قال الحاكم: هذا حديث له أصل في الموطأ، فإن كان محمد بن نعيم السعدي حفظه هكذا فإنه صحيح على شرط الشيخين، ثم روى حديث الباب من طريق مالك ووافقه الذهبي.
(12/485)
2032- قوله: (أتى رجلا) أي مر
عليه وهكذا وقع في جميع الروايات بغير تسمية الرجل، ووقع عند أحمد (ج4:ص124) من
طريق داود بن أبي هند عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن أبي أسماء الرحبي عن شداد ابن
أوس قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي وأنا أحتجم في ثمان عشرة خلون
من رمضان فقال أفطر الحاجم والمحجوم. (بالبقيع) أي بمقبرة المدينة وفي رواية لأحمد
في بعض طرق المدينة (وهو) الرجل (يحتجم وهو) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -
(آخذ) بصيغة الفاعل (بيدي) إشارة إلى كمال قربه منه - صلى الله عليه وسلم -
(لثماني عشر خلت) أي مضت (من رمضان) وهذا يدل على كمال حفظ الراوي وضبطه بذكر
المكان والزمان وحاله (أفطر الحاجم والمحجوم) استدل بظاهر هذا الحديث من قال بحرمة
الحجامة للصائم. وقد تقدم ذكرهم مع بسط الكلام في هذه المسألة (رواه أبوداود وابن
ماجه والدارمي) وأخرجه أيضا أحمد (ج4: ص122-123-124-125) والنسائي في السنن الكبرى
وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم (ج1: ص428-429) والطحاوي (ج1: ص349)
والبيهقي (ج4:ص265-268) وقد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري: روى هذا الحديث بضع
عشر صحابيا إلا أن أكثر الأحاديث ضعاف. وقال إسحاق بن راهويه: حديث شداد إسناده
صحيح تقوم به الحجة، وذكر أبوداود بعد هذا حديث ثوبان من طريقين، الطريق المتقدم
أجود منهما. وقال أحمد أحاديث أفطر الحاجم والمحجوم يشد بعضها
...................................
(12/486)
بعضا، وأنا أذهب إليها - انتهى. وقال الزيلعي (ج2:ص473) قال الحاكم: حديث شداد ظاهر الصحة، وصححه أحمد وابن المديني وإسحاق بن راهويه واستقصى النسائي طرقه. والاختلاف فيه في سننه الكبرى. وقد روى مسلم في صحيحه بهذا الإسناد (أي من طريق أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد) حديث إن الله كتب الإحسان على كل شيء ونقل الحاكم في المستدرك (ج1:ص428) عن ابن راهويه أنه قال إسناده صحيح تقوم به الحجة- انتهى كلام الزيلعي. قلت: وصححه أيضا البخاري وابن خزيمة وابن حبان وعثمان الدارمي كما قال الحافظ في الفتح، وعقد البيهقي في السنن الكبرى (ج4:ص266) بابا ذكر فيه بعض ما بلغه عن حفاظ الحديث في تصحيح حديث أفطر الحاجم والمحجوم. وقد رواه أئمة الحديث عن ثمانية عشر من الصحابة. وقال السيوطي في الجامع الصغير: إنه متواتر، وكذا حكاه صاحب التنقيح عن بعض الحفاظ كما في نصب الراية (ج2:ص472) قال وليس ما قاله ببعيد ومن أراد ذلك فلينظر مسند أحمد ومعجم الطبراني والسنن الكبير للنسائي قال. وقال إسحاق بن راهويه: هو ثابت من خمسة أوجه - انتهى كلامه. وقد ذكر الزيلعي (ج2:ص472-473-474-475-476-477) هذه الأحاديث مع الكلام عليها، وذكرها أيضا العيني في شرح البخاري (ج11:ص37-38-39) وذكر شيئا منها الحافظ في التلخيص (ص190) من شاء الوقوف عليها فليرجع إلى هذه الكتب. قلت: وحديث شداد بن أوس وإن صححه الأئمة لكن في سنده ومتنه إضطراب شديد، ولم أر أحدا إلتفت إلى رفعه. وأما ما حكاه الترمذي في العلل عن البخاري والحاكم (ج1:ص429) والبيهقي (ج4:ص267) عن علي بن المديني من وجه الجمع لرفع الإضطراب، فهو مما لا يتعلق بالاختلاف الذي سنذكره كما لا يخفى على من تأمل في طرق هذا الحديث، ثم في كلام البخاري وابن المديني. فأما الإضطراب في سنده على ما وقفت عليه فهو أنه اختلف أصحاب أبي قلابة عليه. فقال أيوب في رواية معمر عنه عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن أبي
(12/487)
أسماء عن شداد وهي عند أحمد
(ج4:ص123) وهكذا قال عاصم الأحول في رواية يزيد بن هارون عنه عن أبي قلابة عند
أحمد أيضا (ج4:ص123) والدارمي والبيهقي (ج4:ص265) وفي رواية سعيد بن أبي عروبة عنه
عن أبي قلابة عند أحمد (ج4:ص124) وكذا قال داود بن أبي هند عن أبي قلابة وهذه أيضا
عند أحمد (ج4:ص124) وقال أيوب في رواية حماد بن زيد ووهيب عنه عن أبي قلابة عن أبي
الأشعث عن شداد، ورواية حماد عند أحمد (ج4:ص124) ورواية وهيب عند أبي داود والحاكم
(ج1:ص428) والبيهقي (ج4:ص265) وهكذا قال خالد الخداء عن أبي قلابة عند أحمد
(ج4:ص122) والبيهقي (ج4:ص268) وخالد ومنصور جميعا عند الطحاوي (ج1:ص349) وقد وافق
الثلاثة أي أيوب وخالدا ومنصورا على ذلك
قال الشيخ الإمام محي السنة رحمة الله عليه: وتأوله بعض من رخص في الحجامة، أي
تعرضا للإفطار المحجوم للضعف، والحاجم، لأنه لا يأمن من أن يصل شيء إلى جوفه بمص
الملازم.
2033- (15) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أفطر يوما
من رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يقض عنه صوم الدهر كله وإن صامه)).
(12/488)
عاصم الأحول في رواية شعبة عنه عن أبي قلابة عند أحمد (ج4:ص124) والحاكم (ج1:ص429) وفي رواية أبي سفيان عنه عند الحاكم (ج1:ص428-429) والطحاوي (ج1:ص349) وقال أيوب أيضا في رواية إسماعيل عنه عن أبي قلابة عمن حدثه عن شداد وهذه عند أحمد (ج4:ص125) وقال قتادة عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن شداد وهي عند أحمد أيضا (ج4:ص124) وقال يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة أنه أخبره إن شداد بينما هو يمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه عند أبي داود وابن ماجه. وأما الاضطراب في متنه ففي أكثر الروايات إن شدادا كان يمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمر على رجل يحتجم، وفي رواية داود بن أبي هند عن أبي قلابة عند أحمد (ج4:ص124) أنه قال مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي وأنا أحتجم في ثمان عشرة - الحديث. وفي رواية للحاكم في سبع عشرة (قال الشيخ الإمام محي السنة) أي صاحب المصابيح وشرح السنة (رحمة الله عليه) قال القاري: وفي نسخة صحيحة رحمه الله (وتأوله) أي هذه الحديث (بعض من رخص في الحجامة) للصائم وهم الجمهور فبعضهم قالوا (أي تعرضا للإفطار) كما يقال هلك فلان أي تعرض للهلاك (المحجوم للضعف) أي لحصول الضعف له بالحجامة فيحمله على الفطر (والحاجم لأنه لا يأمن من أن يصل شيء) أي من الدم (إلى جوفه بمص الملازم) بإضافة المصدر إلى مفعولة وهو بفتح الميم جمع الملزمة بكسر الميم قارورة الحجام التي يجتمع فيها الدم، وسميت بذلك لأنها تلزم على المحل وتقبضه. وقد ذكرنا مثل هذا التأويل عن الخطابي مع ما فيه من الخدشة، وذكرنا أيضا وجوها آخر في تأويل هذا الحديث.
(12/489)
2033- قوله: (من أفطر يوما من
رمضان) أطلق الإفطار وهو لا يخلو إما أن يكون بجماع أو غيره ناسيا أو عامدا لكن
المراد منه الإفطار بالأكل أو الشرب عامدا، وأما ناسيا أو بالجماع فقد تقدم ذكرهما
(من غير رخصة) كسفر (ولا مرض) أي مبيح للإفطار من عطف الخاص على العام لأن المرض
داخل في الرخصة (لم يقض عنه) أي عن ثواب ذلك اليوم وفضله وبركته (صوم الدهر كله)
أي صومه فيه فالإضافة فيه بمعنى في نحو مكر الليل وكله للتأكيد (وإن صامه) أي ولو
صام الدهر كله. قال المظهر: أي لم يجد فضيلة الصوم
.......................
(12/490)
المفروض بصوم النافلة، وليس معناه لو صام الدهر بنية قضاء يوم من رمضان لا يسقط عنه قضاء ذلك اليوم بل يجزيه قضاء يوم بدلا من يوم. وقال الطيبي: هو من باب التشديد والتغليظ ولذا أكده بقوله وإن صامه، أي وإن صامه حق الصيام ولم يقصر فيه وبذل جهده وطاقته. وزاد في المبالغة حيث أسند القضاء إلى الصوم إسنادا مجازيا، وأضاف الصوم إلى الدهر أجزاء للظرف مجرى المفعول به إذ الأصل لم يقض هو في الدهر كله إذا صامه وقال ابن المنير: يعني إن القضاء لا يقوم مقام الأداء ولو صام عوض اليوم دهرا ويقال بموجبه، فإن الإثم لا يسقط بالقضاء ولا سبيل إلى اشتراك القضاء والأداء في كمال الفضيلة فقوله لم يقضه صيام الدهر أي في وصفه الخاص به وهو الكمال، وإن كان يقضى عنه وصفه العام المنحط عن كمال الأداء هذا هو اللائق بمعنى الحديث ولا يحمل على نفي القضاء بالكلية ولا نعهد عبادة واجبة مؤقتة لا تقبل القضاء إلا الجمعة، لأنها لا تجتمع بشروطها إلا في يومها وقد فات، أو في مثله. وقد اشتعلت بالحاضرة فلا تسع الماضية - انتهى. قال الحافظ: ولا يخفى تكلفة وسياق أثر ابن مسعود الآتي يرد هذا التأويل- انتهى. وفي رواية ابن ماجه لم يجزه صيام الدهر. قال السندي: أي لم يكف عنه، ولا يكون مثلا له من كل وجه البقاء إثم التعمد ولا يحصل به فضيلة صوم يوم رمضان ولا يلزم منه عند الجمهور إنه لا قضاء عليه - انتهى. قلت: ظاهر الحديث يقوي قول من ذهب إلى عدم القضاء في الفطر بالأكل بل يبقى ذلك في ذمته زيادة في عقوبته لأن مشروعية القضاء تقتضي رفع الإثم، وبه قال ابن مسعود وعلي. وروى نحوه عن أبي هريرة كما سيأتي وإليه ذهب ابن حزم. قال ابن حجر: وما اقتضاه ظاهره أن صوم الدهر كله بنية القضاء عما أفطره من رمضان لا يجزئه قال به علي وابن مسعود، والذي عليه أكثر العلماء إنه يجزئه يوم بدل يوم، وإن كان ما أفطره في غاية الطول والحر وما صامه بدله في غاية القصر والبرد
(12/491)
- انتهى. وذكر البخاري حديث
أبي هريرة هذا تعليقا غير مجزوم فقال: ويذكر عن أبي هريرة رفعه من أفطر يوما في
رمضان من غير عذر ولا مرض لم يقضه صيام الدهر وإن صامه وبه قال ابن مسعود. وقال
سعيد بن المسيب والشعبي وابن جبير وإبراهيم وقتادة وحماد: يقتضى يوما مكانه -
انتهى. قلت: أثر ابن مسعود وصله البيهقي (ج4:ص228) من طريق منصور عن واصل عن
المغيرة بن عبدالله اليشكري. قال: حدثت أن عبدالله بن مسعود قال من أفطر يوما من
رمضان من غير علة لم يجزه صيام الدهر، حتى يلقى الله عزوجل، فإن شاء غفر له وإن
شاء عذبه، والمغيرة هذا من ثقات التابعين، ولكنه منقطع. فإنه قال حدثت عنه، ووصله
عبدالرزاق وابن أبي شيبة من وجه آخر عن واصل عن المغيرة عن فلان بن الحارث عن بن
مسعود، ووصله الطبراني والبيهقي أيضا من طريق عبدالملك عن أبي المغيرة الثقفي عن
عرفجة قال: قال عبدالله بن مسعود من أفطر يوما في رمضان متعمدا من غير علة، ثم قضى
طول الدهر لم يقبل منه. وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي معاوية عن عمر بن يعلى الثقفي
عن عرفجة عن علي مثله
رواه أحمد: والترمذي، وأبوداود، وابن ماجه، والدارمي، والبخاري في ترجمة باب. وقال
الترمذي: سمعت محمدا – يعني البخاري – يقول: أبوالمطوس الراوي لا أعرف له غير هذا
الحديث.
(12/492)
قال البيهقي: عبدالملك هذا أظنه ابن حسين النخعي ليس بالقوى. قلت: بل هو متروك، وعن عمر بن يعلى هو عمر بن عبدالله بن يعلى الثقفي وهو أيضا ضعيف متروك. (رواه أحمد) (والترمذي) واللفظ له (وأبوداود وابن ماجه والدارمي) وأخرجه أيضا النسائي في السنن الكبرى وأبوداود الطيالسي (ص331) وابن خزيمة في صحيحه والبيهقي (ج4 ص228) والدارقطني (ص252) وابن حزم (ج6 ص182- 183) كلهم من رواية ابن المطوس. وقيل: أبي المطوس عن أبيه عن أبي هريرة (والبخاري) أي تعليقا بصيغة التمريض كما عرفت (في ترجمة باب) أي في تفسيره كما يقال باب الصلاة الصوم ذكره الطيبي كذا في المرقاة، والمراد أنه لم يورده. مسندا بطريق التحديث، والرواية كما يورد الأحاديث المسندة في الأصول المترجمة لها بل جعله مترجما به. قال الترمذي: حديث أبي هريرة لا نعرفه إلا من هذا الوجه. قال العراقي: يريد الحديث المرفوع، ومع هذا فقد روى مرفوعا من غير طريق أبي المطوس رواه الدارقطني (ص252) من طريق عمار بن مطر عن قيس عن عمرو ابن مرة عن عبدالله بن الحارث عن عبدالله بن مالك عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أفطر يوما من رمضان من غير مرض ولا رخصة لم يقض عنه صيام وإن صام الدهر كله. قلت عمار بن مطر هالك. قال أبوحاتم الرازي: كان يكذب. وقال ابن عدي: أحاديثه بواطيل. وقال الدارقطني: ضعيف، ووثقه بعضهم كذا في اللسان (ج4 ص275- 276) وقد روى موقوفا على أبي هريرة من غير طريق أبي المطوس رواه النسائي من طريق العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مثله موقوفا من قوله (وقال الترمذي سمعت محمدا يعني البخاري يقول أبوالمطوس) بتشديد الواو المكسورة كذا ضبطه في التقريب والخلاصة. وقال الذهبي والعيني والقسطلاني: بتشديد الواو المفتوحة وهو من أفراد الكنى ويقال ابن المطوس وكل صحيح فهو أبوالمطوس وأبوه اسمه المطوس أيضا. قال الحافظ في تهذيبه (ج12 ص239)
(12/493)
وقال يزيد بن أبي أنيسة عن
حبيب عن أبي المطوس عن المطوس عن أبي هريرة، فعلى هذا من قال أبوالمطوس أو ابن
المطوس فقد أصاب - انتهى. وقد اختلف في اسم أبي المطوس: فقال البخاري وابن حبان:
اسمه يزيد. وقال يحيى بن معين: اسمه عبدالله. وقال أبوحاتم وأبوداود: لا يسمى. وقد
اختلف فيه، فقال ابن معين: ثقة. وقال أحمد: لا أعرفه، ولا أعرف حديثه عن غيره.
وقال الذهبي في الميزان: ضعف، قال ولا يعرف هو ولا أبوه. وقال في التقريب: إنه لين
الحديث وقال ابن حبان: يروي عن أبيه ما لا يتابع عليه لا يجوز الاحتجاج بأفراده -
انتهى. قال الحافظ في تهذيبه: إذا لم يكن له إلا هذا الحديث فلا معنى لهذا الكلام
(لا أعرف له غير هذا الحديث) وقال البخاري في التاريخ
2034-(16) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كم من صائم ليس له
من صيامه إلا الظمأ. وكم من قائم، ليس من قيامه إلا السهر)). رواه الدارمي، وذكر
أيضا، تفرد أبوالمطوس بهذا الحديث ولا أدري سمع أبوه من أبي هريرة أم لا- انتهى.
قلت: أبوه المطوس ذكره ابن حبان في الثقات. وقال أحمد: لا أعرف المطوس ولا ابن
المطوس، وتقدم قول الذهبي لا يعرف هو (أي أبوالمطوس) ولا أبوه. وقال في التقريب:
مجهول. وقال ابن عبدالبر: حديث ضعيف، لا يحتج به، وضعفه أيضا ابن حزم. وقال لا
نعتمد عليه، لأن أباالمطوس غير مشهور بالعدالة. وقد نقل الحافظ في الفتح عن ابن
خزيمة تصحيحه، ثم ذكر كلام البخاري المتقدم ثم قال: واختلف فيه على حبيب بن أبي
ثابت اختلافا كثيرا فحصلت فيه ثلاث علل، الاضطراب، والجهل بحال أبي المطوس، والشك
في سماع أبيه من أبي هريرة، وهذه الثالثة تختص بطريقة البخاري في اشتراط اللقاء -
انتهى. قلت: ومثل هذا الحديث لا يكفى مع انفراده للاحتجاج به، ويحمل إن ثبت على
التشديد والتغليظ كما سبق والله تعالى أعلم.
(12/494)
2034- قوله: (كم من صائم ليس
له) أي حاصل أو حظ (من صيامه) أي من أجله (إلا الظمأ) بالرفع أي العطش ونحوه من
الجوع يعني ليس لصومه قبول عند الله فلا ثواب له، نعم سقوط التكليف عن الذمة حاصل
عند العلماء (وكم من قائم) أي في الليل (ليس له من قيامه) إلا أثر (إلا السهر)
بفتحتين أي ونحوه من تعب الرجل وصفار الوجه وضعف البدن، يعني أنه لا ثواب له لفقد
شرط حصوله من نحو إخلاص أو خشوع. قال الطيبي: إن الصائم إذا لم يكن محتسبا أو لم
يكن مجتنبا عن الفواحش من الزور والبهتان والغيبة ونحوها من المناهي، فلا حاصل له
إلا الجوع والعطش، وإن سقط القضاء، وكذا جميع العبادات إذا لم تكن خالصة، بل رياء
وسمعة فإنها تسقط القضاء ولا يترتب عليها الثواب. (رواه الدارمي) في الرقاق من
طريق عبدالرحمن بن أبي الزناد عن عمرو بن أبي عمر وميسرة عن سعيد المقبري عن أبي
هريرة وهذا إسناد جيد. وأخرجه أيضا أحمد (ج2 ص373و 441) والنسائي في السنن الكبرى
وابن خزيمة في صحيحه كما في الترغيب، والبغوي في شرح السنة كما في التنقيح وابن
ماجه، ولفظه رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا
السهر. ونقل السندي عن البوصيري أنه قال في الزوائد إسناده ضعيف. وقال العزيزي في
شرح الجامع الصغير: هو حديث حسن. ورواه الحاكم (ج1 ص431) ولفظه رب صائم حظة من
الصيام الجوع، ورب قائم حظه من قيامه السهر قال الحاكم: حديث صحيح على شرط
البخاري، ووافقه الذهبي. ورواه البيهقي (ج4 ص270) ولفظه رب قائم حظه من قيامه
السهر، ورب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورواه الطبراني في الكبير عن ابن عمر.
قال الهيثمي (ج3 ص202): رجاله موثقون. وقال المنذري: إسناده لا بأس به (وذكر)
بصيغة
حديث لقيط بن صبرة في باب سنن الوضوء.
?الفصل الثالث?
2035- (17) عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث لا يفطرن
الصائم: الحجامة، والقيء،
(12/495)
المجهول (حديث لقيط بن صبرة) بفتح الصاد وكسر الموحدة (في باب السنن الوضوء) والحديث قوله بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما، وهذا اعتراض من صاحب المشكاة على صاحب المصابيح، وهو في محله كما لا يخفى، لأن إيراد الحديث في الباب الموضوع للحكم السابق منه أولى، كذا قال القاري. واختلف في المضمضة والاستنشاق إذا غلبه الماء، فدخل حلقه عن غير تعمد. فقال أبوحنيفة: إن كان ذاكرا لصومه فقد أفطر وعليه القضاء، وإن كان ناسيا فلا شيء عليه وهو قول إبراهيم. وقال مالك: عليه القضاء في كل ذلك. وقال ابن أبي ليلى: لا قضاء عليه ذاكرا كان أو غير ذاكر. وروى عن الشعبي وحماد والحسن بن حي إن كان ذلك في وضوء لصلاة فلا شيء عليه، وإن كان لغير وضوء فعليه القضاء، كذا في المحلى. وقال الشوكاني: يكره للصائم المبالغة في المضمضة والاستنشاق لحديث لقيط بن صبرة واختلف إذا دخل من ماء المضمضة والاستنشاق إلى جوفه خطأ. فقالت الحنفية ومالك والشافعي: في أحد قوليه، والمزني أنه يفسد الصوم. وقال أحمد وإسحاق والأوزاعي وأصحاب الشافعي: إنه لا يفسد الصوم كالناسي. وقيل: يفسد الصوم بعد الثلاث المرات. وقيل: يفسد إذا كان التمضمض لغير قربة. وقيل: يفسد إن لم يكن لفريضة- انتهى. وقال ابن قدامة (ج3 ص108): ولنا أي لأحمد ومن وافقه أنه وصل إلى حلقة من غير إسراف ولا قصد، فأشبه ما لو طارت ذبابة إلى حلقة، وبهذا فارق المتعمد فأما إن أسرف فزاد على الثلاث أو بالغ في الاستنشاق فقد فعل مكروها لحديث لقيط بن صبرة، ولأنه يتعرض بذلك لإيصال المال إلى حلقه، فإن وصل إلى حلقه فقال أحمد يعجبني أن يعيد الصوم، وهل يفطر بذلك؟ على وجهين أحدهما، يفطر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المبالغة حفظا للصوم، فدل ذلك على أنه يفطر به، ولأنه وصل بفعل منهي عنه فأشبهه التعمد. والثاني لا يفطر به لأنه وصل من غير قصد فأشبه غبار الدقيق إذا نخله - انتهى. قلت: الراجح
(12/496)
عندي هو الوجه الأول فيجب عليه
القضاء والله تعالى أعلم.
2035- قوله: (عن أبي سعيد) أي الخدري (ثلاث) أي خصال (لا يفطرن) بتشديد الطاء
(الصائم) بالنصب على المفعولية (الحجامة) بكسر الحاء أي الاحتجام وقد عرفت الخلاف
في ذلك فيما سبق من الكلام (والقيء) أي إذا ذرعه لما تقدم في الحديث. قال البيهقي
في المعرفة: هو محمول على ما لو ذرعه القيء جمعا بين
والاحتلام)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غير محفوظ، وعبدالرحمن بن زيد الراوي
يضعف في الحديث.
(12/497)
الأخبار (والاحتلام) أي ولو تذكر الجماع ورأى المني، لأنه وإن كان في معنى الجماع. لكن حيث إنه ليس باختياره لا يضره بالإجماع، فمن احتلم في منامه نهارا في رمضان فأنزل فلا فطر ولا قضاء (رواه الترمذي) وكذا البيهقي في المعرفة وفي السنن (ج4 ص264) وابن حبان في الضعفاء كلهم من رواية عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري (وقال: هذا حديث غير محفوظ) وقال: أيضا قد رواه عبدالله بن زيد بن أسلم وعبدالعزيز بن محمد الدراوردي، وغير واحد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مرسلا. ولم يذكروا فيه عن أبي سعيد. قلت: رواه مرسلا ابن أبي شيبة من طريق يحيى بن سعيد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (وعبدالرحمن بن زيد) بن أسلم (يضعف في الحديث) وقال الترمذي أيضا: سمعت محمدا يذكر عن علي بن المديني. قال: عبدالله بن زيد بن أسلم ثقة. وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف. قال محمد: ولا أروى عنه شيئا - انتهى. وقال البيهقي في السنن (ج4 ص264): هكذا رواه عبدالرحمن بن زيد وليس بالقوى. وقال في (ج4 ص220) عبدالرحمن ضعيف. وقال في المعرفة: عبدالرحمن ضعيف في الحديث، لا يحتج بما يتفرد به وقال ابن حبان: عبدالرحمن كان يقلب الأخبار، وهو لا يعلم حتى كثر ذلك في روايته من رفع الموقوفات وإسناد المرسلات، فاستحق الترك - انتهى. ورواه البزار من طريق أسامة بن زيد بن أسلم عن أبيه به مسندا موصولا. قال البزار: هذا الحديث إنما يعرف عن عبدالرحمن بن زيد عن أبيه وعبدالرحمن ضعيف جدا فذكرناه عن أخيه أسامة لأنه أحد الأخوة (الذين حدثوا بهذا الحديث) وهم عبدالله وعبدالرحمن وأسامة - انتهى. قلت: وأسامة هذا ضعيف من قبل حفظه، وسأل ابن أبي حاتم أباه وأبازرعة عن حديث أبي سعيد رواه عبدالرحمن وأسامة إبنا زيد عن أبيهما موصولا فقالا هذا خطأ ورواه الدارقطني في سننه (ص239) من طريق هشام بن سعد عن
(12/498)
زيد بن أسلم عن عطاء به
موصولا، وهشام صدوق، وقد تكلموا في حفظه. وقد قال الدارقطني في العلل: إنه لا يصح
عن هشام بن سعد كذا في التلخيص (ص190) وقال الزيلعي (ج2 ص447) وهشام بن سعد وإن
تكلم فيه غير واحد فقد احتج به مسلم، واستشهد به البخاري، ورواه ابن عدي في الكامل
وأسند تضعيف هشام بن سعد عن النسائي وأحمد وابن معين ولينه هو، وقال ومع ضعفه يكتب
حديثه - وقال عبدالحق في أحكامه: هشام بن سعد يكتب حديثه ولا يحتج به - انتهى. قال
الدارقطني ورواه كامل بن طلحة عن مالك عن زيد موصولا، ثم رجع عنه وليس هو من حديث
مالك ورواه أبوداود من حديث الثوري
2036-(18) وعن ثابت البناني، قال: ((سأل أنس بن مالك، كنتم تكرهون الحجامة للصائم
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، إلا من أجل الضعف)).
عن زيد بن أسلم عن رجل من أصحابه عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يفطر من قاء ولا من احتجم ولا من احتلم،
ورجحه أبوحاتم وأبوزرعة. وقالا: أنه أصح وأشبه بالصواب وتبعهما البيهقي، ثم قال هو
محمول إن صح على من ذرعه القيء، وصوب أيضا الدارقطني رواية الثوري كما في نصب
الراية (ج2 ص448) والتلخيص (ص190) وقال صاحب التنقيح: المحفوظ فيه ما رواه
أبوداود. وقال المنذري: هذا لا يثبت أي لأن في سنده رجلا لا يعرف. وقد روى من وجه
آخر ولا يثبت أيضا. وفي الباب عن ابن عباس أخرجه البزار وابن عدي من حديث هشام بن
سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس. قال الحافظ في التلخيص (ص190) هو
حديث معلول. وقال الهيثمي (ج3 ص170): رواه البزار بإسنادين، وصحح أحدهما وظاهرة
الصحة - انتهى. وفي الباب أيضا عن ثوبان أخرجه الطبراني في الأوسط. قال الحافظ في
التلخيص: بسند ضعيف في ترجمة محمد بن الحسن بن قتيبة. وقال الهيثمي: إسناده ضعيف.
(12/499)
2036- قوله: (وعن ثابت
البناني) بضم الموحدة وخفة النون الأولى وكسر الثانية، نسبة إلى بنانة بضم الباء
ونونين مخفيفين، وهي إسم أم سعد بن لوى، وثابت هذا هو ثابت بن أسلم أبومحمد البصري
ثقة تابعي مشهور من أعبد أهل البصرة وأعلامها، حكى عنه أنه قال صحبت أنس بن مالك
أربعين سنة، مات سنة (127) وقيل سنة (123) (قال سأل أنس بن مالك) السائل هو ثابت
نفسه يدل عليه رواية الإسماعيلي وأبي نعيم والبيهقي (ج4 ص264) من طريق جعفر بن
محمد القلانسي وأبي قرصافة محمد بن عبدالوهاب وإبراهيم بن الحسين بن دريد كلهم عن
آدم بن أبي إياس شيخ البخاري فيه فقال عن شعبة عن حميد. قال: سمعت ثابتا وهو يسأل
عن أنس بن مالك فذكر الحديث (كنتم) كذا في جميع النسخ الحاضرة وهكذا وقع في جامع
الأصول (ج7 ص192) ووقع في البخاري أكنتم (على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-) ذكره تأكيدا لرفعه وهذا اللفظ أورده البخاري تعليقا، فقال بعد رواية الحديث عن
آدم بن أبي إياس عن شعبة، وزاد شبابة ثنا شعبة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم
-. قال الحافظ والعيني: وهذه الزيادة أخرجها ابن منده في غرائب شعبة (قال لا) أي
ما كنا نكرهها (إلا من أجل الضعف) أي لأن بدن المحجوم وحينئذ فيندب تركها كالفصد
ونحوه تحرزا عن أضعاف البدن، ويؤيده ما رواه البيهقي (ج4 ص264) بسنده عن أبي سعيد
قال: إنما كرهت الحجامة للصائم مخافة الضعف، وما رواه عبدالرزاق وأبوداود من طريق
عبدالرحمن بن عابس عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن رجل من أصحاب
رواه البخاري.
2037-(19) وعن البخاري تعليقا، قال: ((كان ابن عمر يحتجم وهو صائم ثم تركه فكان
يحتجم بالليل)).
(12/500)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحجامة للصائم وعن المواصلة ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه إسناده صحيح، وقوله إبقاء على أصحابه يتعلق بقوله نهى. وقد رواه ابن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري بإسناده هذا ولفظه عن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - قالوا: إنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحجامة للصائم وكرهها للضعيف أي لئلا يضعف كذا في الفتح (رواه البخاري) عن آدم بن أبي أياس عن شعبة قال: سمعت ثابتا البناني قال سأل أنس بن مالك. قال الحافظ كذا في أكثر أصول البخاري: سأل بضم أوله على البناء للمجهول. وفي رواية أبي الوقت سمعت ثابتا البناني يسأل أنس بن مالك وهذا غلط، فإن شعبة ما حضر سؤال ثابت لأنس. وقد سقط منه رجل بين شعبة وثابت كما يدل عليه رواية الإسماعيلي وأبي نعيم والبيهقي على ما تقدمت قال: وأشار الإسماعيلي والبيهقي إلى أن الرواية التي وقعت للبخاري خطأ وأنه سقط منه حميد قال الإسماعيلي: وكذلك رواه علي بن سهل عن أبي النضر عن شعبة عن حميد. قال الحافظ: والخلل فيه من غير البخاري وبين وجه ذلك. قال القاري: والحديث موقوف لكنه في حكم المرفوع كما هو في الأصول على أن هذه الصيغة ظاهرة في إجماع الصحابة وهو لا يكون إلا عن سند فيكون حجة لما ذهب إليه أكثر العلماء على ما تقدم - انتهى. وحديث أنس هذا رواه أبوداود بلفظ: قال ما كنا ندع الحجامة للصائم إلا كراهية الجهد.
(13/1)
2037- قوله: (وعن البخاري
تعليقا قال كان ابن عمر يحتجم وهو صائم) لما يرى من جوازه (ثم تركه) أي الاحتجام
صائما إحتياطا وكان من الورع بمكان أو تركه خوفا من الضعف (فكان يحتجم بالليل) قال
الباجي: يريد أنه لما كبر وضعف كان يخاف على نفسه أن يفطر بالضعف من الحجامة ولذا
يكره لكل من خاف الضعف على نفسه أن يحتجم حتى يفطر، لأن الحجامة ربما أدته إلى
فساد صومه - انتهى. وهذا التعليق وصله مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه كان
يحتجم وهو صائم. قال ثم ترك ذلك بعد فكان إذا صام لم يحتجم حتى يفطر قال الحافظ:
ورويناه في نسخة أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس عن الزهري كان ابن عمر يحتجم وهو
صائم في رمضان وغيره، ثم تركه لأجل الضعف هكذا وجدته منقطعا، ووصله عبدالرزاق عن
معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه وكان ابن عمر كثير الإحتياط فكأنه ترك الحجامة
نهارا لذلك - انتهى. قلت وروى البيهقي (ج4 ص269) من طريق أبي اليمان عن شعيب. قال:
قال نافع: كان ابن عمر يحتجم وهو صائم ثم تركه بعد فكان
2038-(20) وعن عطاء، قال: ((إن مضمض ثم أفرغ ما في فيه من الماء، لا يضيره أن
يزدرد ريقه وما بقي في فيه،
يحتجم بالليل فلا أدري عن شيء ذكره أو شيء سمعه. وروى ابن أبي شيبة من طريق يزيد
عن عبدالله عن نافع وقال في آخره فلا أدري لأي شيء تركه كرهه أو للضعف. وهذا
التعليق أورده البخاري في باب الحجامة والقيء للصائم وكان حق إيراده ههنا على ما
اصطلح عليه المصنف أن يقول أولا، وعن ابن عمر أنه كان يحتجم الخ، ثم يقول أورده أو
ذكره البخاري تعليقا وأما على صنيع المصنف فيكون المعنى، رواه البخاري عن البخاري
تعليقا ولا يخفى ما فيه.
(13/2)
2038- قوله: (وعن عطاء) هو ابن أبي رباح (إن مضمض) أي الصائم وفي بعض نسخ البخاري تمضمض (ثم أفرغ ما في فيه) أي صب جميع ما في فمه (من الماء) بيان لما الموصولة (لا يضيره) بمثناة تحتية بعد الضاد المعجمة المكسورة من ضاره يضيره ضيرا بمعنى ضره، وهذا رواية المستملي. وفي رواية غيره لا يضره من ضره بالتشديد أي لا يضر صومه (أن يزدرد ريقه) أي يبتلعه (وما بقي في فيه) أي فمه وكلمة "ما" موصولة عطف على "ريقه" قال ابن بطال: ظاهره إباحة إلإزدراد لما بقي في الفم من ماء المضمضة، وليس كذلك. لأن عبدالرزاق رواه بلفظ: وماذا بقي في فيه وكأن ذا سقطت من رواية البخاري - انتهى. قلت: وقع في نسختي القسطلاني والعيني وماذا بقي في فيه. قال القسطلاني: أي وأي شيء بقي في فمه بعد أن يمج الماء إلا أثر الماء فإذا بلغ ريقه لم يضره، ولأبي ذر وابن عساكر كما في الفرع وما بقي، فأسقط لفظة "ذا" وحينئذ "فما" موصولة. ثم ذكر كلام ابن بطال ثم قال ولعله لم يقف على الرواية المثبتة لها - انتهى. قال الحافظ: هذا التعليق وصله سعيد ابن منصور عن ابن المبارك عن ابن جريج. قلت: لعطاء الصائم يمضمض ثم يزدرد ريقه وهو صائم قال لا يضره وماذا بقي في فيه، وكذا أخرجه عبدالرزاق عن ابن جريج. ووقع في أصل البخاري وما بقي في فيه ثم ذكر الحافظ كلام ابن بطال المتقدم، ثم قال وما على ما أورده البخاري موصولة، وعلى ما وقع من رواية ابن جريج استفهامية، وكأنه قال وأي شيء يبقى في فيه بعد أن يمج الماء إلا أثر الماء فإذا بلغ ريقه لا يضره - انتهى. وقيل: يجوز أن تكون كلمة "ما" على ما في أصل البخاري أيضا استفهامية، استفهام إنكار، وإن لم يكن معها "ذا" ويتم المعنى كما لا يخفى. وقيل: "ما" نافية والجملة حالية. قال ابن قدامة: ومالا يمكن التحرز منه كابتلاع الريق لا يفطره لأن اتقاء ذلك يشق فأشبه غبار الطريق وغربلة الدقيق فإن جمعه ثم ابتلعه قصدا لم يفطره. وقال ابن
(13/3)
الهمام وغيره من علماء
الحنفية: لا يضر الصائم إن دخل غبار أو دخان أو ذباب حلقه لأنه لا يمكن الاحتراز
عن
ولا يمضغ العلك، فإن ازدرد ريق العلك لا أقول: إنه يفطر، ولكن ينهى عنه)). رواه
البخاري في ترجمة باب.
هذه الأشياء كما لا يمكن الاحتراز عن البلل الباقي في المضمضة كذا في المرقاة:
(ولا يمضغ) أي لا يلوك الصائم يقال مضغ الطعام يمضغه بفتح الضاد وضمها أي لاكه
بلسانه أو سنه و"لا" نافية أو ناهية (العلك) بكسر المهملة وسكون اللام
بعدها كاف كل ما يمضغ ويبقى في الفم كالمصطكى. قال القاري: العلك صمغ الصنوبر
والأرزة والفستق والسرد والينبوت والبطم وهو أجودها مسخن مدر باهي، وفي نسخة ويمضغ
بحذف كلمة لا - انتهى. قلت: كذا وقع في رواية المستملى بإسقاط كلمة لا، ورواية
الأكثرين لا يمضغ بإثبات كلمة لا، وهي أولى وكذلك أخرجه عبدالرزاق عن ابن جريج
قلت: لعطاء يمضغ الصائم قال لا، قلت أنه يمج ريق العلك ولا يزدرده ولا يمصه قال
نعم، قلت له أيتسوك الصائم قال نعم، قلت أيزدرد ريقه؟ قال لا، قلت ففعل أيضره قال
لا: ولكن ينهي عن ذلك (فإن ازدرد ريق العلك) قال ابن حجر: يصح هنا كسر العين
وفتحها أي الريق المتولد من العلوك أو من مضغه (لا أقول أنه يفطر) بالتشديد
فالضمير راجع إلى الإزدراد وفي نسخة بالتخفيف فالضمير إلى الصائم. قال ابن حجر:
وإنما لم يفطر لأنه لم ينزل إلى الجوف عين أجنبية. وإنما النازل إليه محض الريق لا
غير (ولكن ينهى) نهي تنزيه (عنه) أي عن الإزداراد. قال ابن المنذر: رخص في مضغ
العلك أكثر العلماء إن كان لا يتحلب منه شيء فإن تحلب منه شيء فازدراد فالجمهور
على أنه يفطر - انتهى. قال الحافظ: والعلك كل ما يمضغ ويبقى في الفم كالمصطكى
واللبان، فإن كان يتحلب منه شيء في الفم فيدخل الجوف فهو مفطر، وإلا فهو مجفف
ومعطش فيكره من هذه الحيثية - انتهى. قلت: وكرهه الشافعي من هذه الجهة وكرهه أيضا
إبراهيم والشعبي وروى عنه
(13/4)
أنه لم ير به بأسا. قال ابن
حزم: وروى من طريق لا يصح عن أم حبيبة أم المؤمنين إنها كرهت العلك للصائم. قلت:
روى البيهقي (ج4 ص269) من طريق سعيد بن عيسى عن جدته إنها سمعت أم حبيبة تقول لا
يمضغ العلك الصائم. قال البيهقي: جدته أم الربيع والحديث موقوف - انتهى. وقال ابن
قدامة: (ج3 ص109) قال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد الصائم يمضغ العلك قال لا، قال
أصحابنا العلك ضربان أحدهما، ما يتحلل منه أجزاء وهو الرديء الذي إذا مضغه يتحلل
فلا يجوز مضغه، إلا أن لا يبلع ريقه فإن ريقه فإن فعل فنزل إلى حلقه منه شيء أفطر
به كما لو تعمد أكله. والثاني، العلك الذي كلما مضغه صلب وقوي فهذا يكره مضغه ولا
يحرم، وممن كرهه الشعبي والنخعي ومحمد بن علي وقتادة والشافعي وأصحاب الرأي. وذلك
لأنه لا يحلب الفم ويجمع الريق ويورث العطش، ورخصت عائشة في مضغه. لأنه لا يصل إلى
الجوف فهو كالحصاة يمضغها في فيه- انتهى. (رواه البخاري في ترجمة) أثر عطاء هذا
ذكره البخاري
...............................
في باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ فليستنشق بمنخره الماء ولم يميز
بين الصائم وغيره. قال الحافظ: قول المصنف يعني البخاري ولم يميز بين الصائم وغيره
قاله تفقها وهو كذلك في أصل الاستنشاق، لكن ورد تميز الصائم من غيره في المبالغة
في ذلك، كما رواه أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وغيره من طريق عاصم عن لقيط بن صبرة
عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له، بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون
صائما. انتهى.
............................
بعون الله وحسن توفيقه تم الجزء السادس من مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح.
ويليه الجزء السابع إنشاء الله تعالى، وأوله "باب صوم المسافر".
(13/5)
بسم الله الرحمن الرحيم
(4) باب صوم المسافر
?الفصل الأول?
2039-(1) عن عائشة، قالت: ((إن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه
وسلم: أصوم في السفر وكان كثير الصيام. فقال: إن شئت فصم، وإن شئت فافطر)) متفق
عليه.
(باب المسافر) أي في بيان حكم الصوم للمسافر، من جواز فعله وتركه وبيان الأفضل
منهما قال الله تعالى ?فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر? [البقرة:
184]
2039- قوله: (إن حمزة بن عمرو) بفتح العين وسكون الميم وبالواو في آخره ابن عويمر
(الأسلمي) من ولد أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمر يكنى أبا صالح، ويقال أبومحمد
المدني صحابي جليل، له تسعة أحاديث استنارت أصابعه في ليلة ظلماء مع رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -، وكان يسرد الصوم. مات سنة إحدى وستين، وله إحدى وسبعون،
وقيل: ثمانون. (أصوم في السفر) أي أ أصوم بتقدير همزة الاستفهام. وقال القاري: أي
فما حكمه؟ أي فهل على جناح في الصوم أو ضده أو يقدر الاستفهام-انتهى. قلت: كذا وقع
في بعض نسخ البخاري أصوم، وهي رواية النسائي أيضا، ووقع في نسخ القسطلاني والعيني
والحافظ أ أصوم بهمزتين، الأولى همزة الاستفهام، والأخرى همزة المتكلم. وهكذا وقع
في جامع الأصول (ج7ص261) وشرح العمدة لابن دقيق العيد (ج2ص223) وفي رواية لمسلم
إني رجل أصوم (أي من عادتي ذلك) أفأصوم في السفر، وفي أخرى لهما إني أسرد الصوم،
بضم الراء أي اتابعه. واستدل به على أن لا كراهية في صيام الدهر لأنه أخبره بسرده
فلم ينكر عليه بل أقره عليه وهو في السفر ففي الحضر بالأولى، قال الحافظ: ولا
دلالة فيه لأن التتابع يصدق بدون صوم الدهر، فإن ثبت النهي عن صوم الدهر لم يعارضه
هذا الإذن بالسرد، بل الجمع بينهما واضح-انتهى. وقال شيخنا في شرح الترمذي: في
الاستدلال بقوله أسرد على عدم كراهة صوم الدهر نظر، لأنه يحتمل أن يكون المراد به
أي أكثر الصيام كما يدل عليه قوله "وكان كثير الصيام"
(14/1)
فما لم ينتف هذا الاحتمال لا يتم الاستدلال-انتهى. (وكان) أي حمزة (كثير الصيام) الجملة معترضة لبيان الحال الحامل له على هذا السؤال (فقال إن شئت فصم وإن شئت فافطر) بهمزة قطع. وفيه دليل على التخيير بين الصوم والفطر واستوائهما في السفر. قال الخطابي: هذا نص في إثبات الخيار للمسافر في الصوم والإفطار، وفيه بيان جواز صوم الفرض للمسافر إذا صامه، وهو قول عامة أهل العلم إلا ما روى عن ابن عمر أنه قال إن صام في السفر قضى في الحضر. وقد روى عن ابن عباس أنه قال لا يجزيه، وذهب إلى هذا داود بن علي-انتهى.
(14/2)
قلت: قال ابن حزم (ج6ص253) حديث حمزة بيان جلي في أنه إنما سأله عليه السلام عن التطوع لقوله في الخبر "إني امرؤ أسرد الصوم" قال الحافظ في التلخيص (ص194) لكن ينتقض عليه بأن عند أبي داود في رواية صحيحة من طريق حمزة بن محمد عن أبيه عن جده ما يقتضي أنه سأله عن الفرض وصححها الحاكم-انتهى. وقال ابن دقيق العيد (ج2ص223) ليس في حديث الباب تصريح بأنه صوم رمضان، فلا يكون فيه حجة على من منع صيام رمضان في السفر. قال الحافظ في الفتح: هو كما قال بالنسبة إلى سياق حديث الباب، لكن في رواية أبي مرواح عن حمزة عند مسلم أنه قال: يا رسول الله ! أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل على جناح فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي رخصة من الله-الحديث (وسيأتي في الفصل الثالث) وهذا يشعر بأنه سأل عن صيام الفريضة، وذلك إن الرخصة إنما تطلق في مقابلة ما هو واجب، وأصرح من ذلك ما أخرجه أبوداود والحاكم من طريق محمد بن عمرو عن أبيه أنه قال يا رسول الله ! إني صاحب ظهور أعالجه أسافر عليه وأكريه، وأنه ربما صادفني هذا الشهر يعني رمضان، وأنا أجد القوة وأجدني أن أصوم أهون على من أن أؤخره فيكون دينا علي فقال: أي ذلك شئت يا حمزة-انتهى. وقيل: الظاهر إن حمزة سأله - صلى الله عليه وسلم - مرتين: مرة عن صيام التطوع، وهو مذكور في حديث عائشة عند الشيخين. ومرة عن صوم رمضان، وهذا مذكور في رواية أبي مرواح عن حمزة عند مسلم، وفي رواية محمد بن حمزة بن عمرو عن أبيه عند أبي داود. وقال الباجي (ج2ص50) سؤال حمزة عام فإذا خرج الجواب مطلقا حمل على عمومه فحمل على جواز الصوم للفرض والنفل في السفر، ولا يخص صوم إلا بدليل. وذهب بعض أهل الظاهر إلى أن ذلك محمول على التطوع وهذا تخصيص بغير دليل فوجب أن يكون باطلا-انتهى. واختلف السلف في صوم رمضان في السفر. فقالت طائفة لا يجزئ الصوم عن الفرض، بل من صام في السفر وجب عليه قضاءه في الحضر وهو يقول بعض
(14/3)
الظاهرية. قال في الفتح: وحكى عن عمر وابن عمر وأبي هريرة والزهري وإبراهيم النخعي وغيرهم. واحتجوا بقوله تعالى: ?فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر? قالوا ظاهره فعليه عدة أو فالواجب عدة وتأوله الجمهور بأن التقدير فأفطر فعدة واحتجوا أيضا بما في حديث ابن عباس عند الشيخين إن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من المدينة على رأس ثمان سنين ونصف، ومعه عشرة آلاف إلى مكة يصوم ويصومون، حتى إذا بلغ الكديد أفطر وأفطروا. وإنما يؤخذ من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالآخر فالآخر، ففيه أن الإفطار في السفر كان آخر الأمرين، وإن الصحابة كانوا يأخذون بالآخر فالآخر من فعله فدل على أن صومه - صلى الله عليه وسلم - في السفر منسوخ.
(14/4)
وأجاب الجمهور عن ذلك بأن هذه الزيادة مدرجة من قول الزهري كما جزم بذلك البخاري في الجهاد، وكذلك وقعت عند مسلم مدرجة، وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صام بعد هذه القصة كما في حديث أبي سعيد عند أحمد ومسلم. أنه - صلى الله عليه وسلم - صام بعد هذه القصة في السفر، ولفظه سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة ونحن صيام فنزلنا منزلا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم فافطروا، فكانت رخصة فمنا من صام، ومنا من أفطر فنزلنا منزلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم مصبحو عدوكم فالفطر أقوى لكم فافطروا، فكانت عزيمة فافطرنا، ثم لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك في السفر. واحتجوا أيضا بقوله - صلى الله عليه وسلم - ليس من البر الصوم في السفر ومقابل البر الإثم وإذا كان آثما بصومه وأجاب عنه الجمهور بأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما قال ذلك: في حق من شق عليه الصوم كما سيأتي بيانه ولا شك إن الإفطار مع المشقة الزائدة أفضل، وأيضا نفي البر لا يستلزم عدم صحة الصوم. وقال الشافعي: يحتمل أن يكون المراد ليس من البر المفروض الذي من خالفه إثم. وقال الطحاوي: المراد بالبر هنا البر الكامل الذي هو أعلى المراتب، وليس المراد به إخراج الصوم في السفر عن أن يكون برا، لأن الإفطار قد يكون أبر من الصوم إذا كان للتقوى على لقاء العدو. وقال الشافعي أيضا: نفي البر المذكور في الحديث محمول على من أبى قبول الرخصة، وقد روى النسائي الحديث بلفظ ليس البر أن تصوموا في السفر وعليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوا. قال ابن القطان: إسنادها حسن متصل يعني الزيادة ورجح ابن خزيمة الأول. واحتجوا أيضا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر في الفصل الثالث: أولئك العصاة أولئك العصاة. وأجاب عنه الجمهور بأنه إنما نسبهم إلى العصيان لأنه عزم عليه فخالفوا
(14/5)
واحتجوا أيضا بحديث عبدالرحمن
بن عوف الآتي في الفصل الثالث وأجيب عنه بأنه حديث ضعيف، والراجح إنه موقوف كما
سيأتي وعلى تقدير صحته فهو محمول على الحالة التي يكون الفطر فيها أولى من الصوم
كحالة المشقة جمعا بين الأدلة واحتجوا أيضا بحديث أنس بن مالك الكعبي الآتي في
الفصل الثاني. وأجيب عنه بأنه مختلف فيه كما سيأتي، وعلى تسليم صحته، فالوضع لا
يستلزم عدم صحة الصوم في السفر وهو محل النزاع. وذهب أكثر العلماء منهم مالك
والشافعي وأبوحنيفة إلى أن الصوم أفضل لمن قوي عليه ولم يشق به، ويروي ذلك عن أنس
وعثمان بن أبي العاص واحتجوا بحديث سلمة بن المحبق الآتي، ولأن الصوم تعلق بالذمة
فالمبادرة إلى إبرائها أولى فربما طرأ من الموانع والاشتغال بخلاف القصر فإن الذمة
تبرأ فيه بما يؤتي. وقال كثير منهم الفطر أفضل عملا بالرخصة، وهو قول الأوزاعي
وأحمد وإسحاق. وقال آخرون هو مخير مطلقا وروى عن ابن عباس وأبي سعيد وسعيد ابن
المسيب وعطاء والحسن ومجاهد والليث.
2040-(2) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لست
عشرة مضت من شهر رمضان، فمنا من صام ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا
المفطر على الصائم)) رواه مسلم.
(14/6)
وقال آخرون أفضلهما أيسرهما لقوله تعالى: ?يريد الله بكم اليسر? [البقرة: 185] فإن كان الفطر أيسر عليه فهو أفضل في حقه، وإن كان الصيام أيسر كمن يسهل عليه حينئذ ويشق عليه قضاءه بعد ذلك فالصوم في حقه أفضل، وهو قول عمر بن عبدالعزيز واختاره ابن المنذر. قال الشوكاني والأولى أن يقال من كان يشق عليه الصوم ويضره، وكذلك من كان معرضا عن قبول الرخصة فالفطر أفضل له. أما الطرف الأول فلما تقدم من الأدلة في حجج القائلين بالمنع من الصوم. وأما الطرف الثاني فلحديث: إن الله يحب أن تؤتى رخصه، وقد تقدم. ولحديث: من رغب عن سنتي فليس مني، وكذلك يكون الفطر أفضل في حق من خاف على نفسه العجب أو الرياء إذا صام في السفر، وقد أشار إلى ذلك ابن عمر، فروى الطبري عن ابن عمر أنه قال: إذا سافرت فلا تصم، فإنك إن تصم. قال أصحابك: اكفوا الصائم ارفعوا للصائم وقاموا بأمرك، وقالوا فلان صائم، فلا تزال كذلك حتى يذهب أجرك. وأخرج نحوه عن أبي ذر، ومثل ذلك حديث أنس الآتي بعد حديثين وما كان من الصيام خاليا عن هذه الأمور أفضل من الإفطار-انتهى. (متفق عليه) واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضا أحمد، ومالك والترمذي وأبوداود، والنسائي وابن ماجه والدارمي والبيهقي وغيرهم.
(14/7)
2040- قوله: (غزونا مع رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -) فيه تجريد أو تأكيد لأن الغزوة لا تكون إلا معه
بخلاف السرية والمراد غزوة فتح مكة (لست عشرة) أي ليلة (مضت من شهر رمضان) كذا في
جميع النسخ، وفي مسلم من رمضان أي بإسقاط لفظ شهر، وهكذا وقع في جمع الأصول
(ج7ص262) والمصابيح، واختلفت الروايات في تعيين التأريخ ففي رواية لمسلم لثمان
عشرة خلت وفي رواية ثنتي عشرة، وفي رواية لسبع عشرة أو تسع عشرة، والمشهور في كتب
المغارى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة الفتح من المدينة لعشر خلون
من رمضان، ودخلها لتسع عشرة خلت. قال الحافظ: في الصيام من الفتح بعد الإشارة إلى
اختلاف الرواة في ضبط ذلك في حديث أبي سعيد ما لفظه، والذي اتفق عليه أهل السير
أنه خرج في عاشر رمضان، ودخل مكة لتسع عشرة ليلة خلت منه. وقال في المغازى: أخرج
البيهقي من طريق ابن أبي حفصة عن الزهري قال: صبح رسول الله صلى الله عليه مكة
لثلاث عشرة خلت من رمضان، وروى أحمد بإسناد صحيح من طريق قزعة بن يحيى عن أبي سعيد
قال: خرجنا مع النبي- صلى الله عليه وسلم - عام الفتح لليلتين خلتا من شهر رمان،
هذا يعين يوم الخروج. وقول الزهري يعين يوم الدخول. ويعطي أنه أقام في الطريق اثني
عشر يوما.
2041-(3) وعن جابر، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحاما
ورجلا قد ظلل عليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: صائم. فقال: ليس من البر الصوم في السفر))
متفق عليه.
(14/8)
وأما ما قال الواقدي: أنه خرج لعشر خلون من رمضان، فليس بقوى لمخالفته ما هو أصح منه، وفي تعيين هذا التأريخ أقوال أخرى. منها عند مسلم لست عشرة، ولأحمد لثماني عشرة وفي أخرى لثنتي عشرة، والجمع بين هاتين بحمل إحداهما على ما مضى، والأخرى على ما بقي والذي في المغازى دخل لتسع عشرة مضت وهو محمول على الاختلاف في أول الشهر، ووقع في أخرى بالشك في تسع عشرة، أو سبع عشرة. وروى يعقوب بن سفيان من رواية ابن إسحاق عن جماعة من مشائخه، إن الفتح كان في عشر بقين من رمضان، فإن ثبت حمل على أن مراده أنه وقع في العشر الأوسط قبل أن يدخل العشر الأخير-انتهى. فتأمل. قال ابن الملك: في الحديث دلالة على غلط من قال إن أحدا إذا أنشأ السفر في أثناء رمضان لم يجز له أن يفطر (فمنا من صام) وهم الأقوياء (ومنا من أفطر) وهم الضعفاء (فلم يعب) بفتح الياء وكسر العين أي لم يلم، وفي رواية فلا يجد أي لا يغضب (الصائم على المفطر) لأنه عمل بالرخصة (ولا المفطر على الصائم) لعمله بالعزيمة يعني لم ينكر الصائم على المفطر إفطاره دينا ولا المفطر على الصائم صومه، فهما جائزان وزاد في رواية يرون إن من وجد قوة فصام، فإن ذلك حسن ويرون إن من وجد ضعفا فافطر فإن ذلك حسن. قال النووي: هذا صريح بترجيح مذهب الأكثرين وهو تفصيل الصوم لمن اطاقه بلا ضرر ولا مشقه ظاهرة. وقال بعض العلماء: الفطر والصوم سواء، لتعادل الأحاديث. والصحيح قول الأكثرين-انتهى. وقال الحافظ في الفتح: بعد ذكر هذا الحديث ما لفظه، وهذا التفصيل هو المعتمد وهو رافع للنزاع-انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الترمذي والنسائي والطحاوي (ج1ص333) والبيهقي (ج4ص244، 245) وفي الباب عن أنس عند الشيخين وأبي داود والطحاوي والبيهقي وعن جابر عند مسلم والنسائي والطحاوي والبيهقي.
(14/9)
2041- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر) في غزوة الفتح كما في حديث جابر الآتي في الفصل الثالث. قال الحافظ: تبين من رواية جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر إنها غزوة الفتح-انتهى. يريد بذلك حديث جابر الآتي فإنه رواه مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم، من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر (فرأى زحاما) بكسر الزاي اسم للزحمة، والمراد هنا الوصف لمحذوف أي فرأى قوما مزدحمين. وقيل: أي رأى مزاحمة في الاجتماع على غرض الاطلاع (ورجلا) قال الحافظ: لم أقف على اسم هذا الرجل ولو لا ما قدمته من أن عبدالله بن رواحة استشهد قبل غزوة الفتح لأمكن أن يفسر به لقول أبي الدرداء أن لم يكن من الصحابة في تلك السفرة صائما غيره-انتهى. وقيل: أنه أبوإسرائيل القرشي العامري واسمه قيس، وفيه نظر. فإن بين القصتين مغايرات ظاهرة، أظهرها إن أبا إسرائيل كان في الحضر في المسجد،
(14/10)
ففي مسند أحمد إن النبي- صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد وأبوإسرائيل يصلي فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم هو ذا يا رسول الله ؟ لا يقعد ولا يكلم الناس ولا يستظل ولا يفطر، فقال ليقعد وليتكلم وليستظل وليفطر. وروى الخطيب عن ابن عباس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة فنظر إلى رجل من قريش يقال له أبوإسرائيل، فقالوا: نذر أن يصوم ويقوم في الشمس-الحديث. وأما صاحب القصة في حديث جابر فكان في السفر تحت الظل والله أعلم (قد ظلل عليه) بتشديد اللام الأولى على بناء المفعول أي جعل عليه شيء يظله من الشمس لغلبة العطش عليه وحر الصوم، وفي رواية للنسائي رأى ناسا مجتمعين على رجل فسأل فقالوا: رجل أجهده الصوم، وفي أخرى مر برجل في ظل شجرة يرش عليه الماء. قال ما بال صاحبكم (فقال ما هذا) أي ما حال صاحبكم هذا، وقيل أي ما هذا الزحام أو التظليل (قالوا) أي من حضر من الصحابة (صائم) أي وقد أجهده الصوم وشق عليه (ليس من البر) بكسر الباء أي ليس من الطاعة والعبادة (الصوم في السفر) قال الزركشي: "من" زائدة لتأكيد النفي. وقيل: للتبعيض وليس بشيء، وتعقبه البدر الدماميني، فقال: هذا عجيب لأنه أجاز ما المانع منه قائم، ومنع ما لا مانع منه، وذلك إن من شروط زيادة من أن يكون مجرورها نكرة، وهو في الحديث معرفة. وهذا هو المذهب المعول عليه وهو مذهب البصريين خلافا للاخفش والكوفيين، وأما كونها للتبعيص فلا لمنعه وجه إذا المعنى إن الصوم في السفر ليس معدودا من أنواع البر كذا ذكره القسطلاني، وقد تقدم إن بعض الظاهرية تمسكوا به على عدم انعقاد صوم الفرض في السفر وسلك المجيزون، وهم عامة أهل العلم فيه طرقا. فقال الخطابي (ج2ص124) هذا الكلام خرج على سبب فهو مقصور عليه وعلى من كان في مثل حاله كأنه قال ليس من البر أن يصوم المسافر، إذا كان الصوم يؤديه إلى مثل هذه الحال بدليل صيام النبي صلى الله عليه وسلم في سفره عام الفتح،
(14/11)
وبدليل خبر حمزة الأسلمي وتخييره بين الصوم والإفطار، ولو لم يكن الصوم برا لم يخيره فيه، ولو كان إثما لكان أبعد الناس منه، وإلى هذا جنح البخاري حيث بوب على هذا الحديث بلفظ: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد الحر ليس من البر الصوم في السفر. قال الحافظ: أشار بهذه الترجمة إلى أن سبب قوله - صلى الله عليه وسلم - ذلك ما ذكر من المشقة، وإن كمن روى الحديث مجردا. فقد اختصر القصة، وبما أشار إليه من اعتبار المشقة يجمع بين حديث الباب، والذي يدل على صومه في السفر-انتهى. وقال ابن دقيق العيد (ج2ص225) أخذ من هذا إن كراهة الصوم في السفر لمن هو في مثل هذه الحالة ممن يجهده الصوم ويشق عليه أو يؤدي به إلى ترك ما هو أولى من الصوم من وجوه القرب، فينزل قوله ليس من البر الصوم في السفر على مثل هذه الحالة. قال: والظاهرية المانعون من الصوم في السفر يقولون إن اللفظ عام والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب،
(14/12)
قال: ويجب أن يتنبه للفرق بين دلالة السبب والسياق والقرائن على تخصيص العام، وعلى مراد المتكلم وبين مجرد ورود العام على سبب، فإن بين العامين فرقا واضحا ومن أجراهما مجرى واحدا لم يصب، فإن مجرد ورود العام على سبب لا يقتضي التخصيص به كنزول آية السرقة في قصة سرقة رداء صفوان. وأما السياق والقرائن فإنها الدالة على مراد المتكلم، وهي المرشدة إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات كما في حديث الباب. وقال ابن المنير: هذه القصة تشعر بأن من اتفق له مثل ما اتفق لذلك الرجل أنه يساويه في الحكم، وأما من سلم من ذلك ونحوه فهو في جواز الصوم على أصله. وقال الطحاوي: المراد بالبر هنا البر الذي هو إبر البر وأعلى مراتب البر، وليس المراد بذلك إخراج الصوم في السفر من أن يكون برا، لأنه قد يكون برا، لأنه قد يكون الإفطار إبر منه، إذا كان للتقوى على لقاء العدو، مثلا والمعنى ليس من البر الذي هو إبر البر وأعلى مراتب البر الصوم في السفر، وإن كان الصوم في السفر برا إلا أن غيره من البر وهو الإفطار قد يكون إبر منه إذا كان يراد به القوة للقاء العدو. قال وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم ليس المسكين بالطواف-الحديث. فإنه لم يرد به إخراجه إياه من أسباب المسكنة كلها، ولكنه أراد بذلك ليس هو المسكين المتكامل المسكنة، ولكن المسكين الكامل المسكنة الذي لا يسأل الناس ولا يعرف فيتصدق عليه وحمل الشافعي نفي البر المذكور في الحديث على من أبي قبول الرخصة فقال معنى قوله ليس من البر أن يبلغ رجل هذا بنفسه في فريضة صوم ولا نافلة، وقد أرخص الله تعالى له أن يفطر وهو صحيح. قال ويحتمل أن يكون معناه ليس من البر المفروض الذي من خالفه إثم، كذا في الفتح. وقال السندي: ظاهر إن ترك الصوم أولى ضرورة إن الصوم مشروع طاعة فإذا حرج عن كونه طاعة فينبغي أن لا يجوز ولا أقل من كون الأولى تركه ومن يقول إن الصوم هو الأولى في السفر يستعمل الحديث في مورده أي
(14/13)
ليس من البر، إذا بلغ الصائم
هذا المبلغ من المشقة، وكأنه مبني على تعريف الصوم للعهد، والإشارة إلى مثل صوم
ذلك الصائم، نعم الأصل هو عموم اللفظ لا خصوص المورد. لكن إذا أدى عموم اللفظ إلى
تعارض الأدلة يحمل خصوص المورد كما هنا. وقيل: من في قوله "ليس من البر"
زائدة، والمعنى ليس هو البر بل قد يكون الإفطار إبر منه إذا كان في حج أو جهاد
ليقوى عليه. والحاصل إن المعنى على القصر لتعريف الطرفين. وقيل: محمل الحديث على
من يصوم ولا يقبل الرخصة-انتهى. (متفق عليه) واللفظ للبخاري وأخرجه أيضا أحمد
وأبوداود والنسائي والدارمي والطحاوي (ج1ص329) والبيهقي (ج4ص242) وفي الباب عن ابن
عمر عند ابن ماجه والطحاوي وعن كعب بن عاصم الأشعري عند أحمد (ج5ص434) والنسائي
وابن ماجه والدارمي وعبد الرزاق والطبراني في الكبير والطحاوي والبيهقي: وعن أبي
برزة الأسلمي عند أحمد والبزار والطبراني في الأوسط،
2042-(4) وعن أنس، قال: ((كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم: في السفر، فمنا الصائم
ومنا المفطر، فنزلنا منزلا في يوم حار. فسقط الصوامون، وقام المفطرون فضربوا
الأبنية وسقوا الركاب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذهب المفطرون اليوم
بالأجر)) متفق عليه.
(14/14)
وعن ابن عباس عند البزار والطبراني في الكبير وابن عدي وعن عبدالله بن عمر وعند الطبراني في الكبير، وعن عمار بن ياسر عند الطبراني أيضا، وعن أبي هريرة عند ابن عدي. ذكر هذه الأحاديث الهيثمي (ج3ص161) والعيني (ج11ص48) مع الكلام عليها وروى بلفظ: ليس من أمبر امصيام في امسفر أخرجه أحمد (ج5ص434) وعبد الرزاق في مصنفه، والطبراني في معجمه من حديث كعب بن عاصم الأشعري. قال الزمخشري: هي لغة طي فإنهم يبدلون اللام ميما. وقال الجزري في جامع الأصول: (ج7ص546) الميم بدل من لام التعريف في لغة قوم من اليمن فلا ينطقون بلام التعريف ويجعلون مكانها الميم-انتهى. ورواه النسائي وابن ماجه والدارمي والطحاوي والبيهقي (ج4ص242) بلفظ: ليس من البر الصوم في السفر.
(14/15)
2042- قوله: (فمنا الصائم)
أريد به الجنس (ومنا المفطر) وفي رواية فصام بعض وأفطر بعض. وفيه دليل على جواز
الصوم في السفر لتقرير النبي صلى الله عليه وسلم للصائمين على صومهم (فنزلنا منزلا
في يوم حار) وقع بعد هذا أكثر ناظلا صاحب الكساء ومنا من يتقي الشمس بيده (فسقط
الصوامون) جمع صوام بفتح المهملة بصيغة المبالغة كذا في جميع النسخ من المشكاة،
وهكذا وقع في المصابيح، والذي في صحيح مسلم فسقط الصوام، وهكذا نقله الجزري في
جامع الأصول (ج7ص259) والمنذري في الترغيب والحافظ في الفتح وكذا وقع في عمدة
الأحكام، وكذا عند النسائي والطحاوي والبيهقي. والصوام بضم المهملة كحكام جميع
صائم، أي عجزوا عن العمل، وما قدروا على قضاء حاجتهم. وقال القاري: أي ضعفوا عن
الحركة ومباشرة حوائجهم لأجل ضعفهم (وقام المفطرون) أي بالخدمة (فضربوا الأبنية)
أي نصبوا الخيام جمع بناء. والمراد البيوت التي يسكنها العرب في الصحراء كالخباء
والقبة (وسقوا الركاب) بكسر الراء أي الإبل التي يسار عليها واحدها راحلة، ولا
واحد لها من لفظها (ذهب المفطرون اليوم بالأجر) الوافر وهو أجر ما فعلوه من خدمة
الصائمين بضرب الأبنية والسقي وغير ذلك لما حصل منهم من النفع المتعدي، ومثل أجر
الصوام لتعاطيهم إشغالهم وإشغال الصوام. وأما الصائمون فحصل لهم أجر صومهم القاصر
عليهم ولم يحصل لهم من الأجر ما حصل للمفطرين من ذلك. قال الحافظ: قوله بالأجر، أي
الوافر وليس المراد نقص أجر الصوام بل المراد أن المفطرين حصل لهم أجر عملهم ومثل
أجر الصوام لتعاطيهم إشغالهم.
2043-(5) وعن ابن عباس، قال: ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى
مكة، فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بماء فرفعه إلى يده ليراء الناس فأفطر حتى قدم
مكة،
(14/16)
وإشغال الصوام، فلذلك قال بالأجر كله لوجود الصفات المقتضية لتحصيل الأجر منهم. وقال القاري: أي بالثواب الأكمل لأن الإفطار كان في حقهم حينئذ أفضل. وفي ذكر اليوم إشارة إلى عدم إطلاق هذا الحكم. وقال الطيبي: أي إنهم مضوا واستصحبوا الأجر ولم يتركوا لغيرهم شيئا منه على طريقة المبالغة، يقال ذهب به إذا استصحبه ومضى به معه-انتهى. يعني بالأجر كله أو بكل الأجر مبالغة-انتهى كلام القاري. وقال ابن دقيق العيد: فيه وجهان: أحدهما، أن يراد بالأجر أجر تلك الأفعال التي فعلوها والمصالح التي جرت على أيديهم ولا يراد مطلق الأجر على سبيل العموم. والثاني أن يكون أجرهم قد بلغ في الكثرة بالنسبة إلى أجر الصوم مبلغا ينغمر فيه أجر الصوم، فتحصل المبالغة بسبب ذلك ويجعل كأن الأجر كله للمفطر-انتهى. وفي الحديث إنه إذا تعارضت المصالح قدم أولالها وأقواها. قال الحافظ: وفيه الحض على المعاونة في الجهاد، وإن الفطر في السفر أولى عن الصيام وإن الصيام في السفر جائز خلافا لمن قال لا ينعقد وليس في الحديث بيان كونه إذ ذاك كان صوم فرض أو تطوع (متفق عليه) أخرجه البخاري في باب فضل الخدمة في الغزو من كتاب الجهاد، وهو من الأحاديث التي أوردها في غير مظنتها لكونه لم يذكره في الصيام، واقتصر على إيراده هنا، وأخرجه مسلم في الصيام وكذا النسائي والطحاوي (ص333) والبيهقي (ج4ص243) واللفظ المذكور لمسلم. ولفظ البخاري قال أنس كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أكثرنا ظلا الذي يستظل بكساءه. وأما الذين صاموا فلم يعملوا شيئا. وأما الذين أفطروا فبعثوا الركاب وامتهنوا وعالجوا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ذهب المفطرون اليوم بالأجر.
(14/17)
2043- قوله: (عن ابن عباس) قال أبوالحسن القابسي: هذه الحديث من مرسلات الصحابة لأن ابن عباس كان في هذه السفرة مقيما مع أبويه بمكة فلم يشاهد هذا القصة فكأنه سمعها من غيره من الصحابة (خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة) أي في غزوة الفتح في رمضان كما في رواية (فصام حتى بلغ عسفان) بضم العين وسكون السين المهملتين. قيل: هو موضع على مرحلتين من مكة. وقال عياض: هي قرية جامعه بها منبر على ستة وثلاثين ميلا من مكة. قال النووي بعد ذكره: والمشهور أنها على أربعة برد من مكة وكل بريد أربعة فراسخ وكل فرسخ ثلاثة أميال، فالجملة ثمانية وأربعون ميلا هذا هو الصواب المعروف الذي قاله الجمهور-انتهى.
(14/18)
ووقع في رواية للشيخين حتى بلغ الكديد بفتح الكاف وكسر الدال الأولى وهو موضع بينه وبين المدينة سبع مراحل أو نحوها وبينه وبين مكة قريب من مرحلتين قاله النووي. وقال عياض: هي عين جارية على اثنين وأربعين ميلا من مكة. وقال الحافظ: وقع في رواية حتى بلغ عسفان بدل الكديد، وفيه مجاز القرب لأن الكديد أقرب إلى المدينة من عسفان، وبين الكديد ومكة مرحلتان. قال البكري: هو بين أمج بفتحتين وجيم وعسفان وهو ماء عليه نخل كثير-انتهى. ووقع في رواية لأحمد والنسائي حتى أتى قديدا بضم القاف على التصغير، وهو موضع قرب عسفان. ووقع حديث جابر الآتي. فلما بلغ كراع الغميم هو بضم الكاف والغمم بفتح المعجمة، وهو اسم واد أمام عسفان بثمانية أميال يضاف إليه هذا الكراع، وهو جبل أسود متصل به. وقال في المجمع: كراع الغميم اسم موضع بين مكة والمدينة، والكراع جانب مستطيل من الحرة تشبيها بكراع الغنم، وهو ما دون الركبة من الساق، والغميم بالفتح واد بالحجاز. قال عياض: اختلفت الروايات في الموضع الذي أفطر صلى الله عليه وسلم فيه والكل في سفر واحد في غزاة الفتح. قال وسميت هذه المواضع في هذه الأحاديث لتقاربها وإن كانت عسفان متباعدة شيئا عن هذه المواضع. لكنها كلها مضافة إليها ومن عملها فاشتمل اسم عسفان عليها. قال وقد يكون علم حال الناس ومشقتهم في بعضها فافطروا في بعضها-انتهى. (ثم دعا بماء) وفي رواية للبخاري دعا بإناء من لبن أو ماء بالشك، وفي رواية لأحمد والنسائي ثم أتى بقدح من لبن وكذا وقع عند الطحاوي. قال الداودي: يحتمل أن يكون دعا بهذا أي الماء مرة وبهذا أي اللبن مرة، وتعقبه الحافظ بأنه لا دليل على التعدد فإن الحديث واحد والقصة واحدة. وإنما وقع الشك من الراوي فتقدم عليه رواية من جزم، وأبعد ابن التين فقال: كانت قصتان إحداهما في الفتح والأخرى في حنين-انتهى. ولم يجب الحافظ عن روايات الجزم باللبن. وقيل: في توجيهها أنه شرب الماء
(14/19)
في موضع أو في مواضع وشرب
اللبن في موضع آخر وأراهم الفطر مرتين أو مرات لكثرة الناس والله اعلم (فرفعه) أي
الماء منتهيا (إلى) أقصى حد (يده) بالأفراد وفي رواية يديه بالتثنية. قال القاري:
الجار والمجرور حال أي رفع الماء منتهيا إلى أقصى مديده أي إلى غاية طولها. قال الزركشي
والبرماوي: كذا للأكثرين وفي رواية ابن السكن إلى فيه وهو الأظهر إلا أن تؤول لفظة
إلى في رواية الأكثرين بمعنى على ليستقيم الكلام، وتعقبه في المصابيح بأنه لا يعرف
أحدا ذكر "إلى" بمعنى على قال، والكلام مستقيم بدون هذا التأويل. وذلك
إن إلى لانتهاء الغاية على بابها، والمعنى فرفع الماء ممن أتى به رفعا قصد به رؤية
الناس له، فلا بد أن يقع ذلك على وجه يتمكن فيه الناس من رؤيته ولا حاجة مع ذلك
إلى إخراج إلى عن بابها. وقال الكرماني: كالطيبي أو فيه تضمين، أي-انتهى.
وذلك في رمضان. فكان ابن عباس يقول: قد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر.
فمن شاء صام ومن شاء أفطر)). متفق عليه.
(14/20)
الرفع إلى أقصى غايتها، ويمكن أن يكون بمعنى "في" للظرفية كقوله تعالى: ?ليجمعنكم إلى يوم القيامة? [النساء: 87] أي فرفعه حال كونه في يده (ليراه الناس) بفتح التحتية والراء والناس بالرفع، لأنه فاعله، والضمير المنصوب فيه مفعوله. قال الحافظ: كذا للأكثر وفي رواية المستملى ليريه بضم أوله وكسر الراء وفتح التحتانية، والناس نصب على أنه مفعول ثان، ليريه لأنه من الإراءة وهي تستدعى مفعولين، واللام للتعليل في الوجهين. والمعنى رفع الماء حتى ينظر الناس إليه فيقتدوا به في الإفطار لأن الصيام أضر بهم، وكان لا يأمن الضعف عن القتال عند لقاء عدوهم، يفهم منه إن أفضلية الفطر لا تختص بمن أجهده الصوم أو خشي العجب والرياء، أو ظن به الرغبة عن الرخصة بل يلحق بذلك من يقتدي به ليتابعه من وقع له شيء من الأمور الثلاثة ويكون الفطر في حقه في تلك الحالة أفضل البيان (فافطر) أي بعد العصر كما في حديث جابر واستمر مفطرا (حتى قدم مكة وذلك) أي ما ذكر من الصوم والإفطار كان (في رمضان) سنة ثمان (فكان ابن عباس يقول قد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في رمضان سنة ثمان حال السفر (فمن شاء صام ومن شاء أفطر) أي لا حرج على أحدهما، وفيه دلالة لمذهب الجمهور في جواز الصوم والفطر جميعا. قال الحافظ: فهم ابن عباس من فعله - صلى الله عليه وسلم - ذلك إنه لبيان الجواز لا للأولوية. وقد تقدم في حديث أبي سعيد عند مسلم ما يوضح المراد، وسيأتي أيضا في حديث جابر. قال في شرح السنة: لا فرق عند عامة أهل العلم بين من ينشيء السفر في شهر رمضان، وبين من يدخل عليه شهر رمضان وهو مسافر. وقال عبيدة السلماني: إذا أنشأ السفر في شهر رمضان لا يجوز له الإفطار لظاهر قوله تعالى: ?فمن شهد منكم الشهر فليصمه? [البقرة: 185] وهذا الحديث حجة على القائل. ومعنى الآية الشهر كله، فأما من شهد بعضه فلم يشهد الشهر-انتهى. قال القاري: والأظهر إن معنى الآية فمن شهد
(14/21)
منكم شيئا منه من غير مرض وسفر-انتهى. وقال الحافظ: استدل بالحديث على أن للمسافر أن يفطر في أثناء النهار، ولو استهل رمضان في الحضر. والحديث نص في الجواز إذ لا خلاف في أنه صلى الله عليه وسلم استهل رمضان في عام غزوة الفتح وهو بالمدينة ثم سافر في أثنائه، وقد ترجم عليه البخاري بلفظ: باب إذا صام أياما من رمضان ثم سافر. قال الحافظ: كأنه أشار إلى تضعيف ما روى عن علي وإلى رد ما روى عن غيره في ذلك. قال ابن المنذر: روى عن علي بإسناد ضعيف، وقال به عبيده بن عمر وأبومجلز وغيرهما إن من استهل عليه رمضان في الحضر ثم سافر بعد ذلك فليس له أن يفطر لقوله تعالى: ?فمن شهد منكم الشهر فليصمه? قال: وقال أكثر أهل العلم لا فرق بينه وبين من استهل رمضان في السفر، ثم ساق ابن المنذر بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: قوله تعالى: ?فمن شهد منكم الشهر فليصمه? نسخها قوله،
(14/22)
ومن كان مريضا أو على سفر الآية ثم احتج للجمهور بحديث ابن عباس هذا-انتهى. واستدل به على أن للمرء أن يفطر ولو نوى الصوم من الليل وأصبح صائما فله أن يفطر في أثناء النهار وهو قول الجمهور، وقطع به أكثر الشافعية، وفي وجه ليس له أن يفطر وكأن مستند قائله ما وقع في البويطي من تعليق القول به على صحة حديث ابن عباس هذا، وهذا كله فيما لو نوى الصوم في السفر. قال ابن قدامة (ج3ص101) إن نوى المسافر الصوم في سفره ثم بدأ له أن يفطر فله ذلك. واختلف قول الشافعي فيه فقال مرة: لا يجوز له الفطر. وقال مرة أخرى، إن صح حديث الكديد لم أر به بأسا أن يفطر. وقال مالك: إن أفطر فعليه القضاء والكفارة، ولنا حديث ابن عباس وهو حديث صحيح متفق عليه. ثم ذكر حديث جابر في إفطاره بعد العصر ثم قال: وهذا نص صريح فلا يعرج على من خالفه-انتهى. وأجاب المانعون من الفطر عن حديث ابن عباس بأنه ليس بنص في أنه صلى الله عليه وسلم بيت الصيام في ليلة اليوم الذي أفطر فيه، فيحتمل أن يكون لم ينو الصيام في ذلك اليوم، لما كان من قصده أن يظل مفطرا وشرب الماء بعد العصر ليريهم كونه غير صائم. قال الحافظ: واعترض بعض المانعين في أصل المسألة فقال ليس في الحديث دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم نوى الصيام في ليلة اليوم الذي أفطر فيه، فيحتمل أن يكون نوى أن يصبح مفطرا ثم أظهر الإفطار ليفطر الناس، لكن سياق الأحاديث ظاهر في أنه كان أصبح صائما أفطر. وقد روى ابن خزيمة وغيره عن أبي هريرة قال كنا مع النبي- صلى الله عليه وسلم - بمر الظهران فأتى بطعام، فقال لأبي بكر وعمر ادنوا فكلا، فقالا اعملوا لصاحبيكم ارحلوا لصاحبيكم ادنوا فكلا. قال ابن خزيمة: فيه دليل على أن للصائم في السفر الفطر بعد مضى بعض النهار-انتهى. وأجاب بعض المالكية عن حديث عباس بأنه إنما أفطر بعد أن بيت الصيام للضرورة كالتقوى للعدو والمشقة الحاصلة له ولهم. ولو نوى الصوم من الليل وهو
(14/23)
مقيم ثم سافر في أثناء النهار
فهل له أن يفطر في ذلك النهار، منعه الجمهور. وقال أحمد وإسحاق: بالجواز، واختاره
المزني محتجا بهذا الحديث، ظنا منه أنه - صلى الله عليه وسلم - أفطر في اليوم الذي
خرج فيه من المدينة وليس كذلك، فإن بين المدينة والكديد عدة أيام. قال النووي: قد
غلط بعض العلماء في فهم هذا الحديث، فتوهم أن الكديد وكراع الغميم قريب من
المدينة، وإن كان بلوغه الكديد الغميم كان في اليوم الذي خرج فيه من المدينة، فزعم
أنه خرج من المدينة صائما، فلما بلغ كراع الغميم في يومه أفطر من نهاره. واستدل به
على أنه إذا سافر بعد طلوع الفجر صائما له أن يفطر في يومه، ومذهب الشافعي والجمهور
أنه لا يجوز الفطر في ذلك اليوم، وإنما يجوز لمن طلع عليه الفجر في السفر،
واستدلاله بهذا الحديث من العجائب الغريبة. لأن الكديد وكراع الغميم على سبع مراحل
أو أكثر من المدينة-انتهى.
2044-(6) وفي رواية لمسلم عن جابر، أنه شرب بعد العصر.
(14/24)
قلت: لأحمد روايتان، فيما إذا نوى الصوم من الليل وهو مقيم، ثم سافر في أثناء النهار. قال ابن قدامة (ج3ص100) في إباحة فطر اليوم الذي سافر فيه عن أحمد روايتان، إحداهما له أن يفطر، وهو قول عمرو بن شرحبيل والشعبي وإسحاق وداود وابن المنذر لحديث أبي بصرة الغفاري، إذ أكل الغداء في السفينة حين رفع من الفسطاط في شهر رمضان، وكان يرى البيوت أخرجه أبوداود، والرواية الثانية لا يباح له الفطر ذلك اليوم، وهو قول مكحول والزهري ومالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، لأن الصوم عبادة تختلف بالسفر والحضر، فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر. قال ابن قدامة: والأول أصح للخبر-انتهى. ووافق الحنفية والمالكية في المسئلتين لكن لا كفارة عند الحنفية. قال ابن عابدين: لو سافر بعد الفجر لا يحل الفطر، وكذا لو نوى المسافر الصوم لا يحل فطره في ذلك اليوم، فلو أفطر لا كفارة عليه-انتهى. وقال صاحب فتح الملهم: وذهب الحنفية إلى عدم الجواز في الصورتين، ولهذا استشكل ابن الهمام أحاديث الباب، ثم أجاب عنها بما لا يقبله الوجدان السليم، نعم نقل الشيخ الأنور رحمه الله عن التتار خانية أنه يحل الفطر للغزاة عند مسيس الحاجة إليه مطلقا للتقوى على الجهاد والتأهب له، وحمل حديث الباب على تلك الحالة، وكذا حققه الحافظ بن القيم في الهدي-انتهى. قلت: والراجح عندي في المسئلتين هو ما ذهب إليه أحمد ومن وافقه والله تعالى أعلم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصيام وفي الجهاد وفي المغازي، ومسلم في الصيام واللفظ المذكور للبخاري في الصيام، وأخرجه أحمد سبع عشرة مرة، ومالك وأبوداود والنسائي والدارمي والطحاوي (ج1ص331) والبيهقي (ج4ص240- 243) بألفاظ مطولا ومختصرا.
(14/25)
2044- قوله: (وفي رواية لمسلم
عن جابر) أي في هذه القصة (إنه) أي النبي- صلى الله عليه وسلم - (شرب بعد العصر)
يعني كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما إلى وقت العصر، ثم أفطر ليعلم الناس
إن الإفطار في السفر جائز بل أولى عند المشقة. وأخرج هذه الرواية مسلم من طريق
عبدالعزيز الدراوردي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بلفظ: فقيل إن الناس قد شق
عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر. وأخرجها أيضا
الترمذي والنسائي والبيهقي (ج4ص241) وذكر المصنف هذه الرواية لأنها أقرب بل أصرح
في الدلالة، على أن من أصبح صائما في السفر جاز له أن يفطر خلافا للحنفية
والمالكية وبعض الشافعية.
?الفصل الثاني?
2045-(7) عن أنس بن مالك الكعبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن
الله وضع
عن المسافر شطر الصلاة، والصوم عن المسافر وعن المرضع والحبلى)) رواه أبوداود،
والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
(14/26)
2045- قوله: (عن أنس بن مالك الكعبي) صحابي نزل البصرة له ثلاثة أحاديث وله عند الأربعة هذا الحديث فقط. روى عنه عبدالله بن سوادة وأبوقلابة. قال الحافظ في الإصابة: أنس بن مالك الكعبي القشيري أبوأمية: وقيل أبوأميمة. وقيل: أبومية (بحذف الألف وتشديد التحتانية) نزل البصرة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا في وضع الصيام عن المسافر وله معه فيه قصه أخرجه أصحاب السنن وأحمد وصححه الترمذي وغيره، ووقع فيه عند ابن ماجه (وكذا عند البيهقي) أنس بن مالك رجل من بني عبدالأشهل وهو غلط، وفي رواية أبي داود عن أنس بن مالك رجل من بني عبدالله بن كعب إخوة قشير، وهذا هو الصواب. وبذلك جزم البخاري في ترجمته، وعلى هذا فهو كعبي لا قشيري لأن قشيرا هو ابن كعب، ولكعب ابن اسمه عبدالله فهو من إخوة قشير، لا من قشير نفسه. وقد تعقب الرشاطي قول ابن عبدالبر فيه "القشيري، ويقال الكعبي، وكعب أخو قشير" بأن كعبا والد قشير، لا أخوه-انتهى. قال المنذري: من يسمى بأنس بن مالك من رواة الحديث خمسة اثنان صحا بيان هذا، وأبوحمزة أنس بن مالك الأنصاري خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنس بن مالك والد الإمام مالك بن أنس بن مالك، روى عنه حديث في إسناده نظر. والرابع، شيخ حمصي حدث، والخامس كوفي حدث عن حماد بن أبي سليمان والأعمش وغيرهما-انتهى. (إن الله وضع عن المسافر) أي رفع ابتداء عنه قاله القاري. وقال ابن حجر: وضع بمعنى أسقط، وإسقاط الشيء يقتضى إسقاط وجوبه الأخص لا جوازه الأعم، ففيه حجة لما عليه الشافعي إن القصر جائز لا واجب-انتهى. وقد رد عليه القاري بأن موضوع وضع ليس بمعنى الذي ذكر لا لغة ولا اصطلاحا. أما لغة فظاهر. وأما الاصطلاح الشرعي فقد ورد أن الله تعالى وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، أي كلفتهما وما يترتب عليهما من الحرج والإثم وكذا قوله تعالى: ?ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم? [الأعراف: 157]-انتهى. (شطر الصلاة) أي
(14/27)
نصف الصلاة الرباعية لا إلى بدل بخلاف الصوم (والصوم) بالنصب عطف على قوله شطر الصلاة (عن المسافر) أي وضع عنه لزومه في تلك الأيام وخيره بين أن يصوم تل الأيام وبين عدة من أيام آخر. قال الطيبي: وإنما ذكر عن المسافر بعد الصوم ليصح عطف عن المرضع عليه لأن شطر الصلاة ليس موضوعا عن المرضع-انتهى. ورواه أحمد بلفظ: إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة وعن المسافر والحامل والمرضع الصوم أو الصيام: قال التوربشتي: الصوم منصوب والعامل فيه وضع، وشتان بين الوضعين، فإن الموضوع عن الصلاة ساقط لا إلى قضاء، ولا كذلك الصوم.
(14/28)
وإنما ورد البيان على تقرير الرخصة فأتى بقضايا منسوقة في الذكر مختلفة في الحكم، وذلك لا تكاله على بيان التنزيل من قوله فعدة من أيام أخر ثم على علم المخاطبين بذلك-انتهى. (وعن المرضع) لم تدخله التاء للاختصاص مثل الحائض (والحبلى) أي إذا خافتا على الحمل والرضيع أو على أنفسهما ثم هل هو وضع إلى قضاء أو فداء أولا، إلى قضاء ولا فداء-الحديث. ساكت عنه فكل من يقول ببعضه لا بد له من دليل قاله السندي: قلت: حكى ابن قدامة والزرقاني اتفاق العلماء على وجوب القضاء من غير فدية، فيما إذا خافت الحامل والمرضع على أنفسهما. قال ابن قدامة (ج3ص139) إن الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما فلهما الفطر. وعليهما القضاء فحسب، لا نعلم فيه بين أهل العلم اختلافا لأنهما بمنزلة المريض الخائف على نفسه. وقال الزرقاني: إذا خافتا على أنفسهما فلا فدية باتفاق أهل المذهب وهو إجماع، إلا عند من أوجب الفدية على المريض-انتهى. وأما إذا خافتا على ولديهما فقط. وأفطرتا فاختلفوا فيه على خمسة أقوال: أحدها يطعمان ولا قضاء عليهما وهو مروي عن ابن عمر وابن عباس، رواه أبوداود والبزار والدارقطني والبيهقي عن ابن عباس ومالك وابن أبي حاتم والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر وهو أحد أقوال مالك. والثاني: أنهما يقضيان فقط ولا إطعام عليهما. وبه قال عطاء والزهري والحسن وسعيد بن جبير والنخعي وأبوعبيد وأبوثور وأبوحنيفة وأصحابه والأوزاعي والثوري، واستدل لهم بحديث الباب. قال الجصاص: ووجه الدلالة على هذا إخباره عليه الصلاة والسلام بأن وضع الصوم عن الحامل والمرضع هو كوضعه عن المسافر، ألا ترى إن وضع الصوم الذي جعله من حكم المسافر هو بعينه جعله من حكم المرضع والحامل، لأنه عطفهما عليه من غير استئناف ذكر شيء غيره، فثبت بذلك إن حكم وضع الصوم عن الحامل والمرضع هو في حكم وضعه عن المسافر، لا فرق بينهما، ومعلوم إن وضع الصوم عن المسافر إنما هو على جهة إيجاب
(14/29)
قضاءه بالإفطار من غير فدية،
فوجب أن يكون ذلك حكم الحامل والمرضع، وفيه دلالة على أنه لا فرق بين الحامل
والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما، إذ لم يفصل النبي صلى الله عليه وسلم
بينهما، وأيضا لما كانت الحامل والمرضع يرجى لهما القضاء، وإنما أبيح لهما الإفطار
للخوف على النفس أو الولد مع إمكان القضاء وجب أن تكونا كالمريض والمسافر-انتهى.
والثالث: إنهما يقضيان ويطعمان وهو المشهور من مذهب الشافعي وهو ثاني أقوال مالك،
وإليه ذهب أحمد. والرابع: إن الحامل تقضي وتطعم، وبه قال الليث وهو المشهور من
أقوال مالك لأن المرضع يمكن أن تسترضع لولدها بخلاف الحامل، ولأن الحمل متصل
بالحامل فالخوف عليه كالخوف على بعض أعضاءها. والخامس: إنهما يطعمان ولا قضاء
عليهما وإن شائتا ولا إطعام حكاه الترمذي عن إسحاق بن راهويه، فعنده لا يجمع بين
القضاء والإطعام، فإذا أفطرت الحامل والمرضع قضتا ولا إطعام أو أطعمتا ولا قضاء.
2046-(8) وعن سلمة بن المحبق، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان له
حمولة
تأوي إلى شبع فليصم رمضان حيث أدركه)) رواه أبوداود.
(14/30)
قال الشاه ولي الله في المصفى بعد ذكر قول إسحاق: هذا ما لفظه: أين قول بتطبيق أدله مناسب ترمي نمايد-انتهى. وقال ابن رشد بعد ذكر سبب اختلاف الأئمة: ومن أفرد لهما أحد الحكمين أولى ممن حمل كما أن من أفردهما بالقضاء ممن أفردهما بالإطعام فقط-انتهى. قلت: وكذا أولى الأقوال عندي في ذلك هو قول من أفردهما بالقضاء دون الإطعام، فهما في حكم المريض فليزمهما القضاء فقط والله تعالى أعلم (رواه أبوداود والترمذي) واللفظ لأبي داود وأخرجه أيضا أحمد (ج4ص347) والبخاري في تاريخه 2/1/30والطبراني والطحاوي (ج1ص246) والبيهقي (ج4ص231) ومنهم من ذكر فيه قصة، وسكت عنه أبوداود وحسنه الترمذي، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره.قلت: قد تقدم قول الحافظ عن الإصابة أن الترمذي صححه. وكذا قال في تهذيب التهذيب (ج1ص379) وهذا يدل على اختلاف نسخ الترمذي في ذلك وفي إسناد هذا الحديث اختلاف بينه البيهقي (ج4ص231) والنسائي والجزري في جامع الأصول (ج7ص268).
(14/31)
2046- قوله: (وعن سلمة) بفتح
اللام (بن المحبق) بمهملة ثم موحدة مشددة كمعظم أو محدث (من كان له حمولة) بفتح
الحاء ما يحمل عليه من الدواب كانت عليه الإحمال أولا كالركوبة، والمراد مركب،
وضبطه الجزري في النهاية وجامع الأصول (ج7ص547) بضم الحاء. قال حمولة بالضم،
الإحمال يعني أنه يكون صاحب إحمال يسافر بها يأوى إلى شبع وأما الحمول بلا هاء فهي
الإبل التي عليها الهوادج كان فيها نساء أو لم يكن-انتهى. (تأوى) أي تأويه فإن أوى
لازم ومتعد على لفظ واحد يقال، أوى البيت وإلى البيت نزل فيه، وأواه البيت وإلى
البيت أنزله فيه، وفي الحديث يجوز الوجهان، والمعنى من كانت له دابة تؤوي صاحبها
أو تأوى بصاحبها، وقوله تأوى كذا في جميع النسخ من المشكاة وكذا في المصابيح وبعض
نسخ أبي داود، وهكذا وقع عند أحمد (ج3ص476) ووقع في بعض نسخ أبي داود يأوى، وكذا
نقله في جامع الأصول (ج7ص273) وهكذا وقع عند أحمد (ج5ص7) والبيهقي (ج4ص245) وكذا
نقله ابن حزم في المحلى (ج6ص247) وابن قدامة (ج3ص150) أي من كانت له حمولة يأوى
صاحبها (إلى شبع) بكسر الشين وسكون الموحدة ما أشبعك وبفتح الباء المصدر،
?الفصل الثالث?
2047-(9) عن جابر، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في
رمضان
فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه، حتى نظر الناس
إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام. فقال: أولئك العصاة أولئك
العصاة)) رواه مسلم.
(14/32)
والمعنى الأول هنا أظهر والثاني يحتاج إلى تقدير مضاف وهو في الرواية أكثر يعني من كان له حمولة تأويه إلى حال الشبع ورفاهية أو إلى مقام يقدر على الشبع فيه، ولم يلحقه في سفره وعثاء ومشقة وعناء (فليصم رمضان حيث أدركه) أي رمضان يعني من كان له مركب يوصله إلى منزله في حال الشبع والرفاهية ولا يلحقه في سفره جهد ومشقة فليصم، والأمر محمول على الندب، والحث على الأولى والأفضل للنصوص الدالة على جواز الإفطار في السفر مطلقا، أي وإن لم يلحقه مشقة. وقيل: المعنى من كان راكبا وسفره قصير بحيث يبلغ إلى المنزل قفي يومه فليصم رمضان، والأمر على هذا محمول على الوجوب لأنه لا يباح الفطر عند الجمهور إلا في السفر الطويل الذي يبيح القصر، وقد تقدم ذكر قدره في الصلاة. وقال داود: يجوز الإفطار في السفر أي قدر كان (رواه أبوداود) وأخرجه أحمد والبيهقي (ج4ص245) وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: في إسناده عبدالصمد بن حبيب الأزدي العوذي البصري. قال ابن معين: ليس به بأس. وقال أبوحاتم الرازي: يكتب حديثه بالمتروك. وقال يحول من كتاب الضعفاء. وقال البخاري: لين الحديث ضعفه أحمد وقال البخاري أيضا: عبدالصمد بن حبيب منكر الحديث ذاهب الحديث ولم يعد البخاري هذا الحديث شيئا. وقال أبوحاتم الرازي: لين الحديث ضعفه أحمد وذكر له أبوجعفر العقيلي هذا الحديث، وقال لا يتابع عليه ولا يعرف إلا به-انتهى.
(14/33)
2047- قوله: (حتى بلغ كراع
الغميم) بضم الكاف والغميم بفتح الغين المعجمة واد بالحجاز منتهاه قريب من عسفان
سمي ذلك المنتهى كراعا، لأنه يشبه كراع الغنم وهو ما دون الركبة من الساق، ذكره
ابن حجر، وقال في النهاية: هو اسم موضع بين مكة والمدينة، والكراع جانب مستطيل من
الحرة تشبيها بالكراع، والغميم بالفتح واد بالحجاز-انتهى. وقال الحافظ: هو اسم واد
أمام عسفان (فصام الناس) عطف على فصام أي صام هو وأصحابه (ثم دعا بقدح من ماء) أي
بعد العصر كما تقدم. قال السندي: فيه دليل على جواز الفطر للمسافر بعد الشروع في
الصوم، ومن يقول بخلافه فلا يخلو قوله عن أشكال-انتهى. (ثم شرب) أي ليتابعوه في
الإفطار (إن بعض الناس)
2048-(10) وعن عبدالرحمن بن عوف، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صائم
رمضان في السفر كالمفطر في الحضر)) رواه ابن ماجه.
(14/34)
ظنا منهم أن إفطاره كان لبيان الجواز (قد صام) أفرد الضمير للفظ البعض ثم رجع لمنعاه (فقال أولئك العصاة أولئك العصاة) جمع العاصي، كذا وقع مكررا مرتين تأكيدا أو تشديدا، ورواه الترمذي والنسائي والبيهقي والطحاوي، وقالوا: أولئك العصاة مرة واحدة، وسياق الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح حتى بلغ كراع الغميم وصام الناس معه، فقيل له أن الناس قد شق عليهم الصيام، وإن الناس ينظرون فيما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون إليه فأفطر بعضهم وصام بعضهم، فبلغه أن ناسا صاموا فقال أولئك العصاة-انتهى. وإنما نسب الصائمين إلى العصيان لأنهم خالفوا فعل الرسول- صلى الله عليه وسلم - ولم يمتثلوا ما أراده - صلى الله عليه وسلم - برفع قدح الماء وشربه من إتباعه في الإفطار مع وجود المشقة. قال الحافظ: نسب الصائمين إلى العصيان لأنه عزم عليهم فخالفوا. وقال النووي: هذا محمول على من تضرر بالصوم أو أنهم أمروا بالفطر أمرا جازما لمصلحة بيان جوازه فخالفوا الواجب، وعلى التقديرين لا يكون الصائم اليوم في السفر عاصيا إذا لم يتضرر به، ويؤيد التأويل الأول قوله في الرواية الثانية إن الناس قد شق عليهم الصيام-انتهى. وقال الطيبي: التعريف في الخبر للجنس أي أولئك الكاملون في العصيان، لأنه - صلى الله عليه وسلم - بالغ في الإفطار حتى رفع قدح الماء بحيث يراه كل الناس ثم شرب لكي يتبعوه ويقبلوا رخصة الله فمن أبى فقد بالغ في العصيان والله أعلم-انتهى. (رواه مسلم) من طريق عبدالوهاب عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر، ورواه أيضا من طريق عبدالعزيز بن محمد الدراوردي عن جعفر، وزاد فقيل له أن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر، ومن طريق الدراوردي رواه الترمذي والبيهقي ورواه النسائي والطحاوي من طريق ابن الهاد عن جعفر بن محمد.
(14/35)
2048- قوله: (صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر) فيه مبالغة في المنع عن الصوم في السفر وهو محمول على حال عدم القدرة ولحوق الضرر والاستنكاف عن العمل برخصة الله. وقال ميرك: يفهم من الحديث منع الصوم في السفر كمنع الإفطار في الحضر. قلت: هذا ظاهر الحديث ومشى عليه الظاهرية كما تقدم، وإنما أولناه بما سبق جمعا بينه وبين الأحاديث التي وردت على خلاف ذلك صريحا، وذهب إليها جمهور العلماء. وقال السندي: قوله "كالمفطر" في الحضر أي في غير رمضان فمرجعه إلى أن الصوم خلاف الأولى، أو كالمفطر في رمضان، فمدلوله أنه حرام، والأول هو أقرب ومع ذلك لا بد عند الجمهور من حمله على حالة مخصوصة كما إذا أجهده الصوم-انتهى.
(14/36)
وقال الشوكاني: هو محمول على الحالة التي يكون الفطر فيها أولى من الصوم كحالة المشقة جمعا بين الأدلة. وقال الحافظ: هو محمول على ما تقدم أولا حيث يكون الفطر أولى من الصوم (رواه ابن ماجه) وكذا البزار وابن حزم في المحلى (ج6ص258) كلهم من طريق أسامة بن زيد عن الزهري عن أبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف عن أبيه. قال في الزوائد: في إسناده انقطاع، وأسامة بن زيد متفق على تضعيفه، وأبوسلمة ابن عبدالرحمن لم يسمع من أبيه شيئا. قاله ابن معين والبخاري-انتهى. وقال ابن حزم: قد صح سماع أبي سلمة عن أبي قال، ولا نحتج بأسامة بن زيد الليثي ولا نراه حجة لنا ولا علينا. وقال البزار: أسنده أسامة وتابعه يونس، ورواه ابن أبي ذئب وغيره عن الزهري عن أبي سلمة عن أبيه موقوفا، ولو ثبت مرفوعا لكان منسوخا بحديث الكديد. وقال الحافظ في الفتح: رواه الأثرم من طريق أبي سلمة مرفوعا، والمحفوظ عن أبي سلمة عن أبيه موقوفا كذلك أخرجه النسائي وابن المنذر، ومع وقفه فهو منقطع. لأن أبا سلمة لم يسمع من أبيه. وقال في التلخيص (ص195) أخرجه ابن ماجه والبزار من حديث عبدالرحمن بن عوف (أي مرفوعا) والنسائي من حديثه بلفظ: قال كان يقال الصيام في السفر كالإفطار في الحضر، وصوب وقفه على عبدالرحمن، وأخرجه ابن عدي من وجه آخر وضعفه، وكذا صحح كونه موقوفا ابن أبي حاتم عن أبيه في العلل (ج1ص239) والدارقطني في العلل والبيهقي (ج4ص244)-انتهى. قلت: أسامة بن زيد الليثي قد تكلم فيه يحيى القطان وأحمد وأبوحاتم والنسائي، ووثقه ابن معين والعجلي، وقال ابن عدي ليس به بأس. وقال أبوداود: صالح، وروى له مسلم استشهادا أو مقرونا به في الإسناد فهو من الرجال الذين اختلفوا فيهم، لا ممن اتفقوا على تضعيفهم ثم أنه وإن تكلم فيه، لكن الحق إنه ثقة صالح للاحتجاج، ولذلك ذكره الذهبي في كتابه، ذكر أسماء من تكلم فيه وهو موثق حيث قال أسامة بن زيد الليثي لا العدوى صدوق، قوى
(14/37)
الحديث أكثر مسلم في إخراج
حديث ابن وهب عنه، ولكن أكثرها شواهد أو متابعات. والظاهر أنه ثقة. وقال النسائي
وغيره ليس بالقوي-انتهى. فتضعيف المرفوع من جهة أسامة هذا ليس بصحيح عندي، على أنه
قد تابعه يونس كما قال البزار، نعم تضعيفه من جهة كونه منقطعا حق، لا شك فيه. فإن
أبا سلمة بن عبدالرحمن لم يسمع من أبيه. قال في تهذيب التهذيب (ج12ص117) قال علي
بن المدني وأحمد وابن معين وأبوحاتم ويعقوب بن شيبة وأبوداود: حديثه عن أبيه مرسل،
قال مات وهو صغير. وقال أبوحاتم: لا يصح عندي، وصرح الباقون بكونه لم يسمع منه.
وقال ابن عبدالبر: لم يسمع من أبيه، وحديث النضر بن شيبان في سماع أبي سلمة عن
أبيه لا يصححونه-انتهى.
2049-(11) وعن حمزة بن عمرو الأسلمي، ((أنه قال يا رسول الله ! إني أجد بي قوة على
الصيام
في السفر، فهل علي جناح؟ قال: هي رخصة من الله عزوجل فمن أخ بها فحسن، ومن
أحب أن يصوم فلا جناح عليه)) رواه مسلم.
(14/38)
2049- قوله: (إني أجد) كذا في جميع النسخ وهكذا في جامع الأصول (ج7ص264) وكذا وقع في رواية الدارقطني والذي في صحيح مسلم أجد أي بحذف كلمة إني وهكذا نقله المجد بن تيمية في المنتقى (بي قوة) أي زائدة (على الصيام في السفر فهل علي جناح) أي إثم أو بأس بالصوم أو الفطر (قال هي) أي الإفطار والتأنيث بإعتبار الخبر (رخصة من الله عزوجل) فإن الصوم عزيمة منه تعالى. وقال الطيبي: قوله "هي رخصة" الضمير راجع إلى معنى السؤال، أي هل على إثم إن أفطر، فأنثه بإعتبار الخبر كما في قوله من كانت أمك ويحتمل أن السائل قد سمع أن الصوم في السفر عصيان، كما في حديث جابر أولئك العصاة، فسأل هل علي جناح أن أصوم لأني قوي عليه، فقال لا، لأن الإفطار رخصة، ولفظ الحسن يقوي الوجه الأول. وقال ابن حجر: يحتمل أن مراده فهل علي جناح في الفطر. لأني قوي، والرخصة للضعيف، أو في الصوم لأن الفطر رخصة، وقد تكون واجبة. وقوله "هي" أي تلك الفعلة أو الخصلة المذكورة وهي الإفطار في السفر، وأنث ضميره وهو رخصة أي تسهيل من الله عزوجل لعباده دفعا للمشقة عليهم ما جعل عليكم في الدين من حرج، وتأنيث الضمير لتأنيث الخبر (فمن أخذ بها) أي بالرخصة (فحسن) أي فعله حسن مرضي لا جناح عليه للحديث الآخر إن الله يحب أن يؤتى رخصة كما يحب أن يؤتى عزائمه (ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه) قال القاري: كان ظاهر المقابلة أن يقول فحسن أو فأحسن بل مقتضى كون أول رخصة، والثاني عزيمة أن يعكس في الجزاء بأن يقال في الأول فلا جناح عليه، وفي الثاني فحسن لكن أريد المبالغة، لأن الرخصة إذا كانت حسنا فالعزيمة أولى بذلك، ولعله عليه السلام علم بنور النبوة إن مراد السائل بقوله فهل علي جناح أي في الصوم ويدل عليه المقدمة المتقدمة من قوله إني أجدبي قوة على الصيام، وكذا ما سبق من حديثه أول الباب-انتهى باختصار. قلت ظاهر الحديث ترجيح الإفطار في السفر مطلقا كما هو مذهب أحمد خلافا
(14/39)
للجمهور لقوله فحسن. قال
الشوكاني: قوله أجد بي قوة ظاهره إن الصوم لا يشق عليه ولا يفوت به حق، وفي رواية
لمسلم إني أسرد الصوم وقد جعل المصنف (يعني صاحب المنتقى) هذا الحديث قوى الدلالة
على فضيلة الفطر لقوله - صلى الله عليه وسلم - فمن أخذ بها ومن أحب أن يصوم فلا
جناح. فاثبت للأخذ بالرخصة الحسن وهو أرفع من رفع الجناح. وأجاب الجمهور بأن هذا
فيمن يخاف ضررا أو يجد مشقة كما هو صريح الأحاديث. وقد أسلفنا تحقيق ذلك. وقال
الأبي في شرحه لمسلم: احتج بالحديث من جعل الفطر أفضل لقوله فيه فحسن، وقال في
الصوم فلا جناح، ولا حجة فيه لأن قوله لا جناح إنما هو جواب لقوله هل علي جناح،
ولا يدل على أن الصوم ليس بحسن وقد وصفهما معا في الآخر بالحسن.
(5) باب القضاء
?الفصل الأول?
2050-(1) عن عائشة، قالت: ((كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا
في
شعبان.) قال يحيى بن سعيد: (تعني الشغل من النبي أو بالنبي صلى اله عليه وسلم)
متفق عليه.
وإنما لم يدل على أن الصوم ليس بحسن لأن نفي الجناح أعم من الوجوب والندب والإباحة
والكراهة (رواه مسلم) من طريق عروة بن الزبير عن أبي مرواح عن حمزة، وأخرجه أيضا
النسائي والدارقطني (ص242) والطحاوي (ج1:ص433) والبيهقي (ج4:243).
(باب القضاء) أي حكمه وآدابه.
2050- قوله: (قالت كان) أي الشأن (يكون على) بتشديد التحتانية (الصوم) أي قضاءه
(من رمضان) تريد أياما من رمضان فاتتها بحيض أو مرض أو غير ذلك من الأعذار المبيحة
للفطر، وتكرير الكون لتحقيق القضية وتعظيمها، والتقدير كان الشأن يكون كذا،
والتعبير بلفظ الماضي أولا. والمضارع ثانيا. لإرادة الإستمرار وتكرار الفعل قاله
القسطلاني: وقيل: لفظه "يكون" زائدة كما قال الشاعر:
وجيران لنا كانوا كرام
(14/40)
وقال الطيبي: "الصوم" إسم كان وعلي خبره ويكون زائدة (فما أستطيع) أي ما أقدر (أن أقضى) أي ما فاتني من رمضان (إلا في شعبان قال يحيى بن سعيد) أي الراوي المذكور في سند هذا الحديث، وهو يحيى بن سعيد الأنصاري نص عليه الحافظ المزي عند ذكر هذا الحديث. وقال الحافظ: هو يحيى بن سعيد الأنصاري ولا جائز أن يكون يحيى بن سعيد القطان، لأنه لم يدرك أبا سلمة بن عبدالرحمن، وليست لزهير بن معاوية عنه رواية، وإنما هو يروي عن زهير (تعني الشغل) كذا في أكثر النسخ بزيادة كلمة تعني، وهكذا وقع في المصابيح، والشغل بضم الأولى وسكون الثانية مرفوع على أنه فاعل فعل محذوف أي قال يحيى تريد عائشة يمنعني الشغل أو أوجب ذلك الشغل ووقع في نسخة القاري. قال يحيى بن سعيد: الشغل أي بإسقاط كلمة "تعني" وكذا نقله الجزري في جامع الأصول وهكذا وقع في البخاري. قال الحافظ: قوله "الشغل" هو خبر مبتدأ محذوف تقديره المانع لها هو الشغل أو هو مبتدأ محذوف الخبر تقديره الشغل هو المانع (من النبي) أي من أجله (أو بالنبي صلى الله عليه وسلم) قال القاري: "من" للتعليل أي لأجله والباء للسببية، و أو للشك من أحد الرواة عن يحيى على ما هو الظاهر،
(14/41)
ويمكن أن يكون للتنويع. والشغل مبتدأ والتقدير الشغل المانع لقضاء الصوم كان ثابتا من جهته، أو اشتغالها بخدمته صلى الله عليه وسلم هو المانع من القضاء-انتهى. والمراد من الشغل إنها كانت مهيئة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم مترصدة لاستمتاعه في جميع أوقاتها إن أراد ذلك ولا نعلم متى يريده. وأما في شعبان فإنه صلى الله عليه وسلم كان يصومه فتفرغ عائشة فيه لقضاء صومها، وفي هذا التعليل إشكال كما ستعرف. قال الحافظ: وفي قوله "قال يحيى" الخ. تفصيل لكلام عائشة من كلام غيرها أي فيه بيان من البخاري إن هذا ليس من قول عائشة. بل مدرج من قول غيرها، ووقع في رواية أحمد بن يونس عند مسلم مدرجا لم يقل فيه. قال يحيى: فصار كأنه من كلام عائشة أو من روي عنها. وأخرجه مسلم من طريق سليمان بن بلال عن يحيى مدرجا أيضا ولفظه، وذلك لمكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخرجه من طريق ابن جريج عن يحيى فبين إدراجه، ولفظه فظننت إن ذلك لمكانها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحيى بقوله. وأخرجه أبوداود من طريق مالك، والنسائي من طريق يحيى القطان وسعيد بن منصور عن ابن شهاب وسفيان كلهم عن يحيى بدون هذه الزيادة. وأخرجه مسلم من طريق محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة بدون الزيادة لكن فيه ما يشعر بها فإن لفظه قالت: إن كانت إحدانا لتفطر في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما تقدر على أن تقضيه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يأتي شعبان. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون المراد بالمعية الزمان أي إن ذلك كان خاصا بزمانه، وللترمذي وابن خزيمة من طريق عبدالله البهي عن عائشة ما كنت أقضي ما يكون علي من رمضان إلا في شعبان حتى قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - انتهى. قلت قد اعترض على التعليل المذكور. فقال ابن عبدالبر: هذا التعليل ليس بشيء لأن شغل سائر أزواجه كشغلها أو قريب منه لأنه أعدل الناس حتى قال اللهم
(14/42)
هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك وإما أخرت ذلك للرخصة والتوسعة. وقال في اللامع: قد كان - صلى الله عليه وسلم - له تسع نسوة يقسم لهن ويعدل فما تأتي نوبة الواحدة إلا بعد ثمانية أيام فكان يمكنها أن تقضي في تلك الأيام. وأجاب عنه القرطبي بأن القسم لم يكن واجبا عليه فهن يتوقعن حاجته في كل الأوقات-انتهى. قال القسطلاني: والصحيح عند الشافعية وجوبه عليه فيحتمل أن يقال كانت لا تصوم إلا بإذنه، ولم يكن يأذن لاحتمال إحتياجه إليها فإذا ضاق الوقت أذن لها-انتهى. وقيل إن القسم إنما هو في المبيت في الليل دون النهار. وقال الحافظ: ومما يدل على ضعف الزيادة المذكورة إنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم لنساءه فيعدل، وكان يدنو من المرأة في غير نوبتها فيقبل ويلمس من غير جماع، فليس في شغلها بشيء من ذلك ما يمنع الصوم، اللهم إلا أن يقال أنها كانت لا تصوم إلا بإذنه ولم يكن يأذن لاحتمال إحتياجه إليها، فإذا ضاق الوقت أذن لها، وكان هو - صلى الله عليه وسلم - يكثر الصوم في شعبان فلذلك كانت لا يتهيأ إلا في شعبان – انتهى
(14/43)
وقال النووي: كانت كل واحدة منهن مهيأة نفسها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مترصدة لاستمتاعه في جميع أوقاتها إن أراد ذلك، ولا تدري متى تريده ولا تستأذنه في الصوم مخافة أن يأذن، وقد يكون له حاجة فيها فيفوتها عليه، وهذا من الأدب، وإنما كانت تصومه في شعبان لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم معظم شعبان، فلا حاجة له فيهن حينئذ في النهار، ولأنه إذا جاء شعبان يضيق قضاء رمضان فإنه لا يجوز تأخيره عنه-انتهى. وقال الباجي: والظاهر أنه ليس للزوج جبر المرأة على تأخير القضاء إلى شعبان إلا باختيارها لأن لها حقا في إبراء ذمتها من الفرض الذي لزمها، وأما التنفل فإن له منعها لحاجة إليها لحديث أبي هريرة لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه.و في الحديث حجة للجمهور إن القضاء لا يجب على الفور إذ لو منع التأخير لم يقرها - صلى الله عليه وسلم -، نعم يندب التعجيل لأن المبادرة إلى الطاعة والمسارعة إلى الخير أولى. وأوجب داود القضاء من ثاني شوال فإن أخره أثم. وحديث عائشة يرد عليه. وقال الشوكاني: في الحديث دلالة على جواز تأخير قضاء رمضان مطلقا، سواء كان لعذر أو لغير عذر، لأن للزيادة المذكورة مدرجة، ولكن الظاهر إطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك لا سيما مع توفر دواعي أزواجه إلى سؤاله عن الأحكام الشرعية فيكون ذلك أعنى جواز التأخير مقيدا بالعذر المسوغ لذلك. قلت: واحتج الجمهور أيضا بقوله تعالى ?فعدة من أيام أخر? [البقرة:185] فإنه أمر بالقضاء مطلقا عن وقت معين فلا يجوز تقييده ببعض الأوقات إلا بدليل فيكون وجوب القضاء موسعا على التراخي لا على الفور. ويؤخذ من حرص عائشة على القضاء في شعبان أنه لا يجوز تأخير القضاء حتى يدخل رمضان آخر فإن دخل فالقضاء واجب أيضا فلا يسقط، وأما الإطعام فليس له في الحديث ذكر لا بالنفي ولا بالإثبات. واختلف العلماء فيه. فذهب الجمهور مالك والشافعي وأحمد إلى
(14/44)
وجوب الإطعام مع القضاء. وروى
ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة وعمر، ونقل الطحاوي عن يحيى بن أكثم قال وجدته عن ستة
من الصحابة لا أعلم لهم فيه مخالفا-انتهى. وخالف في ذلك إبراهيم النخعي وأبوحنيفة
وأصحابه، ومال الطحاوي إلى قول الجمهور في ذلك، ومال البخاري إلى أنه يقضى ولا
كفارة عليه حيث قال بعد ذكر قول أبي هريرة وابن عباس في الإطعام ما لفظه ولم يذكر
الله الإطعام، إنما قال: ?فعدة من أيام أخر? أي وسكت عن الإطعام وهو الفدية لتأخير
القضاء ولم يثبت فيه شيء مرفوع. وفي الحديث إن حق الزوج من العشرة والخدمة يقدم
على سائر الحقوق ما لم يكن فرضا محصورا في الوقت. وقيل: قول عائشة فما أستطيع أن
أقضي إلا في شعبان يدل على أنها كانت لا تتطوع بشيء من الصيام لا في عشر ذي الحجة
ولا في عاشوراء ولا في غيرهما، وهو مبني على أنها كانت لا ترى جواز صيام التطوع
لمن عليه دين من رمضان، ولكن من أين ذلك لمن يقول به. والحديث ساكت عن هذا (متفق
عليه) واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضا أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن
ماجه والبيهقي وابن خزيمة.
2051- (2) وعن أبي هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل للمرأة
أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه)). رواه مسلم.
(14/45)
2051- قوله: (لا يحل للمرأة) أي المزوجة (أن تصوم) أي نفلا أو واجبا على التراخي قاله القسطلاني وخصه البخاري بالتطوع وكأنه تلقاه من رواية الحسن بن علي عن عبدالرزاق، فإن فيها لا تصوم المرأة غير رمضان. وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا في أثناء حديث، ومن حق الزوج على زوجته أن لا تصوم تطوعا إلا بإذنه. فإن فعلت لم يقبل منها (وزوجها شاهد) أ ي حاضر عندها مقيم في بلدها وفي رواية وبعلمها شاهد قال الحافظ: رواية بعلها أفيد، لأن ابن حزم نقل عن أهل اللغة أن البعل اسم للزوج والسيد، فإن ثبت وإلا الحق السيد بالزوج للإشتراك في المعنى يعني يلتحق به السيد بالنسبة لأمته التي يحل له وطيها (إلا بإذنه) أي تصريحا أو تلويحا، فيه دليل على تحريم الصوم المذكور عليها، وهو قول الجمهور. قال النووي: وسبب هذا التحريم إن للزوج حق الإستمتاع بها في كل الأيام وحقه فيه واجب على الفور فلا يفوته بتطوع ولا بواجب على التراخي، فإن قيل فينبغي أن يجوز لها الصوم بغير إذنه فإن أراد الإستمتاع بها كان له ذلك ويفسد صومها، فالجواب إن صومها يمنعه من الاستمتاع في العادة فإن المسلم يهاب إنتهاك الصوم بالإفساد، ولا شك أن الأولى له خلاف ذلك إن لم يثبت دليل كراهة، نعم لو كان مسافرا فمفهوم الحديث في تقييده بالشاهد يقتضي جواز التطوع لها، إذا كان زوجها مسافرا، لأنه لا يتأتى منه الاستمتاع إذا لم تكن معه وفي معنى الغيبة أن يكون مريضا بحيث لا يستطيع الجماع. قال القاري: ظاهر الحديث إطلاق منع صوم النفل فهو حجة على الشافعية في إستثناء نحو عرفة وعاشوراء. قال شيخنا: الأمر كما قال القاري: وإنما لم يلحق بالصوم صلاة التطوع لقصر زمنها وفي معنى الصوم الاعتكاف لا سيما على القول بأن الاعتكاف لا يصح بدون الصوم، قال ولا يبعد أن يحمل قوله "لا يحل على معنى" لا ينبغي أن تصوم قضاء رمضان أو قضاء صوم النفل إذا كان الوقت متسعا ليكون مناسبا
(14/46)
لعنوان الباب-انتهى. قلت: عدم
حل الصوم ظاهر في حرمته وهو يشمل ابتداء الصوم وقضاءه، فلا يجوز لها صوم النفل ولا
قضاء الواجب إذا كان الوقت متسعا إلا بإذن زوجها، وفي الحديث إن حق الزوج آكد على
المرأة من التطوع بالخير لأن حقه واجب، والقيام بالواجب مقدم على القيام بالتطوع.
(ولا تأذن) قال القاري: بالنصب في النسخ المصححة عطفا على تصوم أي ولا يحل لها أن
تأذن أحدا من الأجانب أو الأقارب حتى النساء ولا مزيدة للتأكيد.
2052- (3) وعن معاذة العدوية، إنها قالت لعائشة: ((ما بال الحائض تقضى الصوم ولا
تقضى الصلاة؟ قالت: عائشة كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء
الصلاة)) رواه مسلم.
(14/47)
وقال ابن حجر: يصح رفعه خبرا يردا به النهى وجزمه على النهى ( في بيته) أ ي دخول بيته والمراد ببيت زوجها مسكنه سواء كان ملكه أو، لا (إلا بإذنه) وفي معناه العلم برضاه، وفي رواية مسلم وهو شاهد إلا بإذنه. قال الحافظ: هذا القيد لا مفهوم له بل خرج مخرج الغالب وإلا فغيبة الزوج لا تقتضي الإباحة للمرأة أن تأذن لمن يدخل بيته، بل يتأكد حينئذ عليها المنع لثبوت الأحاديث الواردة في النهى عن الدخول على المغيبات، أي من غاب عنها زوجها. ويحتمل أن يكون له مفهوم، وذلك أنه إذا حضر تيسر استئذانه وإذا غاب تعذر، فلو دعت الضرورة إلى الدخول عليها لم تفتقر إلى استئذانه لتعذره. وقال النووي: في هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يفتات على الزوج بالإذن في بيته إلا بإذنه وهو محمول على ما لا تعلم رضا الزوج به، أما لو علمت رضا الزوج بذلك فلا حرج عليها كمن جرت عادته بإدخال الضيفان موضعا معدا لهم. سواء كان حاضرا، أم غائبا، فلا يفتقر إدخالهم إلى إذن خاص لذلك، وحاصله أنه لا بد من إعتبار إذنه تفصيلا أو إجمالا (رواه مسلم) هذا يوهم أن الحديث من أفراد مسلم وأنه رواه بهذا اللفظ وليس كذلك فإن الحديث متفق عليه، واللفظ المذكور للبخاري، أخرجه في أثناء حديث في كتاب النكاح من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. وذكره مسلم كذلك في كتاب الزكاة من رواية همام بن منبه عن أبي هريرة بلفظ: لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه. ورواه البخاري أيضا من هذا الطريق مقتصرا على الجملة الأولى، فكان حق المصنف أن يقول متفق عليه، واللفظ للبخاري. والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج2:ص216) من طريق همام بن منبه، والترمذي وابن ماجه من طريق أبي الزناد عن الأعرج بلفظ: لا تصوم المرأة وزوجها شاهد من غير شهر رمضان إلا بإذنه، وأبوداود من طريق همام وزاد غير رمضان، وأخرجه أيضا الدارمي والبيهقي (ج4:ص303) وفي الباب عن
(14/48)
أبي سعيد عند أبي داود
والدارمي وابن ماجه وعن ابن عباس عند الطبراني.
2052- قوله: (وعن معاذة) بميم مضمومة وعين مهملة وذال معجمة بنت عبدالله (العدوية)
بعين ودال مفتوحتين منسوبة إلى عدي بن كعب بطن من قريش (إنها قالت لعائشة) وفي
رواية البخاري وكذا في رواية لمسلم عن معاذة إن امرأة قالت لعائشة. قال الحافظ:
كذا أبهمها همام، وبين شعبة في روايته عن قتادة إنها هي معاذة الرواية أخرجه
الإسماعيلي، وكذا لمسلم من طريق عاصم وغيره عن معاذة. (ما بال الحائض) أي ما شأنها
وإنما لم يدخله التاء للإختصاص (تقضى الصوم) أي الذي فاتها أيام حيضها (ولا تقضى
الصلاة) مع أنها فرضان تركا لعلة واحدة وهي الحيض، وفي معناه النفاس تعنى أن مقتضى
الرأى أن يكون الصوم والصلاة متساويان في الحكم،
(14/49)
لأن كلا منهما عبادة تركت لعذر (كان) أي الشأن (يصيبنا ذلك) بكسر الكاف وبفتح أي الحيض (فنؤمر) أي نحن معاشر النساء (بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) في شرح الطيبي: قيل: الجواب من الأسلوب الحكيم أي دعى السؤال عن العلة إلى ما هو أهم منها من متابعة النص والانقياد للشارع، وذكر البخاري في كتاب الصيام من صحيحه عن أبي الزناد أنه قال إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيرا على خلاف الرأي فما يجد المسلمون بدا من إتباعها من ذلك، إن الحائض تقضى الصيام ولا تقضى الصلاة-انتهى. يعني أن الأمور الشرعية التي تأتي على خلاف الرأي والقياس ولا يعلم وجه الحكمة فيها يجب الإتباع بها ولا يعترض، ولا يقال لم كان كذا ولا يطلب وجه الحكمة فيها بل يتعبد بها ويؤكل أمرها إلى الله تعالى لأن أفعال الله لا تخلوا عن حكمة ولكن غالبها تخفى على الناس ولا تدركها العقول: قال الحافظ قال الزين بن المنير: نظر أبوالزناد إلى الحيض فوجده مانعا من هاتين العبادتين وما سلب الأهلية استحال أن يتوجه به خطاب الاقتضاء وما يمنع صحة الفعل يمنع الوجوب فلذلك استبعد الفرق بين الصلاة والصوم فأحال بذلك على إتباع السنة والتعبد المحض. وقد تقدم في كتاب الحيض سؤال معاذة من عائشة عن الفرق المذكور وانكرت عليها عائشة السؤال وخشيت عليها أن تكون تلقنته من الخوارج الذين جرت عادتهم باعتراض السنن بآرائهم، ولم تزدها على الحوالة على النص، وكأنها قالت دعى السؤال عن العلة إلى ما هو أهم من معرفتها وهو الانقياد إلى الشارع. وقد تكلم الفقهاء في الفرق بين الصلاة والصوم، واعتمد كثير منهم على أن الحكمة فيه أن الصلاة تتكرر فيشق قضاءها، بخلاف الصوم الذي لا يقع في السنة إلا مرة. واختار إمام الحرمين أن المتبع في ذلك هو النص وإن كل شيء ذكروه من الفرق ضعيف-انتهى. قال ابن دقيق العيد: (ج1:ص128) اكتفاء عائشة في الاستدلال على إسقاط القضاء بكونه لم يؤمر به يحتمل وجهين أحدهما
(14/50)
أن تكون أخذت إسقاط القضاء من
إسقاط الأداء ويكون مجرد سقوط الأداء دليلا على سقوط القضاء، فيتمسك به حتى يوجد
المعارض وهو الأمر بالقضاء كما في الصوم. والثاني قال: وهو الأقرب إن الحاجة داعية
إلى بيان هذا الحكم لتكرر الحيض منهن عنده صلى الله عليه وسلم، فلو وجب قضاء
الصلاة فيه لوجب بيانه، وحيث لم يبين دل على عدم الوجوب لا سيما، وقد اقترن بذلك
قرينة أخرى وهي الأمر بقضاء الصوم وتخصيص الحكم به قال: وفي الحديث دليل لما يقوله
الأصوليون من أن قول الصحابي كنا نؤمر وننهى في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله
عليه وسلم وإلا لم تقم الحجة به-انتهى. ووقع في رواية البخاري كنا نحيض عند النبي
صلى الله عليه وسلم فلا يأمرنا به أو قالت: فلا نفعله. قال الحافظ: في هذه الرواية
بالشك وعند الإسماعيلي من وجه آخر فلم نكن نقضى ولم نؤمر به والاستدلال بقولها فلم
نكن نقضى أوضح من الاستدلال بقولها فلم نؤمر به،
2053- (4) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مات وعليه صوم
صام عنه وليه)) متفق عليه.
(14/51)
لأن عدم الأمر بالقضاء هنا قد ينازع في الاستدلال به على عدم الوجوب لاحتمال الاكتفاء بالدليل العام على وجوب القضاء والله أعلم. قال الشوكاني: نقل ابن المنذر والنووي وغيرهما إجماع المسلمين على أنه لا يجب على الحائض قضاء الصلاة ويجب عليها قضاء الصيام، وروى عبدالرزاق عن معمر أنه سأل الزهري عنه، فقال اجتمع الناس عليه، وحكى ابن عبدالبر عن طائفة من الخوارج أنهم كانوا يوجبون على الحائض قضاء الصلاة، وعن سمرة بن جندب أنه كان يأمر به فانكرت عليه أم سلمة. قال الحافظ: لكن استقر الإجماع على عدم الوجوب كما قاله الزهري وغيره. وقال النووي: قال الجمهور من أصحابنا وغيرهم: وليست الحائض مخاطبة بالصيام في زمن الحيض، وإنما يجب عليها القضاء بأمر جديد (رواه مسلم) في كتاب الطهارة، وأخرجه البخاري في كتاب الحيض، وقد تقدم لفظه فالحديث متفق عليه فكان الأولى للمصنف أن يقول متفق عليه. واللفظ لمسلم وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود وابن ماجه والدارمي في الطهارة والنسائي فيه وفي الصيام، والبيهقي في كتاب الحيض (ج1:ص308) وفي الصيام (ج4:ص236).
(14/52)
2053-قوله (من مات) أي من المكلفين بقرينة قوله (وعليه صوم) لأن كلمة على للإيجاب والواو فيه للحال (صام عنه) أي عن الميت (وليه) قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث دليل لعمومه على أن الولي يصوم عن الميت وإن النيابة تدخل الصوم، وذهب إليه قوم والذي عليه الأكثرون عدم دخول النيابة في الصوم لأنها عبادة بدنية. قال: وقوله "صام عنه وليه" ليس المراد أنه يلزمه ذلك، وإنما يجوز ذلك له إن أراد، هكذا ذكره صاحب التهذيب من الشافعية، وحكاه إمام الحرمين عن الشيخ أبي محمد أبيه، وفيه بحث وهو إن الصيغة صيغة خبر أعنى صام ويمتنع الحمل على ظاهره، فينصرف إلى الأمر ويبقى النظر في أن الوجوب يتوقف على صيغة الأمر المتعينة وهي أفعل مثلا أو يعمها مع ما يقوم مقامها-انتهى. وقال الحافظ: قوله صام عنه وليه خبر بمعنى الأمر تقديره فليصم عنه وليه، وليس هذا الأمر للوجوب عند الجمهور، وبالغ إمام الحرمين ومن تبعه فادعوا الإجماع على ذلك وفيه نظر، لأن بعض أهل الظاهر أوجبه فلعله لم يعتد بخلافهم على قاعدته-انتهى. وقال العيني: أطلق ابن حزم (ج7:ص2) النقل عن الليث بن سعد وأبي ثور وداود أنه فرض على أوليائه أن يصوموه عنه هم أو بعضهم، وبه صرح القاضي أبوالطيب الطبري في تعليقه بأن المراد منه الوجوب، وجزم به النووي في الروضة من غير أن يعزوه إلى أحد. وزاد في شرح المهذب فقال أنه بلا خلاف.
(14/53)
وقال شيخنا العراقي: هذا عجيب منه ثم قال: وحكى النووي في شرح مسلم عن أحد قولي الشافعي أنه يستحب لوليه أن يصوم عنه، ثم قال ولا يجب عليه-انتهى كلام العيني. قلت الحديث رواه البزار بلفظ: من مات فليصم عنه وليه إن شاء. قال الهيثمي: (ج3:ص179) إسناده حسن-انتهى. واحتج به من ذهب إلى عدم وجوب الصوم من المجيزين له لكن في سنده ابن لهيعة وهو صدوق خلط بعد احتراق كتبه ولم يعرف إن هذا الحديث حدث به قبل احتراق كتبه أو بعده فلا يصح الاحتجاج به. قال الحافظ في التلخيص: (ج1:ص197) وفي رواية للبزار فليصم عنه وليه إن شاء. وهي ضعيفة لأنها من طريق ابن لهيعة-انتهى. والراجح عندي هو الوجوب والله تعالى أعلم. وقد اختلف السلف في هذه المسألة أي في مشروعية الصوم عن الميت فأجاز الصيام عن الميت أي صوم كان أصحاب الحديث، وعلق الشافعي في القديم القول به على صحة الحديث كما نقله البيهقي في المعرفة، وهو قول أبي ثور وجماعة من محدثي الشافعية. وقال البيهقي في الخلافيات: هذه المسألة ثابتة لا أعلم خلافا بين أهل الحديث في صحتها، فوجب العمل بها، ثم ساق بسنده إلى الشافعي قال كل ما قلت: وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فخذوا بالحديث ولا تقلدوني. قلت: واحتج لهذا القول بحديث عائشة هذا، وبما روى عن ابن عباس إن امرأة قالت: يا رسول الله : إن أمي ماتت وعليها صوم نذر. أفأصوم عنها؟ فقال أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أ كان يؤدي ذلك عنها. قالت نعم، قال فصومي عن أمك. وبما روى أحمد ومسلم وأبوداود وابن ماجه والبيهقي عن بريدة. قال: بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة فقالت إني تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت فقال وجب أجرك وردها عليك الميراث قالت يا رسول الله ! إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال صومي عنها. وقال الشافعي في الجديد ومالك وأبوحنيفة: لا يصام عن الميت. وقال الليث وأحمد وإسحاق وأبوعبيد لا
(14/54)
يصام عنه إلا النذر. واستدل الحنفية ومن وافقهم بحديث ابن عمر الآتي. وفيه إن المحفوظ أنه موقوف كما ستعرف وللاجتهاد فيه مسرح فلا يصح للاستدلال ثم ليس فيه ما يمنع الصيام وأما ما ذكره المصنف في الفصل الثالث من رواية مالك عنه بلاغا مما يدل على منع الصيام عن الميت. ففيه أنه قد جاء عن ابن عمر خلاف ذلك كما ذكره البخاري تعليقا في باب من مات وعليه نذر، وسيجيء، فاختلف قوله فلا يقوم به حجة لأحد، على أنه موقوف أيضا والحديث أولى بالإتباع وفيه غنية عن كل قول واستدلوا أيضا بما رواه النسائي في الكبرى بسند صحيح عن ابن عباس قال: لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، وبما روى الطحاوي عن روح بن الفرج حدثنا يوسف بن عدي حدثنا عبيدة ابن حميد عن عبدالعزيز بن رفيع عن عمرة بنت عبدالرحمن،
(14/55)
قلت: لعائشة إن أمي توفيت وعليها صيام رمضان أيصلح أن أقضي عنها؟ فقالت. لا. ولكن تصدقي عنها مكان كل يوم على مسكين خير من صيامك، كذا ذكره ابن التركماني (ج4:ص257) وقال هذا سند صحيح، وذكره ابن حزم في المحلي (ج7:ص403) من رواية ابن أبي شيبة عن جرير بن عبدالحميد عن عبدالعزيز بن رفيع عن امرأة منهم اسمها عمرة إن أمها ماتت، وعليها من رمضان فقالت: لعائشة أقضيه عنها؟ قالت لا، بل تصدقي عنها مكان كل يوم نصف صاع على كل مسكين. وفيه إن هذا الاستدلال أيضا مخدوش، أما أولا فلأنه جاء عن ابن عباس خلاف ذلك، فروى ابن أبي شيبة بسند صحيح كما في المحلي (ج7:ص7) سئل ابن عباس عن رجل مات وعليه رمضان وصوم شهر، فقال يطعم عنه لرمضان ويصام عنه النذر. وفي صحيح البخاري تعليقا أمر ابن عمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء، فقال صلى عنها. وقال ابن عباس نحو، قال ابن عبدالبر: النقل في هذا عن ابن عباس مضطرب. قال الحافظ: ويمكن الجمع يحمل الإثبات في حق من مات والنفي في حق الحي-انتهى. وقال العيني: النقل عنه في هذا مضطرب فلا يقوم به حجة لأحد. وأما أثر عائشة الذي نقله ابن التركماني عن الطحاوي، ففيه إن بعض ألفاظه مخالف لما في مشكل الآثار المطبوع ففيه (ج3:ص142) عن عبدالعزيز ابن رفيع عن عمرة قالت: توفيت أمي وعليها صيام من رمضان فسألت عائشة عن ذلك فقالت أقضيه عنها، ثم قالت: بل تصدقي مكان كل يوم على مسكين نصف صاع، وهذا كما ترى ليس فيه ما يمنع الصيام. وأما أثرها الذي ذكره ابن حزم فسيأتي الجواب عنه، وأما ثانيا فلأن فتيا الصحابي لا تقاوم الحديث المرفوع الصحيح السنة، الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالإتباع وفيها غنية عن كل قول. واستدلوا أيضا بالقياس على الصلاة ونظائرها من أعمال البدن التي لا مدخل للمال فيها. قال العيني: قد اجمعوا على أنه لا يصلي أحد عن أحد فكذلك الصوم لأن كلا منهما عبادة بدنية، وحكى
(14/56)
ابن القصار عن المهلب أنه قال لو جاز أن يصوم أحد عن أحد في الصوم، لجاز أن يصلي الناس عن الناس فلو كان ذلك سائغا لجاز أن يؤمن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمه أبي طالب لحرصه على إيمانه، وقد اجمعت الأمة على أنه لا يؤمن أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد فوجب أن يرد ما اختلف فيه إلى ما اجمع عليه. وفيه أولا أن هذا قياس في مقابلة النص، وثانيا إن دعوى الإجماع على القول بأن لا يصلي أحد عن أحد باطلة لما تقدم عن ابن عمر، أنه أمر بالصلاة عن الميت، ولأن الظاهرية قالوا يجب قضاء صلاة النذر وصلاة الفرض عن الميت، وثالثا: أنهم اجمعوا على أن تصلي الركعتان أثر الطواف عن الميت الذي يحج عنه. ورابعا: إن في كلام المهلب غضاضة وترك محاسن الأدب في حق الشارع ومصادمة الأخبار الثابتة فيه قاله العيني (ج11:ص60) وأجاب بعض الحنفية عن حديث الباب بأن في سنده عبيدالله بن أبي جعفر،
(14/57)
ونقل صحاب الميزان عن أحمد أنه قال ليس بقوى وعن حديث ابن عباس بأنه مضطرب متنا وأجيب عن الأول بأن عبيدالله هذا من رجال السنة، ووثقه أحمد في رواية عبدالله ابنه عنه وأبوحاتم والنسائي وابن سعد: وقال ابن يونس: كان عالما زاهدا، وإن صح ما نقل صحاب الميزان عن أحمد فلعله في شيء مخصوص، وقد احتج به الجماعة قاله الحافظ في مقدمه الفتح. فالحديث صحيح جدا، ولذلك اتفق الشيخان على تخريجه في صحيحهما، ولم ينتقده أحد ممن انتقدهما، بل اتفقوا على صحته وقبوله، وأجيب عن الثاني بعدم تسليم الاضطراب فيه كما بين ذلك الحافظ في الفتح. وأجابوا أيضا بأنه روى عن عائشة وابن عباس وهما رويا حديث الصيام عن الميت أنهما لم يريا الصيام عنه كما تقدم، وفتوى الراوي على خلاف مرويه بمنزلة روايته للناسخ. وتعقبه ابن حزم بوجوه، أحدها إن الله تعالى إنما افترض علينا إتباع رواية الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفترض علينا قط إتباع رأى أحدهم. والثاني: أن قد يترك الصحابي إتباع ما روى لوجوه، وهي أن يتأول فيما روى تأويلا ما اجتهد فيه فاخطأ فاخبر مرة أو أن يكون نسي ما روى، فافتى بخلافه أو أن تكون الرواية عنه بخلافه وهما، ممن روى ذلك عن الصحابي، فإذ كل ذلك ممكن فلا يحل ترك ما افترض عليها إتباعه من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لم يأمرنا بإتباعه لو لم يكن فيه هذه العلل فكيف وكلها ممكن فيه، ولا معنى لقول من قال هذا دليل على نسخ الخبر، لأنه يعارض بأن يقال كون ذلك الخبر عند ذلك الصحابي دليل على ضعف الرواية عنه بخلافه أو لعله قد رجع عن ذلك. والثالث، أن نقول لعل الذي روى فيه عن عائشة فيه الإطعام كان لم يصح حتى ماتت فلا صوم عليها. والرابع، أنه قد روى عن ابن عباس الفتيا بما روى من الصوم عن الميت كما تقدم، فصح أنه قد نسى أو غير ذلك مما الله تعالى أعلم به-انتهى مختصرا، وقال الحافظ: بعد ذكر اعتلال الحنفية بنحو ما تقدم
(14/58)
ما لفظه، والراجح أن المعتبر ما رواه الصحابي لا ما رآه لاحتمال أن يخالف ذلك لاجتهاد ومستنده فيه لم يتحقق، ولا يلزم من ذلك ضعف الحديث عنده، وإذا تحقق صحة الحديث لم يترك المحقق للمظنون وتعقبه العيني كعادته بما لا يلتفت إليه. وأجابوا أيضا عن حديث عائشة بأن المراد بقوله صام عنه وليه، أي فعل عنه وليه ما يقوم مقام الصوم وهو الإطعام، قال الماوردي: وهو نظير قوله التراب وضوء المسلم إذا لم يجد الماء، قال فسمي البدل باسم المبدل فكذلك هنا. وقال الخطابي (ج2:ص122) تأوله بعض أهل العلم فقال معناه أطعم عنه وليه، فإذا فعل ذلك فكأنه قد صام عنه سمي الإطعام صياما على سبيل المجاز والاتساع إذ كان الطعام قد ينوب عنه، وقد قال سبحانه أو عدل ذلك صياما فدل على أنهما يتناوبان-انتهى. وتعقب بأنه صرف للفظ عن ظاهره بغير دليل، بل يدل على ما ذكرنا من آثار ابن عمر وابن عباس وعائشة على كون الصوم في حديث عائشة المرفوع في معناه الحقيقي. قال السندي: من لا يقول بالصيام عن الميت يدعى النسخ بأدلة غير تامة،
(14/59)
ومنهم من يقول معنى قوله في حديث بريدة أفأصوم عنها أفأفدي عنها على تسمية الفداء صوما لكونه بدلا عن الصوم وكل ذلك غير تام-انتهى. وقال صاحب فتح الملهم: قوله صلى الله عليه وسلم فصومي عن أمك في حديث ابن عباس وقوله صلى الله عليه وسلم صومي عنها في حديث بريدة، قد صدر في معرض الجواب عن قولها أفأصوم عنها فكأنه صلى الله عليه وسلم قررها على ما سألته، والظاهر أنهما ما أرادت بسؤالها إلا الصوم الحقيقي لا الإطعام، وحمل كلامها على الإطعام لا يخلو عن تعسف فالوجدان السليم يحكم بأن التأويل المذكور في حديث عائشة لا يجري في حديثي ابن عباس وبريدة إلا بتكلف بارد والله تعالى أعلم-انتهى. وقال الشيخ محمد أنور: لا حاجة إلى تأويل أحاديث الباب وصرف لفظ الصوم فيها عن ظاهره بل المراد بقوله صام عنه وليه، وقول "صومي عنها" هو الصوم الحقيقي لكن لا بطريق النيابة بل بطريق التبرع لإيصال الثواب وقد أجاب صلى الله عليه وسلم عن قولها أفأصوم عنها بقوله صومي عنها لما رأى من حرصها على إيصال الخير والثواب لأمها ولا شك في أنه ينفع لها في الجملة فأما أنه يقع قضاء عما عليها ويبرأ ذمتها عن الواجب فليس في الحديث دلالة على هذا-انتهى. قلت هذا التوجيه أيضا سخيف جدا يدل على سخافته تمام حديث ابن عباس. قال صاحب فتح الملهم بعد ذكر التوجيه المذكور: هذا توجيه لطيف لو لا ما ورد في حديث ابن عباس من التشبيه بقضاء الدين، ولا سيما قوله في رواية زيد بن أبي أنيسة عن الحكم (عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عند مسلم) قال أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته، أ كان ذلك يؤدي عنها قالت نعم قال فصومي عن أمك وهذا كالصريح في أن صومها عن أمها يؤدي ما على أمها من دين الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب. وأجاب المالكية عن حديث عائشة بأن عمل أهل المدينة بخلافه. وهذا مبني على أن تركهم العمل بالحديث حجة ودليل على نسخه وليس كذلك كما عرف في الأصول. واستدل
(14/60)
القائلون بجواز الصيام عن
الميت في النذر دون غيره، بأن حديث عائشة مطلق وحديث ابن عباس مقيد بالنذر كما
تقدم، فيحمل عليه ويكون المراد بالصيام صيام النذر. وفيه أنه ليس بين الحديثين
تعارض حتى يجمع بينهما، فحديث ابن عباس صورة مستقلة سأل عنها من وقعت له. وأما
حديث عائشة فهو تقرير قاعدة عامة، وقد وقعت الإشارة في حديث ابن عباس إلى نحو هذا
العموم حيث قيل في آخره فدين الله أحق أن يقضى قاله الحافظ: قال الشوكاني: وإنما
قال إن حديث ابن عباس صورة مستقلة يعني أنه من التنصيص على بعض أفراد العام فلا
يصلح لتخصيصه ولا لتقييده كما تقرر في الأصول. واختلف في المراد بقوله
"وليه" فقيل كل قريب سواء كان وارثا أو عصبة أو غيرهما. وقيل: الوارث
خاصة. وقيل: عصبة قال الحافظ: والأول أرجح والثاني قريب ويرد الثالث قصة المرأة
التي سألت عن نذر أمها. وقال الكرماني والنووي: الصحيح الأول واختلفوا أيضا هل
يختص ذلك بالولي لأن الأصل عدم النيابة في العبادة البدنية ولأنها عبادة لا تدخلها
النيابة في الحياة، فكذلك في الموت إلا ما ورد فيه الدليل، فيقتصر على ما ورد فيه
ويبقى الباقي على الأصل.
?الفصل الثاني?
2054- (5) عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من مات وعليه
صيام شهر رمضان فليطعم عنه مكان كل يوم مسكن)) رواه الترمذي، وقال: الصحيح أنه
موقوف على ابن عمر.
(14/61)
قال الحافظ: وهذا هو الراجح. وقيل: لا يختص بالولي، فلو أمر أجنبيا بأن يصوم عنه أجزأ كما في الحج. وقيل: يصح استقلال الأجنبي بذلك وذكر الولي لكونه الغالب وظاهر صنيع البخاري اختيار هذا الأخير، وبه جزم أبوالطيب الطبري وقواه بتشبيهه صلى الله عليه وسلم ذلك بالدين، والدين لا يختص بالقريب-انتهى. وقال الشوكاني: وظاهر الأحاديث أنه يصوم عنه وليه وإن لم يوص بذلك وإن من صدق عليه إسم الولي لغة أو شرعا أو عرفا صام عنه ولا يصوم عنه من ليس بولي، ومجرد التمثيل بالدين لا يدل على أن حكم الصوم كحكمه في جميع الأمور-انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي في السنن الكبرى والدارقطني (ص245) والبيهقي (ج4:ص255) والطحاوي في مشكل الآثار (ج2:ص139-140).
(14/62)
2054- قوله: (فليطعم عنه) على بناء المفعول (مكان كل يوم) من أيام الصيام الفائتة (مسكن) كذا وقع في الرفع في جميع النسخ من المشكاة الموجودة عندنا، وكذا وقع في المصابيح، وفي التلخيص (ص196) ونصب الراية (ج2:ص464) والدراية (ص177) والمنتقى، وهكذا وقع في رواية ابن ماجه والبيهقي، ووقع في جامع الترمذي مسكينا بالنصب، وهكذا نقله الجوزي في جامع الأصول (ج7:ص282) وابن قدامة في المغني (ج3:ص143) وعلى هذا يكون قوله فليطعم على بناء الفاعل أي فليطعم ولي من مات، وبهذا الحديث تمسك الحنفية والمالكية لكن بقيد إن أوصى، وبدون الوصية لا يلزم خلافا للشافعي، فإنه يطعم عنده أوصى به أو لم يوص. قال القاري: لا بد من الإيصاء عندنا في لزوم الإطعام على الوارث خلافا للشافعي، وإن أوصى فإنما يلزم الوارث إخراجه، إذا كان يخرج من الثلث، فإن زاد على الثلث لا يجب على الوارث، فإن أخرج كان متطوعا عن الميت، ويحكم بجواز أجزاءه كذا قاله ابن الهمام. ولم يبين في هذه الرواية مقدار الطعام، وقد جاء عند البيهقي (ج4:ص254) من رواية شريك عن محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر مرفوعا أنه نصف صاع من بر، وبه أخذ الحنفية قالوا: أو صاع من غير البر أو قيمة أحداهما، لكن قال البيهقي هذه الرواية خطأ. وإنما قال ابن عمر مدا من حنطة، وروى من وجه آخر عن ابن أبي ليلى ليس فيه ذكر الصاع-انتهى. قلت: وبقول ابن عمر مدا من حنطة أخذ مالك والشافعي وأحمد، وحديث ابن عمر الذي نحن في شرحه ضعيف،
(14/63)
والمحفوظ أنه موقوف على ابن عمر كما ستعرف، فلا يصح الإستدل به ولو صح، لا يقاوم حديث عائشة المتفق عليه (رواه الترمذي) من طريق عبثر عن أشعث عن محمد عن نافع عن ابن عمر وأخرجه ابن ماجه والبيهقي أيضا من هذا الطريق، لكن وقع عند ابن ماجه عن محمد بن سيرين منسوبا وهو وهم كما سيأتي (وقال والصحيح أنه موقوف على ابن عمر) أي من قوله. وقال الترمذي أيضا: لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، قال وأشعث هو ابن سوار ومحمد هو محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى-انتهى. قال الحافظ في التلخيص (ص197) رواه ابن ماجه من هذا الوجه (أي من طريق عبثر عن أشعث عن محمد) ووقع عنده عن محمد بن سيرين بدل محمد بن عبدالرحمن وهو وهم منه أو من شيخه. وقال الدارقطني: المحفوظ وقفه على ابن عمر وتابعه البيهقي على ذلك-انتهى. وقال ابن الملقن هذا الحديث رواه الترمذي وابن ماجه بإسناد ضعيف، والمحفوظ وقفه على ابن عمر قاله الترمذي والدارقطني والبيهقي كذا في المرقاة. وقال الزيلعي (ج2:ص464) وضعفه عبدالحق في أحكامه بأشعث وابن أبي ليلى. وقال الدارقطني: في علله المحفوظ موقوف، هكذا رواه عبدالوهاب بن بخت عن نافع عن ابن عمر-انتهى. وقال البيهقي في المعرفة: لا يصح هذا الحديث فإن محمد بن أبي ليلى كثير الوهم، ورواه أصحاب نافع عن نافع عن ابن عمر قوله، ثم أخرجه عن عبدالله بن الأخنس عن نافع عن ابن عمر قال: من مات وعليه صيام رمضان فليطعم عنه كل يوم مسكينا مدا من حنطة، وأخرجه البيهقي في سننه (ج4:ص254) من طريق شريك عن محمد ابن عبدالرحمن بن أبي ليلى به مرفوعا. قال: في الذي يموت وعليه رمضان ولم يقضه قال يطعم عنه لكل يوم نصف صاع من بر. قال البيهقي: هذا خطأ من وجهين، أحدهما رفعه. وإنما هو موقوف من قول ابن عمر. والثاني، قوله فيه نصف صاع. وإنما قال ابن عمر مدا من حنطة-انتهى. فإن قلت قال ابن التركماني (ج4:ص254) قد أخرج ابن ماجه هذا الحديث في سننه صحيح
(14/64)
عن أشعث عن محمد بن سيرين عن
نافع عن ابن عمر مرفوعا، فإن صح هذا فقد تابع أن سيرين ابن أبي ليلى على رفعه
فالقائل أن يمنع الوقف. وقال العيني (ج11:ص60) قد تابع ابن سيرين ابن أبي ليلى على
رفعه فالقائل أن يمنع الوقف. قلت: قد تقدم عن الحافظ إن ما وقع في سند ابن ماجه من
قوله عن محمد بن سيرين وهم، منه أو من شيخه. وقال المزي في الأطراف: قوله (أي في
سند ابن ماجه) عن محمد بن سيرين وهم، فإن الترمذي رواه ولم ينسبه، ثم قال الترمذي
وهو عندي محمد بن عبدالرحمن ابن أبي ليلى نقله السندي عن البوصير. وقال العيني
(ج11:ص59) قال الحافظ المزي وهو (أي قوله عن محمد بن سيرين) وهم، وقال ابن عدي في
الكامل: ومحمد هذا هو محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى-انتهى. فقد ثبت بهذا كله إن
محمدا هذا هو محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى لا محمد بن سيرين وأنه قد تفرد بحديث
الإطعام المرفوع ولم يتابعه أحد عليه وهو وإن كان فقيها عالما لكنه سيء الحفظ فاحش
الخطأ كثير الوهم فلا يحتج بما تفرد به.
?الفصل الثالث?
2055- (6) عن مالك، بلغه، أن ابن عمر كان يسئل: ((هل يصوم أحد عن أحد، أو يصلي أحد
عن أحد؟ فيقول: لا يصوم أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد)) رواه في
"الموطأ".
(14/65)
2055- قوله: (عن مالك بلغه) وفي الموطأ أنه بلغه (كان يسئل) بصيغة المجهول (لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد) في شرح السنة هذا مذهب الشافعي (في الجديد) وأصحاب أبي حنيفة، وذهب قوم إلى أنه يصوم عنه وليه. وقال الحسن: إن صام عنه ثلاثون رجلا كل واحد يوما جاز، واتفق أهل العلم على أنه لا كفارة للصلاة وهو قول الشافعي. وقال أصحاب أبي حنيفة: أنه يطعم عنه، وقال قوم يصلي عنه-انتهى. قلت: واحتج بقول ابن عمر هذا من ذهب إلى منع الصوم والصلاة عن الميت، وقد تقدم أن البخاري ذكر في باب من مات وعليه نذر عن ابن عمر تعليقا الأمر بالصلاة، فاختلف قوله والحديث الصحيح أولى بالإتباع (رواه) أي مالك (في الموطأ) قد تقدم بيان ما يرد على المصنف في هذه العبارة، وبلاغ مالك هذا وصله عبدالرزاق في مصنفه في كتاب الوصايا من طريق عبدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر. قال لا يصلين أحد عن أحد ولا يصومون أحد عن أحد، ولكن إن كنت فاعلا تصدقت عنه أو أهديت، ورواه أبوبكر بن الجهم في كتابه من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن نافع والبيهقي (ج2:ص254) من طريق يحيى بن سعيد عن نافع تنبيه هذا الاختلاف والتفصيل الذي سبق في الصوم عن الميت إذا فاته شيء بعد إمكان قضاءه. وأما من فاته شيء من رمضان قبل إمكان القضاء فلا تدارك ولا إثم. وأجمع العلماء على ذلك إلا طاوسا وقتادة فإنهما يوجبان التدارك بالصوم أو الكفارة، ولو مات قبل إمكان القضاء ذكره القاري: وقال الخطابي (ج2:ص122-123) اتفق عامة أهل العلم على أنه إذا أفطر في المرض أو السفر ثم لم يفرط في القضاء حتى مات، فإنه لا شيء عليه ولا يجب الإطعام عنه غير قتادة فإنه قال يطعم عنه. وقد حكى ذلك عن طاوس أيضا-انتهى. وقال ابن قدامة (ج3:ص142) من مات وعليه صيام من رمضان لكن قبل إمكان الصيام إما لضيق الوقت أو لعذر من مرض أو سفر أو عجز عن الصوم، فهذا لا شيء عليه في قول أكثر أهل العلم. وحكى عن طاوس
(14/66)
وقتادة إنهما قالا: يجب
الإطعام عنه، لأنه صوم واجب سقط بالعجز عنه فوجب الإطعام عنه، كالشيخ إلهم إذا ترك
الصيام لعجزه عنه. ولنا أنه حق الله تعالى وجب بالشرع، مات من يجب عليه قبل إمكان
فعله فسقط إلى غير بدل كالحج، ويفارق الشيخ إلهم فإنه يجوز ابتداء، الوجوب عليه
بخلاف الميت-انتهى.
(6) باب صيام التطوع
?الفصل الأول?
2056- (1) عن عائشة، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يصوم حتى نقول: لا
يفطر ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام
شهر قط، إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان.
(باب صيام التطوع)
(14/67)
2056- قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم) أي النفل متتابعا (حتى نقول لا يفطر) أي ينتهي صومه إلى غاية نقول أنه لا يفطر في هذا الشهر (ويفطر) أي يستمر على الإفطار (حتى نقول لا يصوم) أي ينتهي إفطاره إلى غاية نقول أنه لا يصوم من هذا الشهر، وذلك لأن الأعمال التي يتطوع بها ليست منوطة بأوقات معلومة. وإنما هي على قدر الإرادة لها والنشاط فيها قاله العيني. وقال الباجي: وإنما كان كذلك. والله أعلم. لأن هذا أفضل الصوم وأشده لمن استطاع عليه. وقال الغزالي في الأحياء: الفقيه بدقائق الباطن ينظر إلى أحواله فقد يقتضى حاله دوام الصوم، وقد يقتضى دوام الفطر، وقد يقتضى مزج الإفطار بالصوم وإذا فهم المعنى وتحقق حده في سلوك طريق الآخرة بمراقبة القلب لم يخف عليه صلاح قلبه. وذلك لا يوجب ترتيبا مستمرا ولذلك روي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم حتى يقال لا يفطر، ويفطر حتى يقال لا يصوم وكان ذلك بحسب ما ينكشف له بنور النبوة من القيام بحقوق الأوقات-انتهى. قال الأمير اليماني: في الحديث دليل على أن صومه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن مختصا بشهر دون شهر، وإنه كان صلى الله عليه وسلم يسرد الصيام أحيانا ويسرد الفطر أحيانا، ولعله كان يفعل ما يقتضيه الحال من تجرده عن الأشغال فيتابع الصوم ومن عكس ذلك فيتابع الإفطار-انتهى. ولا يعارض هذا ما روى عن عائشة عند البخاري وغيره كان عمله ديمة، لأن المراد بذلك ما اتخذه راتبا لا مطلق النفل والله تعالى أعلم (وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام شهر قط إلا رمضان) إنما لم يستكمل شهرا غير رمضان لئلا يظن وجوبه (وما رأيته) صلى الله عليه وسلم (في شهر أكثر) بالنصب ثاني مفعول رأيت والضمير "في" (منه) له عليه الصلاة والسلام (صياما) تمييز (في شعبان) سمي بذلك لتشعبهم في طلب المياه أو في الغارات بعد أن يخرج شهر رجب الحرام، وهذا أولى من الذي قبله. وقيل: فيه غير ذلك
(14/68)
والجار متعلق بصياما، والمعنى
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم في شعبان وفي غيره من الشهور سوى رمضان،
وكان صيامه في شعبان أكثر من صيامه فيما سواه كذا ذكره الطيبي.
وقيل: قوله في شهر يعني به غير شعبان وهو حال من المستكن في أكثر، وفي شعبان حال
من المجرور في منه، العائدة إلى الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي ما رأيته
كائنا في غير شعبان أكثر صياما منه كائنا في شعبان مثل زيد قائما أحسن منه قاعدا.
أو كلاهما ظرف أكثر الأول باعتبار الزيادة والثاني باعتبار أصل المعنى، ولا تعلق
له برؤيته وإلا يلزم تفضيل الشيء على نفسه باعتبار حالة واحدة كذا في المرقاة.
وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يخص شعبان بالصوم أكثر من غيره. واختلف
في وجه تخصيص شعبان بكثرة الصوم. فقيل كان يشتغل عن صوم الثلاثة أيام من كل شهر
لسفر أو غيره فتجتمع فيقضيها في شعبان يدل على هذا ما رواه الطبراني عن عائشة، كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فربما أخر ذلك حتى يجتمع
عليه صوم السنة فيصوم شعبان، وفيه ابن أبي ليلى وهو ضعيف. وقيل كان يصنع ذلك
لتعظيم رمضان كما أخرجه للترمذي من حديث أنس قال سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -
أي الصوم أفضل بعد رمضان، قال شعبان لتعظيم رمضان، وفيه صدقة بن موسى. قال الترمذي:
هو عندهم ليس بذاك التقوى. قال الحافظ: ويعارضه حديث أبي هريرة أفضل الصوم بعد
رمضان صوم المحرم. وقيل وجه تخصيص شعبان بكثرة الصوم إن نساءه كن يقضين ما عليهن
من رمضان في شعبان وهذا عكس ما تقدم في الحكمة في كونهن يؤخرن قضاء رمضان إلى
شعبان، لأنه ورد فيه إن ذلك لكونهن يشتغلن معه - صلى الله عليه وسلم - عن الصوم.
وقيل الحكمة في ذلك أنه يعقبه رمضان وصومه مفترض وكان يكثر من الصوم في شعبان قدر
ما يصوم في شهرين غيره لما يفوته من التطوع بذلك في أيام رمضان. قال الحافظ:
والأولى في ذلك ما جاء في
(14/69)
حديث أصح مما مضى، أخرجه النسائي وصححه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد قال قلت: يا رسول الله ! لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان، قال ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم. ونحوه من حديث عائشة عند أبي يعلى لكن قال فيه إن الله يكتب كل نفس ميتة تلك السنة، فأحب أن يأتيني أجلي وأنا صائم- انتهى. قيل: ويحتمل أنه كان يكثر من صومه لهذه الحكم كلها. قلت: والمراد برفع الأعمال في حديث أسامة الرفع الخاص لا الرفع العام الذي يكون صباحا و مساء، أو المراد الرفع الإجمالي لا التفصيلي. قال في المواهب وشرحه: (بين صلى الله عليه وسلم وجه صيامه لشعبان دون غيره من الشهور بقوله إنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، يشير إلى أنه لما اكتتفه) أحاط به (شهران عظيمان الشهر الحرام) رجب (وشهر الصيام إشتغل الناس بهما فصار مغفولا عنه) مع رفع الأعمال فيه إلى الله (وكثير من الناس يظن أن صيام أفضل من صيامه) أي شعبان (لأنه) أي رجب (شهر حرام وليس كذلك)
(14/70)
فقد روى ابن وهب بسنده عن عائشة قالت ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - ناس يصومون شهر رجب فقال فأين هم من شعبان (وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد منها إن تكون) أي الطاعة (أخفى وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل لا سيما الصيام فإنه سر بين العبد وربه، ومنها إنه أشق على النفوس لأن النفوس تناسي بما تشاهد من أحوال بني الجنس فإذا كثرت يقظة الناس وطاعتهم سهلت الطاعات، وإذ أكثرت، الغفلات وأهلها نأسي بهم عموم الناس فيشق على النفوس المستيقظين طاعاتهم لقلة من يقتدي بهم) وأفضل العمل أشقة، ومنها أن المنفرد بالطاعة بين الغافلين قد يرفع به البلاء عن الناس. وقد روى في صيامه صلى الله عليه وسلم شعبان معنى آخر وهو أنه ننسخ فيه الآجال) أي تنقل وتفرد أسماء من يموت في تلك الليلة إلى مثلها من العام القابل عن أسماء من لم يمت من أم الكتاب فيكتب في صحيفة، ويسلم إلى ملك الموت (فروى) عند أبي يعلى والخطيب وغيرهما (بإسناد فيه ضعف عن عائشة قالت كان أكثر صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - في شعبان فقلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! أرى أكثر صيامك في شعبان) وفي رواية أرى أحب الشهر إليك أن تصومه شعبان. (قال أن هذا الشهر يكتب فيه لملك الموت أسماء من يقبض فأحب أن لا ينسخ إسمي إلا وأنا صائم (وفي رواية أبي يعلى إن الله يكتب كل نفس ميتة تلك السنة فأحب أن يأتيني أجلي وأنا صائم أي يأتيني كتابة أجلي، وفيه إن كتابته في زمن عبادة يرجى لصاحبها الموت على الخير وإن من أولى تلك العبادة الصوم، لأنه يروض النفوس وينور الباطن ويفرغ القلب للحضور مع الله (وقد روى مرسلا) عن التابعي بدون ذكر عائشة (وقيل إنه أصح) من وصله بذكرها (وقد قيل في صوم شعبان معنى آخر وهو إن صيامه كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صيامه على مشقة وكلفة بل يكون قد تمرن الصيام وأعتاده، ووجد بصيام شعبان قبل رمضان حلاوة الصوم ولذته، فيدخل في رمضان
(14/71)
بقوة ونشاط-انتهى. وأجاب النووي عن كونه لم يكثر من الصوم في المحرم مع قوله إن أفضل الصيام ما يقع فيه بأنه يحتمل أن يكون ما علم ذلك إلا في آخر عمره فلم يتمكن من كثرة الصوم في المحرم، أو اتفق له فيه من الاعذار بالسفر والمرض، مثلا ما منعه من كثرة الصوم فيه. وأما حديث أنس المتقدم عند الترمذي فهو ضعيف كما سبق، فلا يقاوم حديث أفضيلة المحرم المخرج في صحيح مسلم. وقال ابن رجب في اللطائف بعد ذكر فضل صوم شعبان ما ملخصه: أفضل التطوع ما كان قريبا من رمضان قبله وبعد، وذلك يلتحق بصيام رمضان لقربه منه، وتكون منزلته من صوم رمضان بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها، فليتحق بالفرائض في الفضل، وهي تكملة للفرائض. وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده فكما إن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة، فكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بعد منه، ويكون قوله: "أفضل الصيام بعد رمضان المحرم" محمولا على التطوع المطلق بالصيام-انتهى. فتأمل. وسيأتي شيء من الكلام في ذلك في شرح الحديث الرابع من هذا الباب هذا، وزاد في رواية يحيى بن كثير في حديث الباب عند البخاري فإنه يصوم شعبان كله.
(14/72)
واستشكل هذا مع قوله في رواية الباب ما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان. وأجيب بأن رواية الباب مفسرة لرواية يحيى بن أبي كثير، ومبينة بأن المراد بكله غالبه أي يصوم شعبان بحيث يصح أن يقال فيه أنه يصوم كله لغاية قلة المتروك، بحيث يمكن أن لا يعتد به من غاية قلته. وقيل كان يصوم شعبان كله تارة أي في سنة ويصوم معظمه أخرى أي في سنة أخرى لئلا يتوهم أنه واجب كله كرمضان. وقيل المراد بقولها كله أنه كان يصوم من أوله تارة ومن آخره أخرى ومن أثناءه طورا، فلا يخلى شيئا منه من صيام، لكن في أكثر من سنة. قال السندي: معنى كله أنه لا يخص أوله بالصيام أو وسطه أو آخره بل يعم أطرافه، وإن كان بلا اتصال الصيام بعضه ببعض وتعقبه في المصابيح بأن الثلاثة كلها ضعيفة، فأما الأول فلأن إطلاق الكل على الأكثر مع الإتيان به توكيد غير معهود انتهى. وقد نقل الترمذي عن ابن المبارك أنه قال جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقال صام الشهر كله، ويقال قام فلان ليلته أجمع ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره. قال الترمذي: كأن ابن المبارك جمع بين الحديثين بذلك، وحاصله إن رواية الباب مفسرة لرواية يحيى بن أبي كثير ومبينة لها، وإن المراد بالكل الأكثر وهو مجاز قليل الاستعمال. واستبعده أيضا فقال كل تأكيد لإرادة الشمول ورفع التجوز من احتمال البعض فتفسيره بالبعض مناف له-انتهى. قال الزرقاني في شرح المواهب: لكن الاستبعاد لا يمنع الوقوع، لأن الحديث يفسر بعضه بعضا لا سيما والمخرج متحد وهو عائشة وهي من الفصحاء. وقد نقله ابن المبارك عن العرب ومن حفظ حجة. قال في المصابيح: وأما الثاني فلأن قولها كان يصوم شعبان كله يقتضى تكرار الفعل وإن ذلك عادة له على ما هو المعروف في مثل هذه العبارة-انتهى. واختلف في دلالة كان على التكرار، وصحح ابن الحاجب أنها تقتضيه قال، وهذا استفدناه من قولهم كان حاتم يقري الضعيف، وصحح الإمام فخر الدين في
(14/73)
المحصول أنها لا تقتضيه لا لغة
ولا عرفا. وقال النووي في شرح مسلم أنه المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون من
الأصوليين. وذكر ابن دقيق العيد أنها تقتضيه عرفا-انتهى. قال في المصابيح: وأما
الثالث فلأن أسماء الشهور إذا ذكرت غير مضاف إليها لفظ "شهر" كان العمل
عاما لجميعها لا تقول سرت المحرم وقد سرت بعضا منه، ولا تقول صمت رمضان، وإنما صمت
بعضه فإن أضفت الشهر إليه لم يلزم التعميم، هذا مذهب سيبويه وتبعه عليه غير واحد.
قال الصفار: ولم يخالف في ذلك إلا الزجاج. ويمكن أن يقال إن قولها وما رأيته في
شهر أكثر منه صياما في شعبان، لا ينفي صيامه لجميعه، فإن المراد أكثرية صيامه فيه
على صيامه في غيره من الشهور التي لم يفرض فيها الصوم، وذلك صادق بصومه كله، لأنه
إذا صامه جميعه صدق أن الصوم الذي أوقعه فيه أكثر من الصوم الذي أوقعه في غيره
ضرورة إنه لم يصم غيره مما عدا رمضان كاملا.
وفي رواية، قالت: (كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلا) متفق عليه.
(14/74)
وأما قولها لم يستكمل صيام شهر إلا رمضان فيحمل على الحذف أي إلا رمضان وشعبان. بدليل قولها في الطريق الأخرى، فإنه يصوم شعبان كله، وحذف المعطوف والعاطف جميعا ليس بعزيز في كلامهم، ففي التنزيل لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح وقاتل أي ومن انفق بعده. ويمكن الجمع بطريق أخرى وهي أن يكون قولها وكان يصوم شعبان كله محمولا على حذف أداة الاستثناء والمستثنى، أي إلا قليلا منه، ويدل عليه حديث عبدالرزاق بلفظ. ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياما منه في شعبان. فإنه كان يصومه إلا قليلا: وقيل في الجمع إن قولها الثاني متأخر عن قولها الأول فأخبرت عن أول أمره أنه كان يصوم أكثر شعبان، وأخبرت ثانيا عن آخر أمره أنه كان يصومه كله. وقيل بالعكس ولا يخفي ما في ذلك. وقال الباجي: يحتمل أن تريد بقولها ما استكمل صيام شهر قط غير رمضان أنه استكمله على وجه التعيين والتخصيص له، وما روى أنه كان يصوم شعبان كله لم يكن على وجه التعيين له، وقد روى عن عبدالله بن شقيق قلت لعائشة هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهرا معلوما سوى رمضان قالت لا، والله، إن صام شهرا معلوما سوى رمضان حتى مضى لوجهه الحديث. فقولها شهرا معلوما يقتضى أن يكون معلوما بصومه وهذا لا يمنع أن يكون صامه على غير هذا الوجه-انتهى. قال الحافظ: والأول (من وجوه الجمع الثلاثة الأول) هو الصواب، ويؤيده رواية عبدالله ابن شقيق عن عائشة عند مسلم، وسعد بن هشام عنها عند النسائي ولفظه، ولا صام شهرا كاملا قط منذ قدم المدينة غير رمضان، وهو مثل حديث عبدالله عند البخاري، قال ما صام النبي- صلى الله عليه وسلم - شهرا كاملا قط غير رمضان-انتهى.واختاره النووي كما سيأتي وابن القيم كما في الهدي. ومال الطيبي إلى الوجه الثاني وقال القاري: وهو أقرب لظاهر اللفظ. وقال العيني بعد الكلام: في الوجه الأول من وجوه الجمع، والأحسن أن يقال فيه أنه باعتبار عامين
(14/75)
فأكثر فكان يصومه كله في بعض
السنين وكان يصوم أكثره في بعض السنين-انتهى. قال الحافظ: ولا تعارض بين هذا وبين
ما تقدم من الأحاديث في النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، وكذا ما جاء من
النهي عن صوم نصف شعبان الثاني. فإن الجمع بينهما ظاهر بأن يحمل النهي على من لم
يدخل تلك الأيام في صيام اعتاده. وقد تقدم إن أحاديث النهي عن التقدم مقيدة بقوله
- صلى الله عليه وسلم - إلا أن يكون رجل يصوم يوما، وفي الحديث دليل على فضل الصوم
في شعبان. (وفي رواية) أي لمسلم فإنه قد تفرد بها، وأخرجها أيضا النسائي وابن ماجه
والبيهقي (كان يصوم شعبان كله) أي غالبه ولذلك ذكرت قولها كان يصوم شعبان إلا
قليلا تفسيرا له (كان) كذا في أكثر النسخ، وهكذا وقع في صحيح مسلم وسنن ابن ماجه
والبيهقي والمحلى (ج7ص14) لابن حزم وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7ص207) قال
القاري: وفي نسخة وكان-انتهى.
2057-(2) وعن عبدالله بن شقيق، قال: قلت لعائشة: ((أكان النبي صلى الله عليه وسلم
يصوم شهرا كله، قالت: ما علمته صام شهرا كله إلا رمضان، ولا أفطره كله حتى يصوم
منه، حتى مضى لسبيله)) رواه مسلم.
2058-(3) وعن عمران بن حصين، (عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه سأله، أو سأل رجلا
والظاهر أنه خطأ من الناسخ (يصوم شعبان إلا قليلا) قال النووي: الثاني تفسير للأول
وبيان إن قولها كله أي غالبه-انتهى. وقال الحافظ: هذا يبين أن المراد بقوله في
حديث أم سلمة عند أبي داود وغيره أنه كان لا يصوم من السنة شهرا تاما إلا شعبان
يصله برمضان أي كان يصوم معظمه-انتهى. وقيل: كان يصوم كله أي في أول الأمر. وقولها
كان يصوم شعبان إلا قليلا" اخبار عن آخر الأمر. وقيل: المراد أنه كان يصومه
كله في سنة وأكثره في سنة أخرى (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أحمد ومالك
وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي وابن حزم (ج7ص14) وأخرجه الترمذي مختصرا.
(14/76)
2057- قوله: (ما علمته صام
شهرا كله إلا رمضان) وفي رواية ما رأيته صام شهرا كاملا منذ قدم المدينة إلا أن
يكون رمضان، وهذا يؤيد قول من تأول قول عائشة كان يصوم شعبان كله بأن المراد معظمه
وغالبه (ولا أفطره) أي شهرا (كله) تأكيد له (حتى يصوم منه) أي بعضه (حتى مضى
لسبيله) وفي رواية حتى مضى لوجهه، وهو كناية عن الموت حتى مات. قال القاري: واللام
في "لسبيله" مثلها في قولك لقيته لثلاث بقين من الشهر، تريد مستقبلا
الثلاث، أي كان حاله ما ذكر إلى أن مات. قال الطيبي: حتى الأولى بمعنى كي كقولك
سرت حتى أدخل البلد بالنصب إذا كان دخولك مترقبا لما يوجد كأنك قلت: سرت كي
أدخلها، وكان منقضيا إلا أنه في حكم المستقبل من حيث أنه في وقت وجود السير
المفعول من أجله كان مترقبا وتحريره، إن حتى "الأولى" غاية عدم الصوم
باستمرار الإفطار، استعقب للصوم، والثانية غاية لعدم علمه بالحالتين من الصيام
والإفطار والاستمرار هو مستفاد من النفي الداخل على الماضي. والحديث وارد على هذا
لأنه عليه الصلاة والسلام حين عزم أن لا يصوم الشهر كله كان مترقبا أن يصوم بعضه،
"وحتى الثانية" غاية لما تقدمه من الجمل كلها-انتهى. وفي الحديث أنه
يستحب أن لا يخلى شهرا من صيام (رواه مسلم) وأخرجه النسائي والترمذي.
2058- قوله: (أنه) أي النبي صلى الله عليه وسلم (سأله) أي عمران (أو سأل رجلا) قال
الحافظ: هذا شك من مطرف، أي راوي الحديث عن عمران، فإن ثابتا رواه عنه بنحوه على
الشك أيضا، أخرجه مسلم،
وعمران يسمع، فقال: يا أبا فلان! أما صمت من سرر شعبان. قال: لا قال: فإذا أفطرت
فصم يومين) متفق عليه.
(14/77)
وأخرجه من وجهين آخرين عن مطرف بدون شك على الإبهام أنه قال لرجل، زاد أبوعوانة في مستخرجه من أصحابه، ورواه أحمد من طريق سليمان التيمي به قال لعمران بغير شك-انتهى. (وعمران يسمع) جملة حالية (فقال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (يا أبا فلان) قال الحافظ: كذا في نسخة من رواية أبي ذر للبخاري بأداة الكنية وللأكثر يا فلان بإسقاطها (أما) الهمزة للاستفهام "وما" نافية (صمت من سرر شعبان) بفتح السين المهملة ويجوز كسرها وضمها والراء مفتوحة في الجميع، جمع سرة بضم السين وتشديد الراء، قال النووي: ضبطوا السرر بفتح السين وكسرها، وحكى القاضي ضمها، قال: وهو جمع سرة، ويقال أيضا سرار و سرار بفتح السين وكسرها، ذكره ابن السكيت وغيره. قال الفراء: والفتح أفصح وكله من الاستسرار. واختلف في تفسيره، والمشهور أن المراد به هنا آخر الشهر وهو قول الجمهور من أهل اللغة والغريب. فالحديث وسمي بذلك لاستسرار القمر يعني استتاره فيه وهي ليلة ثمان وعشرين وتسع وعشرين وثلاثين، وهذا موافق لما ترجم له البخاري بقوله باب الصوم آخر الشهر واستشكل بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة السابق لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين وأجيب بأن الرجل كان معتادا لصيام سرر الشهر أو كان قد نذره فلذلك أمره بقضاءه. قال المجد ابن تيمية في المنتقى: يحمل حديث السرر على أن الرجل كانت له عادة بصيام الشهر أو قد نذره. وقال الزين المنير: يحتمل أن يكون الرجل كانت له عادة بصيام آخر الشهر فلما سمع نهيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتقدم أحد رمضان بصوم يوم أو يومين ولم يبلغه الاستثناء بقوله. إلا أن يكون شيء يصومه أحدكم فليصم ترك صيام ما كان اعتاده من ذلك، فأمره بقضاءها لتستمر محافظته على ما وظف على نفسه من العبادة، لأن أحب العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه قال: وأطلق البخاري في ترجمته الشهر وإن كان المذكور في الحديث شهرا مقيدا وهو شهر شعبان إشارة منه إلى
(14/78)
أن ذلك لا يختص بشعبان بل يؤخذ من الحديث الندب إلى صيام أواخر كل شهر ليكون عادة للمكلف، فلا يعارضه النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين لقوله فيه إلا رجل كان يصومه فليصمه-انتهى. وقال الخطابي في المعالم (ج2ص96) هذان الحديثان متعارضان في الظاهر، ووجه الجمع أن يكون حديث السرر إنما هو شيء كان الرجل قد أوجبه على نفسه بنذره فأمره بالوفاء أو كان ذلك عادة قد اعتادها في صيام أواخر الشهور فتركه لاستقبال الشهر فاستحب له - صلى الله عليه وسلم - أن يقضيه. وأما المنهي عنه في حديث ابن عباس وأبي هريرة فهو أن يبتدئ المرء متبرعا به من غير إيجاب نذر ولا عادة قد كان تعودها فيما مضى-انتهى. وكذا قال المازري والقرطبي وغيرهما.
(14/79)
وقالت طائفة سرر الشهر أوله،
وبه قال الأوزاعي وسعيد بن عبدالعزيز فيما حكاه أبوداود وتعقب بأنه لا يصح أن يفسر
سرر الشهر وسراره بأوله، لأن أول الشهر يشتهر فيه الهلال، ويرى من أول الليل،
ولذلك سمي الشهر شهرا لاشتهاره وظهوره عند دخوله فتسمية ليالي الاشتهار ليالي
السرار قلب اللغة والعرف وقد أنكر العلماء ما رواه أبوداود عن الأوزاعي، منهم
الخطابي حيث قال أنا أنكر هذا التفسير وأراه غلطا في النقل ولا أعرف له وجها في
اللغة. ثم حكى عن الأوزاعي بسنده مثل قول الجمهور ثم قال وهذا هو الصواب. وقال
البيهقي (ج4ص211) وروى غير أبي داود عن الأوزاعي أنه قال سره آخره وهو الصحيح.
وقيل: سرر الشهر وسطه ورجحه بعضهم ووجهه بأن السرر جمع سرة، وسرة الشيء وسطه،
وسرار كل شيء وسطه وأفضله، وسرارة الوادي وسطه وخياره. وقال ابن السكيت: سرار
الأرض أكرمها ووسطها، ويؤيده ما ورد من استحباب صوم أيام البيض وأنه لم يرد في
صيام آخر الشهر ندب. بل ورد فيه نهي خاص وهو آخر شعبان لمن صامه لأجل رمضان. ورجحه
النووي بأن مسلما أفرد الرواية التي فيها سرة هذا الشهر عن بقية الروايات وأردف
بها الروايات التي فيها الحض على صيام البيض وهي وسط الشهر. قال الحافظ: لكن لم أر
في جميع طرق الحديث باللفظ الذي ذكره وهو سرة بل هو عند أحمد من وجهين بلفظ: سرار،
وأخرجه من طرق عن سليمان التيمي في بعضها سرر وفي بعضها سرار، وهذا يدل على أن
المراد آخر الشهر-انتهى، وتقدم وجه الجمع بين هذا وبين النهي عن صوم آخر شعبان أي
عن تقدم رمضان بيوم أو يومين. وروى أبوداود من طريقه البيهقي عن معاوية مرفوعا
صوموا الشهر وسره. قال في النهاية: أراد صوموا أول الشهر وآخره يعني أول كل شهر
وآخره والمقصود بيان الإباحة. قال الخطابي: والعرب تسمى الهلال الشهر تقول رأيت
الشهر أي الهلال. قال الشاعر:
والشهر مثل قلامة الظفر
(14/80)
أي الهلال. وقيل: المراد
بالشهر شعبان أي صوموا شعبان ثم أكد بقوله وسره بأن آخر شعبان أولى بالصيام وقيل:
المراد بالشهر رمضان وبسره آخر شعبان، وإضافته إلى رمضان للاتصال والخطاب لمن تعود
(قال لا) أي قال الرجل ما صمته (قال) أي النبي- صلى الله عليه وسلم -(فإذا أفطرت)
أي من رمضان كما في أحمد ومسلم أي فرغت من رمضان (فصم يومين) بعد العيد عوضا عن سرر
شعبان، ففي رواية لأحمد ومسلم فصم يومين مكانه، أي مكان سرر شعبان، وفيه مشروعية
قضاء التطوع، وقد يؤخذ منه قضاء الفرض بطريق الأولى خلافا لمن منع ذلك (متفق عليه)
واللفظ للبخاري وأخرجه أحمد (ج4ص428- 432- 434- 439- 442- 444- 446) وأبوداود
والدارمي والبيهقي (ج4ص210).
2059-(4) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصيام
بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)) رواه مسلم.
(14/81)
2059- قوله: (أفضل الصيام بعد رمضان) وفي رواية الترمذي بعد صيام شهر رمضان (شهر الله) أي صيام شهر الله، والإضافة إلى الله للتشريف والتعظيم. وقال العراقي في شرح الترمذي: لما كان المحرم من الأشهر الحرم التي حرم فيها القتال، وكان أول شهور السنة أضيف إليه إضافة تخصيص، ولم يصح إضافة شهر من الشهور إلى الله تعالى عن النبي- صلى الله عليه وسلم -إلا شهر الله المحرم-انتهى. (المحرم) بالرفع صفة المضاف. قال الطيبي: أراد بصيام شهر الله صيام يوم عاشوراء-انتهى. فيكون من باب ذكر الكل وإرادة البعض، لكن الظاهر أن المراد جميع شهر المحرم وتمامه. ويؤيده ما رواه الترمذي والدارمي عن النعمان بن سعد عن علي قال سأله رجل، فقال أي شهر تأمرني أن أصوم بعد شهر رمضان فقال له، ما سمعت أحدا يسأل عن هذا إلا رجلا سمعته يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا قاعد عنده فقال يا رسول الله ! أي شهر تأمرني أن أصوم بعد شهر رمضان قال إن كنت صائما بعد شهر رمضان فصم المحرم فإنه شهر الله-الحديث. قال السندي: في حاشية أبي داود وابن ماجه، بعد الإشارة إلى حديث علي هذا يفيد أن المراد تمام الشهر-انتهى. وحديث الباب صريح إن شهر المحرم أفضل الشهور للصوم، وقد سبق الجواب عن إكثار النبي - صلى الله عليه وسلم - من صوم شعبان دون المحرم بوجهين. أحدهما لعله إنما علم فضله في آخر حياته والثاني: لعله كان يعرض فيه إعذار من سفر أو مرض أو غيرهما تمنع من إكثار الصوم فيه. وقال بعض الشافعية والحنابلة: أفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شعبان لمحافظته - صلى الله عليه وسلم - على صومه أو صوم أكثره فحملوا قوله - صلى الله عليه وسلم - أفضل الصيام بعد رمضان المحرم على التطوع المطلق ولا يخفى ما فيه (وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل) قال النووي: فيه دليل لما اتفق العلماء عليه إن تطوع الليل أفضل من تطوع النهار، وفيه حجة لأبي إسحاق المروزي من أصحابنا
(14/82)
ومن وافقه على أن صلاة الليل
أفضل من سنن الرواتب. وقال أكثر العلماء: الرواتب أفضل لأنها تشبه الفرائض، والأول
أقوى وأوفق للحديث والله تعالى أعلم. قال الطيبي: ولعمري إن صلاة التهجد لو لم يكن
فيها فضل سوى قوله تعالى: ?ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما
محمودا? [الإسراء: 79] وقوله ?تتجافى جنوبهم عن المضاجع? إلى قوله ?فلا تعلم نفس
ما أخفي لهم من قرة أعين? [السجدة: 16، 17] وغيرهما من الآيات لكفاه مزية-انتهى.
وتأول الحديث من ذهب إلى أفضلية الرواتب بأنه إنما أريد به تفضيل قيام الليل على
التطوع المطلق دون السنن الرواتب التي قبل الفرض وبعده. قالوا: وقوله "بعد
الفريضة" أي وتوابعها من السنن المؤكدة. وقال بعضهم: المراد صلاة الليل أفضل
من الرواتب من حيثية المشقة والكلفة، والبعد من الرياء والسمعة مطلقا. والراجح
عندي: ما ذهب إليه أبوإسحاق المروزي لموافقته لنص حديث الباب (رواه مسلم) في
الصيام وأخرجه أحمد والترمذي في أواخر الصلاة وفي الصيام والنسائي في قيام الليل
وأبوداود وابن ماجه والدارمي والبيهقي (ج4ص291) في الصيام.
2060-(5) وعن ابن عباس، قال: ((ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم
فضله على غيره إلا هذا اليوم: يوم عاشوراء، وهذا الشهر، يعني شهر رمضان)) متفق
عليه.
(14/83)
2060- قوله: (يتحرى) من التحري أي يقصد قاله الحافظ. وقال العيني: التحري المبالغة في طلب الشيء (صيام يوم) قال القاري: منصوب بنزع الخافض أي ما رأيته يبالغ في الطلب ويجتهد في صيام يوم-انتهى. وفي رواية أحمد (ص222) والنسائي ما علمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام يوما يتحرى فضله على الأيام. قال السندي: أي يراه ويعتقده. وعند أحمد (ج1ص367) ما علمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحرى صيام يوم يبتغي فضله على غيره (فضله على غيره) أي وصيام شهر فضله على غيره بتشديد الضاد المعجمة جملة في موضع جر صفة ليوم (إلا هذا اليوم) أي صيامه (يوم عاشوراء) بدل أو منصوب بتقدير أعنى وهو اليوم العاشر من المحرم (وهذا الشهر) بالنصب عطف على قوله هذا اليوم وهذا من اللف التقديري، لأن المعطوف لم يدخل في لفظ المستثنى منه إلا بتقدير، وصيام شهر فضله على غيره كما مر، أو يعتبر في الشهر أيامه يوما، فيوما موصوفا بهذا الوصف، وحينئذ فلا يحتاج إلى تقدير وصيام شهر. قال الطيبي: قوله "فضله" بتشديد الضاد. قيل: بدل من يتحرى، والحمل على الصفة أولى لأن هذا اليوم مستثنى، ولا بد من مستثنى منه، وليس ههنا إلا قوله يوم وهو نكرة في سياق النفي يفيد العموم، والمعنى ما رأيته عليه الصلاة والسلام يتحرى في صيام يوم من الأيام صفته أنه مفضل على غيره إلا صيام هذا اليوم، فإنه كان يتحرى في تفضيل صيامه ما لم يتحر في تفضيل غيره، وهذا الشهر عطف على هذا اليوم، ولا يستقيم إلا بالتأويل إما أن يقدر في المستثنى منه فصيام شهر فضله على غيره، وهو من اللف التقديري، وإما أن يعتبر في الشهر أيامه يوما فيوما موصوفا بهذا الوصف-انتهى. قلت: اللفظ المذكور هنا للبخاري. ولفظ مسلم سئل ابن عباس عن صيام يوم عاشوراء فقال: ما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام يوما يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم ولا شهرا إلا هذا الشهر يعني رمضان (يعني شهر
(14/84)
رمضان) تفسير من الراوي عن ابن
عباس. قال الحافظ: وكان ابن عباس اقتصر على قوله وهذا الشهر، وأشار بذلك إلى شيء
مذكور كأنه تقدم ذكر رمضان وذكر عاشوراء أو كانت المقالة في أحد الزمانين وذكر
الآخر، فلهذا قال الراوي عنه يعني رمضان أو أخذه الراوي من جهة الحصر في أن لا شهر
يصام إلا رمضان لما تقدم له عن ابن عباس أنه كان يقول: لم أر رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - صام شهرا كاملا إلا رمضان-انتهى. وهذا من باب الترقي أو تقديم عاشوراء
للاهتمام به أو لتقدمه في أصل وجوب الصوم أو لكونه من أول السنة. وإنما جمع ابن
عباس بينهما وإن كان أحدهما واجبا والآخر مندوبا لإشتراكهما في حصول الثواب لأن
معنى يتحرى أي يقصد صومه لتحصيل ثوابه والرغبة فيه.
2061-(6) وعنه، قال: ((حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء.
قال الشوكاني: هذا الحديث يقتضي أن يوم عاشوراء أفضل الأيام للصيام بعد رمضان،
ولكن ابن عباس أسند ذلك إلى علمه فليس فيه ما يرد علم غيره. وقد تقدم أن أفضل
الصوم بعد رمضان على الإطلاق صوم المحرم، وسيأتي إن صوم عرفة يكفر سنتين وصوم يوم
عاشوراء يكفر سنة وظاهره إن صيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم عاشوراء (متفق عليه)
واللفظ للبخاري وأخرجه أحمد (ج1ص222، 313، 367) والنسائي والبيهقي (ج4ص286).
(14/85)
2061- قوله: (حين صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في المدينة موافقة لموسى عليه السلام وكان يصومه أيضا في الجاهلية قبل الهجرة موافقة لقريش فإنهم كانوا يصومونه تعظيما له وكانوا يكسون فيه الكعبة (يوم عاشوراء) أي اليوم العاشر من المحرم. قال في القاموس: العاشوراء والعشوراء ويقصران، والعاشور عاشر أو تاسعه-انتهى. والأول هو قول الخليل وغيره، والاشتقاق يدل عليه، وهو مذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى الثاني، وفي المصنف عن الضحاك عاشوراء اليوم التاسع قيل: لأنه مأخوذ من العشر بالكسر في أوراد الإبل، تقول العرب وردت الإبل عشرا، إذا وردت اليوم التاسع فالعشر عندهم تسعة أيام، وذلك لأنهم يحسبون في الاظماء يوم الورد فإذا وردت يوما وقامت في الرعي يومين، ثم وردت في اليوم الثالث قالوا وردت ربعا، وإنما هو اليوم الثالث في الاظماء وإن رعت ثلاثا، وفي الرابع وردت قالوا وردت خمسا لأنهم حسبوا في كل هذا بقية اليوم الذي وردت فيه قبل الرعي، وأول اليوم الذي ترد فيه بعده وعلى هذا القول يكون التاسع عاشوراء. قال النووي: ما ذهب إليه الجمهور هو ظاهر الأحاديث، ومقتضى اللفظ. وأما تقدير أخذه من الاظماء فبعد. وقال الحافظ: اختلف أهل الشرع في تعيينه أي مصداقه وإشقاقه فقال الأكثر هو اليوم العاشر. قال القرطبي: عاشوراء معدول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم وهو في الأصل صفة لليلة العاشرة لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم العقد واليوم مضاف إليها فإذا قيل يوم عاشوراء فكأنه قيل يوم الليلة العاشرة إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الإسمية فاستغنوا عن الموصوف فحذفوا الليلة، فصار هذا اللفظ علما على اليوم العاشر، وذكر أبومنصور الجواليقى أنه لم يسمع فاعولاء إلا هذا، وضاروراء وساروراء ودالولاء من الضار والسار والدال، وعلى هذا فيوم عاشوراء هو العاشر وهذا قول الخليل
(14/86)
وغيره. وقال الزين بن المنير
الأكثر على أن عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم، وهو مقتضى الاشتقاق
والتسمية وقيل هو اليوم التاسع فعلى الأول فاليوم مضاف لليلة الماضية، وعلى الثاني
هو مضاف لليلة الآتية،.
وقيل إنما سمي يوم التاسع عاشوراء أخذا من أوراد الإبل كانوا إذا رعوا الإبل
ثمانية أيام، ثم أوردوها في التاسع، قالوا وردنا عشرا بكسر العين وكذلك إلى
الثلاثة. وروى مسلم من طريق الحكم بن الأعرج إنتهيت إلى ابن عباس فقلت أخبرني عن
يوم عاشوراء، قال إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما، قلت أهكذا كان
النبي - صلى الله عليه وسلم - يصومه قال نعم، وهذا ظاهره أن يوم عاشوراء هو اليوم
التاسع لكن قال الزين بن المنير قوله (أي في رواية البيهقي) إذا أصبحت من تاسعه
فأصبح صائما يشعر بأنه أراد العاشر لأنه لا يصبح صائما بعد أن أصبح من تاسعه إلا
إذا نوى الصوم من الليلة المقبلة وهو الليلة العاشرة. قال الحافظ: ويقوي هذا
الاحتمال ما رواه مسلم أيضا من وجه آخر عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم
- قال لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع فمات قبل ذلك، فإنه ظاهر في أنه - صلى الله
عليه وسلم - كان يصوم العاشر وهم بصوم التاسع فمات قبل ذلك-انتهى. قلت وقع في
رواية الترمذي أخبرني عن يوم عاشوراء أي يوم أصومه. وللبيهقي أخبرني عن صيام
عاشوراء أي يوم هو ووقع في رواية الترمذي، وكذا البيهقي ثم أصبح من يوم التاسع
صائما، وفيه تنبيه على أن من أراد صوم عاشوراء ابتدأ من يوم التاسع، ولا ينبغي أن
يقتصر على صوم العاشر فقط. وقد ورد عن ابن عباس ما يدل على ذلك، فقد روى الطحاوي
والبيهقي عنه قال خالفوا اليهود وصوموا التاسع والعاشر، فقد تبين بهذا مراد ابن
عباس من رواية مسلم، وإلى هذا الجواب نحا البيهقي حيث قال بعد رواية حديث الحكم بن
الأعرج (ج4:ص287) وكان ابن عباس رضي الله عنه أراد صوم التاسع مع العاشر
(14/87)
وأراد بقوله في الجواب، نعم ما
روى من عزمه - صلى الله عليه وسلم - على صومه، والذي يبين هذا ما روينا من طريق
عبدالرزاق عن ابن جريج عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقول: صوموا التاسع والعاشر
وخالفوا اليهود، وما روينا من طريق سفيان عن ابن أبي ليلى عن داود بن علي عن أبيه
عن جده ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، لئن بقيت لآمرن بصيام يوم
قبله أو يوم بعده يوم عاشوراء، وما روينا من طريق هشيم عن ابن أبي ليلى عن داود بن
علي عن أبيه عن جده ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صوموا يوم
عاشوراء وخالفوا فيه اليهود صوموا قبله يوما أو بعده يوما-انتهى ملخصا. وقال
الشوكاني: الأولى أني يقال أن ابن عباس أرشد السائل له إلى اليوم الذي يصام فيه
وهو التاسع، ولم يجب عليه بتعين يوم عاشوراء أنه اليوم العاشر، لأن ذلك مما لا
يسئل عنه ولا يتعلق بالسؤال عنه فائدة، فابن عباس لما فهم من السائل إن مقصوده
تعيين اليوم الذي يصام فيه أجاب عليه بأنه التاسع، وقوله "نعم" بعد قول
السائل أهكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم، بمعنى نعم هكذا كان يصوم، لو
بقي لأنه قد أخبرنا بذلك. ولا بد من هذا لأنه - صلى الله عليه وسلم - مات قبل صوم
التاسع-انتهى. وقال ابن القيم في الهدي (ج1:ص72) لم يجعل ابن عباس عاشوراء هو
اليوم التاسع،
وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ! إنه يوم يعظمه اليهود
والنصارى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لئن بقيت إلى قابل، لأصومن
التاسع)). رواه مسلم.
(14/88)
بل قائل للسائل صم اليوم التاسع، واكتفى بمعرفة السائل إن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر الذي يعده الناس كلهم يوم عاشوراء، فأرشد السائل إلى صيام التاسع معه وأخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصومه، كذلك بأن يكون حمل فعله على الأمر وعزمه عليه في المستقبل. ويدل على ذلك أنه هو الذي روى صوموا يوما قبله ويوما بعده. وهو الذي روى أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيام يوم عاشوراء يوم العاشر. وكل هذه الآثار يصدق بعضها بعضا ويؤيد بعضها بعضا. فمراتب صومه ثلاثة، أكملها أن يصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر. وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك أفراد العاشر وحده. وأما أفراد التاسع فمن نقص فهم الآثار وعدم تتبع ألفاظها وطرقها وهو بعيد من اللغة والشرع-انتهى. قلت وهكذا جعل الشوكاني والحافظ والشيخ عبدالحق الدهلوي مراتب صوم عاشوراء ثلاثة، وجعلوا صوم العاشر وقبله يوما وبعده يوما أكمل المراتب وأفضلها. قال الشيخ عبدالحق في اللمعات: الأفضل أن يصوم العاشر ويوما قبله ويوما بعده، وقد جاء ذلك في حديث أحمد-انتهى. قلت: يريد بذلك ما أشار إليه ابن القيم من حديث ابن عباس المرفوع بلفظ: صوموا يوما قبله ويوما بعده، لكن الذي وقع في مسند الإمام أحمد (ج1:ص241) طبعة الحلبي صوموا قبله يوما أو بعده يوما أي بحرف أو، لا بالواو، وهكذا وقع في طبعة دار المعارف بشرح الشيخ أحمد شاكر (ج4:ص21) وكذا نقله الحافظ في الفتح كما سيأتي، وكذا وقع عند البيهقي (ج4:ص287) من رواية علي بن محمد المقرئي عن الحسن بن محمد عن يوسف بن يعقوب القاضي عن أبي الربيع عن هشيم عن ابن أبي ليلى، وكذا رواه الطحاوي (ج1:ص338) من وجه آخر وذكر الهيثمي (ج3:ص188) بلفظ: صوموا يوما قبله ويوما بعده وعزاه إلى أحمد والبزرا، وهكذا ذكره المجد في المنتقى وابن القيم في الهدي والقاري في المرقاة، وكذا وقع عند البيهقي من رواية ابن
(14/89)
عبدان عن أحمد بن عبيد الصفار عن إسماعيل بن إسحاق عن مسدد عن هشيم. وقال القاري: وظاهر أن الواو بمعنى "أو" لأن المخالفة تحصل بأحدهما-انتهى. فالاستدلال برواية أحمد على كون الصوم في التاسع والحادي عشر مع العاشر أي الجمع بين الثلاثة فيه نظر، وعندي مراتب صوم عاشوراء الثلاث هكذا أدناها أن يصوم العاشر فقط، وفوقه أن يصوم الحادي عشر معه وفوقه أن يصوم التاسع والعاشر، وإنما جعلت هذه فوق الموتيتين الأوليين لكثرة الأحاديث فيها والله تعالى أعلم (وأمر بصيامه) أي أصحابه تطوعا بعد نسخ وجوبه. وقال القاري: أمر بصيامه أي أولا بالوجوب ثم بعد النسخ بالندب فلما كانت السنة العاشرة من الهجرة (قالوا يا رسول الله !) أي يوم عاشوراء يوم (يعظمه) كذا في جميع النسخ من المشكاة، والذي في صحيح مسلم تعظمه بالتأنيث، وكذا نقله المجد بن تيمية في المنتقى والجزري في جامع الأصول والزيلعي في نصب الراية، وكذا وقع في رواية البيهقي (اليهود والنصارى) أي وقد أمرنا بمخالفتهم فكيف نوافقهم على تعظيمه بالصوم فيه،
(14/90)
وقد استشكل ذكر النصارى بأن التعليل بنجاة موسى وغرق فرعون المذكور في حديث ابن عباس الآتي في الفصل الثالث يختص بموسى واليهود، وأجيب باحتمام أن يكون عيسى كان يصومه، وهو مما لم ينسخ من شريعة موسى لأن كثيرا منها ما نسخ بشريعة عيسى لقوله تعالى?ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم? [آل عمران:50] ويقال إن أكثر الأحكام الفرعية إنما تتلقاها النصارى من التوراة (لئن بقيت) أي في الدنيا أو لئن عشت (إلى قابل) أي إلى عام قابل وهو السنة الآتية (لأصومن التاسع) وفي رواية فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع قال فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى لأصومن التاسع مع العاشر لأجل مخالفة أهل الكتاب. قال الحافظ في الفتح: ما هم به - صلى الله عليه وسلم - من صوم التاسع يحتمل معناه أنه لا يقتصر عليه بل يضيفه إلى اليوم العاشر إما إحتياطا وإما مخالفة لليهود والنصارى وهو الأرجح، وبه يشعر بعض روايات مسلم ولأحمد من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعا صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود، وصوموا يوما قبله أو يوما بعده، وهذا كان في آخر الأمر وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يجب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ولا سيما إذا كان فيما يخالف فيه أهل الأوثان، فلما فتحت مكة واشتهر أمر الإسلام أحب مخالفة أهل الكتاب أيضا كما ثبت في الصحيح فهذا من ذلك فوافقهم أولا وقال نحن أحق بموسى منكم ثم أحب مخالفتهم، فأمر بأن يضاف إليه يوم قبله ويوما بعده خلافا لهم. ويؤيده رواية الترمذي من طريق أخرى بلفظ: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيام عاشوراء يوم العاشر-انتهى. وقال الرافعي في صوم التاسع معنيان منقولان عن ابن عباس أحدهما، الإحتياط فإنه ربما وقع في الهلال غلط فيظن العاشر التاسع، وثانيهما، مخالفة اليهود فإنهم لا يصومون إلا يوما واحدا، فعلى هذا لو لم يصم التاسع استحب له صوم الحادي
(14/91)
عشر-انتهى. قال الحافظ في
التلخيص (199) والمعنيان كما قال عن ابن عباس منقولان، وكذا القياس الذي ذكره،
منقول عنه بل مرفوع من روايته.وقد روى البيهقي من طريق ابن أبي ذئب عن شعبة مولى
ابن عباس قال كان ابن عباس يصوم عاشوراء يومين ويوالي بينهما مخافة أن يفوته فهذا
المعنى الأول. وأما المعنى الثاني، فقال الشافعي أنا سفيان أنه سمع عبيدالله بن
أبي يزيد يقول سمعت ابن عباس يقول: صوموا التاسع والعاشر ولا تشبهوا باليهود. وفي
رواية للبيهقي عن ابن عباس مرفوعا لئن بقيت لآمرن بصيام يوم قبله أو بعده كما
تقدم، وفي رواية له صوموا عاشوراء وخالفوا اليهود، صوموا قبله يوما أو بعده
يوما-انتهى. وقال بعض أهل العلم: قد ظهر أن القصد مخالفة أهل الكتاب في هذه
العبادة مع الإتيان بها، وذلك يحصل بأحد أمرين إما بنقل العاشر إلى التاسع أو بصيامهما
معا، وقوله "لئن بقيت لأصومن التاسع" يحتمل الأمرين فلما توفي صلى الله
عليه وسلم قبل بيان ذلك كان الإحتياط صوم اليومين معا-انتهى. ورجح ابن القيم
المعنى الذي ذكره الحافظ في الفتح إحتمالا قال: هو أصوب إن شاء الله تعالى،
2062- (7) وعن أم الفضل بنت الحارث، ((إن ناسا تماروا عندها يوم عرفة في صيام رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت
إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره بعرفة، فشربه)) متفق عليه.
(14/92)
ومجموع أحاديث ابن عباس عليها تدل وتبين صحة هذا المعنى والله أعلم (رواه مسلم) أعلم أن الحديث رواه مسلم من طريقين سياق الأولى مطول والأخرى مختصر، وحذف المصنف تبعا للبغوي عجز الطريق الأولى، وجعل مكانه لفظه الطريق الثاني، وكان الأولى له أن يذكر سياق الطريق الأولى بتمامه ثم يقول، وفي رواية لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع، والرواية الأولى رواها أيضا أبوداود والبيهقي (ج4:ص287) والرواية الأخرى المختصرة أخرجها أحمد (ج1:ص2240236-242) وكذا البيهقي والطحاوي (ج1:ص338).
(14/93)
2062- قوله: (وعن أم الفضل) اسمها لبابة وهي امرأة العباس وأخت ميمونة أم المؤمنين (إن ناسا) أي من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (تماروا) أي اختلفوا كما في رواية، أوشكوا كما في رواية أخرى، وقع عند الدارقطني في الموطآت اختلف ناس من أصحاب رسول - صلى الله عليه وسلم - (عند ها يوم عرفة) أي بعرفات (في صيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي ذلك اليوم (فقال بعضهم هو صائم وقال بعضهم ليس بصائم) قال الحافظ: قوله "في صيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" هذا يشعر بأن صوم يوم عرفة كان معروفا عندهم معتادا لهم في الحضر، وكان من جزم بأنه صائم استند إلى ما ألفه من العبادة، ومن جزم بأنه غير صائم قامت عنده قرينة كونه مسافر أو قد عرف نهيه عن صوم الفرض في السفر فضلا عن النفل (فأرسلت) بلفظ: المتكلم والغيبة، وفي رواية البخاري في الصيام على ما في بعض النسخ، فأرسلت أم الفضل فتتعين الغيبة. وفي حديث كريب عن ميمونة عند البخاري إن الناس شكوا في صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة، فأرسلت إليه بحلاب (وفي رواية مسلم فأرسلت إليه ميمونة بحلاب اللبن) وهو واقف في الموقف فشرب منه، والناس ينظرون، وهذا صريح في أن ميمونة هي المرسلة، فيحتمل التعدد، ويحتمل أنهما أرسلنا معا، فنسب ذلك إلى كل منهما، لأنهما كانتا أختين، وتكون ميمونة أرسلت بسؤال أم الفضل لها في ذلك لكشف الحال في ذلك، ويحتمل العكس. ولم يسم الرسول في طرق حديث أم الفضل، لكن روى النسائي من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس ما يدل على أنه كان الرسول بذلك، ويقوي ذلك أنه كان ممن جاء عنه أنه أرسل إما أمه وإما خالته كذا في الفتح (إليه) صلى الله عليه وسلم (بقدح لين) لعلمها بمحبته عليه الصلاة والسلام له حيث يقوم مقام الأكل والشرب ولذا كان إذا أكل طعاما قال اللهم بارك لي فيه وأطعمني خيرا منه، وإذا كان لبنا قال اللهم بارك لي فيه وزدني منه،
(14/94)
أو لمناسبة الزمان والمكان، قاله القاري. قال الباجي: أرادت أن تختبر بذلك صومه وتعلم الصحيح من قول المختلفين وهذا وجه صحيح في معرفة أحد القسمين، وهو أن يشربه، فيعلم بذلك فطره. وأما لو امتنع من شربه فليس في ذلك دليل على صومه لجواز أن يمتنع من ذلك لشبع، وروى وغير ذلك، ولعله أن يكون في رده ما يدل على صومه أو يتسبب به إلى سؤاله (وهو واقف) أي راكب (على بعيره بعرفة) وفي المستخرج لأبي نعيم وهو يخطب الناس بعرفة، والحديث نص في أنه - صلى الله عليه وسلم - كان بعرفة على بعير، وكذا وقع في حديث خالد بن العداء، وحديث نبيط عند أبي داود. وهذا يخالف ما في حديث جابر الطويل عند مسلم وغيره حتى إذا زاغت الشمس، أمر بالقصواء فرحلت له فركب حتى أتى بطن الوادي فخطب الناس. وأجيب بأن البعير يطلق على الأنثى أيضا. قال في مجمع البحار: البعير، يقع على الذكر والأنثى. وقال الراغب: يقع على الذكر والأنثى كالإنسان في وقوعه عليهما. وقال في القاموس: البعير، الجمل البازل. أو الجذع، وقد يكون للأنثى، فالمراد بالبعير في حديث الباب. وكذا في حديثي خالد ونبيط هي الناقة لا الجمل. وأما ما وقع عند أحمد والنسائي في حديث نبيط من لفظ الجمل فهي رواية شاذة، أو أطلق لفظ الجمل على الناقة على طريق الشذوذ. وقد بوب عليه النسائي بلفظ. الخطبة بعرفة على الناقة أو يقال أنه رآه من بعيد فظنها جملا فروى على ما ظنه، والصواب أنه كان على ناقته القصواء حين وقف في الموقف، وخطب كما وقع في حديث جابر. واستدل به على أن الوقوف على ظهر الدواب مباح، وإن النهى الوارد في ذلك بقوله إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر-الحديث. أخرجه أبوداود من حديث أبي هريرة مرفوعا،محمول على ما إذا حصل للدابة مشقة، أو أن هذا الموضع مستثنى عما نهى عنه. قال الخطابي: قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم خطب على راحلته فدل ذلك على أن الوقوف عليها لا لمعنى يوجبه بأن يستوطنه الإنسان
(14/95)
ويتخذه مقعدا فيتعب الدابة ويضربها من غير طائل-انتهى. واختلف أهل العلم في أيهما أفضل الركوب أو تركه بعرفة، فذهب الجمهور إلى أن الأفضل الركوب لكونه - صلى الله عليه وسلم - وقف راكبا. ومن حيث النظر فإن في الركوب عونا على الإجتهاد في الدعاء والتضرع المطلوب حينئذ كما ذكروا مثله في الفطر. وذهب آخرون إلى أن استحباب الركوب يختص بمن يحتاج الناس إلى التعليم منه، وعن الشافعي قول إنهما سواء كذا في الفتح (فشربه) زاد في حديث ميمون، والناس ينظرون إليه ولأحمد والنسائي من طريق عبدالله بن عباس عن أمه أم الفضل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفطر بعرفة. قال الباجي: وشرب النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الموقف ليبين للناس فطره ولعله قد علم بتمارى أصحابه في ذلك الوقت فأراد تبين الشرع، وإيضاح الحق ورفع اللبس - صلى الله عليه وسلم -. ومقتضى حديث الباب وكذا حديث ميمونة إن صوم يوم عرفة غير مستحب لكن في حديث أبي قتادة الآتي إن صومه يكفر سنة آتية وسنة ماضية.
(14/96)
فالجمع بينه وبين حديثهما أن يحمل حديث أبي قتادة على غير الحاج، أو على من لم يضعفه صيامه عن الذكر والدعاء المطلوب للحاج كما سيأتي تفصيل ذلك. قال الزرقاني: فطر يوم عرفة للحاج أفضل من صومه لأنه الذي أختاره - صلى الله عليه وسلم - لنفسه، وللتقوى على حمل الحج، ولما فيه من العون على الإجتهاد في الدعاء والتضرع المطلوب في ذلك الموضع، ولذا قال الجمهور يستحب فطره للحاج، وإن كان قويا، ثم اختلفوا هل صومه مكروه وصححه المالكية أو خلاف الأولى وصححه الشافعية،و تعقب بأن فعله المجرد لا يدل على عدم استحباب صومه إذ قد يتركه لبيان الجواز ويكون في حقه أفضل لمصلحة التبليغ. وأجيب بأنه قد روى أبوداود والنسائي وصححه ابن خزيمة والحاكم عن أبي هريرة قال: نهى - صلى الله عليه وسلم - عن صوم عرفة بعرفة. وأخذ بظاهره قوم منهم يحيى بن سعيد الأنصاري فقال: يجب فطره للحاج، والجمهور على استحبابه حتى قال عطاء كل من أفطره ليتقوى به على الذكر كان له مثل أجر الصائم-انتهى. وقال الحافظ: روى عن ابن الزبير وأسامة بن زيد وعائشة أنهم كانوا يصومونه أي بعرفة، وكان ذلك يعجب الحسن، ويحكيه عن عثمان وعن قتادة مذهب آخر قال لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء، ونقله البيهقي في المعرفة عن الشافعي في القديم، واختاره الخطابي والمتولى من الشافعية-انتهى. قلت: قال الخطابي في المعالم (ج2:ص131) بعد ذكر حديث أبي هريرة في النهى عن الصوم بعرفة ما لفظه: هذا نهى إستحباب لا نهى إيجاب، وإنما نهى المحرم عن ذلك خوفا عليه أني يضعف عن الدعاء والإبتهال في ذلك المقام، فأما من وجد قوة ولا يخاف معها ضعفا فصوم ذلك اليوم أفضل له إن شاء الله، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - صيام يوم عرفة يكفر سنتين سنة قبلها وسنة بعدها-انتهى. وقال ابن قدامة (ج3:ص176) أكثر أهل العلم يستحبون الفطر يوم عرفة بعرفة وكانت عائشة وابن الزبير يصومانه. وقال قتادة: لا بأس به إذا لم
(14/97)
يضعف عن الدعاء. وقال عطاء:
أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف، لأن كراهة صومه إنما هي معللة بالضعف عن
الدعاء. فإذا قوى عليه أو كان في الشتاء لم يضعف فتزول الكراهة، ولنا ما روى عن أم
الفضل يعني حديث الباب. وقال ابن عمر: حججت مع النبي فلم يصمه يعني يوم عرفة ومع
أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، ومع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه ولا آمر به
ولا أنهى عنه،أخرجه الترمذي وحسنه. وروى أبوداود عن أبي هريرة النهى عنه، ولأن
الصوم يضعفه ويمنعه الدعاء في هذا المعظم الذي يستجاب فيه الدعاء في ذلك الموقف
الشريف فكان تركه أفضل-انتهى. وسيأتي شيء من الكلام في هذه المسألة في شرح حديث
أبي هريرة في الفصل الثاني وقد ذكر لفطره - صلى الله عليه وسلم - بعرفة عدة حكم.
منها أنه أقوى على الدعاء، ومنها إن الفطر في السفر أفضل في فرض الصوم فكيف بنفله،
ومنها إن ذلك اليوم كان يوم الجمعة وقد نهى عن أفراده بالصوم، فأحب أن يرى الناس
فطره فيه تأكيدا لنهيه عن تخصيصه بالصوم وإن كان صومه لكونه يوم عرفة لا يوم جمعة.
2063- (8) وعن عائشة، قالت: ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما في
العشر قط)) رواه مسلم.
(14/98)
قال الحافظ: ويبعد هذا سياق أول الحديث، ومنها أنه يوم عيد لأهل الموقف لإجتماعهم فيه كإجتماع الناس يوم العيد، وهذا الإجتماع يختص بمن بعرفة دون أهل الآفاق ويؤيده ما رواه أصحاب السنن عن عقبة بن عامر مرفوعا يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام، ومعلوم إن كونه عيدا هو لأهل ذلك المجمع لإجتماعهم فيه وفي الحديث من الفوائد إن الأكل والشرب في المحافل مباح ولا كراهة فيه للضرورة، وفيه التحليل على الإطلاع على الحكم بغير سؤال وفيه فطنة أم الفضل لإستكشافها عن الحكم الشرعي بهذه الوسيلة اللطيفة اللائقة بالحال، لأن ذلك كان في يوم حر بعد الظهيرة (متفق عليه) واللفظ لمسلم، والحديث أخرجه البخاري في الحج والصيام والأشربة، ومسلم في الصيام وأخرجه أيضا أحمد (ج6:ص338-339-340) ومالك في الحج وأبوداود في الصيام والبيهقي (ج4:ص283).
(14/99)
2063- قوله: (ما رأيت رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - صائما في العشر قط) وفي رواية أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - لم يصم العشر وفي رواية ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام
العشر قط يعني العشر الأول من ذي الحجة، وهذا بظاهره يخالف ما تقدم في باب الأضحية
من فضيلة مطلق العمل المتضمن للصيام في عشر ذي الحجة، ومن فضيلة خصوص للصيام فيها،
وما في حديث أبي قتادة الذي يليه من استحباب الصوم في التاسع منها، وهو يوم عرفة.
وما في حديث حفصة في الفصل الثالث من عدم تركه - صلى الله عليه وسلم - صيام العشر،
وما في حديث هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -
قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم تسع ذي الحجة-الحديث. أخرجه أحمد وأبوداود
والنسائي والجواب عنه إن المراد من قولها لم يصم العشر أنه لم يصمها لعارض مرض أو
سفر أو غيرهما أو أنها لم تره صائما فيها ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر،
وإذا تعارض النفي والإثبات فالإثبات أولى بالقبول. قال البيهقي: بعد رواية حديث
هنيدة وحديث عائشة ما لفظه، والمثبت أولى من النافي، مع ما مضى من حديث ابن عباس
في فضيلة العمل الصالح في عشر ذي الحجة. وقيل المراد نفي جميع العشر وفيها يوم
العيد وهذا لا ينافي صوم بعضها وقيل يحتمل أن يكون ذلك لكونه كان يترك العمل في
بعض الأحيان وهو يحب أن يعمله خشية أن يظن وجوبه (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الترمذي
وأبوداود وابن ماجه والبيهقي (ج4:ص285).
2064- (9) وعن أبي قتادة، ((أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كيف
تصوم؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله، فلما رأى عمر غضبه، قال: رضينا
بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، فجعل
عمر يردد هذا الكلام حتى سكن غضبه.
(14/100)
2064- قوله: (إن رجلا أتى) لم أقف على إسمه، وفي رواية البيهقي إن أعرابيا وقوله: إن رجلا أتى، هكذا هو في جميع النسخ من المشكاة وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7:ص221) وهكذا وقع في بعض النسخ من صحيح مسلم، ووقع في أكثر النسخ منه "رجل أتى" قال النووي: هكذا هو في معظم النسخ أي من صحيح مسلم عن أبي قتادة "رجل أتى" وعلى هذا يقرأ رجل بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الشأن والأمر رجل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: وقد أصلح في بعض النسخ "إن رجلا أتى" وكان موجب هذا الإصلاح جهالة انتظام الأول، وهو منتظم كما ذكرته فلا يجوز تغييره والله أعلم. (فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي ظهر أثر الغضب على وجهه (من قوله) أي من قول الرجل وسؤاله، يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - ما أراد إظهار ما خفى من عبادته بنفسه، فكره لذلك سؤاله، أو أنه خاف على السائل في أن يتكلف في الإقتداء، بحيث لا يبقى له الإخلاص في النية، أو أنه يعجز بعد ذلك. قال الخطابي: يشبه أن يكون غضبه صلى الله عليه وسلم من مسألته إياه عن صومه كراهة أن يقتدي به السائل في صومه فيتكلفه ثم يعجز عنه فعلا أو يسأمه ويمله بقلبه، فيكون صياما عن غير إخلاص وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يواصل وهو محرم على أمته، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يترك بعض النوافل خوفا من أن يفرض على أمته إذا فعلوه إقتداء به كما ترك القيام في شهر رمضان بعد أن قام بهم ليلة أو ليلتين، ثم لم يخرج إليهم-انتهى. وقال النووي: سبب غضبه أنه كره مسألته لأنه خشي من جوابه مفسدة وهي أنه ربما يعتقد السائل وجوبه أو يستقله أو يقتصر عليه وكان يقتضى حاله أكثر منه. وإنما اقتصر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - لشغله بمصالح المسلمين، وحقوقهم وحقوق أزواجه وأضيافه والوافدين عليه، ولئلا يقتدي به كل أحد فيؤدي إلى الضرر في حق بعضهم، وكان حق السائل أن يقول كم أصوم أو كيف
(14/101)
أصوم، فيخص السؤال بنفسه
ليجيبه بما يقتضيه حاله كما أجاب غيره بمقتضى أحوالهم-انتهى. (فلما رأى عمر( بن
الخطاب (غضبه) - صلى الله عليه وسلم - على السائل، وخاف أن يكون سؤاله سببا لأذيته
صلى الله عليه وسلم فيدخل تحت قوله تعالى : ?إن الذين يؤذون الله
ورسوله?[الأحزاب:57] (قال) أي أدبا وإكراما له - صلى الله عليه وسلم - وشفقة على
السائل واعتذارا منه واسترضاء (رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا)
المنصوبات الثلاث تمييزات، ويمكن أن تكون حالات مؤكدة (نعوذ بالله من غضب الله
وغضب رسوله) ذكر غضب الله تزيين للكلام وتعيين بأن غضبه تعالى يوافق غضبه عليه
الصلاة والسلام قاله القاري (يردد) أي يكرر (كيف من)
فقال عمر: يا رسول الله ! كيف من يصوم الدهر كله، لا صام ولا أفطر، قال ويطبق ذلك
أحد؟
(14/102)
أي حال من (يصوم الدهر كله) أي هل هو محمود أو مذموم، أنظر حسن الأدب حيث بدأه بالتعظيم ثم سأله على وجه التعميم،ولذا قيل حسن السؤال نصف العلم (لا صام ولا أفطر) قال الخطابي في المعالم (ج2:ص129) معناه لم يصم ولم يفطر. وقد يوضع "لا" بمعنى "لم" كقوله تعالى ?فلا صدق ولا صلى?[القيامة:31] أي لم يصدق. ولم يصل وقد يحتمل أن يكون معناه الدعاء عليه كراهة فصنيعه وزجرا له عن ذلك ( لكونه مظنة لتفويت الحقوق الواجبة) وقال الجزري في النهاية: قوله "لا صام ولا أفطر" أي لم يصم ولم يفطر وهو إحباط لأجره على صومه حيث خالف السنة. وقيل: هو دعاء عليه كراهية لصنيعه. وقال التوربشتي: فسر هذا من وجهين أحدهما، على معنى الدعاء عليه زجرا له على صنيعه والآخر على سبيل الإخبار، والمعنى لم يكابد سورة الجوع وحر الظمأ لاعتياده الصوم حتى خف عليه، ولم يفتقر إلى الصبر على الجهد الذي يتعلق به الثواب، فصار كأنه لم يصم-انتهى. وحيث أنه لم ينل راحة المفطرين ولذتهم فكأنه لم يفطر (أو قال لم يصم ولم يفطر) وفي رواية "أو" ما صام وما أفطر، قال الحافظ بعد ذكر رواية الباب: هو شك من أحد رواته، ومقتضاه أنهما بمعنى واحد.والمعنى بالنفي أنه لم يحصل أجر الصوم لمخالفته ولم يفطر لأنه أمسك. وقال الشوكاني في السيل الجرار: حديث لا صام من صام الأبد في الصحيحين في حديث عبدالله بن عمرو، وكذلك حديث لا صام ولا أفطر أو لم يصم ولم يفطر في حديث أبي قتادة معناهما أنه لما خالف الهدى النبوى الذي رغب فيه صلى الله عليه وسلم كان بمنزلة من لم يصم صوما مشروعا يؤجر عليه ولا أفطر فطرا ينتفع به. ويؤيد أن هذا المعنى هو المراد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الله بن عمرو، وقد كان أراد أن يصوم الدهر فقال له صم من كل شهر ثلاثة أيام فقال، إني أقوى من ذلك فلم يزل يرفعني حتى قام صم يوما وأفطر يوما، فإنه أفضل الصيام وهو صوم أخي داود. فقلت: إني أطبق
(14/103)
أفضل من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أفضل من ذلك؟ هكذا في الصحيحين وغيرهما من حديثه. وقد ثبت في الصحيح من حديث أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - قال للثلاثة الذين قال أحدهم أنه يصوم ولا يفطر. وقال الثاني أنه يقوم الليل ولا ينام.و قال الثالث أنه لا يأتي النساء، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أما أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني. فهذا الحديث الصحيح يدل على أن صيام الدهر من المرغوب عن سننه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليستحق فاعله ما رتبه عليه من الوعيد بقوله فمن رغب عن سنتي فليس مني. وقد أخرج أحمد وأبوداود وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي أخبره أنه يصوم الدهر من أمرك أن تعذب نفسك-انتهى كلام الشوكاني:
(14/104)
قلت اختلف العلماء في صيام الدهر فذهب إسحاق وأهل الظاهر إلى كراهته مطلقا، أي وإن أفطر الأيام الخمسة المنهي عنها، وهي رواية عن أحمد. قال الأثرم: قيل وأهل لأبي عبدالله يعني الإمام أحمد، فسر مسدد قول أبي موسى من صام الدهر ضيقت عليه جهنم، أي فلا يدخلها فضحك وقال من قال هذا؟ فأين حديث عبدالله بن عمرو أن النبي- صلى الله عليه وسلم - كره ذلك، وما فيه من الأحاديث كذا في المغنى (ج3ص67) وقال ابن حزم: لا يحل صوم الدهر أصلا يعني أنه يحرم، وإلى الكراهة مطلقا ذهب ابن العربي من المالكية فقال قوله "لا صام من صام الأبد" (في حديث عبدالله بن عمرو) إن كان معناه الدعاء فياويح من أصحابه دعاء النبي- صلى الله عليه وسلم - وإن كان معناه الخير فياويح من أخبر عنه النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه لم يصم وإذا لم يصم شرعا لم يكتب له الثواب، لوجوب صدق قوله صلى الله عليه وسلم لأنه نفي عنه الصوم، وقد نفي عنه الفضل كما تقدم، فكيف يطلب الفضل فيما نفاه النبي- صلى الله عليه وسلم --انتهى. وإلى الكراهة ذهب أيضا ابن قدامة كما سيأتي، وابن القيم كما في الهدي (ج1ص174) والحنفية كما في مراقي الفلاح حيث قال يكره صوم الدهر لأنه يضعفه أو يصير طبعا له، ومبني العبادة على خلاف العادة-انتهى. وهكذا في البرهان وفتح القدير وغيرهما. وقال في البدائع قال بعض الفقهاء: من صام سائر الأيام وأفطر يوم الفطر والأضحى وأيام التشريق لا يدخل تحت النهي، ورد عليه أبويوسف فقال: ليس هذا عندي كما قال والله أعلم. هذا قد صام الدهر كأنه أشار إلى أن النهي عن صوم الدهر ليس لمكان صوم هذه الأيام بل لما يضعفه عن الفرائض والواجبات ويقعده عن الكسب، ويؤدي إلى التبتل المنهي عنه والله أعلم-انتهى. واستدل للكراهة والمنع بقوله صلى الله عليه وسلم "لا صام ولا أفطر" وقد تقدم وجه الاستدلال به في كلام الشوكاني وابن العربي والجزري وغيرهم. وقد روى مثل هذا مرفوعا عن
(14/105)
جماعة من الصحابة، منهم عبدالله ابن الشيخر عند أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وعمران بن حصين عند النسائي والحاكم، وابن عمر عند النسائي واستدل أيضا لذلك بقصة عبدالله بن عمرو التي أشار إليها الشوكاني. قال ابن التين: استدل على كراهة صوم الدهر من هذه القصة من أوجه نهيه صلى الله عليه وسلم عن الزيادة على صوم نصف الدهر، وأمره بأن يصوم ويفطر وقوله: لا أفضل من ذلك" ودعاءه على من صام الأبد-انتهى. وبحديث أنس الذي أشار إليه الشوكاني مع وجه الاستدلال منه. وبحديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال قيل: للنبي- صلى الله عليه وسلم - رجل يصوم الدهر، قال وددت أنه لم يطعم الدهر شيئا-الحديث. أخرجه النسائي. قال السندي: أي وددت أنه ما أكل ليلا ولا نهارا حتى مات جوعا، والمقصود بيان كراهة عمله وأنه مذموم العمل حتى يتمنى له الموت بالجوع. وبحديث أبي موسى رفعه من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا وقبض كفه، أخرجه أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي (ج4ص300) وابن أبي شيبة والبزار ولفظ ابن حبان والبزار والبيهقي ضيقت عليه جهنم هكذا وعقد تسعين، وأخرجه أيضا الطبراني. قال الهيثمي (ج3ص193) رجاله رجال الصحيح.
(14/106)
قال الحافظ: ظاهره أنها تضيق عليه حصرا له فيها لتشديده على نفسه وحمله عليها، ورغبته عن سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - واعتقاده إن غير سنته أفضل منها، وهذا يقتضي الوعيد الشديد فيكون حراما-انتهى. وقال ابن التركماني: ظاهر هذا لا الحديث يقتضى المنع من صوم الدهر. وقد أورده ابن أبي شيبة في باب من كره صوم الدهر. واستدل به ابن حزم على المنع، وقال إنما أورده رواته كلهم على التشديد والنهي عن صومه. وقال ابن حبان: ذكر الإخبار عن نفي جواز سرد المسلم صوم الدهر وذكر هذا الحديث-انتهى. واستدل للمنع أيضا بما روى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي عمر والشيباني: قال بلغ عمر رجلا يصوم الدهر فأتاه فعلاه بالدرة وجعل يقول كل يا دهري قال ابن حزم: قد صح عن عمر تحريم صيام الدهر كما رويناه فذكر هذا الأثر ثم قال، هذا في غاية الصحة عنه فصح أن تحريم صوم الدهر كان من مذهبه ولو كان عنده مباحا لما ضرب فيه ولا أمر بالفطر-انتهى. وبما روى ابن أبي شيبة أيضا من طريق أبي إسحاق إن عبدالرحمن بن أبي نعيم كان يصوم الدهر، فقال عمرو بن ميمون لو رآى هذا أصحاب محمد لرجموه. وبما روى الطبراني عن عمرو بن سلمة قال سئل ابن مسعود عن صوم الدهر فكرهه. قال الهيثمي: إسناده حسن وذهب آخرون إلى استحباب صيام الدهر لمن قوى عليه ولم يفوت فيه حقا وأفطر الأيام المنهية عنها، وإلى ذلك ذهب الجمهور منهم مالك والشافعي وأحمد في رواية: قال مالك في الموطأ: أنه سمع أهل العلم يقولون لا بأس بصيام الدهر إذا أفطر الأيام التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها وذلك أحب ما سمعت إلى في ذلك-انتهى. وصرح الزرقاني وغيره من المالكية باستحبابه بالشروط المذكورة. قال النووي: مذهب الشافعي وأصحابه إن سرد الصيام إذا أفطر العيدين والتشريق لا كراهة فيه بل هو مستحب بشرط أن لا يلحقه به ضرر ولا يفوت حقا فإن تضرر أو فوت حقا فمكروه-انتهى. وقال ابن قدامة
(14/107)
(ج3ص167) قال أبوالخطاب: إنما يكره إذا أدخل فيه يومي العيدين وأيام التشريق لأن أحمد قال، إذا يومي العيدين وأيام التشريق رجوت أن لا يكون بذلك بأس. وروى نحو هذا عن مالك وهو قول الشافعي لأن جماعة من الصحابة كانوا يسردون الصوم منهم أبوطلحة. قال ابن قدامة: والذي يقوى عندي إن صوم الدهر مكروه وإن لم يصم هذه الأيام فإن صامها فقد فعل محرما، وإنما كره صوم الدهر لما فيه من المشقة والضعف وشبه التبتل المنهي عنه، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو إنك تصوم الدهر وتقوم الليل فقلت نعم، قال إنك إذا فعلت ذلك هجمت له عينك ونفهت له النفس لا صام من صام الدهر-الحديث. واحتج الجمهور على الاستحباب بما وقع في حديث حمزة بن عمرو عند مسلم أنه قال، يا رسول الله ! إني أسرد الصوم أفأصوم في السفر فقال إن شئت فصم فأقره صلى الله عليه وسلم على سرد الصيام ولو كان مكروها لم يقره وأجيب عن هذا أولا بأن سؤال حمزة إنما كان عن صوم الفرض في السفر لا عن صوم الدهر كما سبق.
(14/108)
وثانيا، بأن سرد الصوم لا يستلزم صوم الدهر لأن التتابع يصدق بدون صوم الدهر، بل المراد إني أكثر الصوم وكان هو كثير الصوم كما ورد في بعض الروايات، ويؤيد عدم الاستلزام ما أخرجه أحمد من حديث أسامة بن زيد أن النبي- صلى الله عليه وسلم - كان يسرد الصوم مع ما ثبت أنه لم يصم الدهر، وإنه لم يصم شهرا كاملا إلا رمضان، وبهذا يجاب عما روى عن عمر وعائشة إنهما كانا يسردان الصوم. واحتجوا أيضا بما وقع في بعض طرق حديث عبدالله بن عمرو الآتي صم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر: وقوله في حديث أبي أيوب الآتي من صام رمضان ثم اتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر قالوا، والمشبه به يكون أفضل من المشبه فدل ذلك على أن صوم الدهر أفضل من هذه المشبهات فيكون مستحبا وهو المطلوب. وتعقب بأن التشبيه في الأمر المقدر لا يقتضى جوازه فضلا عن استحبابه. وإنما المراد حصول الثواب على تقدير مشروعية صيام ثلاثمائة وستين يوما. ومن المعلوم إن المكلف لا يجوز له صيام جميع السنة فلا يدل التشبيه على أفضلية المشبه به من كل وجه كذا ذكره الحافظ. وقد بسط هذا الجواب ابن القيم في الهدي فأجاد. وأجاب الجمهور عن حديث لا صام من صام الأبد، وحديث لا صام ولا أفطر بأجوبة. أحدها أنه محمول على حقيقته بأن يصوم معه العيدين وأيام التشريق. وفيه نظر لأنه صلى الله عليه وسلم قد قال جوابا لمن سأله عن صوم الدهر لا صام ولا أفطر وهو يؤذن بأنه ما أجر ولا إثم، ومن صام الأيام المحرمة لا يقال فيه ذلك لأنه عند من أجاز صوم الدهر إلا الأيام المحرمة يكون قد فعل مستحبا وحراما، وأيضا فإن أيام التحريم مستثناة بالشرع غير قابلة للصوم شرعا، فهي بمنزلة الليل وأيام الحيض، فلم تدخل في السؤال عند من علم تحريمها، ولا يصلح الجواب بقوله "لا صام ولا أفطر" لمن لم يعلم تحريمها، كذا ذكره الحافظ في الفتح وهو ملخص كلام ابن القيم في الهدي. وقد تعقب
(14/109)
ابن دقيق العيد تأويل الجمهور هذا بوجه آخر من شاء الوقوف عليه رجع إلى شرح العمدة (ج2ص236- 237) الثاني إنه محمول على من تضرر به أو فوت به حقا، قالوا ويؤيده أن النهي كان خطابا لعبد الله بن عمرو بن العاص، وقد ذكر مسلم عنه أنه عجز في آخر عمره وندم على كونه لم يقبل الرخصة قالوا، فنهي ابن عمر ولعلمه بأنه سيعجز عنه ويضعف وأقر حمزة لعلمه بقدرته بلا ضرر. وفيه إن هذا التأويل أيضا مردود لما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم في أنس من رغب عن سنتي فليس مني، ويرده أيضا قوله لا أفضل من ذلك، ويرده أيضا ورود قوله "لا صام ولا أفطر" وقوله: لا صام من صام الأبد عن غير واحد من الصحابة سوى عبدالله بن عمرو كما تقدم، ويرده أيضا حديث أبي موسى المتقدم.
(14/110)
وكل ذلك يدل على أن هذا الحكم ليس خاصا بابن عمرو بل هو عام لجميع المسلمين وأما أقراره لحمزة على سرد الصوم فلا حجة فيه كما سبق. الثالث إن معنى لا صام أنه لا يجد من مشقته ما يجدها غيره فيكون خبرا، لا دعاء. وتعقبه الطيبي بأنه مخالف لسياق الحديث ألا تراه كيف نهاه أولا عن صيام الدهر كله ثم حثه على صوم داود، والأولى أن يكون خبرا عن أنه لم يمتثل أمر الشرع أو دعاء كما تقدم. وأجابوا عن حديث أبي موسى المتقدم ذكره بأن معناه ضيقت عليه فلا يدخلها، فعلى هذا تكون على بمعنى عن، أي ضيقت عنه، وهذا التأويل حكاه الأثرم عن مسدد، وحكى رده عن أحمد كما سبق. وقال ابن خزيمة: سألت المزني عن هذا الحديث. فقال: يشبه أن يكون معناه ضيقت عنه فلا يدخلها ولا يشبه أن يكون على ظاهره، لأن من ازداد عملا وطاعة ازداد عند الله رفعة وعلنه كرامة. ورجح هذا التأويل جماعة منهم الغزالي. فقالوا له مناسبة من جهة أن الصائم لما ضيق على نفسه مسالك الشهوات بالصوم ضيق الله عليه النار فلا يبقى له فيها مكان لأنه ضيق طرقها بالعبادة. وتعقب بأنه ليس كل عمل صالح إذا ازداد العبد منه ازداد من الله تقربا بل رب عمل صالح إذا ازداد منه بعدا كالصلاة في الأوقات المكروهة، وأيضا لو كان المراد ما ذكروه لقال ضيقت عنه. وأما التضييق عليه فلا يكون إلا وهو فيها. قال ابن حزم (ج7ص16) بعد ذكر التأويل المذكور ما لفظه: هذه لكنه وكذب. أما اللكنة فإنه لو أراد هذا فقال ضيقت عنه ولم يقل عليه. وأما الكذب فإنما أورده رواته كلهم على التشديد والنهي عن صومه-انتهى. فالصواب أجراء الحديث على ظاهره والقول بكراهة صيام الدهر مطلقا أو منعه. قال الشوكاني في السيل الجرار بعد ذكر حديث أبي موسى: هذا وعيد ظاهر، وتأويله بما يخلف هذا المعنى تعسف وتكلف، والعجب ذهاب الجمهور إلى استحباب صوم الدهر وهو مخالف للهدى النبوي، وهو أيضا أمر لم يكن عليه أمر رسول الله صلى الله عليه
(14/111)
وسلم. وقد قال صلى الله عليه
وسلم فيما صح عنه كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد، وهو أيضا من المرغوب عن سنة رسول
الله صلى اله عليه وسلم، ومن رغب عن سنته فليس منه كما تقدم، وهو أيضا من التعسير
والتشديد المخالف لما استقرت عليه هذه الشريعة المطهرة. قال الله تعالى: ?يريد
الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر? [البقرة: 185] وقال صلى الله عليه وسلم: يسروا
ولا تعسروا ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، وقال: أمرت بالشريعة السمحة السهلة،
فالحاصل إن صوم الدهر إذا لم يكن محرما تحريما بحتافاقل أحواله أن يكون مكروها
كراهة شديدة هذا لمن لا يضعف به الصوم من شيء من الواجبات، أما من كان يضعف بالصوم
عن بعض الواجبات الشرعية فلا شك في تحريمه من هذه الحيثية بمجردها من غير نظر إلى
ما قدمنا من الأدلة-انتهى.
قال: كيف من يصوم يوما ويفطر يوما؟ قال: "ذلك صوم داود" قال: كيف من
يصوم يوما ويفطر يومين؟ قال: وددت أني طوقت ذلك. ثم قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم رمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله.
(14/112)
واختلف المجيزون لصيام الدهر بالشرط المتقدم هل هو أفضل أو صيام يوم وإفطار يوم أفضل، فذهب جماعة منهم إلى أن صوم الدهر أفضل. واستدلوا على ذلك بأنه أكثر عملا فيكون أكثر أجرا، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن زيادة الأجر بزيادة العمل ههنا معارضة باقتضاء العادة التقصير في حقوق أخرى، فالأولى التفويض إلى حكم الشارع، وقد حكم بأن صوم يوم، وإفطار يوم أفضل الصيام، هذا معنى كلامه محصلا. وذهب جماعة منهم المتولي من الشافعية إلى أن صيام داود أفضل، وهو ظاهر الحديث بل صريحه وارجع للبسط والتفصيل إلى الفتح وشرح العمدة (ويطيق ذلك أحد) بحذف حرف الإنكار، وقد ثبت في رواية أبي داود والنسائي، ووقع في رواية لمسلم، ومن يطيق ذلك وكأنه كرهه لأنه مما يعجز عنه في الغالب فلا يرغب فيه في دين سهل سمح، وهو عطف على محذوف أي أتقول ذلك ويطيق ذلك أحد (قال ذلك صوم داود) أي وصوم داود أفضل الصيام وأحبه إلى الله وكأنه تركه لتقرير ذلك مرارا (وددت) بكسر الدال أي أحببت (إني طوقت) بتشديد الواو على بناء المفعول أي جعلني الله مطيقا (ذلك) أي الصيام المذكور يعني تمنيت أن يجعل ذلك داخلا في قدرتي وكان قادرا، ولكن خاف فوات حقوق نساءه فإن إدامة الصوم يخل بحظوظهن منه إلا فكان يطيق أكثر منه فإنه كان يواصل وعلى هذا معنى قوله "وددت إني طوقت" أي مع أداء حقوق النساء. قال الخطابي: يحتمل أن يكون إنما خاف العجز عن ذلك للحقوق التي تلزمه لنساءه لأن ذلك يخل بحظوظهن منه لا لضعف جبلته عن احتمال الصيام أو قلة صبره عن الطعام في هذه المدة-انتهى. وقيل: معناه وددت إن أمتي تطيقه لأنه صلى الله عليه وسلم كان يطيقه وأكثر منه وكان يواصل، ويقول إني لست كأحدكم إني أبيت، يطعمني ربي ويسقيني. قال النووي: ويؤيد هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الثانية ليت إن الله قوانا لذلك أو يقال إنما قاله لحقوق نسائه وغيرهن من المسلمين المتعلقين والقاصدين
(14/113)
إليه-انتهى. وقيل: يمكن أن يكون الإطعام والسقي من الرب تبارك وتعالى مختصا بصوم الوصال دون غيره من الصيام (ثلاث من كل شهر) أي صوم الإنسان ثلاثة أيام من كل شهر، قيل هو أيام البيض، وقيل أي ثلاث كان وأيام البيض أولى، وثلاث بحذف التاء ولو قال ثلاثة بالهاء لكان صحيحا لأن المعدود المميز إذا كان غير مذكور لفظا جاز تذكير مميزه وتأنيثه، يقال صمنا ستا وستة وخمسا وخمسة. وإنما يلزم إثبات الهاء مع المذكر إذا كان مذكورا لفظا. وحذفها من المؤنث إذا كان كذلك وهذه قاعدة مسلوكة صرح بها أهل اللغة وأئمة الإعراب كذا في النيل. وقال القاري: حذف التاء منها نظرا إلى لفظ المميز فإنه مؤنث.
(14/114)
وقيل: بحذف المعدود. وقيل: كان الظاهر أن يقال ثلاثة لأنه عبارة عن الأيام أي صيام ثلاثة أيام، ولكنهم يعتبرون في مثل ذلك الليالي والأيام داخلة معها. قال صاحب الكشاف: تقول صمت عشرا ولو قلت عشرة لخرجت من كلامهم-انتهى. (رمضان إلى رمضان) أي وصوم رمضان من كل سنة منتهيا إلى رمضان (فهذا صيام الدهر كله) أي حكما لقوله تعالى ?من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها? [الأنعام: 160] وهذا إنما هو في غير رمضان، وإنما ذكر رمضان لدفع توهم دخوله في كل شهر. ومن المعلوم إن صوم رمضان فرض فلا بد منه، والمعنى إن صيام ثلاثة أيام من كل شهر كصيام الدهر في الفضيلة واكتساب الأجر لكنه من غير تضعيف على حد ?قل هو الله أحد? [الإخلاص: 1] تعدل ثلث القرآن. وقيل: المعنى عن كل واحد من صوم ثلاثة أيام من كل شهر، ومن صوم رمضان كل واحد منهما صيام الدهر. أما صيام ثلاثة أيام من كل شهر فكأنه صام الشهر، ومن صام ثلاثة أيام من شهور السنة فقد صام السنة فهذا صيام الدهر، وأما صيام رمضان إلى رمضان فيحتمل أن يكون المراد إن صيام رمضان مع ست من شوال صيام الدهر كما وقع في حديث أبي أيوب الآتي، أو يقال إن صيام رمضان من حيث كونه صوم فرض يزيد على النفل فيكون صيامه مساويا لصيام الدهر بل زايدا عليه، ويقال أنه أخبر أولا بأن صيام رمضان مع ست من شوال صيام الدهر. ثم أخبر بأن صيام رمضان فقط بدون صوم ست من شوال يساوي صيام الدهر في الأجر والثواب كذا قيل، ولا يخفى ما فيه. ووقع في رواية من حديث عبدالله ابن عمرو الآتي صم من كل شهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر. قال ابن دقيق العيد هو مأول عندهم على أنه مثل أصل صيام الدهر من غير تضعيف للحسنات، فإن ذلك التضعيف مرتب على الفعل الحسى الواقع في الخارج والحامل على هذا التأويل، إن القواعد تقتضى إن المقدر لا يكون كالمحقق، وإن الأجور تتفاوت بحسب تفاوت المصالح أو المشقة فكيف يستوي من فعل
(14/115)
الشيء بمن قدر فعله له فلأجل
ذلك قيل إن المراد أصل الفعل في التقدير لا الفعل المرتب عليه التضعيف في
التحقيق-انتهى. ثم قوله "ثلاث" قيل إنه مبتدأ خبره قوله "فهذا صيام
الدهر" والفاء زائدة أو ما دل عليه هذه الجملة. وقال الطيبي: أدخل الفاء في
الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وذلك إن ثلاث مبتدأ، ومن كل شهر صفة، أي صوم
ثلاثة أيام يصومها الرجل من كل شهر صيام الدهر كله-انتهى. وقيل: الأولى أن يكون ثلاث
خبر مبتدأ محذوف أي الأولى والأليق ثلاث من كل شهر، وقوله "فهذا" تعليل
له. وذكر إلى رمضان إفادة لدوام الصوم واستمراره وإيماء إلى أن الصوم كأنه متصل
مستمر دائما كما أشار إليه بقوله "فهذا صيام الدهر كله" قلت: وقع في
رواية للنسائي "ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان هذا صيام الدهر كله"
وهذا يؤيد كون "ثلاث" مبتدأ وكون قوله "فهذا صيام الدهر" خبرا
له (صيام يوم عرفة أحتسب على الله) أي أرجو منه.
صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام
يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)) رواه مسلم.
2065-(10) وعنه، قال: ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم الاثنين. فقال:
فيه ولدت، وفيه أنزل علي)) رواه مسلم.
(14/116)
قال في النهاية: الاحتساب في الأعمال الصالحة هو البدار إلى طلب الأجر وتحصيله باستعمال أنواع البر والقيام بها على الوجه المرسوم فيها طلبا للثواب المرجو فيها. قال الطيبي كان الأصل أن يقال أرجو من الله أن يكفر فوضع موضعه أحتسب وعداه بعلى الذي للوجوب على سبيل الوعد مبالغة لحصول الثواب كذا في المرقاة. (أن يكفر) أي الله أو الصيام (السنة التي قبله) أي ذنوبها (والسنة التي بعده) قال إمام الحرمين: والمكفر الصغائر. قال عياض: وهو مذهب أهل السنة والجماعة. وأما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة أو رحمة الله. وقال النووي: قالوا المراد بالذنوب الصغائر، وإن لم تكن الصغائر يرجى تخفيف الكبائر فإن لم تكن رفعت الدرجات-انتهى. قال في المفاتيح: أي يستر ويزيل ذنوب صائم ذلك اليوم ذنوبه التي اكتسبها في السنة الماضية والسنة الآتية. ومعنى تكفير السنة الآتية أن يحفظه الله من الذنوب أو يعطيه من الرحمة، والثواب بقدر ما يكون كفارة للسنة الماضية والقابلة. إذا جاءت واتفق له فيها ذنوب-انتهى. وقال الشوكاني: المراد يكفره بعد وقوعه أو المراد أنه يلطف به فلا يأتي بذنب فيها بسبب صيامه ذلك اليوم، وظاهر الحديث أنه يستحب صوم يوم عرفة مطلقا، وظاهر حديث أبي هريرة الآتي في الفصل الثاني أنه لا يجوز صومه بعرفات، فيجمع بينهما بأن صوم هذا اليوم مستحب لكل أحد مكروه لمن كان بعرفات حاجا. وقد تقدم الكلام في هذا فتذكر (وصيام عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) قيل: وجه فضيلة صوم يوم عرفة ومزيته على صوم عاشوراء، إن صوم يوم عرفة من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وصوم عاشوراء من شريعة موسى عليه الصلاة والسلام. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: ظاهره إن صيام يوم عرفة أفضل من صوم عاشوراء وقد قيل في الحكمة في ذلك إن يوم عاشوراء منسوب إلى موسى عليه السلام، ويوم عرفة منسوب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلذلك كان
(14/117)
أفضل-انتهى. وقيل: لأن يوم
عرفة تجمع فضيلة العشر إلى فضيلة اليوم ويشتركان في كونهما شهر حرام، والله أعلم
بحقيقة الحكمة في ذلك (رواه مسلم) وأخرجه أحمد (ج5ص297، 311) وأبوداود والبيهقي
(ج4ص286، 300) وأخرجه أحمد (ج5ص296، 304، 307، 308) والترمذي والنسائي وابن ماجه
مختصرا ومفرقا.
2065- قوله: (سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم الاثنين) وفي بعض النسخ
من صحيح مسلم "صوم يوم الاثنين" قال القاري: وهو أي الاثنين بهمزة
الوصل. وإنما نبهت عليه وإن كان ظاهرا، لأن كثيرا من أهل الفضل يقرؤنه بقطع الوصل
ولا يعرف الفصل بين الوقف والوصل بل ولا يدري كيفية الإبتداء،
2066-(11) وعن معاذة العدوية، أنها سألت عائشة أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم. فقلت لها؟ من أي أيام الشهر كان يصوم؟
(14/118)
ثم السؤال يحتمل احتمالين أن يكون من كثرة صيامه عليه السلام فيه، وأن يكون من مطلق الصيام وخصوص فضله من بين الأيام (فقال فيه ولدت وفيه أنزل) أي الوحي (على) أي فأصوم شكرا لهاتين النعمتين. قال القاري: يعني حصل لي فيه بدأ الكمال الصوري وطلوع الصبح المعنوي المقصود والباطني والتفضل الابتدائي والانتهائي،فوقت يكون منشأ للنعم الدنيوية والأخروية حقيق بأن يوجد فيه الطاعة الظاهرية فيجب شكره تعالى علي والقيام بالصيام لدي لما أولى من تمام النعمة إلي. وقال الطيبي اختيارا للاحتمال الثاني: أي فيه وجود نبيكم وفيه نزول كتابكم وثبوت نبوته فأي يوم أولى بالصوم منه فاقتصر على العلة أي سئل عن فضيلته لأنه لا مقال في صيامه فهو من الأسلوب الحكيم-انتهى. وفيه أن الظاهر إن السؤال عن العلة فيطابق الجواب السؤال. وعلى تقدير أن يكون السؤال عن نفس الصوم فالمعنى هل فيه فضل، فحينئذ ما ذكره أيضا فصل الخطاب لا من الأسلوب الحكيم في الحوادث. قلت: وقع في رواية للبيهقي قال أي عمر أرأيت من صام يوم الاثنين، قال ذاك يوم ولدت فيه ويوم أنزلت علي فيه النبوة، وهذا يؤيد أن السؤال كان عن نفس الصوم فيه لا عن كثرة صيامه - صلى الله عليه وسلم -فيه وقال في شرح المواهب: والمتبادر أن السؤال عن فضيلته فالجواب طبق السؤال إذ لا يليق سؤال الصحابي عن جواز صيامه، لا سيما إن رأى أو علم أنه - صلى الله عليه وسلم -صامه. وحاصل التنزل أنه لا بد من تقدير مضاف وهو إما فضل وإما جواز إذ لا معنى للسؤال عن نفس الصوم، فدل الجواب على أن التقدير فضل-انتهى. وفي الحديث دلالة على أن الزمان قد يتشرف بما يقع فيه وكذا المكان وعلى أنه يستحب صوم يوم الاثنين، وأنه ينبغي تعظيم اليوم الذي أحدث الله فيه على عبده نعمة بصومه والتقرب فيه. وقد ورد في حديث أبي هريرة الآتي تعليل صومه - صلى الله عليه وسلم -يوم الاثنين والخميس، بأنه يوم تعرض فيه الأعمال، وأنه يحب
(14/119)
أن يعرض عمله وهو صائم، ولا
منافاة بين التعليلين. (رواه مسلم) في الصوم وأخرجه أحمد (ج5ص297، 299) وأبوداود
والبيهقي (ج4ص286، 300) والحاكم (ج2ص602) وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه
ووافقه الذهبي، وهذا يدل على أنهما ظنا أن الحديث ليس في واحد من الصحيحين مع أنه
رواه مسلم في صحيحه من طرق.
2066- قوله: (أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من كل شهر ثلاثة أيام
قالت نعم) أي وهذا أقل ما كان يقتصر عليه (من أي أيام الشهر كان يصوم)
قالت: لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم. رواه مسلم.
2067-(12) وعن أبي أيوب الأنصاري، أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
من صام رمضان، ثم أتبعه ستا من شوال، كان كصيام الدهر. رواه مسلم.
(14/120)
أي هذه الثلاثة من أولها أو أوسطها أو آخرها متصلة أو منفصلة (لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم) أي لم يكن يهتم للتعيين بل كان يصومها بحسب ما يقتضي رأيه الشريف وبهذا جمع البيهقي بين الأحاديث الأخر المعينة المختلفة التعيين، كحديث ابن مسعود أنه - صلى الله عليه وسلم -كان يصوم من غرة كل شهر ثلاثة أيام، وحديث عائشة أنه كان يصوم من الشهر السبت، والأحد، والاثنين-الحديث. وحديث ابن عباس أنه كان لا يفطر أيام البيض في حضر ولا سفر، وحديث حفصة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من كل شهر ثلاثة أيام الاثنين، والخميس، والاثنين من الجمعة الأخرى. أخرجه أبوداود والنسائي. قال البيهقي: فكل من رآه فعل نوعا ذكره، وعائشة رأت جميع ذلك وغيره فأطلقت في حديث الباب. قال بعضهم: ولعله - صلى الله عليه وسلم - لم يواظب على ثلاثة معينة لئلا يظن تعيينها. قال الحافظ: والذي يظهر أن الذي أمر به وحث عليه ووصى به أولى من غيره. وأما هو فلعله كان يعرض له ما يشغله عن مراعاة ذلك أو كان يفعل ذلك لبيان الجواز وكل ذلك في حقه أفضل وتترجح البيض بكونها وسط الشيء أعدله، وسيأتي مزيد الكلام في هذا (رواه مسلم) وأخرجه الترمذي وأبوداود وابن ماجه والبيهقي (ج2ص295).
(14/121)
2067- قوله: (وعن أبي أيوب الأنصاري أنه حدثه) أي أن أبا أيوب حدث الراوي عنه وهو عمر بن ثابت بن الحارث الأنصاري الخزرجي المدني من ثقات التابعين. قال القاري: وفي نسخة "وعن عمر بن ثابت عن أبي أيوب" الخ،(ثم أتبعه) بهمزة قطع أي جعل عقبه في الصيام (ستا) أي ستة أيام وحذف الهاء لأن اسم العدد إذا لم يذكر مميزه جاز فيه الوجهان كما صرح به النحاة. وإنما يلزم إثبات الهاء في المذكر إذا ذكروه بلفظه وكذا حذفها في المؤنث إذا كان كذلك (من شوال) وهي يصدق على التوالي والتفريق (كان كصيام الدهر) وفي رواية الترمذي فذلك صيام الدهر. ولأبي داود فكأنما صام الدهر يعني إذا صام مدة عمره وإلا ففي أي سنة صام كان كصيام تلك السنة، وفي حديث ثوبان عند ابن ماجه وغيره كان تمام السنة، أي كان صومه تمام السنة إذا الستة بمنزلة شهرين بحساب ?من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها? [الأنعام: 160] وشهر رمضان بمنزلة عشرة أشهر. وقد جاء ذلك مصرحا عند النسائي من حديث ثوبان ولفظه جعل الله الحسنة بعشر أمثالها، فشهر بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بعد الفطر تمام السنة، ولابن خزيمة صيام شهر رمضان بعشرة اشهر، وصيام ستة أيام بشهرين فذلك صيام السنة.
(14/122)
وفي الحديث دليل بين على استحباب صوم ستة أيام من شوال، وهو مذهب الشافعي وأحمد وداود، وبه قال عامة المتأخرين من الحنفية. وقال مالك وأبوحنيفة: يكره صومها. قال في البحر الزائق: ومن المكروه صوم ستة من شوال عند أبي حنيفة متفرقا كان أو متتابعا، وعن أبي يوسف كراهته متتابعا لا متفرقا، لكن عامة المتأخرين لم يروا به بأسا-انتهى. وقال ابن الهمام: صوم ست من شوال عن أبي حنيفة وأبي يوسف كراهته، وعامة المشائخ لم يروا به بأسا-انتهى. قال السندي: ولعل القائل بالكراهة يؤول هذا الحديث بأن المراد هو كصوم الدهر في الكراهة، فقد جاء لا صيام لمن صام الأبد ونحوه، مما يفيد كراهة صوم الدهر، لكن هذا التأويل مردود بما ورد في صوم ثلاث من كل شهر أنه صوم الدهر ونحوه. والظاهر أن صوم الدهر تحقيقا مكروه، وما ليس بصوم الدهر إذا ورد فيه أنه صوم الدهر فهو محبوب-انتهى. قلت: واستدل للكراهة بأنه ربما ظن وجوبها. قال ابن الهمام: وجه الكراهة أنه قد يفضى إلى اعتقاد لزومها من العوام لكثرة المداومة-انتهى. وأجيب بأنه لا معنى لهذا التعليل بعد ثبوت النص بذلك وورود السنة الصحيحة الصريحة فيه، وأيضا يلزم مثل هذا في سائر أنواع الصوم المندوب المرغب فيها ولا قائل به. قال النووي: قولهم قد يظن وجوبهن تقتضي بصوم عرفة وعاشوراء وغيرهما من الصوم المندوب. واستدل مالك بما قال في الموطأ من أنه لم ير أحدا من أهل العلم يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف وإن أهل العلم يكرهون ذلك. ولا يخفى أن الناس إذا تركوا العمل بسنة ثابتة لم يكن تركهم دليلا ترد به السنة. قال النووي: إذا ثبتت السنة لا تترك لترك بعض الناس أو أكثرهم أو كلهم وما أحسن ما قاله ابن عبدالبر أنه لم يبلغ مالكا هذا الحديث. وقيل: لعله لم يصح هذا الحديث عنده. قال ابن رشد: وهو الأظهر. قلت: الحديث صحيح جدا. قال الشيخ الجزري: حديث أبي أيوب هذا لا يشك في صحته ولا يلتفت إلى كون
(14/123)
الترمذي جعله حسنا ولم يصححه
(على ما في بعض النسخ). وقوله في سعد بن سعيد راوية عن عمر بن ثابت، وقد جمع
الحافظ أبومحمد عبدالمؤمن بن خلف المياطي طرقه، وأسنده عن قريب ثلاثين رجلا رووه
عن سعد بن سعيد أكثرهم ثقات حفاظ، وتابع سعدا في روايته أخواه عبدربه ويحيى وصفوان
بن سليم وغيرهم. ورواه أيضا عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أبوهريرة وجابر وثوبان
والبراء بن عازب وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم أجمعين كذا حكاه القاري عن
الجزري. ثم نقل تخريج أحاديث هؤلاء الصحابة عن يارك وسنذكره أيضا إن شاء الله.
واعلم أن أجر صومها يحصل لمن صامها متفرقة أو متوالية، ومن صامها عقب العيد متصلا
أو في أثناء الشهر، وفي جامع الترمذي عن ابن المبارك أنه اختار أن يكون ستة أيام
من أول شوال، وقد روى عنه أنه قال إن صام ستة أيام من شوال متفرقا فهو جائز. وقال
النووي قال أصحابنا: والأفضل إن تصام الستة متوالية عقب يوم الفطر، فإن فرقها
أواخرها عن أوائل الشهر إلى أواخره حصلت فضيلة المتابعة، لأنه يصدق أنه اتبعه ستا
من شوال-انتهى.
2068-(13) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم
يوم الفطر والنحر)). متفق عليه.
(14/124)
وقال ابن قدامة (ج3ص173) لا فرق بين كونها متتابعة أو مفرقة في أول الشهر، أو في آخره لأن الحديث ورد بها مطلقا من غير تقييد، ولأن فضيلتها لكونها تصير مع الشهر ستة وثلاثين يوما، والحسنة بعشر أمثالها فيكون ذلك كثلاثمائة وستين يوما وهو السنة كلها، فإذا وجد ذلك في كل سنة صار كصيام الدهر كله، وهذا المعنى يحصل مع التفريق-انتهى. قال في حجة الله: والسر في مشروعيتها أنها بمنزلة السنن الرواتب في الصلاة تكمل فائدتها بالنسبة إلى أمزجة لم تتام فائدتها بهم. وإنما خص في بيان فضله التشبه بصوم الدهر، لأن من القواعد المقررة أن الحسنة بعشر أمثالها وبهذه الستة يتم الحساب. تنبيه ادعى بعض الحنفية إن ما روى عن أبي حنيفة من كراهة صوم ستة من شوال هو غير رواية الأصول أو إن مراده بذلك أن يصوم الفطر وخمسة بعده، فأما إذا أفطر يوم العيد ثم صام بعده ستة أيام فليس بمكروه بل هو مستحب وسنة. قال في الدار المختار: الإتباع المكروه، أن يصوم الفطر وخمسة بعده، فلو أفطر الفطر لم يكره بل يستحب ويسن-انتهى. وكذا قال صاحب البدائع. قال ابن عابدين بعد البسط: في نصوص أصحاب الحنفية في عدم الكراهة ما لفظه، وتمام ذلك في رسالة "تحريم الأقوال في صوم الست من شوال" للعلامة قاسم، وقد رد فيها على ما في منظومه التباني وشرحها من عزوة الكراهة مطلقا إلى أبي حنيفة وأنه الأصح بأنه على غير رواية الأصول وأنه صحح ما لم يسبقه أحد إلى تصحيحه وأنه صحح الضعيف وعمد إلى تعطيل ما فيه الثواب الجزيل بدعوى كاذبة بلا دليل، ثم ساق كثيرا من نصوص كتب المذهب فراجعها-انتهى. وهذا يدل على أن الراجح عند الحنفية على ما ادعاه العلامة قاسم وغيره هو عدم الكراهة بل استحبابه. وما حكى عنهم خلاف ذلك فهو إما مرجوح وخلاف رواية، الأصول أو مؤول بصوم يوم الفطر كما قال صاحب البدائع وصاحب الدار المختار وغيرهما. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وصححه، وأبوداود
(14/125)
وابن ماجه والدارمي والبيهقي
(ج4ص292) والطبراني، وفي الباب عن ثوبان عند أحمد والنسائي في الكبرى وابن ماجه
والدارمي والبزار وابن خزيمة وابن حبان، وعن جابر عند أحمد وعبد بن حميد والبزار
والطبراني في الأوسط وعن أبي هريرة عند البزار وأبي نعيم والطبراني، وعن ابن عباس
عند الطبراني أيضا، وعن البراء بن عازب عند الدارقطني، وعن ابن عمر عند الطبراني
من أحب الوقوف على ألفاظها وحال أسانيدها رجع إلى التلخيص (ص199) والترغيب (ج2ص27)
ومجمع الزوائد (ج3ص183، 184).
2068- قوله: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي نهي تحريم (عن صوم يوم
الفطر) وهو أول يوم من شوال (والنحر) أي وعن صوم يوم النحر. قال الطيبي: هذا
الحديث مروي من حيث المعنى والذي يتلوه مروي من حيث اللفظ وما نص عليه.
(14/126)
قال: ولعل العدول عن قوله نهى عن صوم العيدين إلى ذكر الفطر والنحر للأشعار بأن علة الحرمة هي الوصف بكونه يوم فطر ويوم نحر والصيام ينافيهما-انتهى. قلت: روى مسلم من حديث عمر أنه صلى العيد ثم انصرف فخطب الناس فقال إن هذين يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما يوم فطركم من صيامكم والآخر يوم تأكلون فيه نسككم، وفائدة وصنف اليومين على ما قيل: الإشارة إلى العلة في وجوب فطرهما وهو الفصل من الصوم وإظهار تمامه وحده بفطر ما بعده والآخر لأجل النسك المتقرب يذبحه ليؤكل منه ولو شرع صومه لم يكن لمشروعية الذبح فيه معنى فعبر عن علة التحريم بالأكل من النسك، لأنه يستلزم النحر ويزيد فائدة التنبيه على التعليل. والمراد بالنسك هنا الذبيحة المتقرب بها قطعا. والحديث دليل على تحريم صوم هذين اليومين، لأن أصل النهي التحريم، وإليه ذهب العلماء كافة. قال ابن قدامة (ج3ص163) أجمعه أهل العلم على أن صومي العيدين منهي عنه محرم في التطوع والنذر المطلق والقضاء والكفارة، ذلك لما روى أبوعبيد مولى ابن أزهر قال شهدت العيد مع عمر بن الخطاب فجاء فصلى ثم انصرف فخطب الناس. فقال: إن هذين يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما يوم فطركم من صيامكم، والآخر يوم تأكلون فيه من نسككم، وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صيام يومين يوم فطر ويوم أضحى، وعن أبي سعيد مثله متفق عليهما، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه وتحريمه-انتهى. وكذا حكى الإجماع على هذا النووي والحافظ والزرقاني والعيني وابن رشد وغيرهم. وههنا مسئلتان اختلف الأئمة فيهما إحداهما أن ينذر صوم الفطر والنحر متعمدا لعينهما. فقال مالك والشافعي: لا ينعقد نذره ولا يلزمه قضاءهما، وإليه ذهب أحمد في الصحيح عنه. قال ابن قدامة. إن قال لله علي صوم يوم العيد فهذا نذر معصية على ناذره الكفارة لا غير، نقلها حنبل عن أحمد وفيه رواية أخرى إن
(14/127)
عليه القضاء مع الكفارة، والأولى هي الصحيحة قاله القاضي. لأن هذا نذر معصية فلم يوجب قضاءها كسائر المعاصي وفارق المسألة التي قبلها (وهي المسألة الثانية التي سنذكرها) لأنه لم يقصد بنذره المعصية. وإنما وقع اتفاقا وههنا تعمدها بالنذر فلم ينعقد نذره، ويدخل في قوله عليه الصلاة والسلام لا نذر في معصية، ويتخرج إلا يلزمه شيء بناء على نذر المعصية-انتهى. والمسألة الثانية أن ينذر صوم يوم فيوافق العيد. قال النووي: أما الذي نذر صوم يوم الاثنين مثلا فوافق يوم العيد فلا يجوز له صيام يوم العيد بالإجماع، وهل يلزمه قضاءه فيه خلاف للعلماء؟ وفيه للشافعي قولان: أصحهما لا يحب قضاءه، لأن لفظه لم يتناول القضاء. وإنما يجب قضاء الفرائض بأمر جديد على المختار عند الأصولين-انتهى. واختلفت الرواية فيه أيضا عن مالك. قال العيني قال مالك: لو نذر صوم يوم فوافق يوم فطر أو يوم نحر يقضيه في رواية ابن القاسم وابن وهب عنه وهو قول الأوزاعي.
(14/128)
وقال الحافظ: وعن مالك في رواية يقضي إن نوى القضاء وإلا فلا. وقال الأبي في الإكمال: اختلف قول مالك وأصحابه إذا لم يقصد تعيينهما، وإنما نذر نذرا اشتمل عليهما أو نذر يوم يقدم فلان فقدم يوم عيد هل يقضي أو لا يقضي، أو يقضي إلا أن ينوي أن لا يقضي أو لا يقضي إلا أن ينوي أن يقضي-انتهى. وقال في المدونة: قلت لمالك: فرمضان ويوم الفطر وأيام النحر الثلاثة كيف يصنع فيها، وإنما نذر سنة بعينها أعليه قضاء أم ليس عليه قضاءها إذا كانت لا يصلح الصيام فيها؟ فقال أولا لا قضاء عليه إلا أن يكون نوى أن يصومهن قال، ثم سئل عن ذي الحجة من نذر صيامه أترى عليه أن يقضي أيام الذبح؟ فقال: نعم عليه القضاء، إلا أن يكون نوى حين نذر أن لا قضاء عليه-انتهى. وقال ابن قدامة (ج9ص21، 22) من نذر أن يصوم يوم يقدم فلان، فإن نذره صحيح، فإن قدم يوم فطر أو أضحى. فاختلفت الرواية عن أحمد فيه فعنه لا يصومه ويقضي ويكفر، نقله عن أحمد جماعة وهو قول أكثر أصحابنا، ومذهب الحكم وحماد. والرواية الثانية يقضي ولا كفارة عليه وهو قول الحسن والأوزاعي وأبي عبيد وقتادة وأبي ثور وأحد قولي الشافعي، فإنه فاته الصوم الواجب بالنذر فلزمه قضاءه ولم تلزمه كفارة لأن الشرع منعه من صومه فهو كالمكره وعن أحمد رواية ثالثة إن صامه صح صومه، وهو مذهب أبي حنيفة لأنه وفي بما نذر ويتخرج أن يكفر من غير قضاء لأنه وافق يوما صومه حرام فكان موجبه الكفارة كما لو نذرت المرأة صوم يوم حيضها ويتخرج أن لا يلزمه شيء من كفارة ولا قضاء بناء على من نذر المعصية، وهذا قول مالك والشافعي في أحد قوليه بناء على نذر المعصية-انتهى. وقد ظهر بهذا أن مذهب الحنابلة في هذه المسألة هو انعقاد النذر وصحته، ووجوب القضاء مع الكفارة. وأما أبوحنيفة فذكر العيني (ج11ص109، 110) ثلاث روايات عنه. إحداها صحة النذر في المسئلتين ووجوب القضاء، والثانية عدم صحة النذر مطلقا وعدم وجوب القضاء، وهي
(14/129)
رواية أبي يوسف وابن المبارك عنه. والثالثة: إن نذر صوم يوم النحر لا يصح، وإن نذر صوم غد وهو يوم النحر صح وهي رواية الحسن عنه، وظاهر الرواية هي الرواية الأولى أي صحة النذر مطلقا من غير فرق بين أن يذكر المنهي عنه صريحا كيوم النحر مثلا أو تبعا كصوم غد، فإذا هو يوم النحر. قال في الهداية: إذا قال لله علي صوم يوم النحر، أفطر وقضى، فهذا النذر صحيح عندنا خلافا لزفر والشافعي، هما يقولان: أنه نذر بما هو معصية لورود النهي عن صوم هذه الأيام، ولنا أنه نذر بصوم مشروع (لأن الدليل الدال على مشروعية الصوم لا يفصل بين يوم ويوم، فكان من حيث حقيقته حسنا مشروعا والنذر بما هو مشروع جائز) والنهي لغيره وهو ترك إجابة دعوة الله (لأن الناس أضياف الله في هذه الأيام) فيصح نذره لكنه يفطر احترازا عن المعصية المجاوزة ثم يقضي إسقاطا للواجب وإن صام فيه يخرج عن العهدة مع الحرمة لأنه أداه كما التزمه-انتهى. وقال في الدار المختار: ولو نذر صوم الأيام المنهية أو صوم هذه السنة صح مطلقا على المختار، وفرقوا النذر والشروع فيها، بأن نفس الشروع معصية، ونفس النذر طاعة فصح-انتهى.
(14/130)
قال العيني: والأصل عندنا أن النهي لا ينفي مشروعية الأصل وعلى هذا الأصل مشى أصحابنا فيما ذهبوا إليه، ويؤيد هذا ما رواه البخاري عن زياد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عمر فقال: نذر رجل صوم الاثنين فوافق يوم عيد. فقال ابن عمر أمر الله بوفاء النذر، ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم هذا اليوم. قال ابن عبدالملك: لو كان صومه ممنوعا منه لعينه ما توقف ابن عمر في الفتيا-انتهى. قلت أمر ابن عمر رضي الله عنه في التورع عن بت الحكم، ولا سيما عند تعارض الأدلة مشهور، ويحتمل أن يكون ابن عمر أشار إلى قاعدة إن الأمر والنهي إذا التقيا في محل واحدا أيهما يقدم والراجح يقدم النهي، فكأنه قال لا تصم، وقيل: نبه ابن عمر على أن الوفاء بالنذر عام. والمنع من صوم العيد خاص، فكأنه أفهمه أنه يقضي بالخاص على العام. وتعقب هذا بأن النهي عن صوم يوم العيد أيضا عموم للمخاطبين، ولكل عيد فلا يكون من قضاء الخاص على العام. وقال الداودي: المفهوم من كلام ابن عمر تقديم النهي، لأنه قد روى أمر من نذر أن يمشي في الحج بالركوب، فلو كان يجب الوفاء به لم يأمره بالركوب-انتهى. قال الحافظ: وأصل الخلاف في هذه المسألة أن النهي هل يقتضي صحة المنهي عنه قال الأكثر لا، وعن محمد بن الحسن نعم، واحتج بأنه لا يقال للأعمى لا يبصر، لأنه تحصيل الحاصل. فدل على أن صوم يوم العيد ممكن، وإذا أمكن ثبت الصحة، وأجيب بأن الإمكان المذكور عقلي والنزاع في الشرعي والمنهي عنه شرعا غير ممكن فعله شرعا، ومن حجج المانعين أن النفل المطلق إذا نهى عن فعله لم ينعقد، لأن المنهي مطلوب الترك سواء كان للتحريم أو التنزيه، والنفل مطلوب الفعل، فلا يجتمع الضدان، والفرق بينه وبين الأمر ذي الوجهين كالصلاة في الدار المغصوبة (أي على القول بصحتها وإلا فقد ذهب أحمد في أشهر القولين عنه إلى عدم صحتها كما في المغنى (ج2ص74) وروضة الناظر (ج1ص127) أن النهي عن الإقامة
(14/131)
المغصوبة ليست لذات الصلاة بل
للإقامة وطلب الفعل لذات العبادة بخلاف صوم يوم النحر مثلا، فإن النهي فيه لذات
الصوم فافترقا-انتهى. وفي آخر كلام الحافظ نظر فتأمل وارجع لبسط الكلام في مسألة
النهي إلى كتب الأصول كأصول البزدوي مع شرحه كشف الأسرار، وإلى إرشاد الفحول
وغيرهما. والراجح عندي في المسألة الأولى هو ما ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد من
عدم انعقاد النذر وعدم صحته، لأنه نذر معصية. والنذر إنما يكون في الطاعة دون
المعصية فلا ينعقد هذا النذر، ولا يصح، كما لا يصح من الحائض لو نذرت أن تصوم أيام
حيضها، ولم يأمر الله تعالى قط بالوفاء بنذر معصية فلا يلزم قضاءه. وقد وقع في
رواية لمسلم لا يصلح الصيام في يومين يوم الأضحى ويوم الفطر من رمضان، وهذا كالنص
على بطلان صوم العيدين، وإن يومي العيد ليسا بمحل للصوم شرعا، لأن حقيقة ذلك
الخبر، فهو يحمل على حقيقته ما لم يصرف عنها صارف فاقتضي ذلك إخبارا من النبي صلى
الله عليه وسلم بأن هذين اليومين لا يصلح فيهما الصيام،
2069-(14) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا صوم في يومين الفطر
والأضحى)). متفق عليه.
2070-(15) وعن نبيشة الهذلي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيام
التشريق، أيام أكل وشرب وذكر الله)) رواه مسلم.
(14/132)
فلو بقي صائما مع إيقاعه
الإمساك فيهما لكان قد صلح الصيام فيهما من وجه، فثبت بذلك ما وقع من الإمساك ولو
بنية الصوم من العبد في اليومين المذكورين فليس بصيام عند الشرع، ليكون مخبره خبرا
موجودا في سائر ما أخبر به، وهذا كله يبطل القول بصحة نذر صوم العيد وأجزاءه لو
صام. وأما المسألة الثانية فالأشبه فيهما أن ينعقد نذره ويصح ويجب قضاءه، لأنه نذر
نذرا يمكن الوفاء به غالبا ولم يقصد بنذره المعصية. وإنما وقع اتفاقا فينعقد كما
لو وافق غير يوم العيد، ولا يجوز أن يصوم يوم العيد لأن الشرع حرم صومه فأشبه زمن
الحيض ولزمه القضاء، لأنه نذر منعقد وقد فاته الصيام بالعذر (متفق عليه) واللفظ
للبخاري في الصيام، والحديث أخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود وابن ماجه والبيهقي
(ج4ص297).
2069- قوله: (لا صوم) أي جائز (الفطر والأضحى) بدل أي أنهما غير قابلين للصوم
لحرمته فيهما فلا يصح نذر صومهما وكذا حكم أيام التشريق كما سيأتي بيانه، وخصهما
بالذكر لكونهما الأصل، وأيام التشريق من توابع الأضحى (متفق عليه) واللفظ للبخاري
في الصلاة وفي الحج وفي الصوم، وأخرجه بهذا اللفظ الدارمي.
(14/133)
2070- قوله: (وعن نبيشة) بضم النون وفتح الموحدة بعدها ياء ساكنة فشين معجمة فهاء (الهذلي) بضم الهاء وفتح الذال هو نبيشة بن عبدالله بن عمرو بن عتاب بن الحارث بن نصير بن حصن وقيل: في نسبه غير ذلك. ويقال له: نبيشة الخير، ويكنى أبا طريف صحابي قليل الحديث. قال ابن عبدالبر: سكن البصرة، ويقال أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أساري فقال يا رسول الله ! إما أن تفاديهم وإما أن تمن عليهم، فقال أمرت بخير أنت نبيشة الخير (أيام التشريق) وهي ثلاثة أيم بعد يوم النحر وهذا قول ابن عمر وأكثر العلماء منهم الأئمة الأربعة وأتباعهم. وروى عن ابن عباس وعطاء أنها أربعة أيام يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وسماها عطاء أيام التشريق، والأول أظهر. ويدل عليه ما رواه الطحاوي (ج1ص429) عن أنس ابن مالك قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم أيام التشريق الثلاثة بعد يوم النحر، وأخرجه أبويعلى بلفظ: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم خمسة أيام من السنة يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق.
(14/134)
وسميت أيام التشريق لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها أي تنشر وتبسط في الشمس لتجف. وقيل: لأن الهدى والضحايا لا تنحر حتى تشرق الشمس أي تطلع. وقيل: لأن صلاة العيد تقع عند شروق الشمس أول يوم منها فصارت هذه الأيام تبعا ليوم النحر، وهذا يعضد قول من يقول يوم النحر منها. وقيل: التشريق التكبير دبر كل صلاة. (أيام أكل وشرب) وكذا يوم النحر يوم أكل وشرب بل هو الأصل والبقية أتباعه (وذكر الله) بالجر وهذا إشارة إلى قوله تعالى: ?واذكروا الله في أيام معدودات? [البقرة: 203] يعني أنهاكم عن صومها وآمركم بذكر الله فيها صيانة عن التلهي والتشهي كالبهائم. قال الاشرف: وإنما عقب الأكل والشرب بذكر الله لئلا يستغرق العبد في حظوظ نفسه وينسى في هذه الأيام حق الله تعالى-انتهى. وهل يلتحق أيام التشريق بيوم النحر في حرمة الصيام كما تلتحق به في النحر وغيره من أعمال الحج، أو يجوز صيامها مطلقا أو للمتمتع خاصة أوله ولمن هو في معناه؟ وفي كل ذلك اختلاف للعلماء. وقد استدل بحديث نبيشة على النهي عن صوم أيام التشريق، وقد ورد النهي عن ذلك صريحا. من حديث سعد بن أبي وقاص عند أحمد (ج1ص169، 174) والطحاوي (ج1ص428) والبزار، وفيه عند أحمد والطحاوي محمد بن أبي حميد المدني وهو ضعيف. ومن حديث يونس بن شداد رواه عبدالله بن أحمد (ج4ص77) والبزار، وفيه سعيد بن بشير وهو ثقة ولكنه اختلط. ومن حديث حبيبة بنت شريق عند أحمد (ج1ص92) والنسائي والطبراني في الأوسط والطحاوي (ج1ص429) ومن حديث أنس وقد تقدم. ومن حديث ابن عباس عند الطبراني في الكبير بإسناد ضعيف. ومن حديث أبي هريرة عند الطحاوي (ج1ص428) والبزار، وفي سند البزار عبدالله بن سعيد المقبري وهو ضعيف قاله الهيثمي. ومن حديث معمر بن عبدالله العدوي عند الطحاوي (ج1ص429) والطبراني في الكبير. ومن حديث عمرو بن العاص عند أبي داود وابن المنذر والدارمي والبيهقي (ج4ص297) والطحاوي (ج1ص428) وابن حزم (ج7ص28)
(14/135)
وصححه ابن خزيمة والحاكم. ومن حديث ابن عمر عند أحمد (ج2ص39) قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. ومن حديث أسامة الهذلي عند الطبراني في الأوسط وسنده ضعيف. ومن حديث عمر بن خلدة الزرقي عن أمه أبي يعلى وعبد بن حميد وإسحاق بن راهويه والطحاوي (ج1ص429) وابن أبي شيبة، وفيه موسى بن عبيدة الربذى وهو ضعيف. ومن حديث عقبة بن عامر عند الترمذي وأبي داود والنسائي وابن حبان والحاكم والبزار. ومن حديث مسعود ابن الحكم الزرقي عن أمه عند الطحاوي (ج1ص429) ومن حديث أم الحارث بنت عياش عند الطبراني في الكبير بإسناد ضعيف. ومن حديث عبدالله بن حذافة عند الدارقطني والطبراني وفيه الواقدي. ومن حديث مسعود بن الحكم عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الطحاوي (ج1ص429) وقد ذهب إلى منع الصوم في هذه الأيام وتحريمه مطلقا جماعة من السلف منهم علي ابن أبي طالب وعبد الله بن عمرو بن العاص والحسن وعطاء وهو قول الشافعي في الجديد وعليه العمل والفتوى عند أصحابه وهو قول الليث بن سعد وابن عليه وأبي حنيفة وابن المنذر وهي رواية عن أحمد.
(14/136)
وإليه ذهب ابن حزم، وهؤلاء قالوا: لا يجوز صيامها مطلقا، وإنها ليست قابلة للصوم لا للمتمتع الذي لم يجد الهدى ولا لغيره، وجعلوا هذه الأحاديث مخصصة لقوله تعالى: ?ثلاثة أيام في الحج? [البقرة: 196] لأن الآية عامة فيما قبل يوم النحر وما بعده، والأحاديث المذكورة خاصة بأيام التشريق وإن كان فيها عموم بالنظر إلى الحج وغيره، فيرجح خصوصها لكونه مقصودا بالدلالة على أنها ليست محلا للصوم، وإن ذاتها بإعتبار ما هي غير مؤهلة له كأنها منافية للصوم. وقال الطحاوي بعد أن أخرج أحاديث النهي عن ستة عشر صحابيا: فلما ثبت بهذه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن صيام أيام التشريق، وكان نهيه عن ذلك بمعنى، والحاج مقيمون بها وفيهم المتمتعون والقارنون، ولم يستثن منهم متمتعا ولا قارنا دخل المتمتعون والقارنون في ذلك-انتهى. وذهب جماعة إلى جواز الصيام فيها مطلقا، وبه قال أبوإسحاق المروزي من الشافعية والأسود بن يزيد. وحكاه ابن عبدالبر في التمهيد عن بعض أهل العلم، وحكاه ابن المنذر وغيره عن الزبير بن العوام وأبي طلحة من الصحابة. قال ابن قدامة (ج3ص64) بعد حكاية هذا القول عن الأسود بن يزيد وابن الزبير وأبي طلحة ما لفظه: والظاهر أن هؤلاء لم يبلغهم نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها ولو بلغهم لم يعدوه إلى غيره-انتهى. وقيل: يمكن أنهم حملوا النهي على التنزيه. قال الأمير اليماني: وهو قول لا ينهض عليه دليل. وقال الشوكاني: أحاديث الباب جميعها ترد عليه. وذهب إلى منعه إلا للمتمتع الذي لم يجد الهدي ولم يصم الثلاث في أيام العشر وهو قول عائشة وابن عمر وعروة بن الزبير وإسحاق بن راهويه وعبيد بن عمير والزهري، وهو قول مالك والشافعي في القديم، وأحمد في الرواية المشهورة عنه. قال الزركشي الحنبلي: وهي التي ذهب إليها أحمد أخيرا. قال في المبهج: وهي الصحيحة وهو مختار البخاري فإنه ذكر في باب صيام أيام التشريق
(14/137)
حديثي عائشة وابن عمر في جواز ذلك ولم يورد غيره، واستدل لهذا القول بقوله تعالى: ?فصيام ثلاثة أيام في الحج? وبحديث عائشة وابن عمر الآتي وسيأتي الجواب عنه. وذهب آخرون ومنهم الأوزاعي إلى أنه يصومها المتمتع ومن تعذر عليه الهدي من المحصر والقارن لعوم الآية، ولما روى البخاري وغيره عن عائشة وابن عمر قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي، فإنه أفاد أن صوم أيام التشريق جائز رخصة لمن لم يجد الهدي وكان متمتعا أو قارنا أو محصرا لإطلاق الحديث، بناء على أن الفاعل قوله يرخص المجهول هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه مرفوع حكما، وإن لم يضيفاه إلى عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال الحاكم أبوعبد الله في نحوه.
(14/138)
وقال النووي في شرح المهذب وهو القوي يعني من حيث المعنى وهو ظاهر استعمال كثير من المحدثين، واعتمده الشيخان في صحيحيهما وأكثر منه البخاري. وقال التاج بن السبكي: أنه الأظهر وإليه ذهب الإمام فخر الدين. قلت: وقد ورد التصريح بالفاعل في رواية للدارقطني والطحاوي إلا أن في إسنادها يحيى بن سلام، وقد ضعفه الدارقطني والطحاوي ولفظها عند الدارقطني، رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمتمتع إذا لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق، ولم يذكر الطحاوي طريق عائشة ولفظها عنده من رواية ابن عمر، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المتمتع: إذا لم يجد الهدي ولم يصم في العشر أنه يصوم أيام التشريق، وهذا كما ترى قد خص المتمتع بذلك فلا يكون حجة لأهل هذا القول وأما الآية وحديث عائشة وابن عمر عند البخاري. فأجاب المانعون عنه مطلقا بأنا لا نسلم إن أيام التشريق من أيام الحج. ولو سلمنا فهي مخصوصة بأحاديث النهي كما سبق، قال الجصاص: قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن صوم يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق في أخبار متواترة مستفيضة. واتفق الفقهاء على استعمالها وأنه غير جائز لأحد أن يصوم هذه الأيام عن غير صوم المتعة لا من فرض ولا من نفل فلم يجز صومها عن المتعة لعموم النهي عن الجميع. ولما اتفقوا على أنه لا يجوز أن يصوم يوم النحر وهو من أيام الحج للنهي الوارد فيه كذلك لا يجوز الصوم أيام منى ولما لم يجز أن يصومهن عن قضاء رمضان لقوله تعالى: ?فعدة من أيام أخر? [البقرة:184] وكان الحظر المذكور في هذه الأخبار قاضيا على إطلاق الآية موجبا لتخصيص القضاء في غيرها، وجب أن يكون ذلك حكم صوم التمتع وأن يكون قوله تعالى ?فصيام ثلاثة أيام في الحج? [البقرة: 196] في غير هذه الأيام قال الجصاص: وأيضا لما قال ?فصيام ثلاثة أيام في الحج? ولم يكن صوم هذه الأيام في الحج، لأن الحج فائت في هذا الوقت لم يجز أن يصومها
(14/139)
فإن قيل لما قال ?فصيام ثلاثة
أيام في الحج? وهذه من أيام الحج وجب أن يجوز صومهن فيها، قيل له: لا يجب ذلك من
وجوه، أحدها أن نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم هذه الأيام قاض عليه
ومخصص له كما خص قوله تعالى: ?فعدة من أيام أخر? نهيه عن صيام هذه الأيام. والثاني
أنه لو كان جائزا لأنه من أيام الحج لوجب أن يكون صوم يوم النحر أجوز لأنه أخص
بأفعال الحج من هذه الأيام. والثالث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خص يوم عرفة
بالحج بقوله الحج عرفة فقوله: ?فصيام ثلاثة أيام في الحج? يقتضي أن يكون آخرها يوم
عرفة. والرابع أنه روى أن يوم الحج الأكبر يوم عرفة، وروى أنه يوم النحر: وقد
اتفقوا أنه لا يصوم يوم النحر مع أنه يوم الحج، فما لم يسم يوم الحج من الأيام
المنهي عن صومها أحرى أن لا يصوم فيها، وأيضا فإن الذي يبقى بعد يوم النحر إنما هو
من توابع الحج، وهو رمي الجمار فلا إعتبار به في ذلك فليس هو إذا من أيام الحج فلا
يكون صومها صوما في الحج-انتهى. قال المانعون: وحديث عائشة وابن عمر موقوف لأنهما
لم يضيفاه إلى الزمن النبوي فيكون موقوفا على ما جزم به ابن الصلاح في نحوه مما لم
يضف،
2071-(16) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يصوم أحدكم
يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو بعده)) متفق عليه.
(14/140)
والمعنى حينئذ لم يرخص من له مقام الفتوى، ويؤيد ذلك ما روى عنهما موقوفا عليهما على سبيل الجزم، وروى أيضا من فعل أبي بكر وفتيا لعلي رضي الله عنه. وقال الطحاوي (ج1ص430) قولهما ذلك يجوز أن يكونا عنيا بهذه الرخصة ما قال الله عزوجل في كتابه ?فصيام ثلاثة أيام في الحج? فعدا أيام التشريق من أيام الحج فقالا: رخص للحاج المتمتع والمحصر في صوم أيام التشريق لهذه الآية، ولأن هذه الأيام عندهما من أيام الحج وخفي عليهما ما كان من توقيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس بعده على أن هذه الأيام ليست بداخلة فيما أباح الله صومه من ذلك-انتهى. هذا وقد جعل الشوكاني القول بجوازه للمتمتع أقوى المذاهب ورجححه أيضا الحافظ، وذكر شيخنا في شرح الترمذي كلام الشوكاني وسكت عليه. والراجح عندي هو المنع مطلقا، لأحاديث النهي وهي مخصصة للآية، ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الرخصة للمتمتع صريحا بسند صحيح. وأما حديث ابن عمر وعائشة عند البخاري ففي كونه مرفوعا كلام والله تعالى أعلم (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص75، 76) والنسائي في الكبرى والطحاوي (ج1ص428) والبيهقي (ج4ص297) وفي الباب عن جماعة من الصحابة غير من تقدم ذكرهم منهم علي عند أحمد (ج1ص76) والطحاوي وبشر بن سحم عند النسائي والطحاوي والبيهقي وابن حزم وعبد الله بن عمر وعند البزار، وزيد بن خالد عند أبي يعلى وكعب بن مالك عند أحمد، ومسلم وحمزة ابن عمر والأسلمي عند الطبراني، وعائشة عند الطحاوي وأم الفضل عند الطحاوي، وقد بسط العيني والطحاوي والحافظ في التلخيص (ص191) والهيثمي طرق هذه الأحاديث.
(14/141)
2071- قوله: (لا يصوم) كذا في جميع النسخ، وهكذا وقع في المصابيح وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7ص237) عن مسلم بلفظ النفي: والمراد به النهي والذي في صحيح مسلم لا يصم بلفظ النهي وكذا نقله الحافظ في الفتح والبيهقي في السنن (ج4ص302) ولفظ البخاري لا يصوم. قال الحافظ: كذا للأكثر وهو بلفظ النفي والمراد به النهي، وفي رواية الكشميهني لا يصومن بلفظ النهي المؤكد (أحدكم يوم الجمعة) أي مفردا (إلا أن يصوم قبله) أي يوما (أو يصوم بعده) أي يوما كما في رواية النسائي وللبخاري إلا يوما قبله أو بعده، أي إلا أن يصوم يوما قبله، أو يصوم يوما بعده، وللإسماعيلي إلا أن تصوموا يوما قبله أو بعده و"أو" لمنع الخلو، والمعنى انه يكفي صوم أحدهما ولو صامهما جاز أيضا والحديث دليل على تحريم النفل بصوم يوم الجمعة منفردا، وعلى جواز صوم يومها لمن صام قبله أو بعده، فلو أفرده بالصوم وجب فطره كما يفيده،
(14/142)
ما أخرجه أحمد وأبوداود من حديث جويرية أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها في يوم جمعة وهي صائمة. فقال لها: أصمت أمس؟ قالت: لا، قال: تصومين غدا؟ قالت: لا، قال: فأفطري، والأصل في الأمر الوجوب، والرواية تدل على جواز صومه لمن اتفق وقوعه في أيام له عادة بصومها كمن يصوم أيام البيض، أو من له عادة بصوم يوم معين كيوم عرفة فوافق يوم الجمعة أو، له عادة بصوم يوم وفطر يوم فوافق صومه يوم الجمعة. واختلف الأئمة في إفراد يوم الجمعة بالصيام فذهب ابن حزم إلى تحريمه لظواهر الأحاديث الواردة في النهي عن تخصيصه بالصوم، ونقله أبوالطيب الطبري عن أحمد وابن المنذر وبعض الشافعية وكأنه أخذه من قول ابن المنذر ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة كما ثبت عن صوم يوم العيد وزاد يوم الجمعة الأمر بفطر من أراد أفراده بالصوم، فهذا يشعر بأنه يرى بتحريمه. ونقل ابن المنذر وابن حزم منع صومه عن علي وأبي هريرة وسلمان وأبي ذر. قال ابن حزم: لا نعلم لهم مخالفا من الصحابة. وذهب الجمهور ومنهم الشافعي وأحمد وأبويوسف وبعض الحنفية إلى أن النهي فيها للتنزيه. وقال مالك وأبوحنيفة ومحمد: بالإباحة مطلقا من غير كراهة، ذكره العيني وابن قدامة والحافظ وابن الهمام. قال مالك: لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه، ومن يقتدي به نهي عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه وأراه كان يتحراه. قال النووي: السنة مقدمة على ما رآه مالك وغيره، وقد ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة فيتعين القول به، ومالك معذور. فإنه لم يبلغه، قال الداودي من أصحاب مالك: لم يبلغ مالكا هذا الحديث ولو بلغه لم يخالفه-انتهى. قلت: ونص فروع المالكية كالشرح الكبير للدردير وغيره أنه يندب إفراد يوم الجمعة بالصوم، وبه قال عامة الحنفية. وقال بعضهم: بالكراهة كما في البدايع والنهر والبحر والدر المختار وحاشية رد المختار. قال عبدالوهاب المالكي: يوم الجمعة يوم لا يكره صومه
(14/143)
مع غيره فلا يكره وحده، ورد بأن هذا قياس فاسد الإعتبار لأنه منصوب في مقابلة النصوص الصحيحة. قال الحافظ والمشهور عند الشافعية وجهان أحدهما ونقله المزني عن الشافعي أنه لا يكره إلا لمن أضعفه صومه عن العبادة التي تقع فيه من الصلاة والدعاء والذكر. قلت: وإليه ذهب البيهقي والماوردي وابن الصباغ والعمراني. والثاني وهو الذي صححه المتأخرون كقول الجمهور. قلت: وبه جزم الرافعي والنووي في الروضة. وقال في شرح مسلم: أنه قال به جمهور أصحاب الشافعي وممن صححه من المالكية ابن العربي إذ قال وبكراهته بقول الشافعي وهو الصحيح. واستدل لمن قال بندبه عما سيأتي من حديث ابن مسعود، وفيه قلما كان يفطر يوم الجمعة، وبما رواه ابن أبي شيبة من حديث ابن عمر قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مفطرا يوم الجمعة قط.
(14/144)
وبما رواه أيضا من حديث ابن عباس قال: ما رأيته مفطرا يوم جمعة قط، وفي سندهما ليث بن أبي سليم. وقد تقدم الكلام فيه. وأما حديث ابن مسعود فقال الحافظ في الفتح: ليس فيه حجة، لأنه يحتمل أن يريد كان لا يتعمد فطره إذا وقع في الأيام التي كان يصومها ولا يضاد ذلك كراهة أفراده بالصوم، جمعا بين الحديثين. وقال في التلخيص (ص199) قال ابن عبدالبر: لا مخالفة بينه وبين أحاديث النهي، فإنه محمول على أنه كان يصله بيوم الخميس. وقال العيني: لا دلالة في حديث ابن مسعود وما في معناه أنه صلى الله عليه وسلم صام يوم الجمعة وحده فنهيه عن صوم يوم الجمعة في أحاديث النهي يدل على أن صومه يوم الجمعة لم يكن في يوم الجمعة وحده بل إنما كان بيوم قبله أو بيوم بعده، وذلك لأنه لا يجوز أن يحمل فعله على مخالفة أمره إلا بنص صحيح صريح فحينئذ يكون نسخا أو تخصيصا وكل واحد منهما منتف-انتهى. وقال ابن القيم يتعين حمل حديث ابن مسعود إن كان صحيحا على صومه مع ما قبله أو بعده. قلت وأرجح الأقوال عندي: قول من ذهب إلى تحريم إفراد يوم الجمعة بالصيام لما قد صح النهي عنه، والأصل في النهي التحريم والله تعالى أعلم. واختلف في وجه تحريم تخصيصه بالصوم. قال الشاه ولي الله: السر فيه.أي في النهي عن شيئان، أحدهما سد التعمق، لأن الشارع لما خصه أي من بين الأيام بطاعات وبين فضله، كان مظنة أن يتعمق المتعمقون فيلحقون بها صوم ذلك اليوم أي ابتداعا من عند أنفسهم فمنعوا سد اللباب. قال وثانيهما تحقيق معنى العيد فإن العيد يشعر بالفرح واستيفاء اللذة، والسر في جعله عيدا أن يتصور عندهم أنها من الاجتماعات التي يرغبون فيها من طبائعهم من غير قسر-انتهى. وقال الحافظ: اختلف في سبب النهي عن إفراده على أقوال أحدها لكونه يوم عيد، والعيد لا يصام ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا يوم جعله الله عيدا، وروى النسائي من حديث أبي سعيد الخدري أن
(14/145)
النبي صلى الله عليه وسلم قال:
لا صيام يوم عيد. واستشكل التعليل بذلك بوقوع الإذن من الشارع بصومه مع غيره.
وأجاب ابن القيم وغيره بأن شبهه بالعيد لا يستلزم استواءه معه من كل جهة، ومن صام
معه غيره انتفت عنه صورة التحري بالصوم. ثانيها لئلا يضعف عن إقامة وظائف الجمعة
من الغسل والتبكير إلى الصلاة وانتظارها واستماع الخطبة وإكثار الذكر بعدها وهذا
اختاره النووي. وتعقب ببقاء المعنى المذكور مع صوم غيره معه. وأجاب بأنه يحصل له
بفضيلة الصوم الذي قبله أو بعده ما يجبر ما قد يحصل من فتور أو تقصير في وظائف يوم
الجمعة بسبب صومه قال الحافظ: وفيه نظر فإن الجبر لا ينحصر في الصوم، بل يحصل
بجميع أفعال الخير فيلزم منه جواز إفراده لمن عمل فيه خيرا كثيرا يقوم مقام صيام
يوم قبله أو بعده كمن اعتق فيه رقبة مثلا ولا قائل بذلك، وأيضا فكان النهي يختص
بمن يخشى عليه الضعف، لا من يتحقق القوة ويمكن الجواب عن هذا بأن المظنة أقيمت
مقام المئنة كما في جواز الفطر في السفر لمن لم يشق عليه.
2072-(17) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تختصوا ليلة الجمعة
بقيام من بين الليالي، ولا تختصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في
صوم يصومه أحدكم)) رواه مسلم.
(14/146)
ثالثها خوف المبالغة في تعظيمه فيفتتن به كما افتتن اليهود بالسبت قال الحافظ: وهو منتقض بثبوت تعظيمه بغير الصيام، وأيضا فاليهود لا يعظمون السبت بالصيام فلو كان الملحوظ ترك موافقتهم لتحتم صومه، لأنهم يصومونه، وقد روى النسائي وأبوداود وصححه ابن حبان من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم من الأيام السبت والأحد وكان يقول أنهما يوما عيد للمشركين فأحب أن أخالفهم. رابعها خوف اعتقاد وجوبه. قال الحافظ: وهو منتقض بصوم الاثنين والخميس وسيأتي ذكر ما ورد فيهما. خامسها خشية أن يفرض عليهم كما خشي صلى الله عليه وسلم من قيامهم الليل ذلك. قال المهلب: وهو منتقض بإجازة صومه مع غيره، وبأنه لو كان كذلك لجاز بعده - صلى الله عليه وسلم - لارتفاع السبب. سادسها مخالفة النصارى لأنه يجب عليهم صومه، ونحن مأمورون بمخالفتهم.قال الحافظ: وهو ضعيف ولم يبين وجه الضعف قال. وأقوى الأقوال وأولاها بالصواب أولها، وورد فيه صريحا حديثان، أحدهما رواه أحمد (ج2ص203) وابن خزيمة والبخاري في التاريخ الكبير والبزار والحاكم (ج1ص437) من طريق عامر بن لدين عن أبي هريرة مرفوعا يوم الجمعة يوم عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده. والثاني رواه ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي قال من كان منكم متطوعا من الشهر فليصم يوم الخميس، ولا يصم يوم الجمعة فإنه يوم طعام وشراب وذكر-انتهى. (متفق عليه) واللفظ لمسلم وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي في الكبرى وابن ماجه وابن خزيمة والحاكم (ج1ص437) والبيهقي (ج4ص302) وفي الباب عن جابر عند الشيخين والنسائي وابن ماجه وعن ابن عباس عند أحمد وعن بشير بن الخصاصية عند أحمد والطبراني وعن جنادة الأزدي عند أحمد والنسائي والحاكم، وعن أبي الدرداء عند النسائي والطبراني وعن عبدالله بن عمرو، عند النسائي وعن جويرية عند أحمد والبخاري وأبي داود.
(14/147)
2072- قوله: (لا تختصوا) من
الاختصاص (ليلة الجمعة) "ليلة" منصوب على أنه مفعول به. قال الطيبي:
الاختصاص لازم ومتعد، وفي الحديث متعد. قال المالكي: المشهور في اختص أن يكون
موافقا لخص في التعدي إلى مفعول وبذلك جاء قوله تعالى: ?يختص برحمته من يشاء?
[البقرة: 105] وقول عمر بن عبدالعزيز ولا يختص قوما، وقد يكون اختص مطاوع خص فلا
يتعدى كقولك خصصتك بالشيء فاختصصت به-انتهى.
2073-(18) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام
يوما في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا)) متفق عليه.